بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (226)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 221 إلى صـ 226
وقوله تعالى : وإذا غربت تقرضهم ، من القرض بمعنى القطيعة والصرم ; أي [ ص: 221 ] تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم ، وهذا المعنى معروف من كلام العرب ، ومنه قول غيلان ذي الرمة :
نظرت بجرعاء السبية نظرة ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
فقوله : " يقرضن أقواز مشرف " ، أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال ، وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء ، والأقواز : جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل ، ويروى " أجواز مشرف " جمع جوز ، من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى : تقرضهم خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد ، ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن .
قال أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا ، فتكون التاء في قوله : " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا ، وقد علمت أن الصواب القول الأول ، وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تزاور عن كهفهم ، فيه ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ، على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الازورار بمعنى الميل ; كقول عنترة المتقدم :
فازور من وقع القنا . . . . . . . . . . .
البيت
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف ، وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين ، على حد قوله في الخلاصة :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر
وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري : " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي ، وعلى هاتين القراءتين ( أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي ) فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا [ ص: 222 ] وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى .
وعلى قول من قال : إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف ، فالإشارة في قوله : ذلك من آيات الله ، راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ، أي ذلك المذكور من هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا ، والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير ; لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا ، أما إطلاقاها في اللغة فالأول منهما : أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الآية [ 2 \ 248 ] ، وقول عمر بن أبي ربيعة :
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم ، ومنه قول برج بن مسهر أو غيره :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
فقوله : " بآياتنا " أي بجماعتنا .
[ ص: 223 ] وأما إطلاقها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، أي علامات كونية قدرية ، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا ، والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة .
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله : رسولا يتلو عليكم آيات الله الآية [ 65 \ 11 ] ونحوها من الآيات .
والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها ، أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها .
وقيل : من الآية ، بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن .
قوله تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا ، فمن هداه فلا مضل له ، ومن أضله فلا هادي له .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا الآية [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن : بطلان مذهب القدرية ، أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر ، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد ، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته ! وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! وسيأتي بسط [ ص: 224 ] هذا المبحث إن شاء الله تعالى .
وقد أوضحنا أيضا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، وقوله : فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] ، أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى ، أي لن يكون ذلك ; لأن من أضله الله فلا هادي له ، وقوله : فهو المهتد قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو ، وبقية السبعة قرءوه بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود .
الحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ : جمع يقظ - بكسر القاف وضمها - ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
والرقود : جمع راقد وهو النائم ، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظا والحال أنهم رقود ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، وقال بعض العلماء : سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة ، وقيل : لكثرة تقلبهم ، وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده : ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [ 18 \ 18 ] ، وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه ، ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه .
وقوله في هذه الآية : وتحسبهم ، قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة ، وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، وهما قراءتان سبعيتان ، ولغتان مشهورتان ، والفتح أقيس والكسر أفصح .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ " الوصيد " ، فقيل : هو فناء للبيت ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل الوصيد : الباب ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وقيل : الوصيد العتبة ، وقيل الصعيد ، والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب ، ويقال له " أصيد " أيضا ; لأن الله يقول : إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 8 ] ، أي مغلقة مطبقة ، وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد ، وهو الباب من أبوابها ، ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
[ ص: 225 ] وقول ابن قيس الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا مؤصدا عليه الحجاب
فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ; لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب ، ويقال فيه أصيد ، وعلى اللغتين القراءتان في قوله : " مؤصدة " مهموزا من الأصيد . وغير مهموز من الوصيد .
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي ، وقيل زهير :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي ، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ; كقول الآخر :
ولا ترى الضب بها ينجحر
فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية ، والكهف غار في جبل لا باب له ؟
فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ; فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا ، ومن قال : الوصيد : الفناء ، لا يخالف ما ذكرنا ; لأن فناء الكهف هو بابه ، وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه .
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي ، واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة ، كقراءة " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، وقراءة " وكالئهم باسط ذراعيه " .
وقوله جل وعلا : باسط ذراعيه قرينة على بطلان ذلك القول ; لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي ، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " ، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب ، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ، وقراءة " وكالئهم " بالهمزة لا تنافي كونه كلبا ; لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم ، والكلاءة : الحفظ .
فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو " باسط " في مفعوله الذي هو " ذراعيه " والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة " ال " لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل ؟
[ ص: 226 ] فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية ، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون [ 2 \ 72 ] .
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب ، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . اهـ .
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال : إني أحب الله ورسوله : " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس .
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم ، كما بينه الله تعالى في سورة " الصافات " في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين [ 37 \ 51 ] - إلى قوله - قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين الآية [ 37 \ 56 \ 57 ] .
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم ، فيقول بعضهم : اسمه قطمير ، ويقول بعضهم : اسمه حمران ، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته .
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه .
وقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] حكم أكل لحم الكلب وبيعه ، وأخذ قيمته إن قتل ، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز ، وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه .
قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم