الحلقة (232)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ يُوسُفَ
الاية43 إلى الاية 54
( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ( 43 ) . ( قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( 44 ) وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( 45 ) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( 46 ) .
( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) فقال لهم ( يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ) .
( قالوا أضغاث أحلام ) أخلاط أحلام مشتبهة ، أهاويل ، واحدها ضغث ، وأصله الحزمة من أنواع الحشيش ، والأحلام جمع الحلم ، وهو الرؤيا ، والفعل منه حلمت أحلم ، بفتح اللام في الماضي وضمها في الغابر ، حلما وحلما ، مثقلا ومخففا . ( وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) .
( وقال الذي نجا ) من القتل ( منهما ) من الفتيين ، وهو الساقي ( وادكر ) أي : تذكر قول يوسف اذكرني عند ربك ( بعد أمة ) بعد حين وهو سبع سنين . ( أنا أنبئكم بتأويله ) وذلك أن الغلام جثا بين يدي الملك ، وقال : إن في السجن رجلا يعبر الرؤيا ( فأرسلون ) وفيه اختصار تقديره : فأرسلني أيها الملك إليه ، فأرسله فأتى السجن ، قال ابن عباس : ولم يكن السجن في المدينة .
فقال : ( يوسف ) يعني : يا يوسف ( أيها الصديق ) والصديق الكثير الصدق ( أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) فإن الملك رأى هذه الرؤيا ( لعلي أرجع إلى الناس ) أهل مصر ( لعلهم يعلمون ) تأويل الرؤيا . وقيل : لعلهم يعلمون منزلتك في العلم .
فقال لهم يوسف معبرا ومعلما : أما البقرات السمان والسنبلات الخضر : فسبع سنين مخاصيب ، والبقرات العجاف والسنبلات [ اليابسات ] فالسنون المجدبة ، فذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف : [ ص: 247 ] ( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( 47 ) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( 48 ) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ( 49 ) وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( 50 ) .
( قال تزرعون سبع سنين دأبا ) هذا خبر بمعنى الأمر ، يعني : ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة .
والدأب : العادة . وقيل : بجد واجتهاد .
وقرأ عاصم برواية حفص : ( دأبا ) بفتح الهمزة ، وهما لغتان ، يقال : دأبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهدت فيه . ( فما حصدتم فذروه في سنبله ) أمرهم بترك الحنطة في السنبلة لتكون أبقى على الزمان ولا تفسد ( إلا قليلا مما تأكلون ) أي : مما تدرسون قليلا للأكل ، أمرهم بحفظ الأكثر والأكل بقدر الحاجة .
( ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ) سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس ( يأكلن ) أي : يفنين ويهلكن ( ما قدمتم لهن ) أي : يؤكل فيهن ما أعددتم لهن من الطعام ، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع ( إلا قليلا مما تحصنون ) تحرزون وتدخرون للبذر .
( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس ) أي : يمطرون ، من الغيث : وهو المطر . وقيل : ينقذون ، من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني ( وفيه يعصرون ) قرأ حمزة والكسائي : " تعصرون " بالتاء ، لأن الكلام كله على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس ، ومعناه : يعصرون العنب خمرا ، والزيتون زيتا ، والسمسم دهنا . وأراد به كثرة النعيم والخير . وقال أبو عبيدة : يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب ، والعصر والعصرة : المنجاة والملجأ .
( وقال الملك ائتوني به ) وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أن الذي قاله كائن ، قال : ائتوني به . [ ص: 248 ]
( فلما جاءه الرسول ) وقال له : أجب الملك ، أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم ( قال ) للرسول : ( ارجع إلى ربك ) يعني : سيدك الملك ( فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ) ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " .
( إن ربي بكيدهن عليم ) أي : إن الله بصنيعهن عالم ، وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ، ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره ، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته ، فدعا الملك النسوة وامرأة العزيز .
( قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( 51 ) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ( 52 ) .
( قال ) لهن ( ما خطبكن ) ما شأنكن وأمركن ( إذ راودتن يوسف عن نفسه ) خاطبهن ، والمراد امرأة العزيز وقيل : إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهن .
( قلن حاش لله ) معاذ الله ( ما علمنا عليه من سوء ) خيانة .
( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ) ظهر وتبين . وقيل : إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فقررنها [ فأقرت ] ، وقيل : خافت أن يشهدن عليها فأقرت . ( أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) في قوله : هي راودتني عن نفسي ، فلما سمع ذلك يوسف قال :
( ذلك ) أي : ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه ( ليعلم ) العزيز ( أني لم أخنه ) [ ص: 249 ] في زوجته ( بالغيب ) أي : في حال غيبته ( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) قوله ذلك ليعلم من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز : أنا راودته عن نفسه ، من غير تميز ، لمعرفة السامعين .
وقيل : فيه تقديم وتأخير : معناه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ؛ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب .
قيل : لما قال يوسف هذه المقالة ، قال له جبريل : ولا حين هممت بها ؟ فقال يوسف عند ذلك : وما أبرئ نفسي .
قال السدي : إنما قالت له امرأة العزيز : ولا حين حللت سراويلك يا يوسف ؟ فقال يوسف :
( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( 53 ) وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ( 54 ) .
( وما أبرئ نفسي ) من الخطإ والزلل فأزكيها ( إن النفس لأمارة بالسوء ) بالمعصية ( إلا ما رحم ربي ) أي : إلا من رحم ربي فعصمه ، " ما " بمعنى من - كقوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم ) ( النساء - 3 ) أي : من طاب لكم - وهم الملائكة ، عصمهم الله عز وجل فلم يركب فيهم الشهوة .
وقيل : " إلا ما رحم ربي " إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان .
( إن ربي غفور رحيم ) فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه :
( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ) أي : أجعله خالصا لنفسي ( فلما كلمه ) فيه اختصار تقديره : فجاء الرسول يوسف فقال له : أجب الملك الآن .
روي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء . ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك . [ ص: 250 ]
قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي ، وحسبي ربي من خلقه ، عز جاره ، وجل ثناؤه ، ولا إله غيره . ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شره وشر غيره . فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال : الملك ما هذا اللسان ؟ قال : لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك : ما هذا اللسان ؟ قال هذا لسان آبائي ، ولم يعرف الملك هذين اللسانين .
قال وهب : وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية والعبرانية ، فأعجب الملك [ ما رأى منه ] مع حداثة سنه ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فأجلسه و ( قال إنك اليوم لدينا مكين ) [ المكانة في الجاه ] ( أمين ) أي : صادق .
وروي أن الملك قال له : إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها .
فقال يوسف : نعم أيها الملك ، رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان ، كشف لك عنهن النيل ، فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا ، فبينما أنت تنظر إليهن ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه ، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر متقلصات [ البطون ، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ] ، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب ، وخراطيم كخراطيم السباع ، فافترسن السمان افتراس السبع ، فأكلن لحومهن ، ومزقن جلودهن ، وحطمن عظامهن ، وتمششن مخهن ، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد [ عروقهن في الثرى والماء ، فبينما أنت تقول في نفسك أنى هذا ؟ خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد وأصولهن في الماء ] إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار ، فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت ، ثم انتبهت من نومك مذعورا .
فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا - وإن كانت عجيبة - بأعجب مما سمعت منك ، فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟
فقال يوسف عليه السلام : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك . [ ص: 251 ]
فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه ؟ .