تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 12 من 16 الأولىالأولى ... 2345678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 221 إلى 240 من 301

الموضوع: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

  1. #221
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الاحد
    الموافق : 26/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق : 19/ ابريل / 2020 ميلادي
    تتمة " منهج الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " .


    منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " :
    ( 1 )
    قال الحافظ في مقدمة " هدي الساري " ( ص 9 ) :
    " فإن أولى ما صرفت فيه نفائس الأيام واعلى ما خص بمزيد الاهتمام الاشتغال بالعلوم الشرعية المتلقاة عن خير البرية ولا يرتاب عاقل في أن مدراها على كتاب الله المقتفى وسنة نبيه المصطفى وأن باقي العلوم إما آلات لفهما وهي الضالة المطلوبة أو أجنبية عنهما وهي الضارة المغلوبة "
    (2 )
    قال الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على " فتح الباري "
    (ج1/ ص 4 ) ط السلفية :
    " ولقد وجدنا للشارح رحمه الله أخطاء لا يحسن السكوت عنها فكتبنا عليها تعليقا يتضمن تنبيه القارىء على الصواب وتحذيره من الخطأ "
    ولكثرة اشغال الشيخ ابن باز رحمه الله فقد حالت دون استمراره في هذه التعليقات فانتهى الى آخر شرح كتاب الحج حيث كتب تنبيها بذلك واعتذارا "
    ( فتح الباري ) ( ج3/ ص 635)
    الطبعة السلفية "
    وقد قام الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله باستكمال ما قام به الشيخ ابن باز في التعليق على فتح الباري من حيث انتهى الشيخ ابن باز حيث بدأ من أول المجلد الرابع من الفتح ويذكر كلام الحافظ والذي يتضمن الخطأ ثم يعلق عليه ببيان الصواب "
    وقد عاجلت المنية الشيخ الدويش رحمه الله قبل إتمام ما بدأ وانتهى الى ( ص 320 ) من الجزء التاسع وبلغ مجموع ما علق عليها ( 45 ) موضعا
    ( 33 ) موضعا عقديا وبقيت المواضع في مسائل أصولية او حديثية أو السيرة "
    ( مجموعة مؤلفات الشيخ عبد الله الدويش )
    الجزء التاسع والثلاثين من المجموعة " ط دار العليان "
    كثيرا من الدارسين من العلماء المتأخرين من هذه الأمة من لا يشك أحد في
    علمهم وحسن نواياهم لما لهم من جهود بارزة في خدمة السنة النبوية والذب عنها ولما جعل الله لهم لسان صدق في جماهير الأمة وهم مع ذلك وقفوا في أخطاء عقدية وخالفوا منهج لأهل السنة والجماعة في مسائل من غير قصد بل لاسباب عديدة تتعلق ببيئاتهم وأزمانهم التي عاشوا فيها فهذا الصنف من العلماء لا يحسن السكوت على أخطائهم العقدية بل يجب التنبيه عليها حتى لا يأخذ بها من يجهل حالها ولكن مع المحافظة على مكانتهم في قلوب المسلمين "
    " منهج الحافظ في العقيدة في فتح الباري "
    محمد اسحاق كندور ) ص : 9 )
    .............................. ...............
    قال ابن خلدون ( ت 808 ه )
    " ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا يقولون شرح كتاب البخاري دين على الأمة
    يعنون ان أحدا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح "
    " كشف الظنون " ( ج1/ ص 640)
    من العجيب ان الذي قضى الدين – أعني ابن حجر – تتلمذ لابن خلدون
    كما في " الدرر الكامنة " ( 3/ 289)
    " أخذ عنه ابن خلدون شيخنا وترجمه "
    .............................. ..
    وفي فتاوى اللجنة الدائمة سؤال يقول : " ..... وما هو موقفنا من العلماء الذين أولو في الصفات مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم هل يعتبرهم من أئمة أهل السنة والجماعة ام ماذا ؟
    وهل نقول إنهم أخطأوا في تأويلاتهم أم كانوا ضالين في ذلك ؟
    فكانت الإجابة :
    " موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم من تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناه
    انهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء وانهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهن وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي يشهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير وأنهم اخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا من سلف الأمة وأئمة السلف رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الافعال في ذلك "
    " مجلة البحوث الإسلامية " العدد 39 "
    ( ص:119-124).
    .............................. ......
    اشار الحافظ ابن حجر في كتابه ابناء الغمر بأبناء العمر " :
    الى وقائع كثيرة في عصره دلت على شدة ما كان عليه أهل ذلك العصر علماء وحكاما من التعصب لما هم عليه من العقائد المنحرفة والبدع وإنزال الأذى وشد الخناق على من يخالف مذهبهم وعقيدتهم فالكلام يما يتعلق بالصفات وإثباتها على طريقة السلف يعتبر صاحبه مجسما يجب تعزيره "
    " إنباء الغمر " (8/ 197)
    ................
    " وقراءة كتاب في العقيدة السلفية كالرد على الجهمية للدرامي يعد خروجا على عقيدة الجماعة ويسجن القاري "
    إنباء الغمر (2/ 141)
    ....................
    " والانكار على البدع من التوسلات والغلو في الصالحين يسبب خطرا على المنكر ويؤخذ عليه التعهد بالتخلي من ذلك "
    " إنباء الغمر "(1/ 258)
    ......................
    ( والأخذ بآراء شيخ الاسلام ابن تيمية او الفتوى ببعض مقالاته يؤدي بصاحبه إلى الأذى والابتلاء ولمز الناس له بالتيمي "
    " إنباء الغمر " (1/ 252)
    ...............
    " كان محبا للشيخ تقي الدين ابن تيمية معظما له جاريا في أصول الدين على قاعدة المحدثين "
    " مقدمة تحقيق " تعليق التعليق " (1/ 61)
    قال المؤلف : وعزاها الى الجواهر الدرر وقال ولكني لم أقف على هذه العبارة في النسخة المصورة من المخطوطة " الجواهر والدرر " الموجودة في دار الكتب المصرية
    .......................
    قال الشيخ ابو عبد الله ربيع بن محمد السعودي في مقدمة تحقيقه لكتاب " اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر " للمناوي قال عن عقيدته "
    لا يختلف اثنان في مكانة ابن حجر وعلمه غير ان الكمال المطلق لله عز وجل وحده ولم تخل حياة ابن حجر من بعض الهنات ولم تخل حياة ابن حجر من بعض الهنات والذي يهمنا ان ننبه عليه ان ابن حجر كان يميل إلى تأويل الصفات ولا شك ان ذلك يخالف منهج السلف الذين كانوا يأخذون الصفات على ظاهرها من غير تاويل ولا تعطيل وقد تكون هذه سمة العصر الذي نشأ فيه ابن حجر ...ونسأل الله ان يتجاوز عنه وان يغفر لنا وله "
    مقدمة تحيق " اليواقيت والدرر "
    ( ص 11 )
    ..............................
    قال الشيخ علي بن حسن الحلبي في" مقدمة تحقيقه لكتاب نزهة النظر " ( ص 13 ) :
    " وبعد هذا كله فإنه - عفا الله عنه – كان ذا عقيدة يشوبها التمشعر فكان من الخائضين مثلا في تأويل صفات الباري جل وعز مع اضطراب في ذلك أحيانا "
    ....................
    في كتابه " منهج الاشاعرة في العقيدة
    ( ص 28) :
    " ردا على من زعم أن الحافظ ابن حجر كان أشعري العقيدة على منهج متكلمي الأشاعرة وأيد رده ها بعدة دلائل ثم قال : " والذي أراه ان الحافظ رحمه الله أقرب شيء إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في " درء تعارض العقل والنقل " ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها على حسن نية ..ولو قيل أن الحافظ رحمه الله كان متذبذبا في في عقيدته لكان ذلك أقرب الى الصواب كما يدل عليه شرح كتاب " التوحيد "
    والله اعلم .
    ......................
    قال الشيخ عبدالله بن محمد الغنيمان حفظه الله في مقدمة كتابه على " شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري " ( 1/ 28 ) :
    (..فإن كتاب التوحيد منه بحاجة إلى شرح يبيين مقاصد البخاري رحمه الله تعالى ووجه الرد من أهل البدع لأن غالب من قام بشرحه على المذهب الأشعري ولا سيما الشروح المتداولة اليوم ولهذا تجد احدهم يوجه الكلام من النصوص ليتفق مع ما يعتقده ولو بالتعسف "
    (1/ 28 ) .
    ..........................
    بين الحافظ ابن حجر رحمه الله منهجه في " الشرح " فقال :
    " اسوق – إن شاء الله – الباب وحديثه أولا ثم اذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية ثم استخرج ثانيا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والاسنادية عن تتمات وزيادات وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك منتزعا كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والاجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك .
    اصل ما انقطع من معلقاته وموقوفاته وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفوائد
    اضبط ما يشكل من جميع ما تقدم اسماء واوصافا مع إيضاح معاني الالفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانيه ونحو ذلك
    أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية مقتصرا على الراجح من ذلك متحريا للواضح دون المستغلق في تلك المسائل متحريا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره والتنصيص على المنسوخ بناسخه والعام بمخصصه والمطلق بمقيده والمجمل بمبينه والظاهر بمؤوله والاشارة الى نكت من القواعد الأصولية ونبذ من فرائد العربية ونخب من الخلافات المذهبية بحسب ما اتصل بي من كلام الائمة واتسع له فهمي من المقاصد المهمة وأراعي هذا
    الاسلوب في كل باب تقدم نبهت على حكمة التكرار من غير إعادة له إلا ان تغاير لفظه أو معناه فأنبه على الموضع المغاير خاصة فإن تكرر في باب آخر اقتصرت فيما بعد الأول على المناسبة شارحا لما لم يتقدم له ذكر منبها على الموضع الذي تقدم بسط القول فيه
    فإذا كانت الدلالة لا تظهر في الباب المقدم إلا على بعد غيرت هذا الاصطلاح بالاقتصار في الأول على المناسبة وفي الثاني على سياق الاساليب المتعاقبة مراعيا في جميعها مصلحة الاختصار دون الهذر والاكثار منه "
    " هدي الساري " ( ص :4-5) .
    هذا هو المنهج الذي اختطه الحافظ ابن حجر للسير عليه في كتابه " فتح الباري "
    وهو كما يظهر في غاية القوة والشمول " .

    .
    ..................
    " اعتماده على اتقن روايات صحيح البخاري مع التنبيه في اثناء الشرح على اختلاف الفاظ الروايات وعلى ما وقع في نسخ صحيح البخاري ورواياتها من اخطاء وتصحيفات أو تحريفات أو سقط "
    " فتح الباري " ( 1/ 7 )
    .............................. ........
    " اعتماده على شرح الحديث على جمع طرقه وايراد الشواهد والروايات المعتلقة بمضمونه وربما تبين من بعض ترجيح أحد الاحتمالات في الحديث معنى وإعرابا "
    " الجواهر والدرر " ( ق164/أ )
    ..............................
    " ان أولى ما يشرح الحديث بالحديث حيث قال :
    (... وأن المتيقن على من يتكلم على الاحاديث أن يجمع طرقها ثم يجمع ألفاظ المتون وإن صحت الطرق ويشرحها على أنه حديث واحد فإن الحديث أولى ما فسر بالحديث )
    " فتح الباري " (6/ 475).
    ..................
    * " تنبيه كثيرا على اوهام شراح البخاري قبله وأوهام أصحاب الأطراف والمستخرجات والجمع بين الصحيحين ومن ألف في رجال البخاري أو رجال الشيخين أو تراجم البخاري والمتتبعين لأحاديث الصحيحين وكذلك المحدثين والفقهاء والأصوليين والمؤرخين واللغويين وغيرهم مما له تعلق بالصحيح وشرح أحاديثه "
    *اشتماله على بحوث وتحقيقات علمية فذة نادرة في مسائل متنوعة وموضوعات شتى كثرة موارده التي استقى منها مادة الشرح وتنوعها حتى تمت كل لون من الوان المعرفة والعلون ولا سيما كتب الحديث ولذلك ازدحم كتابه بأسماء العلماء والكتب التي تعتبر بعضها الآن في عداد المفقودات مما يجعل الفتح مصدرا بديلا "
    * " سلالة العرض ودقة التعبير وحسن التلخيص ووجازة القبول ونصاعة الرأي وقوة العارضة في الإعراب
    * سيره على نسق واحد في أول الجزء وآخره ومن أول الكتاب حتى نهايته فمع طول المدة وتغير الاحوال احيانا لم يختل نظام شرحه ولم يحد عن منهجه الذي اختطه للسير عليه في كتابه
    *يختم كل كتاب من كتب " صحيح البخاري " بخاتمة يذكر فيها عدد أحاديث ذلك الكتاب المروفوعة والموقوفة والمعلقة والمكررة وما وافقه مسلم على تخريجه مما لم يوافقه
    * كما انه ختم شرحه بذكر عدد " صحيح البخاري " بالمكرر موصولا ومعلقا وما في معناه من المتابعة وعدد أحاديثه موصولا ومعلقا بغير تكرار وعدد الآحاديث التي وافقه مسلم على تخريجها
    وعدد الآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم "
    " منهج الحافظ في العقيدة " كندور
    ( ص156-158) .
    ........................

    ........................
    " الاحاديث المكررة يشرح في كل موضع ما يتعلق بمقصد البخاري يذكر الحديث فيه ويحيل باقي شرحه على المكان الذي استوفى فيه شرح الحديث سابقا أو لاحقا ولكنه احيانا يحيل القارىء على موضع وعندما يرجع إليه لا يجد المحال به وقد تنبه الحافظ نفسه لهذا الخلل الواقع في كتابه وتمنى إدراكه لكن المنية اخترمته قبل ان يتمكن من ذلك "
    " منهج ابن حجر في العقيدة " محمد كندور
    ( ص 160-161).
    ....................
    قال السخاوي :
    " أود لو تتبعت الحوالات التي يقع لي فيه فإن لم يكن المحال به مذكورا أو ذكر في مكان آخر غير المحال عليه فينبهني عليه ليقع إصلاحه "
    " الجواهر والدرر " ( ق164/أ ) – كندور .
    ................
    قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله عن " فتح الباري " :
    " وذلك لما لهذا الكتاب الجليل من المنزلة الرفيعة بين أهل العلم لما اشتمل عليه من ايضاح ما اشكل في الجامع الصحيح وتخريج ما فيه من الاحاديث والآثار المعلقة وبيان كثير من مسائل الإجماع والخلاف المتعلقة بأحاديث الكتاب والتنبيه على كثير من أوهام بعض شراح الجامع الصحيح وغيرهم وغير ذلك من الفوائد الكثيرة والفرائد النادرة التي اشتمل عليها هذا الشرح العظيم فبادرت إلى تحقيق هذه الرغبة والمساهمة في إبراز هذا الكتاب العظيم الشأن الى متناول أيدي القراء "
    مقدمة الطبعة السلفية لفتح الباري (1/3)
    نقلا من محمد اسحاق كندور " منهج ابن حجر العسقلاني "

    ..........
    * يرى الحافظ ابن حجر رحمه الله حجية خبر الآحاد في العقيدة كما في شرحه وتلخيصه والُآثار التي ذكرها في " فتح الباري " وإنما عرف بعدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقائد من الفرق المنحرفة في الإسلام نصرة لمذهبهم ومن تأثر بهم من بعض العلماء وهو قول فاسد مخالف لصريح الكتاب والسنة ويلزم منه رد الأحاديث النبوية الصحيحة "
    وللشيخ الالباني رحمه الله رسالة قيمة بعنوان " وجوب الأخذ بالحديث في الآحاد في العقيدة " والرد على شبه المخالفين "
    ..............
    منهج الحافظ في فتح الباري في الاستدلال العقلي في العقيدة متفق مع منهج أهل السنة والجماعة على الاجمال والتفصيل حيث يجعلون العقل تابعا للنقل ويجعلون الوحي قائدا للعقل "
    قال الشيخ الاسلام ابن تيمية في " الفتاوى " ( 3/ 296)
    " القرآن جاء بالأدلة العقلية على أكمل وجه على أصول الدين من الآلهيات والنبوات والسمعيات وغيرها "
    وقال في الفتاوى ( 11/ 490)
    " ولأنه ليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح لان ما خالف العقل الصريح باطل وليس في الكتاب والسنة والاجماع باطل ولكن من الفاظ قد لا يفهمها بعض الناس أو يفهمون منها معنى باطلا فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة "
    وقال في الفتاوى (13/ 350)
    " ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه واسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه كما هو طريق السلف وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل "
    ...............

  2. #222
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأربعاء
    الموافق 29/ شعبان / 1441 هجري
    الموافق 22/ ابريل / 2020 ميلادي
    " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ( 2 ) " تلخيص " عمدة القاري " للحافظ بدر الدين العيني ( 855 ه )

    .............................. ......................
    عمدة القاري في شرح " صحيح البخاري "
    بدر الدين العيني المتوفي (855 ه )
    نبذة عن الكتاب: - هذا الكتاب من طباعة إدارة الطباعة المنيرية، ثم صورتها دار الفكر - بيروت، وكذا دار إحياء التراث العربي - بيروت.
    - الكتاب مكون من 25 جزء ضمن 12 مجلد، بحيث يحتوي كل مجلد على جزئين عدا المجلد الأخير فيحتوي على 3 أجزاء

    قال محققا كتاب " انتقاض الأعتراض " ط الرشد :
    ( ج1/ ص 3-4) :
    *" الف العيني كتابه عمدة القاري في شرح صحيح البخاري وجعله كأنه رد على الحافظ ابن حجر في فتح الباري وكان يتعقب كلما رأى مجالا فنجده كثيرا ما يبتر عبارة الحافظ أو ينقلها محرفة أو مشوهة ليكون هناك مجال للاعتراض عليه وقلما يفوته عنوان من عناوينه أو شرح لحديثه إلا وتجد له اعتراضا أو أكثر ويا حبذا لو كانت اعتراضاته ذات فائدة أو فيها زيادة علم فانبرى له الحافظ في كتابه " انتقاض الاعتراض " وأجاب عنها إجابة جيدة ولكنه اقتصر على الاعتراضات المهمة منها "
    * وكتاب " مبتكرات " اللآلى والدرر في المحاكمة بين العيني وابن حجر " للبوصيري وهو كتاب نافع وكثير الفوائد رد فيه على العيني رتبه على شكل محاكمات بلغت ثلاثة وأربعين وثلاثمائة محكمة "
    " قال العيني في " مقدمة الكتاب ":
    (ج1/ ص 3 )
    ان يعلم أن في الزوايا خبايا وأن العلم من منايح الله عز وجل ومن أفضل العطايا (والثاني) إظهار ما منحني الله من فضله الغزير وإقداره إياي على أخذ شيء من علمه الكثير والشكر مما يزيد النعمة ومن الشكر إظهار العلم للأمة (والثالث) كثرة دعاء بعض الأصحاب بالتصدي لشرح هذا الكتاب على أني قد أملتهم بسوف ولعل ولم يجد ذلك بما قل وجل وخادعتهم عما وجهوا إلي بأخادع الالتماس ووادعتهم من يوم إلى يوم وضرب أخماس لأسداس والسبب في ذلك أن أنواع العلوم على كثرة شجونها وغزارة تشعب فنونها عز على الناس مرامها واستعصى عليهم زمامها صارت الفضائل مطموسة المعالم مخفوضة الدعائم وقد عفت أطلالها ورسومها واندرست معالمها وتغير منثورها ومنظومها وزالت صواها وضعفت قواها
    (ج1/ ص 4)
    فوائد) الأولى سمى البخاري كتابه بالجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه وهو أول كتابه وأول كتاب صنف في الحديث الصحيح المجرد وصنفه في ست عشرة سنة ببخارى قاله ابن طاهر وقيل بمكة قاله ابن البجير سمعته يقول صنفت في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا إلا بعدما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة والمدينة والبصرة وبخارى فإنه مكث فيه ست عشرة سنة كما ذكرنا وفي تاريخ نيسابور للحاكم عن أبي عمرو إسماعيل ثنا أبو عبد الله محمد بن علي قال سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول أقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي أصنف وأحج كل سنة وأرجع من مكة إلى البصرة قال وأنا أرجو أن الله تعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات (الثانية) اتفق علماء الشرق والغرب على أنه ليس بعد كتاب الله تعالى أصح من صحيحي البخاري ومسلم فرجح البعض منهم المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري والجمهور على ترجيح البخاري على مسلم لأنه أكثر فوائد منه وقال النسائي ما في هذه الكتب أجود منه قال الإسماعيلي ومما يرجح به أنه لا بد من ثبوت اللقاء عنده وخالفه مسلم واكتفى بأمكانه وشرطهما أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم له راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك
    قد قال الحاكم الأحاديث المروية بهذه الشريطة لم يبلغ عددها عشرة آلاف حديث وقد خالفا شرطهما فقد أخرجا في الصحيحين حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إنما الأعمال بالنيات ولا يصح إلا فردا كما سيأتي إن شاء الله تعالى وحديث المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه غير ابنه سعيد وأخرج مسلم حديث حميد بن هلال عن أبي رفاعة العدوي ولم يرو عنه غير حميد وقال ابن الصلاح وأخرج البخاري حديث الحسن البصري عن عمرو بن ثعلب إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي لم يرو عنه غير الحسن قلت فقد روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج نص عليه ابن أبي حاتم وأخرج أيضا حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي يذهب الصالحون الأول فالأول ولم يرو عنه غير قيس
    جملة ما فيه من الأحاديث المسندة سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وبحذفها نحو أربعة آلاف حديث وقال أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانشي الذي اشتمل عليه كتاب البخاري من الأحاديث سبعة آلاف وستمائة ونيف قال واشتمل كتابه وكتاب مسلم على ألف حديث ومائتي حديث من الأحكام فروت عائشة رضي الله تعالى عنها من جملة الكتاب مائتين ونيفا وسبعين حديثا لم تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا قال الحاكم فحمل عنها ربع الشريعة ومن الغريب ما في كتاب الجهر بالبسملة لابن سعد إسماعيل ابن أبي القاسم البوشنجي نقل عن البخاري أنه صنف كتابا أورد فيه مائة ألف حديث صحيح (الخامسة) فهرست أبواب الكتاب ذكرها مفصلة الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بإسناده عن الحموي فقال عدد أحاديث صحيح البخاري رحمه الله بدأ الوحي سبعة أحاديث الإيمان خمسون العلم خمسة وسبعون الوضوء مائة وتسعة أحاديث غسل الجنابة ثلاثة وأربعون الحيض سبعة وثلاثون التيمم خمسة عشر فرض الصلاة حديثان....
    (ج1/ ص 10)
    واعلم) أن كل ما في البخاري أخبرنا محمد قال أخبرنا عبد الله فهو ابن مقاتل المروزي عن ابن المبارك وما كان أخبرنا محمد عن أهل العراق كأبي معاوية وعبدة ويزيد بن هارون والفزاري فهو ابن سلام البيكندي وما كان فيه عبد الله غير منسوب فهو عبد الله بن محمد الجعفي المسندي مولى محمد بن إسماعيل البخاري وما كان أخبرنا يحيى غير منسوب فهو ابن موسى البلخي واسحق غير منسوب هو ابن راهويه فافهم (العاشرة) قد أكثر البخاري من أحاديث وأقوال الصحابة وغيرهم بغير إسناد فإن كان بصيغة جزم كقال وروى ونحوهما فهو حكم منه بصحته وما كان بصيغة التمريض كروى ونحوه فليس فيه حكم بصحته ولكن ليس هو واهيا إذ لو كان واهيا لما أدخله في صحيحه (فإن قلت) قد قال ما أدخلت في الجامع إلا ما صح يخدش فيه ذكره ما كان بصيغة التمريض قلت معناه ما ذكرت فيه مسندا إلا ما صح وقال القرطبي لا يعلق في كتابه إلا ما كان في نفسه صحيحا مسندا لكنه لم يسنده ليفرق بين ما كان على شرطه في أصل كتابه وبين ما ليس كذلك وقال الحميدي والدارقطني وجماعة من المتأخرين أن هذا إنما يسمى تعليقا إذا كان بصيغة الجزم تشبيها بتعليق الجدار لقطع الاتصال وإنما سمي تعليقا إذا انقطع
    (ج1/ ص 11)
    ذكروا أن من الواجب على مصنف كتاب أو مؤلف رسالة ثلاثة أشياء وهي البسملة والحمدلة والصلاة ومن الطرق الجائزة أربعة أشياء وهي مدح الفن وذكر الباعث وتسمية الكتاب وبيان كيفية الكتاب من التبويب والتفصيل أما البسملة والحمدلة فلأن كتاب الله تعالى مفتوح بهما ولقوله صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله وببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع رواه الحافظ عبد القادر في أربعينه وقوله عليه الصلاة والسلام كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم رواه أبو داود والنسائي وفي رواية ابن ماجة كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد أقطع ورواه ابن حبان وأبو عوانة في صحيحيهما وقال ابن الصلاح هذا حديث حسن بل صحيح
    (ج1/ ص 12)
    من البخاري رحمه الله لم يأت من هذه الأشياء إلا بالبسملة فقط وذكر بعضهم أنه بدأ بالبسملة للتبرك لأنها أول آية في المصحف أجمع على كتابتها الصحابة. قلت لا نسلم أنها أول آية في المصحف وإنما هي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور وهذا مذهب المحققين من الحنفية وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه وهو المنصوص عن أحمد على أن طائفة قالوا أنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة وعن الأوزاعي أنه قال ما أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة النمل وحدها وليست بآية تامة وإنما الآية {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} وروى عن الشافعي أيضا أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها ثم أنهم اعتذروا عن البخاري بأعذار هي بمعزل عن القبول (الأول) أن الحديث ليس على شرطه فإن في سنده قرة بن عبد الرحمن ولئن سلمنا صحته على شرطه فالمراد بالحمد الذكر لأنه قد روى بذكر الله تعالى بدل حمد الله وأيضا تعذر استعماله لأن التحميد إن قدم على التسمية خولف فيه العادة وإن ذكر بعدها لم يقع به البداءة
    لت هذا كلام واه جدا لأن الحديث صحيح صححه ابن حبان وأبو عوانة وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة كما أخرجه النسائي ولئن سلمنا أن الحديث ليس على شرطه فلا يلزم من ذلك ترك العمل به مع المخالفة لسائر المصنفين ولو فرضنا ضعف الحديث أو قطعنا النظر عن وروده فلا يلزم من ذلك أيضا ترك التحميد المتوج به كتاب الله تعالى والمفتتح به في أوائل السور عن الكتب والخطب والرسائل
    ....
    ن حديث الافتتاح بالتحميد منسوخ بأنه عليه السلام لما صالح قريشا عام الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمر. فلولا نسخ لما تركه قلت هذا أبعد الأجوبة لعدم الدليل على ذلك لم لا يجوز أن يكون الترك لبيان الجواز (الرابع) أن كتاب الله عز وجل مفتتح بها وكتب رسوله عليه السلام مبتدأة بها فلذلك تأسى البخاري بها قلت لا يلزم من ذلك ترك التحميد ولا فيه إشارة إلى تركه (الخامس) إن أول ما نزل من القرآن اقرأ و {يا أيها المدثر} وليس في ابتدائهما حمدا لله فلم يجز أن يأمر الشارع بما كتاب الله على خلافه قلت هذا ساقط جدا لأن الاعتبار بحالة الترتيب العثماني لا بحالة النزول إذ لو كان الأمر بالعكس لكان ينبغي أن يترك التسمية أيضا (السادس) إنما تركه لأنه راعى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} فلم يقدم بين يدي الله ولا رسوله شيئا وابتدأ بكلام رسوله عوضا عن كلام نفسه
    ........
    (ج1/ ص 13)
    لما كان كتابه مقصورا على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم صدره بباب بدأ الوحي لأنه يذكر فيه أول شأن الرسالة والوحي وذكر الآية تبركا ولمناسبتها لما ترجم له لأن الآية في أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام وقال بعضهم لو قال كيف كان الوحي وبدؤه لكان أحسن لأنه تعرض لبيان كيفية الوحي لا لبيان كيفية بدء الوحي وكان ينبغي أن لا يقدم عليه عقب الترجمة غيره ليكون أقرب إلى الحسن وكذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس لا يدل على بدء الوحي ولا تعرض له غير أنه لم يقصد بهذه الترجمة تحسين العبارة وإنما مقصوده فهم السامع والقارىء إذا قرأ الحديث علم مقصوده من الترجمة فلم يشتغل بها تعويلا منه على فهم القارىء
    ...............
    (ج1/ ص 14)
    قال صاحب البداية الرسول هو النبي الذي معه كتاب كموسى عليه السلام والنبي هو الذي ينبىء عن الله تعالى وإن لم يكن معه كتاب كيوشع عليه السلام وتبعه على ذلك الشيخ قوام الدين والشيخ أكمل الدين في شرحيهما والتعريف الصحيح أن الرسول من نزل عليه كتاب أو أتى إليه ملك والنبي من يوقفه الله تعالى على الأحكام أو يتبع رسولا آخر فكل رسول نبي من غير عكس قوله وقول الله تعالى القول ما ينطق به اللسان تاما كان أو ناقصا ويطلق على الكلام والكلم والكلمة ويطلق مجازا على الرأي والاعتقاد كقولك فلان يقول بقول أبي حنيفة رضي الله عنه ويذهب إلى قول مالك ويستعمل في غير النطق قال أبو النجم
    ................
    (ج1/ ص 16)
    م خصص نوحا عليه السلام بالذكر ولم يذكر آدم عليه السلام مع أنه أول الأنبياء المرسلين. قلت أجاب عنه بعض الشراح بجوابين. الأول أنه أول مشرع عند بعض العلماء. والثاني أنه أول نبي عوقب قومه فخصصه به تهديدا لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وفيهما نظر. أما الأول فلا نسلم أنه أول مشرع بل أول مشرع هو آدم عليه السلام فإنه أول نبي أرسل إلى بنيه وشرع لهم الشرائع ثم بعده قام بأعباء الأمر شيث عليه السلام وكان نبيا مرسلا وبعده إدريس عليه السلام بعثه الله إلى ولد قابيل ثم رفعه الله إلى السماء. وأما الثاني فلأن شيث عليه السلام هو أول من عذب قومه بالقتل وذكر الفربري في تاريخه أن شيث عليه السلام سار إلى أخيه قابيل فقاتله بوصية أبيه له بذلك متقلدا بسيف أبيه وهو أول من تقلد بالسيف وأخذ أخاه أسيرا وسلسله ولم يزل كذلك إلى أن قبض كافرا والذي يظهر لي من الجواب الشافي عن هذا أن نوحا عليه السلام هو الأب الثاني وجميع أهل الأرض من أولاد نوح الثلاثة لقوله تعالى {وجعلنا ذريته هم الباقين} فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث وذلك لأن كل من كان على وجه الأرض قد هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة وقال قتادة لم يكن فيها إلا نوح عليه السلام وامرأته وثلاثة بنيه سام وحام ويافث ونساؤهم فجميعهم ثمانية وقال ابن إسحق كانوا عشرة سوى نسائهم وقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين نفسا وعن ابن عباس كانوا ثمانين إنسانا أحدهم جرهم والمقصود لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم ما خلا نوحا وبنيه الثلاثة وأزواجهم ثم مات نوح عليه السلام وبقي بنوه الثلاثة فجميع الخلق منهم وكان نوح عليه السلام أول الأنبياء المرسلين بعد الطوفان وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده ما خلا آدم وشيث وإدريس فلذلك خصه الله تعالى بالذكر
    ......
    (ج1/ ص 17)
    عادة البخاري رحمه الله تعالى أن يضم إلى الحديث الذي يذكره ما يناسبه من قرآن أو تفسير له أو حديث على غير شرطه أو أثر عن بعض الصحابة أو عن بعض التابعين بحسب ما يليق عنده ذلك المقام. ومن عادته في تراجم الأبواب ذكر آيات كثيرة من القرآن وربما اقتصر في بعض الأبواب عليها فلا يذكر معها شيئا أصلا وأراد بذكر هذه الآية في أول هذا الكتاب الإشارة إلى أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام.
    ................
    (ج1/ ص 17)
    علقمة بن وقاص الليثي يكنى بأبي واقد ذكره أبو عمرو بن منده في الصحابة وذكره الجمهور في التابعين توفي بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان
    (ج1/ ص 18)
    ليس في الصحابة من اسمه عمر بن الخطاب غيره وفي الصحابة عمر ثلاثة وعشرون نفسا على خلاف في بعضهم وربما يلتبس بعمر وبزيادة واو في آخره وهم خلق فوق المائتين بزيادة أربعة وعشرين على خلاف في بعضهم وفي الرواة عمر بن الخطاب غير هذا الاسم ستة الأول كوفي روى عنه خالد بن عبد الله الواسطي الثاني راسبي روى عنه سويد أبو حاتم الثالث إسكندري روى عن ضمام بن إسماعيل الرابع عنبري روى عن أبيه عن يحيى بن سعيد الأنصاري الخامس سجستاني روى عن محمد بن يوسف الفريابي السادس سدوسي بصري روى عن معتمر بن سليمان وليس في الكتب الستة من اسمه علقمة بن وقاص غيره وجملة من اسمه يحيى بن سعيد في الحديث ستة عشر وفي الصحيح جماعة يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الحافظ ويحيى بن سعيد بن حيان أبو التيمي الإمام ويحيى بن سعيد بن العاص الأموي تابعي ويحيى بن سعيد بن فروخ القطاني التيمي الحافظ أحد الأعلام ولهم يحيى بن سعيد العطار براء في آخره واه وعبد الله بن الزبير في الكتب الستة ثلاثة أحدهم الحميدي المذكور والثاني حميدي الصحابي والثالث البصري روى له ابن ماجه والترمذي في الشمائل وفي الصحابة أيضا عبد الله بن الزبير بن المطلب بن هاشم وليس لهما ثالث في الصحابة رضي الله عنهم
    .........
    (ج1/ ص 19)
    أفرد الحافظ أبو موسى الأصبهاني جزأ لرباعي الصحابة وخماسيهم ومن الغريب العزيز رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعض وقد أفرده الخطيب البغدادي بجزء جمع اختلاف طرقه وهو حديث منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن الربيع بن خيثم عن عمرو بن ميمون الأودي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن وقال يعقوب بن شيبة وهو أطول إسناد روى قال الخطيب والأمر كما قال
    ...............
    (ج1/ ص 20)
    ما وقع في البخاري ومسلم من العنعنة فمحمول على السماع من وجه آخر وأما غير المدلس فعنعنته محمولة على الاتصال عند الجمهور مطلقا في الكتابين وغيرهما لكن بشرط إمكان اللقاء وزاد البخاري اشتراط ثبوت اللقاء قلت وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه مذاهب أحدها لا يشترط شيء من ذلك ونقل مسلم في مقدمة صحيحه الإجماع عليه والثاني يشترط ثبوت اللقاء وحده وهو قول البخاري والمحققين والثالث يشترط طول الصحبة والرابع يشترط معرفته بالرواية عنه والحميدي مشهور بصحبة ابن عيينة وهو أثبت الناس فيه قال أبو حاتم هو رئيس أصحابه ثقة إمام وقال ابن سعد هو صاحبه وراويته والأصح أن إن كعن بالشرط المتقدم وقال أحمد وجماعة يكون منقطعا حتى يتبين السماع ومنها أن البخاري قد ذكر في هذا الحديث الألفاظ الأربعة وهي أن وسمعت وعن وقال فذكرها ههنا وفي الهجرة والنذور وترك الحيل بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي باب العتق بلفظ عن وفي باب الإيمان بلفظ أن وفي النكاح بلفظ قال وقد قام الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي لا فرق فيه بين هذه الألفاظ ومنها أن البخاري رحمه الله ذكر في بعض رواياته لهذا الحديث سمعت رسول الله عليه وسلم وفي بعضها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلق بذلك مسألة وهي هل يجوز تغيير قال النبي إلى قال الرسول أو عكسه فقال ابن الصلاح والظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى لاختلاف معنى الرسالة والنبوة وسهل في ذلك الإمام أحمد رحمه الله وحماد بن سلمة والخطيب وصوبه النووي. قلت كان ينبغي أن يجوز التغيير مطلقا لعدم اختلاف المعنى ههنا وإن كانت الرسالة أخص من النبوة وقد قلنا أن كل رسول نبي من غير عكس وهو الذي عليه المحققون ومنهم من لم يفرق بينهما وهو غير صحيح ومن الغريب ما قاله الحليمي في هذا الباب أن الإيمان يحصل بقول الكافر آمنت بمحمد النبي دون محمد الرسول وعلل بأن النبي لا يكون إلا لله والرسول قد يكون لغيره
    ......................
    (ج1/ ص 19)
    حديث " إنما الاعمال ..." فرد غريب باعتبار مشهور باعتبار آخر وليس بمتواتر خلافا لما يظنه بعضهم فإن مداره على يحيى بن سعيد وقال الشيخ قطب الدين رحمه الله يقال هذا الحديث مع كثرة طرقه من الأفراد وليس بمتواتر لفقد شرط التواتر فإن الصحيح أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى عمر ولم يروه عن عمر إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ومنه انتشر فهو مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله وهو مجمع على صحته وعظم موقعه وروينا عن أبي الفتوح الطائي بسند صحيح متصل أنه قال رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي نفس وقد اتفقوا على أنه لا يصح مسندا إلا من هذه الطريق المذكورة وقال الخطابي لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن هذا الحديث لا يصح مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر رضي الله عنه
    رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر من الصحابة رضي الله عنهم وإن كان البزار قال لا نعلم روى هذا الحديث إلا عن عمر عن رسول الله عليه السلام وبهذا الإسناد وكذا قال ابن السكوني في كتابه المسمى بالسنن الصحاح المأثورة لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد غير عمر بن الخطاب وكذا الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب حيث قال لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر رضي الله عنه وقال ابن منده رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وابن عباس ومعاوية وأبو هريرة وعبادة بن الصامت وعتبة بن عبد الأسلمي وهزال بن سويد وعتبة بن عامر وجابر بن عبد الله وأبو ذر وعتبة بن المنذر وعقبة بن مسلم رضي الله تعالى عنهم وأيضا قد توبع علقمة والتيمي ويحيى بن سعيد على روايتهم قال ابن منده هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء بن يسار وواصل ابن عمرو الجذامي ومحمد بن المنكدر ورواه عن علقمة غير التيمي سعيد بن المسيب ونافع مولى بن عمر وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثي وداود بن أبي الفرات ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وعبد الله بن قيس الأنصاري ولا يدخل هذا الحديث في حد الشاذ وقد اعترض على بعض علماء أهل الحديث حيث قال الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد تفرد به ثقة أو غيره فأورد عليه الإجماع على العمل بهذا الحديث وشبهه وأنه في أعلى مراتب الصحة وأصل من أصول الدين مع أن الشافعي رضي الله عنه حده بكلام بديع فإنه قال هو وأهل الحجاز الشاذ هو أن يروي الثقة مخالفا لرواية الناس لا أن يروي ما لا يروي الناس وهذا الحديث وشبهه ليس فيه مخالفة بل له شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة وقال الخليلي: إن الذي عليه الحفاظ أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره فما كان عن غير ثقة فمردود وما كان عن ثقة توقف فيه ولا يحتج به وقال الحاكم أنه ما انفرد به ثقة وليس له أصل يتابع قلت ما ذكروه يشكل بما ينفرد به العدل الضابط كهذا الحديث فإنه لا يصح إلا فردا وله متابع أيضا كما سلف ثم اعلم أنه لا يشك في صحة هذا الحديث لأنه من حديث الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه حفاظ الإسلام وأعلام الأئمة مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الوهاب وخلايق لا يحصون كثرة وقد ذكره البخاري من حديث سفيان ومالك وحماد بن زيد وعبد الوهاب
    قال أبو سعيد محمد بن علي الخشاب الحافظ روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مأتين وخمسين رجلا وذكر ابن منده في مستخرجه فوق الثلاثمائة وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول في المذاكرة قال الإمام عبد الله الأنصاري كتبت هذا الحديث عن سبعمائة رجل من أصحاب يحيى بن سعيد وقال الحافظ أبو موسى المديني وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي أنه رواه عن يحيى سبع مائة رجل. فإن قيل قد ذكر في تهذيب مستمر الأوهام لابن ماكولا أن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي وذكر في موضع آخر أنه يقال لم يسمعه التيمي من علقمة قلت رواية البخاري عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة ترد هذا وبما ذكرنا أيضا يرد ما قاله ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار أن هذا الحديث قد يكون عند بعضهم مردودا لأنه حديث فرد
    .............................
    (ج1/ ص 20)
    لم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في موطئه ووهم ابن دحية الحافظ فقال في إملائه على هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ ورواه الشافعي عنه وهذا عجيب منه
    ...............
    (ج1/ ص 21)
    قد حصل من الطرق المذكورة أربعة ألفاظ إنما الأعمال بالنيات الأعمال بالنية العمل بالنية وادعى النووي في تلخيصه قلتها والرابع إنما الأعمال بالنية وأورده القضاعي في الشهاب بلفظ خامس الأعمال بالنيات بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات قلت هذا أيضا موجود في بعض نسخ البخاري وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني لا يصح إسنادها وأقره النووي على ذلك في تلخيصه وغيره وهو غريب منهما وهي رواية صحيحة
    ...........
    (ج1/ ص 21)
    أراد بهذا إخلاص القصد وتصحيح النية وأشار به إلى أنه قصد بتأليفه الصحيح وجه الله تعالى وقد حصل له ذلك حيث أعطى هذا الكتاب من الحظ ما لم يعط غيره من كتب الإسلام وقبله أهل المشرق والمغرب وقال ابن مهدي الحافظ من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث وقال لو صنفت كتابا لبدأت في كل باب منه بهذا الحديث وقال أبو بكر بن داسة سمعت أبا داود يقول كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث في الأحكام فأما أحاديث الزهد والفضائل فلم أخرجها ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث الأعمال بالنيات والحلال بين والحرام بين ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه وقال القاضي عياض ذكر الأئمة أن هذا الحديث ثلث الإسلام وقيل ربعه وقيل أصول الدين ثلاثة أحاديث وقيل أربعة. قال الشافعي وغيره يدخل فيه سبعون بابا من الفقه وقال النووي لم يرد الشافعي رحمه الله تعالى انحصار أبوابه في هذا العدد فإنها أكثر من ذلك وقد نظم طاهر بن مفوز الأحاديث الأربعة
    (عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البرية)
    (اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنية)
    ............
    (ج1/ ص 22)
    دأ البخاري كتابه به لما ذكرنا من المعنى ختمه بحديث التسبيح لأن به تتعطر المجالس وهو كفارة لما قد يقع من الجالس فإن قيل لم اختار من هذا الحديث مختصره ولم يذكر مطوله ههنا قلت لما كان قصده التنبيه على أنه قصد به وجه الله تعالى وأنه سيجزى بحسب نيته ابتدأ بالمختصر الذي فيه إشارة إلى أن الشخص يجزى بقدر نيته فإن كانت نيته وجه الله تعالى يجزى بالثواب والخير في الدارين وإن كانت نيته وجها من وجوه الدنيا فليس له حظ من الثواب ولا من خير الدنيا والآخرة وقال بعض الشارحين سئلت عن السر في ابتداء البخاري بهذا الحديث مختصرا ولم لا ذكره مطولا كما ذكر في غيره من الأبواب فأجبته في الحال بأن عمر قاله على المنبر وخطب به فأراد التأسي به قلت قد ذكره البخاري أيضا مطولا في ترك الحيل وفيه أنه خطب به كما سيأتي فإذن لم يقع كلامه جوابا فإن قلت لم قدم رواية الحميدي على غيره من مشايخه الذين روى عنهم هذا الحديث قلت هذا السؤال ساقط لأنه لو قدم رواية غيره لكان يقال لم قدم هذا على غيره ويمكن أن يقال أن ذاك لأجل كون رواية الحميدي أخصر من رواية غيره وفيه الكفاية على دلالة مقصوده وقال بعضهم قدم الرواية عن الحميدي لأنه قرشي مكي إشارة إلى العمل بقوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا ولا تقدموها وإشعارا بأفضلية مكة على غيرها من البلاد ولأن ابتداء الوحي كان منها فناسب بالرواية عن أهلها في أول بدء الوحي ومن ثمة ثنى بالرواية عن مالك لأنه فقيه الحجاز ولأن المدينة تلو مكة في الفضل وقد بينتها في نزول الوحي قلت ليس البخاري ههنا في صدد بيان فضيلة قريش ولا في بيان فضيلة مكة حتى يبتدىء برواية شخص قرشي مكي ولئن سلمنا فما وجه تخصيص الحميدي من بين الرواة القرشيين المكيين وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا إنما هو في الإمامة الكبرى ليس إل
    ................
    (ج1/ ص 22)
    قال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا وقال النووي النية القصد وهو عزيمة القلب وقال الكرماني ليس هو عزيمة القلب لما قال المتكلمون القصد إلى الفعل هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد والعزم قد يتقدم عليه ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد ففرقوا بينهما من جهتين فلا يصح تفسيره به قلت العزم هو إرادة الفعل والقطع عليه والمراد من النية ههنا هذا المعنى فلذلك فسر النووي القصد الذي هو النية بالعزم فافهم على أن الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي قد جعل في أربعينه النية والإرادة والقصد والعزم بمعنى ثم قال وكذا أزمعت على الشيء وعمدت إليه وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا تطلق عليه غيرها قوله امرىء الامرىء الرجل وفيه لغتان امرىء كزبرج ومرء كفلس ولا جمع له من لفظه وهو من الغرائب..
    ...................
    (ج1/ ص 27)
    من آدابه صلى الله عليه وسلم في تعظيم اسم الله عز وجل أن لا يجمع مع ضمير غيره كما قال للخطيب بئس خطيب القوم أنت حين قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وبين له وجه الإنكار فقال له قل {ومن يعص الله ورسوله} فإن قيل فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الضمير وذلك فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد الحديث وفيه ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا قلت إنما كان إنكاره صلى الله عليه وسلم على الخطيب لأنه لم يكن عنده من المعرفة بتعظيم الله عز وجل ما كان عليه السلام يعلمه من عظمته وجلاله ولا كان له وقوف على دقائق الكلام فلذلك منعه والله أعلم
    ...............
    (ج1/ ص 28)
    ماله ابن بطال عن ابن سراج أنه إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث لأن العرب كانت في الجاهلية لا تزوج المولى العربية ولا يزوجون بناتهم إلا من الأكفاء في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحهم وصار كل واحد من المسلمين كفؤا لصاحبه فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس الرابع أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه لما أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله تعالى بقوله {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم} الآية ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله {إلا المستضعفين من الرجال} الآية وهاجر المخلصون إليه فمدحهم في غير ما موضع من كتابه وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية المخلصين. منهم من كانت نيته تزوج امرأة كانت بالمدينة من المهاجرين يقال لها أم قيس وادعى ابن دحية أن اسمها قيلة فسمى مهاجر أم قيس ولا يعرف اسمه فكان قصده بالهجرة من مكة إلى المدينة نية التزوج بها لا لقصد فضيلة الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبين مراتب الأعمال بالنيات فلهذا خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية لأجل تبين السبب لأنها كانت أعظم أسباب فتنة الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وذكر الدنيا معها من باب زيادة النص على السبب كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر زاد حل ميتته ويحتمل أن يكون هاجر لمالها مع نكاحها ويحتمل أنه هاجر لنكاحها وغيره لتحصيل دنيا من جهة ما
    ...................
    (ج1/ ص 28)
    مشتهر بينهم أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد رجاله ثقات عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس فإن قيل ذكر أبو عمر في الاستيعاب في ترجمة أم سليم أن أبا طلحة الأنصاري خطبها مشركا فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه وهكذا روى النسائي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام إذ أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت إني قد أسلمت فإن أسلمت نكحتك فأسلم فكان الإسلام صداق ما بينهما بوب عليه النسائي التزويج على الإسلام. وروى النسائي أيضا من حديثه قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذاك مهري ولا أسألك
    أسلم فكان ذلك مهرها قال ثابت فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم الإسلام فدخل بها الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكور مع كون الإسلام أشرف الأعمال وأجيب عنه من وجوه الأول أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضا لحديث الهجرة وإنما امتنعت من تزويجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام لا ليتزوجها وكان أبو طلحة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به أنه إنما أسلم ليتزوج أم سليم الثاني أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيها فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدين لم يضر معه كونه يعلم أنه يحل له بذلك نكاح المسلمات
    ...............
    1/ ص 29)
    مفق الخطابي بين هذه الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة قال فالمنقطعة منها هي الفرض والباقية منها هي الندب على أن حديث معاوية فيه مقال وقال ابن الأثير الهجرة هجرتان إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه فلما فتحت مكة انقطعت هذه الهجرة والثانية من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة وهو المراد بقوله لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة قلت وفي الحديث الآخر ما يدل على أن المراد بالهجرة الباقية هي هجر السيئات وهو ما رواه أحمد في مسنده من حديث معاوية
    ........................
    (ج1/ص 29)
    جماهير الأصوليين على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد على أن المنقول الصحيح عن الشافعي عدم جواز نسخ الكتاب بالسنة قولا واحدا وهو مذهب أهل الحديث أيضا وله في نسخ السنة بالكتاب قولان الأظهر من مذهبه أنه لا يجوز والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق كذا ذكره السمعاني من أصحاب الشافعي في القواطع ثم نقول أن الحديث عام مخصوص فإن أداء الدين ورد الودائع والأذان والتلاوة والأذكار وهداية الطريق وإماطة الأذى عبادات كلها تصح بلا نية إجماعا فتضعف دلالته حينئذ ويخفى عدم اعتبارها أيضا في الوضوء وقد قال بعض الشارحين دعوى الصحة في هذه الأشياء بلا نية إجماعا ممنوعة حتى يثبت الإجماع ولن يقدر عليه ثم نقول النية تلازم هذه الأعمال فإن مؤدي الدين يقصد براءة الذمة وذلك عبادة وكذلك الوديعة وأخواتها فإنها لا ينفك تعاطيهن عن القصد وذلك نية قلت هذا كله صادر لا عن تعقل لأن أحدا من السلف والخلف لم يشترط النية في هذه الأعمال فكيف لا يكون إجماعا
    .................
    (ج1/ ص 33)
    مهل يشترط استحضار النية أول كل عمل وإن قل وتكرر فعله مقارنا لأوله فيه مذاهب أحدها نعم وثانيها يشترط ذلك في أوله ولا يشترط إذا تكرر بل يكفيه أن ينوي أول كل عمل ولا يشترط تكرارها فيما بعد ولا مقارنتها ولا الاتصال. وثالثها يشترط المقارنة دون الاتصال. ورابعها يشترط الاتصال وهو أخص من المقارنة وهذه المذاهب راجعة إلى أن النية جزء من العبادة أو شرط لصحتها والجمهور على الأول ولا وجه للثاني. وإذا أشرك في العبادة غيرها من أمر دنيوي أو رياء فاختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن له فيه أجر وإن كان القصد الديني هو الأغلب كان له الأجر بقدره وإن تساويا تساقطا واختار الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لا أجر فيه مطلقا سواء تساوى القصدان أو اختلفا وقال المحاسبي إذا كان الباعث الديني أقوى بطل عمله وخالف في ذلك الجمهور. وقال ابن جرير الطبري إذا كان ابتداء العمل لله لم يضره ما عرض بعده في نفسه من عجب. هذا قول عامة السلف رحمهم الله
    (ج1/ ص 34)
    احتج به أبو حنيفة ومالك وأحمد في أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج أنه لا ينعقد عمرة لأنه لم ينوها فإنما له ما نواه وهو أحد أقوال الشافعي إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا ينعقد إحرامه بالحج ولكنه يكره ولم يختلف قول الشافعي أنه لا ينعقد بالحج وإنما اختلف قوله هل يتحلل بأفعال العمرة وهو قوله المتقدم أو ينعقد إحرامه عمرة وهو نصه في المختصر وهو الذي صححه الرافعي والنووي فعلى القول الأول لا تسقط عنه عمرة الإسلام وعلى القول الذي نص عليه في المختصر تسقط عنه عمرة الإسلام الثالث احتج به مالك في اكتفائه بنية واحدة في أول شهر رمضان وهو رواية عن أحمد لأن كله عبادة واحدة وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية لا بد من النية لكل يوم لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة بذاتها فلا يكتفي بنية واحدة الرابع احتج به أبو حنيفة والثوري ومالك في أن الصرورة يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه لأنه لم ينوه عن نفسه وإنما له ما نواه وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي إلى أنه لا ينعقد عن غيره ويقع ذلك عن نفسه والحديث حجة عليهم
    .................
    (ج1/ ص 35)
    ال التيمي النية أبلغ من العمل ولهذا المعنى تقبل النية بغير العمل فإذا نوى حسنة فإنه يجزى عليها ولو عمل حسنة بغير نية لم يجز بها فإن قيل فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له واحدة ومن عملها كتبت له عشرا وروي أيضا أنه قال نية المؤمن خير من عمله فالنية في الحديث الأول دون العمل وفي الثاني فوق العمل وخير منه قلنا أما الحديث الأول فلأن الهام بالحسنة إذا لم يعملها خالف العامل لأن الهام لم يعمل والعامل لم يعمل حتى هم ثم عمل وأما الثاني فلأن تخليد الله العبد في الجنة ليس لعمله وإنما هو لنيته لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو بقي أبدا فلما اخترمته منيته دون نيته جزاه الله عليها وكذا الكافر لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدا لو بقي فجزاه على نيته وقال الكرماني أقول يحتمل أن يقال أن المراد منه أن النية خير من عمل بلا نية إذ لو كان المراد خير من عمل مع النية يلزم أن يكون الشيء خيرا من نفسه مع غيره أو المراد أن الجزاء الذي هو للنية خير من الجزاء الذي هو للعمل لاستحالة دخول الرياء فيها أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله لأن النية فعل القلب وفعل الأشرف أشرف أو أن المقصود من الطاعات تنوير القلب وتنوير القلب بها أكثر لأنها صفته أو أن نية المؤمن خير من عمل الكافر لما قيل ورد ذلك حين نوى مسلم بناء قنطرة فسبق كافر إليه فإن قلت هذا حكمه في الحسنة فما حكمه في السيئة قلت المشهور أنه لا يعاقب عليها بمجرد النية واستدلوا عليها بقوله تعالى {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
    ....................
    (ج1/ ص 36)
    عبد الله بن يوسف المصري التنيسي وهو من أجل من روى الموطأ عن مالك رحمه الله تعالى سمع الأعلام مالكا والليث بن سعد ونحوهما وعنه الأعلام يحيى بن معين والذهلي وغيرهما وأكثر عنه البخاري في صحيحه وقال كان أثبت الشاميين. وروى أبو داود والنسائي والترمذي عن رجل عنه ولم يخرج له مسلم مات بمصر سنة ثمان عشرة ومائتين وقال البخاري لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين ومنه سمع البخاري الموطأ عن مالك وليس في الكتب الستة عبد الله بن يوسف سواه ونسبته إلى تنيس بكسر التاء المثناة من فوق والنون المكسورة المشددة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة بلدة بمصر ساحل البحر واليوم خراب سميت بتنيس بن حام بن نوح عليه السلام وأصله من دمشق ثم نزل بتنيس
    ...............
    (ج1/ ص 36)
    قال أصحابنا في طبقات الفقهاء وفي مناقب أبي حنيفة أن مالك بن أنس كان يسأل أبا حنيفة رضي الله عنه ويأخذ بقوله وبعضهم ذكر أنه كان ربما سمع منه متنكرا وذكروا أيضا أن أبا حنيفة سمع منه أيضا
    هو أيضا من العلماء الذين ابتلوا في دين الله. قال ابن الجوزي ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ويقال سعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه لشيء فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلع كتفه وارتكب منه أمرا عظيما توفي ليلة أربع عشرة من صفر وقيل من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أمير المدينة يومئذ ودفن بالبقيع وزرنا قبره غير مرة نسأل الله تعالى العودة ومولده في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وفيها ولد الليث بن سعد أيضا وكان حمل به في البطن ثلاث سنين وليس في الرواة مالك بن أنس غير هذا الإمام وغير مالك بن أنس الكوفي روى عنه حديث واحد عن هانىء بن حرام وقيل حرام ووهم بعضهم فأدخل حديثه في حديث الإمام نبه عليه الخطيب في كتابه المتفق والمفترق وهو أحد المذاهب الستة المبتدعة
    ...............
    (ج1/ ص 37)
    وأمرت أن تدفن ليلا بعد الوتر بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد فيه خلاف فقال بعضهم عائشة أفضل وقال آخرون خديجة أفضل وبه قال القاضي والمتولي وقطع ابن العربي المالكي وآخرون وهو الأصح وكذلك الخلاف موجود هل هي أفضل أم فاطمة والأصح أنها أفضل من فاطمة وسمعت بعض أساتذتي الكبار أن فاطمة أفضل في الدنيا وعائشة أفضل في الآخرة والله أعلم وجملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة عائشة هذه وبنت سعد وبنت حز وبنت الحارث القريشية وبنت أبي سفيان الأشهلية وبنت عبد الرحمن بن عتيك زوجة ابن رفاعة وبنت عمير الأنصارية وبنت معاوية بن المغيرة أم عبد الملك بن مروان وبنت قدامة بن مظعون وعائشة من الأوهام وإنما هي بنت عجرد وسمعت ابن عباس وليس في الصحيحين من اسمه عائشة من الصحابة سوى الصديقة وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عن خالتها عائشة أصدقها مصعب ألف ألف وكانت بديعة جدا وفي البخاري عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تروي عن أبيها وفي ابن ماجه عائشة بنت مسعود بن العجماء العدوية عن أبيها وعنها ابن أخيها محمد بن طلحة وليس في مجموع الكتب الستة غير ذلك وثم عائشة بنت سعد أخرى بصرية تروي عن الحسن
    ..............
    (ج1/ ص 38)
    أم المؤمنين قلت أخذوه من قوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم} وقرأ مجاهد وهو أب لهم وقيل أنها قراءة أبي بن كعب وهن أمهات في وجوب احترامهن وبرهن وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة وتحريم نكاح بناتهن وكذا النظر في الأصح وبه جزم الرافعي ومقابله حكاه الماوردي وهل يقال لأخوتهن أخوال المسلمين ولأخواتهن خالات المؤمنين ولبناتهن أخوات المؤمنين فيه خلاف عند العلماء والأصح المنع لعدم التوقيف ووجه مقابله أنه مقتضى ثبوت الأمومة وهو ظاهر النص لكنه مؤول قالوا ولا يقال آباؤهن وأمهاتهن أجداد المؤمنين وجداتهم وهل يقال فيهن أمهات المؤمنات فيه خلاف والأصح أنه لا يقال بناء على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال وعن عائشة رضي
    ...........
    (ج1/ ص 39)
    قال النووي ادعى مسلم إجماع العلماء على أن المعنعن وهو الذي فيه فلان عن فلان: محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس ونقل أي مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال لا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما وقال هذا قول ساقط واحتج عليه بأن المعنعن محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي قال النووي والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن البخاري وغيره وقد زاد جماعة عليه فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا وأبو المظفر السمعاني طول الصحبة بينهما
    (ج1/ ص 40)
    صوره على ما ذكره السهيلي فسبعة الأولى المنام كما جاء في الحديث الثانية أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس كما جاء فيه أيضا الثالثة أن ينفث في روعه الكلام كما مر في الحديث المذكور آنفا وقال مجاهد وغيره في قوله تعالى {أن يكلمه الله إلا وحيا} وهو أن ينفث في روعه بالوحي الرابعة أن يتمثل له الملك رجلا كما في هذا الحديث وقد كان يأتيه في صورة دحية قلت اختصاص تمثله بصورة دحية دون غيره من الصحابة لكونه أحسن أهل زمانه صورة ولهذا كان يمشي متلثما خوفا أن يفتتن به النساء الخامسة أن يتراءى له جبريل عليه السلام في صورته التي خلقها الله تعالى له بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت السادسة أن يكلمه الله تعالى من وراء حجاب إما في اليقظة كليلة الإسراء أو في النوم كما جاء في الترمذي مرفوعا أتاني ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث وحديث عائشة الآتي ذكره فجاءه الملك فقال اقرأ ظاهره أن ذلك كان يقظة وفي السيرة. فأتاني وأنا نائم ويمكن الجمع بأنه جاء أولا مناما توطئة وتيسيرا عليه وترفقا به. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مكث صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثماني سنين يوحى إليه السابعة وحي إسرافيل عليه السلام كما جاء عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل عليه السلام فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثم وكل به جبريل عليه السلام وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا بمكة وعشرا بالمدينة فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة
    ...........
    (ج1/ ص 40)
    والعامة تقول جرص بالصاد وليس في كلام العرب كلمة اجتمع فيها الصاد والجيم إلا الصمج وهو القنديل وأما الجص فمعرب قال ابن دريد اشتقاقه من الجرس أي الصوت والحس وقال ابن سيده الجرس والجرس والجرس الأخيرة عن كراع الحركة والصوت من كل ذي صوت وقيل الجرس بالفتح إذا أفرد فإذا قالوا ما سمعت له حسا ولا جرسا كسروا فاتبعوا اللفظ باللفظ قال الصغاني قال ابن السكيت الجرس والجرس الصوت ولم يفرق
    .........
    (ج1/ ص 41)
    لملك أصله ملأك تركت الهمزة لكثرة الاستعمال واشتقاقه من الألوكة وهي الرسالة يقال ألكني إليه أي أرسلني ومنه سمى الملك لأنه رسول من الله تعالى وجمعه ملائكة قال الزمخشري الملائكة جمع ملأك على وزن الأصل كالشمائل جمع
    وفي العباب الألوك والألوكة والمالكة والمالك الرسالة وإنما سميت الرسالة الألوكة لأنها تولك في الفم من قول العرب الفرس يألك اللجام ألكا أي يعلكه علكا وقال ابن عباد قد يكون الألوك الرسول وقال الصغاني والتركيب يدل على تحمل الرسالة

    ...........
    .....
    (ج1/ ص 44)
    وى عن الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك أن المراد بالروح في قوله تعالى {يوم يقوم الروح} هو جبريل عليه السلام فقال من أين علمنا أن المراد من الروح الأمين هو جبريل عليه السلام قلت بتفسير المفسرين من الصحابة والتابعين وتفسيرهم محمول على السماع لأن العقل لا مجال فيه على أن من جملة أسباب العلم الخبر المتواتر وقد تواترت الأخبار من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن الذي نزل بالقرآن على نبينا عليه السلام هو جبريل عليه السلام من غير نكير منكر ولا رد راد حتى عرف بذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وروي أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال جبريل فقال ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل وقال إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه فنزل قوله تعالى {قل من كان عدوا لجبريل} الآي
    ................
    (ج1/ ص 50)
    قال الخطابي وأكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن وهما على اختلافهما يتقاربان في المعنى إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع والهم إنما هو فيما يتوقع ولا يكون بعد
    ................
    م
    ..............
    (ج1/ ص 51)
    ذكر الخطابي أن صوابه المعدم بحذف الواو أي تعطي العائل وترفده لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال وقال الكرماني التيمي لم يصب الخطابي إذ حكم على اللفظة الصحيحة بالخطأ فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث ورواه الرواة وقال بعضهم لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له. قلت الصواب ما قاله الخطابي وكذا قال الصغاني في العباب الصواب وتكسب المعدم أي تعطي العائل وترفده نعم المعدوم له وجه على معنى غير المعنى الذي فسروه وهو أن يقال وتكسب الشيء الذي لا يوجد تكسبه لنفسك أو تملكه لغيرك وإليه أشار صاحب المطالع
    ..........
    (ج1/ ص 52)
    وقال محمد بن جرير إنما نطق إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالعبرانية حين عبر النهر فارا من النمرود وقد كان النمرود
    ال للذين أرسلهم خلفه إذا وجدتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا وذلك حين عبر النهر فسميت العبرانية لذلك وفي العباب والعبرية والعبرانية لغة اليهود والمفهوم من قوله فيكتب من الإنجيل بالعبرانية أن الإنجيل ليس بعبراني لأن الباء في قوله بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب والمعنى فيكتب باللغة العبرانية من الإنجيل وهذا من قوة تمكنه في دين النصارى ومعرفة كتابتهم كان يكتب من الإنجيل بالعبرانية إن شاء وبالعربية إن شاء وقال التيمي الكلام العبراني هو الذي أنزل به جميع الكتب كالتوراة والإنجيل ونحوهما وقال الكرماني فهم منه أن الإنجيل عبراني قلت ليس كذلك بل التوراة عبرانية والإنجيل سرياني وكان آدم عليه الصلاة والسلام يتكلم باللغة السريانية وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم غير أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حولت لغته إلى العبرانية حين عبر النهر أي الفرات كما ذكرنا وغير ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه كان يتكلم باللغة العربية فقيل لأن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعلم سائر اللغات وكتبها في الطين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام أصاب كتاب العرب وقيل تعلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام لغة العرب من جرهم حين تزوج امرأة منهم ولهذا يعدونه من العرب المستعربة لا العاربة ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كان يتكلم باللغة العربية هو صالح وقيل شعيب أيضا عليه الصلاة والسلام وقيل كان آدم عليه الصلاة والسلام يتكلم باللغة العربية فلما نزل إلى الأرض حولت لغته إلى السريانية وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما تاب الله عليه رد عليه العربية وعن سفيان أنه ما نزل وحي من السماء إلا بالعربية فكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها وعن كعب أول من نطق بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه الصلاة والسلام فألقاها نوح عليه الصلاة والسلام على لسان ابنه سام وهو أبو العرب والله أعلم فإن قلت ما أصل السريانية قلت قال ابن سلام سميت بذلك لأن الله سبحانه وتعالى حين علم آدم الأسماء علمه سرا من الملائكة وأنطقه بها

    ,,,,,,,,,,,,,
    (ج1/ ص 52)
    قال ابن ظفر في شرح المقامات صاحب سر الخير ناموس وصاحب سر الشر جاسوس وقد سوى بينهما رؤبة ابن العجاج وقال بعض الشراح وهو الصحيح وليس بصحيح بل الصحيح الفرق بينهما على ما نقل النووي في شرحه عن أهل اللغة الفرق بينهما بأن الناموس في اللغة صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر وقال الهروي الناموس صاحب سر الخير وهو هنا جبريل عليه الصلاة والسلام سمى به لخصوصه بالوحي والغيب والجاسوس صاحب سر الشر وقال الصغاني في العباب ناموس الرجل صاحب سره الذي يطلعه على باطن أمره ويخصه به ويستره عن غيره وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر والناموس أيضا الحاذق والناموس الذي يلطف مدخله قال الأصمع
    والبابوس الصبي الرضيع والراموس القبر والقاموس وسط البحر والقابوس الجميل الوجه والعاطوس دابة يتشأم بها والناموس النمام ... والجاموس ضرب من البقر وقيل أعجمي تكلمت به العرب وقيل الحاسوس بالحاء غير المعجمة قلت قال الصغاني الحاسوس بالحاء المهملة الذي يتحسس الأخبار مثل الجاسوس يعني بالجيم وقيل الحاسوس في الخير والجاسوس في الشر. وقال ابن الأعرابي الحاسوس المشؤم من الرجال ويقال سنة حاسوس وحسوس إذا كانت شديدة قليلة الخير والقابوس قيل لفظ أعجمي عربوه وأصله كاووس فأعرب فوافق العربية ولهذا لا ينصرف للعجمة والتعريف وأبو قابوس كنية النعمان بن المنذر ملك العرب والعاطوس بالعين المهملة والبابوس بالبائين الموحدتين قال ابن عباد هو الولد الصغير بالرومية

    ..........
    ..........
    (ج1/ ص 55 )
    عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بيا عم احتراما له ورفعا لمرتبته
    ...............
    (ج1/ ص 55)
    قال {إنا أنزلناه في ليلة القدر} قلت معناه أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من بيت العزة في عشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث
    موسى فلأن كتابه مشتمل على الأحكام بخلاف كتاب عيسى فإنه كان أمثالا ومواعظ ولم يكن فيه حكم وقال بعضهم لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى وكذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه قلت هذا بعيد لأن ورقة ما كان يعلم بوقوع النقمة على أبي جهل في ذلك الوقت كما كان في علمه بوقوع النقمة على فرعون على يد موسى عليه السلام حتى يذكر موسى ويترك عيسى. وقال آخرون ذكر موسى تحقيقا للرسالة لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته وقال السهيلي أن ورقة كان تنصر والنصارى لا يقولون في عيسى أنه نبي يأتيه جبريل عليه السلام وإنما يقولون أن أقنوما من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح على اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن العلم فلذلك كان المسيح في زعمهم يعلم الغيب ويخبر بما في الغد في زعمهم الكاذب فلما كان هذا مذهب النصارى عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه ولاعتقاده أن جبريل عليه السلام كان ينزل على موسى عليه السلام ثم قال لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم



  3. #223
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الـأثنين
    الموافق : 25/ رمضان / 1441 هجري
    الموافق : 18/ مايو / 2020 ميلادي
    " تابع "
    " شرح بدر الدين العيني على البخاري " في " عمدة القاري "

    (ج1/ ص 50)
    قال الخطابي العوام يخطؤن في حراء في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة
    ...........
    (ج1/ ص 56)
    التحنث لا يشترط فيه الليالي بل هو مطلق التعبد وأشار الطيبي بأن هذه الجملة مدرجة من قول الزهري لأن مثل ذلك من دأبه ويدل عليه ما رواه البخاري في التفسير من طريق يونس عن الزهري قوله ذوات العدد
    .........
    (ج1/ ص 56)
    أصل مدة الخلوة معلوم وكان شهرا وهو شهر رمضان كما رواه ابن إسحق في السيرة وإنما أبهمت عائشة رضي الله عنها العدد ههنا لاختلافه بالنسبة إلى المدة التي يتخللها مجيئه إلى أهله قوله ويتزود
    ........

    (ج1/ ص 58)

    قوله اسمع من ابن أخيك إنما أطلقت الأخوة لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال ابن أخي جدك على سبيل الإضمار وفي ذكر لفظ الأخ استعطاف أو جعلته عما لرسول الله عليه وسلم أيضا احتراما له على سبيل التجوز
    ........
    (ج1/ ص 61)
    ال الخطابي حبب العزلة إليه لأن فيها سكون القلب وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه وهي من جملة المقدمات التي أرهصت لنبوته وجعلت مبادي لظهورها
    ......
    (ج1/ ص 62)
    عبادته عليه وسلم قبل البعث هل كانت شريعة أحد أم لا فيه قولان لأهل العلم وعزى الثاني إلى الجمهور إنما كان يتعبد بما يلقى إليه من نور المعرفة واختار ابن الحاجب والبيضاوي أنه كلف التعبد بشرع واختلف القائلون بالثاني هل ينتفي ذلك عنه عقلا أم نقلا فقيل بالأول لأن في ذلك تنفيرا عنه ومن كان تابعا فبعيد منه أن يكون متبوعا وهذا خطأ منه كما قال المازري فالعقل لا يحيل ذلك وقال حذاق أهل السنة بالثاني لأنه لو فعل لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولافتخر به أهل تلك الشريعة والقائل بالأول اختلف فيه على ثمانية أقوال أحدها أنه كان يتعبد بشريعة إبراهيم الثاني بشريعة موسى الثالث بشريعة عيسى الرابع بشريعة نوح حكاه الآمدي الخامس بشريعة آدم حكي عن ابن برهان السادس أنه كان يتعبد بشريعة من قبله من غير تعيين السابع أن جميع الشرائع شرع له حكاه بعض شراح المحصول من المالكية الثامن الوقف في ذلك وهو مذهب أبي المعالي الإمام واختاره الآمدي فإن قلت قد قال الله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} قلت المراد في توحيد الله وصفاته أو المراد اتباعه في المناسك كما علم جبريل عليه السلام إبراهيم عليه السلام الخامس ما قيل ما كان صفة تعبده أجيب بأن ذلك كان بالتفكر والاعتبار كاعتبار أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام السادس ما قيل هل كلف النبي بعد النبوة بشرع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجيب بأن الأصوليين اختلفوا فيه والأكثرون على المنع واختاره الإمام والآمدي وغيرهما وقيل بل كان مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم ويعبر عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا واختاره ابن الحاجب وللشافعي فيه قولان أصحهما الأول واختاره الجمهور السابع ما قيل متى كان نزول الملك عليه أجيب بأن ابن سعد روى بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن أربعين سنة الثامن ما قيل ما الحكمة في غطه ثلاث مرات قلت ليظهر في ذلك الشدة والاجتهاد في الأمور وأن يأخذ الكتاب بقوة ويترك الأناة فإنه أمر ليس بالهوينا وكرره ثلاثا مبالغة في التثبت التاسع ما قيل ما الحكمة فيه على رواية ابن إسحاق أن الغط كان في النوم أجيب بأنه يكون في تلك الغطات الثلاث من التأويل بثلاث شدائد يبتلى بها أولا ثم يأتي الفرح والسرور الأولى ما لقيه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من شدة الجوع في الشعب حتى تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم والثانية ما لقوا من الخوف والإيعاد بالقتل والثالثة ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الإجلاء عن الوطن والهجرة من حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام العاشر ما قيل ما الخشية التي خشيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لقد خشيت على نفسي أجيب بأن العلماء اختلفوا فيها على اثنى عشر قولا الأول أنه خاف من الجنون وأن يكون ما رآه من أمر الكهانة وجاء ذلك في عدة طرق وأبطله أبو بكر بن العربي وأنه لجدير بالأبطال الثاني خاف أن يكون هاجسا وهو الخاطر بالبال وهو أن يحدث نفسه ويجد في صدره مثل الوسواس وأبطلوا هذا أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة الثالث خاف من الموت من شدة الرعب الرابع خاف أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يطيق حمل أعباء الوحي الخامس العجز عن النظر إلى الملك وخاف أن تزهق نفسه وينخلع قلبه لشدة ما لقيه عند لقائه السادس خاف من عدم الصبر على أذى قومه السابع خاف من قومه أن يقتلوه حكاه السهيلي ولا غرو أنه بشر يخشى من القتل والأذى ثم يهون عليه الصبر في ذات الله تعالى كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة الثامن خاف مفارقة الوطن بسبب ذلك التاسع ما ذهب إليه أبو بكر الإسماعيلي أنها كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله تعالى
    ..............
    (ج1/ ص 62)
    لحكمة في فتور الوحي مدة أجيب بأنه إنما كان كذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع وليحصل له التشوق إلى العود الثالث عشر ما قيل ما كان مدة الفترة أجيب بأنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين وبه جزم ابن إسحاق وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان وليس فترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهو ما بين نزول اقرأ أو يا أيها المدثر عدم مجيء جبريل عليه السلام إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط الرابع عشر ما قيل ما الحكمة في تخصيصه صلى الله عليه وسلم التعبد بحراء من بين سائر الجبال أجيب بأن حراء هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له ثبير اهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فاعذرني يا رسول الله فلعل هذا هو السر في تخصيصه به وقال أبو عبد الله بن أبي جمرة لأنه يرى بيت ربه منه وهو عبادة وكان منزويا مجموعا لتحنثه
    ..........
    (ج1/ ص 63)
    دعوى نزول جبريل عليه السلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وثبوتها في سواد المصحف لا يدل على وجوب قراءتها وما ذكره النقاش في تفسيره فقد تكلموا فيه
    .......
    (ج1/ ص 63)
    أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع الشر والمكاره فمن كثر خيره حسنت عاقبته ورجى له سلامة الدين والدنيا الثامن فيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم (احثوا في وجوه المداحين التراب) لأن هذا فيما يمدح بباطل أو يؤدي إلى باطل
    ...........
    (ج1/ ص 63)
    ديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فمن مارية ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح وقيل بخمس وقيل بأربع فأقامت معه أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ثم توفيت وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام واسم أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي وهي أول من آمن من النساء باتفاق بل أول من آمن مطلقا على قول ووقع في كتاب الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن زيد قال آدم عليه السلام مما فضل الله به ابني علي أن زوجته خديجة كانت عونا له على تبليغ أمر الله عز وجل وأن زوجتي كانت عونا لي على المعصية
    ..........
    (ج1/ ص 64 )
    قال الكرماني فإن قلت ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه قلت لا شك أنه كان مؤمنا بعيسى عليه السلام وأما الإيمان بنبينا عليه السلام فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا ولئن ثبت أنه كان منسوخا في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق وهو قد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه قلت قال ابن منده اختلف في إسلام ورقة وظاهر هذا الحديث وهو قوله فيه يا ليتني كنت فيها جذعا وما ذكر بعده من قوله يدل على إسلامه وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره قال له ورقة بن نوفل والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وروى الترمذي من حديث عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة أنه كان صدقك ولكنه مات قبل أن تظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك ثم قال هذا حديث غريب وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي وقال السهيلي في إسناده ضعف لأنه يدور على عثمان هذا ولكن يقويه قوله صلى الله عليه وسلم رأيت الفتى يعني ورقة وعليه ثياب حرير لأنه أول من آمن بي وصدقني ذكره ابن إسحق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وقال المرزباني كان ورقة من علماء قريش وشعرائهم وكان يدعى
    القس
    ..........
    (ج1/ ص 75)
    واو التحويل من إسناد إلى آخر ويعبر عنها غالبا بصورة (ح) مهملة مفردة وهكذا وقع في بعض النسخ وقال النووي وهذه الحاء كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري انتهى وعادتهم أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ذلك مسمى (ح) أي حرف الحاء فقيل أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد وأنه يقول القارىء إذا انتهى إليها حاء مقصورة ويستمر في قراءة ما بعده وفائدته أن لا يركب الإسناد الثاني مع الإسناد الأول فيجعلا إسنادا واحدا وقيل أنها من حال بين الشيئين إذا حجز لكونها حالة بين الإسنادين وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء وقيل أنها رمز إلى قوله الحديث فأهل المغرب يقولون إذا وصلوا إليها الحديث وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها (صح) فيشعر بأنها رمز صح لئلا يتوهم أنه سقط متن الإسناد الأول
    .........
    (ج1/ ص 68)
    الذي روى عن الزهري في الحديث المذكور هو عقيل والحاصل أن هلال بن رداد روى الحديث المذكور عن الزهري كما رواه عقيل بن خالد عنه وحديثه في الزهريات للذهلي وهذا أول موضع جاء فيه ذكر المتابعة والفرق بين المتابعتين أن المتابعة الأولى أقوى لأنها متابعة تامة والمتابعة الثانية أدنى من الأولى لأنها متابعة ناقصة فإذا كان أحد الراويين رفيقا للآخر من أول الإسناد إلى آخره تسمى بالمتابعة التامة وإذا كان رفيقا له لا من الأول يسمى بالمتابعة الناقصة. ثم النوعان ربما يسمى المتابع عليه فيهما وربما لا يسمى ففي المتابعة الأولى لم يسم المتابع عليه وهو الليث وفي الثانية يسمى المتابع عليه وهو الزهري فقد وقع في هذا الحديث المتابعة التامة والمتابعة الناقصة ولم يسم المتابع عليه في الأولى وسماه في الثانية على ما لا يخفى وقال النووي ومما يحتاج إليه المعتني بصحيح البخاري
    ......
    (ج1/ ص 68)
    قال يونس ومعمر بوادره مراده أن أصحاب الزهري اختلفوا في هذه اللفظة فروى عقيل عن الزهري في الحديث يرجف فؤاده كما مضى وتابعه على هذه اللفظة هلال بن رداد وخالفه يونس ومعمر فروى عن الزهري يرجف فؤاده
    ........
    (ج1/ ص 68)
    عبد الغفار بن داود بن مهران بن زياد بن داود بن ربيعة بن سليمان بن عمير البكري الحراني ولد بأفريقية سنة أربعين ومائة وخرج به أبوه وهو طفل إلى البصرة وكانت أمه من أهلها فنشأ بها وتفقه وسمع الحديث من حماد بن سلمة ثم رجع إلى مصر مع أبيه وسمع من الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهما وسمع بالشام إسماعيل بن عياش وبالجزيرة موسى بن أعين واستوطن مصر وحدث بها وكان يكره أن يقال له الحراني وإنما قيل له الحراني لأن أخويه عبد الله وعبد الرحمن ولدا بها ولم يزالا بها وحزان مدينة بالجزيرة من ديار بكر واليوم خراب سميت بحران بن آزر أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام روى عنه يحيى بن معين والبخاري وروى أبو داود عن رجل عنه وخرج له النسائي وابن ماجه ومات بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين
    .......
    (ج1/ ص 69)
    معمر بفتح الميمين وسكون العين وليس في الصحيحين معمر بن راشد غير هذا بل ليس فيهما من اسمه معمر غيره نعم في صحيح البخاري معمر بن يحيى بن سام الضبي وقيل إنه بتشديد الميم روى له البخاري حديثا واحدا في الغسل وفي الصحابة معمر ثلاثة عشر وفي الرواة معمر في الكتب الأربعة ستة وفيها معمر بالتشديد بخلف خمسة وفي غيرها خلق معمر بن بكار شيخ لمطين في حديثه وهم ومعمر بن أبي سرح مجهول ومعمر بن الحسن الهذلي مجهول وحديثه منكر ومعمر بن زائدة لا يتابع على حديثه ومعمر بن زيد مجهول ومعمر بن أبي سرح مجهول ومعمر بن عبد الله عن شعبة لا يتابع على حديثه والله أعلم
    ...........
    (ج1/ ص 70)
    سعيد بن جبير :
    إمام مجمع عليه بالجلالة والعلو في العلم والعظم في العبادة قتله الحجاج صبرا في شعبان سنة خمس وتسعين ولم يعش الحجاج بعده إلا أياما ولم يقتل أحدا بعده سمع خلقا من الصحابة منهم العبادلة غير عبد الله بن عمرو وعنه خلق من التابعين منهم الزهري وكان يقال له جهبذ العلماء
    ............
    (ج1/ ص 70)
    الفرق بين السماع والاستماع أنه لا بد في باب الافتعال من التصرف والسعي في ذلك الفعل ولهذا ورد في القرآن {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} بلفظ الاكتساب في الشر لأنه لا بد فيه من السعي بخلاف الخير فالمستمع هو المصغي القاصد للسماع وقال الكرماني عقيب هذا الكلام وقال الفقهاء تسن سجدة التلاوة للمستمع لا للسامع قلت هذا لا يمشي على مذهب الحنفية فإن قصد السماع ليس بشرط في وجوب السجدة مع أن هذا يخالف ما جاء في الحديث (السجدة على من تلاها وعلى من سمعها) قوله وانصت همزته همزة القطع قال تعالى {فاستمعوا له وأنصتوا} و
    ....
    (ج1/ ص 73)
    ومثل هذا الحديث يسمى بالمسلسل بتحريك الشفة لكن لم يتصل بسلسلة وقل في المسلسل الصحيح وقال الكرماني فإن قلت القرآن يدل على تحريك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسانه لا شفتيه فلا تطابق بين الوارد والمورود فيه. قلت التطابق حاصل لأن التحريكين متلازمان غالبا أو لأنه كان يحرك الفم المشتمل على اللسان والشفتين فيصدق كل منهما وتبعه بعض الشراح على هذا وهذا تكلف وتعسف بل إنما هو من باب الاكتفاء والتقدير في التفسير من طريق جرير فكان مما يحرك شفتيه ولسانه
    قيل ما فائدة المسلسل من الأحاديث وأجيب بأن فائدته اشتماله على زيادة الضبط واتصال السماع وعدم التدليس ومثله حديث المصافحة ونحوها
    ...........
    (ج1/ ص 73 )
    وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن وبين الجملة الباقية فهي أن جوده الذي في رمضان الذي فضل على جوده في غيره إنما كان بأمرين أحدهما بكونه في رمضان والآخر بملاقاته جبريل عليه الصلاة والسلام ومدارسته معه القرآن ولما كان ابن عباس رضي الله عنهما في صدد بيان أقسام جوده على سبيل تفضيل بعضه على بعض أشار فيه إلى بيان السبب الموجب لا على جوده وهو كونه في رمضان وملاقاته جبريل فإن قلت ما وجه كون هذين الأمرين سببا موجبا لأعلى جوده صلى الله عليه وسلم. قلت أما رمضان فإنه شهر عظيم وفيه الصوم وفيه ليلة القدر وهو من أشرف العبادات فلذلك قال الصوم لي وأنا أجزي به فلا جرم يتضاعف ثواب الصدقة والخير فيه وكذلك العبادات وعن هذا قال الزهري تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره وقد جاء في الحديث إنه يعتق فيه كل ليلة ألف ألف عتيق من النار. وأما ملاقاة جبريل عليه السلام فإن فيها زيادة ترقيه في المقامات وزيادة اطلاعه على علوم الله سبحانه وتعالى. ولا سيما عند مدارسته القرآن معه مع نزوله إليه في كل ليلة ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نزل إليه فهذا كله من الفيض الإلهي الذي فتح لي في هذا المقام الذي لم يفتح لغيري من الشراح فلله الحمد والمنة
    ..........
    (ج1/ ص 76)
    قيل ما الحكمة في مدارسته القرآن في رمضان. وأجيب بأنها كانت لتجديد العهد واليقين وقال الكرماني وفائدة درس جبريل عليه الصلاة والسلام تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بتجويد لفظه وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها وليكون سنة في هذه الأمة كتجويد التلامذة على الشيوخ قراءتهم وأما تخصيصه رمضان فلكونه موسم الخيرات لأن نعم الله تعالى على عباده فيه زائدة على غيره وقيل الحكمة في المدارسة أن الله تعالى ضمن لنبيه أن لا ينساه فأقره بها وخص بذلك رمضان لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه إلى سماء الدنيا جملة من اللوح المحفوظ ثم نزل بعد ذلك على حسب الأسباب في عشرين سنة. وقيل نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة منه. والتوراة لست والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ومنها ما قيل المفهوم منه أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان وهذا يعارضه ما روي في صحيح مسلم في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ. وأجيب بأن المحفوظ في مسلم أيضا مثل ما في البخاري ولئن سلمنا صحة الرواية المذكورة فلا تعارض لأن معناه بمعنى الأول لأن قوله حتى ينسلخ بمعنى كل ليلة
    ............
    (ج1/ ص 77)
    استحباب استكثار القراءة في رمضان ومنها استحباب مدارسة القرآن وغيره من العلوم الشرعية ومنها أنه لا بأس بأن يقال رمضان من غير ذكر شهر على الصحيح على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومنها أن القراءة أفضل من التسبيح وسائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه دائما أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما. فإن قلت المقصود تجويد الحفظ. قلت أن الحفظ كان حاصلا والزيادة فيه تحصل ببعض هذه المجالس
    ..........
    (ج1/ ص 80)
    وزعم الجواليقي أنه عجمي تكلمت به العرب وهو اسم علم له غير منصرف للعلمية والعجمة ملك إحدى وثلاثين سنة ففي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم ولقبه قيصر كما أن كل من ملك الفرس يقال له كسرى والترك يقال له خاقان والحبشة النجاشي والقبط فرعون ومصر العزيز وحمير تبع والهند دهمى والصين فغفور والزنج غانة واليونان بطلميوس واليهود قيطون أو ماتح والبربر جالوت والصابئة نمرود واليمن تبعا وفرعانة إخشيد والعرب من قبل العجم النعمان وأفريقية جرجير وخلاط شهرمان والسندفور والحزز رتبيل والنوبة كابل والصقالبة ماجدا والأرمن تقفور والأجات خدواند كار وأشروشنه أفشين وخوارزم خوارزم شاه وجرجان صول وآذربيجان أصبهيذ وطبرستان سالار وإقليم خلاط شهرمان ونيابة ملك الروم مشق وإسكندرية ملك مقوقس وهرقل أول من ضرب الدينار وأحدث
    ...........
    (ج1/ ص 81*)
    معنى الحديث الصحيح إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده قلت معناه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق قاله الشافعي في المختصر. وسبب الحديث أن قريشا كانت تأتي الشام والعراق كثيرا للتجارة في الجاهلية فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإسلام فقال صلى الله عليه وسلم لا قيصر ولا كسرى أي بعدهما في هذين الإقليمين ولا ضرر عليكم فلم يكن قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق
    .......
    (ج1/ ص 80)
    ولا يكون ومعنى قيصر التبقير والقاف على لغتهم غير صافية وذلك أن أمه لما أتاها الطلق به ماتت فبقر بطنها عنه فخرج حيا وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج واسم قيصر في لغتهم مشتق من القطع لأن أحشاء أمه قطعت حتى أخرج منها وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب
    ....
    (ج1/ ص 80)
    يل عامر الأكبر بن عوف بن بكر بن عوف بن عبد زيد اللات بن رفيدة بضم الراء وفتح الفاء بن ثور بن كلب بن وبرة بفتح الباء ابن تغلب بالغين المعجمة بن حلوان بن عمران بن الحاف بالحاء المهملة والفاء بن قضاعة بن معد بن عدنان وقيل قضاعة إنما هو ابن مالك بن حمير بن سبا كان من أجل الصحابة وجها ومن كبارهم وكان جبريل عليه الصلاة والسلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورته وذكر السهيلي عن ابن سلام في قوله تعالى {أو لهوا انفضوا إليها} قال كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله وروي أنه كان إذا قدم الشام لم تبق معصر إلا خرجت للنظر إليه قال ابن سعد أسلم قديما ولم يشهد بدرا وشهد المشاهد بعدها وبقي إلى خلافة معاوية وقال غيره شهد اليرموك وسكن المزة قرية بقرب دمشق ومزة بكسر الميم وتشديد الزاي المعجمة وليس في الصحابة من اسمه دحية سواه
    ..........
    (ج1/ ص 80)
    بو كبشة رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى العبور ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك قاله الخطابي وفي المختلف والمؤتلف للدارقطني أن اسمه وجز بن غالب من بني غبشان ثم من بني خزاعة وقال أبو الحسن الجرجاني النسابة في معنى نسبة الجاهلية إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأبي كبشة إنما ذلك عداوة له ودعوة إلى غير نسبه المعلوم المشهور وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو آمنة يكنى بأبي كبشة وكذلك عمرو بن زيد بن أسد النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة وهو خزاعي وكان وجز بن غالب بن حارث أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو أم جده لأمه يكنى أبا كبشة وهو خزاعي وكان أبوه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي يكنى بذلك أيضا وقيل أنه والد حليمة مرضعته حكاه ابن ماكولا وذكر الكلبي في كتاب الدفائن أن أبا كبشة هو حاضن النبي صلى الله عليه وسلم زوج حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم واسمه الحارث كما سلف وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ونقل ابن التين في الجهاد عن الشيخ أبي الحسن أن أبا كبشة جد ظئر النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له قيل أن في أجداده ستة يسمون أبا كبشة فأنكر ذلك
    ........ز
    (ج1/ ص 81)
    نو الأصفر وهم الروم سموا بذلك لأن حبشيا غلب على ناحيتهم في بعض الدهور فوطىء نساءهم فولدت أولادا فيهم بياض الروم وسواد الحبشة فكانوا صفرا فنسب الروم إلى الأصفر لذلك قاله ابن الأنباري وقال الحربي نسبة إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام قال القاضي عياض وهو الأشبه وعبارة القزاز قال قوم بنو الأصفر من الروم وهم ملوكهم ولذلك قال علي بن زيد
    (وبنو الأصفر الكرام ملوك الر روم ... لم يبق منهم مذكور)
    قال ويقال إنما سموا بذلك لأن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام كان رجلا أحمر أشعر الجلد كان عليه خواتيم من شعر وهو أبو الروم وكان الروم رجلا أصفر في بياض شديد الصفرة فمن أجل ذلك سموا به وتزوج عيصو بنت عمه إسماعيل بن إسحاق عليهما السلام فولدت له الروم بن عيصو وخمسة أخرى فكل من في الروم فهو من نسل هؤلاء الرهط وفي المغيث تزوج الروم بن عيصو إلى الأصفر ملك الحبشة فاجتمع في ولده بياض الروم وسواد الحبشة فأعطوا جمالا وسموا ببني الأصفر وفي تاريخ دمشق لابن عساكر تزوج بها طيل الرومي إلى النوبة فولد له الأصفر وفي التيجان لابن هشام إنما قيل لعيصو بن إسحاق الأصفر لأن جدته سارة حلته بالذهب فقيل له ذلك لصفرة الذهب قال وقال بعض الرواة أنه كان أصفر أي أسمر إلى صفرة وذلك موجود في ذريته إلى اليوم فإنهم سمر كحل الأعين
    .....
    (ج1/ ص 81)
    قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عامر دون سائر ولد كنانة وهم مالك وملكان ومويلك وغزوان وعمر وعامر أخوة النضر لأبيه وأمه وأمهم مرة بنت مر أخت تميم بن مر وهذا قول الشعبي وابن هشام وأبي عبيدة ومعمر بن المثنى وهو الذي ذكره الجوهري ورجحه السمعاني وغيره قال النووي وهو قول الجمهور وقال الرافعي قال الأستاذ أبو منصور هو قول أكثر النسابين وبه قال الشافعي وأصحابه وهو أصح ما قيل وقيل أن قريشا بنو فهر بن مالك وفهر جماع قريش ولا يقال لمن فوقه قرشي وإنما يقال له كناني رجحه الزبيدي بن بكار وحكاه عن عمه مصعب بن عبد الله قال وهو قول من أدركت من نساب قريش ونحن أعلم بأمورنا وأنسابنا وذكر الرافعي وجهين غريبين قال ومنهم من قال هم ولد الياس بن مضر ومنهم من قال هم ولد مضر بن نزار وفي العباب قريش قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر وكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون ولد كنانة ومن فوقه وقال قوم سميت قريش بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر وكان صاحب عيرهم فكانوا يقولون قدمت عير قريش وخرجت عير قريش قال الصغاني ذكر إبراهيم الحربي في غريب الحديث من تأليفه في تسمية قريش قريشا سبعة أقوال وبسط الكلام وأنا أجمع ذلك مختصرا فقال سأل عبد الملك أباه عن ذلك فقال لتجمعهم إلى الحرم والثاني أنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها والثالث أنه جاء النضر بن كنانة في ثوب له يعني اجتمع في ثوبه فقالوا قد تقرش في ثوبه والرابع قالوا جاء إلى قومه فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد والخامس أن ابن عباس سأله عمرو بن العاص رضي الله عنهم لم سميت قريشا قال بدابة في البحر تسمى قريشا.
    والسادس قال عبد الملك بن مروان سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي لم يسم قرشي قبله. والسابع قال معروف بن خربوذ سميت قريشا لأنهم كانوا يفتشون الحاج عن خلتهم فيسدونها انتهى
    ........
    (ج1/ ص 81
    قال الرشاطي الشام جمع شامة سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها ببعض فشبهت بالشامات وقيل سميت بسام بن نوح عليه السلام وذلك لأنه أول من نزلها فجعلت السين شينا وقال أبو عبيد لم يدخلها سام قط وقال أبو بكر بن الأنباري يجوز أن يكون مأخوذا من اليد الشومى وهي اليسرى لكونها من يسار الكعبة وحد الشام طولا من العريش إلى الفرات وقيل إلى بالس وقال أبو حيان في صحيحه أول الشام بالس وآخره العريش وأما حده عرضا فمن جبل طي من نحو القبلة إلى بحر الروم وما يسامت ذلك من البلاد وقال ابن حوقل أما طول الشام فخمس وعشرون مرحلة من ملطية إلى رفح. وأما عرضه فأعرض ما فيه طرفاه فأحد طرفيه من الفرات من جسر منبح على منبح ثم على قورص في حد قسرين ثم على العواصم في حد أنطاكية ثم مقطع جبل اللكام ثم على المصيصة ثم على أذنه ثم على طرسوس وذلك نحو عشر مراحل وهذا هو السمت المستقيم. وأما الطرف الآخر فهو من حد فلسطين فيأخذ من البحر من حد يافا حتى ينتهي إلى الرملة ثم إلى بيت المقدس ثم إلى أريحا ثم إلى زعز ثم إلى جبل الشراه إلى أن ينتهي إلى معان ومقدار هذا ست مراحل فأما ما بين هذين الطرفين من الشام فلا يكاد يزيد عرضه موضعا من الأردن ودمشق وحمص على أكثر من ثلاثة أيام وقال الملك المؤيد وقد عد ابن حوقل ملطية من جملة بلاد الشام وابن خرداذية جعلها من الثغور الجزيرية والصحيح أنها من الروم ودخله النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها ودخله أيضا عشرة آلاف صحابي قاله ابن عساكر في تاريخه وقال الكرماني دخله نبينا صلى الله عليه وسلم مرتين قبل النبوة مرة مع عمه أبي طالب وهو ابن ثنتي عشرة سنة حتى بلغ بصرى وهو حين لقيه الراهب والتمس الرد إلى مكة
    .......
    (ج1/ ص 83)
    وقال الجوهري والنسبة إلى المدينة النبوية مدني وإلى مدينة المنصور مديني وإلى مداين كسرى مدايني للفرق بين النسب لئلا تختلط. قلت ما ذكره محمول على الغالب وإلا فقد جاء فيه خلاف ذلك كما يجيء في أثناء الكتاب إن شاء الله
    ........
    (ج1/ ص 84)
    كانت حمص في قديم الزمان أشهر من دمشق وقال الثعلبي دخلها تسعمائة رجل من الصحابة افتتحها أبو عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة قال الجواليقي وليست عربية تذكر وتؤنث قال البكري ولا يجوز فيها الصرف كما يجوز في هند لأنه اسم أعجمي وقال ابن التين يجوز الصرف وعدمه لقلة حروفه وسكون وسطه قلت إذا أنثته تمنعه من الصرف لأن فيه حينئذ ثلاث علل التأنيث والعجمة والعلمية
    .........
    (ج1/ ص 83)
    (في قباب حول دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا)
    وفي المغيث لأبي موسى الدسكرة بناء على صورة القصر فيها منازل وبيوت للخدم والحشم وفي الجامع الدسكرة تكون للملوك تتنزه فيها والجمع الدساكرة وقيل الدساكر بيوت الشراب وفي الكامل للمبرد قال أبو عبيدة هذا الشعر مختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم إلى يزيد بن معاوية وقال علي بن سليمان الأخفش الذي صح أنه ليزيد وزعم ابن السيد في كتابه المعروف بالغرر شرح كامل المبرد أنه لأبي دهبل الجمحي وقال الحافظ مغلطاي بعد أن نقل أن البيت المذكور للأخطل وفيه نظر من حيث أن هذا البيت ليس للأخطل وذلك أني نظرت عدة روايات من شعره ليعقوب وأبي عبيدة والأصمعي والسكري والحسن بن المظفر النيسابوري فلم أر فيها هذا البيت ولا شيئا على رويه قلت قائله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان من قصيدة يتغزل بها في نصرانية كانت قد ترهبت في دير خراب عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم المنطور وأولها
    (آب هذا الليل فاكتنعا ... وأمر النوم فامتنعا)
    (راعيا للنجم ارقبه ... فإذا ما كوكب طلعا)
    ..........
    (ج1/ ص 85)
    ال الكرماني قد ذكر البخاري حديث هرقل في كتابه في عشرة مواضع قلت ذكره في أربعة عشر موضعا الأول ههنا كما ترى الثاني في الجهاد عن إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد عن صالح الثالث في التفسير عن إبراهيم بن موسى عن هشام الرابع فيه أيضا عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق قالا حدثنا معمر كلهم عن الزهري به الخامس في الشهادات عن إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد عن صالح عن الزهري مختصرا سألتك هل يزيدون أو ينقصون السادس في الجزية عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن الزهري مختصرا السابع في الأدب عن أبي بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري مختصرا أيضا الثامن فيه أيضا عن محمد بن مقاتل عن عبد الله عن يونس عن الزهري مختصرا التاسع في الإيمان العاشر في العلم الحادي عشر في الأحكام الثاني عشر في المغازي الثالث عشر في خبر الواحد الرابع عشر في الاستئذان
    ......
    (ج1/ ص 85)
    قط
    ط فيها لغتان أشهرهما فتح القاف وتشديد الطاء المضمومة قال الجوهري معناها الزمان يقال ما رأيته قط قال ومنهم من يقول قط بضمتين وقط بتخفيف الطاء وفتح القاف وضمها مع التخفيف وهي قليلة
    ........

    (ج1/ 89)
    ملك الختان ضبط على وجهين أحدهما بفتح الميم وكسر اللام وهو رواية الكشميهني والآخر ضم الميم وإسكان اللام وكلاهما صحيح
    ......
    (ج1/ ص 90)
    وله تعالى {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} أي فضرب فانفجرت فإن قلت ما معنى فاء الفصيحة قلت سميت بها لأنها يستدل بها على فصاحة المتكلم وهذا إنما سموها بها على رأي الزمخشري وهي تدل على محذوف هو سبب لما بعدها سواء كان شرطا أو معطوفا وقال الزمخشري في قوله تعالى {فانفجرت} الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله تعالى {فتاب عليكم} وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام فصيح
    ........
    (ج1/ ص 93 )
    كان ابن الناطور الواو فيه عاطفة لما قبلها داخلة في سند الزهري والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله إلى آخره ثم قال الزهري وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما توهمه بعضهم وهذا موضع يحتاج فيه إلى التنبيه على هذا وعلى أن قصة ابن الناطور غير مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه وإنما هي عن الزهري وقد بين ذلك أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان
    ..........

  4. #224
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : السبت
    الموافق : 7/ شوال / 1441 هجري
    الموافق : 5/ مايو / 2020 ميلادي
    " تكلمة "
    وبه نستعين .

    ..........
    كتاب الإيمان "
    ( ج1/ ص 103)
    دم كتاب الإيمان لأنه ملاك الأمر كله إذ الباقي مبني عليه مشروط به وبه النجاة في الدارين ثم أعقبه بكتاب العلم لأن مدار الكتب التي تأتي بعده كلها عليه وبه تعلم وتميز وتفصل وإنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها وكيف لا وهو مبدأ كل خير علما وعملا ومنشأ كل كمال دقا وجلا فإن قلت فلم قدم باب الوحي قلت قد ذكرت لك أن باب الوحي كالمقدمة في أول الجامع ومن شأنها أن تكون أمام المقصود وأيضا فالإيمان وجميع ما يتعلق به يتوقف عليه وشأن الموقوف عليه التقديم أو لأن الوحي أول خبر نزل من السماء إلى هذه الأمة ثم ذكر بعد ذلك كتاب الصلاة لأنها تالية الإيمان وثانيته في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس الحديث ولأنها عماد الدين والحاجة إليها ماسة لتكررها كل يوم خمس مرات ثم أعقبها بالزكاة لأنها ثالثة الإيمان وثانية الصلاة فيهما ولاعتناء الشارع بها لذكرها أكثر من الصوم والحج في الكتاب والسنة ثم أعقبها بالحج لأن العبادة إما بدنية محضة أو مالية محضة أو مركبة منهما فرتبها على هذا الترتيب والمفرد مقدم على المركب طبعا فقدمه أيضا وضعا ليوافق الوضع الطبع وأما تقديم الصلاة على الزكاة فلما ذكرنا ولأن الحج ورد فيه تغليظات عظيمة بخلاف الصوم ولعدم سقوطه بالبدل لوجوب الإتيان به إما مباشرة أو استنابة بخلاف الصوم ثم أعقب الحج بالصوم
    ........
    (ج1/ ص 102)
    والقول الثاني أن الإيمان معرفة الله تعالى وحده بالقلب والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان وهذا بعيد من الصواب لمخالفة ظاهر الحديث والصواب ما حكاه
    الكعبي عن جهم أن الإيمان معرفة الله تعالى مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم والفرقة الثانية قالوا أن الإيمان عمل باللسان فقد وهم أيضا فريقان الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ولكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا لأنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي الثاني أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة
    ...........
    (ج1/ ص 103)
    الفرقة الثالثة قالوا أن الإيمان عمل القلب واللسان معا أي في الإيمان الاستدلالي دون الذي بين العبد وبين ربه وقد اختلف هؤلاء على أقوال الأول أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء وبعض المتكلمين الثاني أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا وهو قول بشر المريسي وأبي الحسن الأشعري الثالث أن الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب فإن قلت ما حقيقة المعرفة بالقلب على قول أبي حنيفة رضي الله عنه قلت فسروها بشيئين الأول بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهو الأكثر والأصح ولهذا حكموا بصحة إيمان المقلد الثاني بالعلم الصادر عن الدليل وهو الأقل فلذلك زعموا أن إيمان المقلد غير صحيح ثم اعلم أن لهؤلاء الفرقة اختلافا في موضع آخر أيضا وهو أن الإقرار باللسان هل هو ركن الإيمان أم شرط له في حق إجراء الأحكام قال بعضهم هو شرط لذلك حتى أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من عند الله تعالى فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه وقال حافظ الدين النسفي هو المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه وإليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين وهو قول أبي منصور الماتريدي وقال بعضهم هو ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق بل هو ركن زائد ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز وقال فخر الإسلام أن كونه ركنا زائدا مذهب الفقهاء وكونه شرطا لإجراء الأحكام مذهب المتكلمين
    ..........
    (ج1/ ص 103)
    الفرقة الرابعة قالوا أن الإيمان فعل القلب واللسان مع سائر الجوارح وهم أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وقال الإمام وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن أصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر والفرع لا يحصل دون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعيد القول الثاني أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها وهي بجملتها إيمان واحد وأن من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه القول الثالث أن الإيمان اسم للفرائض دون النوافل وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدى بالباء فالمراد به في الشرع التصديق يقال آمن بالله أي صدق فإن الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية لا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى أو صام بل يقال آمن لله كما يقال صلى لله فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريق اللغة وأما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من معنى التصديق إلى معنى آخر ثم اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال والأفعال وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار والثاني أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم والثالث أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظام ومن أصحابه من قال شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر وأما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا ويتناول طاعة الله تعالى في جميع ما أمر به ونهى صغيرا كان أو كبيرا قالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج ويقرب من مذهبهما ما ذهب إليه السلف وأهل الأثر أن الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان إلا أن بين هذه المذاهب فرقا وهو أن من ترك شيئا من الطاعات سواء أكان من الأفعال أو الأقوال خرج من الإيمان عند
    المعتزلة ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم وعند السلف لم يخرج من الإيمان وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل فالمخل بالأول وحده منافق وبالثاني وحده كافر وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة قال الإمام هذا في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة قلت قد أجيب عن هذا الإشكال بأن الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان الحديث وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس والإيمان بهذا المعنى هو المراد بالإيمان المنفي في قوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث
    ........
    (ج1/ ص 104)
    الخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أي المعنيين منقول شرعي وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإن الإيمان المنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فالحاصل أن السلف والشافعي إنما جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده وإن فات الثاني فبهذا يندفع الإشكال فإن قلت ما ماهية التصديق بالقلب قلت قال الإمام قولا حاصله أن المراد من التصديق الحكم الذهني بيان ذلك أن من قال أن العالم محدث ليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث بل حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو الانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص به واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات
    .........
    (ج1/ ص 104 )
    المعتزلة ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم وعند السلف لم يخرج من الإيمان وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال
    ..........
    (ج1/ ص 105)
    الإيمان الذي يجري بين العبد وبين ربه فإنه يتحقق بدون الإقرار فيمن عرف الله تعالى وسائر ما يجب الإيمان به بالدليل واعتقد ثبوتها ومات قبل أن يجد من الوقت قدر ما يتلفظ بكلمتي الشهادة أو وجده لكنه لم يتلفظ بهما فإنه يحكم بأنه مؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وهذا قلبه مملوء من الإيمان فكيف لا يكون مؤمنا فإن قيل يلزم من هذا أن لا يكون الإقرار باللسان معتبرا في الإيمان وهو خلاف الإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه معتبر وإنما الخلاف في كونه ركنا أو شرطا قلت منع الغزالي هذا الإجماع وحكم بكونه مؤمنا وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ومن كلامه يفهم جواز ترك الإقرار حالة الاختيار أيضا في الجملة وهو بمعنى ثان لكونه ركنا زائدا الثاني أنه يدل على أن أعمال سائر الجوارح غير داخلة فيه لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان
    ....
    (ج1/ ص 106)
    ال أهل السنة من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة والصلاة والزكاة والصوم والحج تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال لا آمن ورود شبهة يفسدها فهو كافر وإن لم يعتقد جواز ذلك بل جزم على ذلك الاعتقاد فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال أنه مؤمن وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة قواعد الدين كسائر فساق المسلمين وهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه بقدر ذنبه وعاقبة أمره الجنة لا محالة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والأوزاعي والثوري وأهل الظاهر وعبد الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد وعبد العزيز بن يحيى المكي وأكثر المتكلمين وقال عامة المعتزلة أنه ليس بمؤمن ولا كافر وقال أبو هاشم أنه كافر فعندهم إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب الإيمان به من أصول الدين بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحل جميع ما يورد عليه من الشبه حتى إذا عجز عن شيء
    من ذلك لم يحكم بإسلامه وقال الأشعري وقوم من المتكلمين لا يستحق أن يطلق عليه اسم الإيمان إلا بعد أن يعرف كل مسألة من مسائل أصول الدين بدليل عقلي غير أن الشرط أن يعرف ذلك بقلبه سواء أحسن العبارة عنه أو لا يعني لا يشترط أن يقدر على التعبير عن الدليل بلسانه ويبينه مرتبا موجها
    ........
    (ج1/ ص 107)
    أن الإيمان هل يزيد وينقص وهو أيضا من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان فقال بعض من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق أن حقيقة التصديق شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان وقال آخرون أنه لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لا يبقى إيمانا ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} ونحوها من الآيات وقال الداودي سئل مالك عن نقص الإيمان وقال قد ذكر الله تعالى زيادته في القرآن وتوقف عن نقصه وقال لو نقص لذهب كله وقال ابن بطال مذهب جماعة من أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والحجة على ذلك ما أورده البخاري قال فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص وذكر الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعمار وأبو هريرة وحذيفة وسلمان وعبد الله بن رواحة وأبو أمامة وجندب بن عبد الله وعمير بن حبيب وعائشة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين كعب الأحبار وعروة وعطاء وطاوس ومجاهد وابن أبي مليكة وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والحسن ويحيى بن أبي كثير والزهري وقتادة وأيوب ويونس وابن عون وسليمان التيمي وإبراهيم النخعي وأبو البحتري وعبد الكريم الجريري وزيد بن الحارث والأعمش ومنصور والحكم وحمزة الزيات وهشام بن حسان ومعقل بن عبيد الله الجريري ثم محمد بن أبي ليلى والحسن بن صالح ومالك بن مغول ومفضل بن مهلهل
    .......
    (ج1/ ص 108 )
    وذكر أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر في كتاب الإيمان ذلك عن خلق قال وأما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان فخشيه أن يتناول عليه موافقة الخوارج وقال رسته ما ذاكرت أحدا من أصحابنا من أهل العلم مثل علي بن المديني وسليمان يعني ابن حرب والحميدي وغيرهم إلا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وكذا روى عن عمير بن حبيب وكان من أصحاب الشجرة وحكاه اللالكائي في كتاب السنن عن وكيع وسعيد بن عبد العزيز وشريك وأبي بكر بن أبي عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة والحمادين وأبي ثور والشافعي وأحمد بن حنبل وقال الإمام هذا البحث لفظي لأن المراد بالإيمان إن كان هو التصديق فلا يقبلهما وإن كان الطاعات فيقبلهما ثم قال الطاعات مكملة للتصديق فكل ما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو مقرون بالعمل وقال بعض المتأخرين الحق أن الإيمان يقبلهما سواء كان عبارة عن التصديق مع الأعمال وهو ظاهر أو بمعنى التصديق وحده لأن التصديق بالقلب هو الاعتقاد الجازم وهو قابل للقوة والضعف
    ......
    (ج1/ ص 109 )
    ن الإسلام مغاير للإيمان أو هما متحدان فنقول الإسلام في اللغة الانقياد والإذعان وفي الشريعة الانقياد لله بقبول رسوله صلى الله عليه وسلم بالتلفظ بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات والانتهاء عن المنكرات كما دل عليه جواب النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ويطلق الإسلام على دين محمد يقال دين الإسلام كما يقال دين اليهودية والنصرانية قال الله تعالى {إن الدين عند الله الإسلام} وقال صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ثم اختلف العلماء فيهما فذهب المحققون إلى أنهما متغايران وهو الصحيح وذهب بعض المحدثين والمتكلمين وجمهور المعتزلة إلى أن الإيمان هو الإسلام والإسمان مترادفان شرعا وقال الخطابي والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام ولا يطلق وذلك أن المسلم قد يكون في بعض الأحوال دون بعض والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن وقد يكون صادقا بالباطن غير منقاد في الظاهر قلت هذه إشارة إلى أن بينهما عموما وخصوصا مطلقا كما صرح به بعض الفضلاء والحق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه لأن الإيمان أيضا قد يوجد بدون الإسلام كما في شاهق الجبل إذا عرف الله بعقله وصدق بوجوده ووحدته وسائر صفاته قبل أن تبلغه دعوة نبي وكذا في الكافر إذا اعتقد جميع ما يجب الإيمان به اعتقادا جازما ومات فجأة قبل الإقرار والعمل والحاصل أن بيان النسبة بين الإيمان والإسلام بالمساواة أو بالعموم والخصوص موقوف على تفسير الإيمان فقال المتأخرون هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم بما علم مجيئه به ضرورة والحنفية التصديق والإقرار والكرامية الإقرار وبعض المعتزلة الأعمال والسلف التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فهذه أقوال خمسة الثلاثة منها بسيطة وواحد مركب ثنائي والخامس مركب ثلاثي
    ..........

    (ج1/ ص 110)
    أَن الْإِيمَان هَل هُوَ مَخْلُوق أم لَا فَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه مَخْلُوق فَمنهمْ الْحَارِث المحاسبي وجعفر بن حَرْب وَعبد الله بن كلاب وَعبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ وَذكر عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث أَنهم قَالُوا الْإِيمَان غير مَخْلُوق وَأحسن مَا قيل فِيهِ مَا رُوِيَ عَن الْفَقِيه أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي أَنه قَالَ أَن الْإِيمَان إِقْرَار وهداية فالإقرار صنع العَبْد وَهُوَ مَخْلُوق وَالْهِدَايَة صنع الرب وَهُوَ غير مَخْلُوق
    ........
    (ج1/ ص 110)
    رَان الْمَشِيئَة بِالْإِيمَان فَقَالَت طَائِفَة لَا بُد من قرانها وَحكى هَذَا عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَقَالَت طَائِفَة بجوازها وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هُوَ الْمُخْتَار وَقَول أهل التَّحْقِيق وَقَالَت طَائِفَة بِجَوَاز الْأَمريْنِ قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هُوَ حسن وَقَالَت الْحَنَفِيَّة لَا يَصح ذَلِك فَمن قَارن إيمَانه بِالْمَشِيئَةِ لم يَصح إيمَانه وَرووا مَا ذكر فِي كتاب أبي سعيد مُحَمَّد بن عَليّ بن مهْدي النقاش عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يرفعهُ من زعم أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص فقد خرج من أَمر الله وَمن قَالَ أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله فَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام نصيب وَفِيه أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ الْإِيمَان ثَابت لَيْسَ بِهِ زِيَادَة وَلَا نقص نقصانه وزيادته كفر وَمن حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يرفعهُ من زعم أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص فزيادته نقص ونقصه كفر وَفِي كل ذَلِك نظر
    ...........
    (ج1/ ص111)
    تّفق أهل السّنة من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين على مَا قَالَه النَّوَوِيّ أَن الْمُؤمن الَّذِي يحكم بِأَنَّهُ من أهل الْقبْلَة وَلَا يخلد فِي النَّار لَا يكون إِلَّا من اعْتقد بِقَلْبِه دين الْإِسْلَام اعتقادا جَازِمًا خَالِيا من الشكوك ونطق مَعَ ذَلِك بِالشَّهَادَتَي ْنِ قَالَ فَإِن اقْتصر على أَحدهمَا لم يكن من أهل الْقبْلَة أصلا بل يخلد فِي النَّار إِلَّا أَن يعجز عَن النُّطْق لخلل فِي لِسَانه أَو لعدم التَّمَكُّن مِنْهُ لمعالجة الْمنية أَو لغير ذَلِك فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مُؤمنا بالاعتقاد من غير لفظ وَإِذا نطق بهما لم يشْتَرط مَعَهُمَا أَن يَقُول وَأَنا برىء من كل دين خَالف دين الْإِسْلَام على الْأَصَح إِلَّا أَن يكون من كفار يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاص الرسَالَة بالعرب وَلَا يحكم بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يتبرأ وَمن أَصْحَابنَا من اشْترط التبرىء مُطلقًا وَهُوَ غلط لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَمِنْهُم من استحبه مُطلقًا كالاعتراف بِالْبَعْثِ أما إِذا اقْتصر الْكَافِر على قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله وَلم يَقُول مُحَمَّد رَسُول الله فَالْمَشْهُور من مَذْهَبنَا وَمذهب الْجُمْهُور أَنه لَا يكون مُسلما وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يصير مُسلما وَيُطَالب بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِن أَبى جعل مُرْتَدا وَحجَّة الْجُمْهُور الرِّوَايَة السالفة وَهِي مُقَدّمَة على هَذِه لِأَنَّهَا زِيَادَة من ثِقَة وَلَيْسَ فِيهَا نفي للشَّهَادَة الثَّانِيَة وَإِنَّمَا أَن فِيهَا تَنْبِيها على الْأُخْرَى وأعرب القَاضِي حُسَيْن فَشرط فِي ارْتِفَاع السَّيْف عَنهُ أَن يقر بأحكامها مَعَ النُّطْق بهَا فَأَما مُجَرّد قَوْلهَا فَلَا وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ وَقَالَ النَّوَوِيّ اشْترط القَاضِي أَبُو الطّيب من أَصْحَابنَا التَّرْتِيب بَين كلمتي الشَّهَادَة فِي صِحَة الْإِسْلَام فَيقدم الْإِقْرَار بِاللَّه على الْإِقْرَار بِرَسُولِهِ وَلم أر من وَافقه وَلَا من خَالفه وَذكر الْحَلِيمِيّ
    ........
    ( ج1/ ص 111)
    قَالَ أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن عمر بن يزِيد رسته حَدثنَا الْحميدِي حَدثنِي يحيى بن سليم الطَّائِفِي قَالَ سَأَلت عشرَة من الْفُقَهَاء فكلهم قَالُوا الْإِيمَان قَول وَعمل الثَّوْريّ وَهِشَام بن حسان وَابْن جريج وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عُثْمَان والمثنى بن الصَّباح وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي وَمُحَمّد بن مُسلم الطَّائِفِي وَمَالك بن أنس وفضيل بن عِيَاض وسُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ رسته وَحدثنَا بعض أَصْحَابنَا عَن عبد الرَّزَّاق قَالَ سَمِعت معمرا وَالْأَوْزَاعِي ّ يَقُولَانِ الْإِيمَان قَول وَعمل يزِيد وَينْقص قَالَ الله تَعَالَى {ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم وزدناهم هدى وَيزِيد الله الَّذِي اهتدوا هدى وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا}
    .........
    (ج1/ ص112)
    ان البخاري كثيرا مَا يسْتَدلّ لترجمة الْبَاب بِالْقُرْآنِ وَبِمَا وَقع لَهُ من سنة مُسندَة وَغَيرهَا أَو أثر من الصَّحَابَة أَو قَول للْعُلَمَاء وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن ذكر هَذِه الْآيَات مَا كَانَ يُنَاسب إِلَّا فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه فَإِن قلت الْآيَات دلّت على الزِّيَادَة فَقَط وَالْمَقْصُود بَيَان الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان كليهمَا قلت قَالَ الْكرْمَانِي كل مَا قبل الزِّيَادَة لَا بُد أَن يكون قَابلا للنقصان ضَرُورَة
    ....
    (ج1/ ص 112)
    وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن أبي فُضَيْل عَن اللَّيْث عَن عَمْرو بن مرّة عَن الْبَراء قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوثق عرى الْإِسْلَام الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله وَأخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث معَاذ بن أنس الْجُهَنِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أعْطى لله وَمنع لله وَأحب لله وَأبْغض لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان وَقَالَ هَذَا حَدِيث مُنكر وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي أُمَامَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الْإِيمَان (وَكتب عمر بن الْعَزِيز إِلَى عدي بن عدي إِن للْإيمَان فراض وَشَرَائِع وحدودا وسننا فَمن استكملها اسْتكْمل الْإِيمَان وَمن لم يستكملها لم يستكمل الْإِيمَان فَإِن أعش فسأبينها لكم حَتَّى تعملوا بهَا وَإِن أمت فَمَا أَنا على صحبتكم بحريص) الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول فِي تَرْجَمَة عمر وعدي أما عمر فَهُوَ ابْن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس الْأمَوِي الْقرشِي الإِمَام الْعَادِل أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين سمع عبد الله بن جَعْفَر وأنسا وَغَيرهمَا وَصلى أنس خَلفه قبل خِلَافَته ثمَّ قَالَ مَا رَأَيْت أحدا أشبه صَلَاة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا الْفَتى تولى الْخلَافَة سنة تسع وَتِسْعين وَمُدَّة خِلَافَته سنتَانِ وَخَمْسَة أشهر نَحْو خلَافَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَمَلَأ الأَرْض قسطا وعدلا وَأمه حَفْصَة بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ولد بِمصْر وَتُوفِّي بدير سمْعَان بحمص يَوْم الْجُمُعَة لخمس لَيَال بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة وَقَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل وَالظَّاهِر عِنْدِي أَن دير سمْعَان هُوَ الْمَعْرُوف الْآن بدير النقيرة من عمل معرة النُّعْمَان فَإِن قَبره هُوَ هَذَا الْمَشْهُور وَأوصى أَن يدْفن مَعَه شَيْء كَانَ عِنْده من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأظفاره وَقَالَ إِذا مت فَاجْعَلُوهُ فِي كفني فَفَعَلُوا ذَلِك وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل يرْوى فِي الحَدِيث أَن الله تَعَالَى يبْعَث على رَأس كل مائَة عَام من يصحح لهَذِهِ الْأمة دينهَا فَنَظَرْنَا فِي الْمِائَة الأولى فَإِذا هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ النَّوَوِيّ فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء حمله الْعلمَاء فِي الْمِائَة الأولى على عمر وَالثَّانيَِة على الشَّافِعِي وَالثَّالِثَة على ابْن شُرَيْح وَقَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَالرَّابِعَة على ابْن أبي سهل الصعلوكي وَقيل القَاضِي الباقلاني وَقيل أَبُو حَامِد الإسفرايني وَفِي الْخَامِسَة على الْغَزالِيّ انْتهى وَقَالَ الْكرْمَانِي لَا مطمح لليقين فِيهِ فللحنفية أَن يَقُولُوا هُوَ الْحسن بن زِيَاد فِي الثَّانِيَة والطَّحَاوِي فِي الثَّالِثَة وأمثالهما وللمالكية أَنه أَشهب فِي الثَّانِيَة وهلم جرا وللحنابلة أَنه الْخلال فِي الثَّالِثَة والراغوني فِي الْخَامِسَة إِلَى غير ذَلِك وللمحدثين أَنه يحيى بن معِين فِي الثَّانِيَة وَالنَّسَائِيّ فِي الثَّالِثَة وَنَحْوهمَا ولأولي الْأَمر أَنه الْمَأْمُون والمقتدر والقادر وللزهاد أَنه مَعْرُوف الْكَرْخِي فِي الثَّانِيَة والشبلي فِي الثَّالِثَة وَنَحْوهمَا وَأَن تَصْحِيح الدّين متناول لجَمِيع أَنْوَاعه مَعَ أَن لَفْظَة من تحْتَمل التَّعَدُّد فِي الْمُصَحح وَقد كَانَ قبيل كل مائَة أَيْضا من يصحح وَيقوم بِأَمْر الدّين وَإِنَّمَا المُرَاد من انْقَضتْ الْمِائَة وَهُوَ حَيّ عَالم مشار إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى حَدِيث وَاحِد رَوَاهُ فِي الاستقراض من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْفلس وَفِي الروَاة أَيْضا عمر بن عبد الْعَزِيز بن عمرَان بن مِقْلَاص روى لَهُ النَّسَائِيّ فَقَط
    ........
    (ج1/ ص 114)
    بْرَاهِيم هُوَ ابْن آزر وَهُوَ تارح بِفَتْح الرَّاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة فآزر اسْم وتارح لقب لَهُ وَقيل عَكسه قَالَ ابْن هِشَام هُوَ إِبْرَاهِيم بن تارح وَهُوَ آزر بن ناحور بن ساروح بن أرعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أَخْنُوخ بن يرد بن مهلاييل بن قابن بن فانوش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا خلاف عِنْدهم فِي عدد هَذِه الْأَسْمَاء وسردها على مَا ذكرنَا وَإِن اخْتلفُوا فِي ضَبطهَا وَإِبْرَاهِيم اسْم عبراني قَالَ الْمَاوَرْدِيّ مَعْنَاهُ أَب رَحِيم وَكَانَ آز رمن أهل حران وَولد إِبْرَاهِيم بكوثا من أَرض الْعرَاق وَكَانَ إِبْرَاهِيم يتجر فِي الْبَز وَهَاجَر من أَرض الْعرَاق إِلَى الشَّام وَبلغ عمره مائَة وخمسا وَسبعين سنة وَقيل مِائَتي سنة وَدفن بِالْأَرْضِ المقدسة وقبره مَعْرُوف بقرية حبرون بِالْحَاء الْمُهْملَة وَهِي الَّتِي تسمى الْيَوْم ببلدة الْخَلِيل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ لِيَزْدَادَ وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ البُخَارِيّ
    .............
    (ج1/ ص 115 )
    وَأخرج هَذَا الْأَثر رسته بِسَنَد صَحِيح عَن أبي زُهَيْر قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن عَلْقَمَة عَنهُ قَالَ الصَّبْر نصف الْإِيمَان وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله ثمَّ قَالَ وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان بِمثلِهِ وَأخرجه أَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَالْبَيْهَقِيّ فِي الزّهْد حَدِيثه مَرْفُوعا وَلَا يثبت رَفعه وروى أَحْمد فِي كتاب الزّهْد عَن وَكِيع عَن شريك عَن هِلَال عَن عبد الله بن حَكِيم قَالَ سَمِعت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا ويقينا وفقها
    ........
    (ج1/ ص 116)
    وَلَا يَصح قَول من قَالَ أَنه أسلم قبل أَبِيه وَهَاجَر قبله واستصغر عَن أحد وَشهد الخَنْدَق وَمَا بعْدهَا وَهُوَ أحد السِّتَّة الَّذين هم أَكثر الصَّحَابَة رِوَايَة وَأحد العبادلة الْأَرْبَعَة وثانيهم ابْن عَبَّاس وثالثهم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ورابعهم عبد الله بن الزبير وَوَقع فِي مبهمات النَّوَوِيّ وَغَيرهَا أَن الْجَوْهَرِي أثبت ابْن مَسْعُود مِنْهُم وَحذف ابْن عَمْرو وَلَيْسَ كَمَا ذكره كَمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى وَوَقع فِي شرح الرَّافِعِيّ فِي الْجِنَايَات عد ابْن مَسْعُود مِنْهُم وَحذف ابْن الزبير وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ
    ............
    (ج1/ ص 118 )
    وَقَالَ النَّوَوِيّ وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من كتب أَئِمَّة الحَدِيث الِاحْتِجَاج بِكَثِير من المبتدعة غير الدعاة إِلَى بدعتهم وَلم تزل السّلف وَالْخلف على قبُول الرِّوَايَة مِنْهُم وَالِاسْتِدْلَا ل بهَا وَالسَّمَاع مِنْهُم وأسماعهم من غير إِنْكَار
    ...........
    (ج1/ ص 121)
    الَ الدَّاودِيّ لما فتحت مَكَّة سقط فرض الْجِهَاد على من يعد من الْكفَّار وَهُوَ فرض على من يليهم وَكَانَ أَولا فرضا على الْأَعْيَان وَقيل هُوَ مَذْهَب ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَالثَّوْري وَابْن شبْرمَة إِلَّا أَن ينزل الْعَدو فيأمر الإِمَام بِالْجِهَادِ وَجَاء فِي البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي التَّفْسِير أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عمر مَا حملك على أَن تحج عَاما وتعتمر عَاما وتترك الْجِهَاد وَفِي بَعْضهَا فِي أَوله أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عمر أَلا نغزو قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بني الْإِسْلَام على خمس الحَدِيث فَهَذَا يدل على أَن ابْن عمر كَانَ لَا يرى فرضيته إِمَّا مُطلقًا كَمَا نقل عَنهُ أَو فِي ذَلِك الْوَقْت
    ....
    (ج1/ ص 122)
    وَجَاء هُنَا بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَجَاء فِي بعض طرقه على أَن يوحد الله وَفِي أُخْرَى على أَن يعبد الله وَيكفر بِمَا دونه بدل الشَّهَادَة قَالَ بَعضهم جَاءَت الأولى على نقل اللَّفْظ وَمَا عَداهَا على الْمَعْنى وَقد اخْتلف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ جَوَاز نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى من الْعَالم بمواقع الْأَلْفَاظ وتركيبها وَأما من لَا يعرف ذَلِك فَلَا خلاف فِي تَحْرِيمه عَلَيْهِ وَجَاء هَهُنَا وَالْحج وَصَوْم رَمَضَان بِتَقْدِيم الْحَج وَفِي طَرِيقين لمُسلم وَفِي بعض الطّرق بِتَقْدِيم رَمَضَان وَفِي بَعْضهَا فَقَالَ رجل الْحَج وَصِيَام رَمَضَان وَقَالَ ابْن عمر لَا صِيَام رَمَضَان وَالْحج هَكَذَا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاخْتلف النَّاس فِي الْجمع بَين الرِّوَايَات فَقَالَ الْمَازرِيّ تحمل مشاحة ابْن عمر على أَنه كَانَ لَا يرى رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَإِن أَدَّاهُ بِلَفْظ يحْتَمل أَو كَانَ يرى الْوَاو توجب التَّرْتِيب فَتجب الْمُحَافظَة على اللَّفْظ لِأَنَّهُ قد تتَعَلَّق بِهِ أَحْكَام وَقيل أَن ابْن عمر رَوَاهُ على الْأَمريْنِ وَلكنه لما رد عَلَيْهِ الرجل قَالَ لَا ترد على مَا لَا علم لَك بِهِ كَمَا رَوَاهُ فِي أَحدهمَا وَقيل يحْتَمل أَنه كَانَ نَاسِيا لِلْأُخْرَى عِنْد الْإِنْكَار وَمِنْهُم من قَالَ الصَّوَاب تَقْدِيم الصَّوْم وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى وهم لإنكار ابْن عمر وزجره عِنْد ذكرهَا واستضعف هَذَا بِأَنَّهُ يجر إِلَى توهين الرِّوَايَة الصَّحِيحَة وطر وَاحْتِمَال الْفساد عِنْد فَتحه لأَنا لَو فتحنا هَذَا الْبَاب لارتفع الوثوق بِكَثِير من الرِّوَايَات إِلَّا الْقَلِيل وَلِأَن الرِّوَايَتَيْن ِ فِي الصَّحِيح وَلَا تنَافِي بَينهمَا كَمَا تقدم من جَوَاز رِوَايَة الْأَمريْنِ قَالَ القَاضِي وَقد يكون رد ابْن عمر الرجل إِلَى تَقْدِيم رَمَضَان لِأَن وجوب صَوْم رَمَضَان نزل فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة وفريضة الْحَج فِي سنة سِتّ وَقيل تسع بِالْمُثَنَّاةِ فجَاء لفظ ابْن عمر على نسقها فِي التَّارِيخ وَالله أعلم وَقَالَ ابْن صَلَاح مُحَافظَة ابْن عمر على مَا سَمعه حجَّة لمن قَالَ بترتيب الْوَاو قلت لِلْجُمْهُورِ أَن يجيبوا عَن ذَلِك بِأَن تَقْدِيم الصَّوْم لتقدم زَمَنه كَمَا ذَكرْنَا
    ...........
    (ج1/ ص 122)
    قَالَ ابْن بطال: التَّصْدِيق أول منَازِل الْإِيمَان، والاستكمال إِنَّمَا هُوَ بِهَذِهِ الْأُمُور.
    .........
    (ج1/ ص 123)
    قَالَ الْمَازرِيّ: اخْتلف النَّاس فِيمَن عصى الله من أهل الشَّهَادَتَيْن ِ: فَقَالَت المرجئة: لَا تضر الْمعْصِيَة مَعَ الْإِيمَان،وَقَالَت الْخَوَارِج: تضره بهَا وَيكفر بهَا،وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يخلد بهَا فَاعل الْكَبِيرَة وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ مُؤمن وَلَا كَافِر،لَكِن يُوصف بِأَنَّهُ فَاسق: وَقَالَت الأشعرية: بل هُوَ مُؤمن وَأَن عذب، وَلَا بُد من دُخُوله الْجنَّة.
    ............
    (ج1/ ص 123)
    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ،رَحمَه الله: البراسم للخير، وَلكُل فعل مرضِي وَفِي (الغريبين) الْبر: الاتساع فِي الْإِحْسَان وَالزِّيَادَة مِنْهُ. وَقَالَ السّديّ: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تتفقوا} (آل عمرَان: 92) يَعْنِي: الْجنَّة وَالْبر: أَيْضا: الصِّلَة وَهُوَ اسْم جَامع للخير كُله، وَفِي (الْجَامِع) و (الْجَمْرَة) : الْبر ضد العقوق، وَفِي (مثلث) ابْن السَّيِّد: الْإِكْرَام، كَذَا نَقله عَنهُ فِي (الواعي) : وَذكر ابْن عديس عَنهُ: الْبر،بِالْكَسْرِ: الْخَيْر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الخطابُ لأهل الْكتاب، لِأَن الْيَهُود تصلي قبل الْمغرب إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَالنَّصَارَى قبل الْمشرق، وَذَلِكَ أَنهم أَكْثرُوا الْخَوْض فِي أَمر الْقبْلَة حِين تحول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْكَعْبَة، وَزعم كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ أَن الْبر التَّوَجُّه، إِلَى قبلته،
    ............
    (ج1/ ص 124)
    أَبُو هُرَيْرَة اخْتلف فِي اسْمه وَاسم أَبِيه على نَحْو ثَلَاثِينَ قولا،وأقربها: عبد الله، أَو عبد الرَّحْمَن بن صَخْر الدوسي، وَهُوَ أول من كني بِهَذِهِ الكنية لهرة كَانَ يلْعَب بهَا، كناه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك،وَقيل: وَالِده، وَكَانَ عريف أهل الصّفة، أسلم عَام خَيْبَر بالِاتِّفَاقِ وشهدها مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يخْتَلف فِي اسْم أحد فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام كالاختلاف فِيهِ،
    وَلَا فِي الْإِسْلَام كالاختلاف فِيهِ،وروى أَنه قَالَ: كَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد شمس،وَسمي فِي الْإِسْلَام: عبد الرَّحْمَن، وَاسم أمه مَيْمُونَة،وَقيل: أُميَّة،وَقد أسلمت بِدُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: نشأت يَتِيما، وَهَاجَرت مِسْكينا، وَكنت أَجِيرا لبسرة بنت غَزوَان خَادِمًا لَهَا، فزوجنيها الله تَعَالَى، فَالْحَمْد لله الَّذِي جعل الدّين قواماً، وَجعل أَبَا هُرَيْرَة إِمَامًا. قَالَ: وَكنت أرعى غنما،وَكَانَ لي هرة صَغِيرَة أَلعَب بهَا فكنوني بهَا وَقيل: رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي كمه هرة،فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، وَهُوَ أَكثر الصَّحَابَة رِوَايَة بِإِجْمَاع، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة آلَاف حَدِيث وثلثمائة وَأَرْبَعَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا على ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة وَعشْرين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثَلَاثَة وَتِسْعين، وَمُسلم بِمِائَة وَتِسْعين روى عَنهُ أَكثر من ثَمَانمِائَة رجل من صَاحب وتابع
    وَمن الروَاة عَنهُ: ابْنه الْمُحَرر، بحاء مُهْملَة ثمَّ رَاء مكررة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة تسع وَخمسين، وَقيل: ثَمَان، وَقيل: سبع، وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَسبعين سنة، وَالَّذِي يَقُوله النَّاس: إِن قَبره بِقرب عسقلان لَا أصل لَهُ فاجتنبه، نعم هُنَاكَ قبر خيسعة بن جندرة الصَّحَابِيّ؛ وَأَبُو هُرَيْرَة من الْأَفْرَاد لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اكتنى بِهَذِهِ الكنية سواهُ، وَفِي الروَاة آخر اكتنى بِهَذِهِ الكنية، يروي عَن مَكْحُول وَعنهُ أَبُو الْمليح الرقي، لَا يعرف. وَآخر اسْمه مُحَمَّد بن فرَاش الضبعِي، روى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَفِي الشَّافِعِيَّة آخر اكتنى بِهَذِهِ الكنية، واسْمه ثَابت بن شبْل، قَالَ عبد الْغفار فِي حَقه: شيخ فَاضل مناظر.


    ............
    (ج1/ ص 125 )
    وَقع هُنَا من طَرِيق أبي زيد الْمروزِي: (الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة) ، وَفِي مُسلم وَغَيره من حَدِيث سُهَيْل،عَن عبد الله بن دِينَار: (بضع وَسَبْعُونَ أَو بضع وَسِتُّونَ) ، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث الْعَقدي،عَن سُلَيْمَان: (بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة) . وَكَذَا وَقع فِي البُخَارِيّ من طَرِيق أبي ذَر الْهَرَوِيّ،وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا من رِوَايَة سُهَيْل: (بضع وَسَبْعُونَ) بِلَا شكّ، ورجحها القَاضِي عِيَاض، وَقَالَ إِنَّهَا الصَّوَاب. وَكَذَا رجحها الْحَلِيمِيّ وجماعات مِنْهُم: النَّوَوِيّ لِأَنَّهَا زِيَادَة من ثِقَة فَقبلت، وقدمت وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأَقَل مَا يمْنَعهَا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: الْأَشْبَه تَرْجِيح الْأَقَل لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن، وَالشَّكّ من سُهَيْل، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ. وَقد رُوِيَ عَن سُهَيْل عَن جرير: (وَسَبْعُونَ) من غير شكّ، وَكَذَا رِوَايَة سُلَيْمَان ابْن بِلَال فِي مُسلم وَفِي البُخَارِيّ (بضع وَسِتُّونَ) وَقَالَ ابْن الصّلاح: فِي البُخَارِيّ فِي نسخ بِلَادنَا: (إلاَّ سِتُّونَ) ،وَفِي لفظ لمُسلم: (فأفضلها قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان)
    ......
    (ج1/ ص 126)
    قد اتّفق أهل السّنة من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين على أَن الْمُؤمن الَّذِي يحكم بإيمانه، وَأَنه من أهل الْقبْلَة، وَلَا يخلد فِي النَّار، هُوَ الَّذِي يعْتَقد بِقَلْبِه دين الْإِسْلَام اعتقاداً جَازِمًا خَالِيا من الشكوك، ونطق بِالشَّهَادَتَي ْنِ، فَإِن اقْتصر على أَحدهمَا لم يكن من أهل الْقبْلَة إلاَّ إِذا عجز عَن النُّطْق، فَإِنَّهُ يكون مُؤمنا إلاّ مَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض فِي (كتاب الشِّفَاء) فِي أَن: من اعْتقد دين الْإِسْلَام بِقَلْبِه، وَلم ينْطق بِالشَّهَادَتَي ْنِ من غير عذر مَنعه من القَوْل، إِن ذَلِك نافعه فِي الدَّار الْآخِرَة، على قَول ضَعِيف. وَقد يكون فائزاً، لكنه غير الْمَشْهُور، وَالله أعلم
    ..........
    (ج1/ ص 126)
    قَالَ الإِمَام أَبُو حَاتِم بن حبَان بِكَسْر الْحَاء وَتَشْديد الْمُوَحدَة، البستي، فِي كتاب (وصف الْإِيمَان وشعبه) تتبعت معنى هَذَا الحَدِيث مُدَّة، وعددت الطَّاعَات فَإِذا هِيَ تزيد على هَذَا الْعدَد شَيْئا كثيرا، فَرَجَعت إِلَى السّنَن، فعددت كل طَاعَة عَددهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْإِيمَان، فَإِذا هِيَ تنقص على الْبضْع وَالسبْعين، فَرَجَعت إِلَى كتاب الله تَعَالَى، فعددت كل طَاعَة عدهَا الله من الْإِيمَان فَإِذا هِيَ تنقص عَن الْبضْع وَالسبْعين، فضممت إِلَى الْكتاب السّنَن، واسقطت الْعَاد، فَإِذا كل شَيْء عده الله وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام، من الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ، لَا يزِيد عَلَيْهَا وَلَا ينقص.
    فَعلمت أَن مُرَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ أَن هَذَا الْعدَد فِي الْكتاب وَالسّنة انْتهى.
    ........
    (ج1/ ص 128)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا يقْدَح عدم معرفَة ذَلِك على التَّفْصِيل فِي الْإِيمَان، إِذْ أصُول الْإِيمَان وفروعه مَعْلُومَة مُحَققَة، وَالْإِيمَان بِأَن هَذَا الْعدَد وَاجِب على الْجُمْلَة، وتفصيل تِلْكَ الْأُصُول وتعيينها على هَذَا الْعدَد يحْتَاج إِلَى تَوْقِيف. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه منحصرة فِي علم الله وَعلم رَسُوله، مَوْجُودَة فِي الشَّرِيعَة، غير أَن الشَّرْع لم يوقفنا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يضرنا فِي علمنَا بتفاصيل مَا كلفنا بِهِ، فَمَا أمرنَا بِالْعلمِ بِهِ عَملنَا، وَمَا نَهَانَا عَنهُ انتهينا، وَإِن لم نحط بحصر أعداده. وَقَالَ أَيْضا: الْإِيمَان اسْم يتشعب إِلَى أُمُور ذَوَات عدد جِمَاعهَا الطَّاعَة، وَلِهَذَا صَار من صَار من الْعلمَاء إِلَى أَن النَّاس مفاضلون فِي درج الْإِيمَان، وَإِن كَانُوا متساوين فِي اسْمه. وَكَانَ بَدْء الْإِيمَان كلمة الشَّهَادَة، وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِيَّة عمره يَدْعُو النَّاس إِلَيْهَا، وسمى من أَجَابَهُ إِلَى ذَلِك مُؤمنا إِلَى أَن نزلت الْفَرَائِض، وَبِهَذَا الِاسْم خوطبوا عِنْد إِيجَابهَا عَلَيْهِم
    ...........
    (ج1/ ص 128)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقد بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَعلَى هَذِه الشّعب وَأَدْنَاهَا، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح،من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَعْلَاهَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَدْنَاهَا أماطة الأذي عَن الطَّرِيق) فَبين أَن أَعْلَاهَا التَّوْحِيد الْمُتَعَيّن على كل مُكَلّف، وَالَّذِي لَا يَصح شَيْء غَيره من الشّعب إلاَّ بعد صِحَّته، وَأَن أدناها دفع مَا يتَوَقَّع بِهِ ضَرَر الْمُسلمين، وَبَقِي بَينهمَا تَمام الْعدَد، فَيجب علينا الْإِيمَان بِهِ وَإِن لم نَعْرِف أَعْيَان جَمِيع أَفْرَاده، كَمَا نؤمن بِالْمَلَائِكَة ِ وَإِن لم نَعْرِف أعيانهم وأسماءهم. انْتهى.
    ........
    (ج1/ ص 128)
    وَقد صنف فِي تعْيين هَذِه الشّعب جمَاعَة،مِنْهُم: الإِمَام أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ صنف فِيهَا كتابا أسماه: (فَوَائِد الْمِنْهَاج) ،والحافظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَسَماهُ: (شعب الْإِيمَان) ،وَإِسْحَاق ابْن الْقُرْطُبِيّ وَسَماهُ: (كتاب النصايح) ،وَالْإِمَام أَبُو حَاتِم وَسَماهُ: (وصف الْإِيمَان وشعبه) . وَلم أر أحدا مِنْهُم شفى العليل، وَلَا أروى الغليل. فَنَقُول مُلَخصا بعون الله تَعَالَى وتوفيقه: إِن أصل الْإِيمَان هُوَ: التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَلَكِن الْإِيمَان الْكَامِل التَّام هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار وَالْعَمَل، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقسَام. فَالْأول: يرجع إِلَى الاعتقاديات، وَهِي تتشعب إِلَى ثَلَاثِينَ شُعْبَة. الأولى: الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى، وَيدخل فِيهِ الْإِيمَان بِذَاتِهِ وَصِفَاته وتوحيده بِأَن لَيْسَ كمثله شَيْء. الثَّانِيَة: اعْتِقَاد حُدُوث مَا سوى الله تَعَالَى. الثَّالِثَة: الْإِيمَان بملائكته. الرَّابِعَة: الْإِيمَان بكتبه. الْخَامِسَة: الْإِيمَان برسله. السَّادِسَة: الْإِيمَان بِالْقدرِ خَيره وشره. السَّابِعَة: الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر، وَيدخل فِيهِ السُّؤَال بالقبر وعذابه، والبعث والنشور والحساب وَالْمِيزَان والصراط. الثَّامِنَة: الوثوق على وعد الْجنَّة وَالْخُلُود فِيهَا. التَّاسِعَة: الْيَقِين بوعيد النَّار وعذابها وَأَنَّهَا لَا تفنى. الْعَاشِرَة: محبَّة الله تَعَالَى. الْحَادِيَة عشر: الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله، وَيدخل فِيهِ حب الصَّحَابَة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَحب آل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة عشر: محبَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيدخل فِيهِ الصَّلَاة عَلَيْهِ وَاتِّبَاع سنته. الثَّالِثَة عشر: الْإِخْلَاص، وَيدخل فِيهِ ترك الرِّيَاء والنفاق. الرَّابِعَة عشر: التَّوْبَة والندم. الْخَامِسَة عشر: الْخَوْف. السَّادِسَة عشر: الرَّجَاء. السَّابِعَة عشر: ترك الْيَأْس والقنوط. الثَّامِنَة عشر: الشُّكْر. التَّاسِعَة عشر: الْوَفَاء. الْعشْرُونَ: الصَّبْر. الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ. التَّوَاضُع، وَيدخل فِيهِ توقير الأكابر. الثَّانِيَة وَالْعشْرُونَ: الرَّحْمَة والشفقة، وَيدخل فِيهِ الشَّفَقَة على الأصاغر. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: الرضاء بِالْقضَاءِ. الرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ: التَّوَكُّل. الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ: ترك الْعجب والزهو، وَيدخل فِيهِ ترك مدح نَفسه وتزكيتها. السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ: ترك الْحَسَد. السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ: ترك الحقد
    .........
    (ج1/ ص 129)
    مِنْهَا مَا قيل: لم جعل الْحيَاء من الْإِيمَان؟وَأجِيب: بِأَنَّهُ باعث على أَفعَال الْخَيْر، ومانع عَن الْمعاصِي، وَلكنه رُبمَا يكون تخلقا واكتساباً كَسَائِر أَعمال الْبر، وَرُبمَا يكون غريزة، لَكِن اسْتِعْمَاله على قانون الشَّرْع يحْتَاج إِلَى اكْتِسَاب وَنِيَّة، فَهُوَ من الْإِيمَان لهَذَا. الثَّانِي: مَا قيل: إِنَّه قد ورد: (الْحيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير) وَورد: (الْحيَاء خير كُله) ، فَصَاحب الْحيَاء قد يستحي أَن يواجه بِالْحَقِّ فَيتْرك أمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر، فَكيف يكون هَذَا من الْإِيمَان؟وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَيْسَ بحياء حَقِيقَة، بل هُوَ عجز ومهانة، وَإِنَّمَا تَسْمِيَته حَيَاء من إِطْلَاق بعض أهل الْعرف، أَطْلقُوهُ مجَازًا لمشابهته الْحيَاء الْحَقِيقِيّ،وَحَقِيقَته: خلق يبْعَث على اجْتِنَاب الْقَبِيح، وَيمْنَع من التَّقْصِير فِي حق ذِي الْحق وَنَحْوه،وَأولى الْحيَاء: الْحيَاء من الله تَعَالَى، وَهُوَ أَن لَا يراك الله حَيْثُ نهاك، وَذَاكَ إِنَّمَا يكون عَن معرفَة ومراقبة،وَهُوَ المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك) ، وَقد خرج التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام،أَنه قَالَ: (اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء. قَالُوا: إِنَّا نستحي وَالْحَمْد لله،فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك، وَلَكِن الاستحياء من الله تَعَالَى حق الْحيَاء أَن تحفظ الرَّأْس وَمَا حوى والبطن وَمَا وعى، وتذكر الْمَوْت والبلى، فَمن فعل ذَلِك فقد استحيى من الله حق الْحيَاء) . وَقَالَ الْجُنَيْد: رُؤْيَة الآلاء أَي: النعم، ورؤية التَّقْصِير يتَوَلَّد بَينهمَا حَالَة تسمى الْحيَاء الثَّالِث. مَا قيل: لِمَ أفرد الْحيَاء بِالذكر من بَين سَائِر الشّعب؟وَأجِيب: بِأَنَّهُ كالداعي إِلَى سَائِر الشّعب، فَإِن الْحَيّ يخَاف فضيحة
    لدُّنْيَا وفظاعة الْآخِرَة فينزجر عَن الْمعاصِي ويمتثل الطَّاعَات كلهَا،وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى إِفْرَاد الْحيَاء بِالذكر بعد دُخُوله فِي الشّعب كَأَنَّهُ يَقُول: هَذِه شُعْبَة وَاحِدَة من شعبه، فَهَل تحصى شعبه كلهَا؟ هَيْهَات ان الْبَحْر لَا يغْرف.
    ....
    (ج1/ ص 131)
    الشعْبِيّ: نِسْبَة إِلَى شعب، بطن من هَمدَان، بِسُكُون الْمِيم وبالدال الْمُهْملَة،وَيُقَال: هُوَ من حمير، وعداده فِي هَمدَان، وَنسب إِلَى جبل بِالْيمن نزله حسان بن عَمْرو والحميري وَلَده، وَدفن بِهِ،وَقَالَ الْهَمدَانِي: الشّعب الْأَصْغَر بطن،مِنْهُم: عَامر بن شرَاحِيل. قَالَ: والشعب الْأَصْفَر بن شرَاحِيل بن حسان ابْن الشّعب الْأَكْبَر بن عَمْرو بن شعْبَان. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: شعب جبل بِالْيمن، وَهُوَ ذُو شعبتين، نزله حسان بن عَمْرو الْحِمْيَرِي وَولده فنسبوا إِلَيْهِ،وَأَن من نزل من أَوْلَاده بِالْكُوفَةِ يُقَال لَهُم: شعبيون. مِنْهُم عَامر الشّعبِيّ،وَمن كَانَ مِنْهُم بِالشَّام قيل لَهُم: شعبيون وَمن كَانَ مِنْهُم بِالْيمن يُقَال لَهُم: آل ذِي شعبين،وَمن كَانَ مِنْهُم بِمصْر وَالْمغْرب يُقَال لَهُم: الأشعوب.
    ...........
    (ج1/ ص 132)
    الَ القَاضِي عِيَاض وَغَيره: المُرَاد: الْكَامِل الْإِسْلَام وَالْجَامِع لخصاله مَا لم يؤذ مُسلما بقول وَلَا فعل، وَهَذَا من جَامع كَلَامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،وفصيحه كَمَا يُقَال: المَال الْإِبِل، وَالنَّاس الْعَرَب، على التَّفْضِيل لَا على الْحصْر، وَقد بَين البُخَارِيّ مَا يبين هَذَا التَّأْوِيل،وَهُوَ قَول السَّائِل: أَي الْإِسْلَام خير؟قَالَ: من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن الْمُسلم الممدوح من كَانَ هَذَا وَصفه، وَلَيْسَ ذَلِك على معنى أَن من لم يسلم النَّاس مِنْهُ مِمَّن دخل فِي عقد الْإِسْلَام فَلَيْسَ ذَلِك بِمُسلم، وَكَانَ ذَلِك خَارِجا عَن الْملَّة أَيْضا،إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِك: النَّاس الْعَرَب، تُرِيدُ أَن أفضل النَّاس الْعَرَب، فههنا المُرَاد أفضل الْمُسلمين من جمع إِلَى أَدَاء حُقُوق الله أَدَاء حُقُوق الْمُسلمين والكف عَن أعراضهم، وَكَذَلِكَ المُهَاجر الممدوح هُوَ الَّذِي جمع إِلَى هجران وَطنه مَا حرم الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَنفي اسْم الشَّيْء على معنى نفي الْكَمَال عَنهُ مستفيض فِي كَلَامهم. قلت: وَكَذَا إِثْبَات اسْم الشَّيْء على الشَّيْء على معنى إِثْبَات الْكَمَال مستفيض فِي كَلَامهم.
    .......
    (ج1/ ص 133)
    قيل لم قرن اللِّسَان بِالْيَدِ؟أُجِيب: بِأَن الْإِيذَاء بِاللِّسَانِ وَالْيَد أَكثر من غَيرهمَا. فَاعْتبر الْغَالِب. وَمِنْهَا: مَا قيل: لم قدم اللِّسَان على الْيَد؟أُجِيب: بإن إِيذَاء اللِّسَان أَكثر وقوعاً وأسهل. وَلِأَنَّهُ أَشد نكاية،وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لحسان: (اهج الْمُشْركين فَإِنَّهُ أشق عَلَيْهِم من رشق النبل) وَقَالَ الشَّاعِر:
    (جراحات السنان لَهَا التئام ... وَلَا يلتام مَا جرح اللِّسَان)
    .........
    (ج1/ ص 133)
    فَأخْرج البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق لينبه بِهِ على سَماع الشّعبِيّ من عبد الله بن عَمْرو، فعلى هَذَا لَعَلَّ الشّعبِيّ بلغه ذَاك عَن عبد الله بن عَمْرو، ثمَّ لقِيه فَسَمعهُ مِنْهُ.
    ......
    (ج1/ ص 133 )
    وَقَالَ قطب الدّين فِي شَرحه: هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ، لِأَن البُخَارِيّ، لم يلْحق أَبَا مُعَاوِيَة وَلَا عبد الْأَعْلَى، والْحَدِيث الْمُعَلق عِنْد أهل الحَدِيث هُوَ الَّذِي حذف من مُبْتَدأ إِسْنَاده وَاحِد فَأكْثر، وَقد أَكثر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَلم يَسْتَعْمِلهُ مُسلم إلاَّ قَلِيلا،قَالَ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح: فِيمَا جَاءَ بِصِيغَة الْجَزْم، كقال وَحدث وَذكر،دون مَا جَاءَ بِغَيْر صيغته: كيروى وَيذكر، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن صَاحِبي (الصَّحِيحَيْنِ) ترجما كتابهما بِالصَّحِيحِ من أَخْبَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فلولا أَنه عِنْدهمَا مُسْند مُتَّصِل صَحِيح لم يستجيز أَن يدخلا فِي كِتَابَيْهِمَا
    .........

  5. #225
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تابع / " عمدة القاري " للحافظ العيني

    اليوم : الجمعة
    الموافق : 13/ شوال / 1441 هجري
    الموافق : 5/ 6/ 2020 ميلادي


    ,,,,,,,,,
    باب : أي الإسلام أفضل ؟
    (ج1/ ص 135 )
    وَقد علم أَن أقسامه على خَمْسَة أوجه. شَرط: نَحْو {أياً مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} (الْإِسْرَاء: 110) ، {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان على} (الْقَصَص: 28) وموصول: نَحْو: {لننزعن من كل شيعَة أَيهمْ أَشد} (مَرْيَم: 69) التَّقْدِير: لننزعن الَّذِي هُوَ أَشد. وَصفَة للنكرة: نَحْو زيد رجل أَي رجل،أَي: كَامِل فِي صِفَات الرِّجَال. وَحَال للمعرفة: كَقَوْلِك مَرَرْت بِعَبْد الله أَي رجل. ووصلة مَا فِيهِ: ال،نَحْو: يَا أَيهَا الرجل. وَالْخَامِس: الِاسْتِفْهَام: نَحْو: {أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} (التَّوْبَة: 124) . {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} (الْأَعْرَاف: 185 والمرسلات: 50) . وَمِنْه الحَدِيث. فَإِن قيل: شَرط أَن تدخل على مُتَعَدد، وَهَهُنَا دخلت على مُفْرد لِأَن نفس الْإِسْلَام لَا تعدد فِيهِ. قلت: فِيهِ حذف تَقْدِيره: أَي أَصْحَاب الْإِسْلَام أفضل؟وَيُؤَيّد هَذَا التَّقْدِير رِوَايَة مُسلم: (أَي الْمُسلمين أفضل) ؟ وَقد قدر الشَّيْخ قطب الدّين، والكرماني فِي (شرحيهما) : أَي خِصَال الْإِسْلَام أفضل
    ........
    (ج1/ ص 138)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضلهَا إطْعَام الطَّعَام الَّذِي هُوَ قوام الْأَبدَان، ثمَّ جعل خير الْأَقْوَال فِي الْبر وَالْإِكْرَام إفشاء السَّلَام الَّذِي يعم وَلَا يخص من عرف وَمن لم يعرف، حَتَّى يكون خَالِصا لله تَعَالَى، بَرِيئًا من حَظّ النَّفس والتصنع، لِأَنَّهُ شعار الْإِسْلَام، فَحق كل مُسلم فِيهِ شَائِع،ورد فِي حَدِيث: (إِن السَّلَام فِي آخر الزَّمَان للمعرفة يكون) ،وَمِنْهَا مَا قيل: جَاءَ فِي الْجَواب هَهُنَا أَن الْخَيْر أَن تطعم الطَّعَام، وَفِي الحَدِيث الَّذِي قبله أَنه من سلم الْمُسلمُونَ. فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟أُجِيب: بِأَن الجوابين كَانَا فِي وَقْتَيْنِ، فَأجَاب فِي كل وَقت بِمَا هُوَ الْأَفْضَل فِي حق السَّامع أَو أهل الْمجْلس،فقد يكون ظهر من أَحدهمَا: قلَّة المراعاة ليده وَلسَانه وإيذاء الْمُسلمين،وَمن الثَّانِي: إمْسَاك من الطَّعَام وتكبر، فأجابهما على حسب حَالهمَا، أَو علم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن السَّائِل الأول يسْأَل عَن أفضل التروك، وَالثَّانِي عَن خير الْأَفْعَال؛ أَو أَن الأول يسْأَل عَمَّا يدْفع المضار، وَالثَّانِي عَمَّا يجلب المسار، أَو أَنَّهُمَا بِالْحَقِيقَةِ متلازمان إِذْ الْإِطْعَام مُسْتَلْزم لِسَلَامَةِ الْيَد، وَالسَّلَام لِسَلَامَةِ اللِّسَان. قلت: يَنْبَغِي أَن يُقيد هَذَا بالغالب أَو فِي الْعَادة، فَافْهَم.
    .....
    (ج1/ ص 140)
    الَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) مُسَدّد بن مسرهد بن مسربل بن مرعبل وَلم يزدْ على هَذَا، وَكَذَا مُسلم فِي كتاب الكنى،غير أَنه قَالَ: مغربل بدل مرعبل،وَقَالَ أَبُو عَليّ الخالدي الْهَرَوِيّ: مُسَدّد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن ارندل إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ. قلت: فالخمسة الأول على لفظ صِيغَة الْمَفْعُول، ومسدد من التسديد،وسرهدته من سرهتده أَي: أَحْسَنت غداءه وسمنته،ومسربل من سربلته أَي: ألبسته الْقَمِيص،ومغربل من غربلته أَي: قطعته،ومرعبل من رعبلته أَي: مزقته، وَالثَّلَاثَة الْأَخِيرَة لَعَلَّهَا عجميات، وَهِي بِالدَّال الْمُهْملَة وَالنُّون، وعرندل بِالْعينِ الْمُهْملَة، وبالعجمة هُوَ الْأَصَح.
    ........
    (ج1/ ص 141)
    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْكَشَّاف) : يُقَال: لم يكن فِي هَذِه الْأمة أكمه غير قَتَادَة،أَي: مَمْسُوح الْعين، غير قَتَادَة السدُوسِي صَاحب التَّفْسِير، توفّي بواسط سنة سبع عشرَة وَمِائَة،وَقيل: ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة،وَهُوَ ابْن سِتّ وَخمسين أَو: سبع وَخمسين. روى لَهُ الْجَمَاعَة،وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه: قَتَادَة، من التَّابِعين وتابعيهم غَيره
    ......
    (ج1/ ص 141)
    خَادِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خدمه عشر سِنِين، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وست وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا على مائَة وَثَمَانِية وَسِتِّينَ حَدِيثا مِنْهَا، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثَلَاثَة وَثَمَانِينَ حَدِيثا، وَمُسلم بِأحد وَتِسْعين حَدِيثا. وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة ولدا. وَقَالَت أمه: يَا رَسُول الله خويدمك أنس ادْع الله لَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارك فِي مَاله وَلَده، وأطل عمره، واغفر ذَنبه. فَقَالَ: لقد دفنت من صلبي مائَة، إلاَّ اثْنَيْنِ، وَكَانَ لَهُ بُسْتَان يحمل فِي سنة مرَّتَيْنِ وَفِيه ريحَان يَجِيء مِنْهُ ريح الْمسك،وَقَالَ: لقد بقيت حَتَّى سئمت من الْحَيَاة وَأَنا أَرْجُو الرَّابِعَة،قيل: عمر مائَة سنة وَزِيَادَة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْبَصْرَةِ، وغسله مُحَمَّد بن سِيرِين سنة ثَلَاث وَتِسْعين زمن الْحجَّاج،وَدفن فِي قصره على نحوفرسخ وَنصف من الْبَصْرَة: وَيُقَال: إِنَّمَا كني بِأبي حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة ببقلة كَانَ يُحِبهَا. روى لَهُ الْجَمَاعَة.
    ........
    (ج1/ ص 141)
    د صرح أَحْمد بن حَنْبَل وَالنَّسَائِيّ فِي روايتهما بِسَمَاع قَتَادَة لَهُ من أنس فانتفت تُهْمَة تدليسه.

    ........

    (ج1/ ص 141)
    لْمحبَّة فقد قَالَ النَّوَوِيّ: أَصْلهَا الْميل إِلَى مَا يُوَافق الْمُحب، ثمَّ الْميل قد يكون بِمَا يستلذه بحواسه بِحسن الصُّورَة وَبِمَا يستلذه بعقله، كمحبة الْفضل وَالْجمال، وَقد يكون لإحسانه إِلَيْهِ وَدفعه المضار عَنهُ. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالميل هُنَا الإختياري دون الطَّبْع والقسري، وَالْمرَاد أَيْضا بِأَن يحب الخ. أَن يحصل لِأَخِيهِ نَظِير مَا يحصل لَهُ لَا عينه، سَوَاء كَانَ ذَلِك فِي الْأُمُور المحسوسة أَو المعنوية،
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: المُرَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) أَن يحب لِأَخِيهِ من الطَّاعَات والمباحات، وَظَاهره يَقْتَضِي التَّسْوِيَة وَحَقِيقَته التَّفْضِيل. لِأَن كل أحد يحب أَن يكون أفضل النَّاس، فَإِذا أحب لِأَخِيهِ مثله فقد دخل هُوَ من جملَة المفضولين، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان يحب أَن ينتصف من حَقه ومظلمته، فَإِذا كَانَت لِأَخِيهِ عِنْده مظْلمَة
    .....
    (ج1/ ص 145)
    وَلَفظ الْيَد من المتشابهات،فَفِي مثل هَذَا افترق الْعلمَاء على فرْقَتَيْن: إِحْدَاهمَا: مَا تسمى مفوضة: وهم الَّذين يفوضون الْأَمر فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى قائلين: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} (آل عمرَان: 7) وَالْأُخْرَى: تسمى مؤولة، وهم الَّذين يؤولون مثل هَذَا،كَمَا يُقَال: المُرَاد من الْيَد الْقُدْرَة، عاطفين {والراسخون فِي الْعلم} (آل عمرَان: 7) على: الله وَالْأول أسلم، وَالثَّانِي أحكم. قلت: ذكر أَبُو حنيفَة أَن تَأْوِيل الْيَد بِالْقُدْرَةِ، وَنَحْو ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى التعطيل، فَإِن الله تَعَالَى أثبت لنَفسِهِ يدا، فَإِذا أولت بِالْقُدْرَةِ يصير عين التعطيل، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي فِي مثل هَذَا أَن نؤمن بِمَا ذكره الله من ذَلِك على مَا أَرَادَهُ، وَلَا نشتغل بتأويله،فَنَقُول: لَهُ يَد على مَا أَرَادَهُ لَا كيد المخلوقين، وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِر ذَلِك.
    .......
    (ج1/ ص 144)
    قَالَ ابْن بطال: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: هَذَا من جَوَامِع الْكَلم الَّذِي أوتيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،إِذْ أَقسَام الْمحبَّة ثَلَاثَة: محبَّة إجلال وإعظام كمحبة الْوَالِد، ومحبة رَحْمَة وإشفاق كمحبة الْوَلَد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة النَّاس بَعضهم بَعْضًا، فَجمع عَلَيْهِ السَّلَام، ذَلِك كُله. قَالَ القَاضِي: وَمن محبته: نصْرَة سنته، والذب عَن شَرِيعَته، وتمني حُضُور حَيَاته، فيبذل نَفسه وَمَاله دونه، وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن حَقِيقَة الْإِيمَان لَا تتمّ إلاَّ بِهِ، وَلَا يَصح الْإِيمَان إلاَّ بتحقيق إنافة قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنزلته على كل وَالِد وَولد ومحسن ومتفضل، وَمن لم يعْتَقد ذَلِك واعتقد سواهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن، وَاعْتَرضهُ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي، صَاحب (الْمُفْهم) فَقَالَ: ظَاهر كَلَام القَاضِي عِيَاض صرف الْمحبَّة إِلَى اعْتِقَاد تَعْظِيمه وإجلاله، وَلَا شكّ فِي كفر من لَا يعْتَقد ذَلِك، غير أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث اعْتِقَاد الأعظمية إِذْ اعْتِقَاد الأعظمية لَيْسَ بمحبة وَلَا مستلزماً لَهَا، إِذْ قد يحمد الْإِنْسَان إعظام شَيْء مَعَ خلوه عَن محبته،قَالَ: فعلى هَذَا من لم يجد من نَفسه ذَلِك لم يكمل إيمَانه على أَن كل من آمن إِيمَانًا صَحِيحا لَا يَخْلُو من تِلْكَ الْمحبَّة، وَقد قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله عَنهُ، وَمَا كَانَ أحد أحب إِلَيّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أجل فِي عَيْني مِنْهُ، وَمَا كنت أُطِيق أَن أملأ عَيْني مِنْهُ إجلالاً لَهُ، وَأَن عمر رَضِي الله عَنهُ، لما سمع هَذَا الحَدِيث،قَالَ: يَا رَسُول الله أَنْت أحب إِلَيّ من كل شَيْء إلاَّ من نَفسِي،فَقَالَ: وَمن نَفسك يَا عمر،فَقَالَ: وَمن نَفسِي. فَقَالَ: الْآن يَا عمر. وَهَذِه الْمحبَّة لَيست باعتقاد تَعْظِيم بل ميل قلب، وَلَكِن النَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك،قَالَ الله تَعَالَى: {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (الْمَائِدَة: 54) وَلَا شكّ أَن حَظّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، من هَذَا الْمَعْنى أتم، لِأَن الْمحبَّة ثَمَرَة الْمعرفَة، وهم بِقَدرِهِ ومنزلته أعلم، وَالله أعلم.
    قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ تلميح إِلَى قَضِيَّة النَّفس الأمَّارة بالسوء والمطمئنة، فَإِن من رجح جَانب المطمئنة كَانَ حب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، راجحاً، وَمن رجح جَانب الْإِمَارَة، كَانَ حكمه بِالْعَكْسِ
    ........
    (ج1/ 147)
    والسختياني: بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى بيع السختيان، وَهُوَ الْجلد؛وَقَالَ الْجَوْهَرِي: سمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيع الْجُلُود قَالَ صَاحب الْمطَالع: وَمِنْهُم من يضم السِّين؛وَقَالَ بَعضهم: حُكيَ بِضَم السِّين وَكسرهَا. قلت: هَذَا اللَّفْظ أعجمي؟ وَلم يسمع مِنْهُم إلاَّ فتح السِّين
    ......
    (ج1/ ص 148)
    قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا حَدِيث عَظِيم، أصل من أصُول الْإِسْلَام،قلت: كَيفَ لَا، وَفِيه محبَّة الله وَرَسُوله الَّتِي هِيَ أصل الْإِيمَان بل عينه، وَلَا تصح محبَّة الله وَرَسُوله حَقِيقَة، وَلَا حب لغير الله وَلَا كَرَاهَة الرُّجُوع فِي الْكفْر إلاَّ لمن قوي الْإِيمَان فِي نَفسه وانشرح لَهُ صَدره وخالطه دَمه ولحمه، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وجد حلاوته، وَالْحب فِي الله من ثَمَرَات الْحبّ لله. وَقَالَ ابْن بطال: محبَّة العَبْد لخالقه الْتِزَام طَاعَته، والانتهاء عَمَّا نهى عَنهُ، ومحبة الرَّسُول كَذَلِك، وَهِي الْتِزَام
    رِيعَته. وَقَالَ بَعضهم: الْمحبَّة مواطأة الْقلب على مَا يُرْضِي الرب سُبْحَانَهُ، ف
    فيحب مَا أحبَّ وَيكرهُ مَا يكره. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمعنى حب الله الاسْتقَامَة فِي طَاعَته، والتزام أوامره ونواهيه فِي كل شَيْء. وَالْمرَاد ثَمَرَات الْمحبَّة، فَإِن أصل الْمحبَّة الْميل لما يُوَافق المحبوب، وَالله سُبْحَانَهُ منزه أَن يمِيل أَو يمال إِلَيْهِ، وَأما محبَّة الرَّسُول فَيصح فِيهَا الْميل، إِذْ ميل الْإِنْسَان لما يُوَافقهُ إِمَّا للاستحسان كالصورة الجميلة والمطاعم الشهية وشبههما، أَو لما يستلذه بعقله من الْمعَانِي والأخلاق كمحبة الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء وَإِن لم يكن فِي زمانهم، أَو لمن يحسن إِلَيْهِ وَيدْفَع الْمضرَّة عَنهُ، وَهَذِه الْمعَانِي كلهَا مَوْجُودَة فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَجمعه الْفَضَائِل وإحسانه إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بهدايته إيَّاهُم وإبعادهم عَن الْجَحِيم. قَوْله: (وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله) هَذَا حث على التحاب فِي الله،لأجل أَن الله جعل الْمُؤمنِينَ أخوة قَالَ الله تَعَالَى: {فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} (آل عمرَان: 103) وَمن محبته ومحبة رَسُوله محبَّة أهل مِلَّته، فَلَا تحصل حلاوة الْإِيمَان إلاَّ أَن تكون خَالِصَة لله تَعَالَى، غير مشوبة بالأغراض الدُّنْيَوِيَّة
    وَلَا الحظوظ البشرية، فَإِن من أحب لذَلِك انْقَطَعت تِلْكَ الْمحبَّة عِنْد انْقِطَاع سَببهَا،
    ...........
    (ج1/ ص 149)
    نْهَا مَا قيل: لم قيل: مِمَّا سواهُمَا،وَلم يقل: مِمَّن سواهُمَا؟وَأجِيب: بِأَن: مَا،أَعم بِخِلَاف: من فَإِنَّهَا للعقلاء فَقَط. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ قَالَ: سواهُمَا، بإشراك الضَّمِير بَينه وَبَين الله عز وَجل،وَالْحَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنكر على من فعل ذَلِك وَهُوَ الْخَطِيب الَّذِي قَالَ: وَمن يعصهما فقد غوى فَقَالَ: (بئس الْخَطِيب أَنْت) ؟وَأجِيب: بِأَن هَذَا لَيْسَ من هَذَا، لِأَن المُرَاد فِي الْخطب الْإِيضَاح، وَأما هُنَا فَالْمُرَاد الإيجاز فِي اللَّفْظ ليحفظ،وَمَا يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي سنَن أبي دَاوُد: (وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَلَا يضر إلاَّ نَفسه) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَأما تَثْنِيَة الضَّمِير هَهُنَا فللإيماء يماء على أَن الْمُعْتَبر، هُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من المحبتين لَا كل وَاحِدَة، فَإِنَّهَا وَحدهَا ضائعة لاغية وَأمر بِالْإِفْرَادِ فِي حَدِيث الْخَطِيب، إشعاراً بِأَن كل وَاحِد من العصيانين مُسْتَقل باستلزامه الغواية، إِذْ الْعَطف فِي تَقْرِير التكرير، وَالْأَصْل اسْتِقْلَال كل من المعطوفين فِي الحكم. وَقَالَ الأصوليون: أَمر بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ أَشد تَعْظِيمًا، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك، وَيُقَال إِنَّه من الخصائص فَيمْتَنع من غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يمْتَنع مِنْهُ، لِأَن غَيره إِذا جمع أوهم
    اطلاقه التَّسْوِيَة، بِخِلَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن منصبه لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ إِيهَام ذَلِك، وَيُقَال: إِن كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَا جملَة وَاحِدَة فَلَا يحسن إِقَامَة الظَّاهِر فِيهَا مقَام الْمُضمر، وَكَلَام الَّذِي خطب جملتان لَا يكره إِقَامَة الظَّاهِر فِيهَا مقَام الْمُضمر، وَيُقَال: إِن الْمُتَكَلّم لَا يتَوَجَّه تَحت خطاب نَفسه إِذا وَجهه لغيره، وَيُقَال: إِن الله تَعَالَى أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يشرف من شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا أقسم بِكَثِير من مخلوقاته، وَكَذَلِكَ لَهُ أَن يَأْذَن لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويحجره على غَيره، وَيُقَال: الْعَمَل بِخَبَر الْمَنْع أولى، لِأَن الْخَبَر الآخر يحْتَمل الْخُصُوص، وَلِأَنَّهُ ناقل، وَالْآخر مَبْنِيّ فِي الأَصْل، وَلِأَنَّهُ قَول، وَالثَّانِي فعل.
    ........
    (ج1/ ص 150)
    لطَّيَالِسِيّ نِسْبَة إِلَى بيع الطيالسة، وَهُوَ جمع طيلسان، بِفَتْح اللَّام وَقيل بِكَسْرِهَا أَيْضا، وَالْفَتْح أَعلَى، وَالْهَاء فِي الْجمع للعجمة، لِأَنَّهُ فَارسي مُعرب قَالَ الْأَصْمَعِي: أَصله تالشان، والأنصاري، لَيْسَ بِنِسْبَة لأَب وَلَا لأم، بل الْأَنْصَار قبيل عَظِيم من الأزد سميت بذلك لنصرتهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنِّسْبَة إِنَّمَا تكون إِلَى الْوَاحِد، وَوَاحِد الْأَنْصَار نَاصِر، مثل: أَصْحَاب وَصَاحب، وَكَانَ الْقيَاس فِي النِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار ناصري، فَقَالُوا: أَنْصَارِي، كَأَنَّهُمْ جعلُوا الْأَنْصَار اسْم الْمَعْنى. وَالْمَدَنِي: نِسْبَة إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى ربيع: ربعي، وَفِي جذيمة: جذمي، وَقد تنْسب هَذِه النِّسْبَة إِلَى غَيرهَا من المدن. قَالَ الرشاطي: قَالُوا فِي الرجل وَالثَّوْب إِذا نسب إِلَى الْمَدِينَة مدنِي، وَالطير وَنَحْوه: مديني؛ وَفِي (مُخْتَصر الْعين) يُقَال: رجل مدنِي، وحمام مديني. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة مَنْصُور قلت: مديني وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى قلت: مدائني، للْفرق بَين النّسَب لِئَلَّا تختلط.

    ..........

    (ج1/ ص 151)
    وَالْأَنْصَار سموا بِهِ لنصرتهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ولد الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة أَو ثَعْلَبَة العنقاء، لطول عُنُقه، ابْن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر بن مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة البهلول بن مَازِن، وَهُوَ جماع غَسَّان بن الأزد، واسْمه دراء، على وزن فعال، ابْن الْغَوْث بن نبت يعرب بن يقطن وَهُوَ قحطان، وَإِلَى قحطان جماع الْيمن، وَهُوَ أَبُو الْيمن كلهَا. وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى إِسْمَاعِيل فَيَقُول: قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إِسْمَاعِيل. هَذَا قَول الْكَلْبِيّ، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى غَيره، فَيَقُول: قحطان بن فالخ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، فعلى الأول الْعَرَب كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وعَلى الثَّانِي من ولد إِسْمَاعِيل وقحطان، وَقَالَ حسان بن ثَابت.
    (أما سَأَلت فَإنَّا معشرٌ نجبٌ الأزد نسبتنا، والماءُ غَسَّان)
    وغسان: مَاء كَانَ شرباً لولد مَازِن بن الأزد، وَكَانَ الْأَنْصَار الَّذين هم الْأَوْس والخزرج يعْرفُونَ قبل ذَلِك: بإبنيْ قَيْلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الام الَّتِي تجمع القبيلتين، فسماهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَنْصَار، فَصَارَ ذَلِك علما عَلَيْهِم، وَأطلق أَيْضا على أَوْلَادهم وحلفائهم ومواليهم. وَيُقَال: سماهم الله تَعَالَى بذلك فَقَالَ: {وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} (الْأَنْفَال: 74)

    .......

    (ج1/ ص 151)
    ضبط أَبُو الْبَقَاء العكبري: إِنَّه الْإِيمَان حب الْأَنْصَار، بِهَمْزَة مَكْسُورَة، وَنون مُشَدّدَة، وهاء الضَّمِير، وبرفع الْإِيمَان فاعربه، فَقَالَ: إِن للتَّأْكِيد، وَالْهَاء ضمير الشان، وَالْإِيمَان مُبْتَدأ، وَمَا بعده خَبره، وَالتَّقْدِير: إِن الشان الْإِيمَان حب الْأَنْصَار، وَهَذَا مُخَالف لجَمِيع الرِّوَايَات الَّتِي وَقعت فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد، وَمَا أقربه أَن يكون تصحيفاً
    ........
    (ج1/ ص 152)
    مَا رُوِيَ مَرْفُوعا فِي فضل أَصْحَابه كلهم: (من أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَأما من أبْغض، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، أحدا مِنْهُم، من غير تِلْكَ الْجِهَة، لأمر طَار من حدث وَقع لمُخَالفَة غَرَض، أَو لضَرَر وَنَحْوه، لم يصر بذلك منافقاً وَلَا كَافِرًا، فقد وَقع بَينهم حروب ومخالفات وَمَعَ ذَلِك لم يحكم بَعضهم على بعض بالنفاق، وَإِنَّمَا كَانَ حَالهم فِي ذَلِك حَال الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام، فإمَّا أَن يُقَال: كلهم مُصِيب، أَو الْمُصِيب وَاحِد والمخطىء مَعْذُور مَعَ أَنه مُخَاطب بِمَا يرَاهُ ويظنه، فَمن وَقع لَهُ بغض فِي أحدٍ مِنْهُم، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، لشَيْء من ذَلِك، فَهُوَ عاصٍ تجب عَلَيْهِ التَّوْبَة ومجاهدة نَفسه بِذكر سوابقهم وفضائلهم وَمَا لَهُم على كل من بعدهمْ من الْحُقُوق، إِذْ لم يصل أحد من بعدهمْ لشَيْء من الدّين وَالدُّنْيَا إلاَّ بهم وبسببهم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} (الْحَشْر: 10) الْآيَة، وَقد أجَاب بَعضهم عَن الْحصْر الْمَذْكُور بِأَن الْعَلامَة كالخاصة تطرد وَلَا تنعكس، ثمَّ قَالَ: وَإِن أَخذ من طَرِيق الْمَفْهُوم، فَهُوَ مَفْهُوم لقب لَا عِبْرَة بِهِ.
    ........
    (ج1/ ص 154)
    (بَدْرًا) وَهُوَ مَوضِع الْغَزْوَة الْكُبْرَى الْعُظْمَى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يذكر وَيُؤَنث، مَاء مَعْرُوف على نَحْو أَرْبَعَة مراحل من الْمَدِينَة، وَقد كَانَ لرجل يدعى بَدْرًا، فسميت باسمه. قلت: بدر اسْم بِئْر حفرهَا رجل من بني النجار، اسْمه بدر، وَفِي (الْعباب) : فَمن ذكَّر قَالَ: هُوَ اسْم قليب، وَمن أنثَّهُ قَالَ: هُوَ اسْم بِئْر، وَقَالَ الشّعبِيّ: بدر بِئْر كَانَت لرجل سمي بَدْرًا، أَو قَالَ أهل الْحجاز: هُوَ بدر بن قُرَيْش بن الْحَارِث بن يخلد بن النَّضر، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: هُوَ رجل من جُهَيْنَة
    ...........
    (ج1/ ص 155)
    وَردت أَحَادِيث تدل صَرِيحًا أَن حق الْمَقْتُول يصل إِلَيْهِ بقتل الْقَاتِل. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَصَححهُ: (أَن السَّيْف محاء للخطايا) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (إِذا جَاءَ الْقَتْل محى كل شَيْء) ، وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحوه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: (لَا يمر الْقَتْل بذنب إلاَّ محاه) ، وَقَوله: إِن قتل الْقَاتِل حد وإرداع. الخ فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم يجز الْعَفو عَن الْقَاتِل. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى الْحُدُود كَفَّارَة لهَذَا الحَدِيث، وَمِنْهُم من وقف لحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: (لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا أم لَا) لَكِن حَدِيث عبَادَة أصح، إِسْنَادًا، وَيُمكن، يَعْنِي على طَرِيق الْجمع بَينهمَا، أَن يكون حَدِيث أبي هُرَيْرَة ورد أَولا قبل أَن يعلم، ثمَّ أعلمهُ الله تَعَالَى آخرا
    .........
    (ج1/ 159)
    أَن من مَاتَ من أهل الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة، إِن شَاءَ الله عَفا عَنهُ وَأدْخلهُ الْجنَّة أول مرّة، وَإِن شَاءَ عذبه فِي النَّار ثمَّ يدْخلهُ الْجنَّة وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ بِغَيْر التَّوْبَة لَا يُعْفَى عَنهُ فيخلد فِي النَّار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يوجبون الْعقَاب على الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة وَبعدهَا الْعَفو عَنْهَا. الثَّالِث: قَالَ الْمَازرِيّ: فِيهِ رد على الْخَوَارِج الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ. الرَّابِع: قَالَ الطَّيِّبِيّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْكَفّ عَن الشَّهَادَة بالنَّار على أحد وبالجنة لأحد إلاَّ من ورد النَّص فِيهِ بِعَيْنِه. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحُدُود كَفَّارَات، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ من الصَّحَابَة غير وَاحِد مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم وَفِيه: (وَمن أصَاب ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَالله أكْرم أَن يثني بالعقوبة على عَبده فِي الْآخِرَة) ، وَمِنْهُم: أَبُو تَمِيمَة الْجُهَنِيّ أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَمِنْهُم: خُزَيْمَة بن ثَابت، أخرج حَدِيثه أَحْمد بِإِسْنَاد حسن وَلَفظه: (من أصَاب ذَنبا أقيم الْحَد على ذَلِك الذَّنب فَهُوَ كَفَّارَته) . وَمِنْهُم: ابْن عمر، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: (مَا عُوقِبَ رجل على ذَنْب إِلَّا جعله الله كَفَّارَة لما أصَاب من ذَلِك الذَّنب) .
    ..........
    (ج1/ ص 163)
    فضل الْعُزْلَة فِي أَيَّام الْفِتَن إلاَّ أَن يكون الْإِنْسَان مِمَّن لَهُ قدرَة على إِزَالَة الْفِتْنَة، فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي إِزَالَتهَا، إِمَّا فرض عين وَإِمَّا فرض كِفَايَة بِحَسب الْحَال والإمكان، وَأما فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة فَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعُزْلَة والاختلاط أَيهمَا أفضل؟ قَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب الشَّافِعِي والأكثرين إِلَى تَفْضِيل الْخلطَة لما فِيهَا من اكْتِسَاب الْفَوَائِد، وشهود شَعَائِر الْإِسْلَام، وتكثير سَواد الْمُسلمين، وإيصال الْخَيْر إِلَيْهِم وَلَو بعيادة المرضى، وتشييع الْجَنَائِز، وإفشاء السَّلَام، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، والتعاون على الْبر وَالتَّقوى، وإعانة الْمُحْتَاج، وَحُضُور جماعاتهم وَغير ذَلِك مِمَّا يقدر عَلَيْهِ كل أحد، فَإِن كَانَ صَاحب علم أَو زهد تَأَكد فضل اخْتِلَاطه. وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْعُزْلَة لما فِيهَا من السَّلامَة المحققة، لَكِن بِشَرْط أَن يكون عَارِفًا بوظائف الْعِبَادَة الَّتِي تلْزمهُ وَمَا يُكَلف بِهِ، قَالَ: وَالْمُخْتَار تَفْضِيل الْخلطَة لمن لَا يغلب على ظَنّه الْوُقُوع فِي الْمعاصِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمُخْتَار فِي عصرنا تَفْضِيل الانعزال لندور خلو المحافل عَن الْمعاصِي. قلت: أَنا مُوَافق لَهُ فِيمَا قَالَ، فَإِن الِاخْتِلَاط مَعَ النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان لَا يجلب إِلَّا الشرور. الثَّانِي: فِيهِ الِاحْتِرَاز عَن الْفِتَن، وَقد خرجت جمَاعَة من السّلف عَن أوطانهم وتغربوا خوفًا من الْفِتْنَة، وَقد خرج سَلمَة بن الْأَكْوَع إِلَى الربذَة فِي فتْنَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ.
    .........
    .........
    (ج1/ ص 164)
    أَن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَالْعلم بِهِ من الْإِيمَان، فحينئذٍ دخل فِي كتاب الْإِيمَان، وَفِيه رد على الكرامية لأَنهم يَقُولُونَ: إِن الْإِيمَان مُجَرّد الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَزَعَمُوا أَن الْمُنَافِق مُؤمن فِي الظَّاهِر وَكَافِر فِي السريرة، فَيثبت لَهُ حكم الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحكم الْكَافرين فِي الْآخِرَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِم: بِأَن الْإِيمَان، هُوَ أَو بعضه، فعل الْقلب بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. وَأما وَجه الثَّانِي: فَهُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، لما أَرَادوا أَن يزِيدُوا أَعْمَالهم على عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: لَا يتهيأ لكم لِأَنِّي أعلمكُم، وَالْعلم من جملَة الْأَفْعَال، بل من أشرفها لِأَنَّهُ عمل الْقلب
    .....
    (ج1/ ص 165 )
    قَوْله: (بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ) أَي: بِمَا عزمت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ وقصدتموه، إِذْ كسب الْقلب عزمه وَنِيَّته، وَفِي الْآيَة دَلِيل لما عَلَيْهِ الْجُمْهُور، أَن أَفعَال الْقُلُوب إِذا اسْتَقَرَّتْ يُؤَاخذ بهَا، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يتكلموا أَو يعملوا بِهِ) ، مَحْمُول على مَا إِذا لم يسْتَقرّ، وَذَلِكَ مَعْفُو عَنهُ بِلَا شكّ، لِأَنَّهُ لَا يُمكن الانفكاك عَنهُ بِخِلَاف الِاسْتِقْرَار
    .......
    (ج1/ ص 165 )
    مَا حَقِيقَة الْمعرفَة؟ قلت: فِي اللُّغَة الْمعرفَة: مصدر عَرفته أعرفهُ، وَكَذَلِكَ الْعرْفَان، وَأما فِي اصْطِلَاح أهل الْكَلَام فَهِيَ معرفَة الله تَعَالَى بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه. وَالْفرق بَينهمَا وَبَين الْعلم: أَن الْمعرفَة عبارَة عَن الْإِدْرَاك الجزئي، وَالْعلم عَن الْإِدْرَاك الْكُلِّي. وَبِعِبَارَة أُخْرَى: الْعلم إِدْرَاك المركبات، والمعرفة إِدْرَاك البسائط وَهَذَا مُنَاسِب لما يَقُوله أهل اللُّغَة من: أَن الْعلم يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، والمعرفة إِلَى مفعول وَاحِد. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أجمع الْعلمَاء على وجوب معرفَة الله تَعَالَى، وَقد اسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إلاَّ الله} (مُحَمَّد: 19) وَاخْتلف فِي أول وَاجِب على الْمُكَلف، فَقيل: معرفَة الله تَعَالَى، وَقيل: النّظر، وَقيل: الْقَصْد إِلَى النّظر الصَّحِيح. وَقَالَ الإِمَام: الَّذِي أرَاهُ أَنه لَا اخْتِلَاف بَينهمَا، فَإِن أول وَاجِب خطابا ومقصوداً: الْمعرفَة، وَأول وَاجِب اشتغالاً واداءً: الْقَصْد فَإِن مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب إلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَلَا يتَوَصَّل إِلَى المعارف إلاَّ بِالْقَصْدِ.
    ......
    (ج1/ ص 166)
    اعْلَم أَن: سَلاما، وَالِد مُحَمَّد الْمَذْكُور بِالتَّخْفِيفِ على الصَّوَاب، وَبِه قطع الْمُحَقِّقُونَ ، مِنْهُم: الْخَطِيب وَابْن مَاكُولَا، وَهُوَ مَا ذكره غبخار فِي (تَارِيخ بخاري) ، وَهُوَ أعلم ببلاده، وَحَكَاهُ أَيْضا عَنهُ فَقَالَ: قَالَ سهل بن المتَوَكل: سَمِعت مُحَمَّد بن سَلام يَقُول: أَنا مُحَمَّد بن سَلام، بِالتَّخْفِيفِ، وَلست بِمُحَمد بن سَلام، وَذكر بعض الْحفاظ أَن تشديده لحن، وَأما صَاحب (الْمطَالع) فَادّعى أَن التَّشْدِيد رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَكثر شُيُوخ بَلَده. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُوَافق على هَذِه الدَّعْوَى، فَإِنَّهَا مُخَالفَة للمشهور
    ......
    (ج1/ ص 171)
    (شكّ مَالك) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: (فيلقون فِي نهر الْحَيَاة) وَبَين قَوْله: (فينبتون) ، وَأَرَادَ أَن الترديد بَين الْحيَاء والحياة إِنَّمَا هُوَ من مَالك بن أنس الإِمَام، وَهُوَ الَّذِي شكّ فِيهِ، وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة مَالك، فَأَيهمْ الشاك؟
    .......
    (ج1/ ص 172 )
    لأولى: فِيهِ حجَّة لأهل السّنة على المرجئة حَيْثُ علم مِنْهُ دُخُول طَائِفَة من عصارة الْمُؤمنِينَ النَّار، إِذْ مَذْهَبهم أَنه لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، فَلَا يدْخل العَاصِي النَّار. الثَّانِيَة: فِيهِ حجَّة على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ دلّ على عدم وجوب تخليد العَاصِي فِي النَّار. الثَّالِثَة: فِيهِ دَلِيل على تفاضل أهل الْإِيمَان فِي الْأَعْمَال. الرَّابِعَة: مَا قيل: إِن الْأَعْمَال من الْإِيمَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خَرْدَل من إِيمَان) ، وَالْمرَاد مَا زَاد على أصل التَّوْحِيد. قلت: لَا دلَالَة فِيهِ على ذَلِك أصلا على مَا لَا يخفى.
    .....
    (ج1/ ص 174)
    وَقَالَ أهل الْعبارَة: الْقَمِيص فِي النّوم مَعْنَاهُ الدّين، وجره يدل على بَقَاء آثاره الجميلة وسننه الْحَسَنَة فِي الْمُسلمين بعد وَفَاته ليُقتدى بهَا، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْلُوم أَن عمر رَضِي الله عَنهُ، فِي إيمَانه أفضل من عمل من بلغ قَمِيصه ثديه، وتأويله عَلَيْهِ السَّلَام، ذَلِك بِالدّينِ يدل على أَن الْإِيمَان الْوَاقِع على الْعَمَل يُسمى دينا، كالإيمان الْوَاقِع على القَوْل. وَقَالَ القَاضِي: أَخذ ذَلِك أهل التَّعْبِير من قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) يُرِيد بِهِ نَفسك، وَإِصْلَاح عَمَلك وَدينك على تَأْوِيل
    ...........
    (ج1/ ص 174)
    وَقَالَ أهل الْعبارَة: الْقَمِيص فِي النّوم مَعْنَاهُ الدّين، وجره يدل على بَقَاء آثاره الجميلة وسننه الْحَسَنَة فِي الْمُسلمين بعد وَفَاته ليُقتدى بهَا، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْلُوم أَن عمر رَضِي الله عَنهُ، فِي إيمَانه أفضل من عمل من بلغ قَمِيصه ثديه، وتأويله عَلَيْهِ السَّلَام، ذَلِك بِالدّينِ يدل على أَن الْإِيمَان الْوَاقِع على الْعَمَل يُسمى دينا، كالإيمان الْوَاقِع على القَوْل. وَقَالَ القَاضِي: أَخذ ذَلِك أهل التَّعْبِير من قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) يُرِيد بِهِ نَفسك، وَإِصْلَاح عَمَلك وَدينك على تَأْوِيل
    ..........
    (ج1/ ص 181)
    الَ النَّوَوِيّ: يسْتَدلّ بِالْحَدِيثِ على أَن تَارِك الصَّلَاة عمدا مُعْتَقدًا وُجُوبهَا يقتل، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور. قلت: لَا يَصح هَذَا الِاسْتِدْلَال لِأَن الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْقِتَال، وَلَا يلْزم من إِبَاحَة الْقِتَال إِبَاحَة الْقَتْل، لِأَن بَاب المفاعلة يسْتَلْزم وُقُوع الْفِعْل من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا كَذَلِك الْقَتْل فَافْهَم. ثمَّ اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي: هَل يقتل على الْفَوْر أم يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام؟ الْأَصَح الأول، وَالصَّحِيح أَنه يقتل بترك صَلَاة وَاحِدَة إِذا خرج وَقت الضَّرُورَة لَهَا، وَأَنه يقتل بِالسَّيْفِ، وَهُوَ مقتول حدا. وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أَكثر أَصْحَابه عَنهُ: تَارِك الصَّلَاة عمدا يكفر وَيخرج من الْملَّة، وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، فعلى هَذَا لَهُ حكم الْمُرتد
    الْمُرْتَد، فَلَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَتبين مِنْهُ امْرَأَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة،والمزني: يحبس إِلَى أَن يحدث تَوْبَة وَلَا يقتل، ويلزمهم أَنهم احْتَجُّوا بِهِ على قتل تَارِك الصَّلَاة عمدا، وَلم يَقُولُوا بقتل مَانع الزَّكَاة، مَعَ أَن
    قَالَ النَّوَوِيّ يسْتَدلّ بِهِ على وجوب قتال مانعي الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من وَاجِبَات الْإِسْلَام قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا. قلت: فَعَن هَذَا قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن إِن أهل بَلْدَة أَو قَرْيَة إِذا اجْتَمعُوا على ترك الْأَذَان، فَإِن الإِمَام يقاتلهم، وَكَذَلِكَ كل شَيْء من شَعَائِر الْإِسْلَام. الثَّالِث: فِيهِ أَن من أظهر الْإِسْلَام وَفعل الْأَركان يجب الْكَفّ عَنهُ، وَلَا يتَعَرَّض لَهُ.
    الرَّابِع: فِيهِ قبُول تَوْبَة الزنديق، وَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فِي الْمَغَازِي. قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لم أُؤمر أَن أشق على قُلُوب النَّاس وَلَا عَن بطونهم) الحَدِيث بِطُولِهِ جَوَابا القَوْل خَالِد، رَضِي الله عَنهُ أَلا أضْرب عُنُقه؟فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: لَعَلَّه يُصَلِّي،فَقَالَ خَالِد: وَكم من مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ بِقَلْبِه. ولأصحاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، فِي الزنديق الَّذِي يظْهر الْإِسْلَام ويبطن الْكفْر وَيعلم ذَلِك بِأَن يطلع الشُّهُود على كفر كَانَ يخفيه،أَو علم بِإِقْرَارِهِ
    .........
    (ج1/ ص 182)
    قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على أَن الإعتقاد الْجَازِم كَاف فِي النجَاة، خلافًا لمن أوجب تعلم الْأَدِلَّة وَجعله شرطا فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ كثير من الْمُعْتَزلَة وَقَول بعض الْمُتَكَلِّمين ،وَقَالَ النَّوَوِيّ: قد تظاهرت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي يحصل من عمومها الْعلم الْقطعِي بِأَن التَّصْدِيق الْجَازِم كَاف. قَالَ الإِمَام: المقترح اخْتلف النَّاس فِي وجوب الْمعرفَة على الْأَعْيَان، فَذهب قوم إِلَى أَنَّهَا لَا تجب، وَقوم إِلَى وُجُوبهَا، وَادّعى كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ الْإِجْمَاع على نقيض مَا ادّعى مخالفه، وَاسْتدلَّ النافون بِأَنَّهُ قد ثَبت من الْأَوَّلين قبُول كلمتي الشَّهَادَة من كل نَاطِق بهَا، وَإِن كَانَ من البله والمغفلين،وَلم يقل لَهُ: هَل نظرت أَو أَبْصرت؛ وَاسْتدلَّ المثبتون من الْأَوَّلين الْأَمر بهَا مثل ابْن مَسْعُود وَعلي ومعاذ رَضِي الله عَنْهُم،وَأَجَابُوا عَن الأول: بِأَن كلمتي الشَّهَادَة مَظَنَّة الْعلم، وَالْحكم فِي الظَّاهِر يدار على المظنة، وَقد كَانَ الْكَفَرَة يَذبُّونَ عَن دينهم، وَمَا رجعُوا إلاَّ بعد ظُهُور الْحق وَقيام علم الصدْق، وَالْمَقْصُود إخلاص العَبْد فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، فَلَا بُد أَن يكون على بَصِيرَة من أمره، وَلَقَد كَانُوا يفهمون الْكتاب الْعَرَبِيّ فهما وافيا بالمعاني، وَالْكتاب الْعَزِيز مُشْتَمل على الْحجَج والبراهين. قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ مُخْتَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْإِمَام المقترح، وَالْأول مُخْتَار الْأَكْثَرين وَالله أعلم

    ...........

    (ج1/ ص 183)
    قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين، فِي شَرحه فِي هَذَا الْبَاب: إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الْإِيمَان قَول بِلَا عمل، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض عَن غلاتهم: إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن مُظهِر الشَّهَادَتَيْن ِ يدْخل الْجنَّة وَإِن لم يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِه.
    .............
    (ج1/ ص 184 )
    ي قَوْله {بِمَا كُنْتُم} (الزخرف: 72) مَا هِيَ؟ قلت: يجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، فَالْمَعْنى: بكونكم عاملين، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، فَالْمَعْنى: بِالَّذِي كُنْتُم تعملونه. فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْآيَة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) ؟ قلت: الْبَاء فِي قَوْله: بِمَا كُنْتُم لَيست للسَّبَبِيَّة، بل للملابسة أَي: أورثتموها مُلَابسَة لأعمالكم، أَي: لثواب أَعمالكُم، أَو للمقابلة نَحْو: أَعْطَيْت الشَّاة بالدرهم. وَقَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: الْمَعْنى الثَّامِن للباء الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الأعواض: كاشتريته بِأَلف دِرْهَم، وَقَوْلهمْ: هَذَا بِذَاكَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وَإِنَّمَا لم نقدرها بَاء السَّبَبِيَّة كَمَا قَالَت الْمُعْتَزلَة، وكما قَالَ الْجَمِيع فِي: (لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) لِأَن الْمُعْطِي بعوض قد يُعْطي مجَّانا، وَأما الْمُسَبّب فَلَا يُوجد بِدُونِ السَّبَب، وَقد تبين أَنه لَا تعَارض بَين الحَدِيث وَالْآيَة لاخْتِلَاف محلي الْبَابَيْنِ جمعا بَين الْأَدِلَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو إِن الْجنَّة فِي تِلْكَ الْجنَّة جنَّة خَاصَّة أَي: تِلْكَ الْجنَّة الْخَاصَّة الرفيعة الْعَالِيَة بِسَبَب الْأَعْمَال، وَأما أصل الدُّخُول فبرحمة الله. قلت: أُشير بِهَذِهِ الْجنَّة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِيمَا قبلهَا، وَهِي الْجنَّة الْمَعْهُودَة، وَالْإِشَارَة تمنع مَا ذكره، وَقَالَ النَّوَوِيّ، فِي الْجَواب: إِن دُخُول الْجنَّة بِسَبَب الْعَمَل، وَالْعَمَل برحمة الله تَعَالَى. قلت: الْمُقدمَة الأولى مَمْنُوعَة لِأَنَّهَا تخَالف صَرِيح الحَدِيث فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا.
    ........
    (ج1/ ص 185)
    أَن الْجَمَاعَة الَّذين ذَهَبُوا إِلَى مَا ذكره نَحْو أنس بن مَالك وَعبد الله بن عمر وَمُجاهد بن جبر رَضِي الله عَنْهُم، وَأخرج التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا، عَن أنس: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} (الْحجر: 92) قَالَ: (عَن لَا إِلَه إِلَّا الله) وَفِي إِسْنَاده لَيْث بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَالَّذِي روى عَن ابْن عمر فِي (التَّفْسِير) للطبري وَفِي كتاب (الدُّعَاء) للطبراني، وَالَّذِي روى عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير عبد الرَّزَّاق وَغَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي الْآيَة وَجه آخر وَهُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى لنسألنهم عَن أَعْمَالهم كلهَا الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّكْلِيف؛ وَقَول من خص بِلَفْظ التَّوْحِيد دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل ثمَّ روى حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَضَعفه، وَقَالَ بَعضهم: لتخصيصهم، وَجه من جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: أَجْمَعِينَ، فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر، فَإِن الْكَافِر مُخَاطب بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خلاف، بِخِلَاف بَاقِي الْأَعْمَال فَفِيهَا الْخلاف، فَمن قَالَ إِنَّهُم مخاطبون يَقُول: إِنَّهُم مسؤولون عَن الْأَعْمَال كلهَا. وَمن قَالَ: إِنَّهُم غير مخاطبين، يَقُول: إِنَّمَا يسْأَلُون عَن التَّوْحِيد فَقَط، فالسؤال عَن التَّوْحِيد مُتَّفق عَلَيْهِ، فَحمل الْآيَة عَلَيْهِ أولى بِخِلَاف الْحمل على جَمِيع الْأَعْمَال لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف. قلت: هَذَا الْقَائِل قصد بِكَلَامِهِ الرَّد على النَّوَوِيّ، وَلكنه تاه فِي كَلَامه، فَإِن النَّوَوِيّ لم يقل بِنَفْي التَّخْصِيص لعدم التَّعْمِيم فِي الْكَلَام، وَإِنَّمَا قَالَ: دَعْوَى التَّخْصِيص بِلَا دَلِيل خارجي لَا تقبل،
    ..........
    (ج1/ ص 186)
    سعيد بن الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْيَاء على الْمَشْهُور، وَقيل بِالْكَسْرِ، وَكَانَ يكره فتحهَا، وَأما غير وَالِد سعيد فبالفتح من غير خلاف: كالمسيب بن رَافع، وَابْنه الْعَلَاء بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
    وَهُوَ زوج بنت أبي هُرَيْرَة، وَأعلم النَّاس بحَديثه، وروى عَنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، وَاتَّفَقُوا على جلالته وإمامته، وتقدمه على أهل عصره فِي الْعلم وَالتَّقوى، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي التَّابِعين أوسع علما مِنْهُ، وَقَالَ أَحْمد: سعيد أفضل التَّابِعين، فَقيل لَهُ: فسعيد عَن عمر حجَّة. قَالَ: فَإِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟
    وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (تَهْذِيب الْأَسْمَاء) : وَأما قَوْلهم: إِنَّه أفضل التَّابِعين، فمرادهم أفضلهم فِي عُلُوم الشَّرْع، وَإِلَّا فَفِي (صَحِيح) مُسلم عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِن خير التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ أويس، وَبِه بَيَاض، فَمُرُوهُ فليستغفر لكم) . وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: كَانَ صَالحا فَقِيها من الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَعور. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَ جده حزن أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ أَنْت سهل، قَالَ: لَا بل أَنا حزن، ثَلَاثًا، قَالَ سعيد: فَمَا زلنا نَعْرِف تِلْكَ الحزونة فِينَا، فَفِي وَلَده سوء خلق، وَكَانَ حج أَرْبَعِينَ حجَّة لَا يَأْخُذ الْعَطاء، وَكَانَ لَهُ بضَاعَة أَربع مائَة دِينَار يتجر بهَا فِي الزَّيْت، وَكَانَ جَابر بن الْأسود على الْمَدِينَة، فدعى سعيدا إِلَى الْبيعَة لِابْنِ الزبير فَأبى، فَضَربهُ سِتِّينَ سَوْطًا وَطَاف بِهِ الْمَدِينَة، وَقيل: ضربه هِشَام بن الْوَلِيد أَيْضا حِين امْتنع لِلْبيعَةِ للوليد وحبسه وحلقه، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو خمس وَتِسْعين فِي خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة: سنة الْفُقَهَاء، لِكَثْرَة من مَاتَ فِيهَا مِنْهُم. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) وَفِي نسب سعيد هَذَا يتفاضل النساب فِي تَحْقِيقه
    .......
    (ج1/ ص 187)
    والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وبالقاف: هُوَ لقب، واسْمه: الْحصين. قَالَ ابْن السّكيت لقب الزبْرِقَان لصفرة عمَامَته،
    ....
    (ج1/ ص 189)
    الاسلام خير؟ قَالَ: تطعم الطَّعَام، وتقرأ السَّلَام على من عرفت وَمن لم تعرف) . وَفِي حَدِيث ابي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ: (أَي الْإِسْلَام افضل؟ قَالَ: من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده) . وَفِي حَدِيث ابي ذَر، رَضِي الله عَنهُ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَالْجهَاد فِي سَبيله. قلت: فَأَي الرّقاب افضل؟ قَالَ: أغلاها ثمنا وأنفسها عِنْد أَهلهَا) الحَدِيث وَلم يذكر فِيهِ الْحَج، وَكلهَا فِي الصَّحِيح. قلت: قد ذكر الإِمَام الْحُسَيْن بن الْحسن بن مُحَمَّد بن حَكِيم الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي، عَن الْقفال الْكَبِير الشَّافِعِي الشَّاشِي، واسْمه ابو بكر مُحَمَّد بن عَليّ، فِي كَيْفيَّة الْجمع وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه جرى على اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، كَمَا رُوِيَ أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: حجَّة لمن يحجّ افضل من أَرْبَعِينَ غَزْوَة، وغزوة لمن حج أفضل من أَرْبَعِينَ حجَّة، وَالْآخر أَن لَفْظَة: من، مُرَادة، وَالْمرَاد من أفضل الْأَعْمَال، كَذَا. كَمَا يُقَال: فلَان أَعقل النَّاس، أَي من أعقلهم، وَمِنْه قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: (خَيركُمْ خَيركُمْ لأَهله) . وَمَعْلُوم انه لَا يصير بذلك خير النَّاس. قلت: وبالجواب الأول أجَاب القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: أعلم كل قوم بِمَا لَهُم إِلَيْهِ حَاجَة، وَترك مَا لم تَدعهُمْ إِلَيْهِ حَاجَة، أَو ترك مَا تقدم علم السَّائِل إِلَيْهِ أَو علمه بِمَا لم يكمله من دعائم الْإِسْلَام وَلَا بلغه عمله، وَقد يكون للمتأهل للْجِهَاد الْجِهَاد فِي حَقه أولى من الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد يكون لَهُ أَبَوَانِ لَو تَركهمَا لضاعا، فَيكون برهما أفضل، لقَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (ففيهما فَجَاهد) وَقد يكون الْجِهَاد أفضل من سَائِر الْأَعْمَال عِنْد اسْتِيلَاء الْكفَّار على بِلَاد الْمُسلمين. قلت: الْحَاصِل أَن اخْتِلَاف الْأَجْوِبَة، فِي هَذِه الْأَحَادِيث لاخْتِلَاف الْأَحْوَال، وَلِهَذَا سقط ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام فِي هَذَا الحَدِيث
    ........
    (ج1/ ص 190 )
    {قَالَت الاعراب} (الحجرات: 14) الْآيَة، وَهُوَ على انواع. الأول: فِي سَبَب نُزُولهَا، وَهُوَ مَا ذكره الواحدي: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أَعْرَاب من بني أَسد بن خُزَيْمَة قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فِي سنة جدبة، واظهروا الشَّهَادَتَيْن ِ وَلم يَكُونُوا مُؤمنين فِي السِّرّ، وافسدوا طرق الْمَدِينَة بالعذرات، واغلوا أسعارها، وَكَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَيْنَاك بالاثقال والعيال وَلم نقاتلك كَمَا قَاتلك بَنو فلَان، فَأَعْطِنَا من الصَّدَقَة، وَجعلُوا يمنون عَلَيْهِ، فَانْزِل الله تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة
    ..........
    (ج1/ ص 190)
    (الاعراب) هم: أهل البدو قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ وَفِي (الْعباب) : وَلَا وَاحِد للأعراب، وَلِهَذَا نسب إِلَيْهَا وَلَا ينْسب إِلَى الْجمع وَلَيْسَت الْأَعْرَاب جمعا للْعَرَب كَمَا كَانَت الأنباط جمعا للنبط، وَإِنَّمَا الْعَرَب اسْم جنس، سميت الْعَرَب لِأَنَّهُ نَشأ أَوْلَاد أسماعيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بعربة، وَهِي من تهَامَة، فنسبوا إِلَى بلدهم، وكل من سكن بِلَاد الْعَرَب وجزيرتها ونطق بِلِسَان اهلها فَهُوَ عرب: يمنهم ومعدهم، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وَالْأَقْرَب عِنْدِي أَنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وَقَالَ اسحق بن الْفرج: عربة باجة الْعَرَب، وباجة الْعَرَب دَار أبي الفصاحة اسماعيل بن ابراهيم عَلَيْهِمَا السَّلَام، قَالَ: وفيهَا يَقُول قَائِلهمْ:
    (وعربة أَرض مَا يُحِلُّ حرامَها ... من النَّاس إلاَّ اللوذعيُّ الحُلاحل)
    يعْنى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احلت لَهُ مَكَّة سَاعَة من نَهَار، ثمَّ هِيَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
    ...........
    (ج1/ ص 192)
    ان البُخَارِيّ اسْتدلَّ بهَا على أَن الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الدّين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن الدّين هُوَ الاسلام، فَلَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا، وَاسْتدلَّ بهَا أَيْضا على أَن الْإِسْلَام والايمان وَاحِد، وأنهما مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُحدثين، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة والمتكلمين؛ وَقَالُوا أَيْضا: إِنَّه اسْتثْنى الْمُسلمين من الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} (الذاريات: 35) وَالْأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء أَن يكون الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيكون الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان، وعورض بقوله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} (الحجرات: 14) فَلَو كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِدًا لزم إِثْبَات شَيْء ونفيه فِي حَالَة وَاحِدَة، وانه محَال
    الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ مثل مَا اسْتدلَّ بقوله: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على اتِّحَاد الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَان الْإِيمَان لَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا. واجيب: بِأَن الْمَعْنى: وَمن يبتغ دينا غير دين مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَنْ يقبل مِنْهُ. قلت: ظَاهره يدل على أَنه لَو كَانَ الْإِيمَان غير الاسلام لم يقبل قطّ، فَتعين أَن يكون عينه، لَان الْإِيمَان هُوَ الدّين، وَالدّين هُوَ الاسلام، لقَوْله تَعَالَى: {ان الدّين عِنْد الله الاسلام} (آل عمرَان: 19) فينتج أَن الْإِيمَان هُوَ الْإِسْلَام، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أول كتاب الايمان.
    ............
    (ج1/ ص 192)
    قال البخاري رحمه الله :


    حدّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ أخبْرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبى وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضى الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى رَهْطاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ فَتَرَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاً هُوَ أعْجَبُهُمْ إلَيّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ فَوَاللهِ إنّي لأَرَاِهُ مُؤْمِنَا فقالَ أوْ مُسْلِماً فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُم غَلَبَنِى مَا أعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ

    اخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن ابي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَأخرجه فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عَزِيز حَدثنَا يَعْقُوب بن ابراهيم عَن ابيه عَن صَالح، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ عَن عَامر. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَالزَّكَاة، عَن ابْن عمر وَعَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ


    قد اعْترض على مُسلم فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث فِي قَوْله: عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَرَوَاهُ الْحميدِي، وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن الصَّباح الجرجراي، كلهم عَن سُفْيَان عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن سفيانٍ ذكره الدَّارَقُطْنِي ّ فِي الاستدراكات على مُسلم، وَأجَاب النَّوَوِيّ بِأَنَّهُ يحْتَمل ان سُفْيَان سَمعه من الزُّهْرِيّ مرّة]


    قال العيني

    من معمر عَن الزُّهْرِيّ، فَرَوَاهُ على الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ بعض الشُّرَّاح: وَفِيمَا ذكره نظر، وَلم يبين وَجهه، وَوَجهه ان مُعظم الرِّوَايَات فِي الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِزِيَادَة معمر بَينهمَا، وَالرِّوَايَات قد تظافرت عَن ابْن عُيَيْنَة باثبات معمر، وَلم يُوجد بإسقاطه إلاَّ عِنْد مُسلم، وَالْمَوْجُود فِي مُسْند شيخ مُسلم، مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر بِلَا إِسْقَاط، وَكَذَلِكَ اخْرُج ابو نعيم فِي مستخرجه من طَرِيقه، وَزعم ابو مَسْعُود فِي (الْأَطْرَاف) أَن الْوَهم من ابْن ابي عمر، وَيحْتَمل ذَلِك بِأَن صدر مِنْهُ الْوَهم لما حدث بِهِ مُسلما، وَلَكِن هَذَا احْتِمَال غير مُتَعَيّن، وَيحْتَمل ان يكون الْوَهم من مُسلم، وَيحْتَمل ان يكون مثل مَا قَالَه النَّوَوِيّ، وَبَاب الِاحْتِمَالَات مَفْتُوح

    ...........
    (ج1/ ص 193)
    الَ ابْن التياني: قَالَ ابو زيد: الرَّهْط مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال، وَقَالَ صَاحب (الْعين) الرَّهْط عدد جمع من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، وَبَعض يَقُول من سَبْعَة إِلَى عشرَة، وَمَا دون السَّبْعَة إِلَى الثَّلَاثَة نفر
    .......
    ..........
    .........
    (ج1/ ص 195)
    قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا سعد إِنِّي لاعطي الرجل) الخ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك مَا رُوِيَ فِي مُسْند مُحَمَّد بن هَارُون الرَّوْيَانِيّ وَغَيره، بِإِسْنَادِهِ صَحِيح إِلَى أبي سَالم الجيشاني: (عَن أبي ذَر، رَضِي الله عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: كَيفَ ترى جعيلا؟ قَالَ: قلت: كشكله من النَّاس، يَعْنِي الْمُهَاجِرين. قَالَ: فَكيف ترى فلَانا؟ قَالَ: قلت: سيداً من سَادَات النَّاس. قَالَ: فجعيل خير من مَلأ الأَرْض من فلَان. قَالَ: قلت: ففلان هَكَذَا وانت تصنع بِهِ مَا تصنع! قَالَ: إِنَّه رَأس قومه. فَأَنا أتألفهم بِهِ) . انْتهى فَهَذِهِ منزلَة جعيل، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك علم أَن حرمانه وَإِعْطَاء غَيره كَانَ لمصْلحَة التَّأْلِيف.
    ........
    (ج1/ ص 195)
    جَوَاز قَول الْمُسلم: أَنا مُؤمن، مُطلقًا من غير تَقْيِيده بقوله: ان شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ القَاضِي: فِيهِ حجَّة لمن يَقُول بِجَوَاز قَوْله: أَنا مُؤمن، من غير اسْتثِْنَاء، ورد على من أَبَاهُ. وَقد اخْتلف فِيهَا من لدن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وكل قَول إِذا حقق كَانَ لَهُ وَجه، فَمن لم يسْتَثْن أخبر عَن حكمه فِي الْحَال، وَمن اسْتثْنى أَشَارَ إِلَى غيب مَا سبق لَهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَإِلَى التَّوسعَة فِي الْقَوْلَيْنِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وَهُوَ قَول أهل التَّحْقِيق نظرا إِلَى مَا قدمْنَاهُ، ورفعا للْخلاف
    ........
    (ج1/ ص 195)
    خْتلف الْعلمَاء فِي يَمِين اللَّغْو على سِتَّة اقوال: أَحدهَا: قَول مَالك كَمَا ذَكرُوهُ عَنهُ، وَقَالَ الشَّافِعِي: هِيَ أَن يسْبق لِسَانه إِلَى الْيَمين من غير أَن يقْصد الْيَمين، كَقَوْل الْإِنْسَان: لَا وَالله وبلى وَالله وَاسْتدلَّ بِمَا رُوِيَ عَن عائشةِ رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: (إِن لَغْو الْيَمين قَول الْإِنْسَان لَا وَالله وبلى وَالله) . وَحكى ذَلِك مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَأما الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا أَن: لَغْو الْيَمين هُوَ الْحلف على أَمر يَظُنّهُ كَمَا قَالَ، وَالْحَال أَنه خِلَافه
    كَقَوْلِه فِي الْمَاضِي: وَالله مَا دخلت الدَّار، وَهُوَ يظنّ أَنه لم يدخلهَا، وَالْأَمر خلاف ذَلِك،وَفِي الْحَال عَمَّن يقبل: وَالله إِنَّه لزيد، وَهُوَ يظنّ أَنه زيد فَإِذا هُوَ عَمْرو.
    .........
    (ج1/ ص 196)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا الحَدِيث أصح دَلِيل على الْفرق بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وان الْإِيمَان بَاطِن وَمن عمل الْقلب، وَالْإِسْلَام ظَاهر وَمن عمل الْجَوَارِح، لَكِن لَا يكون مُؤمن إلاَّ مُسلما، وَقد يكون مُسلم غير مُؤمن، وَلَفظ هَذَا الحَدِيث يدل عَلَيْهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث ظَاهره يُوجب الْفرق بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان،فَيُقَال لَهُ: مُسلم،أَي: مستسلم،وَلَا يُقَال لَهُ: مُؤمن، وَهُوَ معنى الحَدِيث. قَالَ الله تَعَالَى: {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} (الحجرات: 14) أَي: استسلمنا. وَقد يتفقان فِي اسْتِوَاء الظَّاهِر وَالْبَاطِن،فَيُقَال للْمُسلمِ: مُؤمن،وللمؤمن: مُسلم.
    .......
    (ج1/ ص 196)
    وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله بن البيع فِي كتاب (الْمدْخل) : وَمِمَّا عيب على البُخَارِيّ وَمُسلم إخراجهما حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أخي الزُّهْرِيّ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْأُصُول، وَمُسلم فِي الشواهد،وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ فِيهِ ابْن معن: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: وَلم أر بحَديثه بَأْسا، وَلَا رَأَيْت لَهُ حَدِيثا مُنْكرا. وَقَالَ عَبَّاس عَن يحيى بن معِين: ابْن أخي الزُّهْرِيّ أمثل من أبي أويس،وَقَالَ مرّة فِيهِ: لَيْسَ بذلك الْقوي. قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَتله غلمانه بِأَمْر ابْنه، وَكَانَ ابْنه سَفِيها شاطرا، قَتله للميراث فِي آخر خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، توفّي أَبُو جَعْفَر سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة، ثمَّ وثب غلمانه على ابْنه بعد سِنِين فَقَتَلُوهُ، وَجزم النَّوَوِيّ فِي شَرحه بِأَن مُحَمَّدًا هَذَا، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة

  6. #226
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم :الأربعاء
    الموافق : 18/ شوال/1441 هجري
    الموافق : 10/ يونيو / 2020 ميلادي

    " الحمد لله ختم المجلد الأول من تلخيص " عمدة القاري " ويليه المجلد الثاني

    باب افشاء السلام من الإسلام " ]
    (ج1/ ص 196)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: وياسر رهن فِي الْقمَار هُوَ ووالده وَولده، فقمروهم فصاروا بذلك عبيدا للقامر، فأعزهم الله بِالْإِسْلَامِ. وعمار أول من بنى مَسْجِدا لله فِي الله، بنى مَسْجِد قبَاء، وَلما قتل دَفنه عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، بثيابه حسب مَا أوصاه بِهِ ثمَّة وَلم يغسلهُ. وَقَالَ صَاحب (الِاسْتِيعَاب) : وروى أهل الْكُوفَة أَنه صلى عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبهم فِي الشُّهَدَاء أَنهم لَا يغسلونهم، وَلَكِن يصلى عَلَيْهِم، وَقَالَ مُسَدّد: لم يكن فِي الْمُهَاجِرين أحد أَبَوَاهُ مسلمان غير عمار بن يَاسر. قلت: وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أسلم أَبَوَاهُ. وَفِي (شرح قطب الدّين) : وَكَانَ أَبُو يَاسر خَالف أَبَا حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، وَلما قدم يَاسر من الْيمن إِلَى مَكَّة زوجه أَبُو حُذَيْفَة أمة لَهُ يُقَال لَهَا: سميَّة، فَولدت لَهُ عمارا، فَأعْتقهَا أَبُو حُذَيْفَة. وعمار روى لَهُ الْجَمَاعَة.
    ........
    (ج1/ ص 199)
    وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شَرحه: مُرَاد المُصَنّف أَن يبين أَن الطَّاعَات كَمَا تسمى إِيمَانًا كَذَلِك الْمعاصِي تسمى كفرا، لَكِن حَيْثُ يُطلق عَلَيْهَا الْكفْر لَا يُرَاد بِهِ الْكفْر الْمخْرج عَن الْملَّة،
    .........
    (ج1/ ص200)
    تَحْقِيق ذَلِك مَا قَالَه الْأَزْهَرِي: الْكفْر بِاللَّه أَنْوَاع: إِنْكَار، وجحود، وعناد، ونفاق. وَهَذِه الْأَرْبَعَة من لقى الله تَعَالَى بِوَاحِد مِنْهَا لم يغْفر لَهُ. فَالْأول: أَن يكفر بِقَلْبِه وَلسَانه، وَلَا يعرف مَا يذكر لَهُ من التَّوْحِيد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم} (الْبَقَرَة: 6) الْآيَة أَي: الَّذين كفرُوا بِالتَّوْحِيدِ وأنكروا مَعْرفَته. وَالثَّانِي: أَن يعرف بِقَلْبِه وَلَا يقر بِلِسَانِهِ، وَهَذَا ككفر إِبْلِيس وبلعام وَأُميَّة بن أبي الصَّلْت. وَالثَّالِث: أَن يعرف بِقَلْبِه ويقر بِلِسَانِهِ، ويأبى أَن يقبل الْإِيمَان بِالتَّوْحِيدِ ككفر أبي طَالب. وَالرَّابِع: أَن يقر بِلِسَانِهِ وَيكفر بِقَلْبِه ككفر الْمُنَافِقين. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَيكون الْكفْر بِمَعْنى الْبَرَاءَة، كَقَوْلِه تَعَالَى، حِكَايَة عَن الشَّيْطَان: {إِنِّي كفرت بِمَا أشركتمون من قبل} (إِبْرَاهِيم:
    .....
    (ج1/ ص 201)
    وَكثير مِمَّن يعد أَحَادِيث البُخَارِيّ يظنّ أَن مثل هَذَا الحَدِيث حديثان أَو أَكثر لاخْتِلَاف ابْتِدَاء الحَدِيث، فَمن ذَلِك قَالُوا عدَّة أَحَادِيثه بِغَيْر تكْرَار أَرْبَعَة آلَاف أَو نَحْوهَا، وَكَذَا ذكر ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ وَمن بعدهمَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل إِذا حرر ذَلِك لَا يزِيد على ألفي حَدِيث وَخَمْسمِائة حَدِيث وَثَلَاثَة عشر حَدِيثا
    ............
    (ج1/ ص 202 )
    (ناقصات عقل) ، اخْتلفُوا فِي الْعقل، فَقيل: هُوَ الْعلم، لِأَن الْعقل وَالْعلم فِي اللُّغَة وَاحِد، وَلَا يفرقون بَين قَوْلهم: عقلت وَعلمت، وَقيل: الْعقل بعض الْعُلُوم الضرورية، وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين حقائق المعلومات. وَاخْتلفُوا فِي مَحَله، فَقَالَ المتكلمون هُوَ فِي الْقلب. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: هُوَ فِي الرَّأْس، وَالله تَعَالَى أعلم.
    ...........
    [بَاب المَعَاصِي مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكابِهَا إلاَّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِليَّةٌ وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .)
    (ج1/ ص 206)
    * الرَّد على الرافضة والأباضية وَبَعض الْخَوَارِج فِي قَوْلهم: إِن المذنبين من الْمُؤمنِينَ مخلدون فِي النَّار بِذُنُوبِهِمْ، وَقد نطق الْقُرْآن بتكذيبهم فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} (النِّسَاء:
    *عِنْد الْخَوَارِج: فالكبيرة مُوجبَة للكفر، وَعند الْمُعْتَزلَة مُوجبَة للمنزلة بَين المنزلتين صَاحبهَا لَا مُؤمن وَلَا كَافِر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَفْهُوم من الْآيَة أَن مرتكب الشّرك لَا يغْفر لَهُ لَا أَنه يكفر، والترجمة إِنَّمَا هِيَ فِي الْكفْر لَا فِي الغفر. قلت: الْكفْر وَعدم الغفر عندنَا متلازمان؛ نعم، عِنْد الْمُعْتَزلَة صَاحب الْكَبِيرَة الَّذِي لم يتب مِنْهَا غير مغْفُور لَهُ، بل يخلد فِي النَّار. فِي الْكَلَام لف وَنشر، وَمذهب أهل الْحق على أَن من مَاتَ موحدا لَا يخلد فِي النَّار وَإِن ارْتكب من الْكَبَائِر غير الشّرك مَا ارْتكب، وَقد جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، مِنْهَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (وَإِن زنى وَإِن سرق) ، وَالْمرَاد بِهَذِهِ الْآيَة: من مَاتَ على الذُّنُوب من غير تَوْبَة، وَلَو كَانَ المُرَاد: من تَابَ قبل الْمَوْت، لم يكن للتفرقة بَين الشّرك وَغَيره معنى، إِذْ التائب من الشّرك قبل الْمَوْت مغْفُور لَهُ، وَيُقَال: المُرَاد بالشرك فِي هَذِه الْآيَة الْكفْر، لِأَن من جحد نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا كَانَ كَافِرًا وَلَو لم يَجْعَل مَعَ الله، إلاها آخر، وَالْمَغْفِرَة منتفية عَنهُ بِلَا خلاف
    *مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى وَحشِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! أَتَيْتُك مستجيرا فأجرني حَتَّى أسمع كَلَام الله، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قد كنت أحب أَن أَرَاك على غير جوَار، فَأَما إِذا أتيتني مستجيرا فَأَنت فِي جواري حَتَّى تسمع كَلَام الله. قَالَ: فَإِنِّي أشركت بِاللَّه، وَقتلت النَّفس الَّتِي حرم الله، وزنيت فَهَل يقبل الله تَعَالَى مني تَوْبَة؟ فَصمت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أنزلت: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} (الْفرْقَان: 68) إِلَى آخر الْآيَة فَتَلَاهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أرى شرطا فلعلي لَا أعمل صَالحا، أَنا فِي جوارك حَتَّى أسمع كَلَام الله، فَنزلت: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} (النِّسَاء: 48 و 116) فَدَعَا بِهِ فَتَلَاهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: لعَلي مِمَّن لَا يَشَاء الله؟ أَنا فِي جوارك حَتَّى أسمع كَلَام الله، فَنزلت: {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} (الزمر: 53) فَقَالَ: نعم الْآن لَا أرى شرطا، فَأسلم)
    ...........
    (ج1/ ص 205 )
    (خولكم) بِفَتْح الْوَاو، وخول الرجل: حشمه، الْوَاحِد خايل، وَقد يكون الخول وَاحِدًا وَهُوَ اسْم يَقع على العَبْد وَالْأمة. قَالَ الْفراء: هُوَ جمع: خايل، وَهُوَ الرَّاعِي. وَقَالَ غَيره: هُوَ من التخويل، وَهُوَ التَّمْلِيك وَقيل: الخول الخدم، وَسموا بِهِ لأَنهم يتخولون الْأُمُور، أَي يصلحونها. وَقَالَ القَاضِي: أَي خدمكم وعبيدكم الَّذين يتخولون أُمُوركُم، أَي: يصلحون أُمُوركُم، ويقومون بهَا. يُقَال: خَال المَال يخوله إِذا أحسن الْقيام عَلَيْهِ، وَيُقَال: هُوَ لفظ مُشْتَرك، تَقول خَال المَال وَالشَّيْء يخول، وخلت أخول خولاً إِذا أسست الشَّيْء، وتعاهدته وأحسنت الْقيام عَلَيْهِ، والخايل: الْحَافِظ، وَيُقَال: خايل المَال، وخايل مَال، وخولي مَال، وخوله الله الشَّيْء: أَي ملكه إِيَّاه.
    ......
    (ج1/ ص 208)
    في حديث قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إخْوَانكُمْ، جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم، فَمن كَانَ لَهُ أخوة تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل، وليلبسه مِمَّا يلبس، وَلَا يكلفه مَا يغلبه، فَإِن كلفه مَا يغلبه فليعنه)
    وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم: (فليبعه) مَوضِع: (فليعنه) . قَالَ القَاضِي: هَذَا وهم، وَالصَّوَاب: (فليعنه) ، كَمَا رَوَاهُ الْجُمْهُور.
    .............
    [(بَاب {وإنْ طَائِفَتَانِ مِنْ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَسَمَّاهُمُ المُؤْمِنِينَ} )
    (ج1/ ص 208)
    مُول على قتال العصبية وَنَحْوه، وَقد ذكر الواحدي وَغَيره أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا جَاءَ عَن أنس، قَالَ: (قيل: يَا نَبِي الله لَو أتيت عبد الله بن أبي، فَانْطَلق إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يركب حِمَاره، وَانْطَلق الْمُسلمُونَ يَمْشُونَ، وَهِي أَرض سبخَة، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِلَيْك، فوَاللَّه لقد آذَانِي نَتن حِمَارك، فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار: وَالله لحِمَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطيب ريحًا مِنْك، فَغَضب لعبد الله رجل من قومه، وَغَضب لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَصْحَابه، وَكَانَ بَينهمَا ضرب بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنعال) .
    .............
    (ج1/ ص 210)
    وَعَن الفضيل بن عِيَاض قَالَ: سَأَلت هِشَام بن حسان: كم أدْرك الْحسن من الصَّحَابَة؟ قَالَ: مائَة وَثَلَاثِينَ. قَالَ: وَابْن سِيرِين قَالَ: ثَلَاثِينَ، وَلم يَصح لِلْحسنِ سَماع عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ ابْن معِين: لم يسمع الْحسن من أبي بكرَة ولامن جَابر بن عبد الله وَلَا من أبي هُرَيْرَة. وَسُئِلَ أَبُو زرْعَة: ألقِي الْحسن أحدا من الْبَدْرِيِّينَ ؟ قَالَ: رَآهُمْ رُؤْيَة، رأى عُثْمَان وعليا، قيل لَهُ: سمع مِنْهُمَا؟ قَالَ: لَا، كَانَ الْحسن يَوْم بُويِعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ، ابْن أَربع عشرَة سنة، رأى عليا بِالْمَدِينَةِ ثمَّ خرج عَليّ إِلَى الْكُوفَة وَالْبَصْرَة وَلم يلقه الْحسن بعد ذَلِك. قَالَ أَبُو زرْعَة: لم يسمع الْحسن من أبي هُرَيْرَة وَلَا رَآهُ، وَمن قَالَ فِي الحَدِيث عَن الْحسن: ثَنَا أَبُو هُرَيْرَة، فقد أَخطَأ، وَلم يسمع من ابْن عَبَّاس، وَسمع من ابْن عمر حَدِيثا وَاحِدًا، وَعَن أبي رَجَاء قَالَ: قلت لِلْحسنِ: مَتى خرجت من الْمَدِينَة؟ قَالَ: عَام صفّين. قلت: فَمَتَى احْتَلَمت؟ قَالَ: عَام صفّين. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ الْحسن جَامعا عَالما فَقِيها ثِقَة مَأْمُونا عابدا ناسكا كثير الْعلم فصيحا جميلاً وسيما، قدم مَكَّة فَأَجْلَسُوهُ وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ، فيهم طَاوس وَعَطَاء وَمُجاهد وَعَمْرو بن شُعَيْب، فَحَدثهُمْ فَقَالُوا أَو قَالَ بَعضهم: لم نر مثل هَذَا قطّ. توفّي سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، وَتُوفِّي بعده ابْن سِيرِين بِمِائَة يَوْم، روى لَهُ الْجَمَاعَة.

    .........
    (ج1/ ص 211)
    روى لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا عَن الْحسن عَن الْأَحْنَف، وَرَوَاهُ فِي الْفِتَن عَن الْحسن، وَأنكر يحيى بن معِين وَالدَّارَقُطْن ِيّ سَماع الْحسن من أبي بكرَة. قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: بَينهمَا الْأَحْنَف، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَكَذَا رَوَاهُ هِشَام بن
    لْمُعَلَّى بن زِيَاد عَن الْحسن، وَذهب غَيرهمَا إِلَى صِحَة سَمَاعه مِنْهُ،وَاسْتدلَّ بِمَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن فِي بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن ابْني هَذَا سيد) عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن إِسْرَائِيل،فَذكر الحَدِيث وَفِيه: قَالَ الْحسن: (لقد سَمِعت أَبَا بكرَة قَالَ: بَينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب) قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: إِنَّمَا صَحَّ عندنَا سَماع الْحسن من أبي بكرَة بِهَذَا الحَدِيث. قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: هَذَا الْحسن الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي قَالَ فِيهِ: سَمِعت أَبَا بكرَة إِنَّمَا هُوَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَلَيْسَ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ، فَمَا قَالَه غير صَحِيح وَالله أعلم.
    ........
    (ج1/ ص 212*)
    روى لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا عَن الْحسن عَن الْأَحْنَف، وَرَوَاهُ فِي الْفِتَن عَن الْحسن، وَأنكر يحيى بن معِين وَالدَّارَقُطْن ِيّ سَماع الْحسن من أبي بكرَة. قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: بَينهمَا الْأَحْنَف، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَكَذَا رَوَاهُ هِشَام بن
    لْمُعَلَّى بن زِيَاد عَن الْحسن، وَذهب غَيرهمَا إِلَى صِحَة سَمَاعه مِنْهُ،وَاسْتدلَّ بِمَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن فِي بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن ابْني هَذَا سيد) عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن إِسْرَائِيل،فَذكر الحَدِيث وَفِيه: قَالَ الْحسن: (لقد سَمِعت أَبَا بكرَة قَالَ: بَينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب) قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: إِنَّمَا صَحَّ عندنَا سَماع الْحسن من أبي بكرَة بِهَذَا الحَدِيث. قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: هَذَا الْحسن الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي قَالَ فِيهِ: سَمِعت أَبَا بكرَة إِنَّمَا هُوَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَلَيْسَ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ، فَمَا قَالَه غير صَحِيح وَالله أعلم
    .......
    (ج1/ ص 212)
    قَالَ القَاضِي: فِيهِ حجَّة للْقَاضِي أبي بكر بن الطّيب،وَمن قَالَ بقوله: إِن الْعَزْم على الذَّنب وَالْعقد على عمله مَعْصِيّة بِخِلَاف الْهم المعفو عَنهُ،قَالَ: وللمخالف لَهُ أَن يَقُول: هَذَا قد فعل أَكثر من الْعَزْم، وَهُوَ المواجهة والقتال. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْأول هُوَ الصَّحِيح. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن من نوى الْمعْصِيَة وأصر عَلَيْهَا يكون آثِما، وَإِن لم يعملها وَلَا تكلم. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن من عزم على الْمعْصِيَة بِقَلْبِه ووطن نَفسه عَلَيْهَا أَثم فِي اعْتِقَاده وعزمه، وَلِهَذَا جَاءَ بِلَفْظ الْحِرْص فِيهِ،وَيحمل مَا وَقع من نَحْو قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن الله تجَاوز لأمتي عَن مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يتكلموا أَو يعلمُوا بِهِ) . وَفِي الحَدِيث الآخر: (إِذا هم عَبدِي بسيئة فَلَا تكتبوها عَلَيْهِ) ، على أَن ذَلِك فِيمَا إِذا لم يوطن نَفسه عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مر ذَلِك بفكره من غير اسْتِقْرَار، وَيُسمى هَذَا هما وَيفرق بَين الْهم والعزم، وَإِن عزم تكْتب سَيِّئَة، فَإِذا عَملهَا كتبت مَعْصِيّة ثَانِيَة.
    .........
    (ج1/ ص 214)
    وَقَالَ يحيى الْقطَّان: الْأَعْمَش من النساك المحافظين على الصَّفّ الأول، وَكَانَ عَلامَة الْإِسْلَام،وَقَالَ وَكِيع: بَقِي الْأَعْمَش قَرِيبا من سبعين سنة لم تفته التَّكْبِيرَة الأولى،وَكَانَ شُعْبَة إِذا ذكر الْأَعْمَش قَالَ: الْمُصحف الْمُصحف، سَمَّاهُ الْمُصحف لصدقه،وَكَانَ يُسمى: سيد الْمُحدثين، وَكَانَ فِيهِ تشيع، وَنسب إِلَى التَّدْلِيس
    ...........
    (ج1/ ص 214)
    إِن قلت: المعنعن إِذا كَانَ مدلسا لَا يحمل حَدِيثه على السماع، إِلَّا أَن يبين،فَيَقُول: حَدثنَا، أَو أخبرنَا، أَو سَمِعت، أَو مَا يدل على التحديث. قلت: قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من ذَلِك عَن المدلسين: كالسفيانين وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة وَغَيرهم، فَمَحْمُول على ثُبُوت السماع عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق آخر، وَقد ذكر الْخَطِيب عَن بعض الْحفاظ، أَن الْأَعْمَش يُدَلس عَن غير الثِّقَة، بِخِلَاف سُفْيَان فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُدَلس عَن ثِقَة. وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا بُد أَن يبين حَتَّى يعرف، وَالله أعلم، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
    .........
    (بابُ عَلاَماتِ المُنَافِقِ)
    (ج1/ ص 216)
    أَن الْمُنَافِق هُوَ الْمظهر لما يبطن خِلَافه. وَفِي الِاصْطِلَاح: هُوَ الَّذِي يظْهر الْإِسْلَام ويبطن الْكفْر، فَإِن كَانَ فِي اعْتِقَاد الْإِيمَان فَهُوَ نفاق الْكفْر وإلاَّ فَهُوَ نفاق الْعَمَل، وَيدخل فِيهِ الْفِعْل وَالتّرْك، وتتفاوت مراتبه. قلت: هَذَا التَّفْسِير تَفْسِير الزنديق الْيَوْم،وَلِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ عَن مَالك: إِن النِّفَاق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الزندقة الْيَوْم عندنَا. فَإِن قيل: الْمُنَافِق من بَاب المفاعلة، وَأَصلهَا أَن تكون لإثنين. أُجِيب: بِأَن مَا جَاءَ على هَذَا عِنْدهم لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة خَادع وراوغ،وَقيل: بل لِأَنَّهُ يُقَابل بِقبُول الْإِسْلَام مِنْهُ، فَإِن علم أَنه مُنَافِق فقد صَار الْفِعْل من اثْنَيْنِ، وَسمي الثَّانِي باسم الأول مجَازًا للازدواج
    .......
    (ج1/ ص 217)
    إِن أَحْوَال الْقلب أَرْبَعَة،وَهِي: الِاعْتِقَاد الْمُطلق عَن الدَّلِيل وَهُوَ: الْعلم. والاعتقاد الْمُطلق لَا عَن الدَّلِيل وَهُوَ: اعْتِقَاد الْمُقَلّد. والاعتقاد الْغَيْر المطابق وَهُوَ: الْجَهْل. وخلو الْقلب عَن ذَلِك، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقسَام،وَأما أَحْوَال اللِّسَان فَثَلَاثَة: الْإِقْرَار وَالْإِنْكَار وَالسُّكُوت، فَيحصل من ذَلِك اثْنَا عشر قسما. الأول: مَا إِذا حصل الْعرْفَان بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، فَهَذَا الْإِقْرَار إِن كَانَ اختباريا فصاحبه مُؤمن حَقًا، وَإِن كَانَ اضطراريا فَهُوَ كَافِر فِي الظَّاهِر. الثَّانِي: أَن يحصل الْعرْفَان القلبي وَالْإِنْكَار اللساني، فَهَذَا الْإِنْكَار إِن كَانَ اضطراريا فصاحبه مُسلم، وَإِن كَانَ اختياريا كَانَ كَافِرًا معاندا. الثَّالِث: أَن يحصل الْعرْفَان القلبي، وَيكون اللِّسَان خَالِيا عَن الْإِنْكَار وَالْإِقْرَار، فَهَذَا السُّكُوت إِمَّا أَن يكون إضطراريا أَو اختياريا، فَإِن كَانَ اضطراريا فَهُوَ مُسلم حَقًا. وَمِنْه مَا إِذا عرف الله تَعَالَى بدليله، ثمَّ لما تمم النّظر مَاتَ فَجْأَة، فَهَذَا مُؤمن قطعا؛ وَإِن كَانَ اختياريا فَهُوَ كمن عرف الله بدليله ثمَّ إِنَّه لم يَأْتِ بِالْإِقْرَارِ،فَقَالَ الْغَزالِيّ: إِنَّه مُؤمن. الرَّابِع: اعْتِقَاد الْمُقَلّد لَا يَخْلُو مَعَه
    الاقرار وَالْإِنْكَار أَو السُّكُوت، فَإِن كَانَ مَعَه الْإِقْرَار وَكَانَ اختياريا فَهُوَ إِيمَان الْمُقَلّد، وَهُوَ صَحِيح، خلافًا للْبَعْض. وَإِن كَانَ اضطراريا فَهَذَا يفرع على الصُّورَة الأولى، فَإِن حكمنَا هُنَاكَ بالأيمان وَجب أَن نحكم هَهُنَا بالنفاق
    أَن يكون مَعَه السُّكُوت، فَحكمه حكم الْقسم الثَّالِث اضطراريا أَو اختياريا. السَّابِع: الانكار القلبي، فإمَّا أَن يُوجد مَعَه الْإِقْرَار أَو الْإِنْكَار أَو السُّكُوت، فَإِن كَانَ مَعَه الْإِقْرَار فَإِن كَانَ اضطراريا فَهُوَ مُنَافِق، وَإِن كَانَ اختياريا فَهُوَ كفر الْجُحُود والعناد، وَهُوَ أَيْضا قسم من النِّفَاق وَهُوَ الْقسم الثَّامِن. التَّاسِع: أَن يُوجد الْإِنْكَار بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِنْكَار القلبي، فَهَذَا كَافِر. الْعَاشِر: القلبي الْخَالِي فَإِن كَانَ مَعَه الْإِقْرَار فَإِن كَانَ اختياريا يخرج من الْكفْر، وَإِن كَانَ اضطراريا لم يكفر. الْحَادِي عشر: الْقلب الْخَالِي مَعَ الْإِنْكَار بِاللِّسَانِ فَحكمه على الْعَكْس مَعَ حكم الْقسم الْعَاشِر. الثَّانِي عشر: الْقلب الْخَالِي مَعَ اللِّسَان الْخَالِي، فَهَذَا إِن كَانَ فِي مهلة النّظر فَذَاك هُوَ الْوَاجِب، وَإِن كَانَ خَارِجا عَن مهلة النّظر وَجب تكفيره، وَلَا يحكم بالنفاق الْبَتَّةَ؛ وَقد ظهر من هَذَا النِّفَاق الَّذِي لَا يُطَابق ظَاهره بَاطِنه، فَافْهَم
    ........
    (ج1/ ص 221)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَتَيْن ِ من ثَلَاث خِصَال كَمَا فِي الحَدِيث الأول،أَو: أَربع خِصَال، كَمَا فِي الحَدِيث الآخر، لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد قد يكون لَهُ عَلَامَات كل وَاحِدَة مِنْهَا يحصل بهَا صفة، قد تكون تِلْكَ الْعَلامَة شَيْئا وَاحِدًا،وَقد تكون أَشْيَاء وروى أَبُو أُمَامَة مَوْقُوفا: (وَإِذا غنم غل، وَإِذا أُمر عصى، وَإِذا لَقِي جبن) . وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَا مُنَافَاة، لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد قد يكون لَهُ عَلَامَات، فَتَارَة يذكر بَعْضهَا، وَأُخْرَى جَمِيعهَا أَو أَكْثَرهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، استجد لَهُ من الْعلم بخصالهم مَا لم يكن عِنْده. قلت: الأولى أَن يُقَال: إِن التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على الزَّائِد والناقص،وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ بَين الْحَدِيثين تعَارض لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عد الْخصْلَة كَونهَا عَلامَة، على أَن فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَا يدل على عدم إِرَادَة الْحصْر،فَإِن لَفظه: (من عَلامَة الْمُنَافِق ثَلَاث
    وَاعْلَم أَن جمَاعَة من الْعلمَاء عدوا هَذَا الحَدِيث من المشكلات من حَيْثُ أَن هَذِه الْخِصَال قد تُوجد فِي الْمُسلم الْمُصدق بِقَلْبِه وَلسَانه، مَعَ أَن الْإِجْمَاع حَاصِل أَنه لَا يحكم بِكُفْرِهِ، وَلَا بِنفَاق يَجعله فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار. قلت: ذكرُوا فِيهِ أوجها. الأول: مَا قَالَه النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث إِشْكَال؛ إِذْ مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْخِصَال نفاق، وصاحبها شَبيه بالمنافق فِي هَذِه، ومتخلق بأخلاقهم، إِذْ النِّفَاق إِظْهَار مَا يبطن خِلَافه، وهوموجود فِي صَاحب هَذِه الْخِصَال، وَيكون نفَاقه خَاصّا فِي حق من حَدثهُ ووعده وائتمنه، لَا أَنه مُنَافِق فِي الْإِسْلَام مبطن للكفر. الثَّانِي: مَا قَالَه بَعضهم: هَذَا فِيمَن كَانَت هَذِه الْخِصَال غالبة عَلَيْهِ، وَأما من نذر
    ك مِنْهُ فَلَيْسَ دَاخِلا فِيهِ. الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ: هَذَا القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحذير من اعْتَادَ هَذِه الْخِصَال خوفًا أَن يُفْضِي بِهِ إِلَى النِّفَاق، دون من وَقعت نادرة مِنْهُ من غير اخْتِيَار أَو اعتياد،وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث: (التَّاجِر فَاجر، وَأكْثر منافقي أمتِي قراؤها) . وَمَعْنَاهُ التحذير من الْكَذِب، إِذْ هُوَ فِي معنى الْفُجُور، فَلَا يُوجب أَن يكون التُّجَّار كلهم فجارا، أَو الْقُرَّاء قد يكون من بَعضهم قلَّة إخلاص للْعَمَل وَبَعض الرِّيَاء، وَهُوَ لَا يُوجب أَن يَكُونُوا كلهم منافقين.
    .......
    (ج1/ ص 222)
    قَالَ القَاضِي: وَإِلَيْهِ مَال كثير من أَئِمَّتنَا، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح فِي تَفْسِير الحَدِيث، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير، رَضِي الله عَنْهُم. وَرووا فِي ذَلِك حَدِيثا: (يرْوى أَن رجلا قَالَ لعطاء: سَمِعت الْحسن يَقُول: من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال لم أتحرج أَن أَقُول إِنَّه مُنَافِق: من إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، وَإِذا اؤتمن خَان) . فَقَالَ عَطاء: إِذا رجعت إِلَى الْحسن فَقل لَهُ: إِن عَطاء يقرؤك السَّلَام، وَيَقُول لَك: أذكر إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام. وَاعْلَم أَنه لن يخلق أهل اللإسلام أَن يكون فيهم الْخِيَانَة وَالْخلف. وَنحن نرجو أَن يعيذهم الله من النِّفَاق، وَمَا اسْتَقر اسْم النِّفَاق قطّ إلاَّ فِي قلب جَاحد، وَقد قَالَ الله فِي حق الْمُنَافِقين {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} (المُنَافِقُونَ: 3) فَذكر زَوَال الْإِسْلَام عَن قُلُوبهم، وَنحن نرجوا أَن لَا يَزُول عَن قُلُوب الْمُؤمنِينَ، فَأخْبر الْحسن، فَقَالَ: جَزَاك الله خيرا، ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: إِذا سَمِعْتُمْ مني حَدِيثا فحدثتم بِهِ الْعلمَاء فَمَا كَانَ غير صَوَاب فَردُّوا على جَوَابه.
    .........
    بابُ قِيامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإيمانِ)
    وَالْكَلَام فِي لَيْلَة الْقدر على أَنْوَاع: الأول: فِي وَجه التَّسْمِيَة بِهِ. فَقيل: سمي بِهِ لما تكْتب فِيهَا الْمَلَائِكَة من الأقدار والأرزاق والآجال الَّتِي تكون فِي تِلْكَ السّنة، أَي: يظهرهم الله عَلَيْهِ، وَيَأْمُرهُمْ بِفعل مَا هُوَ من وظيفتهم. وَقيل: لعظم قدرهَا وشرفها وَقيل: لِأَن من أَتَى فِيهَا بالطاعات صَار ذَا قدر. وَقيل: لِأَن الطَّاعَات لَهَا قدر زَائِد فِيهَا. الثَّانِي: فِي وَقتهَا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَت جمَاعَة: هِيَ منتقلة، تكون فِي سنة فِي لَيْلَة وَفِي سنة فِي لَيْلَة أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَبِهَذَا يجمع بَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اخْتِلَاف أَوْقَاتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا، قَالُوا: إِنَّمَا تنْتَقل فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، وَقيل: بل فِي كُله، وَقيل: إِنَّهَا مُعينَة لَا تنْتَقل أبدا بل هِيَ لَيْلَة مُعينَة فِي جَمِيع السنين لَا تفارقها. وَقيل: هِيَ فِي السّنة كلهَا. وَقيل: فِي شهر رَمَضَان كُله، وَهُوَ قَول ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: بل فِي الْعشْر الْأَوْسَط والأواخر، وَقيل: بل فِي الْأَوَاخِر، وَقيل: يخْتَص بأوتار الْعشْر، وَقيل: بأشفاعه، وَقيل: بل فِي ثَلَاث وَعشْرين أَو سبع وَعشْرين، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقيل: فِي لَيْلَة سبع عشرَة، أَو إِحْدَى وَعشْرين، أَو ثَلَاث وَعشْرين، وَقيل: لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، وَقيل: لَيْلَة أَربع عشْرين، وَهُوَ محكي عَن بِلَال وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم، وَقيل: سبع وَعشْرين، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ زيد بن أَرقم
    سبع عشرَة، وَقيل: تسع عشرَة، وَحكي عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل، آخر لَيْلَة من الشَّهْر. وميل الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين، أَو الثَّالِث وَالْعِشْرين ذكره الرَّافِعِيّ، وَهُوَ خَارج عَن الْمَذْكُورَات. الثَّالِث: هَل هِيَ مُحَققَة ترى أم لَا؟ فَقَالَ قوم: رفعت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حِين تلاحى الرّجلَانِ رفعت، وَهَذَا غلط، لِأَن آخر الحَدِيث يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ (عَسى أَن يكون خيرا لكم، التمسوها فِي السَّبع وَالتسع) ، وَفِيه تَصْرِيح بِأَن المُرَاد برفعها رفع بَيَان علم عينهَا، لَا رفع وجودهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع من يعْتد بِهِ على وجودهَا ودوامها إِلَى آخر الدَّهْر، وَهِي مَوْجُودَة ترى ويحققها من شَاءَ الله تَعَالَى من بني آدم كل سنة فِي رَمَضَان، وأخبار الصَّالِحين بهَا ورؤيتهم لَهَا أَكثر من أَن تحصى، وَأما قَول الْمُهلب: لَا يُمكن رؤيتها حَقِيقَة فغلط، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : وَلَعَلَّ الْحِكْمَة فِي إخفائها أَن يحيي من يريدها اللَّيَالِي الْكَثِيرَة طلبا لموافقتها، فتكثر عِبَادَته وَأَن لَا يتكل النَّاس عِنْد إظهارها على إِصَابَة الْفضل فِيهَا، فيفرطوا فِي غَيرهَا.
    ...........
    (ج1/ ص 233)
    وَنفى النَّوَوِيّ التَّعَارُض لِأَن الْغُزَاة إِذا سلمُوا وغنموا تكون أُجُورهم أقل من أجر من لم يسلم، أَو سلم وَلم يغنم، وَأَن الْغَنِيمَة فِي مُقَابلَة جُزْء من أجر غزوهم، فَإِذا حصلت فقد تعجلوا ثُلثي أجرهم. وَقَالَ القَاضِي: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ، بِمَا نَالَ من أجر وغنيمة، مُطلق لِأَنَّهُ لم يقل فِيهِ: إِن الْغَنِيمَة تنقص الْأجر، والْحَدِيث الثَّانِي مُقَيّد، وَأما استدلالهم بغزوة بدر فَلَيْسَ فِيهِ أَنهم لَو لم يغنموا لَكَانَ أجرهم على قدر أجرهم مَعَ الْغَنِيمَة، وكونهم مغفورا مرضيا عَنْهُم لَا يلْزم مِنْهُم أَن لَا يكون فَوْقه مرتبَة أُخْرَى هِيَ أفضل
    ........
    (ج1/ ص 233)
    وَاتفقَ الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب التَّرَاوِيح، وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل. فَقَالَ الشَّافِعِي وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَابْن عبد الحكم من أَصْحَاب مَالك: أَن حضورهما فِي الْجَمَاعَة فِي الْمَسَاجِد أفضل، كَمَا فعله عمر بن الْخطاب وَالصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَاسْتمرّ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف والطَّحَاوِي وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: الْإِفْرَاد بهَا فِي الْبيُوت أفضل، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة)
    .......
    (ج1/ ص 234)
    اهر الحَدِيث غفران الصَّغَائِر والكبائر، وَفضل الله وَاسع، وَلَكِن الْمَشْهُور من مَذَاهِب الْعلمَاء فِي هَذَا الحَدِيث وَشبهه كَحَدِيث غفران الْخَطَايَا بِالْوضُوءِ، وبصوم يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم عَاشُورَاء وَنَحْوه أَن المُرَاد غفران
    الصَّغَائِر فَقَط،كَمَا فِي حَدِيث الْوضُوء: مَا لم يُؤْت كَبِيرَة مَا اجْتنبت الْكَبَائِر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي التَّخْصِيص نظر، لَكِن أَجمعُوا على أَن الْكَبَائِر لَا تسْقط إلاَّ بِالتَّوْبَةِ، أَو بِالْحَدِّ. فَإِن قيل: قد ثَبت فِي الصَّحِيح هَذَا الحَدِيث فِي قيام رَمَضَان، وَالْآخر فِي صِيَامه، وَالْآخر فِي قيام لَيْلَة الْقدر،وَالْآخر فِي صَوْم عَرَفَة: أَنه كَفَّارَة سنتَيْن، وَفِي عَاشُورَاء أَنه كَفَّارَة سنة،وَالْآخر: رَمَضَان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْعمْرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة كَفَّارَة لما بَينهمَا،وَالْآخر: إِذا تَوَضَّأ خرجت خَطَايَا فِيهِ إِلَى آخِره،وَالْآخر: مثل الصَّلَوَات الْخمس كَمثل نهر ... إِلَى آخِره،وَالْآخر: من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ... وَنَحْو ذَلِك، فَكيف الْجمع بَينهَا؟أُجِيب: إِن المُرَاد أَن كل وَاحِد من هَذِه الْخِصَال صَالِحَة لتكفير الصَّغَائِر، فَإِن صادفها كفرتها، وَإِن لم يصادفها فَإِن كَانَ فاعلها سليما من الصَّغَائِر لكَونه صَغِيرا غير مُكَلّف، أَو موفقا لم يعْمل صَغِيرَة، أَو عَملهَا وَتَابَ، أَو فعلهَا وعقبها بحسنة أذهبتها،كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} (هود: 114) فَهَذَا يكْتب لَهُ بهَا حَسَنَات، وَيرْفَع لَهُ بهَا دَرَجَات. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: ويرجى أَن يُخَفف بعض الْكَبِيرَة أَو الْكَبَائِر.
    .....
    (ج1/ ص 238)
    ن الْأَفْعَال تخْتَلف لاخْتِلَاف الْمعَانِي، مَعْنَاهُ أَن الْأَفْعَال هَل دخلت لِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ تَخْصِيص الْحَدث بِزَمَان فَقَط، أَو دخلت لهَذَا وَلغيره من الْمعَانِي، فَابْن درسْتوَيْه يزْعم أَنَّهَا مَا دخلت إلاَّ لهَذَا الْمَعْنى فَقَط. وَقَالَ الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان،رَحمَه الله: إِن الإستاذ أَبَا عَليّ الشلوبين وَغَيره خالفوه وَقَالُوا: الْأَفْعَال تخْتَلف ابنيتها لاخْتِلَاف الْمعَانِي على الْجُمْلَة، فالمعاني الَّتِي تخْتَلف لَهَا الْأَبْنِيَة لَيست بمقصورة على شَيْء من الْمعَانِي دون شَيْء، فَإِذا لم تكن مَقْصُورَة على شَيْء دون شَيْء من الْمعَانِي فَمَا الَّذِي يمْنَع أَن تكون الدّلَالَة إِذْ ذَاك على آخر الْوَقْت أَو أَوله أَو لوقت كُله؟قلت: الحَدِيث يُؤَيّد قَول ابْن درسْتوَيْه،وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْكُم بالدلجة، فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) ، وَلم يفرق، عَلَيْهِ السَّلَام، بَين أَوله وَآخره، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ،وَجعل الادلاج فِي السحر:
    (اصبر على السّير والإدلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح على الْحَاجَات وَالْبكْر)

    ..........
    (1/ ص 239)
    لقَوْله،عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (اكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون) وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا أَمر بالاقتصاد وَترك الْحمل على النَّفس، لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أوجب عَلَيْهِم وظائف من الطَّاعَات فِي وَقت دون وَقت تيسيراً وَرَحْمَة.
    ......
    (ج1/ ص 239)
    افضل الطَّاعَات الْبَدَنِيَّة الَّتِي تُقَام فِي هَذِه الاوقات الصَّلَوَات الْخمس والأوقات الثَّلَاثَة هِيَ: الغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة، فوقت صَلَاة الصُّبْح فِي الغدوة، وَوقت صَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي الروحة، وَوقت الْعشَاء فِي جُزْء الدلجة،على قَول من يَقُول من أهل اللُّغَة: ان الدلجة سير اللَّيْل كُله، وَلما كَانَ العَبْد مَأْمُورا بالاستعانة بِهَذِهِ الْأَوْقَات، وَكَانَت هِيَ أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس أَيْضا، وَهِي من الايمان
    .........
    (1/ ص40)
    قَالَ الواحدي فِي كتاب (اسباب النُّزُول) : قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا،فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: (كَانَ رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتُوا على الْقبْلَة الأولى،مِنْهُم: سعد بن زُرَارَة، وابو امامة أحد بني النجار، والبراء بن معْرور أحد بني سَلمَة، فَجَاءَت عَشَائِرهمْ فِي أنَاس مِنْهُم آخَرين،فَقَالُوا: يَا رَسُول الله توفّي إِخْوَاننَا وهم يصلونَ إِلَى الْقبْلَة الأولى، وَقد صرفك الله تَعَالَى إِلَى قبْلَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكيف بإخواننا فِي ذَلِك؟فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} (الْبَقَرَة: 143) الْآيَة. الثَّالِث: قَالَ ابْن بطال: هَذِه الْآيَة حجَّة قَاطِعَة على الْجَهْمِية والمرجئة،حَيْثُ قَالُوا: إِن الْأَعْمَال والفرائض لَا تسمى إِيمَانًا، وَهُوَ خلاف النَّص، لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِيمَانًا، وَلَا خلاف بَين أهل التَّفْسِير أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس. قلت: لَا يلْزم من الِاتِّفَاق على نُزُولهَا فِي صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِطْلَاقهَا، وَقَالَ ابْن اسحق وَغَيره،فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 143) بالقبلة الأولى، وتصديقكم نَبِيكُم وإتباعكم إِيَّاه إِلَى الْقبْلَة الْأُخْرَى،
    .......
    (1/ ص 240)
    ن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي الْجِهَة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَجَّه إِلَيْهَا للصَّلَاة وَهُوَ بِمَكَّة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا،وَغَيره: كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس، لكنه لَا يستدبر الْكَعْبَة، بل يَجْعَلهَا بَينه وَبَين بَيت الْمُقَدّس، وَأطلق آخَرُونَ أَنه كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ آخَرُونَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة فَلَمَّا تحول إِلَى الْمَدِينَة اسْتقْبل بَيت الْمُقَدّس وَهَذَا ضَعِيف، وَيلْزم مِنْهُ دَعْوَى النّسخ مرَّتَيْنِ، وَالْأول أصح لِأَنَّهُ يجمع بَين الْقَوْلَيْنِ، وَقد صَححهُ الْحَاكِم وَغَيره من حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَكَأَنَّهُ، البُخَارِيّ، أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى الْجَزْم بالأصح من أَن الصَّلَاة لما كَانَت عِنْد الْبَيْت كَانَت إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَاقْتصر على ذَلِك اكْتِفَاء بالاولوية،لِأَن صلَاتهم إِلَى غير جِهَة الْبَين
    ......
    (ج1/ ص 243)
    وللبزار وَالطَّبَرَانِي ّ من حَدِيث عَمْرو بن عَوْف: سَبْعَة عشر، وَكَذَا للطبراني عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا،وللبزار وَالطَّبَرَانِي ّ من حَدِيث عَمْرو بن عَوْف: سَبْعَة عشر، وَكَذَا للطبراني عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا،وَنَصّ النَّوَوِيّ على صِحَة: سِتَّة عشر، لإِخْرَاج مُسلم إِيَّاهَا بِالْجَزْمِ، فَيتَعَيَّن اعتمادها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه الصَّحِيح قبل بدر بشهرين، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَالْحَرْبِيّ، لَان بَدْرًا كَانَت فِي رَمَضَان فِي السّنة الثَّانِيَة،وَنَصّ القَاضِي على صِحَة: سَبْعَة عشر، وَهُوَ قَول ابْن اسحاق وَابْن الْمسيب وَمَالك بن أنس. فان قلت: كَيفَ الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْن ِ؟قلت: وَجه الْجمع أَن من جزم بِسِتَّة عشر أَخذ من شهر الْقدوم وَشهر التَّحْوِيل شهرا، والغى الْأَيَّام الزَّائِدَة فِيهِ، وَمن جزم بسبعة عشر عدهما مَعًا، وَمن شكّ تردد فِي ذَلِك، وَذَلِكَ أَن الْقدوم كَانَ فِي شهر ربيع الأول بِلَا خلاف، وَكَانَ التَّحْوِيل فِي نصف رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة على الصَّحِيح، وَبِه جزم الْجُمْهُور. وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات أُخْرَى، فَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : ثَمَانِيَة عشر شهرا، وَكَذَا فِي (سنَن ابْن مَاجَه) من طَرِيق أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي اسحاق، وابو بكر سيء الْحِفْظ،وَعند ابْن جرير من طَرِيقه فِي رِوَايَة: سَبْعَة عشر،وَفِي رِوَايَة: سِتَّة عشر،وخرجه بَعضهم على قَول مُحَمَّد بن حبيب: إِن التَّحْوِيل كَانَ فِي نصف شعْبَان، وَهُوَ الَّذِي ذكره النووى فِي (الرَّوْضَة) وَأقرهُ مَعَ كَونه رجح فِي شَرحه رِوَايَة: سِتَّة عشر شهرا، لكَونهَا مَجْزُومًا بهَا عِنْد مُسلم،
    .......
    (1/ 246)
    النّسخ جَائِز فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع عقلا، وواقع عِنْد الْمُسلمين أجمع شرعا خلافًا للْيَهُود، لعنهم الله، فَعِنْدَ بَعضهم بَاطِل نقلا،وَهُوَ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاة: تمسكوا بالسبت مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَادعوا نَقله تواتراً، وَيدعونَ النَّقْل عَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام،أَنه قَالَ: لَا نسخ لشريعته. وَعند بَعضهم: بَاطِل عقلا، وَالدَّلِيل على جَوَازه ووقوعه الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول. اما النَّقْل: فَلَا شكّ أَن نِكَاح الْأَخَوَات كَانَ مَشْرُوعا فِي شَرِيعَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَبِه حصل التناسل، وَهَذَا لَا يُنكره أحد، وَقد ورد فِي التَّوْرَاة أَنه أَمر آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، بتزويج بَنَاته من بنيه، ثمَّ نسخ،وَكَذَا: استرقاق الْحر كَانَ مُبَاحا فِي عهد يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى نقل عَنهُ أَنه اسْترق جَمِيع أهل مصر، عَام الْقَحْط، بِأَن اشْترى
    انفسهم بِالطَّعَامِ، ثمَّ نسخ،وَكَذَلِكَ الْعَمَل فِي السبت: كَانَ مُبَاحا قبل شَرِيعَة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ نسخ بعْدهَا بِشَرِيعَتِهِ،ودعواهم: النَّص فِي التَّوْرَاة، على مَا زَعَمُوا، بَاطِلَة لِأَنَّهُ ثَبت قطعا عندنَا بأخبار الله تَعَالَى أَنهم حرفوا التَّوْرَاة، فَلم يبْق نقلهم حجَّة،وَلِهَذَا قُلْنَا: لم يجز الْإِيمَان بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْديهم، حَتَّى بَالغ بعض الشَّافِعِيَّة وجوزوا الِاسْتِنْجَاء بذلك، بل إِنَّمَا يجب الْإِيمَان بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي انزلت على مُوسَى، مَعَ أَن شَرط التَّوَاتُر لم يُوجد فِي نقل التَّوْرَاة إِذا لم يبْق من الْيَهُود عدد التَّوَاتُر فِي زمن بخْتنصر،لِأَن أهل التواريخ اتَّفقُوا على أَنه: لما استولى بخت نصر على بني اسرائيل قتل رِجَالهمْ، وسبى ذَرَارِيهمْ، وأحرق اسفار التَّوْرَاة حَتَّى لم يبْق فيهم من يحفظ التَّوْرَاة. وَزَعَمُوا أَن الله الْهم عُزَيْرًا، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى قَرَأَهُ من صَدره، وَلم يكن أحد قَرَأَهُ حفظا لَا قبله وَلَا بعده، وَلِهَذَا قَالُوا بانه ابْن الله وعبدوه، ثمَّ دفع عُزَيْر عِنْد مَوته إِلَى تلميذ لَهُ ليقرأه على بني اسرائيل، فَأخذُوا عَن ذَلِك الْوَاحِد، وَبِه لَا يثبت التَّوَاتُر. وَزعم بَعضهم أَنه زَاد فِيهَا شَيْئا وَحذف شَيْئا، فَكيف يوثق بِمَا هَذَا سَبيله؟ فَثَبت أَن مَا ادعوا من تأييد شَرِيعَة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، افتراء
    افتراء عَلَيْهِ،وَيُقَال: إِن مَا نقلوا عَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام،من قَوْله: تمسكوا بالسبت. الخ مختلق مفترى،وَيُقَال: إِن هَذَا مِمَّا اختلقه ابْن الراوندي عَلَيْهِ مِمَّا يسْتَحق.
    ......
    (1/ 247)
    فِيهِ الدَّلِيل على نسخ السّنة بالقران، وَهُوَ جَائِز عِنْد الْجُمْهُور من الأشاعرة والمعتزلة،وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ: قَالَ فِي إِحْدَى قوليه: لَا يجوز، كَمَا لَا يجوز عِنْده نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ، قولا وَاحِدًا. وَقَالَ عِيَاض: أجَازه الْأَكْثَر عقلا وسمعاً، وَمنعه بَعضهم عقلا، وَأَجَازَهُ بَعضهم عقلا، وَمنعه سمعا. قَالَ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ: قطع الشَّافِعِي وَأكْثر اصحابنا وَأهل الظَّاهِر وَأحمد فِي إِحْدَى روايتيه بامتناع نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُور وَمَالك وَأَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنْهُم، وأستدل المجوزون على الْمَسْأَلَة الأولى بِأَن التَّوَجُّه نَحْو بَيت الْمُقَدّس لم يكن ثَابتا بِالْكتاب،وَقد نسخ بقوله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 144 و 150) واجيب: من جِهَة الشَّافِعِي: بإنما هِيَ نسخ قُرْآن بقرآن،وَأَن الْأَمر كَانَ أَولا بتخبير الْمُصَلِّي أَن يولي وَجهه حَيْثُ شَاءَ بقوله تَعَالَى: {اينما توَلّوا فثم وَجه الله} (الْبَقَرَة: 115) ، ثمَّ نسخ باستقبال الْقبْلَة،وَأجَاب بَعضهم بِأَن قَوْله تَعَالَى: {اقيموا الصَّلَاة} (الْبَقَرَة: 43، 83، 110) مُجمل،فسر بِأُمُور: مِنْهَا. التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَيكون كالمأمور بِهِ لفظا فِي الْكتاب، فَيكون التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بالقران بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، وباحتمال أَن الْمَنْسُوخ كَانَ قُرْآنًا نسخ لَفظه. وَقَالَ بَعضهم: النّسخ كَانَ بِالسنةِ، وَنزل الْقُرْآن على وفقها، ورد الأول،
    ..........
    (1/ 246)
    فِيهِ جَوَاز النّسخ بِخَبَر الْوَاحِد. قَالَ القَاضِي: وَإِلَيْهِ مَال القَاضِي ابو بكر وَغَيره من الْمُحَقِّقين، وَوَجهه أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَقْطُوع بِهِ، كَمَا أَن الْعَمَل بالقران وَالسّنة المتواترة مَقْطُوع بِهِ، وَأَن الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوته أَولا غير الدَّلِيل الْمُوجب لنفيه وَثُبُوت غَيره. قلت: إختاره الإِمَام الْغَزالِيّ والباجي من الْمَالِكِيَّة، وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر.
    ...........
    (1/ 247)
    وَقَالَ القَاضِي: قد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أسلم فِي دَار الْحَرْب أَو أَطْرَاف بِلَاد الاسلام حَيْثُ لَا يجد من يستعلم الشَّرَائِع، وَلَا علم أَن الله تَعَالَى فرض شَيْئا من الشَّرَائِع، ثمَّ علم بعد ذَلِك، هَل يلْزمه قَضَاء مَا مر عَلَيْهِ من صِيَام وَصَلَاة لم يعملها؟ فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين إِلَى إِلْزَامه، وَأَنه قَادر على الاستعلام والبحث وَالْخُرُوج إِلَى ذَلِك، وَذهب أَبُو حنيفَة أَن ذَلِك يلْزمه إِن أمكنه أَن يستعلم، فَلم يستعلم وفرط، وَإِن كَانَ لَا يحضرهُ من يستعلمه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَيف يكون ذَلِك فرض على من لم يفرضه.

    .....
    (1/ ص 249)
    من صلى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غير الْقبْلَة، ثمَّ تبين لَهُ الْخَطَأ لَا يلْزم الْإِعَادَة، لِأَنَّهُ فعل مَا عَلَيْهِ فِي ظَنّه مَعَ مُخَالفَة الحكم وَنَفس الْأَمر، كَمَا أَن أهل قبَاء فعلوا مَا وَجب عَلَيْهِم عِنْد ظنهم بقباء الْأَمر، فَلم يؤمروا بِالْإِعَادَةِ
    *فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد مَعَ غَيره من الاحاديث، وَعَادَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، قبُول ذَلِك، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ من السّلف مَعْلُوم بالتواتر من عَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَوْجِيهه ولاته وَرُسُله آحاداً إِلَى الْآفَاق ليعلموا النَّاس دينهم، ويبلغوهم سنة رسولهم.
    ..........
    (1/ 249)
    الَّذين مَاتُوا على الْقبْلَة المنسوخة قبل تحويلها إِلَى الْكَعْبَة عشرَة أنفس: ثَمَانِيَة مِنْهُم من قُرَيْش: وهم عبد الله بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَالْمطلب بن أَزْهَر الزُّهْرِيّ، والسكران بن عمر والعامري، مَاتُوا بِمَكَّة. وحطاب، بِالْمُهْمَلَةِ ، ابْن الْحَارِث الجُمَحِي، وَعَمْرو بن أُميَّة الْأَسدي، وَعبد الله بن الْحَارِث السَّهْمِي، وَعُرْوَة بن عبد الْعُزَّى الْعَدوي، وعدي بن نَضْلَة الْعَدوي، وَاثْنَانِ من الْأَنْصَار،وهما: الْبَراء بن معْرور، بالمهملات، وأسعد بن زُرَارَة مَاتَا بِالْمَدِينَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْعشْرَة مُتَّفق عَلَيْهِم. وَمَات أَيْضا قبل التَّحْوِيل: اياس بن معَاذ الأشْهَلِي، لكنه مُخْتَلف فِي إِسْلَامه.
    .......
    (1/ 250)
    مَّ وجدت فِي الْمَغَازِي ذكر رجل اخْتلف فِي إِسْلَامه وَهُوَ: سُوَيْد بن الصَّامِت، فقد ذكر ابْن اسحق أَنه لَقِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يلقاه الْأَنْصَار فِي الْعقبَة، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام،فَقَالَ: إِن هَذَا القَوْل حسن، وأتى الْمَدِينَة فَقتل بهَا فِي وقْعَة بُعَاث، وَكَانَت قبل الْهِجْرَة،قَالَ: فَكَانَ قومه يَقُولُونَ: لقد قتل وَهُوَ مُسلم، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ المُرَاد. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: أَن هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَصح. الثَّانِي: قَوْله: لقلَّة الاعتتاء بالتاريخ إِذْ ذَاك لَيْسَ كَذَلِك، فَكيف اعتنوا بضبط أَسمَاء الْعشْرَة الميتين وَلم يعتنوا بضبط الَّذين قتلوا، بل الاعتناء بالمقتولين أولى، لِأَن لَهُم مزية على غَيرهم. وَالثَّالِث: أَن الَّذِي وجده فِي الْمَغَازِي لَا يصلح دَلِيلا لتصحيح اللَّفْظَة الْمَذْكُورَة من وَجْهَيْن: احدهما: أَن هَذَا الرجل لم يتَّفق على إِسْلَامه،وَالْآخر: أَن هَذَا وَاحِد،وَقَوله: (وَقتلُوا) ، صِيغَة جمع تدل على أَن المقتولين جمَاعَة، وأقلها ثَلَاثَة أنفس. وَالرَّابِع: من وُجُوه النّظر أَن وقْعَة بُعَاث كَانَت بَين الاوس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت اسلام، فَكيف يسْتَدلّ بقتل الرجل الْمَذْكُور فِي وقْعَة بُعَاث على أَن قَتله كَانَ فى وَقت كَون الْقبْلَة هُوَ بَيت الْمُقَدّس؟ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح؟وَقَالَ الصغاني: بُعَاث، بِالضَّمِّ، على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة، وَيَوْم بُعَاث يَوْم، كَانَ بَين الْأَوْس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَوَقع فِي كتاب الْعين بالغين الْمُعْجَمَة وَالصَّوَاب بِالْعينِ الْمُهْملَة لَا غير، ذكره فِي فصل الثَّاء الْمُثَلَّثَة من كتاب الْبَاء الْمُوَحدَة.
    ......
    (1/ ص 251)
    قَالَ مَالِكٌ أخْبَرَنِى زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ أنّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِىَّ أخبَرَهُ أَنه سَمِعَ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إِذا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عنهُ كلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفها وَكَانَ يَعْدَ ذلكَ القِصاصُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ والسَّيِئَةُ بِمثْلِها إلاَّ أَن يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا
    ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَلم يوصله فِي مَوضِع فِي الْكتاب، وَالْبُخَارِيّ لم يدْرك زمن مَالك، فَيكون تَعْلِيقا وَلكنه بِلَفْظ جازم، فَهُوَ صَحِيح وَلَا قدح فِيهِ،وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه قَادِح فِي الصِّحَّة لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ مَوْصُول من جِهَات أخر صَحِيحَة، وَلم يذكرهُ لشهرته، وَكَيف وَقد عرف من شَرطه وعادته أَنه لَا يجْزم إلاَّ بتثبت وَثُبُوت؟ وَلَيْسَ كل مُنْقَطع يقْدَح فِيهِ، فَهَذَا، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ أَنه مُنْقَطع بِحَسب الِاصْطِلَاح، إلاَّ أَنه فِي حكم الْمُتَّصِل فِي كَونه صَحِيحا،وَقد وَصله أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ فِي بعض النّسخ فَقَالَ: أخبرنَا النضروي، وَهُوَ الْعَبَّاس بن الْفضل، ثَنَا الْحُسَيْن بن إِدْرِيس، ثَنَا هِشَام بن خَالِد، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بِهِ. وَكَذَا وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد
    ...........
    (ج1/ ص 251)
    وَقد نظم ابْن ام قَاسم النَّحْوِيّ الْجمل الَّتِي لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب وَالَّتِي لَا مَحل لَهَا مِنْهُ بِثمَانِيَة أَبْيَات،وَهِي قَوْله:
    (جمل أَتَت وَلها مَحل مُعرب ... سبع لِأَن حلت مَحل الْمُفْرد)
    (خبرية، حَالية، محكية ... وَكَذَا الْمُضَاف لَهَا بِغَيْر تردد)
    (ومعلق عَنْهَا، وتابعة لما ... هُوَ مُعرب، أَو ذُو مَحل فاعدد)
    (وَجَوَاب شَرط جازمٍ بالفاءِ أَو ... بإذا وَبَعض،قَالَ: غير مُقَيّد)
    (وأتتك سبع مَا لَهَا من مَوضِع: ... صلَة، ومعترض، وَجُمْلَة مبتدى)
    (وَجَوَاب أَقسَام، وَمَا قد فسرت ... فِي أشهر وَالْخلف غير مبعد)
    (وبعيد تحضيض، وَبعد مُعَلّق ... لَا جازمٍ، وَجَوَاب ذَلِك اورد)
    (وكذاك تَابِعَة لشَيْء مَا لَهُ ... من مَوضِع، فاحفظه غير مُفند)
    وَقد نظمها الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان بِسِتَّة أَبْيَات،وَهِي قَوْله:
    (وَخذ جملا سِتا، وَعشرا فنصفها ... لَهَا مَوضِع الْإِعْرَاب جَاءَ مُبينًا)
    (فوصفية، حَالية، خبرية ... مُضَاف إِلَيْهَا، واحكِ بالْقَوْل مُعْلنا)
    (كَذَلِك فِي التَّعْلِيق وَالشّرط والجزا ... إِذا عَامل يَأْتِي بِلَا عمل هُنَا)
    (وَفِي غير هَذَا لَا مَحل لَهَا كَمَا ... أَتَت صلَة مبدوة فاتك العنا)
    (مُفَسّر أَيْضا، وحشواً كَذَا أَتَت ... كَذَلِك فِي التَحضيض نلْت بِهِ الْغِنَا)
    (وَفِي الشَّرْط لم يعْمل كَذَاك جَوَابه ... جَوَاب يَمِين مثله سرك المنى)

    ................
    (1/ 252)
    لصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ ،وَقد ادّعى فِيهِ الْإِجْمَاع على أَن الْكَافِر إِذا فعل أفعالاً جميلَة على جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى: كصدقة وصلَة رحم واعتاق وَنَحْوهَا من الْخِصَال الجميلة، ثمَّ أسلم، يكْتب لَهُ كل ذَلِك ويثاب عَلَيْهِ إِذا مَاتَ على الْإِسْلَام، وَدَلِيله حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الذى يَأْتِي الْآن، وَحَدِيث حَكِيم بن حزَام ظَاهر فِيهِ، وَهَذَا أَمر لَا يحيله الْعقل، وَقد ورد الشَّرْع بِهِ، فَوَجَبَ قبُوله. وَأما دَعْوَى كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ فَغير مَقْبُولَة،وَأما قَول الْفُقَهَاء: لَا تصح عبَادَة من كَافِر وَلَو اسْلَمْ، لم يعْتد بهَا،فمرادهم: لَا يعْتد بهَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لثواب الْآخِرَة، فان أقدم قَائِل على التَّصْرِيح بِأَنَّهُ إِذا أسلم لَا يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، فَهُوَ مجازف، فَيرد قَوْله بِهَذِهِ السّنة الصَّحِيحَة. وَقد يعْتد بِبَعْض أَفعَال الْكَافِر فى الدُّنْيَا،فَقَالَ: قَالَ الْفُقَهَاء: إِذا لزمَه كَفَّارَة ظِهَار وَغَيرهَا فَكفر فِي حَال كفره اجزأه ذَلِك، وَإِذا اسْلَمْ لَا يلْزم إِعَادَتهَا، وَاخْتلفُوا فِيمَا لَو اجنب واغتسل فِي كفره، ثمَّ اسْلَمْ، هَل يلْزمه إِعَادَة الْغسْل؟ وَالأَصَح اللُّزُوم،وَبَالغ بعض أَصْحَابنَا فَقَالَ: يَصح من كل كَافِر طَهَارَة، غسلا كَانَت أَو وضوء أَو تيمماً، وَإِذا أسلم صلى بهَا، وَقد ذهب إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ النَّوَوِيّ ابراهيم الْحَرْبِيّ وَابْن بطال والقرطبي وَابْن مُنِير،وَقَالَ ابْن مُنِير: الْمُخَالف للقواعد دَعْوَى أَنه يكْتب لَهُ ذَلِك فِي حَال كفره واما أَن الله يضيف إِلَى حَسَنَاته فِي الْإِسْلَام ثَوَاب مَا كَانَ صدر مِنْهُ مِمَّا كَانَ يَظُنّهُ خيرا، فَلَا مَانع مِنْهُ كَمَا لَو تفضل عَلَيْهِ ابْتِدَاء من غير عمل، وكما يتفضل على الْعَاجِز بِثَوَاب مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ قَادر، فَإِذا جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا لم يعْمل أَلْبَتَّة، جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا عمله غير موفي الشُّرُوط. وَقَالَ ابْن بطال: لله تَعَالَى ان يتفضل على عباده بِمَا شَاءَ، وَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ.
    .....
    (1/ ص 257)
    أَن الملال لَا يجوز على الله تَعَالَى، وَلَا يدْخل تَحت صِفَاته لِأَنَّهُ ترك الشَّيْء استثقالاً وكراهية لَهُ بعد حرص ومحبة فِيهِ، وَهُوَ من صِفَات الْمَخْلُوق، فَلَا بُد من تَأْوِيل. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ،فَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه لَا يتْرك الثَّوَاب على الْعَمَل مَا لم يذكر الْعَمَل، وَذَلِكَ أَن من مل شَيْئا تَركه، فكنى عَن التّرْك بالملال الَّذِي هُوَ سَبَب التّرْك،وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَنه لَا يمل إِذا مللتم. قَالَ: ومثاله قَوْلهم فِي البليغ: فلَان لَا يَنْقَطِع حَتَّى تَنْقَطِع خصومه، مَعْنَاهُ لَا يَنْقَطِع إِذا انْقَطَعت خصومه، وَلَو كَانَ لم يكن لَهُ فضل على غَيره. وَقَالَ بَعضهم: وَمَعْنَاهُ أَن الله لَا يتناهى حَقه عَلَيْكُم فِي الطَّاعَة حَتَّى يتناهى جهدكم قبل ذَلِك، فَلَا تكلفوا مَا لَا تطيقون من الْعَمَل، كنى بالملال عَنهُ لِأَن من تناهت قوته عَن أَمر، وَعجز عَن فعله مله وَتَركه. وَقَالَ التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله لَا يمل أبدا مللتم أَنْتُم أَو لم تملوا،نَحْو قَوْلهم: لَا أُكَلِّمك حَتَّى يشيب الْغُرَاب. وَلَا يَصح التَّشْبِيه، لِأَن شيب الْغُرَاب لَيْسَ مُمكنا عَادَة، بِخِلَاف ملل ا
    بِخِلَاف ملل الْعباد. وَحكى الْمَاوَرْدِيّ أَن: حَتَّى،هَهُنَا بِمَعْنى: حِين،أَو بِمَعْنى: الْوَاو، وَهَذَا ضَعِيف جدا
    ...........
    (1/ 258)
    لِلْجُمْهُورِ على أَن صَلَاة جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَعَن جمَاعَة من السّلف لَا بَأْس بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ القَاضِي: كرهه مَالك مرّة،وَقَالَ: لَعَلَّه يَصح مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة. ثمَّ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ مَا لم يضر ذَلِك بِصَلَاة الصُّبْح، وَإِن كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْح وَهُوَ نَائِم فَلَا، وَإِن كَانَ بِهِ فتور وكسل فَلَا بَأْس بِهِ
    ............
    (1/ ص 265))
    وَقد وهم البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِن سعيد بن زيد مِمَّن حضر بَدْرًا، وَهُوَ أحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، والخمسة الَّذين أَسْلمُوا على يَد الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، والستة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَهُوَ مِمَّن ثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد ووقاه بِيَدِهِ ضَرْبَة قصد بهَا فشلت،
    .........
    (1/ ص 265)
    (أَفْلح) من الإفلاح وَهُوَ الْفَوْز والبقاء،وَقيل: هُوَ الظفر وَإِدْرَاك البغية،وَقيل: إِنَّه عبارَة عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء: بَقَاء بِلَا فنَاء وغناء بِلَا فقر، وَعز بِلَا ذل، وَعلم بِلَا جهل. قَالُوا: وَلَا كلمة فِي اللُّغَة أجمع لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ،وَالْعرب تَقول لكل من أصَاب خيرا: مُفْلِح،وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أَفْلح الرجل وأنجح: أدْرك مَطْلُوبه.
    ...........
    (1/ 267)
    (جَاءَ رجل) ، هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر، قَالَه القَاضِي مستدلاً بِأَن البُخَارِيّ سَمَّاهُ فِي حَدِيث اللَّيْث، يُرِيد مَا أخرجه فِي بَاب الْقِرَاءَة،وَالْعرض على الْمُحدث عَن شريك عَن أنس قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس فِي الْمَسْجِد، إِذْ دخل رجل على جمل، فأناخه فِي الْمَسْجِد) وَفِيه (ثمَّ قَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟) وَذكر الحَدِيث،وَقَالَ فِيهِ: (وَأَنا ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر) ، فَجعل حَدِيث طَلْحَة هَذَا وَحَدِيث أنس هَذَا لَهُ، وَتَبعهُ ابْن بطال وَغَيره وَفِيه نظر لتباين ألفاظهما، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ،وَأَيْضًا فَإِن إِبْنِ إِسْحَاق فَمن بعده: كَابْن سعد وَابْن عبد الْبر لم يذكرُوا لضمام غير حَدِيث أنس
    ........
    (1/ 268)
    أَن من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صَوْم نفل وَجب عَلَيْهِ اتمامه،وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) وبالاتفاق على أَن حج التَّطَوُّع يلْزم بِالشُّرُوعِ. وَلما حملت الشَّافِعِيَّة على الِانْقِطَاع قَالُوا: لَا تلْزم النَّوَافِل بِالشُّرُوعِ، وَلَكِن يسْتَحبّ لَهُ إِتْمَامه، وَلَا يجب بل يجوز قطعه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الحَدِيث متمسك لنا فِي أصلين: أَحدهمَا فِي شُمُول عدم الْوُجُوب فِي غير مَا ذكر فِي الحَدِيث، كَعَدم وجوب الْوتر. وَالثَّانِي: فِي أَن الشُّرُوع غير مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر مُطلقًا شرع فِيهِ أَو لم يشرع، وَتمسك الْخصم بِهِ على أَن الشُّرُوع مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر إلاَّ مَا تطوع بِهِ، وَالِاسْتِثْنَا ء من النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمُثبت بِالِاسْتِثْنَا ءِ وجوب مَا تطوع بِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب. قَالَ: وَهَذَا مغالطة،لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا يجب شَيْء إلاَّ أَن اتطوع، وَقد علم أَن التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِب، فَلَا يجب شَيْء آخر أصلا
    قَالَ بَعضهم: من قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع احْتَاجَ إِلَى دَلِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى النَّسَائِيّ وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر، وَفِي البُخَارِيّ أَنه أَمر جوَيْرِية بنت الْحَارِث أَن تفطر يَوْم الْجُمُعَة. بعد أَن شرعت فِيهِ، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يسْتَلْزم الْإِتْمَام إلاَّ إِذا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم، وبالقياس فِي الْبَاقِي
    وروى الدَّارَقُطْنِي ّ عَن أم سَلمَة أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا فأفطرت، فَأمرهَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَا يدل على أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، ترك الْقَضَاء بعد الْإِفْطَار، وإفطاره رُبمَا كَانَ عَن عذر. وَحَدِيث جوَيْرِية إِنَّمَا أمرهَا بالأفطار عِنْد تحقق وَاحِد من الْأَعْذَار: كالضيافة، وكل مَا جَاءَ من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب فَمَحْمُول على مثل هَذَا، وَلَو وَقع التَّعَارُض بَين الْأَخْبَار، فالترجيح مَعْنَاهُ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالثَّانِي: أَن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نَافِيَة، والمثبت مقدم. وَالثَّالِث: أَنه احْتِيَاط فِي الْعِبَادَة فَافْهَم. قَوْله: (وَذكر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة) هَذَا قَول الرَّاوِي، كَأَنَّهُ نسي مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله والتبس عَلَيْهِ،
    .........

  7. #227
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : السبت
    الموافق : 21 / شوال / 1441 هجري
    الموافق : 13/ 6/ 2020 ميلادي

    .........
    (1/ 269)
    عدم وجوب قيام اللَّيْل، وَهُوَ إِجْمَاع فِي حق الامة، وَكَذَا فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الاصح
    ........
    (1/ 270
    الْقَاعِدَة الْأُصُولِيَّة فِيهَا أَن الحَدِيث إِذا رَوَاهُ راويان، واشتملت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ على زِيَادَة، فَإِن لم تكن مُغيرَة لإعراب الْبَاقِي قبلت، وَحمل ذَلِك على نِسْيَان الرَّاوِي أَو ذُهُوله أَو اقْتِصَاره بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي صُورَة الاستشهاد، وَإِن كَانَت مُغيرَة تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَتعين طلب التَّرْجِيح، فَافْهَم
    ........
    (1/ 270)
    يفَ الْجمع بَين حلفه بقوله: وَأَبِيهِ إِن صدق، مَعَ نَهْيه عَن الْحلف بِالْآبَاءِ؟وَأجِيب: بِأَن ذَلِك كَانَ قبل النَّهْي، أَو بِأَنَّهَا كلمة جَارِيَة على اللِّسَان لَا يقْصد بهَا الْحلف،كَمَا جرى على لسانهم: عقرى حلقى، وتربت يَمِينك، وَالنَّهْي إِنَّمَا ورد فى القاصد بِحَقِيقَة الْحلف
    لما فِيهِ من تَعْظِيمه الْمَخْلُوق، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حذف مُضَاف تَقْدِيره: وَرب أَبِيه، فاضمر ذَلِك فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يضمر بل يذهب فِيهِ،وَسمعت بعض مَشَايِخنَا يُجيب بجوابين آخَرين: أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون الحَدِيث: أَفْلح وَالله،فقصر الْكَاتِب اللامين فَصَارَت: وَأَبِيهِ،وَالْآخر: خُصُوصِيَّة ذَلِك بالشارع دون غَيره، وَهَذِه دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا. وَأغْرب الْقَرَافِيّ حَيْثُ قَالَ: هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: وابيه، اخْتلف فِي صِحَّتهَا، فَإِنَّهَا لَيست فِي الْمُوَطَّأ، وَإِنَّمَا فِيهَا افلح إِن صدق، وَهَذَا عَجِيب، فَالزِّيَادَة ثَابِتَة لَا شكّ فِي صِحَّتهَا وَلَا مرية.
    ........
    (1/ 171)
    قَالَ الْجَوْهَرِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ، والعامة تَقول بِالْفَتْح،وَالْمعْنَى: للْمَيت على السرير وَإِذا لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت فَهُوَ سَرِير ونعش، وَفِي (الْعباب) لِابْنِ الْأَعرَابِي: الْجِنَازَة،بِالْكَسْرِ: السرير؛ والجنازة،بِالْفَتْح: الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن السّكيت وَابْن قُتَيْبَة: يُقَال: الْجِنَازَة والجنازة،وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْجِنَازَة،بِالْكَسْرِ: الْمَيِّت نَفسه،قَالَ: والعوام يتوهمون أَنه السرير. وَقَالَ النَّضر: الْجِنَازَة: السرير مَعَ الرجل جَمِيعًا. وَقَالَ الْخَلِيل: الْجِنَازَة،بِالْكَسْرِ: خشب الشرجع، وَقد جرى فِي أَفْوَاه النَّاس الْجِنَازَة بِالْفَتْح، والنحارير يُنكرُونَ ذَلِك. وَقَالَ غَيره: إِذا لم يكن عَلَيْهِ ميت فَهُوَ سَرِير أَو نعش، وكل شَيْء ثقل على قوم واغتموا بِهِ فَهُوَ جَنَازَة. وَقَالَ ابْن عباد: الْجِنَازَة،بِالْكَسْرِ: الْمَرِيض، وَطعن فلَان فِي جنَازَته، وَرمى فِي جنَازَته إِذا مَاتَ
    .........
    (1/ 271)
    ن البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، قرن فِيهِ بَين الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين لما أسلفنا أَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة عِنْد الْجُمْهُور، فقرنه بِمُحَمد بن سِيرِين لِأَنَّهُ سمع مِنْهُ، فالاعتماد عَلَيْهِ،وعَلى قَول من يَقُول: إِن الْحسن سمع مِنْهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا سمعا هَذَا الحَدِيث من أبي هُرَيْرَة مُجْتَمعين، وَإِمَّا ان يَكُونَا سمعا مِنْهُ مفترقين، وَإِنَّمَا أوردهُ البُخَارِيّ كَمَا سمع، وَقد وَقع لَهُ نَظِير هَذَا فِي قصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج فِيهَا حَدِيثا من طَرِيق روح بن عبَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَأخرج أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَنْهُمَا، عَن أبي هُرَيْرَة حَدِيثا آخر، واعتماده فِي كل ذَلِك على ابْن سِيرِين، لِأَن الْحسن، وَإِن صَحَّ سَمَاعه عَن أبي هُرَيْرَة، فَإِنَّهُ كثير الْإِرْسَال فَلَا تحمل عنعنته على السماع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: لم يَصح سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة،أَقُول: فعلى هَذَا التَّقْدِير يكون لفظ: عَن أبي هُرَيْرَة، مُتَعَلقا بِمُحَمد فَقَط، أَو يكون مُرْسلا. قلت: قَوْله: أَو يكون مُرْسلا، إِن أَرَادَ بِهِ أَن الحَدِيث يكون مُرْسلا، فَلَا يَصح، وَإِن أَرَادَ بِهِ الْإِرْسَال من جِهَة الْحسن فَلهُ وَجه على تَقْدِير عدم سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة.

    .......
    (1،/272)
    م وزن القيراط يخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد،فَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة: ربع سدس الدِّينَار،وَعند أهل الْعرَاق: نصف عشر الدِّينَار. انْتهى. وَعند الْفُقَهَاء: القيراط جُزْء من عشْرين جزأ من الدِّينَار، وكل قِيرَاط ثَلَاث حبات، فَيكون الدِّينَار سِتِّينَ حَبَّة، وكل حَبَّة أَربع أرزات، فَيكون مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين أرزة.
    .........
    (1/ 272)
    ن القيراط: اسْم لمقدار من الثَّوَاب يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مثل أحد،وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: القيراط أعظم من أحد. ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وفى رِوَايَة للْحَاكِم من حَدِيث أبي بن كَعْب مَرْفُوعا: (وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَهو فِي الْمِيزَان أثقل من أحد) . وَفِي اسناده: الْحجَّاج بن ارطأة، وَفِيه مقَال. وَفِي السّنَن الصِّحَاح المأثورة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من أُوذِنَ بِجنَازَة فَأتى أَهلهَا فعزاهم كتب الله لَهُ قيراطاً، فان شيعها كتب الله لَهُ قيراطين، فَإِن صلى عَلَيْهَا كتب الله لَهُ ثَلَاثَة قراريط، فَإِن شهد دَفنهَا كتب الله لَهُ أَرْبَعَة قراريط، القيراط مثل أحد)
    ......
    (1/ 272)
    مثل أحد) بِضَمَّتَيْنِ: وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي بِجنب الْمَدِينَة على نَحْو ميلين مِنْهَا، وَهُوَ فِي شمال الْمَدِينَة، وَسمي بِهَذَا الإسم لتوحده وانقطاعه عَن جبال أُخْرَى هُنَالك. وَفِي الحَدِيث من طَرِيق أبي عِيسَى بن جبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أحد يحبنا ونحبه، وَهُوَ على بَاب الْجنَّة. قَالَ: وعير يبغضنا ونبغضه، وَهُوَ على بَاب من أَبْوَاب النَّار) . قَالَ السُّهيْلي: وَفِي أحد قبر هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، أخي مُوسَى الكليم، وَفِيه قُبض، وثمة واراه مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَا قد مرا بِأحد حاجين أَو معتمرين.

    ..........
    (ج1/ 273)
    حُصُول القيراطن هَهُنَا مُقَيّد بِثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول: الِاتِّبَاع،وَالثَّانِي: الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَالثَّالِث: حُضُور الدّفن. فَإِن قلت: لَو اتبع حَتَّى دفنت وَلم يصل عَلَيْهَا هَل لَهُ القيراطان؟قلت: لَا، إِذْ المُرَاد أَن يُصَلِّي هُوَ أَيْضا، جمعا بَين الرِّوَايَتَيْن ِ وحملاً للمطلق على الْمُقَيد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اعْلَم أَن الصَّلَاة يحصل بهَا قِيرَاط إِذا انْفَرَدت، فَإِن انْضَمَّ إِلَيْهَا الِاتِّبَاع حَتَّى الْفَرَاغ حصل لَهُ قِيرَاط ثَان، فَلِمَنْ صلى وَحضر الدّفن القيراطان، وَلمن اقْتصر على الصَّلَاة قِيرَاط وَاحِد،وَلَا يُقَال: يحصل بِالصَّلَاةِ مَعَ الدّفن ثَلَاثَة قراريط، كَمَا يتوهمه بَعضهم من ظَاهر بعض الْأَحَادِيث، وَلِأَن هَذَا النَّوْع صَرِيح، والْحَدِيث الْمُطلق والمحتمل مَحْمُول عَلَيْهِ،وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان) فَمَعْنَاه: فَلهُ تَمام قيراطين بالمجموع
    .........
    (1/274)
    فِيهِ حجَّة ظَاهِرَة للحنفية فِي ان الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها،بِظَاهِر قَوْله: (من اتبع) ، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا. وَقَول عَليّ بن أبي طَالب،رَضِي الله عَنهُ: وَذهب قوم إِلَى التَّوسعَة فِي ذَلِك وأنهما سَوَاء، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي
    وَأبي مُصعب من أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ بَعضهم: وَقد تمسك بِهَذَا اللَّفْظ من زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَلَا حجَّة فِيهِ،لِأَنَّهُ يُقَال: تبعه إِذا مَشى خَلفه، أَو إِذا مر بِهِ فَمشى مَعَه،وَكَذَلِكَ: اتبعهُ بِالتَّشْدِيدِ. قلت: هَذَا الْقَائِل نفى حجَّة هَؤُلَاءِ بِمَا هُوَ حجَّة عَلَيْهِ،لِأَنَّهُ فسر لفظ تبع بمعنيين: أَحدهمَا: حجَّة لمن زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل،وَالْآخر: لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ حجَّة لخصمه. فَافْهَم. ثمَّ الرّكُوب وَرَاء الْجِنَازَة لَا بَأْس بِهِ، وَالْمَشْي أفضل. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: لَا فرق عندنَا بَين الرَّاكِب والماشي،يَعْنِي فِي الْمَشْي أمامها خلافًا للثوري حَيْثُ قَالَ: إِن الرَّاكِب يكون خلفهَا، وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند، وَكَأَنَّهُ قلد الْخطابِيّ، فَإِنَّهُ كَذَا ادّعى، وَفِيه حَدِيث صَححهُ الْحَاكِم على شَرط البُخَارِيّ من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَقَالَ بِهِ من الْمَالِكِيَّة أَيْضا ابو مُصعب.
    ........
    (1/ 274)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض: المرجئة أضداد الْخَوَارِج، والمعتزلة. الْخَوَارِج تكفر بِالذنُوبِ، والمعتزلة يفسقون بهَا، وَكلهمْ يُوجب الخلود فِي النَّار،والمرجئة تَقول: لَا تضر الذُّنُوب مَعَ الْإِيمَان،وغلاتهم تَقول: يَكْفِي التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده
    .......
    (1/ 275)
    أَن ابراهيم هُوَ ابْن زيد بن شريك التَّيْمِيّ، تيم الربَاب، أَبُو أَسمَاء الْكُوفِي. قيل: قَتله الْحجَّاج بن يُوسُف،وَقيل: مَاتَ فِي سجنه لما طلب الإِمَام ابراهيم النَّخعِيّ، فَوَقع الرَّسُول بابراهيم التَّيْمِيّ، فَأَخذه وحبسه،فَقيل لَهُ: لَيْسَ إياك أَرَادَ،فَقَالَ: أكره أَن أدفَع عَن نَفسِي، وأكون سَببا لحبس رجل مُسلم بَرِيء الساحة، فَصَبر فِي السجْن حَتَّى مَاتَ. قَالَ يحيى: هُوَ ثِقَة، مرجىء، وَمن غَرَائِبه مَا روى عَن الْأَعْمَش عَن ابراهيم التَّيْمِيّ،قَالَ: إِنِّي لأمكث ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا آكل، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين. روى لَهُ الْجَمَاعَة، وتيم الربَاب، بِكَسْر الرَّاء،قَالَ الْحَازِمِي: تيم الربَاب، وَهُوَ تيم بن عبد مَنَاة بن ود بن طابخة،وَقَالَ معمر ابْن الْمثنى: تيم الربَاب ثَوْر وعدي وعكل وَمُزَيْنَة بَنو عبد مَنَاة وضبة بن ود،قيل: سموا بِهِ لأَنهم غمسوا أَيْديهم فِي رب وتحالفوا عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن الْكَلْبِيّ،وَقَالَ غَيره: سموا بِهِ لأَنهم ترببوا،أَي: تحالفوا على بني سعد بن زيد.
    ..............
    (1/276)
    لرَّد على المرجئة لأَنهم قَالُوا: لَا حذر من الْمعاصِي مَعَ حُصُول الْإِيمَان، وَذكر البُخَارِيّ الْآيَة ردا عَلَيْهِم لِأَنَّهَا فِي مدح من اسْتغْفر من ذَنبه، وَلم يصر عَلَيْهِ، فمفهومه ذمّ من لم يفعل ذَلِك، وَكَأَنَّهُ لمح فِي ذَلِك حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد حسن،قَالَ: (ويل للمصرين الَّذين يصرون على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ) أَي: يعلمُونَ أَن من تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ لَا يَسْتَغْفِرُونَ ، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره. وَحَدِيث أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ،مَرْفُوعا أخرجه التِّرْمِذِيّ باسناد حسن: (مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد فِي الْيَوْم سبعين مرّة) . وَالْآيَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة آل عمرَان،وَهِي: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب الا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} (آل عمرَان: 135) يفهم من الْآيَة أَنهم: إِذا لم يَسْتَغْفِرُوا،أَي: لم يتوبوا، وأصروا على ذنوبهم يكونُونَ مَحل الحذر وَالْخَوْف. وَقَالَ الواحدي: قَالَ ابْن عَبَّاس،رَضِي الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَة عَطاء: نزلت هَذِه الْآيَة فِي نَبهَان التمار، أَتَتْهُ امْرَأَة حسناء تبْتَاع مِنْهُ تَمرا، فَضمهَا إِلَى نَفسه وَقبلهَا، ثمَّ نَدم على ذَلِك. فَأتى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
    ..........
    (1/ 281)
    تلاحى رجلَانِ " هما عبد الله بن أبي حَدْرَد بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره دَال اخرى وَكَعب بن مَالك كَانَ على عبد الله دين لكعب يَطْلُبهُ فتنازعا فِيهِ ورفعا صوتيهما فِي الْمَسْجِد قَوْله " فَرفعت " قَالَ النَّوَوِيّ أَي رفع بَيَانهَا أَو علمهَا والافهى بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وشذ قوم فَقَالُوا رفعت لَيْلَة الْقدر وَهَذَا غلط لِأَن آخر الحَدِيث يرد عَلَيْهِم فَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " التمسوها " وَلَو كَانَ المُرَاد رفع وجودهَا لم يَأْمُرهُم بالتماسها لَا يُقَال كَيفَ يُؤمر بِطَلَب مَا رفع علمه لانا نقُول المُرَاد طلب التَّعَبُّد فِي مظانها وَرُبمَا يَقع الْعَمَل مصادفاً لَهَا أَنه مَأْمُور بِطَلَب الْعلم بِعَينهَا والاوجه أَن يُقَال رفعت من قلبِي بِمَعْنى نسيتهَا يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي سعيد " فجَاء رجلَانِ يحتقنان " بتَشْديد الْقَاف أَي يدعى كل مِنْهُمَا أَنه المحق " مَعَهُمَا الشَّيْطَان فنسيتها
    ذمّ الملاحاة وَنقص صَاحبهَا الثَّانِي أَن الملاحاة والمخاصمة سَبَب الْعقُوبَة للعامة بذنب الْخَاصَّة فَإِن الْأمة حرمت اعلام هَذِه اللَّيْلَة بِسَبَب التلاحى بِحَضْرَتِهِ الشَّرِيفَة لَكِن فِي قَوْله " وَعَسَى أَن يكون خيرا " بعض التأنيس لَهُم وَقَالَ النَّوَوِيّ ادخل البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب لِأَن رفع لَيْلَة الْقدر كَانَ بِسَبَب تلاحيهما ورفعهما الصَّوْت بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ مذمة الملاحاة ونقصان صَاحبهَا
    .........
    (1/ 282)
    وَأَرَادَ بِهَذَا الْإِشْعَار بِأَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد، على مَا هُوَ مذْهبه وَمذهب جمَاعَة من الْمُحدثين، وَقد نقل أَبُو عوَانَة الاسفرائني فِي (صَحِيحه) عَن الْمُزنِيّ صَاحب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، الْجَزْم بِأَنَّهُمَا وَاحِد، وَأَنه سمع ذَلِك مِنْهُ. وَعَن الإِمَام أَحْمد الْجَزْم بتغايرهما
    ........
    (1/ 285)
    وَفِي حَدِيث أبي عَامر " ثمَّ ولي فَلم نر طَريقَة قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام " سُبْحَانَ الله هَذَا جِبْرِيل جَاءَ ليعلم النَّاس دينهم وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا جَاءَ فِي قطّ إِلَّا وَأَنا أعرفهُ إِلَّا أَن تكون هَذِه الْمرة " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ نَهَضَ فولى فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بِالرجلِ فطلبناه كل مطلبة فَلم يقدر عَلَيْهِ فَقَالَ هَل تَدْرُونَ من هَذَا هَذَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاكُم ليعلمكم دينكُمْ خُذُوا عَنهُ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ مَا اشْتبهَ على مُنْذُ اتاني قبل مرتى هَذِه وَمَا عَرفته حَتَّى ولى
    ..........
    (1/ 285)
    قَالَ الْكرْمَانِي الرَّسُول هُوَ النَّبِي الَّذِي انْزِلْ عَلَيْهِ الْكتاب وَالنَّبِيّ اعم مِنْهُ قلت هَذَا التَّعْرِيف غير صَحِيح لِأَنَّهُ غير جَامع لِأَن كثير من الانبياء عَلَيْهِم السَّلَام لم ينزل عَلَيْهِم كتب وهم ورسل مثل سُلَيْمَان وَأَيوب وَلُوط وَيُونُس وزَكَرِيا ويحي وَنَحْوهم والتعريف الصَّحِيح أَن يُقَال الرَّسُول من انْزِلْ عَلَيْهِ كتاب أَو أنزل عَلَيْهِ ملك وَالنَّبِيّ بِخِلَافِهِ فَكل رَسُول نَبِي وَلَا عكس
    .......
    (1/ ص286)
    ي الصِّحَاح البهام جمع بهم والبهم جمع بهمة والبهمة اسْم للمذكر والمؤنث والسخال أَوْلَاد الْمعز فَإِذا اجْتمعت البهام والسخال قلت لَهما جَمِيعًا بهام وبهم أَيْضا وَفِي المغيث لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ وَقيل البهمة السخلة انْتهى. والبهيمة ذَوَات الْأَرْبَع من دَوَاب الْبر وَالْبَحْر
    .........
    (1/ 286)
    كَأَنَّهُ شمس وَقَالَ غَيره أَنه حرف مركب عِنْد الْجُمْهُور حَتَّى ادّعى ابْن هِشَام وَابْن الخباز الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك قَالُوا وَالْأَصْل فِي كَأَن زيدا أَسد ثمَّ قدم حرف التَّشْبِيه اهتماماً بِهِ ففتحت همزَة أَن لدُخُول الْجَار وَذكروا لَهَا أَرْبَعَة معَان أَحدهَا وَهُوَ الْغَالِب عَلَيْهَا والمتفق عَلَيْهِ التَّشْبِيه وَهَذَا الْمَعْنى أطلقهُ الْجُمْهُور لكأن وَزعم مِنْهُم ابْن السَّيِّد أَنه لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ خَبَرهَا اسْما جَامِدا نَحْو كَأَن زيدا أَسد بِخِلَاف كَأَن زيدا قَائِم أَو فِي الدَّار أَو عنْدك أَو يقدم فَإِنَّهَا فِي ذَلِك كُله للظن الثَّانِي وَالشَّكّ وَالظَّن وَالثَّالِث التَّحْقِيق وَالرَّابِع التَّقْرِيب قَالَه الْكُوفِيُّونَ وحملوا عَلَيْهِ
    ..........
    (1/ 287)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ على فَخذي نَفسه يَعْنِي نفس جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ وَتَبعهُ على ذَاك التوربشتي شَارِح المصابيح وَلَيْسَ كَذَلِك بل الضَّمِير يعود على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا جَاءَ فِي روية سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ وضع يَدَيْهِ على ركبتي النَّبِي " وَبِه جزم الْبَغَوِيّ وَإِسْمَاعِيل التَّيْمِيّ وَرجحه الطَّيِّبِيّ من جِهَة الْبَحْث وَالظَّاهِر أَنه لم يقف على رِوَايَة سُلَيْمَان فَلذَلِك رَجحه من جِهَة الْبَحْث وَنظر النَّوَوِيّ فِي مَا قَالَه التَّنْبِيه على أَنه جلس كَهَيئَةِ المتعلم بَين يَدي من يتَعَلَّم مِنْهُ لإقتضاء بَاب الْأَدَب ذَلِك وَلَكِن على رِوَايَة سُلَيْمَان إِنَّمَا فعل جِبْرِيل ذَلِك لزِيَادَة الْمُبَالغَة فِي تعمية أمره ليقوى ظن الحاضربن أَنه من جُفَاة الْأَعْرَاب وَلِهَذَا تخطى النَّاس حَتَّى انْتهى إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا نافي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَلِهَذَا استغربت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم صَنِيعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْبَلَد وَجَاء مَاشِيا لَيْسَ لَهُ أثر السّفر فَإِن قيل كَيفَ عرف عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يعرفهُ أحد قيل من قَول الْحَاضِرين كَمَا فِي رِوَايَة عُثْمَان بن عَفَّان فَنظر الْقَوْم بَعضهم إِلَى بعض فَقَالُوا مَا نَعْرِف
    .........
    (1/ 287)
    بلقائه " الْأَيْمَان بلقائه هُوَ التَّصْدِيق بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة قَالَه الْخطابِيّ وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ بِأَن أحدا لَا يقطع لنَفسِهِ بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فَأَنَّهَا مُخْتَصَّة لمن مَاتَ مُؤمنا والمرء لَا يدْرِي بِمَ يخْتم لَهُ فَكيف يكون من شُرُوط الْإِيمَان ورد عَلَيْهِ بَان المُرَاد الْإِيمَان بَان ذَلِك حق فِي نفس الْأَمر وَقد قيل أَنَّهَا مكررة لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي الْإِيمَان بِالْبَعْثِ وَهُوَ الْقيام من الْقُبُور قُلْنَا لَا نسلم التّكْرَار لِأَن المُرَاد باللقاء مَا بعد تِلْكَ وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْجمعِ بَين الْإِيمَان بلقاء الله والبعث فَقيل اللِّقَاء يحصل بالانتقال إِلَى دَار الْجَزَاء والبعث عِنْد قيام السَّاعَة وَقيل اللِّقَاء مَا يكون بعد الْبَعْث عِنْد الْحساب
    ............
    (1/ 288)
    قَالَ عبد الْجَلِيل الأول على ثَلَاثَة أَقسَام الأول فِي مقَام الْإِسْلَام وَذَلِكَ أَن الْأُمُور فِي عَالم الْحسن ثَلَاثَة معاصي وطاعات ومباحات المعايش فَأَما قسم الْمعاصِي على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا فَإِن العَبْد مَأْمُور بِأَن يعلم أَن الله يرَاهُ فَإِذا هم بِمَعْصِيَة وَعلم أَن الله يرَاهُ ويبصره على أَي حَالَة كَانَت وَأَنه يعلم خائنه الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور كف عَن الْمعْصِيَة وَرجع عَنْهَا وَأما الأنسان فيذهل عَن نظر الله إِلَيْهِ فينسى حِين الْمعْصِيَة أَنه يرَاهُ أَو يكون جَاهِلا فيظن أَن الله تَعَالَى بعيد مِنْهُ وَلَا يتَذَكَّر وَيعلم أَنه يُحَرك جوارحه حِين الْعَمَل الْمَعْمُول فينسى ذَلِك أَو يجهل فَيَقَع فيا لمعصية وَلَو علم وَتحقّق أَن وَالِده أَو رجلا كَبِيرا لَو يرَاهُ حِين الْمعْصِيَة لكف عَنْهَا وهرب مِنْهَا فَإِذا علم العَبْد أَن الله يرَاهُ فِي حِين الْمعْصِيَة كف عَنْهَا بِحُصُول الْبُرْهَان الإحساني عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان الَّذِي أوتيه وَرَآهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ قيام الدَّلِيل الْوَاضِح العلمي بِأَن الله تَعَالَى مَوْجُود حق وَأَنه نَاظر إِلَى كل شَيْء ومصرف لكل شَيْء ومحركه ومسكنه فَمن أرَاهُ الله تَعَالَى هَذَا الْبُرْهَان عِنْد جَمِيع الْمُهِمَّات صرف عَنهُ السوء والفحشاء من جَمِيع الْمُنْكَرَات الثَّانِي قسم
    الطَّاعَات فَهِيَ أَن تعلم أَن الله تَعَالَى مَوْجُود وتبرهن عِنْده أَنه يرَاهُ لَا محَالة إِلَّا أَن يكون زنديقا جاحدا لَا يقر بِرَبّ فَإِن كَانَ مقرّ بِوُجُودِهِ فَترك الْعِبَادَة فَإِنَّمَا تَركهَا تهاونا لنُقْصَان الْبُرْهَان الإحساني عِنْده وَهَذِه حَال المضيعين للفرائض لجهلهم بِقدر إِلَّا مرو قدر أمره الثَّالِث من الْمُبَاحَات وَهُوَ مَحل الْغَفْلَة والسهو عَن هَذَا الْمقَام الإحساني فَإِذا تذكر العَبْد أَن الله تَعَالَى يرَاهُ فِي تصريفه وَأَنه أره بالإقبال عَلَيْهِ وَقلة الْأَعْرَاض عَنهُ استحي أَن يرَاهُ مكبا على الخسيس الفاني مستغر قافي الِاشْتِغَال بِهِ عَن ذكره وَعَن الإقبال على مَا يقطع عَنهُ الْمقَام الثَّانِي فِي عَالم الْغَيْب فَإِن العَبْد إِذْ فكر فِي مَوَاطِن الْآخِرَة من موت وقبر وَحشر وَعرض وحساب وغي ذَلِك وَعلم أَنه معروض على الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْعَالم ومواطنه تهَيَّأ لذَلِك الْعرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الْآخِرَة مَا اسْتَطَاعَ وَأما الْمقَام الثَّالِث فِي الْإِحْسَان فَإِن العَبْد إِذا علم فِي قُلُوب اوليائه فيزيل الصِّفَات الممهلكات ويطهره مِنْهَا ويتصف المحمودات حَتَّى يَجْعَل سره كالمرآة المجلوة قَوْله " كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا اصل عَظِيم من أصُول الدّين وَقَاعِدَة مهمة من قَوَاعِد الْمُسلمين وَهُوَ عُمْدَة الصديقين وبغية السالكين
    كنز العارفين ودأب الصَّالِحين وتلخيص مَعْنَاهُ أَن تعبد الله عبَادَة من يرى الله تَعَالَى وَيَرَاهُ الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يستبقي شَيْئا من الخضوع وَالْإِخْلَاص وَحفظ الْقلب والجوارح ومراعاة الْآدَاب مَا دَامَ فِي عِبَادَته
    ............
    (1/ 288)
    قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ اتساع الْإِسْلَام واستيلاء أَهله على بِلَاد الشّرك وَسبي دراريهم فَإِذا ملك الرجل الْجَارِيَة واستولدها كَانَ الْوَلَد فِيهَا بِمَنْزِلَة رَبهَا لِأَنَّهُ ولد سَيِّدهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ وَغَيره هَذَا قَول الْأَكْثَرين وَقَالَ بَعضهم وَقَالَ بَعضهم لَكِن فِي كَونه المُرَاد نظر لِأَن استيلاد الْإِمَاء كَانَ مَوْجُودا حِين الْمقَالة والاستيلاء لعى بِلَاد الشّرك وَسبي ذَرَارِيهمْ واتخاذهم سرارى وَقع أَكْثَره فِي صدر الْإِسْلَام وَسِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي الْإِشَارَة إِلَى وُقُوع مَا لم يَقع مِمَّا سيقع فِي قيام السَّاعَة قلت فِي نظره نظر لِأَن قَوْله إِذا ولدت الْأمة رَبهَا كِنَايَة عَن كَثْرَة التَّسَرِّي من كَثْرَة فتوح الْمُسلمين واستيلائهم على بِلَاد الشّرك وَالْمرَاد أَن يكون من هَذِه الْجِهَة فَافْهَم وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَن الْإِيمَاء يلدن الْمُلُوك فَتكون أم الْملك من جملَة الرّعية وَهُوَ سَيِّدهَا وَسيد غَيرهَا من رَعيته وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالثَّالِث مَعْنَاهُ أَن تفْسد أَحْوَال النَّاس فيكثر بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي آخر الزَّمَان فيكثر تردادها فِي ايدي المشترين حَتَّى يَشْتَرِيهَا ابْنهَا وَهُوَ لَا يدْرِي وعَلى هَذَا القَوْل لَا يخْتَص بأمهات الْأَوْلَاد بل يتَصَوَّر فِي غَيْرهنَّ فَإِن الْأمة قد تَلد حرا بوطئ غير سَيِّدهَا بِشُبْهَة أَو ولدا رَقِيقا بِنِكَاح أَو زنا ثمَّ تبَاع الْأمة فِي بيع لأمهات الْأَوْلَاد وَالرَّابِع أَن أم الْوَلَد لما عتقت بِوَلَدِهَا فَكَأَنَّهُ سَيِّدهَا وَهَذَا بطرِيق الْمجَاز لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا فِي عتقهَا بِمَوْت أَبِيه أطلق عَلَيْهِ ذَلِك وَالْخَامِس أَن يكثر العقوق فِي الْأَوْلَاد فيعامل الْوَلَد أمه مُعَاملَة السَّيِّد أمته من الإهانة وَغير ذَلِك وَأطلق عَلَيْهِ رَبهَا مجَازًا لذَلِك وَقَالَ بَعضهم لذَلِك وَقَالَ بَعضهم يجوز أَن يكون المُرَاد بالرب المربي فَيكون حَقِيقَة وَهَذَا أوجه الْأَوْجه عِنْدِي لعمومه قل هَذَا لَيْسَ بأوجه الْأَوْجه بل أضعفها لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عد هَذَا من أَشْرَاط السَّاعَة لكَونه على نمط خَارج على وَجه الاستغراب أَو على وَجه دَال على فَسَاد أَحْوَال النَّاس وَالَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل فَافْهَم.
    .........
    (1/ 290)
    فَإِنَّهُ جِبْرِيل جَاءَ ليعلمكم دينكُمْ
    الَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا الحَدِيث يصلح أَن يُقَال لَهُ أم السّنة لما تضمن من جملَة عِلّة السّنة وَقَالَ الطَّيِّبِيّ لهَذِهِ النُّكْتَة استفتح بِهِ الْبَغَوِيّ كِتَابه المصابيح وَشرح السّنة اقْتِدَاء بِالْقُرْآنِ فِي افتتاحه بِالْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنت عُلُوم الْقُرْآن إِجْمَالا وَقَالَ القَاضِي عِيَاض اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على جَمِيع وظائف الْعِبَادَات الظَّاهِرَة والباطنة من عُقُود الْإِيمَان ابْتِدَاء وَحَالا ومآلا وَمن أَعمال الْجَوَارِح وَمن إخلاص السرائر والتحفظ من آفَات الْأَعْمَال حَتَّى أَن عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا رَاجِعَة إِلَيْهِ ومتشعبة مِنْهُ
    .........
    (1/ 290)
    هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب وَقعا بَين عِيسَى ابْن مَرْيَم وَجِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام أَيْضا لَكِن كَانَ عِيسَى سَائِلًا وَجِبْرِيل مسئولا قَالَ الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا مَالك ابْن مغول عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء عَن الشّعبِيّ قَالَ " سَأَلَ عِيسَى ابْن مَرْيَم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن السَّاعَة قَالَ فانتفض بأجنحته وَقَالَ مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل "
    ..........
    (1/ 292)
    قَالَ " السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله " وَفِي رِوَايَة " يَا رَسُول الله أدنو فَقَالَ أدن " وَلم يذكر السَّلَام فاختلفت الرِّوَايَة هَل قَالَ يَا مُحَمَّد أَو قَالَ يَا رَسُول الله وَهل سلم أَولا وَطَرِيق التَّوْفِيق أَن رِوَايَة من قَالَ سلم مُقَدّمَة على رِوَايَة من سكت عَنهُ أَو أَنه قَالَ أَولا يَا مُحَمَّد كَمَا كَانَ الْأَعْرَاب يَقُوله قصدا ااتعمية ثمَّ خاطبه بعد ذَلِك بقوله يَا رَسُول الله وَوَقع عِنْد الْقُرْطُبِيّ أَنه قَالَ السَّلَام عَلَيْكُم يَا مُحَمَّد واستنبط من هَذَا أَنه يسْتَحبّ للداخل أَن يعمم بِالسَّلَامِ ثمَّ يخصص من يُرِيد تَخْصِيصه.
    ......
    وَقد وَقع فِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِيمَان وَقَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ بِالْأَمر الظَّاهِر ثمَّ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ بِالْأَمر الْبَاطِن وَرجح الطَّيِّبِيّ هَذَا وَقَالَ لما فِيهِ من الترقي وَوَقع فِي وَرَايَة مطر الْوراق بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِحْسَانِ وَثلث بِالْإِيمَان وَيُمكن أَن يُقَال عَنَّا أَن الْإِحْسَان هُوَ الْإِخْلَاص كَمَا ذكرنَا فَكَمَا أَن مَحَله الْقلب فَكَذَلِك ذكر فِي الْقلب وَالْحق أَن هَذَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير من الروَاة وَالله تَعَالَى أعلم.
    ........
    (1/ 297
    قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، ذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الْقَائِل إِذا ذكر عرض فلَان فَمَعْنَاه أُمُوره الَّتِي يرْتَفع بهَا أَو يسْقط بذكرها، وَمن جِهَتهَا يحمد ويذم، فَيجوز أَن يكون أمورا يُوصف هُوَ بهَا دون أسلافه، وَيجوز أَن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم، وَلَا يعلم من أهل اللُّغَة خِلَافه إلاَّ مَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة، فَإِنَّهُ أنكر أَن يكون الْعرض الأسلاف، وَزعم أَن عرض الرجل نَفسه، يُقَال: أكرمت عَنهُ عرضي، أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، و: فلَان نقي الْعرض أَي بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب
    .......
    (1/ 298)
    كَانَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، ثمَّ إِن الْعَرَب لما نقلته لهَذَا الْعُضْو التزمت فِيهِ التفخيم فِي قافه، للْفرق بَينه وَبَين أَصله، وَقد قَالَ بَعضهم: ليحذر اللبيب من سرعَة انقلاب قلبه، إِذْ لَيْسَ بَين الْقلب وَالْقلب إلاَّ التفخيم، وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ كل ذِي فهم مُسْتَقِيم.

    ........
    (1/ 299)
    جمع الْعلمَاء على عظم موقع هَذَا الحَدِيث، وَأَنه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام. قَالَت جمَاعَة: هُوَ ثلث الْإِسْلَام، وان الاسلام يَدُور عَلَيْهِ وعَلى حَدِيث. (الاعمال بِالنِّيَّاتِ) ، وَحَدِيث: (من حسن اسلام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يَدُور على أَرْبَعَة أَحَادِيث هَذِه الثَّلَاثَة وَحَدِيث: (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) . قَالُوا: سَبَب عظم موقعه انه، عَلَيْهِ السَّلَام، نبه فِيهِ على صَلَاح الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمنكح وَغَيرهَا، وانه يَنْبَغِي أَن يكون حَلَالا، وأرشد إِلَى معرفَة الْحَلَال، وَأَنه يَنْبَغِي ترك المشتبهات، فَإِنَّهُ سَبَب لحماية دينه وَعرضه، وحذر من مواقعة الشُّبُهَات، وأوضح ذَلِك بِضَرْب الْمثل بالحمى، ثمَّ بَين أهم الْأُمُور وَهُوَ: مُرَاعَاة الْقلب. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يُمكن أَن ينتزع من هَذَا الحَدِيث وَحده جَمِيع الْأَحْكَام، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لِأَنَّهُ اشْتَمَل على التَّفْصِيل بَين الْحَلَال وَغَيره، وعَلى تعلق جَمِيع الْأَعْمَال بِالْقَلْبِ فَمن هُنَا يُمكن أَن يرد إِلَيْهِ جَمِيع الاحكام
    .......
    (1/ 300)
    وَمَا لم يظْهر للمجتهد فِيهِ شَيْء، وَهُوَ مشتبه، فَهَل يُؤْخَذ بِالْحلِّ أَو الْحُرْمَة؟ أَو يتَوَقَّف فِيهِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض عَن أَصْحَاب الْأُصُول، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مخرجة على الْخلاف الْمَعْرُوف فِي حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع، وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب: أَحدهَا:، وَهُوَ الْأَصَح انه: لَا يحكم بتحليل وَلَا تَحْرِيم وَلَا إِبَاحَة وَلَا غَيرهَا، لِأَن التَّكْلِيف عِنْد أهل الْحق لَا يثبت إلاَّ بِالشَّرْعِ. وَالثَّانِي: ان الحكم الْحل أَو الْإِبَاحَة. وَالثَّالِث: الْمَنْع.
    وَالرَّابِع: الْوَقْف. وَقَالَ الْمَازرِيّ: المشتبهات الْمَكْرُوه لَا يُقَال فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام بَين. وَقَالَ غَيره: فَيكون الْوَرع تَركه،وَقَالَ الْخطابِيّ: من أَمْثِلَة المتشابهات مُعَاملَة من كَانَ فِي مَاله شُبْهَة، أَو خالطه رَبًّا، فَهَذَا يكره مُعَامَلَته. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا شكّ أَن ثَمَّ أموراً جلية التَّحْرِيم، وأموراً جلية التَّحْلِيل، وأموراً مترددة بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَهُوَ الَّذِي تتعارض فِيهَا الْأَدِلَّة، فَهِيَ المشتبهات، وَاخْتلف فِي حكمهَا. فَقيل: حرَام لِأَنَّهَا توقع فِي الْحَرَام،وَقيل: مَكْرُوهَة، والورع تَركهَا. وَقيل: لَا يُقَال فِيهَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَالصَّوَاب الثَّانِي، لِأَن الشَّرْع أخرجهَا من الْحَرَام فَهِيَ مرتاب فِيهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك) ، فَهَذَا هُوَ الْوَرع. وَقَالَ بعض النَّاس: إِنَّهَا حَلَال يتورع عَنْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيست هَذِه عبارَة صَحِيحَة، لِأَن أقل مَرَاتِب الْحَلَال ان يَسْتَوِي فعله وَتَركه، فَيكون مُبَاحا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوَرع، فَإِنَّهُ إِن ترجح أحد طَرفَيْهِ على الآخر خرج عَن ان يكون مُبَاحا،وَحِينَئِذٍ: إِمَّا أَن يكون تَركه راجحاً على فعله، وَهُوَ الْمَكْرُوه، أَو فعله راجحاً على تَركه وَهُوَ الْمَنْدُوب،فَأَما مثل مَا تقدم مِمَّا يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاحْتِمَال الْبَين: كَجلْد الْميتَة بعد الدّباغ، فَإِنَّهُ غير طَاهِر على الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْمَائِعَات لِأَنَّهَا تنجس، لَا المَاء وَحده، فَإِنَّهُ عِنْده يدْفع النَّجَاسَة مَا لم يتَغَيَّر، هَذَا هُوَ الَّذِي ترجح عِنْده، لكنه كَانَ يَتَّقِي المَاء فِي خَاصَّة نَفسه. وَحكي عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ، رَضِي الله عَنْهُمَا،أَنهم قَالَا: لِأَن أخر من السَّمَاء أَهْون عَليّ من أَن افتي بِتَحْرِيم قَلِيل النَّبِيذ، وَمَا شربته قطّ، وَلَا أشربه. فعملوا بالترجيح فِي الْفتيا، وتورعوا عَنهُ
    قد عقب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب بِمَا ذكره فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات،قَالَ فِيهِ: وَقَالَ حسان بن أبي سِنَان: مَا رَأَيْت شَيْئا أَهْون من الْوَرع: دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك. وَأورد فِيهِ حَدِيث الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَأَنَّهَا أَرْضَعَتْه وَزَوجته. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَكَيف وَقد قيل، وَحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة، وَأَنه قضى بِهِ لعبد بن زَمعَة أَخِيه بالفراش،ثمَّ قَالَ لسودة: احتجبي مِنْهُ لما رأى من شبهه، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى، وَحَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله عَنهُ،وَقَوله: اجد مَعَ كَلْبِي على الصَّيْد كَلْبا آخر، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ. قَالَ: لَا تَأْكُل. ثمَّ ذكر حَدِيث التمرة المسقوطة، وَقَول النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن تكون صَدَقَة لأكلتها) ، ثمَّ عقبه بِمَا لَا يجْتَنب،فَقَالَ: بَاب من لم ير الوساوس وَنَحْوهَا من الشُّبُهَات، وَذكر فِيهِ حَدِيث الرجل يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة. قَالَ: لَا، حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة،رَضِي الله عَنْهَا: (أَن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا؟فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سموا عَلَيْهِ وكلوه)
    ....
    ...........
    (1/ 300)
    ن المشتبهات الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها فِيهِ أَقْوَال. احدها: أَنه الَّذِي تَعَارَضَت فِيهِ الْأَدِلَّة فاشتبهت، فَمثل هَذَا يجب فِيهِ الْوَقْف إِلَى التَّرْجِيح، لِأَن الْإِقْدَام على أحد الْأَمريْنِ من غير رُجْحَان الحكم بِغَيْر دَلِيل محرم. وَالثَّانِي: المُرَاد بِهِ المكروهات، وَهُوَ قَول الْخطابِيّ والمازري وَغَيرهمَا، وَيدخل فِيهِ مَوَاضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء. وَالثَّالِث: أَنه الْمُبَاح،وَقَالَ بَعضهم: هِيَ حَلَال يتورع عَنْهَا، وَقد رده الْقُرْطُبِيّ كَمَا تقدم،وَقَالَ: فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رفع مَعْلُوم من الشَّرْع، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده وَأكْثر أَصْحَابه كَانُوا يزهدون فِي الْمُبَاح، فَرَفَضُوا التنعم بِطيب الْأَطْعِمَة ولين اللبَاس وَحسن المساكن، وتلبسوا بضدها من خشونة الْعَيْش، وَهُوَ مَعْلُوم مَنْقُول من سيرهم
    .......
    (1/ 300)
    قد اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي ترك الطّيب وَترك لبس الناعم،فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائني: إِن ذَلِك لَيْسَ بِطَاعَة،وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} (الْأَعْرَاف: 32) . وَقَالَ الشَّيْخ ابو الطّيب الطَّبَرِيّ: إِنَّه طَاعَة،

    وَدَلِيله مَا علم من أَمر السّلف من خشونة الْعَيْش. وَقَالَ ابْن الصّباغ: يخْتَلف ذَلِك بإختلاف أَحْوَال النَّاس، وتفرغهم لِلْعِبَادَةِ وقصودهم واشتغالهم بالضيق وَالسعَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ،من أَصْحَابنَا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَأما مَا يخرج إِلَى بَاب الوسوسة من تَجْوِيز الْأَمر الْبعيد فَهَذَا لَيْسَ من المشتبهات الْمَطْلُوب اجتنابها، وَقد ذكر الْعلمَاء لَهُ أَمْثِلَة؛فَقَالُوا: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ تَجْوِيز أَمر بعيد كَتَرْكِ النِّكَاح من نسَاء بلد كَبِير خوفًا أَن يكون لَهُ فِيهَا محرم، وَترك اسْتِعْمَال مَاء فِي فلاة لجَوَاز عرُوض النَّجَاسَة، أَو غسل ثوب مَخَافَة طرؤ نَجَاسَة عَلَيْهِ لم يشاهدها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُشبههُ، فَهَذَا لَيْسَ من الْوَرع. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْوَرع فِي مثل هَذَا وَسْوَسَة شيطانية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا من معنى الشُّبْهَة شَيْء، وَسبب الْوُقُوع فِي ذَلِك عدم الْعلم بالمقاصد الشَّرْعِيَّة. قلت: من ذَلِك مَا ذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، فَحكى عَن قوم أَنَّهُمَا لَا يلبسُونَ ثيابًا جدداً حَتَّى يغسلوها، لما فِيهَا مِمَّن يعاني قصر الثِّيَاب، ودقها وتجفيفها، وإلقائها وَهِي رطبَة على الأَرْض النَّجِسَة، ومباشرتها بِمَا يغلب على الظَّن نَجَاسَته من غير أَن يغسل بعد ذَلِك، فَاشْتَدَّ نكيره عَلَيْهِم،وَقَالَ: هَذِه طَريقَة الْخَوَارِج الحرورية، أبلاهم الله، تَعَالَى بالغلق فِي غير مَوضِع القلق، وبالتهاون فِي مَوضِع الِاحْتِيَاط، وفاعل ذَلِك معترض على أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ ، فانهم كَانُوا يلبسُونَ الثِّيَاب الجدد قبل غسلهَا، وَحَال الثِّيَاب فِي أعصارهم، كحالها فِي أعصارنا، وَلَو أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغسلها مَا خَفِي، لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى
    .......
    (1/ 302)
    حَاصِل مَا ذكر الْعلمَاء هَهُنَا فِي تَفْسِير الشُّبُهَات أَرْبَعَة أَشْيَاء. تعَارض الادلة، وَاخْتِلَاف الْعلمَاء، وَقسم الْمَكْرُوه والمباح. وَقد قيل: الْمَكْرُوه عقبَة بَين الْحل وَالْحرَام، فَمن استكثر من الْمَكْرُوه تطرق إِلَى الْحَرَام، والمباح عقبَة بَينه وَبَين الْمَكْرُوه، فَمن استكثر مِنْهُ تطرق إِلَى الْمَكْرُوه، ويعضد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق ذكر مُسلم أسنادها وَلم يسْبق لَفظهَا،
    .....
    (1/303)
    (أَلا وَإِن لكل ملك حمى) هَذَا مثل ضربه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذَلِكَ أَن مُلُوك الْعَرَب كَانَت تَحْمِي مرَاعِي لمواشيها
    وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا الْمثل من كَلَام الشّعبِيّ، وَأَنه مدرج فِي الحَدِيث، وَرُبمَا اسْتدلَّ فِي ذَلِك لما وَقع لِابْنِ الْجَارُود والاسماعيلي من رِوَايَة ابْن عون عَن الشعبى،قَالَ ابْن عون فِي آخر الحَدِيث: فَلَا ادري الْمثل من النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، اَوْ من قَول الشّعبِيّ؟وَأجِيب: بِأَن تردد ابْن عون فِي رَفعه لَا يسْتَلْزم كَونه مدرجاً، لِأَن الاثبات قد جزموا باتصاله وَرَفعه، فَلَا يقْدَح شكّ بَعضهم فِيهِ. فان قلت: قد سقط الْمثل فِي رِوَايَة بعض الروَاة، كَأبي فَرْوَة عَن الشّعبِيّ، فَدلَّ على الإدراج. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن هَذَا لَا يقْدَح فِيمَن اثْبتْ من الْحفاظ الاثبات، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا. وَقَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حذف البُخَارِيّ قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، ليصير مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ، فَيسلم من دَعْوَى الإدراج. قلت: هَذَا الْكَلَام لَيْسَ لَهُ معنى أصلا، وَلَا هُوَ دَلِيل على منع دَعْوَى الإدراج،وَذَلِكَ لَان قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، لم يحذفه البُخَارِيّ عمدا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي هَذِه الطَّرِيق هَكَذَا، مثل مَا سَمعه، وَقد ثَبت ذَلِك فِي غير هَذِه الطَّرِيق، وَكَيف يحذف لفظا مَرْفُوعا مُتَّفقا عَلَيْهِ لأجل الدّلَالَة على رفع لفظ قد قيل فِيهِ بالإدراج؟
    .........
    (1/ 302)
    أَن الْعقل فِي الْقلب لَا فِي الرَّأْس. قلت: فِيهِ خلاف مَشْهُور، فمذهب الشَّافِعِيَّة والمتكلمين أَنه فى الْقلب، وَمذهب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه فِي الدِّمَاغ. وَحكي الأول عَن الفلاسفة، وَالثَّانِي عَن الْأَطِبَّاء. وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا فسد الدِّمَاغ فسد الْعقل. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعقل إِنَّمَا هُوَ فِي الْقلب، وَمَا فِي الرَّأْس مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ عَن الْقلب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَن الْعقل فِي الْقلب،وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على أَن: من حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا، فَأكل قلباً، حنث. قلت: ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ،احدهما: يَحْنَث، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو بكر الصيدلاني الْمروزِي،وَالأَصَح انه: لَا يَحْنَث، لِأَنَّهُ لَا يُسمى لَحْمًا
    .........
    (1/ 304)
    ذكر الجواني فِي الفاضلة أَن الْعَرَب على طَبَقَات عشر اعلاها الجذم ثمَّ الْجُمْهُور ثمَّ الشعوب وَاحِدهَا شعب ثمَّ الْقَبِيلَة ثمَّ الْعِمَارَة ثمَّ الْبَطن ثمَّ الْفَخْذ ثمَّ الْعَشِيرَة ثمَّ الفصيلة ثمَّ الرَّهْط وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَأول الْعَرَب شعوب ثمَّ قبائل ثمَّ عمائر ثمَّ بطُون ثمَّ أفخاذ ثمَّ فصائل ثمَّ عشاءر وَقدم الْأَزْهَرِي العشائر على الْفَضَائِل قَالَ وهم الْأَحْيَاء وَقَالَ ابْن دُرَيْد الشّعب الْحَيّ الْعَظِيم من النَّاس قلت: الجذم بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة أصل الشَّيْء والشعب بِالْفَتْح مَا تشعب من قبائل الْعَرَب والعجم والعمارة بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم وَجوز الْخَلِيل فتح عينهَا قَالَ فِي الْعباب وَهِي الْقَبِيلَة وَالْعشيرَة وَقيل هِيَ الْحَيّ ينْفَرد بظعنه
    ..........
    (1/ 306)
    قَالَ العسكري أول من قَالَ مرْحَبًا سيف ذُو يزن
    ......
    (1/ 307)
    وَفد عبد الْقَيْس " قَالَ النَّوَوِيّ كَانُوا أَرْبَعَة عشر رَاكِبًا كَبِيرهمْ الْأَشَج وسمى مِنْهُم صَاحب التَّحْرِير وَصَاحب مَنْهَج الراغبين شارحا مُسلم ثَمَانِيَة أنفس الأول رئيسهم وَكَبِيرهمْ الْأَشَج واسْمه المندر بن عَائِذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن الْمُنْذر بن الْحَارِث بن النُّعْمَان بن زِيَاد بن عصر كَذَا نسبه أَبُو عمر وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ المندر بن عَوْف بن عَمْرو بن زِيَاد بن عصر وَكَانَ سيد قومه قلت عصر بِفَتْح الْمُهْمَلَتَيْ نِ بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن بكر بن عَوْف بن أَنْمَار بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بِضَم اللَّام وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة بن افصى بِالْفَاءِ بن عبد الْقَيْس بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار وَ
    وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَشَج لأثر كَانَ فِي وَجهه الثَّانِي عَمْرو بن المرجوم
    وَقَالَ صَاحب التَّحْرِير لم أظفر بعد طول التتبع لأسماء البَاقِينَ قلت السِّتَّة الْبَاقِيَة على مَا ذكرُوا هم عتبَة بن حروة والجهيم بن قثم والرسيم الْعَدْوى وجويرة الْكِنْدِيّ والزارع بن عَائِد الْعَبْدي وَقيس بن النُّعْمَان
    ......
    (1/ 314)
    لْأَحْكَام بِتَمَامِهَا، وَكثير مِنْهَا لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة، بِخِلَاف بَين الْعلمَاء؟ فَإِن قَالَ هَذَا بِنَاء على مذْهبه فمذهبه لَيْسَ كَذَلِك،فَإِن القَاضِي أَبَا الطّيب نقل عَن الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَن: مَن صرح بِلَفْظ الطَّلَاق وَالظِّهَار وَالْعِتْق، وَلم يكن لَهُ نِيَّة، يلْزمه فِي الحكم. وَكَذَلِكَ أَدَاء الدّين ورد الودائع وَالْأَذَان والتلاوة والأذكار وَالْهِدَايَة إِلَى الطَّرِيق وإماطة الْأَذَى عبادات كلهَا تصح بِلَا نِيَّة إِجْمَاعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْأَحْكَام أَي: الْمُعَامَلَات الَّتِي يدْخل فِيهَا الِاحْتِيَاج إِلَى المحاكمات فَيشْمَل الْبيُوع والأنكحة والأقارير وَغَيرهَ
    .........
    (1/ 314)
    وَقَالَ ابْن الْمُنِير: كل عمل لَا تظهر لَهُ فَائِدَة عَاجلا، بل الْمَقْصُود بِهِ طلب الثَّوَاب، فالنية شَرط فِيهِ، وكل عمل ظَهرت فَائِدَته ناجزة، وتقاضته الطبيعة، فَلَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة،إلاَّ لمن قصد بِفِعْلِهِ معنى آخر يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتلفت الْعلمَاء فِي بعض الصُّور لتحَقّق منَاط التَّفْرِقَة. قَالَ: وَأما مَا كَانَ من الْمعَانِي المختصة: كالخوف والرجاء، فَهَذَا لَا يُقَال فِيهِ بِاشْتِرَاط النِّيَّة، لِأَنَّهُ لَا يُمكن إلاَّ منوياً وَمَتى فرضت النِّيَّة مفقودة فِيهِ استحالت حَقِيقَته، فالنية فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط النِّيَّة للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل.
    قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: فِي قَوْله: كل عمل لَا يظْهر لَهُ فَائِدَة، فَإِنَّهُ منقوض بِتِلَاوَة الْقُرْآن وَالْأَذَان وَسَائِر الْأَذْكَار. فَإِنَّهَا أَعمال لَا تظهر لَهَا فَائِدَة عَاجلا، بل الْمَقْصُود مِنْهَا طلب الثَّوَاب، مَعَ أَن النِّيَّة لَيست بِشَرْط فِيهَا بِلَا خلاف. الثَّانِي: فِي قَوْله: وكل عمل ظَهرت. إِلَى آخِره. فَإِنَّهُ منقوض أَيْضا بِالْبيعِ وَالرَّهْن وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح بسبق اللِّسَان من غير قصد، فَإِنَّهُ منقوض لم يَصح شَيْء مِنْهَا على أصلهم لعدم النِّيَّة. الثَّالِث: فِي قَوْله: وَأما مَا كَانَ من الْمعَانِي المختصة. إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ جعل النِّيَّة فِيهِ حَقِيقَة تِلْكَ الْمعَانِي،ثمَّ قَالَ: فالنية فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَبَين الْكَلَامَيْنِ تنَاقض. الرَّابِع: فِي قَوْله: وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط النِّيَّة للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل، فَإِنَّهُ بنى عدم اشْتِرَاط النِّيَّة للنِّيَّة على الْفِرَار من التسلسل وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الشَّارِع شَرط النِّيَّة للأعمال، وَهِي حركات الْبدن، وَالنِّيَّة خطرة الْقلب وَلَيْسَت من الْأَعْمَال،وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) . فَإِذا كَانَت النِّيَّة عملا يكون الْمَعْنى: عمل الْمُؤمن خير من عمله. وَهَذَا لَا معنى لَهُ.
    ........
    (1/ 318)
    قَالَ ابْن عباد: يَقُولُونَ: هُوَ أهلة، لكل خير بِالْهَاءِ،وَالْفرق بَين الْأَهْل والآل أَن: الْآل يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف: وَفِي (الْعباب) : آل الرجل: أَهله وَعِيَاله،وَآله: أَيْضا أَتْبَاعه. قَالَ تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} (آل عمرَان: 11،الْأَنْفَال: 52 و 54) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: يَعْنِي من آل إِلَيْهِ بدين أَو مَذْهَب أَو نسب،وَآل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عشيرته. وَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَن آل مُحَمَّد؟قَالَ: كل تَقِيّ) . قلت: هُوَ واوي، فَلذَلِك ذكره أهل اللُّغَة فِي بَاب أول
    ........
    (1/ 318)
    قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي قَوْله: يحتسبها، أَفَادَ بمنطوقه أَن الْأجر فِي الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل بِقصد الْقرْبَة وَاجِبَة أَو مُبَاحَة، وَأفَاد بمفهومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم يُؤجر، لَكِن تَبرأ ذمَّته من الْوَاجِبَة لِأَنَّهَا معقولة الْمَعْنى.
    .......

    (1/ 320)
    قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَيَان لقاعدة مهمة،وَهِي: أَن مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى ثَبت فِيهِ الْأجر، وَإِن حصل لفَاعِله فِي ضمنه حَظّ نفس من لَذَّة أَو غَيرهَا، فَلهَذَا مثل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَضْع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، وَمَعْلُوم أَنه غَالِبا يكون بحظ النَّفس والشهوة واستمالة قَلبهَا، فَإِذا كَانَ الَّذِي هُوَ من حظوظ النَّفس بِالْمحل الْمَذْكُور من ثُبُوت الْأجر فِيهِ، وَكَونه طَاعَة وَعَملا أخروياً إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى، فَكيف الظَّن بِغَيْرِهِ مِمَّا يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَهُوَ مباعد للحظوظ النفسانية؟
    .........
    (1/ 320)
    الدين النصيحة
    إِن البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، ختم كتاب الْإِيمَان بِهَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ حَدِيث عَظِيم جليل حفيل، عَلَيْهِ مدَار الْإِسْلَام،كَمَا قيل: إِنَّه أحد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام، فَيكون هَذَا ربع الْإِسْلَام. وَمِنْهُم من قَالَ: يُمكن أَن يسْتَخْرج مِنْهُ الدَّلِيل على جَمِيع الْأَحْكَام
    .....
    (1/ 321)
    أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عباد الْمَكِّيّ ثَنَا سُفْيَان عَن سُهَيْل عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن تَمِيم الدَّارِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: (الدّين النَّصِيحَة. قُلْنَا: لمن؟قَالَ: لله ولكتابه ولرسله ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم) . وَلَيْسَ لتميم الدَّارِيّ فِي صَحِيح مُسلم غَيره، أخرجه فِي بَاب الْإِيمَان
    ن حَدِيث النَّصِيحَة رُوِيَ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَهُوَ وهم من سُهَيْل أَو مِمَّن روى عَنهُ. قَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : لَا يَصح إلاَّ عَن تَمِيم، وَلِهَذَا الِاخْتِلَاف لم يُخرجهُ فِي (صَحِيحه)
    .........
    (1/ 322)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّصِيحَة كلمة جَامِعَة مَعْنَاهَا: حِيَازَة الْحَظ للمنصوح لَهُ،وَيُقَال: هُوَ من وجيز الْأَسْمَاء، ومختصر
    الْكَلَام، وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة مُفْردَة تستوفى بهَا الْعبارَة عَن معنى هَذِه الْكَلِمَة،كَمَا قَالُوا فِي الْفَلاح: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة مُفْردَة تستوفى بهَا الْعبارَة عَن معنى مَا جمعت من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. أما النَّصِيحَة لله تَعَالَى: فمعناها يرجع إِلَى الْإِيمَان بِهِ، وَنفي الشّرك عَنهُ، وَترك الْإِلْحَاد فِي صِفَاته، وَوَصفه بِصِفَات الْجلَال والكمال، وتنزيهه تَعَالَى عَن النقائص، وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ وَاجْتنَاب مَعْصِيَته، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عَصَاهُ، وَالِاعْتِرَاف بنعمته وشكره عَلَيْهَا وَالْإِخْلَاص فِي جَمِيع الْأُمُور.
    ......
    (1/ 323)
    جرير بن عبد الله بن جَابر بن مَالك بن نضر بن ثَعْلَبَة البَجلِيّ الأحمسي، أَبُو عبد الله، أَبُو عمر، نزل الْكُوفَة ثمَّ تحول إِلَى قرقيسيا، وَبهَا توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين
    أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى سَنَام الْبَعِير كَانَت صنمه ذِرَاعا، وَاعْتَزل الْفِتْنَة، وَكَانَ يدعى يُوسُف هَذِه الْأمة لحسنه
    .......
    (1/ 324)
    أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل، السدُوسِي الْبَصْرِيّ، الْمَعْرُوف بعارم، بمهملتين، وَهُوَ لقب رَدِيء،لِأَن العارم: الشرير الْمُفْسد. يُقَال: عرم يعرم عرامة، بِالْفَتْح،وَصبي عَارِم أَي: شرير بَين العرام، بِالضَّمِّ. وَكَانَ رَحمَه الله بَعيدا مِنْهُ، لَكِن لزمَه هَذَا اللقب فاشتهر بِهِ،
    ..........
    (1/ 325)
    قَاعِدَة أصولية وَهِي: إِن شَرط اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُخَالفَة فقدان مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَإِذا اجْتمعَا يقدم الْمَفْهُوم الْمُوَافق على الْمُخَالف. قلت: مَفْهُوم الْمُوَافقَة مَا كَانَ حكم الْمَسْكُوت عَنهُ مُوَافقا لحكم الْمَنْطُوق بِهِ، كمفهوم تَحْرِيم الضَّرْب للْوَالِدين، من تنصيص تَحْرِيم التأفيف لَهما، وَمَفْهُوم الْمُخَالفَة مَا كَانَ حكم الْمَسْكُوت عَنهُ مُخَالفا لحكم الْمَنْطُوق، كفهم نفي الزَّكَاة عَن العلوفة بتنصيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وجوب الزَّكَاة فِي الْغنم السَّائِمَة.
    .........
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    تم ختم وتلخيص المجلد الأول من كتاب "
    " الإيمان "
    ويليه كتاب " العلم "

  8. #228
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الجمعة
    الموافق : 27/ شوال / 1441 هجري
    الموافق : 19/ يونيو / 2020 ميلادي


    " بداية المجلد الثاني " كتاب " العلم " من " عمدة القاري " للحافظ بدر الدين العيني رحمه الله .

    الجزء الثاني
    " كتاب العلم "
    (2/2)
    الَ الْجَوْهَرِي: علمت الشَّيْء أعلمهُ علما: عَرفته، بِالْكَسْرِ، فَهَذَا كَمَا ترى لم يفرق بَين الْعلم والمعرفة، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، لِأَن الْمعرفَة إِدْرَاك الجزئيات، وَالْعلم إِدْرَاك الكليات،وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: الله عَارِف كَمَا يُقَال: عَالم. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعلم نقيض الْجَهْل، علم علما، وَعلم هُوَ نَفسه، وَرجل عَالم وَعَلِيم من قوم عُلَمَاء، وعلاَّم وعلامة من قوم علامين،والعلام والعلامة: النسابة
    ............
    (2/2)
    لْعلمَاء اخْتلفُوا فِي حد الْعلم،فَقَالَ بَعضهم: لَا يحد، وَهَؤُلَاء اخْتلفُوا فِي سَبَب عدم تحديده،فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: لعسر تحديده، وَإِنَّمَا تَعْرِيفه بِالْقِسْمَةِ والمثال. وَقَالَ بَعضهم،وَمِنْهُم الإِمَام فَخر الدّين: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، إِذْ لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَاللَّازِم بَاطِل، فالملزوم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة: أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لَكَانَ نظرياً، إِذْ لَا وَاسِطَة، وَلَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، ينْتج أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور،
    .....
    (2/ 5)
    لتحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد،وَهُوَ قَوْله: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر،وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا. وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر،وَهُوَ أَن الشَّيْخ إِذا حدث لَهُ وَهُوَ السَّامع وَحده يَقُول: حَدثنِي، وَإِذا حدث وَمَعَهُ غَيره،يَقُول: حَدثنَا.
    ......
    (2/ 7)
    وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن من يمنعهُ الصّرْف يُلَاحظ فِيهِ العلمية والعجمة، أما العلمية فَظَاهر، وَأما العجمة فَإِن مَاهك بِالْفَارِسِيَّ ةِ تَصْغِير ماه، وَهُوَ الْقَمَر بالعربي، وقاعدتهم أَنهم إِذا صغروا الِاسْم أدخلُوا فِي آخِره الْكَاف، وَأما من يصرفهُ فَإِنَّهُ يُلَاحظ فِيهِ معنى الصّفة، لِأَن التصغير من الصِّفَات، وَالصّفة لَا تجامع العلمية،
    يوسف بن مَاهك من التَّابِعين الثِّقَات،وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّه عَرَبِيّ مَعَ كَون الْهَاء مَفْتُوحَة بِأَن يكون علما مَنْقُولًا من مَاهك، وَهُوَ فعل مَاض من المماهكة،وَهُوَ: الْجهد فِي الْجِمَاع من الزَّوْجَيْنِ، فعلى هَذَا لَا يجوز صرفه أصلا للعلمية، وَوزن الْفِعْل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: مَاهك اسْم أمه، وَالْأَكْثَر على أَنه اسْم أَبِيه، وَاسم أمه مُسَيْكَة. وَعَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ: أَن يُوسُف بن مَاهك، ويوسف بن ماهان وَاحِد. قلت: فعلى قَول الدَّارَقُطْنِي ّ يمْنَع من الصّرْف أصلا للعلمية والتأنيث. فَافْهَم.
    .....
    (2/11)
    عْلَم أَن قَوْله: قَالَ الْحميدِي، لَا يدل جزما على أَنه سَمعه مِنْهُ، فَيحْتَمل الْوَاسِطَة،وَهُوَ أحط مرتبَة من: حَدثنَا وَنَحْوه،سَوَاء كَانَ بِزِيَادَة: لنا، أَو لم يكن، لِأَنَّهُ يُقَال على سَبِيل المذاكرة،بِخِلَاف نَحْو: حَدثنَا، فَإِنَّهُ يُقَال على سَبِيل النَّقْل والتحمل. وَقَالَ جَعْفَر بن حمدَان النَّيْسَابُورِ ي: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا خلاف أَنه يجوز فِي السماع من لفظ الشَّيْخ أَن يَقُول السَّامع فِيهِ: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وانبأنا، وسمعته يَقُول، وَقَالَ لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان؛ وَإِلَيْهِ مَال الطَّحَاوِيّ. وَصحح هَذَا الْمَذْهَب ابْن الْحَاجِب، وَنقل هُوَ وَغَيره عَن الْحَاكِم أَنه مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْمُحدثين مِنْهُم الزُّهْرِيّ وَيحيى الْقطَّان. وَقيل: إِنَّه قَول مُعظم الْحِجَازِيِّين َ والكوفيين فَلذَلِك اخْتَارَهُ البُخَارِيّ بنقله عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة،وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إلاَّ مُقَيّدا مثل: حَدثنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين. وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي: حَدثنَا، وبالجواز فِي أخبرنَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمُسلم بن الْحجَّاج وَجُمْهُور أهل الْمشرق، وَنقل عَن أَكثر الْمُحدثين مِنْهُم ابْن جريج وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن وهب. وَقيل: إِن عبد اللَّه ابْن وهب أول من أحدث هَذَا الْفرق بِمصْر، وَصَارَ هُوَ الشَّائِع الْغَالِب على أهل الحَدِيث،وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه اصْطِلَاح مِنْهُم أَرَادوا بِهِ التَّمْيِيز بَين النَّوْعَيْنِ،وخصصوا قِرَاءَة الشَّيْخ: بحدثنا، لقُوَّة إشعاره بالنطق والمشافهة، وأحدث الْمُتَأَخّرُون َ تَفْصِيلًا آخر وَهُوَ أَنه مَتى سمع وَحده من لفظ الشَّيْخ أفرد،فَقَالَ: حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت،وَمَتى سمع مَعَ غَيره جمع فَقَالَ: حَدثنَا أَو أخبرنَا،وَمَتى قَرَأَ بِنَفسِهِ على الشَّيْخ أفرد
    .......
    (1/ 14)
    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْمثل، فِي أصل كَلَامهم بِمَعْنى الْمثل،يُقَال: مثل وَمثل ومثيل كشبه وَشبه وشبيه،ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، وَلم يضْربُوا مثلا وَلَا رَأَوْهُ أَهلا للتسيير، وَلَا جَدِيرًا بالتداول وَالْقَبُول إلاَّ قولا فِيهِ غرابة من بعض الْوُجُوه. قلت: لضرب الْمثل شَأْن فِي إبراز خبيئات الْمعَانِي، وَرفع الاستار عَن الْحَقَائِق، فَإِن الْأَمْثَال تري المخيل فِي صُورَة الْمُحَقق، والمتوهم فِي معرض الْمُتَيَقن، وَالْغَائِب كَأَنَّهُ مشَاهد، وَلَا يضْرب مثل إلاَّ قَول فِيهِ غرابة،فَإِن قلت: مَا المورد وَمَا المضرب؟قلت: المورد: الصُّورَة الَّتِي ورد فِيهَا ذَلِك القَوْل، والمضرب هِيَ الصُّورَة الَّتِي شبهت بهَا. ثمَّ اعْلَم أَن الْمثل لَهُ مَفْهُوم لغَوِيّ، وَهُوَ النظير. وَمَفْهُوم عرفي، وَهُوَ القَوْل السائر، وَمعنى مجازي وَهُوَ الْحَال الغريبة
    ........
    (2/ 15)
    جَوَاز اللغز مَعَ بَيَانه. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه نهى عَن الأغلوطات) ، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، أحد رُوَاته: هِيَ صعاب الْمسَائِل. قلت: هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا أخرج على سَبِيل تعنيت المسؤول أَو تعجيزه أَو تخجيله
    ........
    (2/ 15 )
    ن الْعَالم الْكَبِير قد يخفى عَلَيْهِ بعض مَا يُدْرِكهُ من هُوَ دونه، لِأَن الْعلم منح إلهية ومواهب رحمانية، وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء.
    .......
    (2/ 15)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: إِن النَّخْلَة خلقت من بَقِيَّة طِينَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَهِيَ كالعمة للأناسي. قلت: رُوِيَ فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه لم يثبت.
    .........
    (2/ 16 )
    لَا يَقع الْعرض إلاَّ بِالْقِرَاءَةِ، مشْعر بِأَن بَينهمَا مُسَاوَاة، لِأَنَّهُمَا متلازمان فِي الصدْق كالإنسان والناطق، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن الْعرض بِالْمَعْنَى الْأَخَص مساوٍ للْقِرَاءَة، وبالمعنى الْأَعَمّ يكون بَينهمَا عُمُوم وخصوص مُطلق لاستلزام صدق أَحدهمَا صدق الآخر، والمستلزم أخص مُطلقًا، وَاللَّازِم أَعم، فالقراءة بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، وَالْعرض
    مثل الحيوان
    .........
    (2/ 17)
    الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم، ابْن الضَّحَّاك بن مُسلم ابْن رَافع بن الْأسود بن عَمْرو بن والان بن ثَعْلَبَة بن شَيبَان، الْبَصْرِيّ الْمَشْهُور بالنبيل، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره لَام، لقب بِهِ لِأَنَّهُ قدم الْفِيل الْبَصْرَة، فَذهب النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ابْن جرير: مَالك لَا تنظر؟ فَقَالَ: لَا أجد مِنْك عوضا. فَقَالَ: أَنْت نبيل، أَو لقب بِهِ لكبر أَنفه أَو لِأَنَّهُ كَانَ يلْزم زفر، رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَانَ حسن الْحَال فِي كسوته؟ وَكَانَ أَبُو عَاصِم آخر رث الْحَال ملازماً لَهُ، فجَاء النَّبِيل يَوْمًا إِلَى بَابه فَقَالَ الْخَادِم لزفَر: أَبُو عَاصِم بِالْبَابِ! فَقَالَ لَهُ: أَيهمَا؟ فَقَالَ: ذَلِك النَّبِيل. وَقيل: لقبه الْمهْدي، مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ عَن تسعين سنة وَسِتَّة أشهر
    .....
    (2/ 22)
    قَالَ ابْن الصّلاح. فِيهِ دلَالَة لصِحَّة مَا ذهب إِلَيْهِ الْعلمَاء من أَن الْعَوام المقلدين مُؤمنُونَ، وَأَنه يكْتَفى مِنْهُم بِمُجَرَّد اعْتِقَادهم الْحق، جزما من غير شكّ وتزلزل، خلافًا للمعتزلة، وَذَلِكَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قرر ضماماً على مَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي تعرف رسَالَته، وَصدقه بِمُجَرَّد إخْبَاره إِيَّاه بذلك، وَلم يُنكره عَلَيْهِ، وَلَا قَالَ لَهُ: يجب عَلَيْك معرفَة ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى معجزاتي، وَالِاسْتِدْلَا ل بالأدلة القطعية.
    ....
    (2/ 23)
    هَل النجدي السَّائِل فِي حَدِيث طَلْحَة بن عبيد اللَّه الْمَذْكُور فِيمَا مضى هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَو غَيره؟ أُجِيب: بِأَن جمَاعَة قد قَالُوا: إِنَّه هُوَ إِيَّاه، والنجدي هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة، وَمَال إِلَى هَذَا ابْن عبد الْبر وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يبعد أَن يَكُونَا وَاحِدًا لتباين أَلْفَاظ حديثيهما ومساقهما
    .......
    (2/ 24)
    قَالَ أَبُو عَمْرو الداني: أَكثر الْعلمَاء على أَن عُثْمَان كتب أَربع نسخ، فَبعث إِحْدَاهُنَّ إِلَى الْبَصْرَة، وَأُخْرَى إِلَى الْكُوفَة، وَأُخْرَى إِلَى الشَّام، وَحبس عِنْده أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: كتب سَبْعَة، فَبعث إِلَى مَكَّة وَاحِدًا، وَإِلَى الشَّام آخر، وَإِلَى الْيمن آخر وَإِلَى الْبَحْرين آخر، وَإِلَى الْبَصْرَة آخر، وَإِلَى الْكُوفَة آخر، وَدلَالَة هَذَا على تَجْوِيز الرِّوَايَة بالمكاتبة ظَاهِرَة، فَإِن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَمرهم بالاعتماد على مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِف، وَمُخَالفَة مَا عَداهَا. والمستفاد من بَعثه الْمَصَاحِف إِنَّمَا هُوَ قبُول إِسْنَاد صُورَة الْمَكْتُوب بهَا، لَا أصل ثُبُوت الْقُرْآن، فَإِنَّهُ متواتر
    ....
    (2/ 29)
    عبد الله بن حذافة السهمي
    وَقيل: إِنَّه شهد بَدْرًا، وَلم يذكرهُ الزُّهْرِيّ وَلَا مُوسَى بن عقبَة، وَلَا ابْن إِسْحَاق فِي الْبَدْرِيِّينَ ، وأسره الرّوم فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فأرادوه على الْكفْر. وَله فِي ذَلِك قصَّة طَوِيلَة، وَآخِرهَا: أَنه قَالَ لَهُ ملكهم: قبِّل رَأْسِي أطلقك. قَالَ: لاَ، قَالَ لَهُ: وَأطلق من مَعَك من أسرى الْمُسلمين، فَقبل رَأسه، فَأطلق مَعَه ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. فَكَانَ الصَّحَابَة يَقُولُونَ لَهُ: قبَّلت رَأس علج. فَيَقُول: اطلق الله بِتِلْكَ الْقبْلَة ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. توفّي عبد اللَّه فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ
    .........
    (2/ 28)
    سْرَى، لقب لكل من ملك الْفرس، كَمَا أَن: قَيْصر، لقبٌ لكل من ملك الرّوم. وَالَّذِي مزق الْكتاب من الأكاسرة هُوَ برويز بن هُرْمُز بن أنوشروان، وَلما مزق الْكتاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مزق ملكه) . وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا مَاتَ كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده) . قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَسلط على كسْرَى ابْنه شرويه وَقَتله سنة سبع، فتمزق ملكه كل ممزق، وَزَالَ من جَمِيع الأَرْض واضمحل بدعوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أنو شرْوَان هُوَ الَّذِي ملك النُّعْمَان بن الْمُنْذر على الْعَرَب، وَهُوَ الَّذِي قَصده سيف بن ذِي يزن يستنصره على الْحَبَشَة، فَبعث مَعَه قائداً من قواده، فنفوا السودَان. وَكَانَ ملكه سبعا وَأَرْبَعين سنة وَسَبْعَة أشهر. وَقَالَ ابْن سعد: لما مزق كسْرَى كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث إِلَى باذان، عَامله فِي الْيمن، أَن ابْعَثْ من عنْدك رجلَيْنِ جلدين إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي بالحجاز فليأتياني بِخَبَرِهِ، فَبعث باذان قهرمانه ورجلاً آخر، وَكتب مَعَهُمَا كتابا، فَقدما الْمَدِينَة فدفعا كتاب باذان إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَتَبَسَّمَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودعاهما إِلَى الْإِسْلَام وفرائصهما ترْعد، وَقَالَ لَهما: (أبلغا صاحبكما أَن رَبِّي قتل ربه كسْرَى فِي هَذِه اللَّيْلَة لسبع سَاعَات مَضَت مِنْهَا) ، وَهِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لعشر مضين من جُمَادَى الأولى سنة سبع، وَأَن الله سلط عَلَيْهِ ابْنه شرويه فَقتله
    ........
    (2/ 29)
    نسخ جَوَاز لبس خَاتم الذَّهَب بعد أَن كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لبسه، وَلَا يُعَارض ذَلِك مَا جَاءَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم عَن أنس أَنه رأى فِي يَد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمًا من ورق يَوْمًا وَاحِدًا، ثمَّ إِن النَّاس اصطنعوا الْخَاتم من ورق فَلَبِسُوهَا، فَطرح رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمه، فَطرح النَّاس خواتيمهم، رَوَاهُ يُونُس وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَزِيَاد، وزاده أَبُو دَاوُد وَابْن مُسَافر، فَهَؤُلَاءِ خَمْسَة من رُوَاة الزُّهْرِيّ الثِّقَات يَقُولُونَ عَنهُ: من ورق، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اجْمَعْ أهل الحَدِيث أَن هَذَا وهم من ابْن شهَاب، من خَاتم الذَّهَب إِلَى خَاتم الْوَرق، وَالْمَعْرُوف من رِوَايَة أنس من غير طَرِيق ابْن شهَاب اتِّخَاذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتم فضَّة، وَأَنه لم يطرحه، وَإِنَّمَا طرح خَاتم الذَّهَب. وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره: وَقد يُمكن أَن يتَأَوَّل لِابْنِ شهَاب مَا يَنْفِي عَنهُ الْوَهم، وَإِن كَانَ الْوَهم أظهر بِاحْتِمَال أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما عزم على طرح خَاتم الذَّهَب اصْطنع خَاتم الْفضة، بِدَلِيل أَنه لَا يَسْتَغْنِي عَن الْخَتْم بِهِ على الْكتب إِلَى الْبلدَانِ، وأجوبة الْعمَّال وَغَيرهمَا، فَلَمَّا لبس خَاتم الْفضة أرَاهُ النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم ليعلمهم إِبَاحَته، وَأَن يصطنعوا مثله ثمَّ طرح خَاتم الذَّهَب وأعلمهم تَحْرِيمه، فَطرح النَّاس خَوَاتِيم الذَّهَب.
    ............
    (2/ 41)
    وَفِي أَيَّام اشتغالي على الإِمَام الْعَلامَة أبي الرّوح شرف الدّين عِيسَى السِّرّ ماري فِي علمي التَّفْسِير والمعاني وَالْبَيَان، تغمده الله برحمته، حضر شخص من أهل الْعلم وَقت الدَّرْس وَسَأَلَهُ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: خشيَة الله تَعَالَى مَقْصُورَة على الْعلمَاء بقضية الْكَلَام، وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى أَن الْجنَّة لمن خشِي، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن خشِي ربه} (الْبَيِّنَة: 8) فليزم من ذَلِك أَن لَا تكون الْجنَّة إِلَّا للْعُلَمَاء خَاصَّة، فَسكت جَمِيع من كَانَ هُنَاكَ من الْفُضَلَاء الأذكياء الَّذين كَانَ كل مِنْهُم يزْعم أَنه المفلق فِي العلمين الْمَذْكُورين، فَأجَاب الشَّيْخ، رَحمَه الله: إِن المُرَاد من الْعلمَاء: الموحدون، وَإِن الْجنَّة لَيست إلاَّ للموحدين الَّذين يَخْشونَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ ظَاهر، وَذَلِكَ أَن الْبَاب فِي الْعلم، وَالْآيَة فِي مدح الْعلمَاء، وَلم يستحقوا هَذَا الْمَدْح إلاَّ بِالْعلمِ.
    ............
    (1/ 41)
    الْمعْنَى: لَو كُنَّا من أهل الْعلم لما كُنَّا من أهل النَّار، وَإِنَّمَا جمع بَين السّمع وَالْعقل لِأَن مدَار التَّكْلِيف على أَدِلَّة السّمع وَالْعقل. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ لَو كُنَّا نسْمع سمع من يعي، أَو نعقل عقل من يُمَيّز وَينظر، مَا كُنَّا من أهل النَّار. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (إِن لكل شَيْء دعامة، ودعامة الْمُؤمن عقله) . فبقدر مَا يعقل يعبد ربه، وَلَقَد نَدم الْفجار يَوْم الْقِيَامَة فَقَالُوا: {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} (الْملك: 10) روى أنس، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا؛ (إِن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الْفَاجِر، وَإِنَّمَا يرْتَفع الْعباد غَدا فِي الدَّرَجَات، وينالون الزلفى من رَبهم على قدر عُقُولهمْ. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: وَجهه أَن المُرَاد من الْعقل الْعلم هَهُنَا، فَإِن الْكفَّار تمنوا أَن لَو كَانَ لَهُم الْعلم لما دخلُوا النَّار.
    ..........
    (2/ 50)
    وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْفَقِيه هُوَ الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِب فِي الْآخِرَة، والبصير بِأَمْر دينه، المداوم على عبَادَة ربه.
    .........
    (2/50)
    وَقَالَ ثَعْلَب: الْقُرْآن أصل لكل علم بِهِ فقه الْعلمَاء
    .....
    (2/ 51)
    وَقَالَ التوربشتى: إعلم أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أعلم أَصْحَابه أَنه لم يفضل فِي قسْمَة مَا أوحى الله إِلَيْهِ أحدا من أمته على أحد، بل سوَّى فِي الْبَلَاغ وَعدل فِي الْقِسْمَة، وَإِنَّمَا التَّفَاوُت فِي الْفَهم وَهُوَ وَاقع من طَرِيق الْعَطاء، وَلَقَد كَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يسمع الحَدِيث فَلَا يفهم مِنْهُ إلاّ الظَّاهِر الْجَلِيّ، ويسمعه آخر مِنْهُم، أَو من بعدهمْ، فيستنبط مِنْهُ مسَائِل كَثِيرَة، وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: (إِنَّمَا أَنا قَاسم) ، يَعْنِي: أَنه لم يستأثر بِشَيْء من مَال الله، وَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (مَا لي بِمَا أَفَاء الله عَلَيْكُم إلاَّ الْخمس، وَهُوَ مَرْدُود عَلَيْكُم) . وَإِنَّمَا قَالَ: (أَنا قَاسم) تطييباً لنفوسهم لمفاضلته فِي الْعَطاء، فَالْمَال لله والعباد لله وأَنا قَاسم بِإِذن الله مَاله بَين عباده.
    ........
    (2/51)
    قَالَ: (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خالفهم، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا مُخَالفَة بَين الْأَحَادِيث، لِأَن المُرَاد من أَمر الله الرّيح اللينة الَّتِي تَأتي قريب الْقِيَامَة، فتأخذ روح كل مُؤمن ومؤمنة، وَهَذَا قبل الْقِيَامَة. وَأما الحديثان الأخيران فهما على ظاهرهما إِذْ ذَلِك عِنْد الْقِيَامَة. فَإِن قلت: من هَؤُلَاءِ الطَّائِفَة؟ قلت: قَالَ البُخَارِيّ: هم أهل الْعلم. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: إِن لم يَكُونُوا أهل الحَدِيث فَلَا أَدْرِي من هم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا أَرَادَ الإِمَام أَحْمد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الطَّائِفَة مفرقة من أَنْوَاع الْمُؤمنِينَ، فَمنهمْ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُم فُقَهَاء وَمِنْهُم محدثون وَمِنْهُم زهاد إِلَى غَيره ذَلِك
    ......
    (2/ 53)
    لْمَدِينِيّ: بِإِثْبَات الْيَاء آخر الْحُرُوف، نِسْبَة إِلَى الْمَدِينَة. وَكَانَ أَصله من الْمَدِينَة وَنزل الْبَصْرَة، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: وَالْأَصْل فِيمَن ينْسب إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُقَال فِيهِ: مدنِي: بِحَذْف الْيَاء، وَإِلَى غَيرهَا بِإِثْبَات الْيَاء، واستثنوا هَذِه، فَقَالُوا: الْمَدِينِيّ بِإِثْبَات الْيَاء
    ........
    (2/ 55)
    قَالَ ابْن بطال: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذَلِك لِأَن من سوده النَّاس يستحي أَن يقْعد مقْعد المتعلم خوفًا على رياسته عِنْد الْعَامَّة. وَقَالَ يحيى بن معِين: من عَاجل الرياسة فَاتَهُ علم كثير. وَقيل: إِن السِّيَادَة تحصل بِالْعلمِ، وَكلما زَاد الْعلم زَادَت السِّيَادَة بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض النّسخ بدل: تفهموا تفقهوا،
    (2/ 58)
    الحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود، فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد. وَأما القسمان الْآخرَانِ فغبطة، وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود. قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد.
    وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه تبَارك وَتَعَالَى فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم.
    ......
    (2/ 59)
    ن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ابْن عمرَان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، ولد وعُمِّر عمرَان سَبْعُونَ سنة، وعْمرِّ عمرَان مائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة، وعُمِّر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، مائَة وَعشْرين سنة. وَقَالَ الْفربرِي: مَاتَ مُوسَى وعمره مائَة وَسِتُّونَ سنة، وَكَانَت وَفَاته فِي التيه فِي سَابِع آذار لمضي ألف سنة وسِتمِائَة وَعشْرين سنة من الطوفان فِي أَيَّام منوجهر الْملك، وَكَانَ عمره لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ثَمَانِينَ سنة، وَأقَام بالتيه أَرْبَعِينَ سنة. وَلما مَاتَ الريان بن الْوَلِيد الَّذِي ولَّى يُوسُف على خَزَائِن مصر، وَأسلم على يَدَيْهِ ملك بعده قَابُوس بن مُصعب، فَدَعَاهُ يُوسُف إِلَى الْإِسْلَام فَأبى، وَكَانَ جباراً، وَقبض الله يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، وَطَالَ ملكه. ثمَّ هلك وَملك بعده أَخُوهُ الْوَلِيد بن مُصعب بن رَيَّان بن أراشة بن شرْوَان بن عَمْرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ أَعْتَى من قَابُوس، وامتدت أَيَّام ملكه حَتَّى كَانَ فِرْعَوْن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي بَعثه الله إِلَيْهِ، وَلم يكن فِي الفراعنة أَعْتَى مِنْهُ وَلَا أطول عمرا فِي الْملك مِنْهُ، عَاشَ أَربع مائَة سنة
    ...........
    (2/ 59)
    {لَا أَبْرَح حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين} (الْكَهْف: 60) فَقيل: هُوَ ملتقي بحري فَارس وَالروم. مِمَّا يَلِي الْمشرق. وَقيل: طنجة. وَقيل: أفريقية. وَذكر السُّهيْلي: أَنَّهَا بَحر الْأُرْدُن وبحر القلزم. وَقيل: بَحر الْمغرب وبحر الزقاق. قلت: بَحر فَارس ينبعث من بَحر الْهِنْد شمالاً بَين مكران، وَهِي على فَم بَحر فَارس من شرقيه، وَبَين عمان وَهِي على فَم بَحر فَارس من غربيه، وبحر الرّوم هُوَ بَحر أفريقية وَالشَّام، يَمْتَد من عِنْد الْبَحْر الْأَخْضَر إِلَى الْمشرق، ويتصل بطرسوس، وبحر طنجة بَينهَا وَبَين سبتة وَغَيرهمَا من بر العدوة من الأندلس. وبحر أفريقية هُوَ بَحر طرابلس الغرب يَمْتَد مِنْهَا شرقاً حَتَّى يتَجَاوَز حُدُود أفريقية، وَهُوَ الَّذِي يتَّصل بإسكندرية، وَالْكل يُسمى بَحر الرّوم
    ..........
    (2/ 60)
    الخضر
    نْوَاع. الأول: فِي اسْمه: فَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي (المعارف) : عَن وهب بن مُنَبّه أَنه: بليا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالياء آخر الْحُرُوف. وَيُقَال: إبليا، بِزِيَادَة الْهمزَة فِي أَوله، وَقيل اسْمه: خضرون، ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي. وَقيل: ارميا، وَقيل: اسْمه: اليسع قَالَه مقَاتل، وَيُسمى بذلك لِأَن علمه وسع سِتّ سموات وست أَرضين، ووهاه ابْن الْجَوْزِيّ، وَالْيَسع اسْم أعجمي لَيْسَ بمشتق. وَقيل اسْمه: أَحْمد، حَكَاهُ الْقشيرِي، ووهاه ابْن دحْيَة، فَإِنَّهُ لم يسم أحد قبل نَبينَا، عَلَيْهِ السَّلَام، بذلك. وَقيل: عَامر، حَكَاهُ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (مرج الْبَحْرين) ، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَالْخضر، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، لقبه. وَيجوز إسكان الضَّاد مَعَ كسر الْخَاء وَفتحهَا كَمَا فِي نَظَائِره. الثَّانِي: فِي سَبَب تلقيبه بذلك: وَهُوَ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: إِنَّمَا سمي الْخضر لِأَنَّهُ جلس على فَرْوَة بَيْضَاء فَإِذا هِيَ تهتز من خَلفه خضراء، والفروة وَجه الأَرْض. وَقيل: النَّبَات الْمُجْتَمع الْيَابِس، وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا صلى اخضر مَا حوله، قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا سمي بِهِ لحسنه وإشراق وَجهه، وكنيته أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث فِي نسبه: فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ بليا بن ملكان، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون اللَّام، ابْن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: خضرون بن عماييل بن الفتر بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
    .......
    (2/ 60)
    هَل كَانَ وليا أَو نَبيا؟ وبالأول جزم الْقشيرِي، وَاخْتلف أَيْضا هَل كَانَ نَبيا مُرْسلا أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ. وَأغْرب مَا قيل: إِنَّه من الْمَلَائِكَة. وَالصَّحِيح أَنه نَبِي، وَجزم بِهِ جمَاعَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ نَبِي على جَمِيع الْأَقْوَال معمر مَحْجُوب عَن الْأَبْصَار، وَصَححهُ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي كِتَابه، لقَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنهُ: {وَمَا فعلته عَن امري} (الْكَهْف: 82) فَدلَّ على أَنه نَبِي أُوحِي إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ أعلم من مُوسَى فِي علم مَخْصُوص، وَيبعد أَن يكون ولي أعلم من نَبِي وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون أُوحِي إِلَى نَبِي فِي ذَلِك الْعَصْر يَأْمر الْخضر بذلك، وَلِأَنَّهُ أقدم على قتل ذَلِك الْغُلَام، وَمَا ذَلِك إلاَّ للوحي إِلَيْهِ فِي ذَلِك. لِأَن الْوَلِيّ لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على قتل النَّفس بِمُجَرَّد مَا يلقى فِي خلده، لِأَن خاطره لَيْسَ بِوَاجِب الْعِصْمَة. السَّادِس: فِي حَيَاته: فالجمهور على أَنه بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قيل: لِأَنَّهُ دفن آدم بعد خُرُوجهمْ من الطوفان فنالته دَعْوَة أَبِيه آدم بطول الْحَيَاة. وَقيل: لِأَنَّهُ شرب من عين الْحَيَاة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ حَيّ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ والعامة مَعَهم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا شَذَّ بإنكاره بعض الْمُحدثين، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْأَكْثَرين. وَقيل: إِنَّه لَا يَمُوت إلاَّ فِي آخر الزَّمَان حَتَّى يرْتَفع الْقُرْآن. وَفِي (صَحِيح مُسلم) ، فِي حَدِيث الدَّجَّال: أَنه يقتل رجلا ثمَّ يحييه. قَالَ إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان، رَاوِي كتاب مُسلم: يُقَال لَهُ: إِنَّه الْخضر، وَكَذَلِكَ قَالَ معمر فِي مُسْنده، وَأنكر حَيَاته جمَاعَة مِنْهُم البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن الْمَنَاوِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ.
    ..........
    (2/ 63)
    بني إِسْرَائِيل " هُوَ أَوْلَاد يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَان إِسْرَائِيل هُوَ اسْم يَعْقُوب وَأَوْلَاده اثْنَا عشر نفسا وهم يُوسُف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد وَيَسْتَأْخِر واشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوى وهم الَّذين سماهم الأسباط وَسموا بذلك لَان كل وَاحِد مِنْهُم والدقبيلة والأسباط فِي كَلَام الْعَرَب الشّجر الملتف
    الملتف الْكثير الأغصان والأسباط من بني إِسْرَائِيل كالشعوب من الْعَجم والقبائل من الْعَرَب وَجَمِيع بني إِسْرَائِيل من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين
    ........
    (2/ 58)
    وَاخْتلفُوا فِي السن الَّذِي يَصح فِيهِ السماع للصَّغِير، فَقَالَ مُوسَى بن هَارُون الْحَافِظ: إِذا فرق بَين الْبَقَرَة وَالدَّابَّة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا عقل وَضبط. وَقَالَ يحيى بن معِين: أقل سنّ التَّحَمُّل خَمْسَة عشر سنة، لكَون ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، رد يَوْم أُحد، إِذْ لم يبلغهَا، وَلما بلغ أَحْمد أنكر ذَلِك. وَقَالَ: بئس القَوْل. وَقَالَ عِيَاض: حدد أهل الصّفة ذَلِك أَن أَقَله سنّ مَحْمُود بن الرّبيع، ابْن خمس. كَذَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه كَانَ ابْن أَربع، وَقَالَ ابْن الصّلاح: والتحديد بِخمْس هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ عمل أهل الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين ، فيكتبون لِابْنِ خمس سِنِين فَصَاعِدا سمع ولدون حضر أَو أحضر، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي ذَلِك اعْتِبَار التَّمْيِيز، فَإِن فهم الْخطاب ورد الْجَواب كَانَ مُمَيّزا وصحيح السماع، وَإِن كَانَ دون خمس. وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يَصح سَمَاعه وَلَو كَانَ ابْن خمس، بل ابْن خمسين. وَعَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ: رَأَيْت صَبيا، ابْن أَربع سِنِين، قد حمل إِلَى الْمَأْمُون قد قَرَأَ الْقُرْآن وَنظر فِي الْآي، غير أَنه إِذا جَاع بَكَى. وَحفظ الْقُرْآن أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّه بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِي ّ وَله خمس سِنِين، فامتحنه فِيهِ أَبُو بكر بن الْمقري وَكتب لَهُ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين، وَحَدِيث مَحْمُود لَا يدل على التَّحْدِيد بِمثل سنه.
    ....
    (2/ 70)
    وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف أَصْحَاب مَالك فِيمَن صلى إِلَى غير ستْرَة فِي فضاء يَأْمَن أَن يمر أحد بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجوز وَلَا حرج عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون ومطرف: السّنة أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة مُطلقًا. قَالَ: وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يشْهد لصِحَّة قَول ابْن الْقَاسِم وَهُوَ قَول عَطاء وَسَالم وَعُرْوَة وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالْحسن، وَكَانُوا يصلونَ فِي الفضاء إِلَى غير ستْرَة،
    ........
    (2/ 72)
    تعقب ابْن أبي صفرَة على البُخَارِيّ من ذكره حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فِي اعْتِبَار خمس سِنِين، وإعقاله حَدِيث عبد اللَّه بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه رأى أَبَاهُ يخْتَلف إِلَى بني قُرَيْظَة فِي يَوْم الخَنْدَق ويراجعهم، فَفِيهِ السماع مِنْهُ وَكَانَ سنه إِذْ ذَاك ثَلَاث سِنِين، أَو أَربع، فَهُوَ أَصْغَر من مَحْمُود، وَلَيْسَ فِي قصَّة مَحْمُود ضَبطه لسَمَاع شَيْء، فَكَانَ ذكره حَدِيث ابْن الزبير أولى لهذين الْمَعْنيين. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ إِنَّمَا أَرَادَ نقل السّنَن النَّبَوِيَّة لَا الْأَحْوَال
    لوجودية، ومحمود نقل سنة مَقْصُودَة فِي كَون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مج مجة فِي وَجهه لإفادته الْبركَة، بل فِي مُجَرّد رُؤْيَته إِيَّاه فَائِدَة شَرْعِيَّة يثبت بهَا كَونه صحابياً. وَأما قصَّة ابْن الزبير فَلَيْسَ فِيهَا نقل سنة من السّنَن النَّبَوِيَّة حَتَّى يدْخل فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي (تنقيحه) : وَيحْتَاج الْمُهلب إِلَى ثُبُوت أَن قَضِيَّة ابْن الزبير صَحِيحَة على شَرط البُخَارِيّ. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، فَإِن قَضِيَّة ابْن الزبير الْمَذْكُورَة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب الزبير فِي (الصَّحِيح) ، وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ. وَالله أعلم
    ........
    (2/ 74)
    ادَّعَت جمَاعَة أَن البُخَارِيّ قد نقض قَاعِدَته، وَذَلِكَ أَن من قَوَاعِده أَنه يذكر التَّعْلِيق إِذا كَانَ صَحِيحا بِصِيغَة الْجَزْم. وَإِذا كَانَ ضَعِيفا بِصِيغَة التمريض، وَهنا قَالَ: ورحل جَابر بن عبد اللَّه بِصِيغَة الْجَزْم، وَقَالَ فِي أَوَاخِر (صَحِيحَة) : وَيذكر جَابر بِصِيغَة التمريض، وَأجَاب عَنهُ الشَّيْخ قطب الدّين بِأَنَّهُ جزم: بالرحلة دون الحَدِيث، فَعِنْدَ مَا ذكر الحَدِيث اتى بِصِيغَة التمريض، فَقَالَ: وَيذكر عَن جَابر بن عبد اللَّ
    ......
    (ج2/ 78)
    النَّاس قِسْمَانِ: من يقبل وَمن لَا يقبل. وَهَذَا يُوجب جعل النَّاس فِي الحَدِيث على قسمَيْنِ: من ينْتَفع بِهِ وَمن لَا ينْتَفع. وَأما فِي الْحَقِيقَة فَالنَّاس على ثَلَاثَة أَقسَام: فَمنهمْ من يقبل من الْعلم بِقدر مَا يعْمل بِهِ وَلم يبلغ دَرَجَة الإفادة، وَمِنْهُم من يقبل ويبلغ، وَمِنْهُم من لَا يقبل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل لفظ الحَدِيث تثليث الْقِسْمَة فِي النَّاس أَيْضا،
    فالنوع الأول: من الأَرْض ينْتَفع بالمطر فتحيي بعد أَن كَانَت ميتَة، وتنبت الْكلأ فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَالنَّوْع الأول: من النَّاس يبلغهُ الْهدى وَالْعلم فيحفظه ويحيي قلبه وَيعْمل بِهِ ويعلمه غَيره فينتفع وينفع. وَالنَّوْع الثَّانِي: من الأَرْض: مَا لَا يقبل الِانْتِفَاع فِي نَفسهَا، لَكِن فِيهَا فَائِدَة وَهِي إمْسَاك المَاء لغَيْرهَا، فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي: من النَّاس: لَهُم قُلُوب حافظة، لَكِن لَيست لَهُم أذهان ثاقبة وَلَا رسوخ لَهُم فِي الْعلم يستنبطون بِهِ الْمعَانِي وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ لَهُم اجْتِهَاد فِي الْعَمَل بِهِ، فهم يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَجِيء أهل الْعلم للنفع وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخذهُ مِنْهُم فينتفع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نفعوا بِمَا بَلغهُمْ. وَالثَّالِث: من الأَرْض: هُوَ السباخ الَّتِي لَا تنْبت، فَهِيَ لَا تنْتَفع بِالْمَاءِ وَلَا تمسكه لينْتَفع بِهِ غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِث من النَّاس: لَيست لَهُم قُلُوب حافظة، وَلَا أفهام وَاعِيَة، فَإِذا سمعُوا الْعلم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لنفع غَيرهم. الأول: المنتفع النافع، وَالثَّانِي: النافع غير المنتفع. وَالثَّالِث: غير النافع وَغير المنتفع. فَالْأول: إِشَارَة إِلَى الْعلمَاء. وَالثَّانِي إِلَى النقلَة. وَالثَّالِث: إِلَى من لَا علم لَهُ وَلَا عقل
    ........
    (2/ 82)
    قَالَ عبد اللَّه بن طَاهِر لَهُ: لِمَ قيل لَك ابْن رَاهَوَيْه؟ قَالَ: إعلم أَيهَا الْأَمِير أَن أبي ولد فِي طَرِيق مَكَّة، فَقَالَ المراوزة: راهوي، لِأَنَّهُ ولد فِي الطَّرِيق، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّ ةِ: رَاه، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُسلمين، وَعلم من أَعْلَام الدّين، مَاتَ بنيسابور سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
    ...
    (2/83)
    ولاا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على ذَلِك نَفْيه بِالْكُلِّيَّةِ ، وَرُبمَا ثَبت ذَلِك عِنْد أَحْمد من نَقله (الصَّحِيحَيْنِ) ، فنقله ثمَّ جعل ذَلِك نُسْخَة، وَالْمُدَّعِي بالفن لَا يقدر على إحاطة جَمِيع مَا فِيهِ، وَلَا سِيمَا علم الرِّوَايَة، فَإِنَّهُ علم وَاسع لَا يدْرك ساحله
    ........
    (2/ 84)
    كَيفَ يقبض الْعلم؟ عَن عبد اللَّه بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله عز وَجل لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه من الْعباد، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيسألوا، فافتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) . وَبَين بِهَذَا الحَدِيث أَن المُرَاد بِرَفْع الْعلم هُنَا قبض أَهله وهم الْعلمَاء لَا محوه من الصُّدُور، لَكِن بِمَوْت أَهله واتخاذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيحكمون فِي دين الله تَعَالَى برأيهم ويفتون بجهلهم، قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك فِي زَمَاننَا، كَمَا أخبر بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قلت: هَذَا قَوْله مَعَ توفر الْعلمَاء فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا؟ قَالَ العَبْد الضَّعِيف: هَذَا قَوْله مَعَ كَثْرَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والمحدثين الْكِبَار فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا الَّذِي خلت الْبِلَاد عَنْهُم، وتصدرت الْجُهَّال بالإفتاء والتعين فِي الْمجَالِس والتدريس فِي الْمدَارِس؟ فنسأل السَّلامَة والعافية.
    .....
    (ج2/ 84)
    قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: (وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) ، وَالْعلَّة لهَذَا لَا تطلب إلاَّ من خَارج، وَقد ذكرُوا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال: يكثر فِي آخر الزَّمَان ولادَة الْإِنَاث، ويقل ولادَة الذُّكُور، وبقلة الرِّجَال يظْهر الْجَهْل وَيرْفَع الْعلم، وَيَكْفِي كثرتهن فِي قلَّة الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَالزِّنَا، لِأَن النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان وَهن ناقصات عقل وَدين
    .......
    (2/ 86)
    تَفْسِير اللَّبن بِالْعلمِ لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِي كَثْرَة النَّفْع بهما، وَفِي أَنَّهُمَا سَببا الصّلاح، فاللبن غذَاء الْإِنْسَان وَسبب صَلَاحهمْ وَقُوَّة أبدانهم، وَالْعلم سَبَب الصّلاح فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وغذاء الْأَرْوَاح. وَقَالَ الْمُهلب: رُؤْيَة اللَّبن فِي النّوم تدل على السّنة والفطرة وَالْعلم وَالْقُرْآن، لِأَنَّهُ أول شَيْء يَنَالهُ الْمَوْلُود من طَعَام الدُّنْيَا، وَبِه تقوم حَيَاته كَمَا تقوم بِالْعلمِ حَيَاة الْقُلُوب، فَهُوَ يُنَاسب الْعلم من هَذِه الْجِهَة، وَقد يدل على الْحَيَاة لِأَنَّهَا كَانَت فِي الصغر، وَقد يدل على الثَّوَاب لِأَنَّهُ من نعيم الْجنَّة، إِذْ روى نهر من اللَّبن، وَقد يدل على المَال والحلال
    ........
    (2/ 98)
    قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أنكر طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة خلقهما قبل يَوْم الْحساب وَالْعِقَاب، وَقَالُوا: لَا فَائِدَة فِي خلقهما قبل ذَلِك، وحملوا قصَّة آدم على بُسْتَان من بساتين الدُّنْيَا. قَالَ: وَهَذَا بَاطِل وتلاعب بِالدّينِ وانسلال عَن إِجْمَاع الْمُسلمين. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: الْجنَّة مخلوقة مهيأة بِمَا فِيهَا، سقفها عرش الرَّحْمَن وَهِي خَارِجَة من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض، وكل مَخْلُوق يفنى ويجدد أَو لَا يجدد إلاَّ الْجنَّة وَالنَّار، وَلَيْسَ للجنة سَمَاء إلاَّ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. يَعْنِي قَوْله: (وسقفها عرش الرَّحْمَن) ، وَلها ثَمَانِيَة أَبْوَاب. وَرُوِيَ: أَنَّهَا كلهَا مغلقة إلاَّ بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا.
    .......
    (2/ 99)
    قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ أَن الغشي لَا ينْقض الْوضُوء مَا دَامَ الْعقل بَاقِيا
    (2/ 100)
    قَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن من علم علما أَنه يلْزمه تبليغه لمن لَا يُعلمهُ، وَهُوَ الْيَوْم من فروض الْكِفَايَة لظُهُور الْإِسْلَام وانتشاره، وَأما فِي أول الْإِسْلَام فَإِنَّهُ كَانَ فرضا معينا أَن يبلغهُ حَتَّى يكمل الْإِسْلَام ويبلغ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، وَفِيه أَنه يلْزم تَعْلِيم أهل الْفَرَائِض لعُمُوم لفظ: (من وراءكم) ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
    .........
    (2/ 101)
    قَالَ ابْن بطال: قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفتاه بالتحرز عَن الشُّبْهَة، وَأمره بمجانبة الرِّيبَة خوفًا من الْإِقْدَام على فرج قَامَ فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَرْأَة ارضعتهما، لكنه لم يكن قَاطعا وَلَا قَوِيا، لاجماع الْعلمَاء على أَن شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا تجوز فِي مثل ذَلِك، لَكِن أَشَارَ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأحوط. وَقَالَ غَيره: لم يَأْمُرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وَجه الْقَضَاء، وَإِنَّمَا كَانَ احْتِيَاطًا لما بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع بَاب: تَفْسِير الشُّبُهَات، وَمِنْهُم من حمل حَدِيث عقبَة على الْإِيجَاب، وَقَالَ: تقبل شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة على الرَّضَاع، وَهُوَ قَول أَحْمد. ويروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن شهادتها تقبل إِذا كَانَت مُرْضِعَة، وتستحلف مَعَ شهادتها. وَقَالَ مَالك: يقبل قَوْلهَا بِشَرْط أَن يفشو ذَلِك فِي الْأَهْل وَالْجِيرَان، فَإِن شهِدت امْرَأَتَانِ شَهَادَة فَاشِية فَلَا خلاف فِي الحكم بهَا عِنْده، وَإِن شهدتا من غير فشو، أَو شهِدت وَاحِدَة مَعَ الفشو، فَفِيهِ قَولَانِ. وَمن قَالَ بِالْوُجُوب قَالَ: لَو كَانَ أمره لعقبة على الْوَرع أَو التَّنَزُّه لأَمره بِطَلَاقِهَا لتحل لغيره، وَيكون قَوْله: (كَيفَ وَقد قيل؟) على هَذَا ليهون عَلَيْهِ الْأَمر، وَيُؤَيِّدهُ تبسمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمنع أَبُو حنيفَة عَن شَهَادَة النِّسَاء متمحضات فِي الرَّضَاع. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي ففصل أَصْحَابه، وَقَالُوا: إِذا شهِدت الْمُرضعَة وَادعت مَعَ شهادتها أُجْرَة الرَّضَاع فَلَا تسمع شهادتها، لِأَنَّهَا تشهد لنَفسهَا فتتهم، وَإِن أطلقت الشَّهَادَة وَلم تدع أُجْرَة بِأَن قَالَت: أشهد أَنِّي ارضعته، فَفِيهِ خلاف عِنْدهم.
    .....
    (2/ 107)
    قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ جَوَاز التَّأَخُّر عَن صَلَاة الْجَمَاعَة إِذا علم من عَادَة الإِمَام التَّطْوِيل الْكثير
    .......
    (2/ 107)
    الَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى: مدائني. قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يَصح الْمَدِينِيّ، لِأَنَّهُ من مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْمَقْدِسِي فِي كتاب (الْأَنْسَاب) : قَالَ البُخَارِيّ: الْمَدِينِيّ هُوَ الَّذِي أَقَامَ بِمَدِينَة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يفارقها. وَالْمَدَنِي هُوَ الَّذِي تحول عَنْهَا وَكَانَ مِنْهَا.
    ..........
    (2/ 111)
    فِي (شرح السّنة) : اخْتلفُوا فِي أَنه لَو ادّعى رجل اللّقطَة وَعرف عفاصها ووكاءها فَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَنه: يدْفع إِلَيْهِ من غير بَيِّنَة أَقَامَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود من معرفَة العفاص والوكاء. وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْحَنَفِيَّة : إِذا وَقع فِي النَّفس صدق الْمُدَّعِي فَلهُ أَن يُعْطِيهِ وإلاَّ فبينه.

    ..............

    (2/ 111)
    هَل يجب على اللاقط الْتِقَاط اللّقطَة؟ فَروِيَ عَن مَالك الْكَرَاهَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَن أَخذهَا أفضل فِيمَا لَهُ بَال، وَللشَّافِعِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: يسْتَحبّ الْأَخْذ وَلَا يجب. وَالثَّانِي: يجب. وَالثَّالِث: إِن خَافَ عَلَيْهَا وَجب، وَإِن أَمن عَلَيْهَا اسْتحبَّ. وَعَن أَحْمد: ينْدب تَركهَا. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : إِذا وجد لقطَة، فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يرفعها إِذا كَانَ يَأْمَن على نَفسه، وَإِذا كَانَ لم يَأْمَن لَا يرفعها، وَفِي (شرح الأقطع) : يسْتَحبّ أَخذ اللّقطَة وَلَا يجب، وَفِي (النَّوَازِل) قَالَ أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سَلام: ترك اللّقطَة أفضل فِي قَول أَصْحَابنَا من رَفعه وَرفع اللَّقِيط أفضل من تَركه، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) : إِن خَافَ ضياعها يفترض الرّفْع، وَإِن لم يخف يُبَاح رَفعهَا، أجمع الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَالْأَفْضَل الرّفْع فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (فتاوي الولواجي) : اخْتلف الْعلمَاء فِي رَفعهَا، قَالَ بَعضهم رَفعهَا أفضل من تَركهَا، وَقَالَ بَعضهم: يحل رَفعهَا، وَتركهَا أفضل. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : وَلَو رَفعهَا ووضعها فِي مَكَانَهُ ذَلِك فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة. وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا: هَذَا إِذا لم يبرح من ذَلِك الْمَكَان حَتَّى وضع هُنَاكَ، فَأَما إِذا ذهب عَن مَكَانَهُ ذَلِك ثمَّ أَعَادَهَا ووضعها فِيهِ فَإِنَّهُ يضمن. وَقَالَ بَعضهم: يضمن مُطلقًا، وَهَذَا خلاف ظَاهر الرِّوَايَة.
    لتَّعْرِيف باللقطة. قَالَ أَصْحَابنَا: يعرفهَا إِلَى أَن يغلب على ظَنّه أَن رَبهَا لَا يطْلبهَا، وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن ذَلِك يخْتَلف بقلة المَال وكثرته، وروى مُحَمَّد بن أبي حنيفَة: إِن كَانَت أقل عَن عشرَة دَرَاهِم عرفهَا أَيَّامًا، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا حولا، وَقدره مُحَمَّد فِي الأَصْل بالحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك. وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا إِن كَانَت مِائَتي دِرْهَم فَصَاعِدا يعرفهَا حولا، وَفِيمَا فَوق الْعشْرَة إِلَى مِائَتَيْنِ شهرا، وَفِي الْعشْرَة جُمُعَة، وَفِي ثَلَاثَة دَرَاهِم ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي دِرْهَم يَوْمًا، وَإِن كَانَت تَمْرَة وَنَحْوهَا تصدق بهَا مَكَانهَا، وَإِن كَانَ مُحْتَاجا أكلهَا مَكَانهَا. وَفِي (الْهِدَايَة) : إِذا كَانَت اللّقطَة شَيْئا يعلم أَن صَاحبهَا لَا يطْلبهَا كالنواة وقشر الرُّمَّان يكون القاؤه مُبَاحا، وَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير تَعْرِيف، لكنه مبقي على ملك مَالِكه لِأَن التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح.
    وَقَالَ القَاضِي: وجوب التَّعْرِيف سنة إِجْمَاع، وَلم يشْتَرط أحد تَعْرِيف ثَلَاث سِنِين إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلَعَلَّه لم يثبت عَنهُ. قلت: وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. وَعَن أَحْمد: يعرفهَا شهرا، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه
    .....
    (2/ 114)
    عَنهُ، وَحكى عَن آخَرين أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أَيَّام، حَكَاهُ عَن الشَّاشِي وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هَذَا إِذا أَرَادَ تَملكهَا، فَإِن أَرَادَ حفظهَا على صَاحبهَا فَقَط فالأكثرون من أَصْحَابنَا على أَنه لَا يجب التَّعْرِيف وَالْحَالة هَذِه، والأقوى الْوُجُوب، وَظَاهر الحَدِيث أَنه لَا فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي وجوب التَّعْرِيف، وَفِي مدَّته، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه لَا يجب التَّعْرِيف فِي الْقَلِيل مِنْهُ، بل يعرفهُ زَمنا يظنّ أَن فاقده يتْركهُ غَالِبا. وَقَالَ اللَّيْث: إِن وجدهَا فِي الْقرى عرفهَا، وَإِن وجدهَا فِي الصَّحرَاء لَا يعرفهَا. وَقَالَ الْمَازرِيّ: لم يجر مَالك الْيَسِير مجْرى الْكثير، وَاسْتحبَّ فِيهِ التَّعْرِيف وَلم يبلغ بِهِ سنة،وَقد جَاءَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام: (مر بتمرة،فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها) . فنبه على أَن الْيَسِير الَّذِي لَا يرجع إِلَيْهِ أَهله يُؤْكَل. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن جَابر،رَضِي الله عَنهُ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه، يلتقطه الرجل وَينْتَفع بِهِ. وَقد حد بعض الْعلمَاء الْيَسِير بِنَحْوِ الدِّينَار تعلقاً بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فِي الْتِقَاط الدِّينَار. وَكَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر لَهُ تعريفاً، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي (سنَنه) ، وَيُمكن أَن يكون اختصرها الرَّاوِي، هَكَذَا كَلَام الْمَازرِيّ. وَقَالَ القَاضِي: حَدِيث أبي، رَضِي الله عَنهُ، يدل على عدم الْفرق بَين الْيَسِير وَغَيره لاحتجاجه فِي السَّوْط بِعُمُوم الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَعرفهُ عَليّ وَلم يجد من يعرفهُ. قلت: أَرَادَ بِحَدِيث أبي،هُوَ قَوْله: (وجدت صرة، مائَة دِينَار، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا،ثمَّ اتيته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد،ثمَّ أَتَيْته ثَلَاثًا فَقَالَ: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع) . قَالَ الرَّاوِي: فَلَقِيت، يَعْنِي أبي بن كَعْب،فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَو حولا وَاحِدًا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِن السَّوْط والعصا وَالْحَبل وَنَحْوه لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيف، وَإنَّهُ مِمَّا يُعْفَى عَن طلبه، وتطيب النَّفس بِتَرْكِهِ كالتمرة وَقَلِيل الطَّعَام. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْيَسِير التافه الَّذِي لَا يتمول كالحبة من الْحِنْطَة وَالزَّبِيب وَشبههَا لَا يعرف، وَإِن كَانَ قَلِيلا متمولاً يجب تَعْرِيفه، وَاخْتلفُوا فِي الْقَلِيل،فَقيل: مَا دون نِصَاب السّرقَة،وَقيل: الدِّينَار فَمَا فَوْقه،وَقيل: وزن الدِّرْهَم. وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي تَعْرِيفه. فَقيل: سنة كالكثير،وَقيل: مُدَّة يظنّ فِي مثلهَا طلب الفاقد لَهَا،، وَإِذا غلب على ظَنّه إعراضه عَنْهَا سقط الطّلب، فعلى هَذَا يخْتَلف بِكَثْرَة المَال وقلته، فدانق الْفضة يعرف فِي الْحَال، ودانق الذَّهَب يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ.
    .....
    (2/ 117)
    الْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال مَعْنَاهُ: كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا أَتَى على قوم سلم عَلَيْهِم تَسْلِيمَة الاسْتِئْذَان، وَإِذا دخل سلم تَسْلِيمَة التَّحِيَّة، ثمَّ إِذا قَامَ من الْمجْلس سلم تَسْلِيمَة الْوَدَاع. وَهَذِه التسليمات كلهَا مسنونة. وَكَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يواظب عَلَيْهَا وَلَا يزِيد عَلَيْهَا فِي هَذِه السّنة على الْأَقْسَام.
    قَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن الثَّلَاث غَايَة مَا يَقع بِهِ الْبَيَان والأعذار. قلت: اخْتلف فِيمَا إِذا ظن أَنه لم يسمع هَل يزِيد على الثَّلَاث؟فَقيل: لَا يزِيد أخذا بِظَاهِر الحَدِيث. وَقيل: يزِيد. وَالسّنة أَن يسلم ثَلَاثًا،فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم، أَدخل.
    .........
    (2/ 119)
    وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ بن رِفَاعَة الْقرظِيّ،قَالَ: خرج عشرَة من أهل الْكتاب مِنْهُم أَبُو رِفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فآمنوا بِهِ فأوذوا فَنزلت: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} (الْقَصَص: 52) الْآيَات، فَهَؤُلَاءِ من بني إِسْرَائِيل، وَلم يُؤمنُوا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل استمروا على الْيَهُودِيَّة إِلَى أَن آمنُوا بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ثَبت أَنهم يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ،وَيُمكن أَن يُقَال فِي حق هَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُم لم تبلغهم دَعْوَة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهَا لم تنشر فِي
    فِي أَكثر الْبِلَاد، فاستمروا على يهوديتهم مُؤمنين بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام فآمنوا بِمُحَمد،
    ......
    (2/ 120)
    كعب الأحبار
    كَعْبًا لَيست لَهُ صُحْبَة وَلم يسلم إلاَّ فِي زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
    ......
    (2/ 121)
    ن ببعثة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْقَطَعت دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَارْتَفَعت شَرِيعَته، فَدخل جَمِيع الْكفَّار، أهل الْكتاب وَغَيرهم، تَحت دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَوَاء بلغتهم الدعْوَة أَو لَا. وَلِهَذَا يُقَال: هم أهل الدعْوَة،
    ......
    (2/ 123)
    عطاء بن أبي رباح
    ولد فِي آخر خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وروى عَنهُ ابْنه. قَالَ: أَعقل قتل عُثْمَان، وَيُقَال إِنَّه من مولدِي الْجند من مخاليف الْيمن وَنَشَأ بِمَكَّة وَصَارَ مفتيها، وَهُوَ من كبار التَّابِعين، وروى عَن العبادلة وَعَائِشَة وَغَيرهم، وروى عَنهُ اللَّيْث حَدِيثا وَاحِدًا، وجلالته وبراعته وثقته وديانته مُتَّفق عَلَيْهَا، وَحج سبعين حجَّة، وَكَانَت الْحلقَة بعد ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، لَهُ. مَاتَ سنة خمس عشرَة، وَقيل أَربع عشرَة وَمِائَة، عَن ثَمَانِينَ سنة. وَكَانَ حَبَشِيًّا أسود أَعور أفطس أشل أعرج، لامْرَأَة من أهل مَكَّة، ثمَّ عمي بآخرة، وَلَكِن الْعلم وَالْعَمَل بِهِ رَفعه. وَمن غَرَائِبه أَنه يَقُول: إِذا أَرَادَ الْإِنْسَان سفرا لَهُ الْقصر قبل خُرُوجه من بَلَده، وَوَافَقَهُ طَائِفَة من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، وَخَالفهُ الْجُمْهُور. وَمن غَرَائِبه أَيْضا أَنه إِذا وَافق يَوْم عيد يَوْم جُمُعَة يصلى الْعِيد فَقَط، وَلَا ظهر وَلَا جُمُعَة فِي ذَلِك الْيَوْم.
    ......
    (2/ 124)
    احْتج مَالك وَمن تبعه فِي ذَلِك بِمَا خرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، وحبِيب الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يجوز لامْرَأَة أمرٌ فِي مَالهَا إِذا ملك زَوجهَا عصمتها) . وَبِمَا خرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أبي كَامِل عَن خَالِد، يَعْنِي ابْن الْحَارِث: ثَنَا حُسَيْن عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن أَبَاهُ أخبرهُ عَن عبد اللَّه بن عَمْرو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة عَطِيَّة إلاَّ بِإِذن زَوجهَا) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الطَّرِيق إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب صَحِيح، فَمن أثبت أَحَادِيث عَمْرو بن شُعَيْب لزمَه إثْبَاته. وَالْجَوَاب عَنهُ من أوجه: أَحدهَا: معارضته بالأحاديث الصَّحِيحَة الدَّالَّة على الْجَوَاز عِنْد الْإِطْلَاق، وَهِي أقوى مِنْهُ، فَقدمت عَلَيْهِ. وَقد يُقَال: انه وَاقعَة حَال، فَيمكن حملهَا على أَنَّهَا كَانَت قدر الثُّلُث. الثَّانِي: على تَسْلِيم الصِّحَّة إِنَّه مَحْمُول على الأولى، وَالْأَدب ذكره الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ، قَالَ: وَقد أعتقت مَيْمُونَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَلم يعب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا. وكما يُقَال: لَيْسَ لَهَا أَن تَصُوم وَزوجهَا حَاضر إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت فصومها جَائِز، وَمثله إِن خرجت بِغَيْر إِذْنه فباعت، فَهُوَ جَائِز. الثَّالِث: الطعْن فِيهِ، قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث سمعناه وَلَيْسَ بِثَابِت، فيلزمنا أَن نقُول بِهِ وَالْقُرْآن يدل على خِلَافه ثمَّ الْأَمر ثمَّ الْمَنْقُول ثمَّ الْمَعْقُول. قيل: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ، قَوْله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم إلاّ أَن يعفون} (الْبَقَرَة: 237) وَقَوله: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئاً} (النِّسَاء: 4) . وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}
    ....
    (2/ 125)
    وَقد طعن إِبْنِ حزم فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب بِأَن قَالَ: صحيفَة مُنْقَطِعَة، وَقد علمت أَن شعيباً صرح بِعَبْد الله بن عَمْرو، فَلَا انْقِطَاع. وَقد أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن دَاوُد بن أبي هِنْد وحبِيب الْمعلم عَن عَمْرو بِهِ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، ثمَّ ذكر ابْن حزم من حَدِيث ابْن عمر: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا حق الزَّوْج على زَوجته؟ قَالَ: لَا تصدق إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت كَانَ لَهُ الْأجر وَعَلَيْهَا الْوزر) . ثمَّ قَالَ: هَذَا خَيرهَا لَك، لِأَن فِيهِ مُوسَى بن أعين وَهُوَ مَجْهُول، وَلَيْث بن أبي سليم وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ، فَإِن مُوسَى بن أعين روى عَن جمَاعَة وَعنهُ جمَاعَة، وَاحْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ. نعم، فِيهِ الْحسن بن عبد الْغفار وَهُوَ مَجْهُول، وليته أعله بِهِ. ثمَّ ذكر حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم الْخَولَانِيّ عَن أبي أُمَامَة رَفعه: (لَا تنْفق الْمَرْأَة شَيْئا من بَيت زَوجهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، قيل: يَا رَسُول الله وَلَا الطَّعَام؟ قَالَ: ذَلِك أفضل أَمْوَالنَا) . ثمَّ إِسْمَاعِيل ضَعِيف، وشرحبيل مَجْهُول لَا يدرى من هُوَ، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ. فإسماعيل حجَّة فِيمَا يروي عَن الشاميين، وشرحبيل شَامي، وحاشاه من الْجَهَالَة. روى عَنهُ جمَاعَة. قَالَ أَحْمد: هُوَ من ثِقَات الشاميين، نعم، ضعفه ابْن معِين، وَقد أخرجه ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. الرَّابِع: من أوجه الْجَواب، مَا قيل: إِن المُرَاد من مَال زَوجهَا لَا من مَالهَا، وَفِيه نظر.
    ,,,,,,,
    )\(2/ 128)
    قَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا تكون فِي أهل الْإِخْلَاص خَاصَّة، وهم أهل التَّوْحِيد، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لكل نَبِي دَعْوَة، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة، فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى من مَاتَ من أمتِي لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا) . قلت: هَذَا الحَدِيث مَعَ غَيره من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، الْجَارِيَة مجْرى الْقطع، دَلِيل على ثُبُوت الشَّفَاعَة.
    ......
    (2/128)
    قَالَ عِيَاض: مَذْهَب أهل السّنة جَوَاز الشَّفَاعَة عقلا، ووجوبها بِصَرِيح الْآيَات وَالْأَخْبَار الَّتِي بلغ مجموعها التَّوَاتُر لصحتها فِي الْآخِرَة لمذنبي الْمُؤمنِينَ. وَأجْمع السّلف الصَّالح وَمن بعدهمْ من أهل السّنة على ذَلِك، ومنعت الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة مِنْهَا، وتأولت الْأَحَادِيث على زيادات الدَّرَجَات وَالثَّوَاب، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} (المدثر: 48) {مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع} (غَافِر: 18) وَهَذِه إِنَّمَا جَاءَت فِي الْكفَّار، وَالْأَحَادِيث مصرحة بِأَنَّهَا فِي المذنبين. وَقَالَ: الشَّفَاعَة خَمْسَة أَقسَام. أَولهَا: الإراحة من هول الْموقف. الثَّانِيَة: الشَّفَاعَة فِي إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَهَذِه أَيْضا وَردت للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي: لَا أعلم هَل هِيَ مُخْتَصَّة أم لَا؟ قلت: يُرِيد القَاضِي بِالصَّحِيحِ مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فأنطلق تَحت الْعَرْش فأقع سَاجِدا) ، وَفِيه: (فَيُقَال يَا مُحَمَّد أَدخل من أمتك من لَا حِسَاب عَلَيْهِ من الْبَاب الْأَيْمن من أَبْوَاب الْجنَّة) ، وَشبهه من الْأَحَادِيث. الثَّالِثَة: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عدم دُخُولهمْ فِيهَا، قَالَ القَاضِي: وَهَذِه أَيْضا يشفع فِيهَا نَبينَا مُحَمَّد
    عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من شَاءَ الله أَن يشفع. الرَّابِعَة: قوم دخلُوا النَّار من المذنبين فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة والأنبياء والمؤمنون. الْخَامِسَة: الشَّفَاعَة فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْجنَّة لأَهْلهَا، وَهَذِه لَا تنكرهَا الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ القَاضِي: عرف بالاستفاضة سُؤال السّلف الصَّالح الشَّفَاعَة، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من قَالَ: يكره سؤالها لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا للمذنبين، فقد يكون لتخفيف الْحساب وَزِيَادَة الدَّرَجَات، ثمَّ كل عَاقل معترف بالتقصير مُشفق أَن يكون من الهالكين غير مُعْتَد بِعَمَلِهِ، وَيلْزم هَذَا الْقَائِل أَن لَا يَدْعُو بالمغفرة وَالرَّحْمَة لِأَنَّهَا لأَصْحَاب الذُّنُوب، وَهَذَا كُله خلاف مَا عرف من دُعَاء السّلف وَالْخلف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الشَّفَاعَة الأولى هِيَ الشَّفَاعَة الْعُظْمَى. قيل: وَهِي المُرَاد بالْمقَام الْمَحْمُود، والمختصة بنبينا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الأولى وَالثَّانيَِة، وَيجوز أَن تكون الثَّالِثَة وَالْخَامِسَة أَيْضا. وَالله أعلم.
    .......
    (2/ 129)
    وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أبي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ: انْظَرْ مَا كانَ منْ حدَيثِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكْتُبْهُ، فأنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وذَهابَ العُلماءِ، وَلَا يُقْبلُ إِلاَّ حَدِيثُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولْيُفْشُوا العِلْمَ وَلْيَجْلِسُوا حَتَّى يُعلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فإنَ العَلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.
    هَذَا تَعْلِيق لم يَقع وَصله عِنْد الْكشميهني وكريمة وَابْن عَسَاكِر، وَوَقع وَصله للْبُخَارِيّ عِنْد غَيرهم، وَهُوَ بقوله فِي بعض النّسخ: حَدثنَا الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار ... إِلَى آخِره،
    ........
    (2/ 129)
    إِشَارَة إِلَى أَن ابْتِدَاء تدوين الحَدِيث النَّبَوِيّ كَانَ فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانُوا قبل ذَلِك يعتمدون على الْحِفْظ، فَلَمَّا خَافَ عمر رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الأولى من ذهَاب الْعلم بِمَوْت الْعلمَاء، رأى أَن فِي تدوينه ضبطاً لَهُ وإبقاء
    وَقَالَ ابْن بطال: فِي أَمر عمر ابْن عبد الْعَزِيز بِكِتَابَة حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاصَّة وَأَن لَا يقبل غَيره، الحض على اتِّبَاع السّنَن وضبطها، إِذْ هِيَ الْحجَّة عِنْد الِاخْتِلَاف. وَفِيه: يَنْبَغِي للْعَالم نشر الْعلم وإذاعته.

    ...........

    (2/ 132)
    قَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَن الله لَا ينْزع
    لْعلم من الْعباد بعد أَن يتفضل بِهِ عَلَيْهِم، وَلَا يسترجع مَا وهب لَهُم من الْعلم الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرفَته وَبث شَرِيعَته، وَإِنَّمَا يكون انْتِزَاعه بتضييعهم الْعلم فَلَا يُوجد من يخلف من مضى، فَأَنْذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبض الْخَيْر كُله، وَكَانَ تحديث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي حجَّة الْوَدَاع، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِي ّ من حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ،قَالَ: (لما كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع قَالَ النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذُوا الْعلم قبل أَن يقبض أَو يرفع،فَقَالَ أَعْرَابِي: كَيفَ يرفع؟فَقَالَ: أَلا إِن ذهَاب الْعلم ذهَاب حَملته، ثَلَاث مَرَّات)
    ........

    تابع
    (2/ 232)
    الْجَهْل الْبَسِيط، وَهُوَ عدم الْعلم بالشَّيْء لَا مَعَ اعْتِقَاد الْعلم بِهِ، أم الْجَهْل الْمركب وَهُوَ عدم الْعلم بالشَّيْء مَعَ اعْتِقَاد الْعلم بِهِ؟ قلت: المُرَاد هُنَا الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا المتناول لَهما. فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بالمفتين، أم عَام للقضاة الْجَاهِلين؟ قلت: عَام، إِذْ الحكم بالشَّيْء مُسْتَلْزم للْفَتْوَى بِهِ.
    ...........
    (2/ 232)
    قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حدّثنا عبَّاسٌ قالَ: حدّثنا قُتيْبَةُ، حدّثنا جَريرٌ عنْ هِشَامٍ نحْوَهُ.
    هَذَا من زيادات الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ فِي بعض الْأَسَانِيد وَهِي قَليلَة. والفربري، بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا وَفتح الرَّاء وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى فربر، وَهِي قَرْيَة من قرى بُخَارى على طرف جيحون، وَهُوَ أَبُو عبد اللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر. وَقَالَ الكلاباذي: كَانَ سَماع الْفربرِي من البُخَارِيّ (صَحِيحه) مرَّتَيْنِ: مرّة بفربر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَمرَّة ببخارى سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. ولد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَات سنة عشْرين وثلثمائة، سمع من قُتَيْبَة بن سعيد فشارك البُخَارِيّ فِي الرِّوَايَة عَنهُ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِي (أَمَالِيهِ) : وَكَانَ ثِقَة ورعاً. وعباس: هُوَ ابْن الْفضل بن زَكَرِيَّا الْهَرَوِيّ أَبُو مَنْصُور الْبَصْرِيّ ثِقَة مَشْهُور من الثَّانِيَة عشر، بل من الَّتِي بعْدهَا ولد بعد موت ابْن مَاجَه، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة،
    .....
    (2/ 135)
    قَالَ الْمَازرِيّ: أما أَطْفَال الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فالإجماع مُنْعَقد على أَنهم فِي الْجنَّة، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور فِي أَوْلَاد من سواهُم من الْمُؤمنِينَ، وَبَعْضهمْ لَا يَحْكِي خلافًا، بل يَحْكِي الْإِجْمَاع على دُخُولهمْ الْجنَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين يقف فيهم، وَلم يثبت الْإِجْمَاع عِنْدهم فَيُقَال بِهِ،
    ........
    (2/ 136)
    وَقد اخْتلف النَّاس فِي الحَدِيث إِذا رُوِيَ مَوْصُولا، وَرُوِيَ مُنْقَطِعًا هَل عِلّة فِيهِ؟ فالمحدثون يثبتونه عِلّة، وَالْفُقَهَاء ينفون الْعلَّة عَنهُ، وَيَقُولُونَ: يجوز أَن يكون سَمعه عَن وَاحِد عَن آخر ثمَّ سَمعه عَن ذَلِك الآخر بِغَيْر وَاسِطَة. قلت: هَذَا هُوَ الْجَواب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِي ّ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك مُسْتَدْرك لِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنه سَمعه عَنْهَا بالواسطة، وَبِدُون الْوَاسِطَة فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَأكْثر استدراكات الدَّارَقُطْنِي ّ على البُخَارِيّ وَمُسلم من هَذَا الْبَاب
    .........
    (2/ 140)
    قَالَ ابْن بطال: وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، عِنْد عُلَمَاء السّنة أولى بالخلافة من يزِيد وَعبد الْملك لِأَنَّهُ بُويِعَ لِابْنِ الزبير قبل هَؤُلَاءِ، وَهُوَ صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ مَالك: ابْن الزبير أولى من عبد الْملك.
    .........
    (2/ 141)
    لى اعْتِقَاد عَمْرو فِي ابْن الزبير، وَالله اعْلَم، وَقد شنع عَلَيْهِ ابْن حزم فِي ذَلِك فِي (الْمحلى) فِي كتاب الْجِنَايَات، فَقَالَ: لَا كَرَامَة للئيم الشَّيْطَان الشرطي الْفَاسِق، يُرِيد أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهَذَا الْفَاسِق هُوَ العَاصِي لله وَلِرَسُولِهِ وَمن وَالَاهُ أَو قَلّدهُ، وَمَا حَامِل الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إلاَّ هُوَ وَمن أمره وَصوب قَوْله، وَكَأن ابْن حزم إِنَّمَا ذكر ذَلِك لِأَن عمرا ذكر ذَلِك عَن اعْتِقَاده فِي ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا.
    ..........
    (2/ 142)
    وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (شرح كتاب الْبُرْهَان) : مُخَالفَة الرَّاوِي لما رَوَاهُ على أَقسَام: مُخَالفَة بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمُخَالفَة ظَاهِرَة على وَجه التَّخْصِيص، وَتَأْويل مُحْتَمل أَو مُجمل. وكل هَذِه الْأَقْسَام فِيهَا الْخلاف. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: مَذْهَب الشَّافِعِي اتِّبَاع رِوَايَته لَا عمله، وَمذهب أبي حنيفَة اتِّبَاع عمله لَا رِوَايَته، فَإِذا كَانَ الحَدِيث عَاما فَهَل يخص بِعَمَل رَاوِيه، وَكَذَا إِذا كَانَ لفظ الحَدِيث مُجملا فَصَرفهُ الرَّاوِي إِلَى أحد محتملاته، هَل يُصَار إِلَى مذْهبه؟ فَفِي ذَلِك خلاف. وَقَالَ الْخَطِيب: ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه إِن كَانَ تَأْوِيل الرَّاوِي يُخَالف ظَاهر الحَدِيث رَجَعَ إِلَى الحَدِيث، وَإِن كَانَ أحد محتملاته الظَّاهِرَة رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمثله إِمَام الْحَرَمَيْنِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إلاَّ هَا وَهَا) ، حمله ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على التَّقَابُض فِي الْمجْلس، وَحَدِيث ابْن عمر: (البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا) حمله ابْن عمر على فرقة الْأَبدَان، وَذكر الْحَنَفِيَّة حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فِي ولوغ الْكَلْب سبعا، وَأَن مَذْهَب أبي هُرَيْرَة جَوَاز الِاقْتِصَار على الثَّلَاث. وَأَن السَّبع مَنْدُوبَة. وَقَالَ الْمَازرِيّ، وَغَيره: يَنْبَغِي أَن يعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة من بَاب الْمُخَالفَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى النّسخ لَا بِمَعْنى التَّخْصِيص، فَإِن الِاقْتِصَار على الثَّلَاث مُخَالفَة للعدد الْمَحْدُود وَهُوَ السَّبع. قلت: إِنَّمَا خَالف أَبُو هُرَيْرَة الْعدَد السَّبع لثُبُوت انتساخه عِنْده، وَالْحمل عَلَيْهِ تَحْسِين الظَّن فِي حق الصَّحَابِيّ. وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يكون مثله حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَقَول أبي القعيس لَهَا: أتحتجبين مني وَأَنا عمك؟ قَالَت: كَيفَ ذَلِك؟ فَقَالَ: أَرْضَعتك امْرَأَة أخي بِلَبن أخي. قَالَت: فَسَأَلت عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: (فَقَالَ: صدق أَفْلح إيذني لَهُ) فروته وأفتته بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه أخواتها وَبَنَات أُخْتهَا، وَلَا يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه نسَاء إخوتها. وَلم يحرم بِلَبن الْفَحْل هِيَ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَالقَاسِم وَأَبُو سَلمَة وَأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِأَن عَائِشَة روته وَلم تعْمل بِهِ وَلم يَأْخُذ بِهِ الْكُوفِيُّونَ وَلَا الشَّافِعِي وَلَا التفتوا إِلَى تَأْوِيلهَا، وَأخذُوا بحديثها وافتوا بِتَحْرِيم لبن
    الْفَحْل. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي بَرِيرَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيرهَا بعد أَن اشترتها عَائِشَة وأعتقتها، وَأَن ابْن عَبَّاس يُفْتِي أَن بيعهَا طَلَاق، وَمَا رَوَاهُ مُخَالف لفتياه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ بيعهَا طَلَاقا لم يُخَيّر وَهِي مُطلقَة؟ وروت عَائِشَة، قَالَت: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر وأقرت صَلَاة السّفر، وَكَانَت عَائِشَة تتمّ. فَترك الْكُوفِيُّونَ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل قَوْلهَا وَأخذُوا بحديثها، وَقَالُوا: قصر الصَّلَاة فِي السّفر فَرِيضَة، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وروى عَنهُ أَبُو مُصعب أَنه سنة، وَذهب جمَاعَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى التَّخْيِير بَين الْقصر والإتمام، وَالله اعْلَم.

    ......
    (2/ 143)
    قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص الْحرم أَن لَا يحارب أَهله، فَإِن بغوا على أهل الْعدْل، قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يحرم قِتَالهمْ ويضيقوا عَلَيْهِم حَتَّى يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة. وَقَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء: يُقَاتلُون على بغيهم إِذا لم يُمكن ردهم إلاَّ بِالْقِتَالِ، لِأَن قتال أهل الْبَغي من حُقُوق الله تَعَالَى الَّتِي لَا تجوز إضاعتها، فحفظها فِي الْحرم أولى من إضاعتها. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي كتاب: اخْتِلَاف الحَدِيث، فِي (الْأُم) . وَأجَاب الشَّافِعِي عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِأَن التَّحْرِيم يعود إِلَى نصب الْقِتَال وقتالهم بِمَا يعم كالمنجنيق وَغَيره إِذا لم يُمكن إصْلَاح الْحَال بِدُونِهِ، بِخِلَاف مَا إِذا تحصن الْكفَّار بِبَلَد آخر، فَإِنَّهُ يجوز قِتَالهمْ على كل وَجه بِكُل شَيْء. وَقَالَ الْقفال، من أَصْحَاب الشَّافِعِي، فِي (شرح التَّلْخِيص) فِي أول كتاب النِّكَاح: لَا يجوز الْقِتَال بِمَكَّة، وَلَو تحصنت جمَاعَة من الْكفَّار فِيهَا لم يجز قِتَالهمْ. قَالَ النَّوَوِيّ: الَّذِي قَالَه الْقفال غلط، نبهت عَلَيْهِ. قلت: بل هُوَ مُوَافق لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ.
    وَحكى الْقُرْطُبِيّ أَن ابْن الْجَوْزِيّ حكى الْإِجْمَاع فِيمَن جنى فِي الْحرم: انه يُقَاد مِنْهُ، وفيمن جنى خَارجه ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ عَن أبي حنيفَة وَأحمد أَنه لَا يُقَام عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ يُقَام عَلَيْهِ. وَنقل ابْن حزم عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الْمَنْع، ثمَّ قَالَ: وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، ثمَّ نقل عَن جمَاعَة من التَّابِعين موافقتهم، ثمَّ شنع على مَالك وَالشَّافِعِيّ، فَقَالَ: قد خالفا فِي هَذَا هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة وَالْكتاب وَالسّنة، وَاحْتج بَعضهم لمذهبهما بِقصَّة ابْن خطل. وَأجِيب عَنْهَا بأوجه. أَحدهَا: أَنه ارْتَدَّ وَقتل مُسلما وَكَانَ يهجو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الثَّانِي: أَنه لم يدْخل فِي الْأمان فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ وَأمر بقتْله وَإِن وجد مُعَلّقا باستار الْكَعْبَة. الثَّالِث: أَنه كَانَ مِمَّن قَاتل، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ إِنَّمَا قتل فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي أبيحت لَهُ، وَهُوَ غَرِيب، فَإِن سَاعَة الدُّخُول حِين استولى عَلَيْهَا وأذعن أَهلهَا، وَقتل ابْن خطل بعد ذَلِك، وَبعد قَوْله: (من دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) ، وَقد دخل لكنه اسْتَثْنَاهُ مَعَ جمَاعَة غَيره.
    ........
    (2/ 144)
    أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِي ّ، لَكِن من رَآهَا عنْوَة يَقُول: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منَّ على أَهلهَا وسوغهم أَمْوَالهم ودورهم وَلم يقسمها وَلم يَجْعَلهَا فَيْئا. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا يعلم مَكَّة يشبهها شَيْء من الْبِلَاد. وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره: فتحت صلحا، وتأولوا الحَدِيث بِأَن الْقِتَال كَانَ جَائِزا، لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَو احْتَاجَ إِلَيْهِ، ويضعف هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي الحَدِيث: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) فَإِنَّهُ يدل على وجود الْقَتْل. وَقَوله: (من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن) ، وَكَذَلِكَ غَيره من النَّاس الْمُعَلق على أَشْيَاء مَخْصُوصَة، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: عِنْدِي أَن أَسْفَل مَكَّة دخله خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ عنْوَة، وأعلاها دخله الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله عَنهُ، صلحا، ودخلها الشَّارِع من جِهَته، فَصَارَ حكم جِهَته الْأَغْلَب
    ..........
    (2/ 146)
    وَالْكذب عِنْد الأشعرية: الْإِخْبَار عَن الْأَمر على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ عمدا أَو سَهوا، خلافًا للمعتزلة فِي اشتراطهم العمدية. وَيُقَال فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَذْهَب الْحق
    ن الْكَذِب عدم مُطَابقَة الْوَاقِع والصدق مطابقته. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُطَابقَة الِاعْتِقَاد أَو لَا مطابقته. وَالثَّالِث: مطابقته الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، وَلَا مُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد لَا مطابقته. وعَلى الْأَخيرينِ يكون بَينهمَا الْوَاسِطَة

    (2/ 147)
    ضربه عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي، من حمير، بِسيف مَسْمُوم فأوصله دماغه فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وَمَات بِالْكُوفَةِ لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ آدم اللَّوْن أصلع ربعَة، أَبيض الرَّأْس واللحية، وَرُبمَا خضب لحيته، وَكَانَت لَهُ لحية كثة طَوِيلَة، حسن الْوَجْه كَأَنَّهُ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، ضحوك السن، وقبره بِالْكُوفَةِ، وَلكنه غيب خوفًا من الْخَوَارِج، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه: عَليّ بن أبي طَالب غَيره،
    .....
    (2/ 148)
    تَعْظِيم حُرْمَة الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وانه كَبِيرَة. وَالْمَشْهُور: أَن فَاعله لَا يكفر إلاَّ أَن يستحله. وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول: من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُتَعَمدا كفر وأريق دَمه. وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَجعله من هفوات وَالِده، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَو كذب فِي حَدِيث وَاحِد عمدا فسق وردَّت رواياته كلهَا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: وَلَا يقبل مِنْهُ رِوَايَة أبدا وَلَا تقبل تَوْبَته مِنْهُ، بل يتحتم جرحه دَائِما، على مَا ذكره جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل، وَأَبُو بكر الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب الشَّافِعِي، وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي من الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ الصَّيْرَفِي: كل من أسقطنا خَبره بَين أهل النَّقْل بكذب وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لم
    ......
    (2/ 149)
    ا فرق فِي تَحْرِيم الْكَذِب على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،بَين مَا كَانَ فِي الْأَحْكَام وَغَيره: كالترغيب والترهيب. فكله حرَام من أكبر الْكَبَائِر بِإِجْمَاع الْمُسلمين المعتد بهم، خلافًا اللكرامية فِي زعمهم الْبَاطِل أَنه يجوز الْوَضع فِي التَّرْغِيب والترهيب، وتابعهم كثير من الجهلة الَّذين ينسبون أنفسهم إِلَى الزّهْد. وَمِنْهُم من زعم أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: من كذب عَليّ مُتَعَمدا ليضل بِهِ،وتمسكوا بِهَذِهِ الزِّيَادَة: أَنه كذب لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسد ومخالف لإِجْمَاع أهل الْحل وَالْعقد، وَجَهل لِسَان الْعَرَب، وخطاب الشَّرْع. فَإِن كل ذَلِك كذب عِنْدهم. وَأما تعلقهم بِهَذِهِ الزِّيَادَة فقد أُجِيب عَنْهَا بأجوبة: أَحدهَا: أَن الزِّيَادَة بَاطِلَة اتّفق الْحفاظ على بُطْلَانهَا. وَالثَّانِي: قَالَ الإِمَام الطَّحَاوِيّ: وَلَو صحت لكَانَتْ للتَّأْكِيد،كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} (الْأَنْعَام: 144) . وَالثَّالِث: أَن اللَّام فِي: ليضل، لَيست للتَّعْلِيل، بل لَام الصيرورة وَالْعَاقبَة،وَالْمعْنَى: على هَذَا يصير كذبه إِلَى الضلال بِهِ.

    ........
    (2/ 149)
    من روى حَدِيثا وَعلم أَو ظن أَنه مَوْضُوع فَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْوَعيد إِذا لم يبين حَال رُوَاته وضعفهم، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله،عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من حدث عني بِحَدِيث يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَاذِبين) . قَالَ النَّوَوِيّ: الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة ضم الْيَاء فِي: يرى،و: الْكَاذِبين، بِكَسْر الْيَاء على الْجمع.
    إِذا روى حَدِيثا ضَعِيفا لَا يذكرهُ بِصِيغَة الْجَزْم،نَحْو: قَالَ أَو فعل أَو أَمر، وَنَحْو ذَلِك،بل يَقُول: رُوِيَ عَنهُ كَذَا، وَجَاء عَنهُ كَذَا، أَو يذكر أَو يُروى أَو يُحكى، أَو يُقال أَو بلغنَا وَنَحْو ذَلِك،فَإِن كَانَ صَحِيحا أَو حسنا قَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، أَو فعله، وَنَحْو ذَلِك من صِيغ الْجَزْم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: استجاز بعض فُقَهَاء الْعرَاق نِسْبَة الحكم الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقيَاس إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نِسْبَة قولية، وحكاية فعلية،فَيَقُول فِي ذَلِك: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، وَكَذَا. قَالَ: وَلذَلِك ترى كتبهمْ مشحونة بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة تشهد متونها بِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لِأَنَّهَا تشبه فَتَاوَى الْفُقَهَاء، وَلَا يَلِيق بجزالة كَلَام سيد الْمُرْسلين، فَهَؤُلَاءِ شملهم النَّهْي والوعيد
    .........
    (2/ 149)
    قَالَ الْأَصْمَعِي: أخوف مَا أَخَاف على طَالب الْعلم، إِذا لم يعرف النَّحْو، أَن يدْخل فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من كذب عَليّ) الحَدِيث، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن يلحن، فمهما لحن الرَّاوِي فقد كذب عَلَيْهِ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يُعْطي كتبه، إِذا كَانَ فِيهَا لحن، لمن يصلحها، فَإِذا صَحَّ فِي رِوَايَته كلمة غير مفيدة فَلهُ أَن يسْأَل عَنْهَا أهل الْعلم ويرويها على مَا يجوز فِيهِ. رُوِيَ ذَلِك عَن أَحْمد وَغَيره، قَالَ أَحْمد يجْتَنب إِعْرَاب اللّحن لأَنهم كَانُوا لَا يلحنون. وَقَالَ النَّسَائِيّ، فِيمَا حَكَاهُ الْقَابِسِيّ: إِذا كَانَ اللّحن شَيْئا تَقوله الْعَرَب، وَإِن كَانَ فِي لُغَة قُرَيْش، فَلَا يُغير لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يكلم النَّاس بلسانهم، وَإِن كَانَ لَا يُوجد فِي كَلَامهم فالشارع لَا يلحن. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: كَانُوا يعربون وَإِنَّمَا اللّحن من حَملَة الحَدِيث فأعربوا الحَدِيث. وَقيل لِلشَّعْبِيِّ: أسمع الحَدِيث لَيْسَ بإعراب أفأعربه؟ قَالَ: نعم. فَإِن قلت: لَو صَحَّ فِي رِوَايَة مَا هُوَ خطأ مَا حكمه؟ قلت: الْجُمْهُور على رِوَايَته على الصَّوَاب، وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكتاب، بل يكْتب فِي الْحَاشِيَة كَذَا وَقع وَصَوَابه كَذَا. وَهُوَ الصَّوَاب
    .......
    (2/ 150)
    بَيَان أَصْنَاف الواضعين: الأول: قوم زنادقة كالمغيرة بن سعيد الْكُوفِي، وَمُحَمّد بن سعيد المصلوب، أَرَادوا إِيقَاع الشَّك فِي قُلُوب النَّاس، فرووا: أَنا خَاتم النَّبِيين لَا نَبِي بعدِي إلاَّ أَن يَشَاء الله. الثَّانِي: قوم متعصبون، وَمِنْهُم من تعصب لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، فوضعوا فِيهِ أَحَادِيث،
    وَقوم تعصبوا لمعاوية وَرووا لَهُ أَشْيَاء، وَقوم تعصبوا لأبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ ابْن حبَان: وضع الْحسن بن عَليّ بن زَكَرِيَّا الْعَدوي الرَّازِيّ حَدِيث: النّظر إِلَى وَجه عَليّ عبَادَة. وَحدث عَن الثِّقَات لَعَلَّه بِمَا يزِيد على ألف حَدِيث سوى المقلوبات. وَقَالَ الْخَطِيب فِي (الْكِفَايَة) بِسَنَدِهِ إِلَى الْمهْدي، قَالَ: اقر عِنْدِي رجل من الزَّنَادِقَة أَنه وضع أَربع مائَة حَدِيث فَهِيَ تجول بَين النَّاس. وَقوم وضعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب والترهيب. وَعَن ابْن الصّلاح قَالَ: رويت عَن أبي عصمَة، نوح بن أبي مَرْيَم، أَنه قيل لَهُ: من أَيْن لَك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي فَضَائِل الْقُرْآن سُورَة سُورَة. فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت النَّاس قد أَعرضُوا عَن الْقُرْآن وَاشْتَغلُوا بِفقه أبي حنيفَة ومعاذ بن أبي إِسْحَاق، فَوضعت هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ يحيى: نوح هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ مُسلم وَأَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْن ِيّ: مَتْرُوك.
    السَّابِع: يعرف الْمَوْضُوع بِإِقْرَار وَاضعه أَو مَا يتنزل منزلَة إِقْرَاره أَو قرينَة فِي حَال الرَّاوِي أَو الْمَرْوِيّ أَو ركاكة لَفظه أَو لروايته عَمَّن لم يُدْرِكهُ، وَلَا يخفى ذَلِك على أهل هَذَا الشَّأْن. وَقيل لعبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة: قَالَ: يعِيش لَهَا الجهابذة.
    .....
    (2/ 150)
    وَأما جِهَات الْوَضع فَرُبمَا يكون من كَلَام نَفسه،أَو يَأْخُذ كلَاما من مقالات بعض الْحُكَمَاء أَو كَلَام بعض الصَّحَابَة فيرفعه كَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل السَّهْمِي عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج إلاَّ الإِمَام) . وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عَن وهب عَن جَابر من قَوْله. وَرُبمَا أخذُوا كلَاما للتابعين فزادوا فِيهِ رجلا فَرَفَعُوهُ. وَقوم من المجرحين عَمدُوا إِلَى أَحَادِيث مَشْهُورَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بأسانيد مَعْلُومَة مَعْرُوفَة وضعُوا لَهَا غير تِلْكَ الْأَسَانِيد. وَقوم عِنْدهم غَفلَة إِذا لقنوا تلقنوا. وَقوم ضَاعَت كتبهمْ فَحَدثُوا من حفظهم على التخمين. وَقوم سمعُوا مصنفات وَلَيْسَت عِنْدهم فحملهم الشره إِلَى أَن حدثوا عَن كتب مشتراة لَيْسَ فِيهَا سَماع وَلَا مُقَابلَة، وَقوم كَثِيرَة لَيْسُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، سُئِلَ يحيى بن سعيد عَن مَالك بن دِينَار وَمُحَمّد بن وَاسع وَحسان بن أبي سِنَان،قَالَ: مَا رَأَيْت الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث، لأَنهم يَكْتُبُونَ عَن كل من يلقون، لَا تَمْيِيز لَهُم. وروى الْخَطِيب، بِسَنَدِهِ عَن ربيعَة الرَّاعِي،قَالَ: من إِخْوَاننَا من نرجو بركَة دُعَائِهِ، وَلَو شهد عندنَا بِشَهَادَة مَا قبلناها. وَعَن مَالك: أدْركْت سبعين عِنْد هَذِه الأساطين، وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،يَقُولُونَ: قَالَ: رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمَا أخذت عَنْهُم شَيْئا، وَإِن أحدهم يُؤمن على بَيت المَال، لأَنهم لم يَكُونُوا من أهل هَذَا الشَّأْن،
    ...........
    ........

  9. #229
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأربعاء
    الموافق : 3/ ذو القعدة / 1441 ه
    الموافق : 24/ يونيو / 2020 ميلادي

    " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "
    تم تلخيص وختم المجلد الثاني من " عمدة القاري " للعيني رحمه الله


    تابع
    (2/152)
    حدّثنا مَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قالَ: حدّثنا يَزِيدُ بنُ أبي عُبيْدٍ عنْ سَلَمَةَ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (مَنْ يَقلْ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)
    من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهُوَ أول ثلاثي وَقع فِي البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهِ أَعلَى من الثلاثيات، ويبلغ جَمِيعهَا أَكثر من عشْرين حَدِيثا، وَبِه فضل البُخَارِيّ على غَيره. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، سمع من سَبْعَة عشر نَفرا من التَّابِعين مِنْهُم يزِيد بن أبي عبيد
    ............
    (2/ 156)
    وَقَالَ الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ لأحد أَن يكتنى بِأبي الْقَاسِم سَوَاء كَانَ اسْمه مُحَمَّد أم لم يكن وَقَالَ القَاضِي وَمنع قوم تَسْمِيَته الْوَلَد بالقاسم كَيْلا يكون سَببا للتكنية وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله فِيهِ " إِنَّمَا أَنا قَاسم " وَاخْبَرْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَعْنَى الَّذِي اقْتضى اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الكنية وَقَالَ قوم يجوز التكنى بِأبي الْقَاسِم لغير اسْمه مُحَمَّد وَأحمد وَيجوز التَّسْمِيَة بِأَحْمَد وَمُحَمّد مَا لم يكن لَهُ كنيته بِأبي الْقَاسِم وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من تسمى باسمي فَلَا يتكنى بكنيتي وَمن تكنى بكنيتي فَلَا يتسمى بإسمي " وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة " نهى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين اسْمه وكنيته " وَذهب قوم إِلَى أَن النَّهْي مَنْسُوخ الْإِبَاحَة فِي حَدِيث عَليّ وَطَلْحَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من السّلف وَالْعُلَمَاء وسمت جمَاعَة أَبْنَاءَهُم مُحَمَّدًا وكنوهم أَبَا الْقَاسِم قَالَ المازرى قَالَ بَعضهم النَّهْي مَقْصُور بحياة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ ذكر أَن سَبَب الحَدِيث أَن رجلا نَادَى يَا أَبَا الْقَاسِم فَالْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لم أعنك وَإِنَّمَا دَعَوْت فلَانا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تسموا باسمى وَلَا تكتنوا بكنيتي " وَبِه قَالَ مَالك وجوزان يُسمى بِمُحَمد ويكنى بِأبي الْقَاسِم مُطلقًا قلت أما الحَدِيث الأول فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَأما الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَقيل أَن سَبَب النَّهْي أَن الْيَهُود تكنوا بِهِ وَكَانُوا ينادون يَا أَبَا الْقَاسِم فَإِذا الْتفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا لم نعنك اظهاراً للايذاء وَقد زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وَأما الثَّالِث فَهُوَ حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ " قلت يَا رَسُول الله أَن ولد لي من بعْدك أنسميه بِاسْمِك ونكنيه بكنيتك قَالَ نعم " وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله ثَلَاثَة تكنوا بِأبي الْقَاسِم رخص لَهُم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَمُحَمّد بن أبي بكر وَمُحَمّد بن طَلْحَة بن عبد الله وَقَالَ ابْن جرير النَّهْي فِي الحَدِيث للتنزيه وَالْأَدب لَا للتَّحْرِيم. الثَّانِي فِيهِ التَّصْرِيح بِجَوَاز التسمي باسمه
    ......
    (2/ 156)
    الَ ابْن الْعَرَبِيّ ذهل القَاضِي عَن أَن هَذَا المرئي مثل فالإدراك إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْمثلِ وَقَالَ أَن الله يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات كَمَا يخلقها فِي قلب الْيَقظَان فَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء فَلَا يمنعهُ من فعله نوم وَلَا يقظة فَإِذا خلق هَذِه الاعتقادات فَكَأَنَّهُ جعلهَا علما على أُمُور أخر يخلقها فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَإِذا خلق فِي قلب النَّائِم اعْتِقَاد الطيران وَلَيْسَ بطائر فقصارى أمره أَنه أعتقد أمرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيكون ذَلِك الِاعْتِقَاد علما على غَيره كَمَا يخلق الله الْغَيْم علما على الْمَطَر وَيُقَال حَقِيقَة الرُّؤْيَا مَا يَنْزعهُ الْملك الْمُوكل عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى قدر كل بالرؤيا ملكا يضْرب من الْحِكْمَة الْأَمْثَال وَقد اطلعه الله تَعَالَى
    ى قصَص ولد آدم من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّته مثلا فَإِذا نَام تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة ليَكُون لَهُ بِشَارَة أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على بَصِيرَة من أَمرهم
    ...........
    (2/ 157)
    عْلَم أَن حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا وَقَالَ بعض الْحفاظ أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ الْعشْرَة المبشرة وَقَالَ وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا وَقَالَ بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ ابْن الصّلاح لم يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا وَقَالَ ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا " وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر فَافْهَم
    .....
    (2/160)
    عْلَم أَن حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا وَقَالَ بعض الْحفاظ أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ الْعشْرَة المبشرة وَقَالَ وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا وَقَالَ بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ ابْن الصّلاح لم يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا وَقَالَ ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا " وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر فَافْهَم
    ........
    (2/ 160)
    عْلَم أَن حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا وَقَالَ بعض الْحفاظ أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ الْعشْرَة المبشرة وَقَالَ وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا وَقَالَ بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ ابْن الصّلاح لم يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا وَقَالَ ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا " وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر فَافْهَم
    ......ز
    (2/ 160)
    وَفِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن جرير بن مطرف: (هَل علمت شَيْئا من الْوَحْي؟) وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَة عَن ذَلِك لِأَن الشِّيعَة كَانُوا يَزْعمُونَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خص أهل بَيته، لَا سِيمَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأسرار من علم الْوَحْي لم يذكرهَا لغيره، وَقد سَأَلَ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن هَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا قيس بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْأَشْتَر النَّخعِيّ، وحديثهما فِي (سنَن النَّسَائِيّ) . قَوْله: (قَالَ: لَا) . أَي: لَا كتاب،أَي: لَيْسَ عندنَا كتاب غير كتاب الله تَعَالَى. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (لَا، وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة)
    مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن من طَرِيق طَارق بن شهَاب،قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله عَنهُ،على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول: (وَالله مَا عندنَا كتاب نقرؤه إلاّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة)
    رَضِي الله عَنهُ،قَالَ: (مَا عندنَا شَيْء نقرؤه إلاَّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة،فَإِذا فِيهَا: الْمَدِينَة حرم) الحَدِيث. وَلمُسلم عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ،رَضِي الله عَنهُ: (مَا خصنا رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة إلاَّ مَا فِي قرَاب سَيفي هَذَا،فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوبَة فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله) الحَدِيث. وللنسائي من طَرِيق الأشتر وَغَيره عَن عَليّ: فَإِذا فِيهَا: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، يسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم) الحَدِيث. وَلأَحْمَد من طَرِيق ابْن شهَاب: (فِيهَا فَرَائض الصَّدَقَة) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟قلت: الصَّحِيفَة كَانَت وَاحِدَة، وَكَانَ جَمِيع ذَلِك مَكْتُوبًا فِيهَا، وَنقل كل من الروَاة مَا حفظه.
    ..........
    (2/ 161)
    احتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ عَن الْحسن بن أَحْمد عَن سعيد بن مُحَمَّد الرهاوي عَن عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا،إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قتل مُسلما بمعاهد،ثمَّ قَالَ: أَنا أكْرم من وَفِي بِذِمَّتِهِ) . ثمَّ قَالَت الشَّافِعِيَّة: قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: لم يسْندهُ غير إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَهُوَ مَتْرُوك، وَالصَّوَاب إرْسَاله، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث فَكيف إِذا أرْسلهُ؟وَقَالَ مَالك وَيحيى بن سعيد وَابْن معِين: هُوَ كَذَّاب، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى. وَقَالَ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ: ترك النَّاس حَدِيثه. وَابْن الْبَيْلَمَانِي اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَقد ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ أَحْمد: من حكم بحَديثه فَهُوَ عِنْدِي مخطىء، وَإِن حكم بِهِ حَاكم نقض. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الحَدِيث على ترك الْمُتَّصِل من حَدِيثه، فَكيف بالمنقطع؟وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع لَا احتجاج بِهِ
    ......
    (2/166)
    وَلَا يعرف اسْم أبي شاه هَذَا، وَإِنَّمَا يعرف بكنيته وَهُوَ كَلْبِي يمني. وَفِي (الْمطَالع) وَأَبُو شاه مصروفا ضبطته وقرأته أَنا معرفَة ونكرة، وَعَن ابْن دحْيَة أَنه بِالتَّاءِ مَنْصُوبًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بهاء فِي آخِره درجا ووقفا. قَالَ: وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا يغتر بِكَثْرَة من يصحفه مِمَّن لَا يَأْخُذ الْعلم على وَجهه وَمن مظانه.
    ......
    (2/ 167)
    قَالَ الشّعبِيّ: إِذا سَمِعت شَيْئا فاكتبه وَلَو فِي الْحَائِط.
    ........
    (2/ 167)
    قَالَ عِيَاض: إِنَّمَا كره من كره من السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْعلم فِي الْمُصحف وَتَدْوِين السّنَن لأحاديث رويت فِيهَا. مِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْكِتَابَة فَلم يَأْذَن لنا) . وَعَن زيد بن ثَابت،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أمرنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن لَا نكتب شَيْئا) . وَلِئَلَّا يكْتب مَعَ الْقُرْآن شَيْء وَخَوف الاتكال على الْكِتَابَة. ثمَّ جَاءَت أَحَادِيث بِالْإِذْنِ فِي ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. قلت: يُرِيد قَول عبد الله: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ،قَالَ: فَأذن لي، فكتبته) فَكَانَ عبد الله يُسَمِّي صَحِيفَته الصادقة. قَالَ: وَأَجَازَهُ مُعظم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ، وَوَقع عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق ودعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة لانتشار الطّرق وَطول الْأَسَانِيد واشتباه المقالات مَعَ قلَّة الْحِفْظ وكلال الْفَهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجابوا عَن أَحَادِيث النَّهْي إِمَّا بالنسخ، فَإِن النَّهْي كَانَ خوفًا من الِاخْتِلَاط بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا اشْتهر أمنت الْمفْسدَة، أَو إِن النَّهْي كَانَ على التَّنْزِيه لمن وثق بحفظه، وَالْإِذْن لمن لم يَثِق بحفظه
    .....
    (2/ 168)
    قَالَ الْجَوْهَرِي الْيمن بِلَاد الْعَرَب وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا يمنى ويمان مُخَفّفَة وَالْألف عوض عَن يَاء النِّسْبَة فَلَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَبَعْضهمْ يَقُول يماني بِالتَّشْدِيدِ الابناوى بِفَتْح الْهمزَة مَنْسُوب إِلَى الْأَبْنَاء بباء مُوَحدَة ثمَّ نون وهم كل من أَبنَاء الْفرس الَّذين وجههم كسْرَى مَعَ سيف ذِي يزن الذمارِي بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَقيل بِفَتْحِهَا نِسْبَة إِلَى ذمار على مرحلَتَيْنِ من صنعاء
    ........
    (2/ 169)
    وَقد روى عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ اسْتَأْذَنت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ فَأذن لي وَعنهُ قَالَ حفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل وَإِنَّمَا قلت الرِّوَايَة عَنهُ مَعَ كَثْرَة مَا حمل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ سكن مصر وَكَانَ الواردون إِلَيْهَا قَلِيلا بِخِلَاف أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ استوطن الْمَدِينَة وَهِي مقصد الْمُسلمين من كل جِهَة وَقيل كَانَ السَّبَب فِي كَثْرَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِعَدَمِ النسْيَان وَالسَّبَب فِي قلَّة حَدِيث عبد الله بن عَمْرو هُوَ أَنه كَانَ قد ظفر بجمل من كتب أهل الْكتاب وَكَانَ ينظر فِيهَا وَيحدث مِنْهَا فتجنب الْأَخْذ عَنهُ كثير من التَّابِعين وَالله أعلم.
    الَ البُخَارِيّ روى عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو من ثَمَانمِائَة رجل وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف وَثَلَاث مائَة حَدِيث وَوجد لعبد الله بن عَمْرو سَبْعمِائة حَدِيث اتفقَا على سَبْعَة عشر وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِمِائَة وَمُسلم بِعشْرين



    ......
    (2/ 170)
    اخْتلف الْعلمَاء فِي الْكتاب الَّذِي همَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكتابته،قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْإِمَامَة بعده فترتفع تِلْكَ الْفِتَن الْعَظِيمَة كحرب الْجمل وصفين. وَقيل: أَرَادَ أَن يبين كتابا فِيهِ مهمات الْأَحْكَام ليحصل الِاتِّفَاق على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، ثمَّ ظهر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمصلحَة تَركه، أَو أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أَرَادَ أَن ينص على أسامي الْخُلَفَاء بعده حَتَّى لَا يَقع مِنْهُم الِاخْتِلَاف، وَيُؤَيِّدهُ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ فِي أَوَائِل مَرضه، وَهُوَ عِنْد عَائِشَة،رَضِي الله عَنْهَا: (ادعِي لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب كتابا، فَإِنِّي أَخَاف أَن يتَمَنَّى متمني، وَيَقُول قَائِل، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أَبَا بكر) . أخرجه مُسلم. وللبخاري مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِك فَلم يكْتب
    وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد حكى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أهل الْعلم، قيل: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يكْتب اسْتِخْلَاف أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ ترك ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا علمه من تَقْدِير الله تَعَالَى. وَذَلِكَ كَمَا همَّ فِي أول مَرضه حِين قَالَ: وارأساه، ثمَّ ترك الْكتاب، وَقَالَ: يأبي الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر، ثمَّ قدمه فِي الصَّلَاة
    ,,,,,,,,,,,,
    (2/ 170)
    وَمَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ قد رفع دَرَجَته فَوق الْخلق كلهم، فَلم يتنزه من الْعَوَارِض البشرية، فقد سَهَا فِي الصَّلَاة، فَلَا يُنكر أَن يظنّ بِهِ حُدُوث بعض هَذِه الْأُمُور فِي مَرضه،
    ......
    (2/ 174)
    (فَرب كاسية) أصل: رب، للتقليل، وَقد تسْتَعْمل للتكثير كَمَا فِي رب هَهُنَا، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنه لَيْسَ مَعْنَاهُ التقليل دَائِما خلافًا للأكثرين، وَلَا التكثير دَائِما خلافًا لِابْنِ درسْتوَيْه وَجَمَاعَة، بل ترد للتكثير كثيرا، وللتقليل قَلِيلا. فَمن الأول: {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} (الْحجر: 2) (وَرب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية يَوْم الْقِيَامَة) . وَمن الثَّانِي: قَول الشَّاعِر:
    (أَلا رب مَوْلُود وَلَيْسَ لَهُ أَب)
    وفيهَا لُغَات
    ........
    (2/ 174)
    وَهَذِه الْبلوى عَامَّة فِي هَذَا الزَّمَان لَا سِيمَا فِي نسَاء مصر، فَإِن الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ تتغالى فِي ثمن قَمِيص إِمَّا من عِنْدهَا أَو بتكليفها زَوجهَا حَتَّى تفصل قَمِيصًا بأكمام هائلة وذيل سابلة جدا، منجرة وَرَاءَهَا أَكثر من ذراعين، وكل كم من كميها يصلح أَن يكون قَمِيصًا معتدلاً، وَمَعَ هَذَا إِذا مشت يرى مِنْهَا أَكثر بدنهَا من نفس كمها، فَلَا شكّ أَنَّهُنَّ مِمَّن يدخلن فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من جملَة معجزات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
    ..........
    (2/ 177)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة سنة، سَوَاء قل عمره قبل ذَلِك أم لَا، وَلَيْسَ فِيهِ نفي عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة. وَيُقَال: معنى الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعظهم بقصر أعمارهم بِخِلَاف غَيرهم من سالف الْأُمَم، وَقد احْتج البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. وَمن قَالَ بِهِ أجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ من سَاكِني الْبَحْر فَلَا يدْخل فِي الحَدِيث. وَمن قَالَ: إِن معنى الحَدِيث: لَا يبْقى مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَرْضِ الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا،وَقد قَالَ تَعَالَى: {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء: 97) يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض احْتِرَاز عَن الْمَلَائِكَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا تَقول فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام؟قلت: فَهُوَ لَيْسَ على وَجه الأَرْض بل فِي السَّمَاء، أَو هُوَ من النَّوَادِر. فَإِن قلت: فَمَا قَوْلك فِي إِبْلِيس؟قلت: هُوَ لَيْسَ على ظهر الأَرْض بل فِي الْهَوَاء أَو فِي النَّار، أَو المُرَاد من لفظ من هُوَ الْإِنْس وَالله أعلم. قلت: هَذِه كلهَا تعسفات، وَلَا يرد على هَذَا لَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا بإبليس. فَإِن مُرَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أمته، والقرائن تدل على ذَلِك،مِنْهَا قَوْله: (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟) ، وكل من على وَجه الأَرْض من الْمُسلمين وَالْكفَّار أمته، أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم أمة إِجَابَة، وَأما الْكفَّار فَإِنَّهُم أمة دَعْوَة. وَعِيسَى وَالْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، ليسَا داخلين فِي الْأمة. وَأما الشَّيْطَان فَإِنَّهُ لَيْسَ من بني آدم. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أَرَادَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذِي هم فِيهِ، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقد أخرج البُخَارِيّ،فِيمَا انْفَرد بِهِ عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يكره النّوم قبل الْعشَاء والْحَدِيث بعْدهَا، فَهَذَا يدل على الْمَنْع مُطلقًا، والْحَدِيث الْمُتَقَدّم يدل على جَوَاز السمر فِي الْعلم وَالْخَيْر، فنخص الْعُمُوم فِيمَا عداهما. وَأما مَا عدا ذَلِك فَذهب الْأَكْثَر إِلَى كَرَاهَته، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس، وَكتب عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن لَا ينَام قبل أَن يُصليهَا فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عينه. وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم، وَقَول مُجَاهِد وَمَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَرخّص طَائِفَة فِيهِ، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه كَانَ رُبمَا غفى قبل الْعشَاء، وَكَانَ ابْن عمر ينَام ويوكل من يوقظه
    .......
    (2/ 179)
    عَن يسَاره)
    بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا.وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ:لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَولهَا يَاء مَكْسُورَة.
    عَن يسَاره) بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا. وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَولهَا يَاء مَكْسُورَة.
    لَيْسَ فِي كَلَامهم كلمة مَكْسُورَة الْيَاء إلاَّ: يسَار،
    ...ز
    (2/ 183)
    الْفرق بَينه وَبَين السَّهْو أَن النسْيَان زَوَال عَن الحافظة والمدركة، والسهو زَوَال عَن الحافظة فَقَط. وَالْفرق بَين السَّهْو وَالْخَطَأ أَن السَّهْو مَا يتَنَبَّه صَاحبه بِأَدْنَى تَنْبِيه، وَالْخَطَأ مَا لَا يتَنَبَّه بِهِ. وَيُقَال المأتي بِهِ إِن كَانَ على جِهَة مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا يَنْبَغِي ينظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ فَإِن كَانَ يتَنَبَّه بأيسر تَنْبِيه فَهُوَ السَّهْو، وإلاَّ فَهُوَ الْخَطَأ. وَالنِّسْيَان حَالَة تعتري الْإِنْسَان من غير اخْتِيَاره توجب غفلته عَن الْحِفْظ. والغفلة ترك الِالْتِفَات بِسَبَب أَمر عَارض
    .........
    (2/ 184)
    وَفِي (الْعباب) فِي فصل الْحَاء الْمُهْملَة: حذفته بالعصا أَي: رميته. وَهُوَ بَين كل حاذف وقاذف: فالحاذف بالعصا، والقاذف بِالْحجرِ. وَقَالَ اللَّيْث: الْحَذف الرَّمْي عَن جَانب وَالضَّرْب عَن جَانب.
    .....
    (2/ 192)
    زْعم نوف أَن مُوسَى صَاحب الْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، الَّذِي قصّ الله تَعَالَى علينا فِي سُورَة الْكَهْف لَيْسَ مُوسَى بن عمرَان الَّذِي أرسل إِلَى فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بالشين الْمُعْجَمَة، وميشا بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم السَّلَام، وَهُوَ أول مُوسَى، وَهُوَ أَيْضا نَبِي مُرْسل. وَزعم أهل التَّوْرَاة أَنه هُوَ صَاحب الْخضر، وَالَّذِي ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسائل هَا هُنَا هُوَ سعيد بن جُبَير، والمجيب ابْن عَبَّاس، وَفِيمَا تقدم أَن ابْن عَبَّاس تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقِيه،فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، فَمر بهما أبي بن كَعْب، رَضِي الله عَن
    ابْن عَبَّاس فَأخْبرهُ، فَيحْتَمل أَن يكون سعيد بن جُبَير سَأَلَ ابْن عَبَّاس بعد الْوَقْعَة الأولى الْمُتَقَدّمَة لِابْنِ عَبَّاس وَالْحر، فَأخْبرهُ ابْن عَبَّاس لما سَأَلَهُ عَن قَول نوف أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل، وَجَاء أَن السَّائِل غير سعيد بن جُبَير.
    ...........
    (2/ 193)
    وَفِي مُسلم: مَا أعلم فِي الأَرْض رجلا خيرا مني وَأعلم، من غير تقدم ذكر سُؤال،فَأوحى الله إِلَيْهِ: إِنِّي أعلم بِالْخَيرِ عِنْد من هُوَ. إِن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: الله أعلم،إِذا قيل لَهُ: أَي النَّاس أعلم؟ لِأَنَّهُ لم يحط علما بِكُل عَالم فِي الدُّنْيَا. وَقد قَالَت الْمَلَائِكَة: {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إلاَّ مَا علمتنا} (الْبَقَرَة: 32) وَسُئِلَ النَّبِي عَن الرّوح وَغَيره،فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أسأَل الله تَعَالَى. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء،ردا على ابْن بطال فِي حصر الصَّوَاب فِي ترك الْجَواب بقوله: الله أعلم: بل الْجَواب أَن رد الْعلم إِلَى الله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُتَعَيّن أجَاب أم لَا،فَإِن أجَاب قَالَ: أَنا وَالله أعلم،فَإِن لم يجب قَالَ: الله أعلم،وَبِهَذَا تأدب الْمفْتُون عقب أجوبتهم: وَالله أعلم. وَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَو قَالَ: أَنا وَالله أعلم،أَي: هَذَا لَكَانَ جَوَابا،وَإِنَّمَا وَقعت الْمُؤَاخَذَة على الِاقْتِصَار على قَوْله: (أَنا أعلم) . وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي الْجَواب: أما على رِوَايَة من روى: هَل تعلم؟ فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا أخبر عَمَّا يعلم،وَأما على رِوَايَة: أَي النَّاس أعلم؟ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن الْخضر أعلم مِنْهُ، فمراد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ أَنا أعلم،
    .......
    (2/ 194)
    وَفِي طَرِيق للْبُخَارِيّ: وَفِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا الْحَيَاة لَا يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إِلَّا حييّ، فَأصَاب الْحُوت من مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسل من المكتل فَدخل الْبَحْر
    .......
    (2/ 194)
    وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعمد بِالْفَسَادِ ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ الْغُلَام يسرق الْمَتَاع بِاللَّيْلِ، فَإِذا أصبح لَجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه شَفَقَة عَلَيْهِ،ويقولان: لقد بَات عندنَا. وَاخْتلفُوا فِي اسْمه،فَقَالَ الضَّحَّاك: جيسون. وَقَالَ شُعْبَة: جيسور،وَقَالَ ابْن وهب: كَانَ اسْم أَبِيه ملاس، وَاسم أمه رحمى، فَأَخذه الْخضر بِرَأْسِهِ من أَعْلَاهُ فاقتلعه، كَذَا فِي البُخَارِيّ. وَجَاء فِيهِ فِي بَدْء الْخلق
    .........
    (2/195)
    (أهل قَرْيَة) هِيَ: أنطاكية، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن سِيرِين: ابلة وَهِي أبعد الأَرْض من السَّمَاء، وَجَاء أَنهم كَانُوا من أهل قَرْيَة لئام. وَقيل: قَرْيَة من قرى الرّوم يُقَال لَهَا ناصرة وإليها تنْسب النَّصَارَى. وَقَالَ السُّهيْلي: قيل: إِنَّهَا برقة،وَقيل: إِنَّهَا باجروان وَهِي مَدِينَة بنواحي أرمينية من أَعمال شرْوَان، عِنْدهَا فِيمَا قيل عين الْحَيَاة الَّتِي وجدهَا الْخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، فوافياها بعد غرُوب الشَّمْس، فَاسْتَطْعَمَا أَهلهَا واستضافاهم فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا ، وَلم يجدا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فِي تِلْكَ الْقرْيَة قرى وَلَا مأوى، وَكَانَت لَيْلَة بَارِدَة، فالتجآ إِلَى حَائِط على شاطىء الطَّرِيق يُرِيد أَن ينْقض
    ...........
    (2/201)
    روح بني آدم فَقَالَ الْمَازرِيّ: الْكَلَام على الرّوح مِمَّا يدق، وَقد ألفت فِيهِ التآليف،وأشهرها مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ: إِنَّه النَّفس الدَّاخِل وَالْخَارِج. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هُوَ مُتَرَدّد بَين مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ وَبَين الْحَيَاة. وَقيل: جسم مشارك للأجسام الظَّاهِرَة والأعضاء الظَّاهِرَة. وَقيل: جسم لطيف خلقه الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وأجرى الْعَادة بِأَن الْحَيَاة لَا تكون مَعَ فَقده فَإِذا شَاءَ الله مَوته أعدم هَذَا الْجِسْم مِنْهُ عِنْد انعدام الْحَيَاة، وَهَذَا الْجِسْم وَإِن كَانَ حَيا فَلَا يحيى إِلَّا بحياة تخْتَص بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَصح عَلَيْهِ الْبلُوغ إِلَى جسمٍ مَا من الْأَجْسَام، وَيكون فِي مَكَان فِي الْعَالم، أَو فِي حواصل طير خضر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا وَقع فِي الظَّوَاهِر، إِلَى غَيره من جَوَاهِر الْقلب، والجسم الْحَيَاة. وَقَالَ غَيرهمَا: هُوَ الدَّم. وَقد ذكر بَعضهم فِي الرّوح سبعين قولا
    .........
    (2/ 201)
    وَاخْتلف هَل الرّوح وَالنَّفس وَاحِد أم لَا؟ وَالأَصَح أَنَّهُمَا متغايران،فَإِن النَّفس الإنسانية هِيَ الْأَمر الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ كل وَاحِد منا بقوله: أَنا، وَأكْثر الفلاسفة لم يفرقُوا بَينهمَا. قَالُوا: النَّفس هُوَ الْجَوْهَر البُخَارِيّ اللَّطِيف الْحَامِل لقُوَّة الْحَيَاة والحس وَالْحَرَكَة الإرادية،ويسمونها: الرّوح الحيوانية، وَهِي الْوَاسِطَة بَين الْقلب الَّذِي هُوَ النَّفس الناطقة،، وَبَين الْبدن. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء وَالْغَزالِيّ: النَّفس مُجَرّدَة،أَي: غير جسم وَلَا جسماني. وَقَالَ الْغَزالِيّ: الرّوح جَوْهَر مُحدث قَائِم بِنَفسِهِ غير متحيز، وَإنَّهُ لَيْسَ بداخل الْجِسْم وَلَا خَارِجا عَنهُ، وَلَيْسَ مُتَّصِلا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلا عَنهُ، وَذَلِكَ لعدم التحيز الَّذِي هُوَ شَرط الْكَوْن فِي الْجِهَات، وَاعْترض عَلَيْهِ بِوُجُوه قد عرفت فِي موضعهَا. وَقيل: الرّوح عرض لِأَنَّهُ لَو كَانَ جوهرا، والجواهر مُتَسَاوِيَة فِي الجوهرية، للَزِمَ أَن يكون للروح روح آخر وَهُوَ فَاسد. وَقيل: إِنَّه جَوْهَر فَرد متحيز وَإنَّهُ خلاف الْحَيَاة الْقَائِمَة بالجسم الحيواني، وَإنَّهُ حَامِل للصفات المعنوية. وَقيل: إِنَّه صُورَة لَطِيفَة على صُورَة الْجِسْم لَهَا عينان وأذنان ويدان ورجلان فِي دَاخل الْجِسْم يُقَابل كل جُزْء مِنْهُ عُضْو نَظِيره من الْبدن وَهُوَ خيال.
    قد كثر الِاخْتِلَاف فِي أَمر الرّوح بَين الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمين قَدِيما وحديثا، وأطلقوا أَعِنَّة النّظر فِي شَرحه، وخاضوا فِي غَمَرَات ماهيته، فأكثرهم تاهوا فِي التيه،فالأكثرون مِنْهُم على أَن الله تَعَالَى أبهم علم الرّوح على الْخلق واستأثره لنَفسِهِ حَتَّى قَالُوا: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن عَالما بِهِ. قلت: جلّ منصب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ حبيب الله وَسيد خلقه، أَن يكون غير عَالم بِالروحِ،وَكَيف وَقد منَّ الله عَلَيْهِ بقوله: {وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} (النِّسَاء: 113) . وَقد قَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الرّوح لَا يعلم وَلَا على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يعلمهَا.



    .......
    (2/ 202)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَكثر نسخ البُخَارِيّ وَمُسلم: وَمَا أُوتُوا. وَذكر مُسلم الِاخْتِلَاف فِي هَذِه اللَّفْظَة عَن الْأَعْمَش، فَرَوَاهُ وَكِيع على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة. وَرَوَاهُ عِيسَى بن يُونُس عَنهُ: وَمَا أُوتُوا. قَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف المحدثون فِيمَا وَقع من ذَلِك، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْإِصْلَاح على الصَّوَاب، وَاحْتج أَنه إِنَّمَا قصد بِهِ الِاسْتِدْلَال على مَا سيقت بِسَبَبِهِ، وَلَا حجَّة إلاَّ فِي الصَّحِيح الثَّابِت فِي الْمُصحف. وَقَالَ قوم: تتْرك على حَالهَا وينبه عَلَيْهَا، لِأَن من الْبعيد خَفَاء ذَلِك على الْمُؤلف وَمن نقل عَنهُ وهلم جرا، فلعلها قِرَاءَة شَاذَّة. قَالَ عِيَاض: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ لَا يحْتَج بِهِ فِي حكم وَلَا يقْرَأ فِي صَلَاة. قَالَ: وَاخْتلف أَصْحَاب الْأُصُول فِيمَا نقل آحادا، وَمِنْه الْقِرَاءَة الشاذة كمصحف ابْن مَسْعُود وَغَيره، هَل هُوَ حجَّة أم لَا؟ فنفاه الشَّافِعِي،وأثبته أَبُو حنيفَة وَبنى عَلَيْهِ وجوب التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود من قَوْله: (ثَلَاث أَيَّام مُتَتَابِعَات) . وَبقول الشَّافِعِي قَالَ الْجُمْهُور، وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الرَّاوِي لَهُ إِن ذكره على أَنه قُرْآن فخطأ وإلاَّ فَهُوَ مُتَرَدّد بَين أَن يكون خَبرا أَو مذهبا لَهُ، فَلَا يكون حجَّة بِالِاحْتِمَالِ وَلَا خَبرا، لِأَن الْخَبَر مَا صرح الرَّاوِي فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيحمل على أَنه مَذْهَب لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، إِذا لم يثبت كَونه قُرْآنًا فَلَا أقل من كَونه خَبرا. وَقَالَ الْغَزالِيّ وَالْفَخْر الرَّازِيّ: خبر الْوَاحِد لَا دَلِيل على كَونه كذبا، وَهَذَا خطأ قطعا، وَالْخَبَر الْمَقْطُوع بكذبه لَا يجوز أَن يعْمل بِهِ، وَنَقله قُرْآنًا خطأ. قلت: لَا نسلم أَن هَذَا خطأ قطعا، لِأَنَّهُ خبر صَحَابِيّ أَو خبر عَنهُ، وَأي دَلِيل قَامَ على أَنه خبر مَقْطُوع بكذبه، وَقَول الصَّحَابِيّ حجَّة عِنْده؟ .
    .......
    (2/ 204)
    الَ الشَّيْخ قطب الدّين قَالُوا بني الْبَيْت خمس مَرَّات بنته الْمَلَائِكَة ثمَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة وَحضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْبناء وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل خمس وَعشْرين وَفِيه سقط على الأَرْض حِين رفع إزَاره ثمَّ بناه ابْن الزبير ثمَّ بناه حجاج بن يُوسُف وَاسْتمرّ. ويروى أَن هَارُون سَأَلَ مَالِكًا عَن هدمها وردهَا إِلَى بِنَاء ابْن الزبير للأحاديث الْمَذْكُورَة فَقَالَ مَالك نشدتك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا تجْعَل هَذَا الْبَيْت لعبة للملوك لَا يَشَاء أحد إِلَّا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صُدُور النَّاس انْتهى قلت بنته الْمَلَائِكَة أَولا ثمَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ العمالقة ثمَّ جرهم ثمَّ قُرَيْش وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ رجل شَاب ثمَّ ابْن الزبير ثمَّ حجاج
    .......
    (2/ 204)
    سْتدلَّ بِهِ أَبُو مُحَمَّد الْأصيلِيّ مِنْهُ فِي مسَائِل من النِّكَاح فِي جَارِيَة يتيمة غنية كَانَ لَهَا ابْن عَم وَكَانَ فِيهِ ميل إِلَى الصباء فَخَطب ابنت عَمه وخطبها رجل غَنِي فَمَال إِلَيْهِ الْوَصِيّ وَكَانَت الْيَتِيمَة تحب ابْن عَمها ويحبها فَأبى وصيها أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ وَرفع ذَلِك إِلَى القَاضِي وشاور فُقَهَاء بَلَده فكلهم أفتى أَن لَا يُزَوّج ابْن عَمها وَأفْتى الْأصيلِيّ أَن تزوج مِنْهُ خشيَة أَن يقعا فِي الْمَكْرُوه اسْتِدْلَالا بِهَذَا الحَدِيث فزوجت مِنْهُ
    .....
    (2/ 207)
    معَاذ كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَقيل لَهُ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نشبه معَاذًا بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام
    ........
    (2/ 208)
    قد جمع ابْن مَنْدَه أرداف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبلغوا نيفا وَثَلَاثِينَ ردفا قَوْله على الرحل بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْ نِ وَهُوَ للبعير وَهُوَ أَصْغَر من القتب وَلَكِن معَاذًا رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالة رديفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حمَار
    ........
    (2/ 208)
    وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي لبيْك أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا إجَابَتِي لَك مَأْخُوذ من لب بِالْمَكَانِ وألب بِهِ إِذا أَقَامَ بِهِ وَقَالُوا لبيْك فثنوا لأَنهم أَرَادوا إِجَابَة بعد إِجَابَة كَمَا قَالُوا حنانيك أَي رَحْمَة بعد رَحْمَة وَقَالَ بعض النَّحْوِيين أصل لبيْك لبيْك فاستثقل الْجمع بَين ثَلَاث باآت فأبدلوا من الثَّالِثَة بَاء كَمَا قَالُوا تظنيت أَصله تظننت وَالثَّانِي اتجاهي يَا رب وقصدي لَك فَثنى للتَّأْكِيد أخذا من قَوْلهم دَاري تلب دَارك أَي تواجهها وَالثَّالِث محبتي لَك يَا رب من قَول الْعَرَب امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لولدها عاطفة عَلَيْهِ وَالرَّابِع إخلاصي لَك يَا رب من قَوْلهم حسب لباب إِذا كَانَ خَالِصا مَحْضا وَمن ذَلِك لب الطَّعَام ولبابه
    .......
    (2/ 210)
    وَسُئِلَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بِمَ حصلت الْعلم الْعَظِيم فَقَالَ مَا بخلت بالإفادة وَلَا استنكفت عَن الاستفادة (وَقَالَت عَائِشَة نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار لم يمنعهن الْحيَاء أَن يتفقهن فِي الدّين) مُطَابقَة هَذَا الْأَثر الْمُعَلق أَيْضا مثل مُطَابقَة الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن مُجَاهِد
    ........ز
    (2/ 211)
    وَكَثِيرًا مَا يرد للْعَرَب أَلْفَاظ ظَاهرهَا الذَّم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بهَا الْمَدْح كَقَوْلِهِم لَا أَب لَك وَلَا أم لَك وهوت أمه وَلَا أَرض لَك وَنَحْو ذَلِك قَالَ الْهَرَوِيّ وَمِنْه قَوْله فِي حَدِيث خُزَيْمَة أنعم صباحا تربت يداك فَأَرَادَ الدُّعَاء لَهُ وَلم يرد الدُّعَاء عَلَيْهِ وَالْعرب تَقول لَا أم لَك وَلَا أَب لَك يُرِيدُونَ لله دَرك وَقَالَ عِيَاض هَذَا خطاب على عَادَة الْعَرَب فِي اسْتِعْمَال هَذِه الْأَلْفَاظ عِنْد الْإِنْكَار للشَّيْء والتأنيس أَو الْإِعْجَاب أَو الاستعظام لَا يُرِيدُونَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ قلت ولذوي الْأَلْبَاب فِي هَذَا الْبَاب أَن ينْظرُوا إِلَى اللَّفْظ وقائله فَإِن كَانَ وليا فَهُوَ الْوَلَاء وَإِن خشن وَإِن كَانَ عدوا فَهُوَ الْبلَاء وَإِن حسن
    ...
    (2/ 213)
    قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم الْقزْوِينِي الشَّافِعِي حكم الْمَرْأَة فِي ثُبُوت الْغسْل بِخُرُوج منيها كَالرّجلِ وَالرجل لمنيه خَواص ثَلَاث إِحْدَاهَا الرَّائِحَة المشبهة برائحة الطّلع أَو الْعَجِين إِذا كَانَ رطبا وَإِذا جف أشبه رَائِحَة الْبيض الثَّانِيَة التدفق بدفقات الثَّالِثَة اللَّذَّة بِخُرُوجِهِ ويعقبه فتور وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط لَا يعرف فِي حَقّهَا إِلَّا بالشهوة وَقَالَ فِي كِتَابه الْوَجِيز إِذا تلذذت بِخُرُوج مَائِهَا لَزِمَهَا الْغسْل وَهَذَا إِشْعَار مِنْهُمَا أَن طَريقَة معرفَة الْمَنِيّ فِي حَقّهَا الشَّهْوَة والتلذذ لَا غير وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بالتسوية بَين مني الرجل ومني الْمَرْأَة فِي طرد الْخَواص الثَّلَاث قَالَ الْبَغَوِيّ إِذا خرج مني الْمَرْأَة بِشَهْوَة أَو غير شَهْوَة وَجب الْغسْل كمني الرجل وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَإِذا وَجب مَعَ انْتِفَاء الشَّهْوَة كَانَ الِاعْتِمَاد على بَقِيَّة الْخَواص وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح مُعْتَرضًا على الْقزْوِينِي فِي قَوْله أَن قَول الْأَكْثَرين التَّسْوِيَة بَين مني الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْخَواص الثَّلَاث وَأنكر أَنه قَول الْأَكْثَرين قَالَ وَإِنَّمَا لَهُ خاصيتان الرَّائِحَة والشهوة فالشهوة ذكرهَا الإِمَام وَالْغَزالِيّ والرائحة ذكرهَا الرَّوْيَانِيّ وَأنكر الثَّالِثَة وَهِي التدفق بدفقات للْمَرْأَة وَقَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ إِلَّا أَنَّهَا إِن كَانَ الْمَنِيّ ينزل إِلَى فرجهَا وَوصل إِلَى الْموضع الَّذِي يجب عَلَيْهَا غسله فِي الْجَنَابَة والاستنجاء وَهُوَ الَّذِي يظْهر حَال قعودها لقَضَاء الْحَاجة يجب عَلَيْهَا الْغسْل لِأَنَّهُ فِي حكم الظَّاهِر وَإِن كَانَت بكرا لم يلْزمهَا مَا لم يخرج من فرجهَا لِأَن دَاخل فرجهَا كداخل احليل الرجل قلت لَا خلاف فِي
    مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يجب عَلَيْهَا الْغسْل إِلَّا بِرُؤْيَة المَاء وَمُرَاد الْغَزالِيّ وَغَيره بقوله لَا يعرف من جِهَتهَا إِلَّا بالشهوة والتلذذ يُرِيد بِهِ تعْيين هَذِه الْخَاصَّة فِي حَقّهَا دون الخاصيتين الموجودتين فِي مني الرجل على اخْتِيَاره لَا غير ذَلِك وَقد ذكر الْغَزالِيّ فِي الْوَجِيز إِذا تلذذت الْمَرْأَة بِخُرُوج منيها فَأثْبت خُرُوجه قلت هَذَا تَحْرِير مَذْهَب الشَّافِعِي
    .........
    (2/ 218)
    قَالَ النَّوَوِيّ على ثَلَاث مراحل مِنْهَا وَهِي قريبَة من الْبَحْر وَكَانَت قَرْيَة كَبِيرَة وَقَالَ أَبُو عبيد هِيَ قَرْيَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر بَينهَا وَبَين الْبَحْر سِتَّة أَمْيَال وغدير خم على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهَا وَهِي مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب وَهِي على ثَلَاثَة مراحل من مَكَّة أَو أَكثر وعَلى ثَمَانِيَة مراحل من الْمَدِينَة وَقَالَ الْكَلْبِيّ أخرجت العماليق بني عيل وهم إخْوَة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة وَكَانَ اسْمهَا مهيعة فَجَاءَهُمْ السَّيْل فأجحفهم فسميت الْجحْفَة وَفِي كتاب أَسمَاء الْبلدَانِ لِأَن سيل الجحاف نزل بهَا فَذهب بِكَثِير من الْحَاج وبأمتعة النَّاس ورحالهم فَمن ذَلِك سميت الْجحْفَة وَقَالَ أَبُو عبيد رَحمَه الله وَقد سَمَّاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهيعة
    ........
    (2/ 218)
    أهل نجد النجد فِي اللُّغَة مَا أشرف من الأَرْض واستوى وَيجمع على أنجد وأنجاد ونجود ونجد بِضَمَّتَيْنِ وَقَالَ الْقَزاز سمي نجدا لعلوه وَقيل سمي بذلك لصلابة أرضه وَكَثْرَة حجارته وصعوبته من قَوْلهم رجل نجد إِذا كَانَ قَوِيا شَدِيدا وَقيل سمي نجدا لفزع من يدْخلهُ لاستيحاشه واتصال فزع السالكين من قَوْلهم رجل نجد إِذا كَانَ فَزعًا ونجد مُذَكّر قَالَ الشَّاعِر
    (ألم تَرَ أَن اللَّيْل يقصر طوله ... بِنَجْد ويزداد النطاف بِهِ نجدا)
    وَقَالَ ياقوت نجد تِسْعَة مَوَاضِع ونجد الْمَشْهُورَة فِيهَا اخْتِلَاف كثير وَالْأَكْثَر أَنَّهَا اسْم للْأَرْض الَّتِي أَعْلَاهَا تهَامَة وأسفلها الْعرَاق وَالشَّام وَقَالَ الْخطابِيّ نجد نَاحيَة الْمشرق وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية الْعرَاق ونواحيها وَهِي مشرق أَهلهَا وَذكر فِي الْمُنْتَهى نجد من بِلَاد الْعَرَب وَهُوَ خلاف الْغَوْر أَعنِي تهَامَة وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ عَن الْكَلْبِيّ نجد مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب والطائف من نجد وَالْمَدينَة من نجد وَقَالَ فِي مَوضِع آخر ونجد كلهَا من عمل الْيَمَامَة وَقَالَ عمَارَة بن عقيل مَا سَالَ من ذَات عرق مُقبلا فَهُوَ نجد وحد نجد أسافل الْحجاز قَالَ سَمِعت الْبَاهِلِيّ يَقُول كل مَا رَوَاهُ الخَنْدَق خَنْدَق كسْرَى الَّذِي خندقه على سَواد الْعرَاق فَهُوَ نجد إِلَى أَن تميل إِلَى الْحرَّة فَ
    ..........
    (2/ 219)
    لأول فِيهِ بَيَان الْمَوَاقِيت الثَّلَاثَة بِالْقطعِ وَهِي مِيقَات أهل الْمَدِينَة وميقات أهل الشَّام وميقات أهل نجد وَالرَّابِع شكّ فِيهِ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن وَقد ثَبت هَذَا أَيْضا بِالْقطعِ فِي حَدِيث
    ......
    (2/ 220)
    بْن عَبَّاس أخرجه الشَّيْخَانِ وَآخَرُونَ وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر وَزَاد مُسلم فِيهِ ومهل الْعرَاق ذَات عرق وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْمشرق العقيق قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي أجمع الْعلمَاء على الْمَوَاقِيت الْأَرْبَعَة وَاخْتلفُوا فِي ذَات عرق لأهل الْعرَاق وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا مِيقَات وَاسْتحبَّ الشَّافِعِي لأهل الْعرَاق أَن يحرموا من العقيق مُعْتَمدًا على حَدِيث أبي دَاوُد الْمَذْكُور وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدِيث حسن قلت وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن أبي زِيَاد وَهُوَ ضَعِيف وَإِنَّمَا استحبه الشَّافِعِي لِأَنَّهُ أحوط عملا بِالْحَدِيثين على تَقْدِير الصِّحَّة فَإِن العقيق فَوق ذَات عرق وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف الْعلمَاء هَل صَارَت ذَات عرق ميقاتا لأهل الْعرَاق بِالنَّصِّ أَو الِاجْتِهَاد من عمر رَضِي الله عَنهُ وَفِيه وَجْهَان لأَصْحَاب الشَّافِعِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأُم أَنه بتوقيت عمر واجتهاده لحَدِيث البُخَارِيّ الْمَذْكُور وَدَلِيل الثَّانِي حَدِيث جَابر لكنه لم يجْزم الرَّاوِي بِرَفْعِهِ قلت قد أخرج هَذِه الزِّيَادَة أَبُو دَاوُد بِالْجَزْمِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا لَكِن فِي حَدِيث أبي دَاوُد أَفْلح بن حميد وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يُنكر عَلَيْهِ قَوْله هَذَا وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق قَالَ ابْن عدي تفرد بِهِ عَنهُ الْمعَافي ابْن عمرَان قلت قد أخرج لأفلح مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو حَاتِم وَقَالَ يحيى بن معِين وَأحمد بن عبد الله وَغَيرهمَا الْمعَافي بن عمرَان ثِقَة وروى للمعافي البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ بَعضهم هَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا بأسانيد ضَعِيفَة لَكِن يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا لما تقرر من أَن الضعْف إِذا كَانَ بِغَيْر فسق الرَّاوِي فَإِن الحَدِيث ينْتَقل إِلَى دَرَجَة الْحسن
    ويحتج بِهِ وَأما تَعْلِيل الدَّارَقُطْنِي ّ للْحَدِيث بقوله إِنَّه لم يكن عراق يَوْمئِذٍ فقد ضعفه الْعلمَاء وَقَالُوا مثل هَذَا لَا يُعلل بِهِ الحَدِيث فقد أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا لم يكن فِي زَمَانه مِمَّا كَانَ وَيكون وَهَذَا كَانَ من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مَا أخبر بِهِ أَنه سَيكون لَهُم مهل ويسلمون ويحجون فَكَانَ ذَلِك وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الشَّام الْجحْفَة وَلم يكن فتح وَقد أقطع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلد الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لتميم الدَّارِيّ وَكتب لَهُ بذلك وَلم يكن الشَّام إِذْ ذَاك قلت قَالَ الطَّحَاوِيّ ذهب قوم إِلَى أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت لَهُم كوقت سَائِر أهل الْبِلَاد وَأَرَادَ بهم طَاوس بن كيسَان وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ الْعرَاق وَقَالُوا أهل الْعرَاق يهلون من الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من هَذِه الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أجمع عوام أهل الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر وَاخْتلفُوا فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق فَثَبت أَن عمر رَضِي الله عَنهُ وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة انْتهى قلت الصَّحِيح هُوَ الَّذِي وقته النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا ذكره فِي مطامح الأفهام ثمَّ قَالَ ابْن الْمُنْذر اخْتلفُوا فِي الْمَكَان الَّذِي يحرم من أَتَى من الْعرَاق على ذَات عرق فَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ يحرم من العقيق وَاسْتحبَّ ذَلِك الشَّافِعِي وَكَانَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي يرَوْنَ الْإِحْرَام من ذَات عرق قَالَ أَبُو بكر الْإِحْرَام من ذَات عرق يجزىء وَهُوَ من العقيق أحوط وَقد كَانَ الْحسن بن صَالح يحرم من الربذَة وروى ذَلِك عَن خصيف وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن قلت أخرج الطَّحَاوِيّ فِي كَون الْمِيقَات لأهل الْعرَاق ذَات عرق أَحَادِيث أَرْبَعَة من الصَّحَابَة وهم عبد الله بن عمر وَأنس وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى
    ....
    (2/ 221)
    لْبُرْنُس بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَضم النُّون وَهُوَ ثوب رَأسه مِنْهُ ملتزق بِهِ وَقيل قلنسوة طَوِيلَة وَكَانَ النساك يلبسونها فِي صدر الْإِسْلَام وَهُوَ من البرس بِكَسْر الْبَاء وَهُوَ الْقطن وَالنُّون زَائِدَة وَقيل غير عَرَبِيّ وَقَالَ ابْن حزم كل مَا جب فِيهِ مَوضِع لإِخْرَاج الرَّأْس مِنْهُ فَهُوَ
    بَّة فِي لُغَة الْعَرَب وكل مَا خيط أَو نسج فِي طَرفَيْهِ ليتمسك على اللابسين فَهُوَ برنس كالغفارة وَنَحْوهَا وَيُقَال هُوَ ثوب رَأسه مُتَّصِل بِهِ من دراعة أَو جُبَّة أَو ممطر أَو غَيره
    ...........
    (2/ 221)
    وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي الورس يزرع بِالْيمن زرعا وَلَا يكون بِغَيْر الْيمن وَلَا يكون مِنْهُ شَيْء بريا ونباته مثل حب السمسم فَإِذا جف عِنْد إِدْرَاكه يفتق فينفض مِنْهُ الورس ويزرع سنة فيجلس عشر سِنِين أَي يُقيم فِي الأَرْض ينْبت ويثمر وَفِيه جنس يُسمى بالحبشي وَفِيه سَواد وَهُوَ أكبر الورس وللعرعر ورس وللريث ورس وَقَالَ أَبُو حنيفَة لست أعرفهُ بِغَيْر أَرض الْعَرَب وَلَا من أَرض الْعَرَب غير بِلَاد الْيمن وَقَالَ الْأَصْمَعِي ثَلَاثَة أَشْيَاء لَا تكون إِلَّا بِالْيمن وَقد مَلَأت الأَرْض الورس واللبان والعصب وَأَخْبرنِي ابْن بنت عبد الرَّزَّاق وَقَالَ الورس عندنَا بِالْيمن بجفاش وملجان وطمام وسحبان والرقعة وَجَوَاز وهوزن وجبال ابْن أبي جَعْفَر كلهَا وَيُقَال لَهُ الحض وَقَالَ ابْن بيطار فِي جَامعه يُؤْتى بالورس من الصين واليمن والهند وَلَيْسَ بنبات يزرع كَمَا زعم من زعم وَهُوَ يشبه زهر العصفر وَمِنْه شَيْء يشبه نشارة البابونج وَمِنْه شَيْء يشبه البنفسج وَيُقَال أَن الكركم عروقه انْتهى
    ....
    (2/ 222)
    الزعفران بِفَتْح الزَّاي وَالْفَاء جمعه زعافر وَهُوَ اسْم أعجمي وَقد صرفته الْعَرَب يُقَال ثوب مزعفر وَقد زعفر ثَوْبه يزعفره زعفرة وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي لَا أعلمهُ ينْبت بِشَيْء من أَرض الْعَرَب وَفِي كتاب الطِّبّ للمفضل بن سَلمَة يُقَال أَن الكركم عروق الزَّعْفَرَان وَقَالَ مورج يُقَال لورق الزَّعْفَرَان الفيد وَمِنْه يُسمى مورج أبافيد
    .........
    (2/222)
    قَالَ الْمَازرِيّ وَغَيره سُئِلَ عَمَّا يلبس فَأجَاب بِمَا لَا يلبس لِأَن الْمَتْرُوك منحصر والملبوس لَا ينْحَصر لِأَن الْإِبَاحَة هِيَ الأَصْل فحصر مَا يتْرك ليبين أَن مَا سواهُ مُبَاح وَهَذَا من بديع كَلَامه وجزله وفصاحته قلت وَفَائِدَة أُخْرَى وَهُوَ مُرَاعَاة الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ لَو أجَاب بِمَا يلبس لتوهم الْمَفْهُوم وَهُوَ أَن غير الْمحرم لَا يلْبسهُ فانتقل إِلَى مَا لَا يلْبسهُ لِأَن مَفْهُومه ومنطوقه مُسْتَعْمل فَكَانَ أفْصح وأبلغ وأوجه
    ...........
    كتاب الوضوء (3 )
    (2/225)
    وَقَالَ الْأَصْمَعِي قلت لأبي عَمْرو مَا الْوضُوء بِالْفَتْح قَالَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ قلت فَمَا الْوضُوء بِالضَّمِّ قَالَ لَا أعرفهُ وَأما إسباغ الْوضُوء فبفتح الْوَاو لَا غير لِأَنَّهُ فِي معنى إبلاغ الْوضُوء موَاضعه وَذكر الْأَخْفَش فِي قَوْله تَعَالَى {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} فَقَالَ الْوقُود بِالْفَتْح الْحَطب والوقود بِالضَّمِّ الإيقاد وَهُوَ الْمصدر قَالَ وَمثل ذَلِك الْوضُوء وَهُوَ المَاء وَالْوُضُوء وَهُوَ الْمصدر ثمَّ قَالَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد تَقول الْوقُود والوقود يجوز أَن يَعْنِي بهما الْحَطب وَيجوز أَن يَعْنِي بهما الْمصدر وَقَالَ غَيره الْقبُول والولوع مفتوحان وهما مصدران شَاذان وَمَا سواهُمَا من المصادر فمبني على الضَّم قلت الْحَاصِل أَن فِي الْوضُوء ثَلَاث لُغَات أشهرها أَنه بِضَم الْوَاو اسْم للْفِعْل وَبِفَتْحِهَا اسْم للْمَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ ونقلها ابْن الْأَنْبَارِي عَن الْأَكْثَرين الثَّانِي أَنه بِفَتْح الْوَاو فيهمَا وَهُوَ قَول جماعات مِنْهُم الْخَلِيل قَالَ وَالضَّم لَا يعرف الثَّالِث أَنه بِالضَّمِّ فيهمَا وَهِي غَرِيبَة ضَعِيفَة حَكَاهَا صَاحب الْمطَالع وَهَذِه اللُّغَات الثَّلَاث مثلهَا فِي الطّهُور
    .....
    (2/ 226)
    لمة إِلَى تَأتي لثمانية معَان الأول انْتِهَاء الْغَايَة الزمانية نَحْو {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} والمكانية نَحْو {من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} الثَّانِي الْمَعِيَّة نَحْو {من أَنْصَارِي إِلَى الله} الثَّالِث التَّبْيِين وَهِي المبينة لفاعلية مجرورها بعد مَا يُفِيد حبا أَو بغضا من فعل تعجب أَو اسْم تَفْضِيل نَحْو {رب السجْن أحب إِلَيّ} الرَّابِع بِمَعْنى اللَّام نَحْو الْأَمر إِلَيْك الْخَامِس بِمَعْنى فِي نَحْو {ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} السَّادِس الِابْتِدَاء كَقَوْلِه
    (تَقول وَقد عاليت بالكوز فَوْقهَا ... أيسقى فَلَا يرْوى إِلَى ابْن احمرا)
    سَّابِع بِمَعْنى عِنْد نَحْو أشهى إِلَيّ من الرَّحِيق السلسل أَي عِنْدِي الثَّامِن التوكيد وَهِي الزَّائِدَة أثبت ذَلِك الْفراء مستدلا بِقِرَاءَة بَعضهم {أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم}
    .......
    (2/ 227)
    وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ والأقطع حَده من قصاص الشّعْر إِلَى أَسْفَل الذقن إِلَى شحمة الْأذن حكى ذَلِك أَبُو الْحسن الْكَرْخِي عَن أبي سعيد البردعي وَقَالَ الرَّازِيّ وَلَا نعلم خلافًا بَين الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْمَعْنى وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهر الِاسْم إِذا كَانَ إِنَّمَا سمي وَجها لظُهُوره وَلِأَنَّهُ يواجه الشَّيْء ويقابل بِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من تَحْدِيد الْوَجْه هُوَ الَّذِي يواجه الْإِنْسَان ويقابله من غَيره فَإِن قلت فَيَنْبَغِي أَن يكون الأذنان من الْوَجْه بِهَذَا الْمَعْنى قلت لَا يجب ذَلِك لِأَن الْأُذُنَيْنِ تستران بالعمامة والإزار والقلنسوة وَنَحْوهَا وَقَالَ فِي الْبَدَائِع لم يذكر حد الْوَجْه فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَذكر فِي غير الْأُصُول كَمَا ذكره فِي الْكتاب وَقَالَ هَذَا حد صَحِيح فَيخرج دَاخل الْعَينَيْنِ وَالْأنف والفم وأصول شعر الحاجبين واللحية والشارب ودنيم الذُّبَاب وَدم البراغيث لخروجها عَن المواجهة وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي لَا تسْقط وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْخَفِيف والمزني وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَق مُطلقًا وَحكى الرَّافِعِيّ قولا وَفِي الْمَبْسُوط الْعين غير دَاخل فِي غسل الْوَجْه لما فِي إِيصَال المَاء إِلَيْهَا من الْحَرج لِأَنَّهُ شَحم لَا يقبل المَاء وَمن تكلّف من الصَّحَابَة فِيهِ كف بَصَره فِي آخر عمره كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَفِي الْغَايَة للسروجي عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم أَن من غمض عَيْنَيْهِ فِي غسل الْوَجْه تغميضا شَدِيدا لَا يجْزِيه الْوضُوء وَقل من رمدت عينه فرمصت وَاجْتمعَ رماصها تكلّف إِيصَال المَاء تَحت مُجْتَمع الرمص وَيجب إِيصَال المَاء إِلَى الماق كَذَا فِي الْمُجْتَبى وَفِي المغنى وَالْوَجْه من منابت شعر الرَّأْس إِلَى ماانحدر من اللحيين والذقن إِلَى أصُول الْأُذُنَيْنِ وَلَا يعْتَبر كل أحد بِنَفسِهِ بل لَو كَانَ أجلح ينحسر شعره عَن مقدم رَأسه غسل إِلَى حد منابت الشّعْر فِي الْغَالِب والأقرع الَّذِي ينزل شعره إِلَى الْوَجْه يجب عَلَيْهِ غسل الشّعْر الَّذِي ينزل عَن حد الْغَالِب وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة للْوَجْه حد طولا وعرضا فحده طولا من منابت الشّعْر الْمُعْتَاد إِلَى الذقن وَقَوْلنَا الْمُعْتَاد احْتِرَاز عَن الأغم والأقرع وَاخْتلف الْمَذْهَب فِي حَده عرضا على أَرْبَعَة أَقْوَال فَقيل من الْأذن إِلَى الْأذن وَقيل من العذار إِلَى العذار فِي حق الملتحي وَمن الْأذن إِلَى الْأذن فِي حق الْأَمْرَد وَالْقَوْل الرَّابِع أَن غسل الْبيَاض الَّذِي بَين الصدغ وَالْأُذن سنة
    ........
    (2/231)
    روى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه وَقَالَ حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن هِشَام عَن الْحسن قَالَ يُصَلِّي الرجل الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد مَا لم يحدث فَكَذَلِك التَّيَمُّم وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا نَحوا مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا حَدثنَا حَفْص عَن لَيْث عَن عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد أَنهم كَانُوا يصلونَ الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن مجَالد قَالَ رَأَيْت سَعْدا يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد
    .........
    (2/ 234)
    وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة إِذا طَالَتْ الْأَظْفَار فقد اخْتلف الْعلمَاء هَل يجب غسلهَا لِأَنَّهَا من الْيَدَيْنِ حسا وإطلاقا وَحكما وَمن الْعلمَاء من اسْتحبَّ تقصيص الزَّائِد على الْمُعْتَاد وَلم يُوجب بعض الْعلمَاء غسل الْأَظْفَار إِذا طَالَتْ وَفِي الْمُجْتَبى وَلَا يجب نزع الْخَاتم وتحريكه فِي الْوضُوء إِذا كَانَ وَاسِعًا وَفِي الضّيق اخْتِلَاف الْمَشَايِخ وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة عدم اشْتِرَاط النزع والتحريك فَإِن قلت روى الدَّارَقُطْنِي ّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه قلت فِي سَنَده معمر بن مُحَمَّد بن عبد الله هُوَ وَأَبوهُ ضعيفان وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة تَحْرِيك الْخَاتم فِي الْوضُوء وَالْغسْل اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقيل يحركه فِي الْوضُوء وَالْغسْل وَالتَّيَمُّم وَقيل لَا يحركه مُطلقًا وَقيل إِن كَانَ ضيقا حركه وَإِن كَانَ وَاسِعًا لَا يحركه وَقيل يحركه فِي الْوضُوء وَالْغسْل ويزيله فِي التَّيَمُّم
    ........
    (2/ 234)
    قَوْله {وامسحوا برؤسكم} يدل على فَرضِيَّة مسح الرَّأْس وَاخْتلفُوا فِي الْمَفْرُوض مِنْهُ فروى أَصْحَابنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا ربع الرَّأْس وَالْأُخْرَى مِقْدَار ثَلَاثَة أَصَابِع وَيبدأ بِمقدم الرَّأْس وَقَالَ الْحسن بن الصَّالح يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث يمسح بِمقدم الرَّأْس وَقَالَ مَالك الْفَرْض مسح جَمِيع الرَّأْس وَإِن ترك الْقَلِيل مِنْهُ جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِي الْفَرْض مسح بعض رَأسه وَلم يحد شَيْئا قلت للفقهاء فِي هَذَا ثَلَاثَة عشر قولا سِتَّة عَن الْمَالِكِيَّة حَكَاهَا ابْن الْعَرَبِيّ والقرطبي وَقَالَ ابْن مسلمة صَاحب مَالك يجْزِيه مسح ثُلثَيْهِ وَقَالَ أَشهب وَأَبُو الْفرج يجْزِيه الثُّلُث وروى
    البرقي عَن أَشهب يجْزِيه مقدم رَأسه وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَظَاهر مَذْهَب مَالك الِاسْتِيعَاب وعنهم يجْزِيه أدنى مَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح
    ......
    (2/241)
    قَالَ مهنى سَأَلت أَبَا عبد الله يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْوضُوء مرّة مرّة فَقَالَ الْأَحَادِيث فِيهِ ضَعِيفَة وَفِيه نظر لِأَنَّهُ صَحَّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْمَذْكُور وَجَمِيع مَا ذكره البُخَارِيّ وَقع فِي حَدِيث ابْن مَاجَه عَن عبد الله بن عَامر حَدثنَا شريك عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ سَأَلت أَبَا جَعْفَر قلت لَهُ حَدثَك جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة قَالَ نعم قلت مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا قَالَ نعم قلت قَالَ التِّرْمِذِيّ روى وَكِيع هَذَا عَن ثَابت قلت لأبي جَعْفَر حَدثَك جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة وَهَذَا أصح من حَدِيث شريك لِأَنَّهُ روى من غير وَجه هَذَا غير ثَابت نَحْو رِوَايَة وَكِيع وَشريك كثير الْغَلَط وَسُئِلَ البُخَارِيّ عَن الْحَدِيثين فِيمَا ذكره فِي الْعِلَل الْكَبِير فَقَالَ الصَّحِيح مَا رَوَاهُ وَكِيع وَحَدِيث شريك لَيْسَ بِصَحِيح وَلما ذكر الْبَزَّار حَدِيث شريك قَالَ لَا نعلمهُ يروي عَن جَابر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عَليّ إِلَّا أَبُو حَمْزَة الثمالِي انْتهى وَفِيه نظر
    .......ز
    (2/242)
    حَاصِل الْمَعْنى لم يَأْتِ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث المرفوعة فِي صفة وضوء النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه زَاد على ثَلَاث بل ورد عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذمّ من زَاد عَلَيْهَا وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ من زَاد على هَذَا أَو نقص فقد أَسَاءَ وظلم. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الإِمَام هَذَا الحَدِيث صَحِيح عِنْد من يصحح حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده لصِحَّة الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو فَإِن قلت كَيفَ يكون ظَالِما فِي النُّقْصَان وَقد ورد فِي الْأَحَادِيث الْوضُوء مرّة مرّة ومرتين مرَّتَيْنِ
    .........
    (2/243)
    وَقَالَ بعض الشَّارِحين قَول البُخَارِيّ هَذَا إِشَارَة إِلَى نقل الْإِجْمَاع على منع الزِّيَادَة على الثَّلَاث قلت وَفِيه نظر فَإِن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي الْأُم لَا أحب الزِّيَادَة عَلَيْهَا فَإِن زَاد لم أكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحَاصِل مَا ذكره الشَّافِعِيَّة فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه. أَصَحهَا أَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا مَكْرُوهَة كَرَاهَة تَنْزِيه. وَثَانِيها أَنَّهَا حرَام. وَثَالِثهَا أَنَّهَا خلاف الأولى وَأبْعد قوم فَقَالُوا أَنه إِذا زَاد على الثَّلَاث يبطل الْوضُوء كَمَا لَو زَاد فِي الصَّلَاة حَكَاهُ الدَّارمِيّ فِي استذكاره عَنْهُم وَهُوَ خطأ ظَاهر وَخلاف مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء
    .........
    (2/ 245)
    لْأَحْكَام قد تخْتَلف باخْتلَاف محلهَا وَقد كَانَ الْوضُوء فِي صدر الْإِسْلَام وَاجِبا لكل صَلَاة فقد ثَبت أَنه كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْت مَعَ كَونه رَافعا للْحَدَث اتِّفَاقًا وَلَا يلْزم من انتهائه فِي ذَلِك الْوَقْت بانتهاء وَقت الصَّلَاة إِلَّا يكون رَافعا للْحَدَث ثمَّ زَالَ ذَلِك الْوُجُوب كَمَا عرف.
    .........
    (2/245)
    ن الصَّلَوَات كلهَا مفتقرة إِلَى الطَّهَارَة وَيدخل فِيهَا صَلَاة الْجِنَازَة وَالْعِيدَيْنِ وَغَيرهمَا وَحكى عَن الشّعبِيّ وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَنَّهُمَا أجازا صَلَاة الْجِنَازَة بِغَيْر وضوء وَهُوَ بَاطِل لعُمُوم هَذَا الحَدِيث وَالْإِجْمَاع وَمن الْغَرِيب أَن قَوْلهمَا قَالَ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة فَلَو صلى مُحدثا مُتَعَمدا بِلَا عذر أَثم وَلَا يكفر عِنْد الْجُمْهُور وَبِه قَالَت الشَّافِعِيَّة وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه يكفر لتلاعبه
    .......ز
    (2/ 248)
    لْقَاعِدَة فِي التغليب أَن يغلب الْمُذكر على الْمُؤَنَّث لَا بِالْعَكْسِ وَالْأَمر هُنَا بِالْعَكْسِ لتأنيث الْغرَّة وتذكير التحجيل قلت نقل عَن ابْن بابشاد أَنه قَالَ تَغْلِيب الْمُؤَنَّث على الْمُذكر وَقع فِي موضِعين أَحدهمَا ضبعان للخفة وَالْآخر فِي بَاب التَّارِيخ وَأَن التَّارِيخ عِنْد الْعَرَب من اللَّيْل لَا من النَّهَار فغلبوا اللَّيْلَة على النَّهَار وَالثَّانِي مَرْدُود لما ذكرنَا أَن حَقِيقَة التغليب أَن
    جْتَمع شَيْئَانِ ويغلب أَحدهمَا على الآخر وَهَذَا لم يجْتَمع فِيهِ شَيْئَانِ وَإِنَّمَا جعلت التَّارِيخ بالليلة دون النَّهَار لِأَن أشهر الْعَرَب قمرية فَافْهَم
    ......
    (2/249)
    من اسْتَطَاعَ مِنْكُم إِلَى آخِره من الحَدِيث لِأَن الْمَرْفُوع مِنْهُ إِلَى قَوْله من آثَار الْوضُوء وَبَاقِي ذَلِك من قَول أبي هُرَيْرَة أدرجه فِي آخر الحَدِيث وَقد أنكر ذَلِك بعض الشَّارِحين فَقَالَ وَفِي هَذِه الدَّعْوَى بعد عِنْدِي قلت لَيْسَ فِيهَا بعد وَكَيف وَقد رَوَاهُ أَحْمد رَحمَه الله من طَرِيق فليح عَن نعيم وَفِي آخِره قَالَ نعيم لَا أَدْرِي قَوْله من اسْتَطَاعَ إِلَى آخِره من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من قَول أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقد روى هَذَا الحَدِيث عشرَة من الصَّحَابَة وَلَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُم هَذِه الْجُمْلَة وَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أحد مِنْهُم غير مَا وجد فِي رِوَايَة نعيم عَنهُ فَهَذَا كُله أَمارَة الإدراج وَالله أعلم
    .........
    (2/249)
    وَادّعى ابْن بطال ثمَّ القَاضِي عِيَاض ثمَّ ابْن التِّين اتِّفَاق الْعلمَاء على أَنه لَا يسْتَحبّ الزِّيَادَة فَوق الْمرْفق والكعب وَهِي دَعْوَى بَاطِلَة فقد ثَبت ذَلِك عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي هُرَيْرَة وَعمل الْعلمَاء وفتواهم عَلَيْهِ فهم محجوجون بِالْإِجْمَاع وَقد ثَبت عَن ابْن
    عمر رَضِي الله عَنْهُمَا من فعله أخرجه ابْن أبي شيبَة وَأَبُو عبيد بِإِسْنَاد حسن ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي الْقدر الْمُسْتَحبّ من التَّطْوِيل فِي التحجيل فَقيل إِلَى الْمنْكب وَالركبَة وَقد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة ورأيا وَقيل الْمُسْتَحبّ الزِّيَادَة إِلَى نصف الْعَضُد والساق وَقيل إِلَى فَوق ذَلِك وَنقل ذَلِك عَن الْبَغَوِيّ وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة حاصلها ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَنه يسْتَحبّ الزِّيَادَة فَوق الْمرْفقين والكعبين من غير تَوْقِيت وَثَانِيها إِلَى نصف الْعَضُد والساق وَثَالِثهَا إِلَى الْمنْكب والركبتين قَالَ وَالْأَحَادِيث تَقْتَضِي ذَلِك كُله وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي لَيْسَ فِي الحَدِيث تَقْيِيد وَلَا تَحْدِيد لمقدار مَا يغسل من العضدين والساقين وَقد اسْتعْمل أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث على إِطْلَاقه وَظَاهره من طلب إطالة الْغرَّة فَغسل إِلَى قريب من الْمَنْكِبَيْنِ وَلم ينْقل ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كثر اسْتِعْمَاله فِي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَلذَلِك لم يقل بِهِ الْفُقَهَاء وَرَأَيْت بعض النَّاس قد ذكر أَن حد ذَلِك نصف الْعَضُد والساق انْته
    ..........
    (2/ 249)
    قلت قَوْله لم يقل بِهِ الْفُقَهَاء مَرْدُود بِمَا ذَكرْنَاهُ وَمن أَوْهَام ابْن بطال وَالْقَاضِي عِيَاض إنكارهما على أبي هُرَيْرَة بُلُوغه المَاء إِلَى إبطَيْهِ وَأَن أحدا لم يُتَابِعه عَلَيْهِ فقد قَالَ بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَآخَرُونَ من الشَّافِعِيَّة وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ رُبمَا بلغ بِالْوضُوءِ إبطه فِي الصَّيف فَإِن قلت روى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن وَكِيع عَن عقبَة بن أبي صَالح عَن إِبْرَاهِيم أَنه كرهه قلت هَذَا مَرْدُود بِذَاكَ فَإِن قلت اسْتدلَّ ابْن بطال فِيمَا ذهب إِلَيْهِ وَمن تبعه أَيْضا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَاد على هَذَا اَوْ نقص فقد أَسَاءَ وظلم قلت هَذَا اسْتِدْلَال فَاسد لِأَن المُرَاد بِهِ الزِّيَادَة فِي عدد المرات أَو النَّقْص عَن الْوَاجِب أَو الثَّوَاب الْمُرَتّب على نقص الْعدَد لَا الزِّيَادَة على تَطْوِيل الْغرَّة أَو التحجيل وَكَذَلِكَ تَأْوِيل ابْن بطال الِاسْتِطَاعَة فِي الحَدِيث على إطالة الْغرَّة والتحجيل بالمواظبة على الْوضُوء لكل صَلَاة فتطول غرته بتقوية نور أَعْضَائِهِ وَبِأَن الطول والدوام مَعْنَاهُمَا مُتَقَارب فَاسد وَوَجهه ظَاهر وَكَذَلِكَ قَوْله الْوَجْه لَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِي غسله إِذْ اسْتِيعَاب الْوَجْه بِالْغسْلِ وَاجِب فَاسد لَا مَكَان
    ..........
    (2/250)
    مَاعَة من الْعلمَاء على أَن الْوضُوء من خَصَائِص هَذِه الْأمة وَبِه جزم الْحَلِيمِيّ فِي منهاجه وَفِي الصَّحِيح أَيْضا لكم سيماء لَيست لأحد من الْأُمَم تردون عَليّ غرا محجلين من أثر الْوضُوء وَقَالَ الْآخرُونَ لَيْسَ الْوضُوء مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأمة وَإِنَّمَا الَّذِي اخْتصّت بِهِ الْغرَّة والتحجيل وَادعوا أَنه الْمَشْهُور من قَول الْعلمَاء وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا وضوئي ووضوء الْأَنْبِيَاء قبلي وَأجَاب الْأَولونَ عَن هَذَا بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه حَدِيث ضَعِيف وَالْآخر أَنه لَو صَحَّ لاحتمل اخْتِصَاص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي هَذِه الخصوصية وامتازت بالغرة والتحجيل وَلَكِن ورد فِي حَدِيث جريج كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه أَنه قَامَ فَتَوَضَّأ وَصلى ثمَّ كلم الْغُلَام وَثَبت أَيْضا عِنْد البُخَارِيّ فِي قصَّة سارة عَلَيْهَا السَّلَام مَعَ الْملك الَّذِي أَعْطَاهَا هَاجر أَن سارة لما هم الْملك بالدنو مِنْهَا قَامَت تتوضأ وَتصلي وَفِيهِمَا دلَالَة على أَن الْوضُوء كَانَ مَشْرُوعا لَهُم وعَلى هَذَا فَيكون خَاصَّة هَذِه الْأمة الْغرَّة والتحجيل الناشئين عَن الْوضُوء لَا أصل الْوضُوء وَنقل الزناتي الْمَالِكِي شَارِح الرسَالَة عَن الْعلمَاء أَن الْغرَّة والتحجيل حكم ثَابت لهَذِهِ الْأمة من تَوَضَّأ مِنْهُم وَمن لم يتَوَضَّأ كَمَا قَالُوا لَا يكفر أحد من أهل الْقبْلَة كل من آمن بِهِ من أمته سَوَاء صلى أَو لم يصل وَهَذَا نقل غَرِيب وَظَاهر الْأَحَادِيث يَقْتَضِي خُصُوصِيَّة ذَلِك لمن تَوَضَّأ مِنْهُم وَفِي صَحِيح ابْن حبَان يَا رَسُول الله كَيفَ تعرف من لم يَرك من أمتك قَالَ غر محجلون بلق من آثَار الْوضُوء

    ...............

    (2/ 251)
    عبد الله بن زيد بن عَاصِم بن كَعْب بن عَمْرو بن عَوْف بن مبدول بن غنم بن مَازِن بن النجار الْأنْصَارِيّ الْمَازِني من بني مَازِن ابْن النجار الْمدنِي لَهُ ولأبويه صُحْبَة ولأخيه حبيب بن زيد الَّذِي قطعه مُسَيْلمَة عضوا عضوا فَقضى أَن عبد الله هُوَ الَّذِي شَارك وحشيا فِي قتل مُسَيْلمَة وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث صَلَاة الاسْتِسْقَاء
    ..........
    (2/ 253)
    ن من تَيَقّن الطَّهَارَة وَشك فِي الْحَدث يحكم بِبَقَائِهِ على الطَّهَارَة سَوَاء حصل الشَّك فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا وَهَذَا بالاجماع بَين الْفُقَهَاء إِلَّا عَن مَالك رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه يلْزمه الْوضُوء إِن كَانَ شكه خَارج الصَّلَاة وَلَا يلْزمه إِن كَانَ فِي الصَّلَاة وَالْأُخْرَى يلْزمه بِكُل حَال وحكيت الأولى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَهُوَ وَجه شَاذ عِنْد الشَّافِعِيَّة ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وحكيت الثَّانِيَة أَيْضا وَجها للشَّافِعِيَّة وَهُوَ غَرِيب وَعَن مَالك رِوَايَة ثَالِثَة رَوَاهَا ابْن قَانِع عَنهُ أَنه لَا وضوء عَلَيْهِ كَمَا قَالَه الْجُمْهُور وحكاها ابْن بطال عَنهُ وَنقل القَاضِي ثمَّ الْقُرْطُبِيّ عَن ابْن حبيب الْمَالِكِي أَن هَذَا الشَّك فِي الرّيح دون غَيره من الْأَحْدَاث وَكَأَنَّهُ تبع ظَاهر الحَدِيث وَاعْتذر عَنهُ بعض الْمَالِكِيَّة بِأَن الرّيح لَا يتَعَلَّق بِالْمحل مِنْهُ شَيْء بِخِلَاف الْبَوْل وَالْغَائِط وَعَن بعض أَصْحَاب مَالك أَنه إِن كَانَ الشَّك فِي سَبَب حَاضر كَمَا فِي الحَدِيث طرح الشَّك وَإِن كَانَ فِي سَبَب مُتَقَدم فَلَا وَأما إِذا تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يلْزمه الْوضُوء بِالْإِجْمَاع
    .......ز
    (2/ 254)
    فَكل هَذِه الشكوك لَا تَأْثِير لَهَا وَالْأَصْل عدم الْحَادِث. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة تستثنى من هَذِه الْقَاعِدَة بضع عشرَة مَسْأَلَة. مِنْهَا من شكّ فِي خُرُوج وَقت الْجُمُعَة قبل الشُّرُوع فِيهَا قيل أَو فِيهَا وَمن شكّ فِي ترك بعض وضوء أَو صَلَاة بعد الْفَرَاغ لَا أثر لَهُ على الْأَصَح. وَمِنْهَا عشر ذكرهن ابْن الْقَاص بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة من الشَّافِعِيَّة فِي مُدَّة خف وَإِن إِمَامه مُسَافر أَو وصل وَطنه أَو نوى إِقَامَة وَمسح مُسْتَحَاضَة وثوب خفيت نَجَاسَته وَمَسْأَلَة الظبية وَبطلَان التَّيَمُّم بتوهم المَاء وَتَحْرِيم صيد جرحه فَغَاب فَوَجَدَهُ مَيتا قَالَ الْقفال لم يعْمل بِالشَّكِّ فِي شَيْء مِنْهَا لِأَن الأَصْل فِي الأولى الْغسْل وَفِي الثَّانِيَة الْإِتْمَام وَكَذَا فِي الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة أَن أوجبناه وَالْخَامِسَة وَالسَّادِسَة اشْتِرَاط الطَّهَارَة وَلَو ظنا أَو استصحابا وَالسَّابِعَة بَقَاء النَّجَاسَة وَالثَّامِنَة لقُوَّة الظَّن والتاسعة للشَّكّ فِي شَرط التَّيَمُّم وَهُوَ عدم المَاء وَفِي الصَّيْد تَحْرِيمه إِن قُلْنَا بِهِ الثَّانِي من الْأَحْكَام مَا قالته الشَّافِعِيَّة لَا فرق فِي الشَّك بَين تَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْ نِ فِي وجوب الْحَدث وَعَدَمه وَبَين تَرْجِيح أَحدهمَا وَغَلَبَة الظَّن فِي أَنه لَا وضوء عَلَيْهِ فالشك عِنْدهم خلاف الْيَقِين وَإِن كَانَ خلاف الِاصْطِلَاح الأصولي وَقَوْلهمْ مُوَافق لقَوْل أهل اللُّغَة الشَّك خلاف الْيَقِين نعم يسْتَحبّ الْوضُوء احْتِيَاطًا فَلَو بَان حَدثهُ أَولا فَوَجْهَانِ أصَحهمَا لَا يجْزِيه هَذَا الْوضُوء لتردده فِي نِيَّته بِخِلَاف مَا إِذا تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَتَوَضَّأ ثمَّ بَان مُحدثا فَإِنَّهُ يجْزِيه قطعا
    ..........
    (2/257)
    موقف الْمَأْمُوم الْوَاحِد عَن يَمِين الإِمَام وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن موقف الْوَاحِد مَعَ الإِمَام عَن يسَاره وَعَن أَحْمد إِن وقف عَن يسَاره بطلت صلَاته وَقَالَ ابْن بطال وَهُوَ رد على أبي حنيفَة فِي قَوْله أَن الإِمَام إِذا صلى مَعَ رجل وَاحِد أَنه يقوم خَلفه لَا عَن يَمِينه وَهُوَ مُخَالف لفعل الشَّارِع قلت هَذَا بَاطِل وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَابْن بطال جازف فِي كَلَامه وَقد قَالَ صَاحب الْهِدَايَة وَمن صلى مَعَ وَاحِد أَقَامَهُ عَن يَمِينه لحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِهِ وأقامه عَن يَمِينه وَلَا يتَأَخَّر عَن الإِمَام وَإِن صلى خَلفه أَو فِي يسَاره جَازَ وَهُوَ مسيء لِأَنَّهُ خلاف السّنة هَذَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة فَكيف شنع عَلَيْهِ ابْن بطال مَعَ إساءة الْأَدَب على الإِمَام
    ........
    (2/ ص259)
    عَرَفَة على وزن فعلة اسْم للزمان وَهُوَ الْيَوْم التَّاسِع من ذِي الْحجَّة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل عَرَفَة وعرفات كِلَاهُمَا اسمان للمكان الْمَخْصُوص وَقَالَ الصغاني وَيَوْم عَرَفَة التَّاسِع من ذِي الْحجَّة وَتقول هَذَا يَوْم عَرَفَة غير منون وَلَا تدْخلهَا الْألف وَاللَّام وعرفات الْموضع الَّذِي يقف الْحَاج بِهِ يَوْم عَرَفَة قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} وَهِي اسْم فِي لفظ الْجمع فَلَا تجمع قَالَ الْفراء لَا وَاحِد لَهَا وَقَول النَّاس نزلنَا عَرَفَة شَبيه بمولد وَلَيْسَ بعربي مَحْض سميت بِهِ لِأَن آدم عرف حَوَّاء بهَا فَإِن الله تَعَالَى أهبط آدم بِالْهِنْدِ وحواء بجدة فتعارفا فِي الْموقف أَو لِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عرف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمَنَاسِك هُنَاكَ أَو للجبال الَّتِي فِيهَا وَالْجِبَال الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاف وكل بَاب فَهُوَ عرف وَمِنْه عرف الديك أَو لِأَن النَّاس يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ ويسألون غفرانها وَقيل لِأَنَّهَا مَكَان مقدس مُعظم كَأَنَّهُ قد عرف أَي طيب
    الْمزْدَلِفَة هِيَ مَوضِع مَخْصُوص بَين عَرَفَات وَمنى وَقيل سميت بهَا لِأَن الْحجَّاج يزدلفون فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى أَي يَتَقَرَّبُون بِالْوُقُوفِ فِيهَا إِلَيْهِ وَيُسمى أَيْضا جمعا لِأَن آدم اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء عَلَيْهِمَا السَّلَام وازدلف إِلَيْهَا أَي دنا فَلذَلِك سميت مُزْدَلِفَة أَيْضا وَعَن قَتَادَة لِأَنَّهُ يجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ قلت الْمزْدَلِفَة بِضَم الْمِيم من الازدلاف وَهُوَ التَّقَرُّب أَو الِاجْتِمَاع فَمن الأول قَوْله تَعَالَى {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} أَي قربت
    ........
    (2/260)
    فِيهِ دَلِيل لأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن فِيمَا ذَهَبا إِلَيْهِ من وجوب تَأْخِير صَلَاة الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء حَتَّى لَو صلى الْمغرب فِي الطَّرِيق لم يجز وَعَلِيهِ إِعَادَتهَا مَا لم يطلع الْفجْر وَبِه قَالَ زفر وَجَمَاعَة من الْكُوفِيّين وَقَالَ مَالك لَا يجوز أَن يُصليهَا قبلهَا إِلَّا من بِهِ أَو بدابته عذر فَلهُ أَن يُصليهَا قبلهَا بِشَرْط كَونه بعد مغيب الشَّفق وَحكى ابْن التِّين عَن الْمُدَوَّنَة أَنه يُعِيد إِذا صلى الْمغرب قبل أَن يَأْتِي الْمزْدَلِفَة أَو جمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء بعد مغيب الشَّفق وَقبل أَن يَأْتِيهَا وَعَن أَشهب الْمَنْع إِلَّا أَن يكون صلى قبل مغيب الشَّفق فَيُعِيد الْعشَاء بعْدهَا أبدا وَبئسَ مَا صنع وَقيل يُعِيد الْأَخِيرَة فَقَط وَقَالَ فِي المعونة إِن صلى الْمغرب بِعَرَفَة فِي وَقتهَا فقد ترك الِاخْتِيَار وَالسّنة ويجزيه خلافًا لأبي حنيفَة وَقَالَ أَشهب وَإِذا أسْرع فوصل الْمزْدَلِفَة قبل مغيب الشَّفق جمع وَخَالفهُ ابْن الْقَاسِم فَقَالَ لَا يجمع حَتَّى يغيب وَقَالَت الشَّافِعِيَّة لَو جمع بَينهمَا فِي وَقت الْمغرب فِي أَرض عَرَفَات أَو فِي الطَّرِيق أَو فِي مَوضِع آخر وَصلى كل صَلَاة فِي وَقتهَا جَازَ جَمِيع ذَلِك وَإِن خَالف الْأَفْضَل وَبِه قَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَشْهَب وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث

    (2/263)
    وَوَقع فِي الْمُسْتَصْفى للغزالي أَن ابْن عَبَّاس مَعَ كَثْرَة رِوَايَته قيل أَنه لم يسمع من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث لصِغَر سنه وَصرح بذلك فِي حَدِيث إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة وَقَالَ حَدثنِي بِهِ أُسَامَة بن زيد وَلما روى حَدِيث قطع التَّلْبِيَة حِين رمى جَمْرَة الْعقبَة قَالَ حَدثنِي بِهِ أخي الْفضل
    .....
    (2/ 264)
    الْجمع بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَا ق بغرفة وَهُوَ حجَّة للشَّافِعِيَّة فِي أحد الْوُجُوه فيهمَا وَقَالُوا فِي كيفيتها خَمْسَة أوجه الأول أَن يجمع بَينهمَا بغرفة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا. وَالثَّانِي أَن يجمع أَيْضا بغرفة لَكِن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق وَلَفظ الرَّاوِي هَهُنَا يحْتَمل هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّالِث أَنه يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات يتمضمض من كل وَاحِدَة ثمَّ يستنشق مِنْهَا. وَالرَّابِع أَن يفصل بَينهمَا بغرفتين فيتمضمض من إِحْدَاهمَا بِثَلَاث ثمَّ يستنشق من الْأُخْرَى ثَلَاثًا. وَالْخَامِس أَن يفصل بست غرفات يتمضمض بِثَلَاث ثمَّ يستنشق بِثَلَاث. قَالَ الْكرْمَانِي وَالأَصَح أَن الْأَفْضَل هُوَ الرَّابِع وَقَالَ النَّوَوِيّ هُوَ الثَّالِث وَاتَّفَقُوا على أَن الْمَضْمَضَة على كل قَول مُقَدّمَة على الِاسْتِنْشَاق وَهل هُوَ تَقْدِيم اسْتِحْبَاب أَو اشْتِرَاط فِيهِ وَجْهَان أظهرهمَا اشْتِرَاط لاخْتِلَاف العضوين
    نص فِي الْأُم وَهُوَ نَص مُخْتَصر الْمُزنِيّ أَن الْجمع أفضل وَنَصّ الْبُوَيْطِيّ أَن الْفَصْل أفضل وَنَقله التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ النَّوَوِيّ قَالَ صَاحب الْمُهَذّب القَوْل بِالْجمعِ أَكثر فِي كَلَام الشَّافِعِي وَهُوَ أَيْضا أَكثر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالْجَوَاب عَن كل مَا روى من ذَلِك أَنه مَحْمُول على الْجَوَاز وَقَالَ المرغيناني لَو أَخذ المَاء بكفه وتمضمض بِبَعْضِه واستنشق بِالْبَاقِي جَازَ وعَلى عَكسه لَا يجوز لصيرورة المَاء مُسْتَعْملا وَالْجَوَاب عَمَّا ورد فِي الحَدِيث فَتَمَضْمَض واستنشق من كف وَاحِد أَنه مُحْتَمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه تمضمض واستنشق بكف وَاحِد بِمَاء وَاحِد وَيحْتَمل أَنه فعل ذَلِك بكف وَاحِد بمياه لَا يقوم بِهِ حجَّة أَو يرد هَذَا الْمُحْتَمل إِلَى الْمُحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ تَوْفِيقًا بَين الدَّلِيلَيْنِ
    أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا فَأخذ لكل وَاحِدَة مَاء جَدِيدا وَكَذَا روى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه وَسكت عَنهُ وَهُوَ دَلِيل رِضَاهُ بِالصِّحَّةِ. ثمَّ اعْلَم أَن السّنة أَن تكون الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَا ق باليمنى وَقَالَ بَعضهم الْمَضْمَضَة بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِنْشَا ق باليسار لِأَن الْفَم مطهرة وَالْأنف مقذرة واليمنى للاطهار واليسار للاقذار وَلنَا مَا روى عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه استنثر بِيَمِينِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة جهلت السّنة فَقَالَ كَيفَ أَجْهَل السّنة وَالسّنة من بُيُوتنَا خرجت أما علمت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْيَمين للْوَجْه واليسار للمقعد كَذَا ذكره صَاحب الْبَدَائِع وَالتَّرْتِيب بَينهمَا سنة ذكره فِي الْخُلَاصَة لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي صفة وضوئِهِ إِلَّا هَكَذَا.
    .....
    (2/266)
    أَن مسح الرَّأْس بِغَيْر أَخذ مَاء جَدِيد وَاحْتج بِهِ بَعضهم على أَنه يمسح رَأسه بِفضل الذِّرَاع كَمَا ورد فِي سنَن أبي دَاوُد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح رَأسه بِفضل مَا كَانَ فِي يَده وَهَذَا قَول الْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن وَعُرْوَة وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك لَا يجْزِيه أَن يمسح بِفضل ذِرَاعَيْهِ وَلَا لحيته وَأَجَازَهُ ابْن الْمَاجشون فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة إِذا نفذ مِنْهُ المَاء وَقد قُلْنَا أَن فِي الْكَلَام حذفا دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثمَّ قبض قَبْضَة من المَاء ثمَّ نفض يَده ثمَّ مسح رَأسه فَافْهَم

    ........

    (2/266)
    لَكِن لما كَانَ حَال الوقاع أبعد حَال من ذكر الله تَعَالَى وَمَعَ ذَلِك تسن التَّسْمِيَة فِيهِ فَفِي سَائِر الْأَحْوَال بِالطَّرِيقِ الأولى فَلذَلِك أوردهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب للتّنْبِيه على مَشْرُوعِيَّة التَّسْمِيَة عِنْد الْوضُوء فَإِن قلت كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر حَدِيث لَا وضوء لمن لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ قلت هَذَا الحَدِيث لَيْسَ على شَرطه وَإِن كثرت طرقه وَقد طعن فِيهِ الْحفاظ واستدركوا على الْحَاكِم تَصْحِيحه بِأَنَّهُ انْقَلب عَلَيْهِ إِسْنَاده واشتبه وَقَالَ الإِمَام أَحْمد لَا أعلم فِي التَّسْمِيَة حَدِيثا ثَابتا قلت هَذَا
    لحَدِيث رَوَاهُ يَعْقُوب بن سَلمَة عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره وَقَالَ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير لَا يعرف لسَلمَة سَماع من أبي هُرَيْرَة وَلَا ليعقوب من أَبِيه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث سعيد بن زيد عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَفِي إِسْنَاده أَبُو ثعال عَن رَبَاح عَن جدته وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب الْوَهم وَالْإِيهَام فِيهِ ثَلَاث مَجَاهِيل الْأَحْوَال جدة رَبَاح لَا يعرف لَهَا اسْم وَلَا حَال وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا ورباح أَيْضا مَجْهُول الْحَال وَكَذَلِكَ أَبُو ثعال وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي كتاب الْعِلَل هَذَا الحَدِيث لَيْسَ عندنَا بِذَاكَ الصَّحِيح وَأَبُو ثعال مَجْهُول ورباح مَجْهُول وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَفِي إِسْنَاده ربيح بن عبد الرَّحْمَن وهومنكر الحَدِيث قَالَ البُخَارِيّ وَأَصَح مَا فِي التَّسْمِيَة حَدِيث أنس أَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وضع يَده فِي الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء وَقَالَ توضؤوا بِسم الله الحَدِيث وَبِه احْتج الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الْمعرفَة وَيقرب مِنْهُ حَدِيث كل أَمر ذِي بَال الحَدِيث
    ........
    (2/268)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قيل المُرَاد أَنه لَا يصرعه الشَّيْطَان وَقيل لَا يطعن فِيهِ عِنْد وِلَادَته بِخِلَاف غَيره قَالَ وَلم نحمله على الْعُمُوم فِي جَمِيع الضَّرَر لوُجُود الوسوسة والإغراء يَعْنِي الْحمل على فعل الْمعاصِي وَقَالَ الدَّاودِيّ لم يضرّهُ بِأَن يفتنه بالْكفْر
    .........
    (2/ 268)
    وَاسْتحبَّ الْغَزالِيّ فِي الْأَحْيَاء أَن يقْرَأ بعد بِسم الله قل هُوَ الله أحد وَيكبر ويهلل وَيَقُول بِسم الله الْعلي الْعَظِيم اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذُرِّيَّة طيبَة إِن كنت قدرت ولدا يخرج من صلبي قَالَ وَإِذا قربت الأنزال فَقل فِي نَفسك وَلَا تحرّك بِهِ شفتيك {الْحَمد لله الَّذِي خلق من المَاء بشرا}
    ..........
    (2/ 269)
    لَ ابْن بطال لما كَانَ فِي هَذَا الْحَث على التَّسْمِيَة فِي كل حَال اسْتحبَّ مَالك التَّسْمِيَة عِنْد الْوضُوء قلت فِيهِ مَذَاهِب أَحدهَا أَنه سنة وَلَيْسَت بواجبة فَلَو تَركهَا عمدا صَحَّ وضوؤه وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ أظهر الرِّوَايَتَيْن ِ عَن أَحْمد وَعبارَة ابْن بطال أَن مَالِكًا استحبها وَكَذَا عَامَّة أهل الْفَتْوَى. الثَّانِي أَنَّهَا وَاجِبَة وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد وَقَول أهل الظَّاهِر. الثَّالِث أَنَّهَا وَاجِبَة إِن تَركهَا عمدا بطلت طَهَارَته وَإِن تَركهَا سَهوا أَو مُعْتَقدًا أَنَّهَا غير وَاجِبَة لم تبطل طَهَارَته وَهُوَ قَول إِسْحَق بن رَاهَوَيْه كَمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ الرَّابِع أَنَّهَا لَيست بمستحبة وَهِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَعَن مَالك رِوَايَة أَنَّهَا بِدعَة وَقَالَ مَا سَمِعت بِهَذَا يُرِيد أَن يذبح وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا مُبَاحَة لَا فضل فِي فعلهَا وَلَا فِي تَركهَا
    ........
    (2/ 270)
    وَزعم ابْن الْأَعرَابِي أَن أصل الْخبث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه فَإِن كَانَ من الْكَلَام فَهُوَ الشتم وَإِن كَانَ من الْملَل فَهُوَ الْكفْر وَإِن كَانَ من الطَّعَام فَهُوَ الْحَرَام وَإِن كَانَ من الشَّرَاب فَهُوَ الضار وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي وَصَاحب الْمُنْتَهى الْخبث الْكفْر وَيُقَال الشَّيْطَان والخبائث الْمعاصِي جمع خبيثة وَيُقَال الْخبث خلاف طيب الْفِعْل من فجور وَغَيره والخبائث الْأَفْعَال المذمومة والخصال الرَّديئَة
    ........
    (2/ 271)
    هَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن زيد بن أَرقم عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَفظه فَإِذا أَتَى أحدكُم الْخَلَاء وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث زيد بن أَرقم فِي إِسْنَاده اضْطِرَاب وَأَشَارَ إِلَى اخْتِلَاف الرِّوَايَة فِيهِ وَسَأَلَ التِّرْمِذِيّ البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ لَعَلَّ قَتَادَة سَمعه من الْقَاسِم بن عَوْف الشَّيْبَانِيّ وَالنضْر بن أنس عَن أنس وَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء وَلِهَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَقَالَ الْبَزَّار اخْتلفُوا فِي إِسْنَاده وَقَالَ الْحَاكِم مُخْتَلف فِيهِ على قَتَادَة وَقد احْتج مُسلم بِحَدِيث لِقَتَادَة عَن النَّضر عَن زيد وَرَوَاهُ سعيد عَن الْقَاسِم وكلا الإسنادين على شَرط الصَّحِيح وَقَالَ مُحَمَّد الإشبيلي اخْتلف فِي إِسْنَاده وَالَّذِي أسْندهُ ثِقَة قلت هَذَا الْكَلَام غير جيد لِأَنَّهُ لم يرم بِالْإِرْسَال حَتَّى يكون الحكم لمن أسْندهُ وَإِنَّمَا رمى بِالِاضْطِرَابِ عَن قَتَادَة
    .....
    (2/ 271)
    قَالَ ابْن بطال فِيهِ جَوَاز ذكر الله تَعَالَى على الْخَلَاء وَهَذَا مِمَّا اخْتلفت فِيهِ الْآثَار فروى عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه أقبل من نَحْو بِئْر جمل فَلَقِيَهُ رجل فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى تيَمّم بالجدار وَاخْتلف فِي ذَلِك أَيْضا الْعلمَاء فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كره أَن يذكر الله تَعَالَى عِنْد الْخَلَاء وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَقَالَ عِكْرِمَة لَا يذكر الله فِيهِ بِلِسَانِهِ بل بِقَلْبِه وَأَجَازَ ذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء وروى ابْن وهب أَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ يذكر الله تَعَالَى فِي المرحاض وَقَالَ الْعَرْزَمِي قلت لِلشَّعْبِيِّ أعطس وَأَنا فِي الْخَلَاء أَحْمد الله قَالَ لَا حَتَّى تخرج فَأتيت النَّخعِيّ فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ لي احْمَد الله فَأَخْبَرته بقول الشّعبِيّ فَقَالَ النَّخعِيّ الْحَمد يصعد وَلَا يهْبط وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَمَالك. وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لمن أجَاز ذَلِك قلت فِيهِ نظر لَا يخفى وَذكر البُخَارِيّ فِي كتاب خلق الله تَعَالَى أَفعَال الْعباد عَن عَطاء رَحمَه الله الْخَاتم فِيهِ ذكر الله لَا بَأْس أَن يدْخل بِهِ الْإِنْسَان الكنيف أَو يلم بأَهْله وَهُوَ فِي يَده لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ قَول الْحسن وَذكر وَكِيع عَن سعيد بن الْمسيب مثله قَالَ البُخَارِيّ وَقَالَ طَاوس فِي المنطقة يكون على الرجل فِيهَا الدَّرَاهِم يقْضِي حَاجته لَا بَأْس بذلك وَقَالَ إِبْرَاهِيم لَا بُد للنَّاس من نفقاتهم وَأحب بعض النَّاس أَن لَا يدْخل الْخَلَاء بالخاتم فِيهِ ذكر الله تَعَالَى قَالَ البُخَارِيّ وَهَذَا من غير تَحْرِيم يَصح. وَأما حَدِيث بِئْر جمل فَهُوَ على الِاخْتِيَار وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْفضل لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرط رد السَّلَام أَن يكون على وضوء قَالَه الطَّحَاوِيّ وَقَالَ الطَّبَرِيّ أَن ذَلِك مِنْهُ كَانَ على وَجه التَّأْدِيب للْمُسلمِ عَلَيْهِ أَن لَا يسلم بَعضهم على بعض على الْحَدث وَذَلِكَ نَظِير نَهْيه وهم كَذَلِك أَن يحدث بَعضهم بَعْضًا بقوله لَا يتحدث المتغوطان على طوفهما يَعْنِي حاجتهما فَإِن الله يمقت على ذَلِك وروى أَبُو عُبَيْدَة الْبَاجِيّ عَن الْحسن عَن الْبَراء رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه سلم على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ يتَوَضَّأ فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا حَتَّى فرغ
    .........
    (2/ 272)
    وَحَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة بن دِينَار أَبُو سَلمَة الربعِي وَكَانَ يعد من الابدال وعلامة الابدال أَن لَا يُولد لَهُم تزوج سبعين امْرَأَة فَلم يُولد لَهُ وَقيل فضل حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار على حَمَّاد بن زيد بن دِرْهَم كفضل الدِّينَار على الدِّرْهَم مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة وَالْبُخَارِيّ مُتَابعَة
    .......
    (2/273)
    ا الْحِكْمَة فِي قَوْله غفرانك إِذا خرج
    من الْخَلَاء قلت قد ذكرُوا فِيهِ أوجها وأحسنها أَنه إِنَّمَا يسْتَغْفر من تَركه ذكر الله تَعَالَى مُدَّة مكثه فِي الْخَلَاء وَيقرب مِنْهُ مَا قيل أَنه لشكر النِّعْمَة الَّتِي أنعم عَلَيْهِ بهَا إِذْ أطْعمهُ وهضمه فَحق على من خرج سالما مِمَّا استعاذه مِنْهُ أَن يُؤَدِّي شكر النِّعْمَة فِي إعاذته وَإجَابَة سُؤَاله وَأَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى خوفًا أَن لَا يُؤَدِّي شكر تِلْكَ النعم

    ..........

    (2/ 274)
    وَقَالَ ابْن بطال أَن مَالِكًا روى فِي موطئِهِ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمَاءِ وضوأ لما تَحت الْإِزَار قَالَ مَالك يُرِيد الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَقَالَ الْخطابِيّ فِي الحَدِيث اسْتِحْبَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَإِن كَانَت الْحِجَارَة مجزئة وَكره قوم من السّلف الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَزعم بعض الْمُتَأَخِّرين أَن المَاء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذَلِك وَكَانَ بعض الْقُرَّاء يكره الْوضُوء فِي مشارع الْمِيَاه الْجَارِيَة وَكَانَ يسْتَحبّ أَن يُؤْخَذ لَهُ المَاء فِي ركوة وَنَحْوهَا
    لأنه
    لم يبلغهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ على نهر أَو مشرع فِي مَاء جَار قَالَ وَهَذَا عِنْدِي من أجل أَنه لم يكن بِحَضْرَتِهِ الْمِيَاه الْجَارِيَة والأنهار فَأَما من كَانَ بَين ظهراني مياه جَارِيَة فَأَرَادَ أَن يشرع فِيهَا وَيتَوَضَّأ مِنْهَا كَانَ لَهُ ذَلِك من غير حرج وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف فِي الْمَسْأَلَة فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر فيستعمل الْحجر أَولا لتخف النَّجَاسَة وتقل مباشرتها بِيَدِهِ ثمَّ يسْتَعْمل المَاء فَإِن أَرَادَ الِاقْتِصَار على أَحدهمَا جَازَ وَسَوَاء وجد الآخر أَو لم يجده فَإِن اقْتصر فالماء أفضل من الْحجر لِأَن المَاء يطهر الْمحل طَهَارَة حَقِيقِيَّة وَأما الْحجر فَلَا يطهر وَإِنَّمَا يُخَفف النَّجَاسَة ويبيح الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة المعفو عَنْهَا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْحجر أفضل وَرُبمَا أوهم كَلَام بَعضهم أَن المَاء لَا يجزىء وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي لَا يجزىء الْحجر إِلَّا لمن عدم المَاء
    .........
    (2/ 278)
    احْتج أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على عدم جَوَاز اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها بالبول وَالْغَائِط سَوَاء كَانَ فِي الصَّحرَاء أَو فِي الْبُنيان أخذا فِي ذَلِك بِعُمُوم الحَدِيث هُوَ مَذْهَب مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي ثَوْر وَأحمد فِي رِوَايَة وَهُوَ مَذْهَب الرَّاوِي أَيْضا وَهُوَ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلِأَن الْمَنْع لأجل تَعْظِيم الْقبْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء والبنيان فالجواز فِي الْبُنيان إِن كَانَ لوُجُود الْحَائِل فَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء فِي الْبِلَاد النائية لِأَن بَينهَا وَبَين الْكَعْبَة جبالا وأودية وَغير ذَلِك لَا سِيمَا عِنْد من يَقُول بكروية الأَرْض فَإِنَّهُ لَا موازاة إِذْ ذَاك بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا ورد من قَول الشّعبِيّ أَنه علل ذَلِك بِأَن لله خلقا من عباده يصلونَ فِي الصَّحرَاء فَلَا تستقبلوهم وَلَا تستدبروهم وَأَنه لَا يُوجد فِي الْأَبْنِيَة فَهُوَ تَعْلِيل فِي مُقَابلَة النَّص وَلَهُم فِي ذَلِك أَحَادِيث أُخْرَى كلهَا عَامَّة فِي النَّهْي مِنْهَا حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء أَنا أول من سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا يبولن أحدكُم مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَأَنا أول من حدث النَّاس بذلك فَإِن قلت قَالَ ابْن يُونُس فِي تَارِيخه وَهُوَ حَدِيث مَعْلُول قلت لَا الْتِفَات إِلَى قَوْله هَذَا فَإِن ابْن حبَان قد صَححهُ
    .....
    (2/ 278)
    مَّ اعْلَم أَن حَاصِل مَا للْعُلَمَاء فِي ذَلِك أَرْبَعَة مَذَاهِب. أَحدهَا الْمَنْع الْمُطلق وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي الْجَوَاز مُطلقًا وَهُوَ قَول عُرْوَة بن الزبير وَرَبِيعَة الرَّأْي وَدَاوُد وَرَأى أَي هَؤُلَاءِ أَن حَدِيث أبي أَيُّوب مَنْسُوخ وَزَعَمُوا أَن ناسخه حَدِيث مُجَاهِد عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ نَهَانَا رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن نستقبل الْقبْلَة أَو نستدبرها ببول ثمَّ رَأَيْته قبل أَن يقبض بعام يستقبلها أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَزعم أَنه صَحِيح على شَرط مُسلم وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن غَرِيب قلت قَول الْحَاكِم صَحِيح على شَرط مُسلم غير صَحِيح لِأَن أبان رَاوِيه عَن مُجَاهِد عَن جَابر لم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا والْحَدِيث حَدِيثه وَعَلِيهِ يَدُور نعم صَححهُ البُخَارِيّ فِيمَا سَأَلَهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ فَقَالَ حَدِيث صَحِيح ذكره فِي الخلافيات للبيهقي وتقريب المدارك فِي الْكَلَام على موطأ مَالك فَإِن قلت قَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث ضَعِيف لِأَنَّهُ رَوَاهُ أبان بن صَالح وَلَيْسَ هُوَ الْمَشْهُور قلت هَذَا مَرْدُود بتصحيح البُخَارِيّ وَغَيره وَقَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَيَعْقُوب بن شيبَة وَالْعجلِي أبان بن صَالح ثِقَة وَقَالَ النَّسَائِيّ كَانَ حَاكما بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِهِ بَأْس فَأَي شهرة أرفع من هَذِه وَقَالَ الْبَزَّار هَذَا حَدِيث لَا نعرفه ويروى عَن جَابر بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد أحسن من هَذَا الْإِسْنَاد فَإِن قلت قَالَ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد رد أَحْمد بن حَنْبَل حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ هَذَا وَهُوَ حَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح فيعرج عَلَيْهِ لِأَن أبان ضَعِيف قلت إِن أَرَادَ بقوله رده أَحْمد الْعَمَل بِهِ فمحتمل وَإِن أَرَادَ بِهِ الرَّد الصناعي فَغير مُسلم لثُبُوته فِي مُسْنده لم يضْرب عَلَيْهِ كعادته فِيمَا لَيْسَ بِصَحِيح عِنْده أَو مَرْدُود على مَا بَينه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي خَصَائِص مُسْنده وَأما تَضْعِيفه الحَدِيث بِأَبَان فَغير موجه لثُبُوت توثيقه من الْجَمَاعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ وَأما قَول التِّرْمِذِيّ حسن غَرِيب فَهُوَ وَإِن كَانَ جمعا بَين الضدين بِحَسب الظَّاهِر وَلكنه لَعَلَّه أَرَادَ تفرد بعض رُوَاته وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن أبان هُوَ الْمُنْفَرد بِهِ فِيمَا أرى وَالله أعلم. وَأما دَعْوَى النّسخ الْمَذْكُور فَلَيْسَتْ بظاهرة بل هُوَ اسْتِدْلَال ضَعِيف لِأَنَّهُ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْجمع وَهُوَ مُمكن كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن حَدِيث جَابر مَحْمُول على أَنه رَآهُ فِي بِنَاء أَو نَحوه لِأَن ذَلِك هُوَ الْمَعْهُود من حَال النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لمبالغته فِي التستر. الْمَذْهَب الثَّالِث أَنه لَا يجوز الِاسْتِقْبَال فِي الْأَبْنِيَة والصحراء وَيجوز الاستدبار فيهمَا وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَن أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع أَنه يحرم الِاسْتِقْبَال والاستدبار فِي الصَّحرَاء دون الْبُنيان وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي رِوَايَة وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْآتِي ذكره عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة مَشْهُورَة عَن الْعلمَاء وَلم يذكر النَّوَوِيّ فِي شرح الْمَذْهَب غَيرهَا وَكَذَلِكَ عَامَّة شرَّاح البُخَارِيّ وَهَهُنَا ثَلَاثَة مَذَاهِب أُخْرَى
    ي الْبُنيان فَقَط تمسكا بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف. وَمِنْهَا التَّحْرِيم مُطلقًا حَتَّى فِي الْقبْلَة المنسوخة وَهِي بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم وَابْن سِيرِين عملا بِحَدِيث معقل الْأَسدي الْمَذْكُور عَن قريب. وَمِنْهَا أَن التَّحْرِيم مُخْتَصّ بِأَهْل الْمَدِينَة وَمن كَانَ على سمتها وَأما من كَانَت قبلته فِي جِهَة الْمشرق أَو الْمغرب فَيجوز لَهُ الِاسْتِقْبَال والاستدبار مُطلقًا لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام شرقوا أَو غربوا قَالَه أَبُو عوَانَة صَاحب الْمُزنِيّ وبعكسه قَالَ البُخَارِيّ وَاسْتدلَّ بِهِ على أَنه لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبله
    .....
    (2/ 279)
    استنبط ابْن التِّين مِنْهُ منع اسْتِقْبَال النيرين فِي حَالَة الْغَائِط وَالْبَوْل وَكَأَنَّهُ قاسه على اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَلَيْسَ الْقيَاس بِظَاهِر على مَا لَا يخف
    ........
    (2/ 281)
    وَوَقع فِي صَحِيح ابْن حبَان مُسْتَقْبل الْقبْلَة مستدبر الشَّام وَكَأَنَّهُ مقلوب وَالله أعلم. فَإِن قلت كَيفَ نظر ابْن عمر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالة وَلَا يجوز ذَلِك قلت وَقعت مِنْهُ تِلْكَ اتِّفَاقًا من غير قصد لذَلِك فَنقل مَا رَآهُ وقصده ذَلِك لَا يجوز كَمَا لَا يتَعَمَّد الشُّهُود النّظر إِلَى الزِّنَا ثمَّ يجوز أَن يَقع أَبْصَارهم عَلَيْهِ ويتحملوا الشَّهَادَة بعد ذَلِك وَقَالَ الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يكون ابْن عمر قصد ذَلِك وَرَأى رَأسه دون مَا عداهُ من بدنه ثمَّ تَأمل قعوده فَعرف كَيفَ هُوَ جَالس ليستفيد فعله فَنقل مَا شَاهد قَوْله وَقَالَ أَي ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَوْله لَعَلَّك الْخطاب فِيهِ لواسع أَي لَعَلَّك من الَّذين لَا يعْرفُونَ السّنة إِذْ لَو كنت عَارِفًا بِالسنةِ لعرفت جَوَاز اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس وَلما الْتفت إِلَى قَوْلهم وَإِنَّمَا كنى عَن الْجَاهِلين بِالسنةِ بالذين يصلونَ على أوراكهم لِأَن الْمُصَلِّي على الورك لَا يكون إِلَّا جَاهِلا بِالسنةِ وَإِلَّا لما صلى عَلَيْهِ وَالسّنة فِي السُّجُود التخوية أَي لَا يلصق الرجل بِالْأَرْضِ بل يرفع عَنْهَا قَوْله فَقلت لَا أَدْرِي أَي قَالَ وَاسع لَا أَدْرِي أَنا مِنْهُم أم لَا وَلَا أَدْرِي السّنة فِي اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس
    ........
    (ج2/ 281)
    وَاهُ ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد ثَنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن خَالِد الْحذاء عَن خَالِد بن أبي الصَّلْت عَن عرَاك بن مَالك عَنْهَا قَالَت ذكر عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قوم يكْرهُونَ أَن يستقبلوا الْقبْلَة بفروجهم فَقَالَ أَرَاهُم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي الْقبْلَة قلت فِي علل التِّرْمِذِيّ قَالَ مُحَمَّد هَذَا حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب وَالصَّحِيح عَن عَائِشَة قَوْلهَا وَقَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث سَاقِط لِأَن خَالِد بن أبي الصَّلْت مَجْهُول لَا يدْرِي من هُوَ وَأَخْطَأ فِيهِ عبد الرَّزَّاق فَرَوَاهُ عَن خَالِد الْحذاء عَن كثير بن أبي الصَّلْت وَهَذَا أبطل وأبطل لِأَن الْحذاء لم يدْرك كثيرا انْتهى كَلَامه قَوْله ابْن أبي الصَّلْت لَا يدْرِي من هُوَ غير مُسلم لِأَن ابْن حبَان ذكره فِي الثِّقَات وَلِأَن بخشلا ذكر أَنه كَانَ عينا لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ بواسط وَذكر من صَلَاحه وَدينه وَقَوله كثير بن أبي الصَّلْت لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا الْمَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَعند ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه الْجرْح وَالتَّعْدِيل كثير بن الصَّلْت وَكَذَا ذكره أَبُو عمر العسكري وَابْن حبَان وَابْن مَنْدَه والبارودي وَآخَرُونَ وَلَعَلَّ ذَلِك يكون من خطأ عبد الرَّزَّاق فِيهِ وَقَالَ الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله أحسن مَا روى فِي الرُّخْصَة حَدِيث عرَاك وَإِن كَانَ مُرْسلا
    (2/284)
    الْحجب ثَلَاثَة الأول الْأَمر بستر وجوههن يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} الْآيَة قَالَ القَاضِي عِيَاض والحجاب الَّذِي خص بِهِ خلاف أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ هُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك لشهادة وَلَا لغَيْرهَا الثَّانِي هُوَ الْأَمر بإرخاء الْحجاب بَينهُنَّ وَبَين النَّاس يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} الثَّالِث هُوَ الْأَمر بمنعهن من الْخُرُوج من الْبيُوت إِلَّا لضَرُورَة شَرْعِيَّة فَإِذا
    خرجن لَا يظهرن شخصهن كَمَا فعلت حَفْصَة يَوْم مَاتَ أَبوهَا سترت شخصها حِين خرجت وَزَيْنَب عملت لَهَا قبَّة لما توفيت وَكَانَ لَهُنَّ فِي التستر عِنْد قَضَاء الْحَاجة ثَلَاث حالات الأولى بالظلمة لِأَنَّهُنَّ كن يخْرجن بِاللَّيْلِ دون النَّهَار كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث كن يخْرجن بِاللَّيْلِ
    ي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة الْإِفْك فَخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وَهُوَ متبرزنا وَكُنَّا لَا نخرج إِلَّا لَيْلًا الحَدِيث ثمَّ نزل الْحجاب فتسترن بالثياب لَكِن رُبمَا كَانَت أشخاصهن تتَمَيَّز وَلِهَذَا قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قد عرفناك يَا سَوْدَة وَهَذِه هِيَ الْحَالة الثَّانِيَة ثمَّ لما اتَّخذت الكنف فِي الْبيُوت منعن عَن الْخُرُوج مِنْهَا وَهِي الْحَالة الثَّالِثَة فَدلَّ عَلَيْهِ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة الْإِفْك فَإِن فِيهَا وَذَلِكَ قبل أَن تتَّخذ الكنف وَكَانَت قصَّة الْإِفْك قبل نزُول آيَة الْحجاب وَالله أعلم
    ........
    (2/ 284)
    دِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت يَا رَسُول الله إِن نِسَاءَك يدخلن عَلَيْهِنَّ الْبر والفاجر فَلَو أمرتهن أَن يحتجبن فَنزلت آيَة الْحجاب
    فضل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِن الله تَعَالَى أيد بِهِ الدّين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَهَذِه من إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي وَافق فِيهَا نزُول الْقُرْآن قلت هَذِه إِحْدَى مَا وَافق فِيهَا ربه وَالثَّانيَِة فِي قَوْله {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} وَالثَّالِثَة {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَهَذِه الثَّلَاثَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح. وَالرَّابِعَة مُوَافقَة فِي أسرى بدر. وَالْخَامِسَة فِي منع الصَّلَاة على الْمُنَافِقين وَهَاتَانِ فِي صَحِيح مُسلم. وَالسَّادِسَة مُوَافَقَته فِي آيَة الْمُؤمنِينَ وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده من حَدِيث عَليّ بن زيد وَافَقت رَبِّي لما نزلت {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَقلت أَنا {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَنزلت. وَالسَّابِعَة مُوَافَقَته فِي تَحْرِيم الْخمر
    والثامنة : موافقته
    ي قَوْله {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته} الْآيَة ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قدمنَا فِي الْكتاب الْكَبِير أَنه وَافق ربه تَعَالَى تِلَاوَة وَمعنى فِي أحد عشر موضعا وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ مصححا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا نزل بِالنَّاسِ أَمر قطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ عمر فِيهِ إِلَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن على نَحْو مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ.
    ...........
    (2/ 286)
    ذَات مرّة وَذَات يَوْم قِطْعَة من الزَّمَان ذَات مرّة وَذَات يَوْم وَالْآخر أَن ذَات لَيْسَ لَهما تمكن فِي ظروف الزَّمَان لِأَنَّهُمَا ليسَا من أَسمَاء الزَّمَان وَزعم السُّهيْلي أَن ذَات مرّة وَذَات يَوْم لَا يتصرفان فِي لُغَة خثعم وَلَا غَيرهَا وَحكى عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه ادّعى جَوَاز التَّصَرُّف فِي ذَات فِي لُغَة خثعم
    ..........
    (2/ 291)
    حَدثنَا مُوسَى عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة دخلت الشَّام فَصليت رَكْعَتَيْنِ فَقلت اللَّهُمَّ يسر لي جَلِيسا صَالحا فَرَأَيْت شَيخا مُقبلا فَلَمَّا دنا قلت أَرْجُو أَن يكون اسْتَجَابَ قَالَ مِمَّن أَنْت قلت من أهل الْكُوفَة قَالَ أفلم يكن فِيكُم صَاحب النَّعْلَيْنِ والوساد والمطهرة الحَدِيث وَأَرَادَ بِإِخْرَاج طرف هَذَا الحَدِيث هَهُنَا مَعَ حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ التَّنْبِيه على مَا ترْجم عَلَيْهِ من حمل المَاء إِلَى الكنيف لأجل التطهر
    ..........
    (2/292)
    وَفِي البُخَارِيّ قَالَ الزبير بن الْعَوام رَأَيْت سعيد بن العَاصِي وَفِي يَدي عنزة فأطعن بهَا فِي عينه حَتَّى أخرجتها متفقئة على حدقته فَأَخذهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت تحمل بَين يَدَيْهِ وَبعده بَين يَدي أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ثمَّ طلبَهَا ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا فَكَانَت عِنْده حَتَّى قتل. وَفِي مَفَاتِيح الْعُلُوم لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْخَوَارِزْمِي ّ هَذِه الحربة وَتسَمى العنزة كَانَ النَّجَاشِيّ أهداها للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَكَانَت تُقَام بَين يَدَيْهِ إِذا خرج إِلَى الْمصلى وتوارثها من بعده الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي الطَّبَقَات أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاث عنزات فَأمْسك وَاحِدَة لنَفسِهِ وَأعْطى عليا وَاحِدَة وَأعْطى عمر وَاحِدَة
    ....................
    (2/ 282)
    قَالَ ابْن الْأَعرَابِي برز بِكَسْر الرَّاء إِذا ظهر بعد خمول وبرز بِفَتْحِهَا إِذا خرج إِلَى البرَاز للغائط وَهُوَ الفضاء الْوَاسِع قَالَ الْفراء هُوَ الْموضع الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خمر من شجر وَلَا غَيره وَالْبرَاز الْحَاجة سميت باسم الصَّحرَاء كَمَا سميت بالغائط وَمِنْه حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث. البرَاز فِي الْمَوَارِد. وقارعة الطَّرِيق. والظل والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن فِي الأول حكم التبرز وَهنا حكم البرَاز
    ............
    (2/284)

    ............
    (2/284)
    الْحجب ثَلَاثَة الأول الْأَمر بستر وجوههن يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} الْآيَة قَالَ القَاضِي عِيَاض والحجاب الَّذِي خص بِهِ خلاف أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ هُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك لشهادة وَلَا لغَيْرهَا الثَّانِي هُوَ الْأَمر بإرخاء الْحجاب بَينهُنَّ وَبَين النَّاس يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} الثَّالِث هُوَ الْأَمر بمنعهن من الْخُرُوج من الْبيُوت إِلَّا لضَرُورَة شَرْعِيَّة فَإِذا
    خرجن لَا يظهرن شخصهن كَمَا فعلت حَفْصَة يَوْم مَاتَ أَبوهَا سترت شخصها حِين خرجت وَزَيْنَب عملت لَهَا قبَّة لما توفيت وَكَانَ لَهُنَّ فِي التستر عِنْد قَضَاء الْحَاجة ثَلَاث حالات الأولى بالظلمة لِأَنَّهُنَّ كن يخْرجن بِاللَّيْلِ دون النَّهَار كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث كن يخْرجن بِاللَّيْلِ
    ي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة الْإِفْك فَخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وَهُوَ متبرزنا وَكُنَّا لَا نخرج إِلَّا لَيْلًا الحَدِيث ثمَّ نزل الْحجاب فتسترن بالثياب لَكِن رُبمَا كَانَت أشخاصهن تتَمَيَّز وَلِهَذَا قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قد عرفناك يَا سَوْدَة وَهَذِه هِيَ الْحَالة الثَّانِيَة ثمَّ لما اتَّخذت الكنف فِي الْبيُوت منعن عَن الْخُرُوج مِنْهَا وَهِي الْحَالة الثَّالِثَة فَدلَّ عَلَيْهِ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة الْإِفْك فَإِن فِيهَا وَذَلِكَ قبل أَن تتَّخذ الكنف وَكَانَت قصَّة الْإِفْك قبل نزُول آيَة الْحجاب وَالله أعلم
    ........
    (2/ 284)
    دِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت يَا رَسُول الله إِن نِسَاءَك يدخلن عَلَيْهِنَّ الْبر والفاجر فَلَو أمرتهن أَن يحتجبن فَنزلت آيَة الْحجاب
    فضل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِن الله تَعَالَى أيد بِهِ الدّين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَهَذِه من إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي وَافق فِيهَا نزُول الْقُرْآن قلت هَذِه إِحْدَى مَا وَافق فِيهَا ربه وَالثَّانيَِة فِي قَوْله {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} وَالثَّالِثَة {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَهَذِه الثَّلَاثَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح. وَالرَّابِعَة مُوَافقَة فِي أسرى بدر. وَالْخَامِسَة فِي منع الصَّلَاة على الْمُنَافِقين وَهَاتَانِ فِي صَحِيح مُسلم. وَالسَّادِسَة مُوَافَقَته فِي آيَة الْمُؤمنِينَ وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده من حَدِيث عَليّ بن زيد وَافَقت رَبِّي لما نزلت {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَقلت أَنا {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَنزلت. وَالسَّابِعَة مُوَافَقَته فِي تَحْرِيم الْخمر
    والثامنة : موافقته
    ي قَوْله {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته} الْآيَة ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قدمنَا فِي الْكتاب الْكَبِير أَنه وَافق ربه تَعَالَى تِلَاوَة وَمعنى فِي أحد عشر موضعا وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ مصححا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا نزل بِالنَّاسِ أَمر قطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ عمر فِيهِ إِلَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن على نَحْو مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ.
    ...........
    (2/ 286)
    ذَات مرّة وَذَات يَوْم قِطْعَة من الزَّمَان ذَات مرّة وَذَات يَوْم وَالْآخر أَن ذَات لَيْسَ لَهما تمكن فِي ظروف الزَّمَان لِأَنَّهُمَا ليسَا من أَسمَاء الزَّمَان وَزعم السُّهيْلي أَن ذَات مرّة وَذَات يَوْم لَا يتصرفان فِي لُغَة خثعم وَلَا غَيرهَا وَحكى عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه ادّعى جَوَاز التَّصَرُّف فِي ذَات فِي لُغَة خثعم
    ..........
    (2/ 291)
    حَدثنَا مُوسَى عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة دخلت الشَّام فَصليت رَكْعَتَيْنِ فَقلت اللَّهُمَّ يسر لي جَلِيسا صَالحا فَرَأَيْت شَيخا مُقبلا فَلَمَّا دنا قلت أَرْجُو أَن يكون اسْتَجَابَ قَالَ مِمَّن أَنْت قلت من أهل الْكُوفَة قَالَ أفلم يكن فِيكُم صَاحب النَّعْلَيْنِ والوساد والمطهرة الحَدِيث وَأَرَادَ بِإِخْرَاج طرف هَذَا الحَدِيث هَهُنَا مَعَ حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ التَّنْبِيه على مَا ترْجم عَلَيْهِ من حمل المَاء إِلَى الكنيف لأجل التطهر
    ..........
    (2/292)
    وَفِي البُخَارِيّ قَالَ الزبير بن الْعَوام رَأَيْت سعيد بن العَاصِي وَفِي يَدي عنزة فأطعن بهَا فِي عينه حَتَّى أخرجتها متفقئة على حدقته فَأَخذهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت تحمل بَين يَدَيْهِ وَبعده بَين يَدي أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ثمَّ طلبَهَا ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا فَكَانَت عِنْده حَتَّى قتل. وَفِي مَفَاتِيح الْعُلُوم لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْخَوَارِزْمِي ّ هَذِه الحربة وَتسَمى العنزة كَانَ النَّجَاشِيّ أهداها للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَكَانَت تُقَام بَين يَدَيْهِ إِذا خرج إِلَى الْمصلى وتوارثها من بعده الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي الطَّبَقَات أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاث عنزات فَأمْسك وَاحِدَة لنَفسِهِ وَأعْطى عليا وَاحِدَة وَأعْطى عمر وَاحِدَة
    ............
    (2/ 293)
    عْلَم أَن العنزة هَل هِيَ قَصِيرَة أَو طَوِيلَة فِيهِ اضْطِرَاب لأهل اللُّغَة صحّح الأول القَاضِي عِيَاض وَالثَّانِي النَّوَوِيّ فِي شَرحه وَجزم الْقُرْطُبِيّ فِي بَاب من قدم من سفر بِأَنَّهَا عَصا مثل نصب الرمْح أَو أَكثر وفيهَا زج وَنَقله ابْن عبيد وَفِي غَرِيب ابْن الْجَوْزِيّ أَنَّهَا مثل الحربة قَالَ الثعالبي فَإِن طَالَتْ شَيْئا فَهِيَ النيزك ومطرد فَإِذا زَاد طولهَا وفيهَا سِنَان عريض فَهِيَ آلَة وحربة وَقَالَ ابْن التِّين العنزة أطول من الْعَصَا وأقصر من الرمْح وَفِيه زج كزج الرمْح وَعبارَة الدَّاودِيّ العنزة العكاز أَو الرمْح أَو الحربة أَو نَحْوهَا يكون فِي أَسْفَلهَا قرن أَو زج وَقَالَ الْحَرْبِيّ عَن الْأَصْمَعِي العنزة مَا دور نصله والآلة والحربة العريضة النصل وَقيل الحربة مَا لم يعرض نصله وَالله أعلم
    .......
    (2/ 296)
    روى أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَت يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيُمْنَى لطهوره وَطَعَامه وَكَانَت يَده الْيُسْرَى لخلائه وَمَا كَانَ من أَذَى وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة أَيْضا وروى أَيْضا من حَدِيث حَفْصَة زوج النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَت كَانَ يَجْعَل يَمِينه لطعامه وَشَرَابه ولباسه وَيجْعَل شِمَاله لما سوى ذَلِك وَظَاهر هَذَا يدل على عُمُوم الحكم على أَنه قد رُوِيَ النَّهْي عَن مَسّه بِالْيَمِينِ مُطلقًا غير مُقَيّد بِحَالَة الْبَوْل فَمن النَّاس من أَخذ بِهَذَا الْمُطلق وَمِنْهُم من حمله على الْخَاص بعد أَن ينظر فِي الرِّوَايَتَيْن ِ هَل هما حديثان أَو حَدِيث وَاحِد فَإِن كَانَا حَدِيثا وَاحِدًا مخرجه وَاحِد وَاخْتلفت فِيهِ الروَاة فَيَنْبَغِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَنَّهَا تكون زِيَادَة من عدل فِي حَدِيث وَاحِد فَتقبل وَإِن كَانَا حديثين فَالْأَمْر فِي حكم الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد على مَا ذكر فَإِن قلت النَّهْي فِيهِ تَنْزِيه أَو تَحْرِيم قلت للتنزيه عِنْد الْجُمْهُور لِأَن النَّهْي فِيهِ لمعنيين أَحدهمَا لرفع قدر الْيَمين وَالْآخر أَنه لَو بَاشر النَّجَاسَة بهَا يتَذَكَّر عِنْد تنَاوله الطَّعَام مَا باشرت يَمِينه من النَّجَاسَة فينفر طبعه من ذَلِك وَحمله أهل الظَّاهِر على التَّحْرِيم
    ............
    تَّى قَالَ الْحُسَيْن بن عبد الله الناصري فِي كِتَابه الْبُرْهَان على مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَلَو استنجى بِيَمِينِهِ لَا يجْزِيه وَهُوَ وَجه عِنْد الْحَنَابِلَة وَطَائِفَة من الشَّافِعِيَّة
    ............
    (2/ 300)
    قَالَ الْخطابِيّ فِيهِ وَجه آخر وَهُوَ رفع الْحَرج فِي الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَذَلِكَ أَن مُجَاوزَة الثَّلَاث فِي المَاء عدوان وَترك للسّنة وَالزِّيَادَة فِي الْأَحْجَار لَيست بعدوان وَإِن صَارَت شفعا قلت هَذَا الْوَجْه لَا يفهم من هَذَا الْكَلَام على مَا لَا يخفى على الفطن وَأَيْضًا مُجَاوزَة الثَّلَاث فِي المَاء كَيفَ تكون عُدْوانًا إِذا لم تحصل الطَّهَارَة بِالثلَاثِ وَالزِّيَادَة فِي الْأَحْجَار وَإِن كَانَت شفعا كَيفَ لَا يصير عُدْوانًا وَقد نَص على الإيتار فَافْهَم
    ..........
    )(2/301)
    وَكره بعض الْعلمَاء الِاسْتِنْجَاء بِعشْرَة أَشْيَاء الْعظم والرجيع والروث وَالطَّعَام والفحم والزجاج وَالْوَرق والخرق وورق الشّجر والسعتر وَلَو استنجي بهَا أَجزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَة وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة يجوز الِاسْتِنْجَاء بالعظم إِن كَانَ طَاهِرا لَا زهومة عَلَيْهِ لحُصُول الْمَقْصُود وَلَو أحرق الْعظم الطَّاهِر بالنَّار وَخرج عَن حَال الْعظم فَوَجْهَانِ عِنْد الشَّافِعِيَّة حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ أَحدهمَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بِهِ لِأَن النَّار أحالته
    .........
    (2/304)
    اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ على عدم اشْتِرَاط الثَّلَاثَة قَالَ لِأَنَّهُ لَو كَانَ شرطا لطلب ثَالِثا كَذَا قَالَه وغفل عَمَّا أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده من طَرِيق معمر عَن أبي إِسْحَق عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود فِي هَذَا الحَدِيث فَإِن فِيهِ فَألْقى الروثة وَقَالَ أَنَّهَا ركس ائْتِنِي بِحجر وَرِجَاله ثِقَات أثبات وَقد تَابع معمرا عَلَيْهِ أَبُو شيبَة الوَاسِطِيّ أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ
    وَمن أمعن النّظر فِي أَحَادِيث الْبَاب ودقق ذهنه فِي مَعَانِيهَا علم وَتحقّق أَن الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم وَأَن المُرَاد الانقاء لَا التَّثْلِيث وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَكَاهُ الْعَبدَرِي وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَدَاوُد وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة ايضا
    ........

    ا

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

    تم تلخيص المجلد الثاني ويليه

    المجلد الثالث " باب الوضوء مرة مرة "

  10. #230
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    المجلد الثالث
    الموافق 9/ ذو القعدة / 1441 هجري
    الموافق 30/ يونيو / 2020 ميلادي
    تلخيص " المجلد الثالث " من عمدة القاري ...

    المجلد الثالث
    (3/6)
    قَالَ جُمْهُور أهل اللُّغَة وَالْفُقَهَاء والمحدثون: الاستنثار إِخْرَاج المَاء من الْأنف بعد الإستنشاق،وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: الاستنثار هُوَ الِاسْتِنْشَاق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب هُوَ الأول، وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى (استنشق واستنثر) ، فَجمع بَينهمَا. وَقَالَ أهل اللُّغَة: هُوَ مَأْخُوذ من النثرة، وَهِي طرف الْأنف. وَقَالَ الْخطابِيّ
    وغيره : هو الأنف .
    ..........
    (3/7)
    ن حَدِيث النَّفس قِسْمَانِ: مَا يهجم عَلَيْهَا ويتعذر دَفعهَا، وَمَا يسترسل مَعهَا وَيُمكن قطعه، فَيحمل الحَدِيث عَلَيْهِ دون الأول لعسر اعْتِبَاره. وَقَوله: (يحدث) من بَاب التفعيل وَهُوَ يَقْتَضِي التكسب من أَحَادِيث النَّفس، وَدفع هَذَا مُمكن. وَأما مَا يهجم من الخطرات والوساوس فَإِنَّهُ يتَعَذَّر دَفعه فيعفى عَنهُ،وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن بَعضهم بِأَن المُرَاد: من لم يحصل لَهُ حَدِيث النَّفس أصلا ورأساً،ورده النَّوَوِيّ فَقَالَ: الصَّوَاب حُصُول هَذِه الْفَضِيلَة مَعَ طريان الخواطر الْعَارِضَة غَيره المستقرة، ثمَّ حَدِيث النَّفس يعم الخواطر الدُّنْيَوِيَّة والأخروية، والْحَدِيث مَحْمُول على الْمُتَعَلّق بالدنيا فَقَط،وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث: ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الصَّلَاة،تأليفه: (لَا يحدث فيهمَا نَفسه بِشَيْء من الدُّنْيَا، ثمَّ دَعَا إِلَيْهِ إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ) . انْتهى فَإِذا حدث نَفسه فِيمَا يتَعَلَّق بِأُمُور الْآخِرَة: كالفكر فِي مَعَاني المتلو من الْقُرْآن الْعَزِيز وَالْمَذْكُور من الدَّعْوَات والأذكار، أَو فِي أَمر مَحْمُود أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يضر ذَلِك، وَقد ورد عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه قَالَ: لأجهز الْجَيْش وَأَنا فِي الصَّلَاة،أَو كَمَا قَالَ قَوْله: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) يَعْنِي: من الصَّغَائِر دون الْكَبَائِر، كَذَا هُوَ مُبين فِي مُسلم، وَظَاهر الحَدِيث يعم جَمِيع الذُّنُوب، وَلكنه خص بالصغائر،والكبائر إِنَّمَا تكفر بِالتَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ مظالم الْعباد فَإِن قيل: حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،الآخر الَّذِي فِيهِ: (خرجت خطاياه من جسده حَتَّى تخرج من تَحت أَظْفَاره) مُرَتّب على الْوضُوء وَحده، فَلَو لم يكن المُرَاد بِمَا تقدم من ذَنبه فِي هَذَا الحَدِيث الْعُمُوم فِي الصَّغَائِر والكبائر لَكَانَ الشَّيْء مَعَ غَيره كالشيء لَا مَعَ غَيره،
    ......
    (3/8)
    وَكَانَ عَطاء وَالزهْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق يَقُولُونَ: يُعِيد إِذا ترك الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء،وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء فِي آخر قوليه وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى الانصاري وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ: لَا يُعِيد. وَقَالَ احْمَد: يُعِيد فِي الِاسْتِنْشَاق خَاصَّة وَلَا يُعِيد من ترك الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ ابو عبيد وابو ثَوْر. وَقَالَ ابو حنيفَة وَالثَّوْري: يُعِيد إِن تَركهَا فِي الْجَنَابَة وَلَا يُعِيد فِي الْوضُوء. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبقول أَحْمد أَقُول. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا هُوَ الْحق لِأَن الْمَضْمَضَة لَيست فرضا، وَإِن تَركهَا فوضوءه تَامّ وَصلَاته تَامَّة، عمدا تَركهَا أَو نِسْيَانا، لانه لم يَصح فِيهَا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر، إِنَّمَا هِيَ فعل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله لَيست فرضا وَإِنَّمَا فِيهَا الائتساء بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَفِيه نظر لِأَن الْأَمر بالمضمضة صَحِيح على شَرطه، أخرجه أَبُو دَاوُد بِسَنَد احْتج ابْن حزم بِرِجَالِهِ وبأصل الحَدِيث،وَلَفظ ابي دَاوُد من حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (اذا تَوَضَّأت فَمَضْمض) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وخرَّجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : صَحِيح، وَصحح أسناده الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه (تَهْذِيب الْآثَار) والدولابى فِي جمعه، وَابْن الْقطَّان فِي آخَرين. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ وَهُوَ فِي جملَة مَا قُلْنَا إنَّهُمَا أعرضا عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي لَا يرْوى عَنهُ غير الْوَاحِد، وَقد احتجا جَمِيعًا بِبَعْض هَذَا الحَدِيث وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس. انْتهى كَلَامه. وَفِيه نظر، لِأَنَّهُمَا لم يشترطا مَا ذكره فِي كِتَابَيْهِمَا أَحَادِيث جمَاعَة بِهَذِهِ المثابة،مِنْهُم: الْمسيب بن حزم وَأَبُو قيس بن أبي حَازِم ومرادس وَرَبِيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ.
    ..........
    (3/8)
    وَكَانَ عَطاء وَالزهْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق يَقُولُونَ: يُعِيد إِذا ترك الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء،وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء فِي آخر قوليه وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى الانصاري وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ: لَا يُعِيد. وَقَالَ احْمَد: يُعِيد فِي الِاسْتِنْشَاق خَاصَّة وَلَا يُعِيد من ترك الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ ابو عبيد وابو ثَوْر. وَقَالَ ابو حنيفَة وَالثَّوْري: يُعِيد إِن تَركهَا فِي الْجَنَابَة وَلَا يُعِيد فِي الْوضُوء. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبقول أَحْمد أَقُول. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا هُوَ الْحق لِأَن الْمَضْمَضَة لَيست فرضا، وَإِن تَركهَا فوضوءه تَامّ وَصلَاته تَامَّة، عمدا تَركهَا أَو نِسْيَانا، لانه لم يَصح فِيهَا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر، إِنَّمَا هِيَ فعل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله لَيست فرضا وَإِنَّمَا فِيهَا الائتساء بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَفِيه نظر لِأَن الْأَمر بالمضمضة صَحِيح على شَرطه، أخرجه أَبُو دَاوُد بِسَنَد احْتج ابْن حزم بِرِجَالِهِ وبأصل الحَدِيث،وَلَفظ ابي دَاوُد من حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (اذا تَوَضَّأت فَمَضْمض) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وخرَّجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : صَحِيح، وَصحح أسناده الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه (تَهْذِيب الْآثَار) والدولابى فِي جمعه، وَابْن الْقطَّان فِي آخَرين. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ وَهُوَ فِي جملَة مَا قُلْنَا إنَّهُمَا أعرضا عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي لَا يرْوى عَنهُ غير الْوَاحِد، وَقد احتجا جَمِيعًا بِبَعْض هَذَا الحَدِيث وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس. انْتهى كَلَامه. وَفِيه نظر، لِأَنَّهُمَا لم يشترطا مَا ذكره فِي كِتَابَيْهِمَا أَحَادِيث جمَاعَة بِهَذِهِ المثابة،مِنْهُم: الْمسيب بن حزم وَأَبُو قيس بن أبي حَازِم ومرادس وَرَبِيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ.
    (3/8)
    وَفِي كيفيتهما خَمْسَة أوجه. الأول: أَن يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات، وَهَذَا فِي الصَّحِيح وَغَيره. الثَّانِي: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ويستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا، رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَرَوَاهُ أَيْضا وَائِل ابْن حجر بِسَنَد فِيهِ ضعف، وَهُوَ عِنْد الْبَزَّار. الثَّالِث: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة، وَهُوَ أَن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ الثَّانِيَة كَذَلِك وَالثَّالِثَة، رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد التِّرْمِذِيّ،وَقَالَ: حسن غَرِيب وخرَّجه أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقَالَ: وَهُوَ أحسن شَيْء فِي الْبَاب وَأَصَح. الرَّابِع: أَن يفصل بَينهمَا بغرفتين يتمضمض بِثَلَاث ويستنشق بِثَلَاث، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابنَا، رَحِمهم الله،وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد وقتيبة قَالَا: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن ابي حَيَّة قَالَ: (رَأَيْت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تَوَضَّأ فَغسل كفيه حَتَّى أنقاهما ثمَّ مضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا
    ً وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة ثمَّ غسل قدمية إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ قَامَ فَأخذ فضل طهوره فشربه وَهُوَ قَائِم،ثمَّ قَالَ: احببت أَن أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
    ..........
    (3/9)
    وَاخْتلف نَصه فِي الكيفيتين وَهُوَ نَص مُخْتَصر الْمُزنِيّ أَن الْجمع أفضل وَنَصّ السُّيُوطِيّ أَن الْفضل أفضل وَنَقله الترمذيعن الشَّافِعِي النَّوَوِيّ: قَالَ صَاحب (الْمُهَذّب) القَوْل بِالْجمعِ أَكثر فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَهُوَ أَيْضا أَكثر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة؛ وَوجه الْفَصْل بَينهمَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة،مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن جده كَعْب بن عَمْرو اليمامي: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا فَأخذ لكل وَاحِدَة مَاء جَدِيدا) ، وَكَذَا روى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَسكت عَنهُ، وَهُوَ دَلِيل رِضَاهُ بِالصِّحَّةِ. وَالْجَوَاب عَمَّا ورد فِي الحَدِيث: (فَتَمَضْمَض واستنشق من كف وَاحِد) أَنه مُحْتَمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه تمضمض واستنشق بكف وَاحِد بِمَاء وَاحِد، وَيحْتَمل أَنه فعل ذَلِك بكف وَاحِد بمياه، والمحتمل لَا يقوم بِهِ حجَّة أَو يرد هَذَا الْمُحْتَمل إِلَى الْمُحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ تَوْفِيقًا بَين الدليلينن
    وَقد يُقَال: إِنَّه فعلهمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى ردا على قَول من يَقُول: يسْتَعْمل فِي الِاسْتِنْشَاق الْيَد الْيُسْرَى، لِأَن الْأنف مَوضِع الْأَذَى كموضع الِاسْتِنْجَاء، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط) وَفِيه نظر لَا يخفى، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن كل مَا رُوِيَ عَن ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب هُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز.


    ........
    (3/9)
    اخْتلف قَول الشَّافِعِي: هَل هُوَ اسْم لإبرة الذِّرَاع أَو لمجموع عظم رَأس الْعَضُد مَعَ الإبرة؟ على قَوْلَيْنِ، وَبنى على ذَلِك أَنه لَو سل الذِّرَاع من الْعَضُد هَل يجب غسل رَأس الْعَضُد أَو يسْتَحبّ؟ فِيهِ قَولَانِ أشهرهما وُجُوبه، وَاخْتلفُوا وَأَيْضًا فِي وجوب إِدْخَال الْمرْفقين فِي الْغسْل على قَوْلَيْنِ، فَذَهَبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، كَمَا عزاهُ ابْن هُبَيْرَة إِلَيْهِم، وَالْجُمْهُور إِلَى الْوُجُوب، وَذهب زفر وَأَبُو بكر بن دَاوُد إِلَى عدم الْوُجُوب، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وزيفه القَاضِي عبد الْوَهَّاب،ومنشأ الْخلاف من كلمة: إِلَ
    ......
    اسْم الرَّأْس حَقِيقَة فِي الْعُضْو، لَكِن الِاسْتِيعَاب هَل هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب اَوْ النّدب؟فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: فمذهب الشَّافِعِي أَن الْوَاجِب مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَلَو بعض شَعْرَة، ومشهور مَذْهَب مَالك وَأحمد أَن الْوَاجِب مسح الْجَمِيع، ومشهور مَذْهَب ابي حنيفَة أَن الْوَاجِب مسح ربع الرَّأْس
    .,..........
    (3/9)
    قْتَضِي مرّة وَاحِدَة، كَذَا فهمه غير وَاحِد من الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة مَالك وَأحمد،وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْتَحبّ التَّثْلِيث لغَيْرهَا من الْأَعْضَاء وَهُوَ مَشْهُور مذْهبه، وَقد وَردت أَحَادِيث صَحِيحَة بِالْمَسْحِ مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كلهَا تدل على مسح الرَّأْس أَنه مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا،قَالُوا: وفيهَا مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا كَمَا ذكرُوا فِي غَيره. وَقَالَ ابو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: لَا نعلم أحدا من السّلف جَاءَ عَنهُ اسْتِعْمَال الثَّلَاث إلاَّ ابراهيم التَّيْمِيّ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن أبي شيبَة حكى ذَلِك عَن أنس بن مَالك وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وزاذان وميسرة أَنهم كَانُوا إِذا توضؤا مسحوا رؤوسهم ثَلَاثًا، وَذكر ابْن السكن أَيْضا عَن مصرف بن عَمْرو. ووردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، فَفِي (سنَن ابي دَاوُد) بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن وردان عَن حمْرَان،وَفِيه: (وَمسح رَأسه ثَلَاثًا) ، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) مَا يدل على أَن سَائِر وضوئِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ ثَلَاثًا وَالرَّأْس دَاخِلَة فِيهِ
    ........
    (3/11)
    وَاخْتلف أَصْحَابه فِي التَّرْتِيب فِي الْوضُوء على ثَلَاثَة أَقْوَال: الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم الِاسْتِحْبَاب، وَمذهب الشَّافِعِيَّة وُجُوبه،وَخَالفهُم الْمُزنِيّ فَقَالَ: لَا يجب. وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر والبندنيجي، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أَكثر الْمَشَايِخ، وَحَكَاهُ قولا قَدِيما وَعَزاهُ إِلَى صَاحب (التَّقْرِيب) وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لم ينْقل أحد قطّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نكس وضوءه، فاطرد الْكتاب وَالسّنة على وجوب التَّرْتِيب، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك الْوُجُوب
    .......
    (3/13)
    (والصلوات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان مكفرات لما بَينهُنَّ إِذْ اجْتنبت الْكَبَائِر) لَا يُقَال إِذا كفر الْوضُوء فَمَاذَا تكفر الصَّلَاة، وَإِذا كفرت الصَّلَاة فَمَاذَا تكفر الْجُمُعَات ورمضان؟ وَكَذَا صِيَام عَرَفَة يكفر سنتَيْن، وَيَوْم عَاشُورَاء كَفَّارَة سنة، وَإِذا وَافق تأمينة تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه،لِأَن المُرَاد: أَن كل وَاحِد من هَذِه الْمَذْكُورَات صَالح للتكفير، فَإِن وجد مَا يكفره من الصَّغَائِر كفره، وَإِن لم يُصَادف صَغِيرَة كتبت لَهُ حَسَنَات وَرفعت لَهُ دَرَجَات، وَإِن صَادف كَبِيرَة أَو كَبَائِر وَلم يُصَادف صَغِيرَة رجى أَن يُخَفف مِنْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رجونا أَن يُخَفف من الْكَبَائِر. وَالله تَعَالَى أعلم.
    .......
    (3/ 14)
    والاستجمار والإستنجاء لتطهير مَحل الْغَائِط وَالْبَوْل، والاستجمار مُخْتَصّ بِالْمَسْحِ بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونَانِ بِالْمَاءِ وبالأحجار. وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتَأَوَّل الِاسْتِجْمَار هُنَا على إجمار الثِّيَاب بالمجمر، وَنحن نستحب الْوتر فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. يُقَال فِي هَذَا تجمر واستجمر فَيَأْخُذ ثَلَاث قطع من الطّيب أَو يتطيب مرّة وَاحِدَة، لما بعد الأولى، وَحكي عَن مَالك أَيْضا، وَالْأَظْهَر الأول،وَيُقَال: إِنَّمَا سمي بِهِ التمسح بالجمار الَّتِي هِيَ الْأَحْجَار الصغار لِأَنَّهُ يطيب الْمحل كَمَا يطيبه الِاسْتِجْمَار بالبخور،وَمِنْه سميت جمار الْحَج وَهِي: الحصيات الَّتِي يَرْمِي بهَا
    .......
    (3/19)
    اخْتلفُوا فِي المستيقظ من النّوم بِالنَّهَارِ،فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نوم النَّهَار ونوم اللَّيْل وَاحِد فِي غمس الْيَد، وَسَهل أَحْمد فِي نوم النَّهَار، وَنهى عَن ذَلِك إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل. قَالَ أَبُو بكر: وَغسل الْيَدَيْنِ من ابْتِدَاء الْوضُوء لَيْسَ بِفَرْض، وَذهب دَاوُد الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء يجْزِيه إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن حزم: وَسَوَاء تبَاعد مَا بَين نَومه ووضوئه أَو لم يتباعد، فَلَو صب على يَدَيْهِ من إِنَاء دون أَن يدْخل يَده فِيهِ لزم غسل يَده أَيْضا ثَلَاثًا إِن قَامَ من نَومه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة،وَقَالَ أَشهب: خشيَة النَّجَاسَة. وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، فَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك من سنَن الْوضُوء،وَقيل: إِنَّه مُسْتَحبّ وَبِه صدر ابْن الْجلاب فِي تفريعه، وَقيل بِإِيجَاب ذَلِك مُطلقًا وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأَصْحَابه، وَقيل بإيجابه فِي نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، وَبِه قَالَ أَحْمد،وَقَالَ: وَهل تغسلان مجتمتعين أَو متفرقتين فَفِيهِ قَولَانِ مبنيان على اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك،فَفِي بعض الطّرق: فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِفْرَاد،وَفِي بعض طرقه: (فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجمع. انْتهى.
    ن غمس الْيَدَيْنِ فِي إِنَاء الْوضُوء مَكْرُوه قبل غسلهمَا سَوَاء كَانَ عقيب نوم اللَّيْل أَو نوم النَّهَار،وَخص أَحْمد الْكَرَاهَة بنوم اللَّيْل لقَوْله: (أَيْن باتت يَده) ، وَالْمَبِيت لَا يكون إلاَّ لَيْلًا، وَلِأَن الْإِنْسَان لَا ينْكَشف لنوم النَّهَار كَمَا ينْكَشف لنوم اللَّيْل، لقَوْله (أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت لَا يكون إِلَّا لَيْلًا فَتَطُوف يَده فِي أَطْرَاف بدنه كَمَا تَطوف يَد النَّائِم لَيْلًا، فَرُبمَا أَصَابَت مَوضِع الْعذرَة، وَقد يكون هُنَاكَ لوث من أثر النَّجَاسَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا فِي رِوَايَة ابي دَاوُد
    ..........
    (3/21)
    وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النّبي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صفة وضوئِهِ أَنه غسل رجلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبين لأمر الله تَعَالَى،وَقد قَالَ فِي حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره مطولا فِي فضل الْوضُوء: (ثمَّ يغسل قدمية كَمَا أمره الله تَعَالَى) ، وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة خلاف ذَلِك إِلَّا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وانس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ثَبت عَنْهُم الرُّجُوع عَن ذَلِك،وروى سعيد بن مَنْصُور عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى أَنه قَالَ: اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غسل الْقَدَمَيْنِ. وَالله أعلم.
    ...............
    (3/23)
    وَقد روى ابْن مَاجَه حَدِيثا فِيهِ ضعف عَن أبي رَافع: (كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: والاعتماد فِي هَذَا الْبَاب على أَن الْأَثر عَن عَليّ،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَحكي أَيْضا عَن ابْن عمر وَعَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، وَفِي (غَرِيب الحَدِيث) لِابْنِ قُتَيْبَة من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ لرجل يتَوَضَّأ: عَلَيْك بالمنشلة،قَالَ: يَعْنِي مَوضِع الْخَاتم من الإصبع. قلت: المنشلة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَاللَّام.

    ...........
    (3/ 25)
    وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ ونعلاه فِي قدمية مسح ظُهُور نَعْلَيْه بيدَيْهِ،وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع هَكَذَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار،وَرُوِيَ فِي حَدِيث رَوَاهُ عَليّ بن يحيى بن خَلاد عَن أَبِيه عَن عَمه رِفَاعَة بن رَافع: (أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ،وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ) ، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِي ّ فِي (الْكَبِير) . وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عمر: أَنه كَانَ فِي وضوء مُتَطَوّع بِهِ لَا فِي وضوء وَاجِب عَلَيْهِ،وَعَن حَدِيث رِفَاعَة: أَن المُرَاد أَنه مسح بِرَأْسِهِ وخفيه على رجلَيْهِ، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ على عدم الْإِجْزَاء بِالْإِجْمَاع على أَن الْخُفَّيْنِ إِذا تخرقا حَتَّى يَبْدُو القدمان، أَن الْمسْح لَا يجزىء عَلَيْهِمَا،قَالَ: فَكَذَلِك النَّعْلَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يغيبان
    الْقَدَمَيْنِ. قَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِدْلَال صَحِيح، وَلكنه مُنَازع فِي نقل الْإِجْمَاع الْمَذْكُور. وَقلت: غير مُنَازع فِيهِ لِأَن مَذْهَب الْجُمْهُور أَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تضر الْإِجْمَاع، وَلَا يشْتَرط فِيهِ عدد التَّوَاتُر عِنْد الْجُمْهُور. وَرُوِيَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن سعيد،قَالَ: حَدثنَا عبد السَّلَام عَن عبد الْملك،قَالَ: قلت لعطاء: أَبلَغك عَن أحد من أَصْحَاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام انه مسح على الْقَدَمَيْنِ؟قَالَ: لَا.
    ........
    (3/ 25)
    ذكر المطرزي فِي كِتَابه (غرائب أَسمَاء الشّعْر) ، عَن ثَعْلَب عَن سَلمَة عَن الْفراء عَن الْكسَائي،قَالَ: الْعَرَب تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى الْيمن: رجل يمَان ويمني ويماني، وَفِي (الْكتاب الْجَامِع) : النِّسْبَة إِلَى الْيمن: يمَان على غير قِيَاس، وَالْقِيَاس يمني. وَفِي (الْمُحكم) : يمَان على نَادِر المعدول، وألفه عوض عَن الْيَاء لِأَنَّهُ يدل على مَا تدل عَلَيْهِ الْيَاء، وبنحوه ذكره فِي (الْمغرب) . وَفِي (الصِّحَاح) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يَقُول: يماني، بِالتَّشْدِيدِ،قَالَ أُميَّة بن خلف:
    (يَمَانِيا بَطل يشد كيراً ... وينفخ دَائِما لَهب الشواظ)
    وَقوم يَمَانِية ويمانون مثل: ثَمَانِيَة وَثَمَانُونَ، وَفِي كتاب (التيجان) لِابْنِ هِشَام: سميت الْيمن يمناً بيعرب،واسْمه: يمن بن قحطان ابْن عَامر،وَهُوَ: هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،فَلذَلِك قيل: أَرض يمن، وَهُوَ أول من قَالَ الشّعْر ووزنه، وَفِي (مُعْجم) ابْن عبيد: سمي الْيمن قبل أَن تعرف الْكَعْبَة المشرفة، لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس،وَقَالَ ابو عبيد: قَالَ بَعضهم: سميت بذلك لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة. وَقيل: سميت بيمن بن قحطان، وَفِي (الزَّاهِر) لِابْنِ الانباري: وَقد أَيمن ويامن إِذا اتى الْيمن. وَفِي كتاب الرشاطي: سمي الْيمن ليمنه، وَهُوَ يعزى لقطرب.
    ...........
    )3/ 26)
    قَالَ ابْن عَبَّاس: سميت عَرَفَة لِأَن جِبْرِيل قَالَ لإِبْرَاهِيم،عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام: هَل عرفت؟قَالَ: نعم،فَمن ثمَّ سميت: عَرَفَة
    ...........
    (3/ 27)
    مس الرُّكْنَيْنِ اليمانيين: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْفُقَهَاء الْيَوْم على أَن الرُّكْنَيْنِ الشاميين وهما مُقَابلا اليمانيين لَا يستلمان، وَإِنَّمَا كَانَ الْخلاف فِيهِ فِي الْعَصْر الأول بَين بعض الصَّحَابَة وَبَعض التَّابِعين، ثمَّ ذهب الْخلاف. وَتَخْصِيص الرُّكْنَيْنِ اليمانين بالاستلام لِأَنَّهُمَا كَانَا على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف الرُّكْنَيْنِ الآخرين، لِأَنَّهُمَا ليسَا على قَوَاعِد ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما ردهما عبد الله بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استلمها. أَيْضا، لَو بني الْآن كَذَلِك استلمت كلهَا اقْتِدَاء بِهِ، صرح بِهِ القَاضِي عِيَاض. وركن الْحجر الْأسود خص بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خص بالاستلام فَقَط، والآخران لَا يقبلان وَلَا يستلمان. وَكَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى، عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ يمسحهما على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رُوِيَ عَن جَابر وَأنس وَابْن الزبير وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يستلمون الْأَركان كلهَا. وَعَن عُرْوَة مثل ذَلِك. وَاخْتلف عَن مُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس فِي ذَلِك. وَقَالَ أَحدهمَا: لَيْسَ بِشَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا،وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: إلاَّ الرُّكْن الْأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين. وَلما رأى عبيد بن جريج جمَاعَة يَفْعَلُونَ على خلاف ابْن عمر سَأَلَهُ عَن ذَلِك
    ......
    (3/ 27)
    حكم النِّعَال السبتيه،قَالَ ابو عمر: لَا أعلم خلافًا فِي جَوَاز لبسهَا فِي غير الْمَقَابِر، وَحكي عَن ابْن عمر أَنه روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لبسهَا،وَإِنَّمَا كره قوم لبسهَا فِي الْمَقَابِر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الْمَاشِي بَين الْمَقَابِر: (ألق سبيتك) . وَقَالَ قوم: يجوز ذَلِك وَلَو كَانَ فِي الْمَقَابِر،لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اذا وَقع الْمَيِّت فِي قَبره انه يسمع قرع نعَالهمْ) وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي (نَوَادِر الاصول) إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ لذَلِك الرجل: (إلق سبتيتك) لِأَن الْمَيِّت كَانَ يُسأل،فَلَمَّا صر نعل ذَلِك الرجل شغله عَن جَوَاب: الْملكَيْنِ، فكاد يهْلك لَوْلَا أَن ثبته الله تَعَالَى
    .......
    (3،/28)
    فَيَنْبَغِي للرجل إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يحرم فِي دبرهما، كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا بعد أَن ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء، فروى أَولا عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِذِي الْخَلِيفَة
    أَتَى براحلته فركبها، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ الْبَيْدَاء أهلَّ،ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا فاستحبوا الْإِحْرَام من اليبداء لإحرام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
    لإحرام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا. وَأَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم الْأَئِمَّة الاربعة وَأكْثر أَصْحَابهم،فَإِنَّهُم قَالُوا: سنة الْإِحْرَام أَن يكون من ذِي الحليفة
    قَالَ الشَّافِعِي: يهل إِذا أخذت نَاقَته فِي الْمَشْي، وَحين كَانَ يركب رَاحِلَته قَائِمَة كَمَا يَفْعَله كثير من الْحجَّاج الْيَوْم،وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي رِوَايَة: (اهل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا اسْتَوَت النَّاقة) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته) ،وَفِي أُخْرَى: (حَتَّى تنبعث بِهِ نَاقَته) ، وكل ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ
    .......
    (3/ 31)
    قَالَ الشَّيْخ محيي الدّين: هَذِه قَاعِدَة مستمرة فِي الشَّرْع،وَهِي أَن مَا كَانَ من بَاب التكريم والتشريف: كلبس الثَّوْب والسراويل والخف وَدخُول الْمَسْجِد والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشَّارِب وترجيل الشّعْر ونتف
    الابط وَحلق الراس وَالسَّلَام من الصَّلَاة وَغسل أَعْضَاء الطَّهَارَة وَالْخُرُوج إِلَى الْخَلَاء وَالْأكل وَالشرب والمصافحة واستلام الْحجر الْأسود، وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، يسْتَحبّ التَّيَامُن فِيهِ؛وَأما مَا كَانَ بضده: كدخول الْخَلَاء وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثَّوْب والسراويل والخف وَمَا أشبه ذَلِك، فَيُسْتَحَب التياسر فِيهِ،وَيُقَال: حَقِيقَة الشَّأْن مَا كَانَ فعلا مَقْصُودا، وَمَا يسْتَحبّ فِيهِ التياسر لَيْسَ من الْأَفْعَال الْمَقْصُودَة، بل هِيَ إِمَّا تروك وَإِمَّا غير مَقْصُودَة.

    ............
    (3/ 33)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن لَا إِعَادَة على من بَدَأَ بيساره فِي وضوئِهِ قبل يَمِينه وروينا عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَنَّهُمَا قَالَا: (لَا تبالي بِأَيّ شَيْء بدأت) . زَاد الدَّارَقُطْنِي ّ: أَبَا هُرَيْرَة، وَنقل المرتضى الشِّيعَة عَن الشَّافِعِي فِي (الْقَدِيم) : وجوب تَقْدِيم الْيَمين على الْيُسْرَى، وَنسب المرتضى فِي ذَلِك إِلَى الْغَلَط، فَكَأَنَّهُ ظن أَن ذَلِك لَازم من وجوب التَّرْتِيب عِنْد الشَّافِعِي،وَقَالَ [قع النَّوَوِيّ [/ قع: أجمع الْعلمَاء على أَن تَقْدِيم الْيَمين فِي الْوضُوء سنة من خالفها فَاتَهُ الْفضل وَتمّ وضوؤه،وَالْمرَاد من قَوْله: الْعلمَاء أهل السّنة، لِأَن مَذْهَب الشِّيعَة الْوُجُوب، وَقد صحف العمراني فِي (الْبَيَان) والبندنيجي فِي (التَّجْرِيد) . الشِّيعَة، بالشين الْمُعْجَمَة، بالسبعة من الْعدَد فِي نسبتها القَوْل بِالْوُجُوب إِلَى الْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَفِي كَلَام الرَّافِعِيّ أَيْضا مَا يُوهم أَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن صَاحب (الْمُغنِي) قَالَ: لَا نعلم فِي عدم الْوُجُوب خلافًا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،قَالَ: (إِذا توضأتم فابدأوا بميامنكم) . وَفِي أَكثر طرقه: (بأيامنكم) ،جمع: أَيمن، (إِذا لبستم وَإِذا توضأتم) . قلت: الْأَمر فِيهِ للاستحباب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاعْلَم أَن الِابْتِدَاء باليسار، وَإِن كَانَ مجزئاً، فَهُوَ مَكْرُوه، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ فِي (الام) ،وَقَالَ ايضا: ثمَّ اعْلَم أَن من الْأَعْضَاء فِي وَالْوُضُوء مَا لَا يسْتَحبّ فِيهِ التَّيَامُن وَهُوَ: الأذنان والكفان والخدان، بل يطهران دفْعَة وَاحِدَة، فَإِن تعذر ذَلِك كَمَا فِي حق الأقطع وَنَحْوه قدم الْيَمين،وَمِمَّا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عمر قَالَ: خير الْمَسْجِد الْمقَام ثمَّ ميامن الْمَسْجِد. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب، يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن من الْمَسْجِد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُعجبهُ أَن يقوم عَن يَمِين الإِمَام، وَكَانَ أنس يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن، وَكَذَا عَن الْحسن وَابْن سِيرِين
    ......
    (3/ 34)
    وَقَالَ الْمُزنِيّ، نبع المَاء بَين أَصَابِعه أعظم مِمَّا أوتيه مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين ضرب بعصاه الْحجر فِي الأَرْض، لِأَن المَاء مَعْهُود أَن يتفجر من الْحِجَارَة، وَلَيْسَ بمعهود أَن يتفجر من بَين الْأَصَابِع،وَقَالَ غَيره: وَأما من لحم وَدم فَلم يعْهَد من غَيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهَذِه الْقَضِيَّة رَوَاهَا الثِّقَات من الْعدَد الْكثير عَن الجم الْغَفِير عَن الكافة مُتَّصِلا عَمَّن حدث بهَا من جملَة الصَّحَابَة، وأخبارهم أَن ذَلِك كَانَ فِي مَوَاطِن اجْتِمَاع الْكثير مِنْهُم من محافل الْمُسلمين وَمجمع العساكر، وَلم يرو وَاحِد من الصَّحَابَة مُخَالفَة للراوي فِيمَا رَوَاهُ، وَلَا إِنْكَار عَمَّا ذكر عَنْهُم أَنهم رَأَوْهُ كَمَا رَآهُ، فسكوت السَّاكِت مِنْهُم كنطق النَّاطِق مِنْهُم، إِذْ هم المنزهون عَن السُّكُوت على الْبَاطِل، والمداهنة فِي كذب وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَة وَلَا رهبة تمنعهم، فَهَذَا النَّوْع كُله مُلْحق بالقطعي من معجزاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،وَفِيه رد على ابْن بطال حَيْثُ قَالَ فِي شَرحه: هَذَا الحَدِيث شهده جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، إلاَّ أَنه لم يروَ إلاَّ من طَرِيق أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ، وَالله تَعَالَى أعلم لطول عمره، وَيطْلب النَّاس الْعُلُوّ فِي السَّنَد.
    .............
    (3/ 35)
    ويروى عَن عَطاء أَن نجس الشّعْر،وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة رد قَول الشَّافِعِي: إِن شعر الانسان إِذا فَارق الْجَسَد نجس، وَإِذا وَقع فِي المَاء نجسه، إِذْ لَو كَانَ نجسا لما جَازَ اتِّخَاذه خيوطاً وحبالاٌ. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه طَاهِر،وَكَذَا شعر الْميتَة والأجزاء الصلبة الَّتِي لَا دم فِيهَا: كالقرون والعظم وَالسّن والحافر والظلف والخف وَالشعر والوبر وَالصُّوف والعصب والريش والأنفحة الصلبة، قَالَه فِي (الْبَدَائِع)
    .........
    (3/36)
    وَعَن القَاضِي ابي الطّيب: الشّعْر وَالصُّوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الْحَيَاة وتنجس بِالْمَوْتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَب، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزنِيّ والبويطي وَالربيع وحرملة عَن الشَّافِعِي، وروى ابراهيم الْبكْرِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه رَجَعَ عَن تنجيس شعر الْآدَمِيّ، وَحَكَاهُ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن شُرَيْح عَن الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي، وَحكى الرّبيع الجيزي عَن الشَّافِعِي أَن الشّعْر تَابع للجلد يطهر بِطَهَارَتِهِ وينجس بِنَجَاسَتِهِ،قَالَ: وَأما شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يّ: فِي الشّعْر خلاف، فَإِن عَطاء يرْوى عَنهُ أَنه نجسه. قلت: يُشِير بذلك إِلَى أَن اسْتِدْلَال البُخَارِيّ بِمَا روى عَن عَطاء فِي طَهَارَة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر نظر،ثمَّ قَالَ: وَرَأى ابْن الْمُبَارك رجلا أَخذ شَعْرَة من لحيته ثمَّ جعلهَا فِي فِيهِ،فَقَالَ لَهُ: مَه، أترد الْميتَة إِلَى فِيك؟ فاما شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مكرم مُعظم خَارج عَن هَذَا. قلت: قَول الْمَاوَرْدِيّ: واما شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ، يدل على أَن لَهُم قولا بِغَيْر ذَلِك، فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك القَوْل. وَقد اخترق بعض الشَّافِعِيَّة، وَكَاد أَن يخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام،حَيْثُ قَالَ: وَفِي شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَان، وحاشا شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذَلِك، وَكَيف قَالَ هَذَا وَقد قيل بِطَهَارَة فضلاته فضلا عَن شعره الْكَرِيم؟وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّمَا قسم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَرعه للتبرك، وَلَا يتَوَقَّف التَّبَرُّك على كَونه طَاهِرا. قلت: هَذَا أشنع من ذَلِك، وَقَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة نَحْو ذَلِك،ثمَّ قَالُوا: الَّذِي أَخذ كَانَ يَسِيرا معفواً عَنهُ. قلت: هَذَا أقبح من الْكل، وغرضهم من ذَلِك تمشية مَذْهَبهم فِي تنجيس شعر بني آدم، فَلَمَّا أورد عَلَيْهِم شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أولُوا هَذِه التأويلات الْفَاسِدَة، وَقَالَ بعض شرَّاح البُخَارِيّ فِي بَوْله وذنه وَجْهَان والأليق الطَّهَارَة وَذكر القَاضِي حُسَيْن فِي الْعذرَة وَجْهَيْن، وَأنكر بَعضهم على الْغَزالِيّ حكايتهما فِيهَا، وَزعم نجاستها بالِاتِّفَاقِ. قلت: يَا للغزالي من هفوات حَتَّى فِي تعلقات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة أَن جمَاعَة شربوا دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهُم أَبُو طيبَة الْحجام، وَغُلَام من قُرَيْش حجم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعبد الله بن الزبير شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِي ّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) . ويروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرُوِيَ أَيْضا أَن أم أَيمن شربت بَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْن ِيّ وَالطَّبَرَانِي ّ وَأَبُو نعيم، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي رِوَايَة سلمى امْرَأَة ابي رَافع أَنَّهَا شربت بعض مَاء غسل بِهِ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهَا حرم الله بدنك على النَّار. وَقَالَ بَعضهم: الْحق أَن حكم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،كَحكم جَمِيع الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام التكليفية: إلاَّ فِيمَا يخص بِدَلِيل. قلت: يلْزم من هَذَا أَن يكون النَّاس مساويين للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا يَقُول بذلك إلاَّ جَاهِل غبي، وَأَيْنَ مرتبته من مَرَاتِب النَّاس؟ وَلَا يلْزم أَن يكون دَلِيل الْخُصُوص بِالنَّقْلِ دَائِما، وَالْعقل لَهُ مدْخل فِي تميز النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غَيره فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء، وَأَنا اعْتقد أَنه لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، وَإِن قَالُوا غير ذَلِك فاذني عَنهُ صماء
    ..........
    (3/ 36)
    وَقصد البُخَارِيّ بذلك إِثْبَات طَهَارَة الْكَلْب وطهارة سُؤْر الْكَلْب. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يّ: أرى أَبَا عبد الله عَنى نَحْو تَطْهِير الْكَلْب حَيا، وأباح سؤره، لما ذكره من هَذِه الْأَخْبَار، وَهِي لعمري صَحِيحَة، إلاَّ أَن فِي الِاسْتِدْلَال بهَا على طَهَارَة الْكَلْب نظرا،
    ...........
    (3/ 37)
    لما جَازَ أتخاذ شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والتبرك بِهِ لطارته ونظافته، دلّ على أَن مُطلق الشّعْر طَاهِر، أَلا تى أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ، جعل فِي قلنسوته من شعر رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَانَ يدْخل بهَا فِي الْحَرْب ويستنصر ببركته، فَسَقَطت عَنهُ يَوْم الْيَمَامَة، فَاشْتَدَّ عَلَيْهَا شدَّة، وَأنكر عَلَيْهِ الصَّحَابَة،فَقَالَ: إِنِّي لم افْعَل ذَلِك لقيمة القلنسوة. لَكِن كرهت أَن تقع بأيدي الْمُشْركين وفيهَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. ثمَّ إِن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ على أَن الشّعْر طَاهِر وإلاَّ لما حفظوه، وَلَا تمنى عُبَيْدَة أَن تكون عِنْده شَعْرَة وَاحِدَة مِنْهُ، وَإِذا كَانَ طَاهِرا فالماء الَّذِي يغسل بِهِ طَاهِر
    ..........
    (3/ 38)
    من كَانَ الحالق لرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟قلت: اخْتلفُوا فِيهِ،قيل: هُوَ خرَاش بن امية، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة أَيْضا. وَقيل: معمر بن عبد الله، وَهُوَ الصَّحِيح، وَكَانَ خرَاش هُوَ الحالق بِالْحُدَيْبِية
    ..........
    (3/ 39)
    وروى الطَّحَاوِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش،وَعنهُ عَن عَطاء: لَا بَأْس بِثمن الْكَلْب، فَهَذَا قَول عَطاء، رَضِي الله عَنهُ، وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ثمن الْكَلْب من السُّحت، وَعنهُ عَن ابْن شهَاب أَنه إِذا قتل الْكَلْب الْمعلم فَإِنَّهُ تقوم قِيمَته فيغرمه الَّذِي قَتله، فَهَذَا الزُّهْرِيّ يَقُول هَذَا، وَقد رُوِيَ عَن ابي بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن ثمن الْكَلْب من السُّحت،وَعنهُ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا بَأْس بِثمن كلب الصَّيْد، وَرُوِيَ عَن مَالك إجَازَة بيع كلب الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية، وَلَا خلاف عَنهُ أَن من قتل كلب صيد أَو مَاشِيَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قِيمَته، وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَنه أجَاز الْكَلْب الضاري فِي الْمهْر وَجعل على قَاتله عشْرين من الْإِبِل، ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) [/ ح
    ...........
    (3/ 41)
    الَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عبد الْملك من أَصْحَاب عَطاء،ثمَّ عَطاء من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة والحفاظ الثِّقَات من أَصْحَاب عَطاء وَأَصْحَاب ابي هُرَيْرَة يَرْوُونَهُ: سبع مَرَّات، وَفِي ذَلِك دلَالَة على خطأ رِوَايَة عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة فِي الثَّلَاث، وَعبد الْملك لَا يقبل مِنْهُ مَا يُخَالف الثِّقَات، ولمخالفته أهل الْحِفْظ والثقة فِي بعض رواياته تَركه شُعْبَة بن الْحجَّاج وَلم يحْتَج بِهِ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : قلت: عبد الْملك أخرج لَهُ مُسلم فِي صَحِيحه،وَقَالَ أَحْمد وَالثَّوْري: هُوَ من الْحفاظ،وَعَن الثَّوْريّ: هُوَ ثِقَة فَقِيه متقن،وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: ثِقَة ثَبت فِي الحَدِيث،وَيُقَال: كَانَ الثَّوْريّ يُسَمِّيه الْمِيزَان
    ..........
    (3/ 41)
    حْمد بن الْحسن الْكَرَابِيسِي يسْأَل مِنْهُ والكرابيسي لَهُ كتب مصنفة ذكر فِيهَا اخْتِلَاف النَّاس فِي الْمسَائِل وَذكر فِيهَا أَخْبَارًا كَثِيرَة، وَكَانَ حَافِظًا لَهَا، وَلم أجد لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، وَالَّذِي حمل عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّمَا هُوَ من أجل اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ. فَأَما فِي الحَدِيث فَلم أر بِهِ بَأْسا
    .......
    (3/ 42)
    واما الطَّحَاوِيّ فَقَالَ،بعد أَن روى الْمَوْقُوف عَن عبد الْملك بن ابي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة: فَثَبت بذلك نسخ السَّبع لِأَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ رَاوِي السَّبع، والراوي إِذا عمل بِخِلَاف رِوَايَته أَو أفتى بِخِلَافِهَا لَا يبْقى حجَّة، لِأَن الصَّحَابِيّ لَا يحل لَهُ أَن يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، ويفتي أَو يعْمل بخلافة إِذْ تسْقط بِهِ عَدَالَته، وَلَا تقبل رِوَايَته، وَإِنَّا نحسن الظَّن بِأبي هُرَيْرَة، فَدلَّ على نسخ مَا رَوَاهُ. وَقد عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَن الْحَنَفِيَّة خالفوا ظَاهر هَذَا الحَدِيث بقوله: يحْتَمل أَن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السَّبع لَا وُجُوبهَا، أَو كَانَ نسي مَا رَوَاهُ، وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يثبت النّسخ، ورد بِأَن هَذَا إساءة الظَّن بَابي هُرَيْرَة، وَالِاحْتِمَال الناشىء من غير دَلِيل لَا يعْتد بِهِ، وادعاء الطَّحَاوِيّ النّسخ مبرهن بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ إِذا حدث عَن ابي هُرَيْرَة،فَقيل لَهُ: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: كل حَدِيث ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَو وَجب الْعَمَل بِرِوَايَة السَّبع وَلَا يَجْعَل مَنْسُوخا لَكَانَ مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مُغفل فِي ذَلِك من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أولى مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة،لِأَنَّهُ زَاد عَلَيْهِ: (وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ) ، وَالزَّائِد أولى من النَّاقِص، وَكَانَ يَنْبَغِي لهَذَا الْمُخَالف أَن يَقُول لَا يطهر إلاَّ بِأَن يغسل ثَمَان مَرَّات الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ، ليَأْخُذ بِالْحَدِيثين جَمِيعًا. فَإِن ترك حَدِيث ابْن مُغفل فقد لزمَه مَا لزمَه خَصمه فِي ترك السَّبع، وَمَعَ هَذَا لم يَأْخُذ بالتعفير الثَّابِت فِي الصَّحِيح مُطلقًا،قيل: إِنَّه مَنْسُوخ.
    فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ بِأَن أَبَا هُرَيْرَة أحفظ من روى فِي دهره، فروايته أولى. أُجِيب: بِالْمَنْعِ، بل رِوَايَة ابْن الْمُغَفَّل أولى لِأَنَّهُ أحد الْعشْرَة الَّذين بَعثهمْ عمر بن الْخطاب،
    قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِلَيْنَا، يفقهُونَ النَّاس، وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَهُوَ أفقه من أبي هُرَيْرَة، وَالْأَخْذ بروايته أحوط، وَلِهَذَا ذهب إِلَيْهِ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحَدِيثه هَذَا أخرجه ابْن مَنْدَه من طَرِيق شُعْبَة،وَقَالَ: اسناده مجمع على صِحَّته، وَرَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه،وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا ولغَ السنور فِي الْإِنَاء يغسل سبع مَرَّات) ، وَلم يعملوا بِهِ، فَكل جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك فَهُوَ جَوَابنَا عَمَّا زَاد على الثَّلَاث، فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَبت أَن أَبَا هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا، وَرِوَايَة من روى عَنهُ مُوَافقَة فتياه لروايته أرجح من رِوَايَة من روى عَنهُ مخالفتها، من حَيْثُ الْإِسْنَاد وَمن حَيْثُ النّظر. اما النّظر فَظَاهر، واما الْإِسْنَاد فالموافقة وَردت من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن ابْن سِيرِين عَنهُ، وَهَذَا من أصح الْأَسَانِيد. واما الْمُخَالفَة فَمن رِوَايَة عبد الْملك ابْن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَنهُ، وَهُوَ دون الأول فِي الْقُوَّة بِكَثِير. أُجِيب: بِأَن قَوْله ثَبت أَن أَبَا هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَمُجَرَّد الدَّعْوَى لَا تسمع، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فقد يحْتَمل أَن يكون فتواه بالسبع قبل ظُهُور النّسخ عِنْده، فَلَمَّا ظهر أفتى بِالثلَاثِ. وَأما دَعْوَى الرجحان فَغير صَحِيحه، لَا من حَيْثُ النّظر وَلَا من حَيْثُ قُوَّة الْإِسْنَاد، لِأَن رجال كل مِنْهُمَا رجال الصَّحِيح
    .أَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تمنع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَهُوَ مَذْهَب كثير من الْأُصُولِيِّين َ. وَقَالُوا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: حَدِيث ابْن مُغفل لم أَقف على صِحَّته، قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِعُذْر، وَقد وقف جمَاعَة كَثِيرُونَ على صِحَّته، وَلَا يلْزم من عدم ثُبُوته عِنْد الشَّافِعِي ترك الْعَمَل بِهِ عِنْد غَيره.
    .......
    (3/ 45)
    دي بن حَاتِم بن عبد الله الطَّائِي، أَبُو طريف،بِفَتْح الطَّاء: الْجواد بن الْجواد، قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة سبع، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا ثَلَاثَة، وَانْفَرَدَ مُسلم بحديثين. نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا زمن الْمُخْتَار، وَهُوَ ابْن عشْرين وَمِائَة سنة،وَيُقَال: مَاتَ بقرقيسيا، وَكَانَ أَعور، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي فِي (كتاب المعمرين) : قَالُوا عَاشَ عدي بن حَاتِم مائَة وَثَمَانِينَ سنة.

    ............
    (3/ 46)
    ا بُد من شُرُوط أَرْبَعَة حَتَّى يحل الصَّيْد. الأول: الْإِرْسَال. وَالثَّانِي: كَونه معلما. وَالثَّالِث: الْإِمْسَاك على صَاحبه بِأَن لَا يَأْكُل مِنْهُ. وَالرَّابِع: أَن يذكر اسْم الله عَلَيْهِ عِنْد الْإِرْسَال. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي التَّسْمِيَة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا سنة فَلَو تَركهَا عمدا أَو سَهوا يحل الصَّيْد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: التَّسْمِيَة وَاجِبَة فَلَو تَركهَا سَهوا أَو عمدا لم يحل. وَقَالَ ابو حنيفَة: لَو تَركهَا عمدا لم يحل وَلَو تَركهَا سَهوا يحل،
    ...........
    (3/ 47)
    اخْتلفُوا فِي الدُّود يخرج من الدبر فَكَانَ عَطاء ابْن ابي رَبَاح وَالْحسن وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو مجلز وَالْحكم وسُفْيَان وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يرَوْنَ مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ قَتَادَة وَمَالك: لَا وضوء فِيهِ، روروي ذَلِك عَن النَّخعِيّ. وَقَالَ مَالك: لَا وضوء فِي الدَّم يخرج من الدبر. انْتهى. ونقلت الشَّافِعِيَّة عَن مَالك أَن النَّادِر لَا ينْقض، والنادر كالمذي يَدُوم لَا بِشَهْوَة فَإِن كَانَ بهَا فَلَيْسَ بنادر، وَكَذَا نقل ابْن بطال عَنهُ،فَقَالَ: وَعند مَالك أَن مَا خرج من المخرجين مُعْتَادا نَاقض،وَمَا خرج نَادرا على وَجه الْمَرَض لَا يقْض الْوضُوء: كالاستحاضة وسلس الْبَوْل ابو والمذي وَالْحجر والدود وَالدَّم. وَقَالَ ابْن حزم: الْمَذْي وَالْبَوْل وَالْغَائِط، من أَي مَوضِع خرجن من الدبر أَو الإحليل أَو المثانة أَو الْبَطن أَو غير ذَلِك من الْجَسَد أَو الْفَم، نَاقض للْوُضُوء لعُمُوم أمره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوضُوءِ مِنْهَا، وَلم يخص موضعا دون مَوضِع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالرِّيح الْخَارِجَة من ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء عندنَا، هَكَذَا ذكره الْكَرْخِي عَن أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة مفضاة، وَهِي الَّتِي صَار مَسْلَك بولها وَوَطئهَا وَاحِدًا، أَو الَّتِي صَار مَسْلَك الْغَائِط وَالْوَطْء مِنْهَا وَاحِدًا.
    .......
    (3/ 48)
    الْخلاف: هَل ينْقض الْوضُوء؟ فَذهب مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه لَا ينْقض، وَذهب النَّخعِيّ وَالْحسن إِلَى أَنه ينْقض الْوضُوء وَالصَّلَاة،وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ مستدلين بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ عَن ابي الْمليح عَن أَبِيه: (بَينا نَحن نصلي خلف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا أقبل رجل ضَرِير الْبَصَر، فَوَقع فِي حُفْرَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من ضحك مِنْكُم فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أنس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأبي هُرَيْرَة، وضعفها كلهَا. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا مذْهبه مثل مَا رُوِيَ عَن جَابر أَن الضحك يبطل الصَّلَاة وَلَا يبطل الْوضُوء، والقهقهة تبطلهما جَمِيعًا، والتبسم لَا يبطلهما، والضحك مَا يكون مسموعا لَهُ دون جِير
    جِيرَانه، والقهقهة مَا يكون مسموعاً لَهُ ولجيرانه، والتبسم مَا لَا صَوت فِيهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ دون وَاحِد مِنْهُمَا. فان قَالَ: كَيفَ استدلت الحنيفة بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ الضحك دون القهقهة؟قلت: المُرَاد من قَوْله: من ضحك مِنْكُم قهقهة، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن عمر. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ضحك فِي الصَّلَاة قهقهة فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث بَقِيَّة: حَدثنَا أبي عَمْرو بن قيس عَن عَطاء عَن ابْن عمر، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. فان قيل: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فَإِن بَقِيَّة من عَادَته التَّدْلِيس. قلت: المدلس إِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا زَالَت تُهْمَة التَّدْلِيس، وَبَقِيَّة صرح بِالتَّحْدِيثِ وَهُوَ صَدُوق.
    .........
    (3/ 49)
    قَوْله: حاشا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِحجَّة فِي ترك الْعَمَل فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة، وَكَانَ يُصَلِّي خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة وَغَيرهم من الْمُنَافِقين والأعراب الْجُهَّال، وَهَذَا من بَاب حسن الظَّن بهم، وإلاَّ فَلَيْسَ الضحك كَبِيرَة، وهم لَيْسُوا من الصَّغَائِر بمعصومين وَلَا عَن الْكَبَائِر، على تَقْدِير كَونه كَبِيرَة، وَمَعَ هَذَا وَقع من الْأَحْدَاث فِي حَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هُوَ أَشد من هَذَا. وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور،بعد نَقله كَلَام ابْن الْمُنْذر الَّذِي ذَكرْنَاهُ: على أَنهم لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، بل خصوه بالقهقهة. قلت: هَذَا كَلَام من لَا ذوق لَهُ من دقائق التراكيب، وَكَيف لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك،وَلَو لم يَأْخُذُوا مَا قَالُوا: الضحك يفْسد الصَّلَاة وَلَا خصوه بالقهقهة؟ فَإِن لَفظه القهقهة ذكر صَرِيحًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر صَرِيحًا. وَجَاء أَيْضا لفظ: القرقرة، فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن. وَقد ذكرناهما قَرِيبا، وَقد ذكرنَا أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.

    ..........
    (3/ 50)
    فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع) سميت بإسم شَجَرَة هُنَاكَ،وَقيل: باسم جبل هُنَاكَ فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد وَحُمرَة،يُقَال لَهُ: الرّقاع، فسميت بِهِ. وَقيل: سميت بِهِ لرقاع كَانَت فِي أَلْوِيَتهم. وَقيل: سميت بذلك لِأَن أَقْدَامهم نقبت فلفوا عَلَيْهَا الْخرق، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِأَن أَبَا مُوسَى حَاضر ذَلِك مُشَاهدَة وَقد أخبر بِهِ، وَكَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة أَربع من الْهِجْرَة. وَذكر البُخَارِيّ أَنَّهَا كَانَت بعد خَيْبَر، لِأَن أَبَا مُوسَى جَاءَ بعد خَيْبَر
    ...........
    (3/ 51)
    أَن خُرُوج الدَّم وسيلانه من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الْوضُوء، فَإِنَّهُ لَو كَانَ ناقضاً للطَّهَارَة لكَانَتْ صَلَاة الْأنْصَارِيّ بِهِ تفْسد أول مَا أَصَابَهُ الرَّمية، وَلم يكن يجوز لَهُ بعد ذَلِك أَن يرْكَع وَيسْجد وَهُوَ مُحدث، وَاحْتج أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة بِأَحَادِيث كَثِيرَة أقواها وأصحها مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم. قَالَ هِشَام: قَالَ أبي: ثمَّ توضيء لكل صَلَاة حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت)
    ...........
    (3/ 51)
    ن البُخَارِيّ كَانَ يرى أَن خُرُوج الدَّم فِي الصَّلَاة لَا يبطل، بِدَلِيل أَنه ذكر عقيب هَذَا الحَدِيث اثر الْحسن الْبَصْرِيّ،قَالَ: مَا زَالَ الْمُسلمُونَ يصلونَ فِي جراحاتهم. قلت: هَذَا أعجب من الْكل وَأبْعد من الْعقل، وَكَيف يجوز هَذَا الْقَائِل نِسْبَة جَوَاز الصَّلَاة مَعَ خُرُوج الدَّم فِيهَا مَعَ غير دَلِيل قوي إِلَى البُخَارِيّ؟ وَأثر الْحسن لَا يدل على شَيْء من ذَلِك أصلا،لِأَنَّهُ لَا يلْزم من قَوْله: (يصلونَ فِي جراحاتهم) ، أَن يكون الدَّم خَارِجا وقتئذ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة لأَجلهَا بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء، أَو مربوطة بجبيرة، وَمَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك تفْسد صلَاته بِمُجَرَّد الْخُرُوج، وَلَا بُد من سيلانه ووصوله إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير.
    وَقَالَ الحَسَنُ مَا زَال المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحاتِهِمْ

    ...........
    (3/ 51)
    وقالَ طَاوُسٌ ومُحمَّدُ بنُ عَلِيٍّ وأهْلُ الحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ
    طَاوس هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي، أحد الْأَعْلَام التَّابِعين وَخيَار عباد الله الصَّالِحين. قَالَ يحيى بن معِين: اسْمه ذكْوَان، وَسمي طاوساً لِأَنَّهُ كَانَ طَاوس الْقُرَّاء، وَوصل أَثَره ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة عَن طَاوس أَنه كَانَ لَا يرى فِي الدَّم السَّائِل وضوء يغسل مِنْهُ الدَّم ثمَّ حَبسه، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة لَهُم لأَنهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِفعل التَّابِعِيّ،وَلَا هُوَ حجَّة على الْحَنَفِيَّة من وَجْهَيْن: الأول: أَنه لَا يدل على أَن طاوساً كَانَ يُصَلِّي وَالدَّم سَائل. وَالثَّانِي: وَإِن سلمنَا ذَلِك،فالمنقول عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول: التابعون رجال وَنحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم، وَالْمعْنَى أَن أحدا مِنْهُم إِذا أدّى
    اجْتِهَاده إِلَى شَيْء لَا يلْزمنَا الْأَخْذ بِهِ، بل نجتهد كَمَا اجْتهد هُوَ، فَمَا أدّى اجتهادنا إِلَيْهِ عَملنَا بِهِ وَتَركنَا اجْتِهَاده.
    ...........
    (3/52)
    روى هَذَا مَوْصُولا فِي (فَوَائِد) الْحَافِظ أبي بشر الْمَعْرُوف بسمويه، من طَرِيق الْأَعْمَش،قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر الباقر عَن الرعاف،فَقَالَ: لَو سَالَ نهر من دم مَا أعدت مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا مُحَمَّد بن عَلَيْهِ الْمَشْهُور بِابْن الحنيفة، وَالظَّاهِر الاول. وَاعْلَم أَن جَمِيع مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ بِحجَّة على الْحَنَفِيَّة، فَإِن كَانَ من أَقْوَال الصَّحَابَة فَكل وَاحِد لَهُ تَأْوِيل ومحمل صَحِيح، وَإِن كَانَ من قَول التَّابِعين فَلَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِم، لما ذكرنَا عَن ابي حنيفَة الْآن. وَأما عَطاء فَهُوَ ابْن أبي رَبَاح وأثره وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ
    اسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ: إلاَّ أَن يكون دَمًا سَائِلًا، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ . قَالَ ابو عمر: وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَعبيد الله بن الْحسن وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَإِن كَانَ الدَّم يَسِيرا غير خَارج وَلَا سَائل فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء عِنْد جَمِيعهم، وَمَا أعلم أحدا أوجب الْوضُوء من يسير الدَّم إلاَّ مُجَاهدًا وَحده.
    وعَصَر ابنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ ولَمْ يَتَوضَّا
    وَصله ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح:
    .......
    ( 3/53)
    عَلْقَمَة بن الْحَارِث الصَّحَابِيّ بن الصَّحَابِيّ، شهد بيعَة الرضْوَان وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ سنة سبع وَثَمَانِينَ، وَقد كف بَصَره، وَهُوَ أحد من رَآهُ أَبُو حنيفَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الْمُنكر المتعصب: وَكَانَ عمر أبي حنيفَة حِينَئِذٍ سبع سِنِين، وَهُوَ سنّ التَّمْيِيز. هَذَا على الصَّحِيح إِن مولد أبي حنيفَة سنة ثَمَانِينَ، وعَلى قَول من قَالَ: سنة سبعين، يكون عمره حِينَئِذٍ سَبْعَة عشر سنة، ويستبعد جدا أَن يكون صَحَابِيّ مُقيما ببلدة، وَفِي أَهلهَا من لَا يكون رَآهُ وَأَصْحَابه أخبر بِحَالهِ وهم ثِقَات فِي أنفسهم
    ...........
    (3/ 57)
    قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فَيحْتَمل أَن يكون عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، لما بعث من بعث رَآهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي غُضُون الْبعْثَة شاحباً، وَنزل على جَوَابه عَن ذَلِك بِمَنْزِلَة السُّؤَال ابْتِدَاء تجوزاً. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ الْكَبِير) من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يدْخل فِي إحليله الفيلة من كَثْرَة الْمَذْي، وَفِي حَدِيث حسان بن عبد الرَّحْمَن الضبعِي عِنْد ابي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ، قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَو اغتسلتم من الْمَذْي كَانَ أَشد عَلَيْكُم من الْحيض) . وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الدَّارَقُطْنِي ّ وَقَالَ: (لَا يَصح أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي كلما تَوَضَّأت سَالَ، فَقَالَ: إِذا تَوَضَّأت فَسَالَ من قرنك إِلَى قدمك فَلَا وضوء عَلَيْك)
    .......
    (3/ 58)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن الْأمة مجمعة الْآن على وجوب الْغسْل بِالْجِمَاعِ، وَإِن لم يكن مَعَه إِنْزَال، وعَلى وُجُوبه بالإنزال، وَكَانَت جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَنه لَا يجب إلاَّ بالإنزال، ثمَّ رَجَعَ بَعضهم وانعقد الْإِجْمَاع بعد الآخرين. وَفِي (الْمحلى) : وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن
    بشير وَزيد بن ثَابت وَجُمْهُور الْأَنْصَار وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وَبَعض أَصْحَاب الظَّاهِر. وَقَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ إِيجَاب الْغسْل عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأَبُو بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَابْن عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن ابي طَالب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس والمهاجرين. قلت: وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَبَعض أَصْحَاب الظَّاهِر وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري
    .......
    (3/ 61)
    مَا قَالَه النَّوَوِيّ: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء، وَهِي على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا أَن يَسْتَعِين فِي إِحْضَار المَاء فَلَا كَرَاهِيَة فِيهِ. الثَّانِي: أَن يَسْتَعِين فِي غسل الْأَعْضَاء ويباشر الْأَجْنَبِيّ بِنَفسِهِ غسل الْأَعْضَاء فَهَذَا مَكْرُوه إلاَّ لحَاجَة. الثَّالِث: أَن يصب عَلَيْهِ، فَهَذَا مَكْرُوه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَالْأولَى تَركه. قلت: فِيهِ حزازة لِأَن مَا فعل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يُقَال فِيهِ: الأولى تَركه، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يتحَرَّى إلاَّ مَا فعله أولى ثمَّ إِذا قيل: الأولى تَركه، كَيفَ يُنَازع فِي كَرَاهَته وَلَيْسَ حَقِيقَة الْمَكْرُوه إلاَّ ذَلِك؟ كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا حَقِيقَة الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّنْزِيه لَا الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّحْرِيم. وَقَالَ ابْن بطال: وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ من صب المَاء عَلَيْهِ أَنه يجوز للرجل أَن يوضئه غَيره لِأَنَّهُ لما لزم المتوضىء اغتراف المَاء من الْإِنَاء بأعضائه، جَازَ لَهُ أَن يَكْفِيهِ ذَلِك غَيره بِدَلِيل صب أُسَامَة. والاغتراف بعض أَعمال الْوضُوء، فَكَذَلِك يجوز سَائِر أَعماله، وَهَذَا من بَاب القربات الَّتِي يجوز أَن يعملها الرجل عَن غَيره، بِخِلَاف الصَّلَاة. وَلما أَجمعُوا أَنه جَائِز للْمَرِيض أَن يوضئه غَيره، وييممه إِذا لم يسْتَطع، وَلَا يجوز أَن يُصَلِّي عَنهُ إِذا لم يسْتَطع، ذدل أَن حكم الْوضُوء بِخِلَاف حكم الصَّلَاة.
    .........
    (ج3/ 61)
    لحَدِيث هُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَنا لَا أستعين فِي وضوئي بِأحد) قَالَه لعمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقد بَادر ليصب المَاء على يَدَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) بسياق آخر، فَقَالَ: رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هم بصب المَاء على يَد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (فَقَالَ: أَنا لَا أحب أَن يشاركني فِي وضوئي أحد) ، وَهَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ، وَالَّذِي وَقع على زعم الرَّاوِي كَانَ لعمر، رَضِي الله عَنهُ، دون أبي بكر، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: مَا أُبَالِي أعانني رجل على طهوري اَوْ على ركوعي وسجودي، وَثَبت عَن ابْن عمر خلاف مَا ذكر عَنهُ، فروى شُعْبَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يسْكب على ابْن عمر المَاء فَيغسل رجلَيْهِ، وهذ أصح عَن ابْن عمر، إِذا رَاوِي الْمَنْع رجل اسْمه أَيفع وَهُوَ مَجْهُول، والْحَدِيث عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، لَا يَصح لِأَن رَاوِيه النَّضر بن مَنْصُور عَن ابي الْجنُوب عَنهُ، وهما غير حجَّة فِي الدّين وَلَا يعْتد بنقلهما. وَقَالَ الْبَزَّار فِي كتاب (السّنَن) : لَا نعلمهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من هَذَا الْوَجْه،
    وَقَالَ الْبَزَّار فِي كتاب (السّنَن) : لَا نعلمهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من حَدِيث النَّضر عَن أبي الْجنُوب عقبَة بن عَلْقَمَة. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد فِيمَا ذكره ابْن عدي: قلت ليحيى: مَا حَال هَذَا السَّنَد؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ حمالَة الْحَطب وَتَمام الحَدِيث أخرجه، الْبَزَّار فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأَبُو يعلى فِي مُسْنده من طَرِيق النَّضر بن مَنْصُور عَن أبي الْجنُوب،
    وَأَبُو يعلى فِي مُسْنده من طَرِيق النَّضر بن مَنْصُور عَن أبي الْجنُوب، قَالَ: رَأَيْت عليا، رَضِي الله عَنهُ يَسْتَقِي المَاء لطهوره، فبادرت استقى لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْجنُوب {فَإِنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه، فبادرت استقى لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْحسن} فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا عمر فَإِنِّي لَا أُرِيد أَن يُعِيننِي على وضوئي أحد) .
    .........
    (3/ 62)
    عْلِيق البُخَارِيّ قَول مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مُشْتَمل على الْقسمَيْنِ: أَحدهمَا: قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث، وَالثَّانِي: كِتَابَة الرسائل فِي حَالَة الْحَدث
    وَاخْتلفُوا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام. فَعَن ابي حنيفَة أَنه يكره، وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه لَا يكره، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل خَاص، قلت: إِنَّمَا كره أَبُو حنيفَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام لِأَن حكمه حكم بَيت الْخَلَاء، لِأَنَّهُ مَوضِع النَّجَاسَة، وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْحمام نجس عِنْده، وَعند مُحَمَّد طَاهِر، فَلذَلِك لم يكرهها.
    ..........
    (3/ 65)
    قَالَ ابْن بطال فِيهِ رد على من كره قِرَاءَة الْقُرْآن على غير طَهَارَة لمن لم يكن جنبا، وَهِي الْحجَّة الكافية فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَرَأَ الْعشْر الْآيَات بعد قِيَامه من النّوم قبل الْوضُوء، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
    .........
    _(3/66)
    احْتج البُخَارِيّ فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس بقوله تَعَالَى {وامسحو برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) واحتجاجه بِهِ إِنَّمَا يتم إِذا كَانَت: الْبَاء، زَائِدَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى.
    وقالَ ابنُ المُسَيَّبِ المَرْأةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا
    ........
    (3/ 68)
    وَسُئِلَ مالِكٌ: أيُجْزِىءُ أنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ

    عبد الله بن زيد، قَالَ: (مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وضوئِهِ من ناصيته إِلَى قَفاهُ، ثمَّ رد يَدَيْهِ إِلَى ناصيته فَمسح رَأسه كُله) . وَقَالَ بَعضهم: مَوضِع الدّلَالَة من الحَدِيث وَالْآيَة: ان لفظ الْآيَة مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مسح الْكل، عَن أَن: الْبَاء، زَائِدَة، أَو مسح الْبَعْض على أَنَّهَا تبعيضية، فَتبين بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد الأول
    (فاحتج) اي: مَالك احْتج بِحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي سَاقه هُنَا على عدم الْإِجْزَاء فِي مسح بعض الرَّأْس، وَالْمعْنَى: أَنه لما سُئِلَ عَن مسح الرَّأْس روى هَذَا الحَدِيث وَاحْتج بِهِ على أَنه لَا يجوز أَن يقْتَصر بِبَعْض الرَّأْس.
    ........
    (3/70)
    مَّ، تسْتَعْمل لثَلَاثَة معَان: التَّشْرِيك فِي الحكم، وَالتَّرْتِيب، والمهلة. مَعَ أَن فِي كل وَاحِد خلافًا، وَالْمرَاد من التَّرْتِيب هُوَ التَّرْتِيب فِي الْإِخْبَار لَا التَّرْتِيب فِي الحكم مثل مَا يُقَال بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب! أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب.
    ............
    (3/70)
    سل الْيَد قبل شُرُوعه فِي الْوضُوء، وَذكر هُنَا مرَّتَيْنِ، وَذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، ثمَّ إِن هَذَا الْغسْل لَيْسَ من سنَن الْوضُوء وَلَا من الْفُرُوض، وَذهب دَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء ينجس إِن لم تكن الْيَد مغسولة.
    وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة؛ وَقَالَ مَالك: السّنة أَن يغسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء مرَّتَيْنِ، كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث. قلت: فِيهِ أَقْوَال خَمْسَة: الأول: إِنَّه سنة، وَهُوَ الْمَشْهُور عندنَا، كَذَا فِي (الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) وَيدل عَلَيْهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتَوَضَّأ قطّ إلاَّ غسل يَدَيْهِ. وَفِي (الْمَنَافِع) تَقْدِيم غسلهمَا إِلَى الرسغين سنة تنوب عَن الْفَرْض، كالفاتحة تنوب عَن الْوَاجِب وَفرض الْقِرَاءَة. الثَّانِي: إِنَّه مُسْتَحبّ للشَّاكِّ فِي طَهَارَة يَده، كَذَا رُوِيَ عَن مَالك. الثَّالِث: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، قَالَ أَحْمد. الرَّابِع: إِن من شكّ: هَل أَصَابَت يَده نَجَاسَة أم لَا؟ يجب غسلهمَا فِي مَشْهُور مَذْهَب مَالك. الْخَامِس: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من النّوم مُطلقًا، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأَصْحَابه. وَفِي الْحَوَاشِي تَقْدِيم غسل الْيَدَيْنِ للمستيقظ يتْرك بِالْحَدِيثِ، وإلاَّ فسببه شَامِل لَهُ وَلغيره.
    الثَّانِي: فِيهِ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَا ق، وهما سنتَانِ فِي الْوضُوء، فرضان فِي الْغير
    ...........
    (3/71)
    مَا قَالَه الْبَعْض. وَقد أنكر بعض أهل الْعَرَبيَّة كَون: الْبَاء، للتَّبْعِيض، وَقَالَ ابْن برهَان: من زعم أَن: الْبَاء، تفِيد التَّبْعِيض فقد جَاءَ أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعْرفُونَ، وَقد جعل الْجِرْجَانِيّ معنى الإلصاق فِي: الْبَاء، أصلا وَإِن كَانَت تَجِيء لمعانٍ كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن هَاشم: أثبت مَجِيء: الْبَاء، للتَّبْعِيض الْأَصْمَعِي والفارسي والقتبي وَابْن مَالك. قيل: والكوفيون، وَجعلُوا مِنْهُ: {عينا يشرب بهَا عباد الله} (الْإِنْسَان: 6) قيل وَمِنْه: {وامسحوا برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) فَالظَّاهِر
    أَن: الْبَاء، فيهمَا للإلصاق. وَقيل: هِيَ فِي آيَة الْوضُوء للاستعانة، وَإِن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا، فَإِن: مسح، يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ، وَإِلَى المزيل: بِالْبَاء، فَالْأَصْل امسحوا رؤوسكم بِالْمَاءِ. فان قلت: أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (النِّسَاء: 43) ، ثمَّ الإستيعاب فِيهِ شَرط؟
    .........
    (3/72)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَأحسن مَا حمل عَلَيْهِ أَصْحَابنَا حَدِيث الْمسْح على الْعِمَامَة أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَعَلَّه كَانَ بِهِ مرض مَنعه كشف رَأسه، فَصَارَت الْعِمَامَة كالجبيرة الَّتِي يمسح عَلَيْهَا للضَّرُورَة. وَقَالَ بَعضهم: فَإِن قيل: فَلَعَلَّهُ اقْتصر على مسح الناصية لعذر لِأَنَّهُ كَانَ فِي سفر، وَهُوَ مَظَنَّة الْعذر، وَلِهَذَا مسح على الْعِمَامَة بعد مسح الناصية، كَمَا هُوَ ظَاهر سِيَاق مُسلم من حَدِيث الْمُغيرَة. قُلْنَا: قد رُوِيَ عَنهُ مسح مقدم الرَّأْس من غير مسح على الْعِمَامَة. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من حَدِيث عَطاء: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فحسر الْعِمَامَة عَن رَأسه وَمسح مقدم رَأسه) ، وَهُوَ مُرْسل، لكنه اعتضد من وَجه آخر مَوْصُولا، أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس. وَفِي إِسْنَاده أَبُو معقل لَا يعرف حَاله، فقد اعتضد كل من الْمُرْسل والموصول بِالْآخرِ، وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل من أعجب الْعَجَائِب لِأَنَّهُ يَدعِي أَن الْمُرْسل غير حجَّة عِنْد إِمَامه، ثمَّ يَدعِي أَنه اعتضد بِحَدِيث مَوْصُول ضَعِيف باعترافه هُوَ، ثمَّ يَقُول: وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة، فَكيف تحصل الْقُوَّة من شَيْء لَيْسَ بِحجَّة وَشَيْء ضَعِيف؟ فَإِذا كَانَ الْمُرْسل غير حجَّة يكون فِي حكم الْعَدَم، وَلَا يبْقى إلاَّ الحَدِيث الضَّعِيف وَحده، فَكيف تكون الصُّورَة الْمَجْمُوعَة
    .........
    (3/73)
    لمَاء الَّذِي يتقاطر عَن أَعْضَاء المتوضىء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يَقُول لَهُ الْفُقَهَاء: المَاء الْمُسْتَعْمل. وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ؛ فَعَن ابي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات: فروى عَنهُ أَبُو يُوسُف أَنه نجس مخفف، وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه نجس مغلظ، وروى مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر وعافية القَاضِي أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر. وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الْأَشْهر الأقيس. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) : وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الأسبيجابي: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ قاضيخان: وَرِوَايَة التَّغْلِيظ رِوَايَة شَاذَّة غير مَأْخُوذ بهَا، وَبِه يرد على ابْن حزم قَوْله: الصَّحِيح عَن ابي حنيفَة نَجَاسَته. وَقَالَ عبد الحميد القَاضِي: أَرْجُو أَن لَا تثبت رِوَايَة النَّجَاسَة فِيهِ عَن ابي حنيفَة. وَعند مَالك طَاهِر وطهور، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر. وَعند الشَّافِعِي طَاهِر غير طهُور وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد. وَعند زفر إِن كَانَ مستعمله طَاهِرا فَهُوَ طَاهِر وطهور، وَإِن مُحدثا فَهُوَ طَاهِر غير طهُور
    (3/76)
    قَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: خَاتم النُّبُوَّة أثر بَين كَتفيهِ، نعت بِهِ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ عَلامَة يعلم بهَا أَنه النَّبِي الْمَوْعُود، وصيانة لنبوته عَن تطرق الْقدح إِلَيْهَا صِيَانة الشَّيْء المستوثق بالختم.
    ..........ز
    (3/78)
    ل كَانَ خَاتم النُّبُوَّة بعد ميلاده أَو ولد هُوَ مَعَه؟ قلت: قيل: ولد وَهُوَ مَعَه، وَعَن ابْن عَائِد فِي (مغازيه) بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّاد بن أَوْس، فَذكر حَدِيث الرَّضَاع وشق الصَّدْر، وَفِيه: وَأَقْبل الثَّالِث. يعين الْملك وَفِي يَده خَاتم لَهُ شُعَاع فَوَضعه بَين كَتفيهِ وثدييه، وَوجد برده زَمَانا. وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم: أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ولد ذكرت أمه أَن الْملك غمسه فِي المَاء الَّذِي أنبعه ثَلَاث غمسات، ثمَّ أخرج صرة من حَرِير أَبيض، فَإِذا فِيهَا خَاتم، فَضرب على كَتفيهِ كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أَيْن كَانَ مَوْضِعه؟ قلت: قد رُوِيَ أَنه بَين كَتفيهِ. وَقيل: كَانَ على نغض كتفه اليسى، لِأَنَّهُ يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ الشَّيْطَان إِلَى بَاطِن الْإِنْسَان، فَكَانَ هَذَا عصمَة لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّيْطَان. وَذكر أَبُو عمرَان، مَيْمُون بن مهْرَان، ذكر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ: أَن رجلا سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان مِنْهُ، فَرَأى جسده ممهى يرى دَاخله من خَارجه، وَرَأى الشَّيْطَان فِي صُورَة ضفدع عِنْد نغض كتفه حداء قلبه، لَهُ خرطوم كخرطوم الْبَعُوضَة، وَقد أدخلهُ فِي مَنْكِبه الْأَيْسَر إِلَى قلبه
    قَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا الْخَاتم هُوَ أثر شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن شقّ الْملكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدره
    ............
    (3/81)
    مسح الراس مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الشَّافِعِي: الْمسنون ثَلَاث مسحات، وَالْحجّة عَلَيْهِ أَن الْمسنون يحْتَاج إِلَى شرع، وَحَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ،وَإِن كَانَ فِيهِ: أَنه مسح بِرَأْسِهِ مرّة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّرْع الَّذِي قَالَ الشَّافِعِي فِي مسنونية الثَّلَاث مَا روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مسح ثَلَاثًا، وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء. قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا هَارُون بن عبد الله،قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم،قَالَ: حَدثنَا اسرائيل عَن عَامر عَن شَقِيق بن حَمْزَة عَن شَقِيق بن سَلمَة،قَالَ: (رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه ثَلَاثًا،ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل هَذَا) . قلت: الْمَذْكُور من حَدِيث الْجَمَاعَة هُوَ مسح الراس مرّة وَاحِدَة، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح تدل على أَن مسح الرَّأْس مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا
    وَقَالُوا فِيهَا: مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا، كَمَا ذكرُوا فِي غَيره،وَوصف عبد الله بن زيد وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: مسح براسه مرّة وَاحِدَة، مُتَّفق عَلَيْهِ. وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَفِيه: (مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَكَذَا وصف عبد الله بن أبي أوفى وَابْن عَبَّاس وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَالربيع،كلهم قَالُوا: وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة، وَلم يَصح فِي أَحَادِيثهم شَيْء صَرِيح فِي تكْرَار الْمسْح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ من أوجه غَرِيبَة عَن عُثْمَان ذكرُ التّكْرَار فِي مسح الرَّأْس، إلاَّ أَنَّهَا مَعَ خلاف الْحفاظ الثِّقَات لَيست بِحجَّة عِنْد أهل الْمعرفَة، وَإِن كَانَ بعض أَصْحَابنَا يحْتَج بهَا. فان قلت: قد روى الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الوَاسِطِيّ عَن شُعَيْب بن أَيُّوب عَن أبي يحيى الجماني عَن أبي حنيفَة عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير عَن عَلَيْهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه تَوَضَّأ) الحَدِيث،وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) ،ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن خَالِد. وَخَالفهُ جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات عَن خَالِد بن عَلْقَمَة،فَقَالُوا فِيهِ: وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة وَمَعَ خلَافَة إيَّاهُم قَالَ: إِن السّنة فِي الْوضُوء مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. قلت: الزِّيَادَة عَن الثِّقَة مَقْبُولَة، وَلَا سِيمَا من مثل أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَأما قَوْله: فقد خَالف فِي حكم الْمسْح، غير صَحِيح، لِأَن تكْرَار الْمسْح مسنون عَن أبي حنيفَة أَيْضا، صرح بذلك صَاحب (الْهِدَايَة) : وَلَكِن بِمَاء وَاحِد. وَقَول الْكرْمَانِي وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء، ردَّ بِأَن الْمسْح مَبْنِيّ على التَّخْفِيف، بِخِلَاف الْغسْل، وَلَو شرع التّكْرَار لصار صُورَة المغسول. وَقد اتّفق على كَرَاهَة غسل الرَّأْس بدل الْمسْح وَإِن كَانَ مجزياً. وَأجِيب: بِأَن الخفة تَقْتَضِي عدم الِاسْتِيعَاب، وَهُوَ مَشْرُوع بالِاتِّفَاقِ،فَلْيَكُن الْعدَد كَذَلِك ورد بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَصَححهُ وَغَيره أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي صفة الْوضُوء حَيْثُ قَالَ: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،بعد أَن فرغ: (من زَاد على هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم)
    وَالصَّوَاب أَن يُقَال: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْمسْح ثَلَاثًا لَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْمسْح مرّة وَاحِدَة،وَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن بعدهمْ. وَقَالَ ابو عمر ابْن عبد الْبر: كلهم يَقُول مسح الرَّأْس مسحة وَاحِدَة. فَإِن قلت: هَذَا الَّذِي ذكرته يرد على أبي حنيفه. قلت: لَا يرد أصلا، فَإِنَّهُ رأى التَّثْلِيث سنة لكَونه رَوَاهُ، وَلكنه شَرط أَن يكون بِمَاء وَاحِد، وَهَذَا خلاف مَا قَالَه الشَّافِعِي، رَحمَه الله،وَمَعَ هَذَا الْمَذْهَب: الْإِفْرَاد لَا التثليثْ
    .............
    (3/83)
    وَصله سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: إِن عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ،وَرَوَاهُ ابي شيبَة وَالدَّارَقُطْن ِيّ بِلَفْظ: (كَانَ يسخن لَهُ مَاء فِي حميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: إِسْنَاده صَحِيح.
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق جَمِيعًا على الْوضُوء بِالْمَاءِ السخن غير مُجَاهِد فَإِنَّهُ كرهه. رَوَاهُ عَنهُ لَيْث بن أبي سليم. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه: إِن الصَّحَابَة تطهروا بِالْمَاءِ المسخن بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا الْخَبَر. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أره فِي غير الرَّافِعِيّ! قلت: قد وَقع ذَلِك لبَعض الصَّحَابَة فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) ؛ وَأَبُو نعيم فِي (الْمعرفَة) ، وَالْمَشْهُور من طَرِيق الأسلع بن شريك،قَالَ: كنت أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصابتني جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرحلة فَكرِهت أَن أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب، وخشيت أَن اغْتسل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت أَو أمرض، فَأمرت رجلا من الْأَنْصَار يرحلها، وَوضعت أحجاراً فاسخنت بهَا مَاء فاغتسلت،ثمَّ لحقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا ايها الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وانتم سكارى}
    وَفِي سَنَده: الْهَيْثَم بن زُرَيْق الرَّاوِي لَهُ عَن أَبِيه عَن الأسلع مَجْهُولَانِ، والْعَلَاء بن الْفضل رَاوِيه عَن الْهَيْثَم وَفِيه ضعف،وَقد قيل: إِنَّه تفرد بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يسخن المَاء يتَوَضَّأ بِهِ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَنه قَالَ: (إِنَّا نَتَوَضَّأ بالحميم وَقد أغلي على النَّار) ،
    .......
    (3/83)
    جَوَاز توضيء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. وَأما فضل الْمَرْأَة فَيجوز عِنْد الشَّافِعِي الْوضُوء بِهِ أَيْضا للرجل، سَوَاء خلت بِهِ أَو لَا. قَالَ الْبَغَوِيّ،وَغَيره: فَلَا كَرَاهَة فِيهِ للأحاديث الصَّحِيحَة فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَجُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ أَحْمد وَدَاوُد: لَا يجوز إِذا خلت بِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَن عبد الله بن سرجس وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ عَن أَحْمد كمذهبنا، وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن كَرَاهَة فَضلهَا مُطلقًا. وَحكى ابو عمر فِيهَا خَمْسَة مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه لَا بَأْس أَن يغْتَسل الرجل بفضلها مَا لم تكن جنبا أَو حَائِضًا. وَالثَّانِي: يكره أَن يتَوَضَّأ بفضلها وَعَكسه. وَالثَّالِث: كَرَاهَة فَضلهَا لَهُ والرخصة فِي عَكسه. وَالرَّابِع: لَا بَأْس بشروعهما مَعًا، وَلَا ضير فِي فَضلهَا، وَهُوَ قَول احْمَد. وَالْخَامِس: لَا بَأْس بِفضل كل مِنْهُمَا شرعا جَمِيعًا أَو خلا كل وَاحِد مِنْهُم بِهِ، وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار.
    اما اغتسال الرِّجَال وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد، فقد نقل الطَّحَاوِيّ والقرطبي وَالنَّوَوِيّ الِاتِّفَاق على جَوَاز ذَلِك،وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر لما حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي عَنهُ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن قوم. قلت: فِي نظره نظر، لأَنهم قَالُوا بالِاتِّفَاقِ دون الْإِجْمَاع، فَهَذَا الْقَائِل لم يعرف الْفرق بَين الِاتِّفَاق والاجماع، على أَنه روى جَوَاز ذَلِك عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وهم: عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَأم هانىء ومَيْمُونَة. فَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ،عَن أَحْمد قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة اغتسلا من إِنَاء وَاحِد من جَنَابَة، وتوضآ جَمِيعًا للصَّلَاة) ؛ وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن جُبَير عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل هُوَ وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ من الْإِنَاء الْوَاحِد) . وروى الطَّحَاوِيّ نَحوه عَن أبي بكرَة القَاضِي؛ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ: (كَان
    وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله أَو بعض أَهله. يغتسلون من إِنَاء وَاحِد)
    نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي منع التطهر بِفضل الْمَرْأَة، وَفِي جَوَاز ذَلِك مضطربة،قَالَ: لَكِن صَحَّ من الصَّحَابَة الْمَنْع فِيمَا إِذا دخلت بِهِ، وَلَكِن يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ بِصِحَّة الْجَوَاز عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ.
    وَأشهر الْأَحَادِيث عِنْد المانعين: حَدِيث عبد الله ابْن سرجس، وَحَدِيث حكم الْغِفَارِيّ. وَأما حَدِيث عبد الله بن سرجس، فَإِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفاً. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ،وَقد قَالَ البُخَارِيّ: أَخطَأ من رَفعه. قلت: الحكم للرافع،لِأَنَّهُ زَاد: والراوي قد يُفْتِي بالشَّيْء ثمَّ يرويهِ مرّة أُخْرَى، وَيجْعَل الْمَوْقُوف فَتْوَى فَلَا يُعَارض الْمَرْفُوع، وَصَححهُ ابْن حزم مَرْفُوعا من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار الَّذِي فِي مُسْنده، والشيخان أخرجَا لَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، فَلَا يضرّهُ وقف من وَقفه. وَتوقف ابْن الْقطَّان فِي تَصْحِيحه لِأَنَّهُ لم يره إلاَّ فِي كتاب الدَّارَقُطْنِي ّ، وَشَيخ الدَّارَقُطْنِي ّ فِيهِ لَا يعرف حَاله. قلت: شَيْخه فِيهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد المَقْبُري، وَلَو رَآهُ عِنْد ابْن مَاجَه أَو عِنْد الطَّحَاوِيّ لما توقف، لَان ابْن مَاجَه رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن المعلي بن أَسد، والطَّحَاوِي رَوَاهُ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، وهما مشهوران. وَأما حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، فَقَالَت جمَاعَة من أهل الحَدِيث، إِن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح، وَأَشَارَ الْخطابِيّ أَيْضا إِلَى عدم صِحَّته،وَقَالَ ابْن مَنْدَه: لَا يثبت من جِهَة السَّنَد. قلت: لما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَرجحه ابْن مَاجَه على حَدِيث عبد الله بن سرجس، وَصَححهُ ابْن حبَان وَأَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي، وَالْقَوْل قَول من صَححهُ لَا من ضعفه، لِأَنَّهُ مُسْند ظَاهره السَّلامَة من تضعف وَانْقِطَاع،وَقَالَ ابْن قدامَة: الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَاحْتج بِهِ، وتضعيف البُخَارِيّ لَهُ بعد ذَلِك لَا يقبل لاحْتِمَال أَن يكون وَقع لَهُ من غير طَرِيق صَحِيح،وَيرد بِهَذَا أَيْضا قَول النَّوَوِيّ: اتّفق الْحفاظ على تَضْعِيفه
    .........
    (3/86)
    فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُعْتَمر عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه أبْصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يتطهرون، وَالنِّسَاء مَعَهم، من إِنَاء وَاحِد كلهم يتطهرون مِنْهُ) . قيل: وَلنَا أَن نقُول: مَا كَانَ مَانع من ذَلِك قبل نزُول آيَة الْحجاب، وَأما بعده فَيخْتَص بالزوجات والمحارم، وَفِيه نظر، وَالله تَعَالَى أعلم.
    .....
    (3/ 89)
    وَفِي كتاب (الْأَشْرَاف) : رخص كثير من أهل الْعلم فِي ذَلِك، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَمَا علمت أَنِّي رَأَيْت أحدا كره الْوضُوء فِي آنِية الصفر والنحاس والرصاص وَشبهه، والأشياء على الْإِبَاحَة وَلَيْسَ يحرم مَا هُوَ مَوْقُوف على ابْن عمر. وَقَالَ ابْن بطال: وَقد وجدت عَن ابْن عمر أَنه تَوَضَّأ فِيهِ، وَهَذِه الرِّوَايَة أشبه للصَّوَاب، وَكَانَ الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يكْرهُونَ الْوضُوء فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَبِه نقُول. وَلَو تَوَضَّأ لَهُ متوضىء أَجزَأَهُ وَقد أَسَاءَ، وَعَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يكره الْأكل وَالشرب فِي آنِية الْفضة، وَكَانَ لَا يرى بَأْسا بالمفضض، وَكَانَ لَا يرى بِالْوضُوءِ مِنْهُ بَأْسا. قلت: أَبُو حنيفَة كَانَ يكره الْأكل فِي آنِية الذَّهَب أَيْضا،وَالْمرَاد من الْكَرَاهَة: كَرَاهَة التَّحْرِيم، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد،بِسَنَد ضَعِيف عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي تور من شبه) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بِسَنَد صَحِيح عَن زَيْنَب بنت جحش: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يتَوَضَّأ من مخضب من صفر) . الصفر،بِضَم الصَّاد: هُوَ النّحاس الْجيد.
    ............
    (3/91)
    (وَرجل آخر) وَلم تعينه، مَعَ أَنه كَانَ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي قَلبهَا مِنْهُ مَا يحصل فِي قُلُوب الْبشر مِمَّا يكون سَببا فِي الْإِعْرَاض عَن ذكر اسْمه،وَجَاء فِي رِوَايَة: (بَين الْفضل ابْن عَبَّاس) ،وَفِي أُخْرَى: (بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة) ، وَطَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا، وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم أخذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، لِأَنَّهُ كَانَ أدومهم لَهَا إِكْرَاما لَهُ واختصاصاً بِهِ، وَعلي وَأُسَامَة وَالْفضل يتناوبون الْيَد الْأُخْرَى، فعلى هَذَا يُجَاب بِأَنَّهَا صرحت بِالْعَبَّاسِ وأبهمت الآخر لكَوْنهم ثَلَاثَة، وَهَذَا الْجَواب أحسن من الاول
    .........
    (3/95)
    جعل الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام للمتوضىء والمغتسل ثَلَاث أَحْوَال. أَحدهَا: أَن يكون معتدل الْخلق كاعتدال خلقه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيقتدي بِهِ فِي اجْتِنَاب النَّقْص عَن الْمَدّ والصاع. الثَّانِيَة: أَن يكون ضئيلاً ونحيف الْخلق بِحَيْثُ لَا يعادل جسده جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيُسْتَحَب لَهُ أَن يسْتَعْمل من المَاء مَا يكون نسبته إِلَى جسده كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة: أَن يكون متفاحش الْخلق طولا وعرضاً وَعظم الْبَطن وثخانة الْأَعْضَاء، فَيُسْتَحَب أَن لَا ينقص عَن مِقْدَار يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى بدنه كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى بدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    ثمَّ إعلم أَن الرِّوَايَات مُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب، فَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ) . وَمن حَدِيث جَابر كَذَلِك،وَمن حَدِيث أم عمَارَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَأتى بِإِنَاء فِيهِ مَاء قدر ثُلثي الْمَدّ) . وَفِي رِوَايَته عَن أنس: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ بِإِنَاء يسع رطلين ويغتسل الصَّاع) . وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) ، وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبد الله بن زيد،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِثُلثي مد من مَاء فَتَوَضَّأ، فَجعل يدلك ذِرَاعَيْهِ) . وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الثَّوْريّ: حَدِيث أم عمَارَة حسن. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عَائِشَة،رَضِي الله عَنْهَا: (كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنَاء وَاحِد يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد) . وَفِي رِوَايَة: (من إِنَاء وَاحِد تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة (فدعَتْ بأناء قدر الصَّاع فاغتسلت فِيهِ) وَفِي آخِره كَانَت تَغْتَسِل بِخَمْسَة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وَفِي اخرى: (تغسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصاع وتوضئه بِالْمدِّ) . وَفِي أُخْرَى: (يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد) ،وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (بِنَحْوِ من صَاع) ،وَفِي لفظ: (من قدح يُقَال لَهُ: الْفرق) ، وَعند النَّسَائِيّ فِي كتاب (التَّمْيِيز) : نَحْو ثَمَانِيَة أَرْطَال) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن منيع: (حزرته ثَمَانِيَة أَو تِسْعَة أَو عشرَة أَرْطَال)
    ...........
    (3/97)
    جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَلَا يُنكره إلاَّ المبتدع الضال. وَقَالَت الخوراج: لَا يجوز. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عامفة الْفُقَهَاء، وَعَامة الصَّحَابَة إلاَّ شَيْئا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة كلهم يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. فَقَالَ: نَحن نفضل الشَّيْخَيْنِ، ونحب الخنتين، ونرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلَا نحرم نَبِيذ الْجَرّ. يَعْنِي: المثلث؛وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا على كبار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ، فَكَانَ بِدعَة،وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَالْأمة لم تخْتَلف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا جَاءَ كَرَاهَة ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَأَما الرِّوَايَة عَن عَليّ سبق الْكتاب بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فَلم يرو ذَلِك عَنهُ بِإِسْنَاد مَوْصُول يثبت مثله. وَأما عَائِشَة فَثَبت عَنْهَا أَنَّهَا أحالت بِعلم ذَلِك على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّمَا كرهه حِين لم يثبت مسح النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْمَائِدَة، فَلَمَّا ثَبت رَجَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْجَوْز قاني فِي (كتاب الموضوعات) : إِنْكَار عَائِشَة غير ثَابت عَنْهَا. وَقَالَ الكاشاني: وَأما الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس فَلم تصح لِأَن مَدَاره على عِكْرِمَة،وَرُوِيَ أَنه لما بلغ عَطاء قَالَ: كذب عِكْرِمَة،وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يُخَالف النَّاس فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فَلم يمت حَتَّى تَابعهمْ، وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: قَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي قلبِي من الْمسْح شَيْء، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رفعوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا لم يرفعوا؛وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْمسْح أفضل، يَعْنِي من الْغسْل، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِنَّمَا طلبُوا الْفضل، وَهَذَا مَذْهَب الشّعبِيّ وَالْحكم وَإِسْحَاق. وَفِي (هِدَايَة الْحَنَفِيَّة) : الْأَخْبَار فِيهِ مستفيضة حَتَّى إِن من لم يره كَانَ مبتدعاً، لَكِن من رَآهُ ثمَّ لم يمسح أَخذ بالعزيمة، وَكَانَ مأجوراً. وَحكى الْقُرْطُبِيّ مثل هَذَا عَن مَالك أَنه قَالَ عِنْد مَوته: وَعَن مَالك فِيهِ أَقْوَال. أَحدهمَا: أَنه لَا يجوز الْمسْح أصلا. الثَّانِي: أَنه يجوز وَيكرهُ. الثَّالِث،وَهُوَ الْأَشْهر: يجوز أبدا بِغَيْر تَوْقِيت. الرَّابِع: أَنه يجوز بتوقيت. الْخَامِس: يجوز للْمُسَافِر دون الْحَاضِر. السَّادِس: عَكسه. وَقَالَ إِسْحَاق وَالْحكم وَحَمَّاد الْمسْح أفضل من غسل الرجلَيْن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَن احْمَد. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: هما سَوَاء، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْغسْل أفضل من الْمسْح بِشَرْط أَن لَا يتْرك الْمسْح رَغْبَة عَن السّنة،وَلَا يشك فِي جَوَازه وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار الْمسْح إلاَّ مَالِكًا، وَالرِّوَايَات الصِّحَاح عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك. قلت: فِيهِ نظر لما فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة من أَن مُجَاهدًا وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة كرهوه، وَكَذَا حكى أَبُو الْحسن النسابة عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَأبي إِسْحَاق السبيعِي وَقيس بن الرّبيع، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب
    عن
    بي بكر بن أبي دَاوُد والخوارج وَالرَّوَافِض. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد: فِيهِ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابياً، وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ أَرْبَعُونَ، وَكَذَا قَالَه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَقَالَ ابْن حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: مسح على الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَ ة وَغَيرهم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْمُسلمين، وَقد أَشَرنَا إِلَى رِوَايَة وَخمسين من الصَّحَابَة فِي الْمسْح فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي،
    .............
    (3/98)
    أَن الصَّحَابِيّ الْقَدِيم الصُّحْبَة قد يخفى عَلَيْهِ من الْأُمُور الجليلة فِي الشَّرْع مَا يطلع عَلَيْهِ غَيره، لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أنكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مَعَ قدم صحبته وَكَثْرَة رِوَايَته.

    أَن الْمسْح غير مَنْسُوخ حَدِيث جرير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ، وَهُوَ أسلم بعد الْمَائِدَة، وَكَانَ الْقَوْم يعجبهم ذَلِك. وَأَيْضًا فَإِن حَدِيث الْمُغيرَة فِي الْمسْح كَانَ فِي السّفر فيعجبهم اسْتِعْمَال جرير لَهُ فِي الْحَضَر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لما كَانَ إِسْلَام جرير مُتَأَخِّرًا علمنَا أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين أَن المُرَاد بِآيَة الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون السّنة مخصصة لِلْآيَةِ.

    .............
    (3/99)
    وَابْن عمر اخْتلفَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ،فَلَمَّا اجْتمعَا عِنْد عمر قَالَ سعد لِابْنِ عمر: سل أَبَاك عَمَّا أنْكرت عَليّ! فَسَأَلَهُ،فَقَالَ عمر: نعم، وَإِن ذهبت إِلَى الْغَائِط. قَالَ مُوسَى: وَأَخْبرنِي سَالم أَبُو النَّضر عَن أبي سَلمَة بِنَحْوِ من هَذَا عَن سعد وَابْن عمر وَعمر، وَقَالَ عمر لِابْنِهِ،كَأَنَّهُ يلومه: إِذا حدث سعد عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا تَبْغِ وَرَاء حَدِيثه شَيْئا. وَالنَّسَائِيّ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد. والْحَارث بن مِسْكين عَن ابْن وهب، وَعَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث وهيب بن خَالِد عَن مُوسَى،وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يّ: وَرِوَايَة عُرْوَة وَأبي سَلمَة عَن سعد وَابْن عمر فِي حَيَاة عمر مُرْسلَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن عمر فِي الْمسْح صَحِيح،قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَن حَدِيث ابْن عمر فِي الْمسْح مَرْفُوعا فَلم يعرفهُ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، ابْن عمر يُنكر على سعد الْمسْح. قلت: إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ مَسحه فِي الْحَضَر، كَمَا هُوَ مُبين فِي بعض الرِّوَايَات، وَأما السّفر فقد كَانَ ابْن عمر يُعلمهُ. وَرَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن ابي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه الْكَبِير) ، وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة عَاصِم عَن سَالم عَنهُ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح على الْخُفَّيْنِ بِالْمَاءِ فِي السّفر)
    ........
    (3/101)
    لْمسْح على الْعِمَامَة. وَالْآخر: على الْخُفَّيْنِ. أما الأول: فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب الإِمَام أَحْمد إِلَى جَوَاز الِاقْتِصَار على الْعِمَامَة بِشَرْط الاعمام بعد كَمَال الطَّهَارَة، كَمَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ،وَاحْتج المانعون بقوله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) وَمن مسح على الْعِمَامَة لم يمسح على رَأسه، وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يجوز مسح الْوَجْه فِي التَّيَمُّم على حَائِل دونه، فَكَذَلِك الرَّأْس. وَقَالَ الْخطابِيّ: فرض الله مسح الرَّأْس، والْحَدِيث فِي مسح الْعِمَامَة مُحْتَمل للتأويل، فَلَا يتْرك الْمُتَيَقن للمحتمل. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ مسح على الْعِمَامَة: أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبِه قَالَ عمر وَأنس وَأَبُو أُمَامَة، وَرُوِيَ عَن سعد بن مَالك وَأبي الدارداء. وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَمَكْحُول وَالْأَوْزَاعِي ّ وابو ثَوْر. وَقَالَ عُرْوَة وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم وَمَالك وَالشَّافِعِيّ واصحاب الرَّأْي: لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهَا؛ وَفِي (المغنى) : وَمن شَرَائِط جَوَاز الْمسْح على الْعِمَامَة شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَن تكون تَحت الحنك، سَوَاء أرْخى لَهَا ذؤابة أم لَا، قَالَه القَاضِي، وَلَا فرق بَين الصَّغِيرَة والكبيرة إِذا وَقع عَلَيْهَا الِاسْم. وَقيل: إِنَّمَا لم يجز الْمسْح على الْعِمَامَة الَّتِي لَيْسَ لَهَا حنك، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالتلحي وَنهى عَن الاقتعاط. قَالَ أَبُو عبيد: الاقتعاط: أَن لَا يكون تَحت الحنك مِنْهَا شَيْء. وَرُوِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى رجلا لَيْسَ تَحت حنكه من عمَامَته شَيْء، فحنكه بكور مِنْهَا،وَقَالَ: مَا هَذِه الفاسقية؟الشَّرْط الثَّانِي: أَن تكون ساترة لجَمِيع الرَّأْس إلاَّ مَا جرت الْعَادة بكشفه، كمقدم الرَّأْس والأذنين، وَيسْتَحب أَن يمسح على مَا ظهر من الرَّأْس مَعَ الْمسْح على الْعِمَامَة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَلَا يجوز الْمسْح على القلنسوة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قَالَ بِالْمَسْحِ على القلنسوة إلاَّ أنسا مسح على قلنسوته. وَفِي جَوَاز الْمسْح للْمَرْأَة على الْخمار رِوَايَتَانِ: احداهما: يجوز،وَالثَّانيَِة: لَا يجوز. قَالَ نَافِع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْأَوْزَاعِي ّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، وَلَا يجوز الْمسْح على الْوِقَايَة قولا وَاحِدًا، وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا لِأَنَّهُ لَا يشق نَزعهَا
    ........
    (3/102)
    والقطعة من السويق سويقة،وَعَن أبي حنيفَة: الجذيذة السويق، لِأَن الْحِنْطَة جذت لَهُ. يُقَال: جذذت الْحِنْطَة للسويق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِذا أَرَادوا أَن يعملوا الفريصة، وَهِي ضرب من السويق، ضربوا من الزَّرْع مَا يُرِيدُونَ حِين يستفرك، ثمَّ يسهمونه، وتسهيمه أَن يسخن على المقلى حَتَّى ييبس، وَإِن شاؤا جعلُوا مَعَه على المقلى الفودنج، وَهُوَ أطيب الْأَطْعِمَة. وَعَابَ رجل السويق بِحَضْرَة أَعْرَابِي فَقَالَ: لَا تَعبه، فَإِنَّهُ عدَّة الْمُسَافِر، وَطَعَام العجلان، وغذاء المبتكر، وبلغة الْمَرِيض، وَهُوَ يسر فؤاد الحزين، وَيرد من نفس المحرور، وجيد فِي التسمين، ومنعوت فِي الطِّبّ، وفقارة لحلق البلغم، وملتوته يصفي الدَّم؛ وَإِن شِئْت كَانَ شرابًا، وَإِن شِئْت كَانَ طَعَاما، وَإِن شِئْت ثريداً وَإِن شِئْت خبيصاً.
    ........
    (3/104)
    كل مَا مسته النَّار لَا يُوجب الْوضُوء وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد واسحق وَأبي ثَوْر وَأهل الشَّام وَأهل الْكُوفَة وَالْحسن بن الْحسن وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو عبيد وَدَاوُد بن عَليّ وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَّا أَن أَحْمد يرى الْوضُوء من لحم الْجَزُور فَقَط وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وعامر بن ربيعَة وَأَبُو أُمَامَة وَأبي بن كَعْب وَأَبُو الدَّرْدَاء لَا يرَوْنَ الْوضُوء مِمَّا مست النَّار وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَأَبُو قلَابَة وَأَبُو مجلز وَعمر بن عبد الْعَزِيز يجب الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت وَأبي طَلْحَة وَأبي مُوسَى وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ وَأبي أَيُّوب وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا حَدِيث أبي طَلْحَة صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أكل ثَوْر أقط فَتَوَضَّأ مِنْهُ قَالَ عمر والثور الْقطعَة " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَالطَّبَرَانِي ّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " توضؤا مِمَّا غيرت النَّار " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِي ّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث أم حَبِيبَة قَالَت " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
    توضؤا مِمَّا مست النَّار " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأحمد فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " توضؤا مِمَّا غيرت النَّار وَلَو من ثَوْر أقط " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَأحمد فِي مُسْنده وَأخرجه التِّرْمِذِيّ والسراج فِي مُسْنده وَمِنْهَا حَدِيث سهل بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أكل لَحْمًا فَليَتَوَضَّأ " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد حسن واحتجت الْجَمَاعَة الأولى بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس وَحَدِيث عَمْرو بن أُميَّة وَغَيرهمَا وَأَحَادِيث هَؤُلَاءِ مَنْسُوخَة بِمَا روى عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار " أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقَالُوا أَيْضا يجوز أَن يكون المُرَاد من الْوضُوء فِي الْأَحَادِيث الأول غسل الْيَد لَا وضوء الصَّلَاة فَإِن قلت روى تَوَضَّأ وروى وَلم يتَوَضَّأ قلت هُوَ دائر بَين الْأَمريْنِ فَحَدِيث جَابر بَين أَن المُرَاد الْوضُوء الَّذِي هُوَ غسل الْيَد
    ......
    (3/105)
    جَوَاز قطع اللَّحْم بالسكين. فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن ذَلِك فِي (سنَن ابي دَاوُد) . قلت: حَدِيث ضَعِيف، فَإِذا ثَبت خص بِعَدَمِ الْحَاجة الداعية إِلَى ذَلِك لما فِيهِ من التَّشَبُّه بالأعاجم وَأهل الترف.
    ............
    (3/107)
    من النساخ الجهلة، لِأَن غَالب من يستنسخ هَذَا الْكتاب يسْتَعْمل نَاسِخا حسن الْخط جدا، وغالب من يكون خطه حسنا لَا يَخْلُو عَن الْجَهْل، وَلَو كتب كلَّ فن أَهله لقل الْغَلَط والتصحيف، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى.

    ............
    (3/108)
    سمع أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (شرب لَبَنًا فَلم يمضمض وَلم يتَوَضَّأ وَصلى) ، يدل على نسخ الْمَضْمَضَة. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يخدش فِيهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أنس،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ يمضمض من اللَّبن ثَلَاثًا) ، فَلَو كَانَ مَنْسُوخا لما فعله بعد النَّبِي،عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قلت: لَا يلْزم من فعله هَذَا، وَالصَّوَاب فِي هَذَا أَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْأَمر بالمضمضة أَمر اسْتِحْبَاب لَا وجوب، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الْمَذْكُور آنِفا، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى،بِإِسْنَاد حسن عَن أنس: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شرب لَبَنًا فَلم يتمضمض وَلم يتَوَضَّأ) . فَإِن قلت: ادّعى ابْن شاهين أَن حَدِيث أنس نَاسخ لحَدِيث ابْن عَبَّاس. قلت: لم يقل بِهِ أحد، وَمن قَالَ فِيهِ بِالْوُجُوب حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَعْوَى النّسخ؟
    .........
    (3/109)
    وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن مَعنا ثَلَاثَة أَشْيَاء: النّوم والنعسة والخفقة. أما النّوم: فَمن قَالَ: إِن نفس النّوم حدث يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء من النعاس،وَمن قَالَ: إِن نفس النّوم لَيْسَ بِحَدَث لَا يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء على الناعس؛وَأما الخفقة: فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: وَجب الْوضُوء على كل نَائِم إلاَّ من خَفق خفقة. فَالْبُخَارِي أَشَارَ إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة،فَأَشَارَ إِلَى النّوم بقوله: (بَاب النّوم)
    .اما النّوم فَفِيهِ أَقْوَال. الأول: إِن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء بِحَال، وَهُوَ محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب، وَأبي مجلز وَحميد بن عبد الرَّحْمَن والأعرج،وَقَالَ ابْن حزم: وَإِلَيْهِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول صَحِيح عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم،مِنْهُم: ابْن عمر وَمَكْحُول وَعبيدَة السَّلمَانِي. الثَّانِي: النّوم ينْقض الْوضُوء على كل حَال وَهُوَ مَذْهَب الْحسن والمزني وابي عبد الله الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول غَرِيب عَن الشَّافِعِي،قَالَ: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة،وَقَالَ ابْن حزم: النّوم فِي ذَاته حدث ينْقض الْوضُوء، سَوَاء قل أَو كثر، قَاعِدا أَو قَائِما فِي صَلَاة أَو غَيرهَا أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا أَو مُتكئا أَو مُضْطَجعا، أَيقَن من حواليه أَنه لم يحدث أَو لم يوقنوا. الثَّالِث: كثير النّوم ينْقض وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال،قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ،وَعند التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ بَعضهم: إِذا نَام حَتَّى غلب على عقله وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء، وَبِه يَقُول إِسْحَاق. الرَّابِع: إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّي: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْقض وضوءه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، فَإِن نَام مُضْطَجعا أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَدَاوُد، وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَقَالَهُ أَيْضا حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان
    لتَّاسِع: إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى؛وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: تتبع عُلَمَاؤُنَا مسَائِل النّوم الْمُتَعَلّقَة بالأحاديث الجامعة لتعارضها،فوجدوها أحد عشر حَالا: مَاشِيا، وَقَائِمًا، ومستنداً، وراكعاً، وَقَاعِدا متربعاً، ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً. وَهَذَا فِي حَقنا، فَأَما سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَصَائِصه أَنه لَا ينْتَقض وضوؤه بِالنَّوْمِ، مُضْطَجعا وَلَا غير مُضْطَجع.

    ......
    _(3/113)
    أَن النعاس إِذا كَانَ أقل من ذَلِك يُعْفَى عَنهُ، فَلَا ينْتَقض وضوؤه، وَقد أَجمعُوا على أَن النّوم الْقَلِيل لَا ينْقض الْوضُوء،وَخَالف فِيهِ الْمُزنِيّ فَقَالَ: ينْقض قَلِيله وَكَثِيره، لما ذكرنَا. وَقَالَ الْمُهلب وَابْن بطال وَابْن التِّين وَغَيرهم: إِن الْمُزنِيّ خرق الْإِجْمَاع. قلت: هَذَا تحامل مِنْهُم عَلَيْهِ، لِأَن الَّذِي قَالَه نقل عَن بعض الصَّحَابَة التَّابِعين،
    ...........
    (3/113)
    وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَلمَة بن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن حميد عَن أنس: (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِكُل صَلَاة، طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر. قَالَ: قلت لأنس: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ) ؟ الحَدِيث،وَقَالَ: حَدِيث حميد عَن أنس غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل الْعلم حَدِيث عَمْرو، وَفِي (الْعِلَل) قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا ادري مَا سَلمَة هَذَا؟ وَلم يعرف مُحَمَّد هَذَا من حَدِيث حميد.

    ذَهَبت طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة والشيعة إِلَى وجوب الْوضُوء لكل صَلَاة فِي حق المقيمين دون الْمُسَافِرين، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث بُرَيْدَة بن الْحصيب؛ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ لكل صَلَاة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح صلى الصَّلَوَات الْخمس بِوضُوء وَاحِد) . أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة وابو يعلى، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد عَنهُ،قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد.
    وَذَهَبت طَائِفَة، الى أَن الْوضُوء وَاجِب لكل صَلَاة مُطلقًا من غير حدث، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي مُوسَى وَجَابِر أَن عبد الله، وَعبيدَة السَّلمَانِي، وَأبي الْعَالِيَة، وَسَعِيد بن الْمسيب وابراهيم وَالْحسن.
    وَحكى ابْن حزم فِي (كتاب الْإِجْمَاع) هَذَا الْمَذْهَب عَن عَمْرو بن عبيد،قَالَ: وروينا عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه لَا يُصَلِّي بِوضُوء واحدٍ أَكثر من خمس صلوَات، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة،وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث وَغَيرهم: أَن الْوضُوء لَا يجب إلاَّ من حدث. وَقَالُوا: لِأَن آيَة الْوضُوء نزلت فِي إِيجَاب الْوضُوء من الْحَدث عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة،لِأَن معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون،وَاسْتدلَّ الدَّارمِيّ على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا وضوء إِلَّا من حدث) . وَحكى الشَّافِعِي عَمَّن لقِيه من أهل الْعلم أَن التَّقْدِير: إِذا قُمْتُم من النّوم. فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي التّكْرَار،لِأَن الحكم الْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: {فَاغْسِلُوا} (الْمَائِدَة: 6) مُعَلّق بِالشّرطِ، وَهُوَ {إِذا قُمْتُم الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) فَيَقْتَضِي تكْرَار الحكم عِنْد تكْرَار الشَّرْط، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَة عِنْدهم. قلت: الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا، وَالْأَكْثَرُون َ على أَنه لَا يَقْتَضِيهِ لفظا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ،رَحمَه الله تَعَالَى: فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يُوجب الْوضُوء على كل قَائِم إِلَى الصَّلَاة، مُحدث وَغير مُحدث، فَمَا وَجهه؟قلت: يحْتَمل أَن يكون الْأَمر للْوُجُوب، فَيكون الْخطاب للمحدثين خَاصَّة. وَأَن يكون للنَّدْب
    ........
    (3/113)
    قَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: وَيجوز أَن يكون ذَلِك فرضا أَولا ثمَّ نسخ، ثمَّ اسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أَسمَاء ابْنة زيد بن الْخطاب ابْن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر حَدثنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْوضُوءِ لكل صَلَاة طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر، فَلَمَّا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر بِالسِّوَاكِ لكل صَلَاة فَهَذَا دلّ على النّسخ.
    وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : فَلَمَّا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة، وَوضع عَنهُ الْوضُوء إلاَّ من حدث. وَيُقَال فِي الْجَواب: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ ابْن شاهين: لم يبلغنَا أَن أحدا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يتعمدون الْوضُوء لكل صَلَاة إلاَّ ابْن عمر، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ روى ابْن ابي شيبَة. حَدثنَا وَكِيع عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين: كَانَ الحلفاء يتوضؤون لكل صَلَاة. وَفِي لفظ: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان يتوضؤون لكل صَلَاة. وَقَالَ بَعضهم: يُمكن حمل الْآيَة على ظَاهرهَا من غير نسخ، وَيكون الْأَمر فِي حق الْمُحدثين على الْوُجُوب، وَفِي حق غَيرهم للنَّدْب. قلت: هَذَا لَا يَصح لما ذكرنَا عَن قريب أَنه على هَذَا يكون من بَاب الإلغاز، فَلَا يجوز.
    .........
    (3/115)
    بالنميمة) : هِيَ نقل كَلَام النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ نقل كَلَام الْغَيْر بِقصد الْإِضْرَار، وَهُوَ من أقبح القبائح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا لَا يَصح على قَاعِدَة الْفُقَهَاء،لأَنهم يَقُولُونَ: الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجبَة للحد،وَلَا حد على الْمَاشِي بالنميمة إلاَّ أَن يُقَال: الِاسْتِمْرَار الْمُسْتَفَاد مِنْهُ يَجعله كَبِيرَة، لِأَن الْإِصْرَار على الصَّغِيرَة حكمه حكم الْكَبِيرَة أَو لَا يُرِيد بالكسرة الْكَبِيرَة مَعْنَاهَا الاصطلاحي. وَقَالَ بَعضهم: وَمَا نَقله عَن الْفُقَهَاء لَيْسَ هُوَ قَول جَمِيعهم،لَكِن كَلَام الرَّافِعِيّ يشْعر بترجيحه حَيْثُ حكى فِي تَعْرِيف الْكَبِيرَة وَجْهَيْن: أَحدهمَا: هَذَا،وَالثَّانِي: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد. قَالَ: وهم إِلَى الأول أميل، وَالثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر. قلت: لَا وَجه لتعقيبه على الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لم يُمَيّز قَول الْجَمِيع عَن قَول الْبَعْض حَتَّى يعْتَرض على قَوْله على قَاعِدَة الْفُقَهَاء، على أَن الذَّنب المستمر عَلَيْهِ صَاحبه، وَإِن كَانَ صَغِيرَة، فَهُوَ كَبِيرَة فِي الحكم، وَفِيه وَعِيد. لقَوْله: (لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار)
    ...........
    (ج3/117)
    وَقَالَ الْمَازرِيّ [/ قع: الذُّنُوب تَنْقَسِم إِلَى مَا يشق تَركه طيبا كالملاذ الْمُحرمَة وَإِلَى مَا بنفرد مِنْهُ طبعا كتارك السمُوم،وَإِلَى مَا لَا يشق تَركه طبعا: كالغيبة وَالْبَوْل. قَوْله: (لَعَلَّه ايْنَ يُخَفف عَنْهُمَا) أَي: لَعَلَّه يُخَفف ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك بأثر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ودعائه بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، فَكَأَن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل مُدَّة بَقَاء النداوة فيهمَا حدا لما وَقعت لَهُ الْمَسْأَلَة من تَخْفيف الْعَذَاب عَنْهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِك من أجل أَن فِي الرطب معنى لَيْسَ فِي الْيَابِس، قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: هُوَ مَحْمُول على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهما فاجيبت شَفَاعَته بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى أَن ييبسا. وَقيل: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو لَهما تِلْكَ الْمدَّة،وَقيل: لِكَوْنِهِمَا يسبحان مَا دامتا رطبتين وَلَيْسَ لليابس بتسبيح،قَالُوا: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إلاَّ يسبح بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاء: 44) مَعْنَاهُ: وَإِن من شَيْء حَيّ، ثمَّ حَيَاة كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحياة الْخَشَبَة مَا لم يتبس وحياة الْحجر مَا لم يقطع، وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه على عُمُومه،ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يسبح حَقِيقَة أم فِيهِ دلَالَة على الصَّانِع، فَيكون مسبحاً منزهاً بِصُورَة حَاله، وَأهل التَّحْقِيق على أَنه يسبح حَقِيقَة، وَإِذا كَانَ الْعقل لَا يحِيل جعل التَّمْيِيز فِيهَا وَجَاء النَّص بِهِ، وَجب الْمصير إِلَيْهِ. وَاسْتحبَّ الْعلمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقَبْر لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيف لتسبيح الجريد، فتلاوة الْقُرْآن أولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي كَونهمَا مَا داما رطبين يمنعان الْعَذَاب، بعد دَعْوَى الْعُمُوم فِي تَسْبِيح كل شَيْء؟قلت: يُمكن أَن يكون معرفَة هَذَا كمعرفة عدد الزَّبَانِيَة فِي أَنه تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَص بهَا.
    .......
    (3/118)
    أَن عَذَاب الْقَبْر حق يجب الْإِيمَان بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وعَلى ذَلِك أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خلافًا للمعتزلة، وَلَكِن ذكر القَاضِي عبد الْجَبَّار رَئِيس الْمُعْتَزلَة فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه: إِن قيل مذهبكم أداكم إِلَى إِنْكَار عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قد أطبقت عَلَيْهِ الْأمة. قيل: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا أنكرهُ أَولا ضرار بن عمر وَلما كَانَ من أَصْحَاب وَاصل ظنُّوا أَن ذَلِك مِمَّا أنكرته الْمُعْتَزلَة، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك،بل الْمُعْتَزلَة رجلَانِ: أَحدهمَا: يجوز ذَلِك كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار،وَالثَّانِي: يقطع بذلك. وَأكْثر شُيُوخنَا يقطعون بذلك،وَإِنَّمَا يُنكرُونَ قَول جمَاعَة من الجهلة: إِنَّهُم يُعَذبُونَ وهم موتى، وَدَلِيل الْعقل يمْنَع من ذَلِك، وبنحوه ذكره أَبُو عبيد الله المرزباني فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن الملحدة وَمن يذهب مَذْهَب الفلاسفة انكروه أَيْضا، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب لَازم حسب مَا أخبر بِهِ الصَّادِق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن الله يحيى العَبْد وَيرد الْحَيَاة وَالْعقل، وَهَذَا نطقت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَكَذَلِكَ يكمل الْعقل للصغار ليعلموا مَنْزِلَتهمْ وسعادتهم، وَقد جَاءَ أَن الْقَبْر يَنْضَم عَلَيْهِ كالكبير، وَصَارَ أَبُو الْهُذيْل وَبشر إِلَى أَن من خرج عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين، وَإِنَّمَا المساءلة إِنَّمَا تقع فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَأثبت الْبَلْخِي والجبائي وَابْنه عَذَاب الْقَبْر، وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه للْكَافِرِينَ والفاسقين. وَقَالَ بَعضهم: عَذَاب الْقَبْر جَائِز، وَإنَّهُ يجْرِي على الْمَوْتَى من غير رد روحهم إِلَى الْجَسَد، وَإِن الْمَيِّت يجوز أَن يتألم ويحس، وَهَذَا مَذْهَب جمَاعَة من الكرامية. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: إِن الله تَعَالَى يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ، فَإِذا حشروا وجدوا تل الآلام كَالسَّكْرَانِ والمغشي عَلَيْهِ إِن ضُربوا لم يَجدوا ألماً، فَإِذا عَاد عقلهم إِلَيْهِم وجدوا تِلْكَ الآلام، وَأما بَاقِي الْمُعْتَزلَة مثل ضرار بن عمر وَبشر المريسي وَيحيى بن كَامِل وَغَيرهم فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا عَذَاب الْقَبْر أصلا، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا فَاسِدَة تردها الْأَحَادِيث الثَّابِتَة، وَإِلَى الانكار أَيْضا ذهب الْخَوَارِج وَبَعض المرجئة. ثمَّ المعذب عِنْد أهل السّنة الْجَسَد بِعَيْنِه أَو بعضه بعد إِعَادَة الرّوح إِلَى جسده أَو إِلَى جزئه،وَخَالف فِي ذَلِك مُحَمَّد بن جرير وَطَائِفَة فَقَالُوا: لَا يشْتَرط إِعَادَة الرّوح، وَهَذَا أَيْضا فَاسد.
    ........
    (3/118)
    قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف بتسبيح الشّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء وبركة. قلت: اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْمَسْأَلَة، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى وُصُول ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت، لما روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من مر بَين الْمَقَابِر فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، أحد عشر مرّة، ثمَّ وهب أجرهَا للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات) . وَفِي (سنَنه) أَيْضا عَن أنس يرفعهُ: (من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة: يس، خفف الله عَنْهُم يَوْمئِذٍ) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زار قبر وَالدية. أَو أَحدهمَا، فَقَرَأَ عِنْده، أَو عِنْدهمَا يس، غفر لَهُ) . وروى أَبُو حَفْص بن شاهين عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين رب السَّمَوَات، وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله
    ...............
    (3/119)
    العظمة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم هُوَ الْملك رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض وَرب الْعَالمين، وَله النُّور فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، مرّة وَاحِدَة،ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا لوالدي لم يبْق لوَالِديهِ حق إلاَّ أَدَّاهُ إِلَيْهِمَا) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَجَمَاعَة: أَن قِرَاءَة الْقُرْآن لَا تصل إِلَى الْمَيِّت، وَالْأَخْبَار الْمَذْكُورَة حجَّة عَلَيْهِم، وَلَكِن أجمع الْعلمَاء على أَن الدُّعَاء يَنْفَعهُمْ ويصلهم ثَوَابه،لقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذين سبقُونَا بالايمان} (الْحَشْر: 59) وَغير ذَلِك من الْآيَات،وبالاحاديث الْمَشْهُورَة مِنْهَا: قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع الْغَرْقَد) ، وَمِنْهَا قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا) ، وَغير ذَلِك. فان قلت: هَل يبلغ ثَوَاب الصَّوْم أَو الصَّدَقَة أَو الْعتْق؟قلت: روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الْعَاصِ بن وَائِل كَانَ نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَإِن هِشَام بن الْعَاصِ نحر حِصَّته خمسين، أفيجزىء عَنهُ؟فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن أَبَاك لَو كَانَ أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت عَنهُ أَو تَصَدَّقت عَنهُ أَو أعتقت عَنهُ بلغه ذَلِك) . وروى الدَّارَقُطْنِي ّ: (قَالَ رجل: يَا رَسُول الله كَيفَ أبر أَبَوي بعد مَوْتهمَا؟فَقَالَ: إِن من الْبر بعد الْمَوْت أَن تصلي لَهما مَعَ صَلَاتك، وَأَن تَصُوم لَهما مَعَ صيامك، وَأَن تصدق عَنْهُمَا مَعَ صدقتك) . وَفِي كتاب القَاضِي الإِمَام أبي الْحُسَيْن بن الْفراء، عَن أنس،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِذا نتصدق عَن مَوتَانا ونحج عَنْهُم وندعو لَهُم فَهَل يصل ذَلِك اليهم؟قَالَ: نعم، ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالطبق إِذا أهدي إِلَيْهِ) . وَعَن سعد: (أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله إِن أبي مَاتَ، أفاعتق عَنهُ؟قَالَ: نعم) . وَعَن ابي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن: (أَن الْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يعتقان عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَفِي (الصَّحِيح) (قَالَ رجل: يَا رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت، أينفعها أَن أَتصدق عَنْهَا؟قَالَ: نعم) .
    فان قلت: قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 39) وَهُوَ يدل على عدم وُصُول ثَوَاب الْقُرْآن للْمَيت؟قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة على ثَمَانِيَة أَقْوَال: أَحدهمَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} (الطّور: 21) أَدخل الْآبَاء الْجنَّة بصلاح الأبناي، قَالَه ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. الثَّانِي: إِنَّهَا خَاصَّة بِقوم إِبْرَاهِيم ومُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأما هَذِه الْأمة فَلهم مَا سعوا، وَمَا سعى لَهُم غَيرهم، قَالَه عِكْرِمَة. الثَّالِث: المُرَاد بالإنسان هَهُنَا الْكَافِر، قَالَه الرّبيع بن أنس. الرَّابِع: لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى من طَرِيق الْعدْل، فَأَما من بَاب الْفضل فَجَائِز أَن يزِيد الله تَعَالَى مَا شَاءَ، قَالَه الْحُسَيْن بن فضل. الْخَامِس: إِن معنى: مَا سعى: مَا نوى، قَالَه أَبُو بكر الْوراق. السَّادِس: لَيْسَ للْكَافِرِ من الْخَيْر إِلَّا مَا عمله فِي الدُّنْيَا فيثاب عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ فِي الْآخِرَة شَيْء، ذكره الثَّعْلَبِيّ. السَّابِع إِن: اللَّام،فِي: الْإِنْسَان،بِمَعْنى: على،تَقْدِيره: لَيْسَ على الْإِنْسَان إلاَّ مَا سعى. الثَّامِن: إِنَّه لَيْسَ لَهُ إلاَّ سَعْيه، غير أَن الْأَسْبَاب مُخْتَلفَة فَتَارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَتارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل سَببه، مثل سَعْيه فِي تَحْصِيل قِرَاءَة ولد يترحم عَلَيْهِ، وصديق يسْتَغْفر لَهُ، وَتارَة يسْعَى فِي خدمَة الدّين وَالْعِبَادَة فيكتسب محبَّة أهل الدّين، فَيكون ذَلِك سَببا حصل بسعيه، حَكَاهُ أَبُو الْفرج عَن شَيْخه ابْن الزغواني.

    ..........
    (3/120)
    الْحِكْمَة فِي عدم بَيَان إسمي المقبورين وَلَا أَحدهمَا؟الْجَواب: أَنه يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبين ذَلِك قصدا للستر عَلَيْهِمَا، خوفًا من الافتضاح، وَهُوَ عمل مستحسن، وَلَا سِيمَا من حَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي شَأْنه الرَّحْمَة والرأفة على عباد الله تَعَالَى، وَيحْتَمل أَن يكون قد بَينه ليحترز غَيره من مُبَاشرَة مَا بَاشر صَاحب القبرين، وَلَكِن الرَّاوِي أبهمه عمدا لما ذكرنَا. فان قلت: قد ذكر الْقُرْطُبِيّ عَن بَعضهم أَن أَحدهمَا كَانَ سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: هَذَا قَول فَاسد لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَمِمَّا يدل على فَسَاده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جنَازَته كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح،وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيداً حَيْثُ قَالَ لأَصْحَابه: (قومُوا إِلَى سيدكم) . وَقَالَ: إِن حكمه وَافق حكم الله تَعَالَى،وَقَالَ: إِن عرش الرَّحْمَن اهتز لمَوْته، وَغير ذَلِك من مناقبه الْعَظِيمَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقد حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن المقبورين، دلّ عَلَيْهِ حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ أَحْمد،وَلَفظه: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: من دفنتم الْيَوْم هَهُنَا) ؟ وَلم ينْقل عَنهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا ذكره الْقُرْطُبِيّ عَن الْبَعْض، فَدلَّ ذَلِك على بُطْلَانه فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
    .......
    (3/120)
    ن هذَيْن المقبورين هَل كَانَا مُسلمين أَو كَافِرين؟الْجَواب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ،فَقيل: كَانَا كَافِرين، وَبِه جزم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه (التَّرْغِيب والترهيب) وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أُسَامَة بن زيد عَن أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: (مر نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبرين من بني النجار هلكا فِي الجاهيلة، فسمعهما يعذبان فِي الْبَوْل والنميمة) ،قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا مُسلمين لما كَانَ لشفاعته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما إِلَى أَن ييبسا معنى، وَلكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرمانهما من ذَلِك، فشفع لَهما إِلَى الْمدَّة الْمَذْكُورَة، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قُبُور نسَاء من بني النجار هلكن فِي الْجَاهِلِيَّة فسمعهن يعذبن فِي النميمة) . قَالَ: لم يروه عَن أُسَامَة إلاَّ ابْن لَهِيعَة،وَقيل: كَانَا مُسلمين وَجزم بِهِ بَعضهم، لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا كَافِرين لم يدع، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَهما بتَخْفِيف الْعَذَاب وَلَا ترجاه لَهما، وَيُقَوِّي هَذَا مَا فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس،رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: (مر بقبرين من قُبُور الْأَنْصَار جديدين) . فَإِن تعدّدت الطّرق، وَهُوَ الْأَقْرَب لاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ، فَلَا بَأْس. وَإِن لم تَتَعَدَّد فَهُوَ بِالْمَعْنَى إِذْ بَنو النجار من الْأَنْصَار، وَهُوَ لقب إسلامي لقبوا بِهِ لنصرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يعرف بهَا مُسَمّى فِي الْجَاهِلِيَّة،ويقويه أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (فاجبت بشفاعتي) ، والشفاعة لَا تكون إلاَّ لمُؤْمِن،
    ........
    (3/ 121)
    نه هَل لأحد أَن يَأْمر بذلك لأحد أم الشَّرْط أَن يباشره بِيَدِهِ؟الْجَواب: أَنه لَا يلْزم ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن بُرَيْدَة بن الْحصيب، رَضِي الله عَنهُ، أوصى أَن يوضع على قَبره جريدتان، كَمَا يَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يقطع على أَنه بَاشر الْوَضع بِيَدِهِ الْكَرِيمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل يحْتَمل أَن يكون أَمر بِهِ. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ جدا،وَكَيف يَقُول ذَلِك وَقد صرح فِي الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا بجريدتين فكسرهما فَوضع على كل قبر مِنْهُمَا كسرة) ؟ . وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضعه بيدَيْهِ الْكَرِيمَة، وَدَعوى احْتِمَال الْأَمر لغيره بِهِ بعيدَة،وَهَذِه كدعوى احْتِمَال مَجِيء غُلَام زيد فِي قَوْلك: جَاءَ زيد، وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال لَا يعْتد بِهِ.
    ........
    (3/122)
    جَوَاز الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ واستحبابه ورجحانه على الِاقْتِصَار على الْحجر، وَقد اخْتلف النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف أَن الْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر، فَإِن اقْتصر، اقْتصر على أَيهمَا شَاءَ، لَكِن المَاء أفضل لأصالته فِي التنقية. وَقد قيل: ان الْحجر أفضل. وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي: لَا يجوز الْحجر إلاَّ لمن عدم المَاء،ويستنبط مِنْهُ حكم آخر وَهُوَ: اسْتِحْبَاب خدمَة الصَّالِحين وَأهل الْفضل والتبرك بذلك
    .........
    (3/ 124)
    الأعرابي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُم، وهم سكان الْبَادِيَة، والعربي نِسْبَة إِلَى الْعَرَب، وهم أهل الْأَمْصَار وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا للْعَرَب، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِيمَا تقدم،وَالْألف وَاللَّام فِي: الْأَعرَابِي،وَفِي: الْمَسْجِد، للْعهد الذهْنِي
    ............

  11. #231
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأثنين
    الموافق : 15/ ذو القعدة / 1441 هجري
    الموافق : 6/ 7يونيو/ 2020 ميلادي
    " نهاية المجلد الثالث " ويليه " المجلد الرابع
    " كتاب " التيمم "

    (3/ 125)
    وعملنا بالضعيف على زعمكم لَا على زَعمنَا فِيمَا إِذا كَانَت الأَرْض رخوة، وَالْعَمَل بِالْكُلِّ أولى من الْعَمَل بالبغض وإهمال الْبَعْض. وَأما الْمُرْسل فَهُوَ مَعْمُول بِهِ عندنَا، وَالَّذِي يتْرك الْعَمَل بالمرسلات يتْرك الْعَمَل باكثر الاحاديث وَفِي اصْطِلَاح الْمُحدثين ان مرسلين صَحِيحَيْنِ اذا عارضا حَدِيثا صَحِيحا مُسْندًا كَانَ الْعَمَل بِالْمُرْسَلين أولى، فَكيف مَعَ عدم الْمُعَارضَة؟

    ...........
    (3/ 130)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْخلاف فِي كَيْفيَّة تَطْهِير الشَّيْء الَّذِي بَال عَلَيْهِ الصَّبِي، وَلَا خلاف فِي نَجَاسَته، وَقد نقل بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْعلمَاء على نَجَاسَة بَوْل الصَّبِي، وَأَنه لم يُخَالف فِيهِ إلاَّ دَاوُد. وَأما مَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن بن بطال،ثمَّ القَاضِي عِيَاض عَن الشَّافِعِي وَغَيره أَنهم قَالُوا: بَوْل الصَّبِي طَاهِر وينضح، فحكايته بَاطِلَة قطعا. قلت: هَذَا إِنْكَار من غير برهَان، وَلم ينْقل هَذَا عَن الشَّافِعِي وَحده، بل نقل عَن مَالك أَيْضا أَن بَوْل الصَّغِير الَّذِي لَا يطعم طَاهِر، وَكَذَا نقل عَن الْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ،ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ وَكَيْفِيَّة طَهَارَة بَوْل الصَّبِي وَالْجَارِيَة على ثَلَاثَة مَذَاهِب: وفيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمُخْتَار أَنه يَكْفِي النَّضْح فِي بَوْل الصَّبِي وَلَا يَكْفِي فِي بَوْل الْجَارِيَة، بل لَا بُد من غسله كَغَيْرِهِ من النَّجَاسَات. وَالثَّانِي: أَنه يَكْفِي النَّضْح فيهمَا. وَالثَّالِث: لَا يَكْفِي النَّضْح فيهمَا، وهما شَاذان ضعيفان. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْفرقِ: عَليّ بن أبي طَالب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن وهب من أَصْحَاب مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى،قلت: علم من ذَلِك أَن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي هُوَ التَّفْرِيق بَين حكم بَوْل الصَّبِي وَبَوْل الصبية قبل أَن يَأْكُل الطَّعَام، وَأَنه يدل على أَن بَوْل الصَّبِي طَاهِر، وَبَوْل الصبية نجس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر.
    وَاحْتَجُّوا على ذَلِك باحاديث مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، الْمَذْكُور. لِأَن إتباع المَاء الْبَوْل هُوَ النَّضْح دون الْغسْل،وَلِهَذَا صرح فِي رِوَايَة مُسلم: (وَلم يغسلهُ) ، وَعدم الْغسْل دلّ على طَهَارَة بَوْل الصَّبِي. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الرَّضِيع: (يغسل بَوْل الْجَارِيَة وينضح بَوْل الْغُلَام) ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَمِنْهَا: حَدِيث لبَابَة بنت الْحَارِث، أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَت: (كَانَ الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَال عَلَيْهِ،فَقلت: إلبس ثوبا وَأَعْطِنِي إزارك حَتَّى أغسله. قَالَ: إِنَّمَا يغسل من بَوْل الْأُنْثَى وينضح من بَوْل الذّكر)
    وَمذهب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك أَنه لَا يفرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالصَّغِيرَة فِي نَجَاسَته، وجعلوهما سَوَاء فِي وجوب غسله مِنْهُمَا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد ابْن الْمسيب وَالْحسن بن حَيّ وَالثَّوْري
    ........
    (3/131)
    قَالَ النَّوَوِيّ: وَأما حَقِيقَة النَّضْح هَهُنَا فقد اخْتلف اصحابنا فِيهَا، فَذهب الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ إِلَى أَن مَعْنَاهُ أَن الشَّيْء الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل يغمر بِالْمَاءِ كَسَائِر النَّجَاسَات، بِحَيْثُ لَو عصر لانعصر، وَذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ والمحققون إِلَى أَن النَّضْح أَن يغمر ويكاثر بِالْمَاءِ مكاثرة لَا يبلغ جَرَيَان المَاء وتقاطره، بِخِلَاف المكاثرة فِي غَيره، فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهَا أَن يكون بِحَيْثُ يجْرِي بعض المَاء ويتقاطر من الْمحل، وَإِن لم يشْتَرط عصره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، ثمَّ إِن النَّضْح إِنَّمَا يجزىء مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر بِهِ على الرَّضَاع، أما إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب الْغسْل بِلَا خلاف، وسنقول معنى النَّضْح مِمَّا قَالَه أهل اللُّغَة فِي الحَدِيث الْآتِي، وَلَا فرق بَين النَّضْح وَالْغسْل فِيمَا قَالَه الْبَغَوِيّ والجويني. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، أَرَادَ أَن الْحَنَفِيَّة اتبعُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْقيَاس،يَعْنِي: تركُوا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وذهبوا إِلَى الْقيَاس،وَقَالُوا: المُرَاد من قَوْلهمَا،أَي: من قَول أم قيس، وَلم يغسلهُ،أَي: غسلا مبالغاً فِيهِ، وَهُوَ خلاف الظَّاهِر.

    ........
    (3/ 131)
    مَا ورد فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر الَّتِي فِيهَا التَّفْرِقَة بَينهمَا أوجه: مِنْهَا: مَا هُوَ رَكِيك، وَأقوى ذَلِك مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور مِنْهَا بالإناث،يَعْنِي: فحصت الرُّخْصَة فِي الذُّكُور لِكَثْرَة الْمَشَقَّة. قلت: نقل عَن بَعضهم للغمز على الْحَنَفِيَّة، وَلَكِن هَذَا لَا يشفي غلتهم،فَقَوله: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، غير صَحِيح، لأَنهم مَا اتبعُوا فِي ذَلِك إلاَّ الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج خصمهم بهَا، وَلَكِن على غير الْوَجْه الَّذِي ذكرُوا، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن محرراً، على أَنه قد رُوِيَ عَن بعض الْمُتَقَدِّمين من التَّابِعين مَا يدل على أَن الأبوال كلهَا سَوَاء فِي النَّجَاسَة، وَأَنه لَا فرق بَين بَوْل الذّكر والانثى، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ،وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة،قَالَ: حَدثنَا حجاج،قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلهَا. حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة،قَالَ: حَدثنَا حجاج،قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن حميد عَن الْحسن أَنه قَالَ: بَوْل الْجَارِيَة يغسل غسلا وَبَوْل الْغُلَام يتبع بِالْمَاءِ، أَفلا يرى أَن سعيداً قد سوى بَين حكم الأبوال كلهَا، من الصّبيان وَغَيرهم، فَجعل مَا كَانَ مِنْهُ رشاً يطهر بالرش، وَمَا كَانَ مِنْهُ صبا يطهر بالصب، لَيْسَ لِأَن بَعْضهَا عِنْده طَاهِر وَبَعضهَا غير طَاهِر، وَلكنهَا كلهَا عِنْده نَجِسَة،وَفرق بَين التَّطْهِير من نجاستها عِنْده بِضيق مخرجها وسعته إنتهى كَلَام الطَّحَاوِيّ وَمعنى قَوْله: وَفرق ... إِلَى آخِره، أَن مخرج الْبَوْل من الصَّبِي ضيق فيرش الْبَوْل، وَمن الْجَارِيَة وَاسع فَيصب الْبَوْل صبا، فيقابل الرش بالرش والصب بالصب.

    ............
    (3/135)
    جَوَاز الْبَوْل قَائِما فقاعداً أجوز لِأَنَّهُ أمكن، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا فأباحه قوم،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن عمر وَابْنه وَزيد بن ثَابت وَسَهل بن سعد أَنهم بالوا قيَاما، وأباحه سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة ومحمدابن سِيرِين وَزيد بن الْأَصَم وَعبيدَة السَّلمَانِي وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَالشعْبِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ،وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ فِي مَكَان لَا يتطاير عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء فَلَا بَأْس بِهِ، وإلاَّ فمكروه. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء: الْبَوْل قَائِما مَكْرُوه إلاَّ لعذر، وَهِي كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، وَكَذَلِكَ رُوِيَ وَالْبَوْل قَائِما عَن أنس وَعلي بن أبي طَالب وابي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم وَكَرِهَهُ ابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم لَا يُجِيز شَهَادَة من بَال قَائِما،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الْبَوْل جَالِسا أحب إِلَيّ، وَقَائِمًا مُبَاح، وكل ذَلِك ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    فَإِن قلت: رويت أَحَادِيث ظَاهرهَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب. مِنْهَا: حَدِيث الْمِقْدَاد عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (من حَدثَك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما فَلَا تصدقه، أَنا رَأَيْته يَبُول قَاعِدا) ، أخرجه البستي فِي (صَحِيحه) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ،وَقَالَ: حَدِيث عَائِشَة أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأَصَح. وَأخرج أَبُو عوَانَة الإسفرائيني فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (مَا بَال قَائِما مُنْذُ أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن) . وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة،رَوَاهُ الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد حَدثنَا سعيد بن عبيد الله حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاث من الْجفَاء: أَن يَبُول الرجل قَائِما) الحَدِيث،وَقَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إلاَّ سعيد بن عبد الله،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحَدِيث بُرَيْدَة فِي هَذَا غير مَحْفُوظ، وَقَول التِّرْمِذِيّ يرد بِهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن جريج: أخبرنَا عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبول قَائِما،فَقَالَ: يَا عمر! لَا تبل قَائِما. قَالَ: فَمَا بلت قَائِما بعد) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عدي بن الْفضل عَن عَليّ بن الحكم عَن أبي نَضرة عَن جَابر: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبُول الرجل قَائِما) .
    قلت: أما الْجَواب عَن حَدِيث عَائِشَة إِنَّه مُسْتَند إِلَى علمهَا فَيحمل على مَا وَقع مِنْهُ فِي الْبيُوت، وَأما فِي غير الْبيُوت فَلَا تطلع هِيَ عَلَيْهِ، وَقد حفظه حُذَيْفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ من كبار الصَّحَابَة،وَأَيْضًا يُمكن أَن يكون قَول عَائِشَة: (مَا بَال قَائِما) ، يَعْنِي فِي منزله، وَلَا اطلَاع لَهَا مَا فِي الْخَارِج. فان قلت: قَالَ أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَابْن شاهين: إِن حَدِيث حُذَيْفَة مَنْسُوخ بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا،قلت: الصَّوَاب أَنه لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن كلاًّ من عَائِشَة وَحُذَيْفَة أخبر بِمَا شاهدة، فَدلَّ على أَن الْبَوْل قَائِما وَقَاعِدا يجوز، وَلَكِن كرهه الْعلمَاء قَائِما لوُجُود أَحَادِيث النَّهْي، وَإِن كَانَ أَكْثَرهَا غير ثَابت. وَأما حَدِيث بُرَيْدَة فِي هَذَا غير مَحْفُوظ، وَلَكِن فِيهِ نظر، لِأَن الْبَزَّار أخرجه بِسَنَد صَحِيح كَمَا ذكرنَا.
    حَدِيث عمر فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فَحَدِيث ضَعِيف، لِأَن ابْن جريج رَوَاهُ عَن عبد الْكَرِيم بن الْمخَارِق أَبُو امية وَهُوَ ضَعِيف،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّمَا رَفعه عبد الْكَرِيم، وَقد ضعفه أَيُّوب، وَتكلم فِيهِ،وروى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: قَالَ: عمر: مَا بلت قَائِما مُنْذُ أسلمت، هَذَا أصح من حَدِيث عبد الْكَرِيم. وَأما حَدِيث جَابر،فَفِي رُوَاته: عدي بن الْفضل وَهُوَ ضَعِيف. فان قلت: قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الْبَلْخِي فِي كِتَابه الْمُسَمّى (بِقبُول الْأَخْبَار وَمَعْرِفَة الرِّجَال) : حَدِيث حُذَيْفَة يَعْنِي هَذَا حَدِيث فَاحش مُنكر لَا نراهه إلاَّ من قبل بعض الزَّنَادِقَة. قلت: هَذَا كَلَام سوء لَا يُسَاوِي سَمَاعه، وَهُوَ فِي غَايَة الصِّحَّة
    ............
    (3/136)
    ثمَّ إِن الْعلمَاء تكلمُوا فِي سَبَب بَوْله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فَقَالَ الشَّافِعِي،لما سَأَلَهُ حَفْص الْفَرد عَن الْفَائِدَة فِي بَوْله قَائِما: الْعَرَب تستشفي لوجع الصلب بالبول قَائِما، فنرى أَنه كَانَ بِهِ ذَاك. قلت: يُوضح ذَلِك حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْمَذْكُور
    وَأخرج حَدِيثه الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن حَمَّاد بن غَسَّان الْجعْفِيّ: حَدثنَا معن عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن ابي هُرَيْرَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما من جرح كَانَ بمآبضه) ،وَقَالَ الذَّهَبِيّ: هَذَا مُنكر، وَضَعفه الدَّارَقُطْنِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه (مَجْمُوع الرغائب فِي ذكر أَحَادِيث مَالك الغرائب)
    قَالَ الْمَازرِيّ فِي (الْعلم) : فعل ذَلِك لِأَنَّهَا حَالَة يُؤمن فِيهَا خُرُوج الْحَدث من السَّبِيل الآخر، بِخِلَاف الْقعُود، وَمِنْه قَول عمر بن الْخطاب،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الْبَوْل قَائِما أحصن للدبر. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجد مَكَانا للقعود فاضطر إِلَى الْقيام لكَون الطّرف الَّذِي يَلِيهِ السباطة عَلَيْهَا مرتفعاً. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّه كَانَت فِي السباطة نجاسات رطبَة، وَهِي رخوة، فخشي أَن يتطاير عَلَيْهِ. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن الْقَائِم أَجْدَر بِهَذِهِ الخشية من الْقَاعِد. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لكَون ذَلِك سهلاً ينحدر فِيهِ الْبَوْل فَلَا يرْتَد على البائل،وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بَيَان للْجُوَاز فِي هَذِه الْمرة، وَكَانَت عَادَته المستمرة الْبَوْل قَاعِدا.
    ..........
    (3/138)
    مَا وَجه تلقيب يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِم السَّلَام، بإسرائيل؟قلت: كَانَ يَعْقُوب وعيصو أَخَوَيْنِ، كَانَا فِي بطن أمهما مَعًا. فَلَمَّا جَاءَ وَقت وضعهما اقتتلا فِي بَطنهَا لأجل الْخُرُوج أَولا،فَقَالَ عيصو: وَالله لَئِن خرجت قبلي الاعترض فِي بطن أُمِّي لأقتلها، فَتَأَخر يَعْقُوب وَخرج عيصو قبله،فَسمى: عيصو، لِأَنَّهُ عصى،وسمى: يَعْقُوب، لِأَنَّهُ خرج آخِذا بعقب عيصو. وَكَانَ يَعْقُوب أكبرهما فِي الْبَطن، وَكَانَ أحبهما إِلَى أمه،وَكَانَ: عيصو، أحبهما إِلَى أَبِيه، وَكَانَ صَاحب صيد،فَلَمَّا كبر أَبوهُمَا إِسْحَاق وَعمي قَالَ لعيصو: يَا بني أَطْعمنِي لحم صيد أدعُ لَك بِدُعَاء كَانَ ابي دَعَا لي بِهِ، وَكَانَ أشعر، وَكَانَ يَعْقُوب أجرد، فَخرج عيصو إِلَى الصَّيْد،وَقَالَت أمه ليعقوب: خُذ شَاة واشوها والبس جلدهَا، وقدمها إِلَى أَبِيك،وَقل لَهُ: أَنا ابْنك عيصو، فَفعل،فمسه إِسْحَاق فَقَالَ: المسّ مسّ عيصو، وَالرِّيح ريح يَعْقُوب،فَقَالَت أمه: ابْنك عيصو فَادع لَهُ، فَأكل مِنْهَا ودعا لَهُ بِأَن الله يَجْعَل فِي ذُريَّته الْأَنْبِيَاء والملوك،ثمَّ جَاءَ عيصو بالصيد فَقَالَ إِسْحَاق: يَا بني قد سَبَقَك أَخُوك،فَغَضب وَقَالَ: وَالله لاقتلنه. فَقَالَ اسحاق: يَا بني قد بقيت دَعْوَة،فَدَعَا لَهُ: بِأَن تكون ذُريَّته عدد التُّرَاب وَلَا يملكهم أحد. وَقَالَت أم يَعْقُوب: إلحق بخالك فَكُن عِنْده، خشيَة أَن يقْتله عيصو، فَانْطَلق يَعْقُوب إِلَى خَاله لابان، وَكَانَ بِبَابِل،وَقيل: بحرَّان، فَكَانَ يسير بِاللَّيْلِ ويكمن بِالنَّهَارِ، فَلذَلِك سمي إِسْرَائِيل،فَأخذ من: السرى وَاللَّيْل، قَالَه السّديّ. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ عبد الله،لِأَن: ايل، اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى بالسُّرْيَانيَّ ة،كَمَا يُقَال: جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل.

    ...............
    (3/140)
    وَفِي حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة البُخَارِيّ: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم قَالَت بريقها، فمعنعته بظفرها) . أَي: عركته. وَاخْتلف فِي سَماع مُجَاهِد عَن عَائِشَة، فَأنكرهُ ابْن حبَان وَيحيى بن معِين وَيحيى بن سعيد وَشعْبَة وَآخَرُونَ، وأثبته البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَمُسلم وَآخَرُونَ،وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث الْقَاسِم عَنْهَا: (ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عِنْد طهرهَا فتغسله وتنضح على سائره ثمَّ تصلي فِيهِ) . وَفِي حَدِيث أم قيس بنت مُحصن، عِنْد ابْن خُزَيْمَة،وَابْن حبَان: (إغسليه بِالْمَاءِ والسدر وحكيه وَلَو بضلع) ،زَاد ابْن حبَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسليه بِالْمَاءِ) ، أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر ندب وإرشاد. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ حَدِيث فِي غَايَة الصِّحَّة،وَعَابَ على أبي أَحْمد قَوْله: الْأَحَادِيث الصِّحَاح لَيْسَ فِيهَا ذكر الضلع والسدر
    فَالْأَحْسَن مَا قَالَه الخاطبي. قلت: الَّذِي قَالَه الْقُرْطُبِيّ هُوَ الْأَحْسَن لِأَنَّهُ يلْزم التّكْرَار من قَول الخاطبي بِلَا فَائِدَة، لأَنا ذكرنَا أَن الحت هُوَ الفرك، والقرص هُوَ الدَّلْك بأطراف الاصابع مَعَ صب المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره، لما نَقَلْنَاهُ عَن القَاضِي عِيَاض،
    ............
    (3/141)
    مَا قَالَه الخاطبي: إِن فِيهِ دَلِيلا على أَن النَّجَاسَات إِنَّمَا تَزُول بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات، لَان جَمِيع النَّجَاسَات بِمَثَابَة الدَّم، لَا فرق بَينه وَبَينهَا إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) على أَصْحَابنَا فِي وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات الطاهرة. قلت: هَذَا خرج مخرج الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط،كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23) وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن المَاء أَكثر وجودا من غَيره،أَو نقُول: تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ،أَو نقُول: إِنَّه مَفْهُوم لقب، وَلَا يَقُول بِهِ إمامنا.

    .......
    (1/141)
    وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب،ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير، لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره. وَقَالَ مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات. وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر الدِّمَاء،وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار الدِّرْهَم وَلَا دونه. قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا،
    .......
    (3/142)
    وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب،ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير، لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره. وَقَالَ مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات. وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر الدِّمَاء،وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار الدِّرْهَم وَلَا دونه. قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا،وَلَفظه: (قَالَت بريقها فمصعته) ، يدل على الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ، وَأما الْكثير مِنْهُ فصح عَنْهَا. أَي: عَن عَائِشَة. أَنَّهَا كَانَت تغسله، فَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير من النَّجَاسَة،وعَلى الشَّافِعِي أَيْضا فِي قَوْله: (إِن يسير الدَّم يغسل كَسَائِر الأنجاس إلاَّ دم الراغيث، فَإِنَّهُ لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ) . وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَا يرى بالقطرة والقطرتين بَأْسا فِي الصَّلَاة، وعصر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بثرة فَخرج مِنْهَا دم فمسحه بِيَدِهِ وَصلى، فالشافعية لَيْسُوا بإكثر إحتياطاً من أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، وَلَا أَكثر رِوَايَة عَنْهُمَا حَتَّى خالفوهما، حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْقَلِيل وَالْكثير، على أَن قَلِيل الدَّم مَوضِع ضَرُورَة، لِأَن الْإِنْسَان لَا يَخْلُو فِي غَالب حَاله من بثرة أَو دمل أَو برغوث، فعفى عَنهُ، وَلِهَذَا حرم الله المسفوح مِنْهُ،
    ........
    (3/143)
    مَا عَلامَة إدبار الْحيض وإنقطاعه، والحصول فِي الطُّهْر. قلت: أما عِنْد أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَأَصْحَابه: الزَّمَان وَالْعَادَة هُوَ الفيصل بَينهمَا، فَإِذا أضلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ، وَأما عِنْد الشَّافِعِي وَأَصْحَابه اخْتِلَاف الألوان هُوَ الفيصل، فالأسود أقوى من الْأَحْمَر، والأحمر أقوى من الْأَشْقَر، والأشقر أقوى من الْأَصْفَر، والأصفر أقوى من الأكدر إِذا جعلا حيضا، فَتكون حَائِضًا فِي أَيَّام القوى، مُسْتَحَاضَة فِي أَيَّام الضعْف،والتمييز عِنْده بِثَلَاثَة شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يزِيد الْقوي على خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَالثَّانِي: أَن لَا ينقص عَن يَوْم وَلَيْلَة ليمكن جعله حيضا. وَالثَّالِث: أَن لَا ينقص الضَّعِيف عَن خَمْسَة عشر يَوْمًا، ليمكن جعله طهرا بَين الحيضتين، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد،وَقَالَ الثَّوْريّ: عَلامَة إنقطاع الْحيض والحصول فِي الطُّهْر أَن يَنْقَطِع خُرُوج الدَّم والصفرة والكدرة، سَوَاء خرجت رُطُوبَة بَيْضَاء أَو لم يخرج شَيْء أصلا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ،وَابْن الصّباغ: الترية رُطُوبَة خَفِيفَة لَا صفرَة فِيهَا وَلَا كدرة، تكون على القطنة أثر لَا لون، وَهَذَا يكون بعد انْقِطَاع الْحيض.
    .........
    (3/145)
    ا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وطىء الْأَذَى بخفيه فطهورهما التُّرَاب) . وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا،وَلَفظه: (إِذا وطىء أحدكُم الْأَذَى بخفيه أَو نَعله فطهورهما التُّرَاب) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَكَانَ ذَلِك التُّرَاب يجزىء من غسلهمَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على طَهَارَة الْأَذَى فِي نَفسه، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ فِي الْمَنِيّ. فان قلت: فِي سَنَده مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ، وَقد تكلمُوا فِيهِ. قلت: وَثَّقَهُ ابْن حبَان وروى حَدِيثه فِي (صَحِيحه) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي (الْخُلَاصَة) : وَرَوَاهُ ابو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح،وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول ابْن الْقطَّان: وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق لَا يظنّ بهَا الصِّحَّة.
    ........
    (3/151)
    قَالَ ابْن بطال: قَوْله: أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب، وَافق البُخَارِيّ فِيهِ أهل الظَّاهِر، وقاس بَوْل مَا يكون مَأْكُولا لَحْمه على بَوْل الْإِبِل،وَلذَلِك قَالَ: وَصلى أَبُو مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد والسرقين، ليدل على طَهَارَة أرواث الدَّوَابّ وَأَبْوَالهَا، وَلَا حجَّة لَهُ فِيهَا، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون صلى على ثوب بَسطه فِيهِ أَو فِي مَكَان يَابِس لَا تعلق بِهِ نَجَاسَة. وَقد قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء: إِن من بسط على مَوضِع نجس بساطاً وَصلى فِيهِ إِن صلَاته جَائِزَة، وَلَو صلى على السرقين بِغَيْر بِسَاط لَكَانَ مذهبا لَهُ، وَلم تجز مُخَالفَة الْجَمَاعَة بِهِ. وَقَالَ بَعضهم نصْرَة للْبُخَارِيّ وردا على ابْن بطال: وَأجِيب بِأَن الأَصْل عَدمه، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (جَامعه) عَن الْأَعْمَش بِسَنَدِهِ،وَلَفظه: صلى بِنَا أَبُو مُوسَى على مَكَان فِيهِ سرقين، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه بِغَيْر حَائِل. قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِحَائِل، لِأَن شَأْنه يَقْتَضِي أَن يحْتَرز عَن الصَّلَاة على عين السرقين،ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد روى سعيد بن مَنْصُور عَن سعيد بن الْمسيب وَغَيره: أَن الصَّلَاة على الطنفسة مُحدث، إِسْنَاده صَحِيح
    ..........
    (3/153)
    وَفِي (طَبَقَات) ابْن سعد: أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إثرهم كرز بن جَابر الفِهري وَمَعَهُ عشرُون فَارِسًا، وَكَانَ العرنيون ثَمَانِيَة، وَكَانَت اللقَاح ترعى بِذِي الحدر، نَاحيَة بقيا قَرِيبا من نمير، على سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة، فَلَمَّا غدوا على اللقَاح أدركهم يسَار مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ نفر فَقَاتلهُمْ فَقطعُوا يَده وَرجله وغرز والشوك فِي لِسَانه وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَفعل بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك، وَأنزل عَلَيْهِ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الارض فَسَادًا ... } (الْمَائِدَة: 33) الْآيَة. فَلم يسمل بعد ذَلِك عينا. انْتهى. وَكَانَ يسَار نوبياً أَصَابَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة محَارب، فَلَمَّا رَآهُ يحسن الصَّلَاة أعْتقهُ، وَقَالَ ابْن عقبَة كَانَ أَمِير السّريَّة سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وخمل يسَار مَيتا فَدفن بقباء وَزعم الرشاطي أَنهم من غير عرينة الَّتِي فِي قضاعة، وَفِي (مُصَنف عبد الرَّزَّاق) : كَانُوا من بني فَزَارَة،وَفِي كتاب ابْن الطلاع: أَنهم كَانُوا من بني سليم، وَفِيه نظر، لِأَن هَاتين القبيلتين لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ العرنيين. وَفِي (مُسْند الشاميين) للطبراني عَن أنس: كَانُوا سَبْعَة: أربة من عرينة وَثَلَاثَة من عكل، فَقيل العرنيين لِأَن أَكْثَرهم كَانَ من عرينة، وَذكرنَا عَن الطَّبَرِيّ نَحوه،
    ......
    (3/155)
    لَو كَانَت أَبْوَال الْإِبِل مُحرمَة الشّرْب لما جَازَ التَّدَاوِي بهَا لما روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شِفَاء امتي فِيمَا حرم عَلَيْهَا) . وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار،وَأما حَالَة الِاضْطِرَار فَلَا يكون حَرَامًا: كالميتة للْمُضْطَر، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا حَدِيث بَاطِل، لِأَن فِي مُسْنده سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ وَهُوَ مَجْهُول. قلت: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَصَححهُ،قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْمثنى،قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة،قَالَ: حَدثنَا جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن حسان بن الْمخَارِق قَالَ: (قَالَت أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: اشتكت ابْنة لي، فنبذت لَهَا فِي كوز،فَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يغلي فَقَالَ: مَا هَذَا؟فَقلت: اشتكت ابْنَتي فنبذنا لَهَا هَذَا: فَقَالَ،عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِي حرَام) . وَقَول ابْن حزم: أَن فِي سَنَده سلمَان وهم،وَإِنَّمَا هُوَ: سُلَيْمَان، بِزِيَادَة الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ أحد الثِّقَات، أخرج عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) فَإِن قلت: يرد عَلَيْهِ قَوْله،عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخمر: إِنَّهَا لَيست بدواء وَإِنَّهَا دَاء، فِي جَوَاب من سَأَلَ عَن التَّدَاوِي بهَا. قلت: هَذَا رُوِيَ عَن سُوَيْد بن طَارق: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخمر فَنَهَاهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَنَهَاهُ،فَقَالَ يَا نَبِي الله: إِنَّهَا دَوَاء! فَقَالَ: لَا، وَلكنهَا دَاء) . وَأجَاب ابْن حزم عَن ذَلِك فَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ،لِأَن فِي سَنَده: سماك بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك شُعْبَة وَغَيره، وَلَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة،لِأَن فِيهِ: أَن الْخمر لَيْسَ بدواء، وَلَا خلاف بَيْننَا فِي أَنَّهَا لَيْسَ بداوء فَلَا يحل تنَاوله، وَقد أجَاب بَعضهم بِأَن ذَلِك خَاص بِالْخمرِ، ويلتحق بهَا غَيرهَا من المسكرات. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن دَعْوَى
    الخصوصية بِلَا دَلِيل لَا تسمع، وَالْجَوَاب الْقَاطِع أَن هَذَا مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار كَمَا ذكرنَا. فان قلت: رُوِيَ عَن ابْن عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد فَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا) ، وَرُوِيَ عَن جَابر والبراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،مَرْفُوعا: (مَا أكل لَحْمه فَلَا بَأْس ببوله)
    ............
    (3/157)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إلاَّ الشَّافِعِي،فَإِنَّهُ قَالَ: لَا إِكْرَاه الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إِذا كَانَ سليما من أبعارها وَأَبْوَالهَا، وَمِمَّنْ روى عَنهُ إجَازَة ذَلِك، وَفعله ابْن عمر وَجَابِر وَأَبُو ذَر وَالزُّبَيْر وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث الْبَاب حجَّة على الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص مَوضِع من آخر، وَمَعْلُوم أَن مرابضها لَا تسلم من البعر وَالْبَوْل، فَدلَّ على الْإِبَاحَة وعَلى طَهَارَة الْبَوْل والبعر. قلت: قد اسْتدلَّ بِهِ من يَقُول بِطَهَارَة بَوْل الْمَأْكُول لَحْمه وروثه،وَقَالُوا: لِأَن المرابض لَا تَخْلُو عَن ذَلِك، فَدلَّ على أَنهم كَانُوا يباشرونها فِي صلواتهم فَلَا تكون نَجِسَة
    الَ: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن لم تَجدوا إلاَّ مرابض الْغنم وأعطان الْإِبِل فصلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل. قَالَ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ : حسن صَحِيح. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) من حَدِيث أبي حبَان عَن ابي زرْعَة عَنهُ مَرْفُوعا: (الْغنم من دَوَاب الْجنَّة فامسحوا رغامها وصلوا فِي مرابضها) . وَعند الْبَزَّار فِي (مُسْنده) : (أَحْسنُوا إِلَيْهَا وأميطوا عَنْهَا الْأَذَى) . وَفِي حَدِيث عبد الله بن الْمُغَفَّل: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ) كَذَا رَوَاهُ جمَاعَة
    وَفِي مُسْند عبد الله بن وهب الْبَصْرِيّ عَن سعيد بن أبي أَيُّوب عَن رجل حَدثهُ عَن ابْن الْمُغَفَّل: (نهى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يُصَلِّي فِي معاطن الْإِبِل، وَأمر أَن يُصَلِّي فِي مراح الْبَقر وَالْغنم) . وَعند ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة عَن أَبِيه عَن جده، مَرْفُوعا: (لَا يُصَلِّي فِي أعطان الْإِبِل، وَيُصلي فِي مراح الْغنم) . وَعند ابي الْقَاسِم بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عقبَة بت عَامر: (صلوا فِي مرابض الْغنم) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْن عمر وَأسيد بن حضير، وَعند ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث الرَّاء: (سُئِلَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم؟ فَقَالَ: صلوا فِيهَا فَإِنَّهَا بركَة) . وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يجوز الصَّلَاة أَيْضا فِي مراح الْبَقر لعُمُوم قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَيْنَمَا أَدْرَكتك الصَّلَاة فصلِّ) . وَهُوَ قَول عَطاء وَمَالك. قلت: ذهل ابْن الْمُنْذر عَن حَدِيث عبد الله بن وهب الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا حَتَّى اسْتدلَّ بذلك، فَلَو وقف عَلَيْهِ لاستدل بِهِ. وَالله تَعَالَى أعلم
    ..........
    (3/159)
    أَن مَذْهَب الزُّهْرِيّ فِي المَاء الَّذِي يخالطه شَيْء نجس الِاعْتِبَار بتغيره بذلك من غير فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْعلمَاء، وشنع أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) على من ذهب إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن: من بَال فِي إبريق وَلم يُغير للْمَاء وَصفا إِنَّه يجوز لَهُ التطهر بِهِ، هُوَ مستشنع. قَالَ بَعضهم: وَلِهَذَا نصر قَول التَّفْرِيق بالقلتين. قلت: كَيفَ ينصر هَذَا بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ، وَقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَدَاره على علته، أَو مُضْطَرب فِي الرِّوَايَة، أَو مَوْقُوف، وحسبك أَن الشَّافِعِي رِوَايَة عَن الْوَلِيد بن كثير وَهُوَ إباضي. وَاخْتلفت رِوَايَته فَقيل: قُلَّتَيْنِ، وَقيل: قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ قلَّة، وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ فرقا، ووقف على أبي هُرَيْرَة وَعبيد الله بن عمر، وَقَالَ الْيَعْمرِي: حكم ابْن مَنْدَه بِصِحَّتِهِ على شَرط مُسلم من جِهَة الروَاة، وَلكنه أعرض عَن جِهَة الرِّوَايَة بِكَثْرَة الِاخْتِلَاف فِيهَا وَالِاضْطِرَاب، وَلَعَلَّ مُسلما تَركه لذَلِك. قلت: وَكَذَلِكَ لم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف وَقع فِي إِسْنَاده. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : مَا ذهب إِلَى الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر، غير ثَابت فِي الْأَثر، لِأَنَّهُ قد تكلم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ. وَقَالَ الدبوسي فِي كتاب (الْأَسْرَار) : هُوَ خبر ضَعِيف، وَمِنْهُم من لم يقبله، لِأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يعملوا بِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَمذهب الزُّهْرِيّ هُوَ قَول الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ، وَمذهب أهل الْمَدِينَة، وَهِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن مَالك، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَن قَلِيل المَاء ينجس بِقَلِيل النَّجَاسَة، وَإِن لم يظْهر فِيهِ. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنى عَن عبد الله بن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَسَعِيد بن الْمسيب على اخْتِلَاف عَنهُ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَابْن صَالح بن حَيّ وَدَاوُد بن عَليّ وَمن تبعه، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْبَصْرَة. وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ الصَّحِيح فِي النّظر، وثابت بالأثر من ذَلِك صب المَاء على بَوْل الْأَعرَابِي.
    وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء، وَمذهب أَصْحَابنَا المَاء إِمَّا جارٍ أَو راكد، قَلِيل أَو كثير؛ فالجاري إِذا وَقعت فِيهِ النَّجَاسَة وَكَانَت غير مرئية كالبول وَالْخمر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا ينجس مَا لم يتَغَيَّر لَونه أَو طعمه أَو رِيحه، وَإِن كَانَت مرئية كالجيفة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ لَا ينجس. فَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا جَمِيع المَاء لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من أَسْفَلهَا، وان كَانَ يجْرِي أَكْثَرهَا عَلَيْهَا فَكَذَلِك اعْتِبَارا للْغَالِب، وَإِن كَانَ أَقَله يجْرِي عَلَيْهَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من اسفلها، وَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا النّصْف دون النّصْف فَالْقِيَاس جَوَاز التَّوَضُّؤ. وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يجوز احْتِيَاطًا. والراكد اخْتلفُوا فِيهِ: فَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: لَا ينجس أصلا. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء: إِن كَانَ المَاء قَلِيلا ينجس، وَإِن كثيرا لَا ينجس، لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي الْحَد الْفَاصِل بَينهمَا؛ فعندنا بالخلوص، فَإِن كَانَ يخلص بعضه إِلَى بعض فَهُوَ قَلِيل، وَإِلَّا فَهُوَ كثير. وَاخْتلف اصحابنا فِي تَفْسِير الخلوص بعد أَن اتَّفقُوا أَنه يعْتَبر الخلوص، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ: أَن يكون بِحَال لَو حرك طرف مِنْهُ يَتَحَرَّك الطّرف الآخر، فَهُوَ مِمَّا يخلص، وإلاَّ فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص.
    .........
    (3/160)
    وَقَالَ الشَّافِعِي: الْكل نجس إلاَّ الشّعْر، فَإِن فِيهِ خلافًا ضَعِيفا. وَفِي الْعظم أَضْعَف مِنْهُ. وَأما الْفِيل فَفِيهِ خلاف بَين أَصْحَابنَا، فَعِنْدَ مُحَمَّد هُوَ نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز بيع عظمه وَلَا يطهر جلده بالدباغ وَلَا بالذكاة، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف هُوَ كَسَائِر السباغ، فَيجوز الِانْتِفَاع بعظمه وَجلده بالدباغ
    ........
    (3/161)
    ن السّمن الجامد أذا وَقعت فِيهِ فَأْرَة أَو نَحْوهَا تطرح الْفَأْرَة وَيُؤْخَذ مَا حولهَا من السّمن ويرمى بِهِ، وَلَكِن إِذا تحقق أَن شَيْئا مِنْهَا لم يصل إِلَى شَيْء خَارج عَمَّا حولهَا وَالْبَاقِي يُؤْكَل، وَيُقَاس على هَذَا نَحْو الْعَسَل والدبس إِذا كَانَ جَامِدا، وَأما الْمَائِع فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه ينجس كُله، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا. وَقد شَذَّ قوم فَجعلُوا الْمَائِع كُله كَالْمَاءِ، وَلَا يعْتَبر ذَلِك، وسلك دواد بن عَليّ فِي ذَلِك مسلكهم إلاَّ فِي السّمن الجامد والذائب. فَإِنَّهُ تبع ظَاهر هَذَا الحَدِيث، وَخَالف مَعْنَاهُ فِي الْعَسَل والخل وَسَائِر الْمَائِعَات، فَجَعلهَا كلهَا فِي لُحُوق النَّجَاسَة إِيَّاهَا بِمَا ظهر فِيهَا، فشذ أَيْضا ويزمه أَن لَا يتَعَدَّى الْفَأْرَة كَمَا لَا يتَعَدَّى السّمن. قَالَ أَبُو عَمْرو: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الاستصباح بِهِ بعد إِجْمَاعهم على نَجَاسَته، فَقَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء لَا يستصبح بِهِ وَلَا ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك، الْحسن بن صَالح وَأحمد بن حَنْبَل محتجين بالرواية الْمَذْكُورَة، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه، وبعموم النَّهْي عَن الْميتَة فِي الْكتاب الْعَزِيز. وَقَالَ الْآخرُونَ: يجوز الاستصباح بِهِ وَالِانْتِفَاع فِي كل شَيْء الْأكل وَالْبيع وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما وَالثَّوْري، وَأما الْأكل فمجمع على تَحْرِيمه إلاَّ الشذوذ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأما الاستصباح فَروِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَنَّهُمَا أجازا ذَلِك، وَمن حجتهم فِي تَحْرِيم بَيْعه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعن الله الْيَهُود. حرمت عَلَيْهِم الشحوم فَبَاعُوهَا وأكلوا ثمنهَا أَن الله إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه) وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَفع بِهِ وَيجوز بَيْعه وَلَا يُؤْكَل، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد، وَقد رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالقَاسِم وَسَالم محتجين بالرواية الْأُخْرَى، وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ وانتفعوا وَالْبيع من بَاب الِانْتِفَاع
    ..........
    (3/163)
    وهم عبد الْملك وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، قَالَ: إِذا كَانَ جَامِدا فالقوها، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه) وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا اضْطِرَاب شَدِيد من مَالك فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يّ: هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَفِي رِوَايَة: سُئِلَ الزُّهْرِيّ عَن الداربة تَمُوت فِي الزَّيْت وَالسمن وَهُوَ جامد أَو غير جامد: فَقَالَ: بلغنَا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بفأرة مَاتَت فِي سمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح، ثمَّ أكل. وَلما كَانَ الْأَمر كَذَلِك بَين البُخَارِيّ أَن الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة هِيَ الْأَصَح
    .........
    (3/169)
    حَدِيث الْقلَّتَيْنِ خير آحَاد ورد مُخَالفا لإِجْمَاع الصَّحَابَة فَيرد بَيَانه أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم فتيا فِي زنجي وَقع فِي بِئْر زَمْزَم، بنزج المَاء كُله، وَلم يظْهر أَثَره فِي المَاء، وَكَانَ المَاء أَكثر من قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يُنكر عَلَيْهِمَا أحد مِنْهُم، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَخبر الْوَاحِد إِذا ورد مُخَالفا للْإِجْمَاع يرد، يدل عَلَيْهِ أَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ قَالَ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكفى بِهِ قدوة فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ أَبُو دَاوُد، لَا يكَاد يَصح لوَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي تَقْدِير المَاء. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابنَا فِي التَّقْدِير إِلَى الدَّلَائِل الحسية دون الدَّلَائِل السمعية.

    ..........
    (3/171)
    وَذكر ابْن بطال عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَسَالم وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وَطَاوُس: أَنه إِذا صلى فِي ثوب نجس، ثمَّ علم بِهِ بعد الصَّلَاة، لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَعَن ربيعَة وَمَالك: يُعِيد فِي الْوَقْت، وَعَن الشَّافِعِي: يُعِيد أبدا، وَبِه قَالَ أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَ
    ............
    (3/173)
    سلا جزور بني فلَان) سلا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالقصر: هِيَ الْجلْدَة الَّتِي يكون فِيهَا الْوَلَد، وَالْجمع أسلا. وَخص الْأَصْمَعِي: السلا، بالماشية وَفِي النَّاس بالمشيمة. وَفِي (الْمُحكم) السلا بِكَوْن للنَّاس وَالْخَيْل وَالْإِبِل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ جلدَة رقيقَة إِن نزعت عَن وَجه الفصيل سَالِمَة يُولد وإلاّ قتلته، وَكَذَلِكَ إِذا انْقَطع السلا فِي الْبَطن.
    .....(3
    (3/177)
    رْوَان بن الحكم بِفَتْح الْخَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، الْأمَوِي، ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل حِين نفى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَبَاهُ الحكم إِلَيْهَا، وَكَانَ مَعَ أَبِيه بهَا حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فردهما إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ إِسْلَام الحكم يَوْم فتح مَكَّة، وطرده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الطَّائِف لِأَنَّهُ كَانَ يفشي سره، مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، وَلما توفّي مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة بَايع بعض النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، وَمَات بِدِمَشْق سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ.
    ..........
    (...........
    (3/178)
    قَالَ عِكْرِمَة: النَّبِيذ وضوء من لم يجد المَاء،وَقَالَ إِسْحَاق: النَّبِيذ الحلو أحب إِلَيّ من التَّيَمُّم، وجمعهما أحب إليَّ وَعَن أبي حنيفَة كَقَوْل عِكْرِمَة،وَقيل عَنهُ: يجوز الْوضُوء بنبيذ التَّمْر إِذا طبخ وَاشْتَدَّ عِنْد عدم المَاء فِي السّفر، لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) لأبي بكر الرَّازِيّ، عَن أبي حنيفَة فِي ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات. إِحْدَاهَا: يتَوَضَّأ بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، وَلَا يتَيَمَّم، وَهَذِه هِيَ الْمَشْهُورَة، وَقَالَ قاضيخان، وَهُوَ قَوْله الأول، وَبِه قَالَ زفر. وَالثَّانيَِة: يتَيَمَّم وَلَا يتَوَضَّأ، رَوَاهَا عَنهُ نوح ابْن أبي مَرْيَم، وَأسد بن عَمْرو،وَالْحسن بن زِيَاد قَالَ قاضيخان: وَهُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَالَّذِي رَجَعَ إِلَيْهَا وَبهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَأكْثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيّ هَذَا. وَالثَّالِثَة: رُوِيَ عَنهُ الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا قَول مُحَمَّد وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) صفة هَذَا النَّبِيذ أَن يلقى فِي المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر، فَإِن اشْتَدَّ حرم شربه، فَكيف الْوضُوء
    .....
    (3/ 180)
    ي تَفْسِير النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تمرات ألقيتها فِي المَاء، لِأَن من عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا تطرح التَّمْر فِي المَاء ليحلو فَمَا دَامَ رَقِيقا حلواً أَو قارصاً يتَوَضَّأ بِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِن كَانَ غليظاً كالرب لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، وَكَذَا إِذا كَانَ رَقِيقا لكنه غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد لِأَنَّهُ صَار مُسكرا، والمسكر حرَام، فَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ رَقِيقا حلواً، فَلَا يلْحق بِهِ الغليظ والنبيذ إِذا كَانَ نياً أَو كَانَ مطبوخاً أدنى طبخه، فَمَا دَامَ قارصاً أَو حلواً فَهُوَ على الْخلاف وَإِن غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد فَلَا، وَذكر الْقَدُورِيّ فِي (شَرحه مُخْتَصر الْكَرْخِي) الِاخْتِلَاف فِيهِ بَين الْكَرْخِي وَأبي طَاهِر الدباس،على قَول الْكَرْخِي: يجوز،وعَلى قَول أبي طَاهِر: لَا يجوز،ثمَّ الَّذين جوزوا التَّوَضُّؤ بِهِ احْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ: (مَاذَا فِي إداوتك؟قَالَ: نَبِيذ قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ ، وز اد، (فَتَوَضَّأ بِهِ وَصلى الْفجْر) وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث أطبق عُلَمَاء السّلف على تَضْعِيفه. قلت: إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ لِأَن فِي رُوَاته أَبَا زيد وَهُوَ رجل مَجْهُول لَا يعرف لَهُ رِوَايَة غير هَذَا الحَدِيث، قَالَه التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) أَبُو زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق، وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف فَيجوز أَن يكون التِّرْمِذِيّ أَرَادَ أَنه مَجْهُول الِاسْم
    ........
    (3/180)
    عِنْد الدَّوْرَقِي فِي (مُسْنده) بطرِيق لَا بَأْس بهَا. فَإِن قلت: صَحَّ عَن عبد الله إِنَّه قَالَ: لم أكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ قلت يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْل واستوقفه فِي الْبَاقِي ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، فصح أَنه لم يكن مَعَه عِنْد الْجِنّ، لَا نفس الْخُرُوج.
    وَقد قيل: إِن لَيْلَة الْجِنّ كَانَت مرَّتَيْنِ. فَفِي أول مرّة خرج إِلَيْهِم لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مَسْعُود وَلَا غَيره، كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث مُسلم، ثمَّ بعد ذَلِك خرج إِلَيْهِم وَهُوَ مَعَه لَيْلَة أُخْرَى، كَمَا روى أَبُو حَاتِم فِي (تَفْسِيره) فِي أول سُورَة الْجِنّ،من حَدِيث ابْن جريح قَالَ: قَالَ ابْن عبد الْعَزِيز بن عمر: أما الْجِنّ الَّذين لقوه بنخلة فجن نيتوى، وَأما الْجِنّ الَّذين لقوه بِمَكَّة فجن نَصِيبين. وَقَالَ بَعضهم: على تَقْدِير صِحَّته،أَي: صِحَة حَدِيث ابْن مَسْعُود: إِنَّه مَنْسُوخ،لِأَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة ونزول قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} (سُورَة النِّسَاء: 43) إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف. قلت: هَذَا الْقَائِل نقل هَذَا عَن ابْن الْقصار من الْمَالِكِيَّة، وَابْن حزم من كبار الظَّاهِرِيَّة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه، مَعَ علمه أَن هَذَا مَرْدُود، نقل هَذَا وَسكت عَلَيْهِ. وَجه الرَّد مَا ذكره الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالدَّارَقُطْن ِيّ: أَن جبري عَلَيْهِ السَّلَام، نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَعْلَى مَكَّة فهمز لَهُ بعقبه فأنبع المَاء
    ..............
    (3/182)
    رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا (إِنَّمَا حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب) فَهَذَا يدل على أَن الْخمر حرَام قليلها وكثيرها أسكرت أَو لَا، وعَلى أَن غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِنَّمَا يحرم عِنْد الْإِسْكَار وَهَذَا ظَاهر. قلت: ورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام) قلت: طعن فِيهِ يحيى بن معِين وَلَئِن سلم فَالْأَصَحّ أَنه مَوْقُوف على ابْن عمر، وَلِهَذَا رَوَاهُ مُسلم بِالظَّنِّ،فَقَالَ: لَا أعلمهُ إلاّ مَرْفُوعا وَلَئِن سلم فَمَعْنَاه كل مَا أسكر كَثِيره فَحكمه حكم الْخمر
    ............
    (3/182)
    وَزعم ابْن سعد عَن عتبَة بن أبي وَقاص، (شج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي وَجهه وَأصَاب رباعيته؛ فَكَانَ سَالم مولى أبي حُذَيْفَة يغسل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّم، والني، عَلَيْهِ السَّلَام،يَقُول: (كَيفَ يفلح قوم صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ؟فَانْزِل الله تبَارك وَتَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (سُورَة آل عمرَان: 128) الْآيَة وَزعم السُّهيْلي: أَن عبد الله بن قمية هُوَ الَّذِي جرح وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

    ...............
    (3/184)
    أَن السِّوَاك سنة مؤكذة لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ لَيْلًا نَهَارا أَو قَامَ الْإِجْمَاع كَونه مَنْدُوبًا حَتَّى قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ شطر الْوضُوء، وَقد جَاءَ أَحَادِيث كَثِيرَة تدل على مواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، وَلَكِن أَكْثَرهَا فِيهِ كَلَام، وَأقوى مَا يدل على الْمُوَاظبَة وأصحه محافظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ حَتَّى عِنْد وَفَاته، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: (دخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مسندته إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عبد الرَّحْمَن سواك رطب يستن بِهِ فأمده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببصره، فَأخذت السِّوَاك فقضمته وطيبته ثمَّ دَفعته إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستن) . الحَدِيث وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه من سنة الْوضُوء وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه من سنة الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه من سنة الدّين، وَهُوَ الْأَقْوَى، نقل ذَلِك عَن أبي حنيفَة. وَفِي (الْهِدَايَة) أَن الصَّحِيح اسْتِحْبَابه، وَكَذَا هُوَ عِنْد الشَّافِعِي،وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ سنة وَلَو أمكن لكل صَلَاة لَكَانَ أفضل، وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة فرض لَازم وَحكى أَبُو حَامِد الإسفرائيني وَالْمَاوَرْدِي ّ عَن أهل الظَّاهِر وُجُوبه، وَعَن إِسْحَاق أَنه وَاجِب إِنَّه تَركه عمدا بطلت صلَاته،وَزعم النَّوَوِيّ أَن هَذَا لم يَصح عَن إِسْحَاق وكيفيته عندنَا أَن يستاك عرضا لَا طولا عِنْد مضمضة الْوضُوء وَأخرج أَبُو نعيم من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك عرضا لَا طولا) وَفِي (الْمُغنِي) ويستاك على أَسْنَانه وَلسَانه، وَلَا تَقْدِير فِيهِ، يستاك إِلَى أَن يطمئن قلبه بِزَوَال النكهة واصفرار السن، وَيَأْخُذ السِّوَاك باليمنى، وَالْمُسْتَحب فِيهِ ثَلَاث مياه، وَيكون فِي غلط الْخِنْصر وَطول الشبر وَالْمُسْتَحب أَن شَاك بِعُود من أَرَاك وبيابس قد ندى بِالْمَاءِ وَيكون لينًا محرما وَفِي (الْمُحِيط) العلك للْمَرْأَة يقوم مقَام السِّوَاك، وَإِذا لم يجد السِّوَاك يعالج بإصبعه فِي حَدِيث أنس،رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يجزىء من السِّوَاك الْأَصَابِع، وَضَعفه وفضائلة كَثِيرَة، وَقد ذكرنَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي مَا ورد فِيهِ عَن أَكثر من خمسين صحابياً.
    ..........
    (3/ 186)
    قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: فِيهِ: اسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْد الْقيام من النّوم، لِأَن النّوم مُقْتَض لتغير الْفَم لما يتصاعد إِلَيْهِ من أبخرة الْمعدة، والسواك آلَة تنظيفه فَيُسْتَحَب عِنْد مُقْتَضَاهُ،وَقَالَ: ظَاهر قَوْله: (من اللَّيْل) عَام فِي كل حَالَة، وَيحْتَمل أَن يخص بِمَا إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة انْتهى وَيدل على هَذَا الِاحْتِمَال رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة بِلَفْظ (إِذا قَامَ للتهجد) وَلمُسلم نَحوه وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يشْهد لَهُ.
    ........
    (3/186)
    عَفَّان بن مُسلم الصفار الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ، أَبُو عُثْمَان،سُئِلَ عَن الْقُرْآن زمن المحنة فَأبى أَن يَقُول: الْقُرْآن مَخْلُوق، وَكَانَ من حكام الْجرْح وَالتَّعْدِيل، جعل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار على أَن يقف عَن تَعْدِيل رجل،وَلَا يَقُول: عدل أَو غير عدل،قَالُوا: قف فِيهِ وَلَا تقل شَيْئا،فَقَالَ: لَا أبطل حَقًا من الْحُقُوق، وَلم يَأْخُذهَا. مَاتَ بِبَغْدَاد سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ.
    ........
    (3/190)
    قْدِيم حق الأكابر من جمَاعَة الْحُضُور وتبديته على من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ، وَهُوَ السّنة أَيْضا فِي السَّلَام والتحية وَالشرَاب وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور، وَفِي هَذَا الْمَعْنى تَقْدِيم ذِي السن بالركوب وَشبهه من الأرقاق.
    وَقَالَ الْمُهلب: تَقْدِيم ذِي السن أولى فِي كل شَيْء مَا لم يَتَرَتَّب الْقَوْم فِي الْجُلُوس، فَإِذا ترتبوا فَالسنة تَقْدِيم ذِي الْأَيْمن فالأيمن.
    ..........
    (3/188)
    وفوضت أَمْرِي إِلَيْك) أَي: رددت أَمْرِي إِلَيْك، وبرئت من الْحول وَالْقُوَّة إلاَّ بك فَاكْفِنِي همه، وتولني سلاحه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ رَحمَه الله فِي هَذَا النّظم غرائب وعجائب لَا يعرفهَا إلاَّ النقاد من أهل الْبَيَان:
    ..........
    (3/188
    أَن أَلْفَاظ الْأَذْكَار توقيفية فِي تعْيين اللَّفْظ وَتَقْدِير الثَّوَاب، فَرُبمَا كَانَ فِي اللَّفْظ زِيَادَة تَبْيِين لَيْسَ فِي
    الآخر، أَن كَانَ يرادفه فِي الظَّاهِر.
    ............
    (3/188)
    الْمعرفَة. بِالْإِضَافَة كالمعرف بِاللَّامِ يحْتَمل الْجِنْس والاستغراق والعهد، فَلفظ الْكتاب الْمُضَاف هَاهُنَا يحْتَمل لجَمِيع الْكتب ولجنس الْكتب ولبعضها كالقرآن،وَقَالُوا: جَمِيع المعارف كَذَلِك وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : رَحمَه الله تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم} (سُورَة الْبَقَرَة: 6) فِي أول الْبَقَرَة: يجوز أَن يكون للْعهد، وَأَن يُرَاد بهم نَاس بأعيانهم، كَأبي جهل وَأبي لَهب والوليد بن الْمُغيرَة وأضرابهم، وَأَن يكون للْجِنْس متناولاً مِنْهُم كل من صمم على كفره انْتهى. قلت: التَّحْقِيق أَن الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس مَعْنَاهُ جمَاعَة الأحاد، وَهِي أَعم من أَن يكون جَمِيع الْآحَاد أَو بَعْضهَا، فَهُوَ إِذا أطلق احْتمل الْعُمُوم والاستغراق، وَاحْتمل الْخُصُوص، وَالْحمل على وَاحِد مِنْهُمَا يتَوَقَّف على الْقَرِينَة كَمَا فِي الْمُشْتَرك، هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ ، وَصَاحب (الْمِفْتَاح) وَمن تبعهما وَهُوَ خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ أَئِمَّة الْأُصُول
    .......
    (3/191)
    بَيَان حكم الْوضُوء قبل أَن يشرع فِي الِاغْتِسَال، هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ أم سنة؟وَقَالَ بَعضهم: بَاب الْوضُوء قبل الْغسْل،أَي: اسْتِحْبَابه قَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) فرض الله تَعَالَى الْغسْل مُطلقًا لم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ قبل شَيْء فكيفما جَاءَ بِهِ المغتسل أَجزَأَهُ إِذا أَتَى بِغسْل جَمِيع بدنه. انْتهى
    ن كَانَ النَّص مُطلقًا وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ فعائشة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ذكرت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة قبل غسله فَيكون سنة غير وَاجِب. أما كَونه سنة فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما كَونه غير وَاجِب فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي الْغسْل، كالحائض إِذا اجنبت يكفيها غسل وَاحِد، وَمِنْهُم من أوجبه إِذا كَانَ مُحدثا قبل الْجَنَابَة. وَقَالَ دَاوُد: يجب الْوضُوء وَالْغسْل فِي الْجَنَابَة الْمُجَرَّدَة بِأَن أَتَى الْغُلَام أَو الْبَهِيمَة أَو لف ذكره بِخرقَة فَأنْزل، وَفِي أحد قولي الشَّافِعِي: يلْزمه الْوضُوء فِي الْجَنَابَة مَعَ الْحَدث، وَفِي قَوْله الآخر: يقْتَصر على الْغسْل لَكِن يلْزم أَن يَنْوِي الْحَدث والجنابة، وَفِي قَول: يَكْفِي نِيَّة الْغسْل، وَمِنْهُم من أوجب الْوضُوء بعد الْغسْل، وَأنْكرهُ عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل) رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
    ....
    (3/194)
    لتَّصْرِيح بِتَأْخِير الرجلَيْن فِي وضوء الْغسْل، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، على أَن المغتسل إِذا تَوَضَّأ أَو لَا يُؤَخر رجلَيْهِ، وَلَكِن أَكثر أَصْحَابنَا حملوه على أَنَّهُمَا إِن كَانَت فِي مُجْتَمع المَاء تَوَضَّأ ويؤخرهما وَإِن لم تَكُونَا فِيهِ لَا يؤخرهما،وكل مَا جَاءَ من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا مَحْمُول على مَا قُلْنَا: وَهَذَا هُوَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات الَّتِي فِي بَعْضهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم، وَيُمكن الْجمع بِأَن تحمل رِوَايَة عَائِشَة على الْمجَاز وَأما على حَالَة أُخْرَى. قلت: هَذَا خطأ لِأَن الْمجَاز إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة وَمَا الدَّاعِي لَهَا فِي رِوَايَة عَائِشَة حَتَّى يحمل كَلَامهَا على الْمجَاز؟وَمَا الصَّوَاب الَّذِي يرجع إِلَيْهِ إلاَّ مَا قُلْنَا: وَقَالَ الْكرْمَانِي: غير رجلَيْهِ. فَإِن قلت: بالتوفيق بَينه وَبَين رِوَايَة عَائِشَة؟قلت: زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُول فَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، فرواية عَائِشَة مَحْمُولَة على أَن المُرَاد بِوضُوء الصَّلَاة أَكْثَره، وَهُوَ مَا سوى الرجلَيْن. قلت: قد ذكرنَا الْآن مَا يرد مَا ذكره،ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُقَال: إنَّهُمَا كَانَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا.
    .......
    (3/195)
    حَدِيث أم هانىء عِنْد الشَّيْخَيْنِ: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غسله، فسترت عَلَيْهِ فَاطِمَة ثمَّ أَخذ ثَوْبه فالتحف بِهِ) هَذَا ظَاهر فِي التنشيف. وَمِنْهَا: حَدِيث قيس بن سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء فاغتسل ثمَّ أتيناه بملحفة ورسية فَاشْتَمَلَ بهَا، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى أثر الورس عَلَيْهِ، وَصَححهُ ابْن حزم. وَمِنْهَا: حَدِيث الْوَضِين بن عطار رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة عَن سلمَان: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَقلب جُبَّة صوف كَانَت عَلَيْهِ فَمسح بهَا وَجهه وَهَذَا ضَعِيف عِنْد جمَاعَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَضَعفه، وَصَححهُ الْحَاكِم. وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ مسح وَجهه بِطرف ثَوْبه) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَضَعفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. وَقَالَ: إِسْنَاده غير قوي. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس مثله وَأعله. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مَرْيَم، إِيَاس بن جَعْفَر،عَن فلَان رجل من الصَّحَابَة: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ منديل أَو خرقَة يمسح بهَا وَجهه إِذا تَوَضَّأ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح. وَمِنْهَا: حَدِيث منيب ابْن مدرك الْمَكِّيّ الْأَزْدِيّ قَالَ) (رَأَيْت جَارِيَة تحمل وضوأ ومنديلاً فَأخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فَتَوَضَّأ وَمسح بالمنديل وَجه) أسْندهُ الإِمَام مغلطاي فِي شَرحه،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَخذ المنديل بعد الْوضُوء عُثْمَان وَالْحسن بن عَليّ وَأَنِّي وَبشير بن أبي مَسْعُود، وَرخّص فِيهِ الْحسن، وَابْن سِيرِين وعلقمة وَالْأسود ومسروق وَالضَّحَّاك، وَكَانَ مَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وَكره عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَمُجاهد وَأَبُو الْعَالِيَة. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة المَاء المتقاطر من أَعْضَاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الْحَنَفِيَّة،فَقَالَ بنجاستة: قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أَتَى بالغلو حَيْثُ لم يدْرك حَقِيقَة مَذْهَب الْحَنَفِيَّة،لِأَن الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبهم: أَن المَاء الْمُسْتَعْمل طَاهِر حَتَّى يجوز شربه واستعماله فِي الطبيخ والعجين، وَالَّذِي ذهب إِلَى نَجَاسَته لم يقل بِأَنَّهُ نجس فِي حَالَة التقاطر، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا سَالَ من أَعْضَاء المتطهر، وَاجْتمعَ فِي مَكَان
    ..........
    (3/196)
    جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْوضُوء، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَفِيه: تطهر الْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَأما الْعَكْس فَجَائِز عِنْد الْجُمْهُور، سَوَاء خلت الْمَرْأَة بِالْمَاءِ أَو لم تخل. وَذهب الإِمَام أَحْمد إِلَى إِنَّهَا إِذا خلت بِالْمَاءِ واستعملته لَا يجوز للرجل اسْتِعْمَال فَضلهَا. فَإِن قلت: ذكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي أَن يغْتَسل الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. قلت: غَابَ عَنهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. فَإِن قلت: ورد نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل الرجل بِفضل الْمَرْأَة. قلت: قَالَ الْخطابِيّ: أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لم يرفع وأطرق أَسَانِيد هَذَا الحَدِيث، وَلَو ثَبت فَهُوَ مَنْسُوخ، وَقد استقضينا الْكَلَام فِي بَاب وضوء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. وَفِيه: طَهَارَة فضل الْجنب وَالْحَائِض. قَالَ الدَّرَاورْدِي: وَفِيه: جَوَاز نظر الرجل إِلَى عَورَة امْرَأَته وَعَكسه، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى أَنه سُئِلَ عَن الرجل ينظر إِلَى فرج امْرَأَته،فَقَالَ: سَأَلت عَطاء فَقَالَ: سَأَلت عَائِشَة، فَذكرت هَذَا الحَدِيث.
    ....
    (3/200)
    سليمَان بن صرد، بِضَم الصَّاد وَفتح الرَّاء بعدهمَا الدَّال المهملات من أفاضل الصَّحَابَة روى لَهُ خَمْسَة عشر حَدِيثا وَأخرج البُخَارِيّ مِنْهَا اثْنَيْنِ سكن الْكُوفَة أول مَا نزل بهَا الْمُسلمُونَ، خرج أَمِيرا فِي أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ دم الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سموا بالتوابين، وَهُوَ أَمِيرهمْ، فَقتله عَسْكَر عبيد الله بن زِيَاد بالجزيرة سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ
    .........
    (3/201)
    أَن الْمسنون فِي الْغسْل أَن يكون ثَلَاث مَرَّات، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْعلمَاء. وَأما الْفَرْض مِنْهُ فَغسل سَائِر الْبدن بِالْإِجْمَاع، وَفِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَا ق خلاف مَشْهُور. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة إستحباب صب المَاء على الرَّأْس ثَلَاثًا مُتَّفق عَلَيْهِ، وَألْحق بِهِ أَصْحَابنَا سَائِر الْجَسَد قِيَاسا على الرَّأْس، وعَلى أَعْضَاء الْوضُوء، وَهُوَ أولى بِالثلَاثِ من الْوضُوء فَإِن الْوضُوء مَبْنِيّ على التَّخْفِيف مَعَ تكراره، فَإِذا اسْتحبَّ فِيهِ الثَّلَاث فالغسل أولى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ مَا تفرد بِهِ الْمَاوَرْدِيّ حَيْثُ قَالَ: لَا يسْتَحبّ التّكْرَار فِي الْغسْل وَهُوَ شَاذ مَتْرُوك، ورد عَلَيْهِ بِأَن الشَّيْخ أباعلي السنجي قَالَه أَيْضا ذكره فِي (شرح الْفُرُوع) فَلم ينْفَرد بِهِ، وَنقل ابْن التِّين عَن الْعلمَاء أَنه يحْتَمل أَن يكون هَذَا على مَا شرع فِي الطَّهَارَة من التّكْرَار وَأَن يكون التَّمام الطَّهَارَة، لِأَن الغسلة الْوَاحِدَة لَا تجزىء فِي اسْتِيعَاب غسل الرَّأْس. قَالَ: وَقيل: ذَلِك مُسْتَحبّ، وَمَا أسغ أَجْزَأَ،وَكَذَا قَالَ ابْن بطال: الْعدَد فِي ذَلِك مُسْتَحبّ عِنْد الْعلمَاء، وَمَا هم وأسبغ أَجْزَأَ.
    ............
    (3/202)
    الْعُلَمَاء أَجمعُوا على أَنه لَيْسَ الشَّرْط فِي الْغسْل إلاَّ الْعُمُوم والإسباغ لَا عددا من المرات
    ........
    (3/203)
    (بابُ مَنْ بَدَأَ بالحِلابِ أَوْ الطِيّبِ عِنْدَ الغُسْلِ)
    أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الَّذِي بَدَأَ بالحلاب إِلَى آخِره؛ اسْتشْكل الْقَوْم فِي مُطَابقَة هَذِه التَّرْجَمَة لحَدِيث الْبَاب،فافترقوا ثَلَاث فرق: الْفرْقَة الأولى: قد نسبوا البُخَارِيّ إِلَى الْوَهم والغلط، مِنْهُم الْإِسْمَاعِيلِ يّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي (مستخرجه) رحم الله أَبَا عبد الله. يَعْنِي من ذَا الَّذِي يسلم من الْغَلَط، سبق إِلَى قلبه أَن الحلاب طيب،أَي: معنى للطيب عِنْد الِاغْتِسَال قبل الْغسْل، وَإِنَّمَا الحلاب إِنَاء يحلب فِيهِ وَيُسمى محلباً أَيْضا، وَهَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيق يتَأَمَّل المتأمل بَيَان ذَلِك حَيْثُ جَاءَ فِيهِ، كَانَ يغْتَسل من حلاب، رَوَاهُ هَكَذَا أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وروى أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن يزِيد بن سِنَان عَن أبي عَاصِم بِلَفْظ: (كَانَ يغْتَسل من حلاب، فَيَأْخُذ غرفَة بكفيه فيجعلها على شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر) كَذَا الحَدِيث
    مِمَّا يدل على أَن الحلاب إِنَاء المَاء
    وَرِوَايَة أبي عوَانَة أصرح من هَذِه وَمن هَؤُلَاءِ الْفرْقَة ابْن الْجَوْزِيّ حَيْثُ قَالَ: غلط جمَاعَة فِي تَفْسِير الحلاب، مِنْهُم البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ظن أَن الحلاب شَيْء من الطّيب،الْفرْقَة الثَّانِيَة: مِنْهُم الْأَزْهَرِي،قَالُوا هَذَا تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ: جلاب، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ مَاء الْورْد فَارسي مُعرب. الْفرْقَة الثَّالِثَة: مِنْهُم الْمُحب الطَّبَرِيّ،قَالُوا لم يرد البُخَارِيّ بقوله: أَو الطّيب، مَا لَهُ عرف طيب، وَإِنَّمَا أَرَادَ تطييب الْبدن وَإِزَالَة مَا فِيهِ من وسخ، ودرن ونجاسة إِن كَانَت، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالحلاب الْإِنَاء الَّذِي يغْتَسل مِنْهُ، يبْدَأ بِهِ فَيُوضَع مَاء الْغسْل. قَالَ الْمُحب: وَكلمَة. أَو فِي قَوْله: أَو الطّيب بِمَعْنى الْوَاو، كَذَا اثْبتْ فِي بعض الرِّوَايَات أَقُول، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق،لَا يظنّ أحد أَن البُخَارِيّ أَرَادَ بالحلاب ضربا من الطّيب لِأَن قَوْله: أَو الطّيب بِرَفْع ذَلِك،وَلم يرد إلاَّ إِنَاء يوضع فِيهِ مَاء قَالَ الْخطابِيّ: الحلاب إِنَاء يسع قدر حلبة نَاقَة،وَالدَّلِيل على أَن الحلاب ظرف قَول الشَّاعِر:
    (صَاح هَل رَأَيْت أَو سَمِعت يراع ... رد فِي الضَّرع مَا بَقِي فِي الحلاب)


    .........
    (3/204)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الحلاب والمحلب بِكَسْر الْمِيم، وعَاء يملؤه قدر حلب النَّاقة، وَمن الدَّلِيل على أَن المُرَاد من الحلاب غير الطّيب عطف الطّيب، عَلَيْهِ بِكَلِمَة. أَو، وَجعله قسيماً لَهُ،وَبِهَذَا ينْدَفع مَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِ يّ: إِن البُخَارِيّ سبق إِلَى قلبه أَن الحلاب طيب، وَكَيف يسْبق إِلَى قلبه ذَلِك وَقد عطف، الطّيب، عَلَيْهِ والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْأَزْهَرِي التَّصْحِيف غير صَحِيحَة، لِأَن الْمَعْرُوف من الرِّوَايَة الْمُهْملَة، وَالتَّخْفِيف، وَكَذَلِكَ أنكر عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة الْهَرَوِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الحلاب بكر الْمُهْملَة لَا يَصح غَيرهَا وَقد وهم من طنه الطّيب وَكَذَا من قَالَه بِضَم الْجِيم على أَنه قَوْله بتَشْديد الللام غير صَحِيح.
    لِأَن فِي اللُّغَة الفارسية، مَاء الْورْد، هُوَ جلاب بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام،أَصله: كلاب فَكل بِضَم الْكَاف الصماء وَسُكُون اللَّام، إسم للورد عِنْدهم
    ...........
    ((3/206)
    بَيَان حكم المضمة وَالِاسْتِنْشَا ق فِي غسل الْجَنَابَة هَل هما واجبان أم سنتَانِ؟وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ ابْن بطال وَغَيره إِلَى أنالبخاري استنبط عدم وجوبهما من هَذَا الحَدِيث، لِأَن فِي رِوَايَة الْبَاب الَّذِي بعده فِي هَذَا الحَدِيث، (ثمَّ تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) فَدلَّ على أَنَّهُمَا للْوُضُوء وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن الْوضُوء فِي غسل الْجَنَابَة غير وَاجِب. والمضمضة وَالِاسْتِنْشَا ق من تَوَابِع الْوضُوء، فَإِذا اسقط الْوضُوء سقط توابعه، وَيحمل مَا روى من صفة غسله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْكَمَال وَالْفضل،قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ لَهُ تعلق بِالْحَدِيثِ الَّذِي يَأْتِي وَفِيه التَّصْرِيح بالمضمضة وَالِاسْتِنْشَا ق وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتركهما، فَدلَّ على الْمُوَاظبَة وَهِي تدل على الْوُجُوب. فَإِن قلت: مَا الدَّلِيل على الْمُوَاظبَة؟قلت: عدم النَّقْل عَنهُ بِتَرْكِهِ إيَّاهُمَا، وَسُقُوط الْوضُوء القصدي لَا يسْتَلْزم سُقُوط الْوضُوء الضمني، وعَلى كل حَال لم ينْقل تَركهمَا، وَأَيْضًا النَّص يدل على وجوبهما، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
    .............
    (3/210)
    الَ الشَّافِعِي: وَأحب أَن يُتَابع الْوضُوء وَلَا يفرق، فَإِن قطعه فَأحب إِلَيّ أَن يسْتَأْنف وضوءه، وَلَا يتَبَيَّن لي أَن يكون عَلَيْهِ اسْتِئْنَاف وضوء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَوَاز التَّفْرِيق، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن الْمسيب وَعَطَاء وَطَاوُس وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وسُفْيَان بن سعيد وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وَعند الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم لَا يجْزِيه نَاسِيا كَانَ أَو عَامِدًا، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَاللَّيْث وَابْن وهب، وَذَلِكَ إِذا فرقه حَتَّى جف، وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك، وَإِن فرقه يَسِيرا جَازَ، وَإِن كَانَ نَاسِيا،فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجْزِيه وَعَن مَالك يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح دون المغسول، وَعَن ابْن أبي زيد، يجْزِيه فِي الرَّأْس خَاصَّة. وَقَالَ ابْن مسلمة فِي (الْمَبْسُوط) يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح رَأْسا كَانَ أَو خفاً وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: الْجَفَاف لَيْسَ بِحَدِيث فينقض كَمَا لَو جف جَمِيع أَعْضَاء الْوضُوء لم تبطل الطَّهَارَة.
    ..........
    (3/213)
    وَأما الْوضُوء بَين الجماعين فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَعِنْدَ الْجُمْهُور لَيْسَ بِوَاجِب،قَوَّال ابْن حبيب الْمَالِكِي وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ: إِنَّه وَاجِب وَقَالَ ابْن جزم، وَهُوَ قَول عَطاء وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَابْن سِيرِين،وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي سعيد قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود، فَليَتَوَضَّأ بَينهمَا وضوأً) أخرجه مُسلم من طَرِيق حَفْص بن عَاصِم عَن أبي المتَوَكل عَنهُ، وَحمل الْجُمْهُور الْأَمر بِالْوضُوءِ على النّدب والاستحباب، لَا للْوُجُوب، مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة،قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجَامع ثمَّ يعود وَلَا يتَوَضَّأ) قَالَ أَبُو عمر: مَا أعلم أحدا من أهل الْعلم أوجبه إلاَّ طَائِفَة من أهل الظَّاهِر.
    مَا نسب ابْن حزم من إِيجَاب الْوضُوء إِلَى الْحسن وَابْن سِيرِين فَيردهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن هِشَام عَن الْحسن أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يُجَامع الرجل امْرَأَته أَنه ثمَّ يعود قبل أَن يتَوَضَّأ قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين يَقُول: لَا أعلم بذلك بَأْسا إِنَّمَا قبل ذَلِك لِأَنَّهُ أجْرى أَن يعود. وَنقل عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه حمل الْوضُوء الْمَذْكُور على الْوضُوء اللّغَوِيّ،حَيْثُ نقل ابْن الْمُنْذر عَنهُ أَنه قَالَ: لَا بُد من غسل الْفرج إِذا أَرَادَ الْعود. قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن عَاصِم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فَليَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة؟وَفِي لفظ عِنْده: فَهُوَ أنشط للعود،وصحيح الْحَاكِم لفظ: وضوءه للصَّلَاة،ثمَّ قَالَ: هَذِه لَفْظَة تفرد بهَا شُعْبَة عَن عَاصِم،والتفرد من مثله مَقْبُول عِنْد الشَّيْخَيْنِ: فَإِن قلت: يُعَارض هَذِه الْأَخْبَار حَدِيث ابْن عَبَّاس (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا أمرت بِالْوضُوءِ إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة)
    ...........
    (3/214)
    الَ الْمُهلب، رَحمَه الله تَعَالَى السّنة اتِّحَاد الطّيب للنِّسَاء وَالرِّجَال عِنْد الْجِمَاع فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم املك لاربه من سَائِر أمته فَلذَلِك كَانَ لَا يتَجَنَّب الطّيب.
    فِي الْإِحْرَام. ونهانا عَنهُ لضعفنا عَن ملك الشَّهَوَات، إِذْ الطّيب أَسبَاب الْجِمَاع.
    ...........
    (3/215)
    وَوَقع فِي شرح ابْن بطال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لَهُ من الْحَرَائِر غير تسع، وَالأَصَح عندنَا أَنه يحل لَهُ مَا شَاءَ من غير حصر.
    .........
    (3/216)
    إِن أول امْرَأَة تزَوجهَا خَدِيجَة بنت خويلد، ثمَّ سَوْدَة بنت زَمعَة، ثمَّ عَائِشَة بنت أبي بكر، ثمَّ حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، ثمَّ أم سَلمَة اسْمهَا، هِنْد بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، ثمَّ جوَيْرِية بنت الْحَارِث، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة المربسيع، ثمَّ زَيْنَب بنت جحش ثمَّ زَيْنَب بنت خزمية، ثمَّ رَيْحَانَة بنت زيد من بني قُرَيْظَة،وَقيل: من بني النصير، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا فِي سنة سِتّ، وَمَاتَتْ بعد عوده من حجَّة الْوَدَاع، ودفنت بِالبَقِيعِ،وَقيل: مَاتَت بعده فِي سنة سِتّ عشرَة، وَالْأول أصح، ثمَّ أم حَبِيبَة وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان أُخْت مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان وَلَيْسَ فِي الصحابيات من اسْمهَا رَملَة غَيرهَا، ثمَّ صَفِيَّة بنت حيى بن أَخطب من سبط هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقعت فِي السَّبي يَوْم خَيْبَر سنة سبع فاصطفاها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع فِي عمْرَة الْقَضَاء بسرف على عشرَة أَمْيَال من مَكَّة، وَتزَوج أَيْضا فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَأَسْمَاء بنت النُّعْمَان.
    وَأما بَقِيَّة نِسَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَ
    .......
    (3/219)
    يَقْتَضِي غسل جَمِيع الذّكر أَو مخرج الْمَذْي , فَهَذَا اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب بَعضهم، مِنْهُم الزُّهْرِيّ، إِلَى أَنه يجب غسل جَمِيع الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده.
    وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة. اخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والأنثيين مَعَ الْوضُوء،وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمَذْي: هَل يجزىء مِنْهُ الِاسْتِجْمَار كالبول أَو لَا بُد من المَاء؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يجب غسل جَمِيع الذّكر؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يفْتَقر إِلَى النِّيَّة فِي غسل ذكره أم لَا؟وَقَالَ أَبُو عرم: الْمَذْي عِنْد جَمِيعهم يُوجب الْوضُوء مَا لم يكن خَارِجا عَن عِلّة أَو بردة أَو زمانة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَيْضا كالبول عِنْد جَمِيعهم، فَإِن كَانَ سلساً لَا يَنْقَطِع فَحكمه حكم سَلس
    وَأما الْمَذْي الْمَعْهُود الْمُتَعَارف، وَهُوَ الْخَارِج عِنْد ملاعبة الرجل أَهله لما يجْرِي من اللَّذَّة، أَو لطول عزبة، فعلى هَذَا الْمَعْنى خرج السُّؤَال فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ يَقع الْجَواب، وَهُوَ مَوضِع إِجْمَاع لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي إِيجَاب الْوضُوء مِنْهُ، وَإِيجَاب غسله لنجاسته انْتهى
    وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلي) الْمَذْي تَطْهِيره بِالْمَاءِ يغسل مخرجه من الذّكر وينضح بِالْمَاءِ مَا مَسّه من الثَّوْب انْتهى
    ...........
    (3،/220)
    وَكَانُوا يتطيبون عِنْد الْجِمَاع لأجل النشاط وَقَالَ ابْن بطال: السّنة اتِّخَاذ الطّيب للرِّجَال وَالنِّسَاء عِنْد الْجِمَاع.
    .......
    (3/221)
    أَن بَقَاء أثر الطّيب على بدن الْمحرم إِذا كَانَ قد تطيب بِهِ قبل الْإِحْرَام غَيره مُؤثر فِي إِحْرَامه، وَلَا يُوجب عَلَيْهِ كَفَّارَة،قَالَه الْخطابِيّ: وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَنعه مَالك قَائِلا: إِن التَّطَيُّب كَانَ لمباشرة النِّسَاء،
    .......
    (3/222)
    وَقَالَ ابْن بطال: أما تَخْلِيل شعر الرَّأْس فِي غسل الْجَنَابَة فمجمع عَلَيْهِ وقاسوا عَلَيْهِ شعر اللِّحْيَة،فَحكمه فِي التَّخْلِيل كمكمه إلاَّ إِنَّهُم اخْتلفُوا فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة فروى ابْن الْقَاسِم: أَنه لَا يجب تخليلها لَا فِي الْغسْل وَلَا فِي الْوضُوء وروى ابْن وهب عَنهُ تخليلها مُطلقًا وروى اشهب عَنهُ أَن تخليلها فِي الْغسْل وَاجِب، لهَذَا الحَدِيث، وَلَا يجب فِي الْوضُوء لحَدِيث عبد الله بن زيد فِي الْوضُوء لم يذكر فِيهِ تَخْلِيل اللِّحْيَة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد،وَقَالَ الشَّافِعِي: التَّخْلِيل مسنون، وإيصال المَاء إِلَى الْبشرَة مَفْرُوض فِي الْجَنَابَة. وَقَالَ الْمُزنِيّ: تخليلها وَاجِب فِي الْوضُوء وَالْغسْل.
    ........
    (3/224)
    المُرَاد من الْإِقَامَة ذكر الْأَلْفَاظ الْمَخْصُوصَة الْمَشْهُورَة المشعرة بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاة وَهِي أُخْت الْأَذَان كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي
    .........
    (3/225)
    اخْتلف الْعلمَاء من السّلف فَمن بعدهمْ مَتى يقوم النَّاس إِلَى الصَّلَاة وَمَتى يكبر الإِمَام فَذهب الشَّافِعِي وَطَائِفَة إِلَى أَنه يسْتَحبّ أَن لَا يقوم أحد حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة وَكَانَ أنس يقوم إِذا قَالَ الْمُؤَذّن قد قَامَت الصَّلَاة وَبِه قَالَ أَحْمد وَقَالَ أَبُو حنيفَة والكوفيون يقومُونَ فِي الصَّفّ إِذا قَالَ حَيّ على الصَّلَاة فَإِذا قَالَ قد قَامَت الصَّلَاة كبر الإِمَام وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَقيس بن أبي سَلمَة وَحَمَّاد وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف لَا يكبر الإِمَام حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن (قلت) مَذْهَب مَالك أَن السّنة عِنْده أَن يشرع الإِمَام فِي الصَّلَاة بعد فرَاغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة وندائه باستواء الصَّفّ وَعِنْدنَا يشرع عِنْد التَّلَفُّظ بقوله قد قَامَت الصَّلَاة وَقَالَ زفر إِذا قَالَ قد قَامَت الصَّلَاة قَامُوا وَإِذا قَالَ ثَانِيًا افتتحوا وَعَن أبي يُوسُف أَنه يشرع عقيب الْفَرَاغ من الْإِقَامَة مُحَافظَة على القَوْل بِمثل مَا يَقُوله الْمُؤَذّن وَبِه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَفِيه أَن الإِمَام إِذا طَرَأَ لَهُ مَا يمنعهُ من التَّمَادِي اسْتخْلف بِالْإِشَارَةِ لَا بالْكلَام وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ لأَصْحَاب مَالك حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَفِيه جَوَاز الْبناء فِي الْحَدث وَهُوَ قَوْله أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِيه جَوَاز النسْيَان على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْعِبَادَات. وَفِيه كَمَا قَالَ ابْن بطال حجَّة لمَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة أَن تَكْبِير الْمَأْمُوم يَقع بعد تَكْبِير الإِمَام وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء قَالَ وَالشَّافِعِيّ أجَاز تَكْبِير الْمَأْمُوم قبل إِمَامه أَي فِيمَا إِذا أحرم مُنْفَردا ثمَّ نوى الِاقْتِدَاء فِي أثْنَاء الصَّلَاة لِأَنَّهُ روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا رَوَاهُ مَالك عَن إِسْمَاعِيل بن أبي الحكم عَن عَطاء بن يسَار أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر فِي صَلَاة من الصَّلَوَات ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِم بِيَدِهِ أَن امكثوا فَلَمَّا قدم كبر وَالشَّافِعِيّ لَا يَقُول بالمرسل وَمَالك الَّذِي رَوَاهُ لم يعْمل بِهِ لِأَنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْده أَنه لم يكبر انْتهى
    ذْهَب أبي حنيفَة أَن الْمَأْمُوم يجب عَلَيْهِ أَن يكبر مَعَ الإِمَام مُقَارنًا وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يكبر بعده ثمَّ قيل الْخلاف فِي الْأَفْضَلِيَّة . وَفِيه مَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على أَن الْجنب إِذا دخل فِي الْمَسْجِد نَاسِيا فَذكر فِيهِ أَنه جنب يخرج وَلَا يتَيَمَّم
    .........
    (3/226)
    ظن بَعضهم أَن السَّبَب فِي التَّفْرِقَة بَين قَوْله تَابعه وَبَين قَوْله وَرَوَاهُ كَون الْمُتَابَعَة وَقعت بِلَفْظِهِ وَالرِّوَايَة بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ كَمَا ظن بل هُوَ من التفنن فِي الْعبارَة انْتهى. (قلت) أَرَادَ بقوله ظن بَعضهم الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرحه فَإِن قلت لم قَالَ أَولا تَابعه وَثَانِيا رَوَاهُ قلت لم يقل وَتَابعه الْأَوْزَاعِيّ إِمَّا لِأَنَّهُ لم ينْقل لفظ الحَدِيث بِعَيْنِه بل رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ إِذْ الْمَفْهُوم من الْمُتَابَعَة الْإِتْيَان بِمثلِهِ على وَجهه بِلَا تفَاوت وَالرِّوَايَة أَعم من ذَلِك وَإِمَّا لِأَنَّهُ يكون موهما بِأَنَّهُ تَابع عُثْمَان أَيْضا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ لَا وَاسِطَة بَين الْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَإِمَّا للتفنن فِي الْكَلَام أَو لغير ذَلِك انْتهى فَهَذَا كَمَا رَأَيْت جَوَاب الْكرْمَانِي عَنهُ بِثَلَاثَة أجوبة وَكلهَا جِيَاد وَالْجَوَاب الَّذِي استحسنه هَذَا الْقَائِل من الْكرْمَانِي أَيْضا وَلَكِن قَصده الغمز فِيهِ حَيْثُ يَأْخُذ ثمَّ ينْسبهُ إِلَى الظَّن مَعَ علمه بِأَن الَّذِي اخْتَارَهُ بمعزل عَن هَذَا الْفَنّ
    ......
    (3/227)
    أَبُو حَمْزَة اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي الْمروزِي، وَلم يكن يَبِيع السكر، وَإِنَّمَا سمي بِهِ لحلاوة كَلَامه. وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يحمل السكر فِي كمه. وَقَالَ ابْن مُصعب، كَانَ مجاب الدعْوَة.

    ..........
    (2/228)
    حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَجها لأصحابهم فِيمَا إِذا أنزل فِي المَاء عُريَانا بِغَيْر مئزر، وَاحْتج بِحَدِيث ضَعِيف لم يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (لَا تدْخلُوا المَاء إِلَّا بمئزر فَإِن للْمَاء عَامِرًا) [/ حم وروى ابْن وهب عَن ابْن مهْدي عَن خَالِد بن حميد عَن بعض أهل الشَّام، أَن ابْن عَبَّاس لم يكن يغْتَسل فِي بَحر وَلَا نهر إلاَّ وَعَلِيهِ إِزَار، وَإِذا سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ: إِن لَهُ عَامِرًا. وَرُوِيَ برد عَن مَكْحُول عَن عَطِيَّة مَرْفُوعا: [حم (من اغْتسل بلَيْل فِي فضاء فليحاذر على عَوْرَته، وَمن لم يفعل ذَلِك وأصابه لمَم فَلَا يَلُومن إلاَّ نَفسه) [/ حم وَفِي مرسلات الزُّهْرِيّ: فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تغتسلوا فِي الصَّحرَاء إلاَّ أَن تجذوا متوارى، فَإِن لم تَجدوا متوارى فليخط أحدكُم كالدائرة، ثمَّ يُسَمِّي الله تَعَالَى ويغتسل فِيهِ) وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) قَالَ: حَدثنَا ابْن نفَيْل: قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي عَن عَطاء عَن يعلى. [حم (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يغْتَسل بالبزار فَصَعدَ الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن الله حَيّ ستير يحب الْحيَاء والستر، فَإِذا اغْتسل أحدكُم فليستتر) [/ حم وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، وَنَصّ أَحْمد فِيمَا حَكَاهُ ابْن تَيْمِية على كَرَاهَة دُخُول المَاء بِغَيْر إِزَار، وَقَالَ إِسْحَاق: هُوَ بالإزار أفضل لقَوْل الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد قيل لَهما وَقد دخلا المَاء عَلَيْهِمَا بردَان فَقَالَا: إِن للْمَاء سكاناً.
    وَقالَ بَهْزٌ عَنْ أبيهِ عَن جده عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحقُّ أنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ
    الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: فِي وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة، وَهُوَ إِنَّمَا يُطَابق إِذا حملناه على النّدب والاستحباب لَا على الْإِيجَاب، وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء كَمَا ذَكرْنَاهُ وَقَالَ بَعضهم: ظَاهر حَدِيث بهز أَن التعري فِي الْخلْوَة غير جَائِز، لَكِن اسْتدلَّ المُصَنّف على الْجَوَاز فِي الْغسْل بِقصَّة مُوسَى وَأَيوب، عَلَيْهِمَا السَّلَام. قلت: على قَوْله لَا يكون حَدِيث بهز مطابقا للتَّرْجَمَة، فَلَا وَجه لذكره هَاهُنَا لَكِن نقُول: إِنَّه مُطَابق، وإيراده هَاهُنَا موجه لِأَنَّهُ عِنْده مَحْمُول على النّدب، كَمَا حمله عَامَّة الْفُقَهَاء، فَإِذا كَانَ مَنْدُوبًا كَانَ التستر أفضل فيطابق قَوْله: والتستر أفضل خلافًا لما قَالَه أَبُو عبد الْملك فِيمَا حَكَاهُ ابْن التِّين عَنهُ، يُرِيد بقوله: فَالله أَحَق أَن يستحي مِنْهُ النَّاس، أَن لَا يغْتَسل أحد فِي الفلاة، وَهَذَا فِيهِ حرج بَين، وَنقل عَنهُ أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ أَن لَا يعْصى، وَهَذَا جيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْعلمَاء، كشف الْعَوْرَة فِي حَال الْخلْوَة بِحَيْثُ لَا يرَاهُ آدَمِيّ: إِن كَانَ لحَاجَة جَازَ، وَإِن كَانَ لغير حَاجَة فَفِيهِ خلاف فِي كَرَاهَته وتحريمه، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِي أَنه حرَام.
    حدّثنا بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: (قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا تَأتي مِنْهُ وَمَا نذر؟ قَالَ: احفظ عورتك إلاَّ من زَوجتك أَو مَا ملئت يَمِينك قلت: يَا رَسُول الله: أَرَأَيْت أَن كَانَ الْقَوْم بَعضهم فِي بعض؟ قَالَ: إِن اسْتَطَعْت أَن لَا تريها أحدا فَلَا تَرَهَا. قلت: يَا رَسُول الله، فَإِن كَانَ أَحَدنَا خَالِيا؟ قَالَ: فَالله أَحَق أَن يستحي مِنْهُ من النَّاس) .



    ..........
    (3/229)
    ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي مَوضِع آخر عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه (اغْتسل مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، عِنْد مويه) بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَإِسْكَان الْيَاء، تَصْغِير المَاء، وَأَصله موه، والتصغير يرد الْأَشْيَاء إِلَى أَصْلهَا، هَكَذَا هُوَ فِي بعض نسخ مُسلم: روى ذَلِك العذري والباجي. وَفِي مُعظم نسخ مُسلم. مشربَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي حُفْرَة فِي أصل النَّخْلَة. وَقَالَ عِيَاض: وأظن الأول تصحيفاً، وَقَالَ [قعالقرطبي [/ قع: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل تفعل هَذَا معاندة للشَّرْع وَمُخَالفَة لنبيهم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

    .........
    (3/230)*
    كَانَ بَنو يَعْقُوب اثْنَي عشر رجلا وهم: روبيل ويهوذا وشمعون ولاؤي وداني ويفتالي وزبولون وجاد ويساخر وأشير ويوسف وبنيامين، وهم الَّذين سماهم الله الأسباط، وَسموا بذلك لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم وَالِد قَبيلَة، والسبط فِي كَلَام الْعَرَب الشَّجَرَة الملتفة الْكَثِيرَة الأغصان، والأسباط بني إِسْرَائِيل كالشعوب من الْعَجم، والقبائل من الْعَرَب، ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذُرِّيَّة لاؤي، وَهُوَ مُوسَى بن عمرَان بن فاهث بن لاؤي
    ........
    (3/232)
    وَكَانَ أَيُّوب فِي زمَان يَعْقُوب وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ كَانَت مَنَازِله الثَّنية من أَرض الشَّام والجابية من كورة دمشق وَكَانَ الْجَمِيع لَهُ ومقامه بقرية تعرف بدير أَيُّوب وقبره بهَا وَإِلَى هَلُمَّ جرا وَهِي قَرْيَة من نوى عَلَيْهِ مشْهد وَهُنَاكَ قدم فِي حجر يَقُولُونَ أَنَّهَا أثر قدمه وَهُنَاكَ عين يتبرك بهَا وَكَانَ أعبد أهل زَمَانه وعاش ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة
    ...........
    (3/236)
    وَافَقَ الزُّهْرِيّ مسافع الحَجبي،قَالَ: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَأما هِشَام بن عُرْوَة،فَقَالَ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة: (أَن أم سليم جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَالَ القَاضِي عِيَاض عَن أهل الحَدِيث إِن الصَّحِيح أَن الْقِصَّة وَقعت لأم سَلمَة لَا لعَائِشَة وَنقل ابْن عبد الْبر عَن الذهلي أَنه صحّح الرِّوَايَتَيْن ِ. قلت: قَول عِيَاض يرجح رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة، وَقَول أبي دَاوُد عَن مسافع يرجح رِوَايَة الزُّهْرِيّ،وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن تكون عَائِشَة وَأم سَلمَة جَمِيعًا أنكرتا على أم سليم. والزبيدي هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَيُونُس بن يزِيد، وَابْن أخي الزُّهْرِيّ اسْمه، مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم، وَابْن أبي الْوَزير اسْمه إِبْرَاهِيم بن عمر بن مطرف الْهَاشِمِي مَوْلَاهُم الْمَكِّيّ، ومسافع، بِضَم الْمِيم وبالسين الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء ابْن عبد الله أَبُو سُلَيْمَان الْقرشِي الحَجبي الْمَكِّيّ.
    ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث لفظ البُخَارِيّ فِي بَاب الْحيَاء فِي الْعلم بعد. قَوْله: (إِذا رَأَتْ المَاء، فغطت أم سَلمَة يَعْنِي وَجههَا،وَقَالَت: يَا رَسُول الله: أَو تحتلم الْمَرْأَة؟قَالَ: نعم تربت يَمِينك، فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا) وَفِي لفظ بعد قَوْله: (إِذا رَأَتْ المَاء، فَضَحكت أم سَلمَة. فَقَالَت: أتحتلم الْمَرْأَة؟فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَبِمَ شبه الْوَلَد)
    ............
    (3/236)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم أَن الرجل إِذا رأى فِي مَنَامه أَنه احْتَلَمَ أَو جَامع وَلم يجد بللاً أَن لَا غسل عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن رأى بللاً، وَلم يتَذَكَّر احتلاماً فَقَالَت طَائِفَة يغْتَسل روينَا ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ،وَقَالَ [قعأحمد [/ قع: أحب إِلَيّ أَن يغْتَسل إلاَّ رجل بِهِ أبردة،وَقَالَ [قعأبو إِسْحَاق [/ قع: يغْتَسل إِذا كَانَت بل نُطْفَة،وروينا عَن الْحسن أَنه قَالَ: إِذا كَانَ انْتَشَر إِلَى أَهله من اللَّيْل فَوجدَ من ذَلِك بلة فَلَا غسل عَلَيْهِ، وَإِن لم يكن كَذَلِك اغْتسل،وَفِيه قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن لَا يغْتَسل حَتَّى يُوقن بِالْمَاءِ الدافق هَكَذَا، وَهُوَ قَول قَتَادَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف: يغْتَسل إِذا علم بِالْمَاءِ الدافق،وَقَالَ الخاطبي: ظَاهر وَيُوجب الِاغْتِسَال إِذا رأى البلة، وَإِن لم يتَيَقَّن أَنه المَاء الدافق،
    القَوْل عَن جمَاعَة من التَّابِعين. وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: لَا يجب عَلَيْهِ الِاغْتِسَال حَتَّى يعلم أَنه بَلل المَاء الدافق.
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر: فِيهِ دَلِيل على أَن النِّسَاء لَيْسَ كُلهنَّ يحتلمن، وَلِهَذَا أنْكرت عَائِشَة على أم سَلمَة، وَقد يعْدم الِاحْتِلَام فِي بعض الرِّجَال فالنساء أَجْدَر أَن يعْدم ذَلِك فِيهِنَّ، وَقد قيل: أَن إِنْكَار عَائِشَة لذَلِك إِنَّمَا كَانَ لصِغَر سنّهَا وَكَونهَا مَعَ زَوجهَا لِأَنَّهَا لم تَحض إلاَّ عِنْده، وَلم تفقده فقداً طَويلا إلأ بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك لم تعرف فِي حَيَاته الِاحْتِلَام، لأنَّ الِاحْتِلَام لَا يعرفهُ النِّسَاء، وَلَا أَكثر الرِّجَال إلاَّ عِنْد عدم الرِّجَال بِعَدَمِ الْمعرفَة بِهِ، فَإِذا فقد النِّسَاء أَزوَاجهنَّ احتلمن. وَالْوَجْه الأول عِنْدِي أصح، وَأولى، لِأَن أم سَلمَة فقدت زَوجهَا وَكَانَت كَبِيرَة عَالِمَة بذلك، وَأنْكرت مِنْهُ مَا أنْكرت عَائِشَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن من النِّسَاء من لَا تنزل المَاء فِي غير الْجِمَاع الَّذِي يكون فِي اليقطة وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن أم سَلمَة أَيْضا تزوجت أَبَا سَلمَة شَابة وَلما توفّي عَنْهَا زَوجهَا تزَوجهَا سيد الْمُرْسلين، لَا سِيمَا مَعَ شغلها بِالْعبَادَة وَشبههَا الَّتِى هِيَ وَجَاء لغَيْرهَا أَو تكون قالته إنكاراً على أم سليم لكَونهَا واجهت بِهِ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوضحهُ، فَقَالَت أم سَلمَة وغطت وَجههَا.
    وَقَالَ [قعابن بطال [/ قع فِيهِ دَلِيل على أَن كل النِّسَاء يحتملن. وَفِيه: دَلِيل على وجوب الْغسْل على الْمَرْأَة بالإنزال، وَنفى ابْن بطال الْخلاف فِيهِ،
    ...........
    (3/239)
    وروى الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث المتَوَكل ابْن فُضَيْل عَن أم القلوص العامرية عَن عَائِشَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرى على الْبدن جَنَابَة، وَلَا على الأَرْض جَنَابَة، وَلَا يجنب الرجل) وَعَن محيي السّنة الْبَغَوِيّ،قَالَ: معنى قَول ابْن عَبَّاس: أَربع لَا يجنبن، الْإِنْسَان، وَالثَّوْب، وَالْمَاء، وَالْأَرْض،يُرِيد: الْإِنْسَان لَا يجنب بمماسة الْجنب، وَلَا الثَّوْب، إِذا لبسه الْجنب، وَلَا الأَرْض إِذا أقضى إِلَيْهَا الْجنب، وَلَا المَاء ينجس إِذا غمس الْجنب يَده فِيهِ.
    وَقَالَ [قعابن الْمُنْذر [/ قع: أجمع عوام أهل الْعلم على أَن عرق الْجنب طَاهِر، وَثَبت ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَائِشَة أَنهم قَالُوا ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا أحفظ عَن غَيرهم خلاف قَوْلهمَا. وَقَالَ [قعالقرطبي [/ قع: الْكَافِر نجس عِنْد الشَّافِعِي،وَقَالَ أَبُو بكر ابْن الْمُنْذر: وعرق الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِي ّ والمجوسي طَاهِر عِنْدِي،وَقَالَ ابْن حزم الْعرق من الْمُشْركين نجس لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} (سُورَة التَّوْبَة: 28) وَتمسك أَيْضا بِمَفْهُوم حَدِيث الْبَاب،وَادّعى أَن الْكَافِر نجس الْعين وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم نجسوا الْأَفْعَال لَا الْأَعْضَاء أَو نجسوا الِاعْتِقَاد، وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاح نسَاء أهل الْكتاب، وَمَعْلُوم أَن عرقهن لَا يسلم مِنْهُ
    ..........
    (3/240)
    وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن حبَان الرَّد على من زعم أَن الْجنب إِذا وَقع فِي الْبِئْر فَنوى الِاغْتِسَال أَن مَاء الْبِئْر ينجس. قلت: هَذَا الرَّد مَرْدُود حِينَئِذٍ، لِأَن الحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ أصلا والْحَدِيث يدل بعبارته أَن الْجنب لَيْسَ بِنَجس فِي ذَاته، وَلم يتَعَرَّض إِلَى طَهَارَة غسالته إِذا نوى الِاغْتِسَال.
    ............
    (3/242)
    (إِن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ كلب وَلَا صُورَة وَلَا جنب) [/ حم. قلت: هَذَا بعيد، لِأَن المُرَاد من هَذَا الْجنب الَّذِي يتهاون بالاغتسال ويتخذه عَادَة حت تفوته صَلَاة أَو أَكثر، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ من يُؤَخِّرهُ ليفعله، أَو يكون المُرَاد مِنْهُ من لم يرفع حَدثهُ كُله أَو بعضه، لِأَنَّهُ إِذا تَوَضَّأ ارْتَفع بعض الْحَدث عَنهُ، والْحَدِيث الْمَذْكُور صَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم،وَالَّذِي ضعفه قَالَ: فِي إِسْنَاده نجي الْحَضْرَمِيّ، بِضَم النُّون وَفتح الْجِيم، لم يرو عَنهُ غير ابْنه عبد الله، فَهُوَ مَجْهُول، لَكِن وَثَّقَهُ الْعجلِيّ.

    .....
    (3/243)
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي إِيجَاب الْوضُوء عِنْد النّوم على الْجنب، فَذهب أَكثر الْفُقَهَاء إِلَى أَن ذَلِك على النّدب والاستحباب لَا على الْوُجُوب. وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْوضُوء الْمَأْمُور بِهِ الْجنب هُوَ غسل الْأَذَى مِنْهُ وَغسل ذكره وَيَديه، وَهُوَ التَّنْظِيف، وَذَلِكَ عِنْد الْعَرَب يُسمى، وضوأً. قَالُوا: وَقد كَانَ ابْن عمر لَا يتَوَضَّأ عِنْد النّوم الْوضُوء الْكَامِل، وَهُوَ روى الحَدِيث وَعلم مخرجه،وَقَالَ [قعمالك [/ قع: لَا ينَام الْجنب حَتَّى يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة،قَالَ: وَله أَن يعاود أَهله وَيَأْكُل قبل أَن يتَوَضَّأ؛ إِلَّا أَن يكون فِي يَدَيْهِ قذر فيغسلهما،قَالَ: وَالْحَائِض تنام قبل أَن تتوضأ. وَقَالَ الشَّافِعِي، فِي هَذَا كُله نَحْو قَول مَالك،وَقَالَ [قعأبو حنيفَة وَالثَّوْري [/ قع: لَا بَأْس أَن ينَام الْجنب على غير وضوء، وَأحب إِلَيْنَا أَن يتَوَضَّأ،قَالُوا: فَإِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل تمضمض وَغسل يَدَيْهِ، وَهُوَ قَول الْحسن ابْن حَيّ. وَقَالَ الأزاعي: الْحَائِض وَالْجنب أَرَادَ أَن يطعما غسلا أَيْدِيهِمَا. وَقَالَ [قعالليث بن سعد [/ قع: لَا ينَام الْجنب حَتَّى يتَوَضَّأ رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. انْتهى.
    وَقَالَ [قعالقاضي عِيَاض [/ قع: ظَاهر مَذْهَب مَالك أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا هُوَ مرغب فِيهِ، وَابْن حبيب يرى وُجُوبه، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد، وَقَالَ [قعابن حزم [/ قع فِي (الْمحلى) وَيسْتَحب الْوضُوء للْجنب إِذا أَرَادَ الْأكل أَو النّوم ولرد السَّلَام وَلذكر الله، وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب. قلت: قد خَالف ابْن حزم دَاوُد فِي هَذَا الحكم وَقَالَ [قعابن الْعَرَبِيّ [/ قع: قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز للْجنب أَن ينَام قبل أَن يتَوَضَّأ. وَقَالَ بَعضهم: أنكر بعض الْمُتَأَخِّرين هَذَا النَّقْل،وَقَالَ: لم يقل الشَّافِعِي بِوُجُوبِهِ، وَلَا يعرف ذَلِك أَصْحَابه، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِن كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ مَحْمُول على أَنه أَرَادَ نفي الْإِبَاحَة المستوية الطَّرفَيْنِ، لَا إِثْبَات الْوُجُوب،أَو أَرَادَ بِأَنَّهُ وَاجِب وجوب سنة أَي: متأكد الِاسْتِحْبَاب،وَيدل عَلَيْهِ أَنه قابله بقول ابْن حبيب: هُوَ وَاجِب وجوب الْفَرَائِض. انْتهى. قلت: إِنْكَار الْمُتَأَخِّرين هَذَا الَّذِي نقل عَن الشَّافِعِي إِنْكَار مُجَرّد فَلَا يُقَاوم الْإِثْبَات، وَعدم معرفَة أَصْحَابه ذَلِك لَا يسْتَلْزم عدم قَول الشَّافِعِي بذلك، وَأبْعد من هَذَا قَول هَذَا الْقَائِل،

    .......
    (3/244)
    مِنْهُم الْبَيْهَقِيّ: وَمُلَخَّص كَلَامه أَن حَدِيث أبي إِسْحَاق صَحِيح من جِهَة الرِّوَايَة، وَذَلِكَ أَنه بَين فِيهِ سَمَاعه من الْأسود فِي رِوَايَة زُهَيْر عَنهُ، والمدلس إِذا بَين سَمَاعه مِمَّن روى عَنهُ، وَكَانَ ثِقَة، فَلَا وَجه لرده، وَوجه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْن ِ على وَجه يحْتَمل، وقدجمع بَينهمَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن شُرَيْح فاحسن الْجمع،وَسُئِلَ عَنهُ وَعَن حَدِيث عمر: [حم (أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟قَالَ: نعم، إِذا تَوَضَّأ) [/ حم وَقَالَ الحكم لَهما جَمِيعًا أما حَدِيث عَائِشَة فَإِنَّمَا أَرَادَت أَنه كَانَ لَا يمس مَاء للْغسْل. وَأما حَدِيث عمر: (أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟قَالَ: نعم إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليرقد) . فمفسره ذكر فِيهِ الْوضُوء وَبِه، نَأْخُذ.
    وَمِنْهُم ابْن قُتَيْبَة. فَإِنَّهُ قَالَ: يُمكن أَن يكون الْأَمْرَانِ جميعاٌ وقعاد فالفعل لبَيَان الِاسْتِحْبَاب، وَالتّرْك لبَيَان الْجَوَاز،وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّا وجدنَا لحَدِيث أبي إِسْحَاق شَوَاهِد ومتابعين، فَمِمَّنْ تَابعه عَطاء وَالقَاسِم وكريب والسوائي فِيمَا ذكره أَبُو إِسْحَاق الْجرْمِي فِي كتاب (الْعِلَل) قَالَ: وَأحسن الْوُجُوه فِي ذَلِك أَن صَحَّ حَدِيث أبي إِسْحَاق فِينَا رَوَاهُ وَوَافَقَهُ هَؤُلَاءِ أَن تكون عَائِشَة أخْبرت الْأسود أَنه كَانَ رُبمَا تَوَضَّأ، وَرُبمَا أخر الْوضُوء وَالْغسْل حَتَّى يصبح، فَأخْبر الْأسود إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ وَأخْبر أَبَا إِسْحَاق أَنه كَانَ يُؤَخر الْغسْل، وَهَذَا أحسن وأوجه
    ...........
    (3/247)
    ن إِيجَاب الْغسْل لَا يتَوَقَّف على نزُول الْمَنِيّ، بل مَتى غَابَتْ الْحَشَفَة يجب الْغسْل عَلَيْهِمَا وَإِن لم ينزلا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ الْيَوْم، وَقد كَانَ الْخلاف فِيهِ فِي الصَّدْر الأول فَإِن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى أَن من وطىء فِي الْفرج وَلم ينزل فَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك أَحَادِيث نذكرها الْآن وَفِي (الْمحلى) وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وأبوا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن بشير وَزيد بن ثَابت وجمهرة الْأَنْصَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة.
    وَمن الْآثَار الَّتِي احْتَجُّوا بهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث زيد بن خَالِد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على مَا يَجِيء فِي الْبَاب الْآتِي واخرجه مُسلم أَيْضا والطَّحَاوِي واخرجه الْبَزَّار أَيْضا وَلَفظه عَن يزِيد الْجُهَنِيّ: (أَنه سَأَلَ عُثْمَان عَن الرجل يُجَامع وَلَا ينزل،فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْوضُوء،) وَقَالَ عُثْمَان أشهد أَنِّي سَمِعت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بن كَعْب،رَوَاهُ مُسلم حَدثنَا أَبُو الرّبيع الْأنْصَارِيّ حَدثنَا حَمَّاد عَن هِشَام بن عُرْوَة وَحدثنَا أَبُو كريب وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة،قَالَ: حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن أبي أَيُّوب عَن أبي بن كَعْب قَالَ: [حم (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل يُصِيب من الْمَرْأَة ثمَّ يكسل،فَقَالَ: يغسل مَا أَصَابَهُ من الْمَرْأَة ثمَّ يتَوَضَّأ) [/ حم وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة وَأحمد والطَّحَاوِي.
    وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ، (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على رجل من الْأَنْصَار فَأرْسل إِلَيْهِ فَخرج وَرَأسه يقطر،فَقَالَ: لَعَلَّنَا أعجلناك؟فَقَالَ: نعم يَا رَسُول الله،قَالَ: إِذا
    أعجلت أَو قحطت فَلَا غسل عَلَيْك، وَعَلَيْك الْوضُوء أخرجه الطَّحَاوِيّ
    ........
    (3/ 249)
    قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك؟قَالَ: لَا أَدْرِي فَأمر عمر بِجمع الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، فَجمعُوا لَهُ فشاورهم، فَأَشَارَ النَّاس أَن لَا غسل فِي ذَلِك إلاَّ مَا كَانَ من معَاذ وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،فَإِنَّهُمَا قَالَا: الثَّالِث: إِذا لَا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا وَأَنْتُم أَصْحَاب بدر،وَقد اختلفتم فَمن بعدكم أَشد اخْتِلَافا قَالَ: فَقَالَ عَليّ،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه لَيْسَ أحد أعلم بِهَذَا مِمَّن سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَزوَاجه،فَأرْسل إِلَى حَفْصَة فَقَالَت: لَا علم لي بِهَذَا،فَأرْسل إِلَى عَائِشَة فَقَالَت: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا أسمع بِرَجُل فعل ذَلِك، إِلَّا أوجعته ضربا) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِيهِ: لَا أعلم أحدا فعله ثمَّ لم يغْتَسل إِلَّا جعلته نكالاً وَلم يتقن الْكَلَام أحد فِي هَذَا الْبَاب مثل الإِمَام الْحَافِظ أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، فَإِن أَرَادَ أحد أَن يتقنه فَعَلَيهِ بكتابه (مَعَاني الْآثَار) وشرحنا الَّذِي عَمِلْنَاهُ عَلَيْهِ الْمُسَمّى (بمباني الْأَخْبَار)
    ...........
    (3/252)
    حكى الْأَثْرَم عَن أَحْمد أَن حَدِيث زيد بن خَالِد الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب مَعْلُول لِأَنَّهُ ثَبت عَن هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة الْفَتْوَى بِخِلَاف مَا فِي خذا الحَدِيث. قلت: كَونهم أفتوا بِخِلَافِهِ لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث، لِأَنَّهُ حكم من حَدِيث مَنْسُوخ وَهُوَ صَحِيح، فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، أَلا ترى أَن أَبَيَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يرى المَاء من المَاء لظَاهِر الحَدِيث، ثمَّ أخبر عَنهُ سهل بن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل المَاء من المَاء رخصَة فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نهى عَن ذَلِك وَأمره بِالْغسْلِ.
    وَأما الَّذِي يستنبط من حَدِيث الْبَاب إِن الَّذِي يُجَامع امْرَأَته وَلم ينزل منيه لَا يجب عَلَيْهِ الْغسْل، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَهَذَا مَنْسُوخ لما بَيناهُ وَمذهب الْجُمْهُور هُوَ أَن إِيجَاب الْغسْل لَا يتَوَقَّف على إِنْزَال الْمَنِيّ، بل مَتى غَابَتْ الْحَشَفَة فِي الْفرج وَجب الْغسْل على الرجل وَالْمَرْأَة، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي (الصَّحِيح) وَإِن لم ينزل وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة تغييب الْحَشَفَة فِي الْفرج هُوَ الْمُوجب للْغسْل سَوَاء كَانَ الْفرج قبلا أَو دبراً من كل حَيَوَان آدَمِيّ أَو بهيم حَيا أَو مَيتا طَائِعا أَو مكْرها، نَائِما أَو مستيقظاً انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا والتقاء الختانين يُوجب الْغسْل أَي: مَعَ توازي الْحَشَفَة فَإِن نفس ملاقاة الْفرج بالفرج من غير التواري لَا يُوجب الْغسْل، وَلَكِن يُوجب الْوضُوء عِنْدهمَا، خلافًا لمُحَمد. وَفِي (الْمُحِيط) لَو أَتَى امْرَأَته وَهِي بكر فَلَا غسل مَا لم ينزل، لِأَن بِبَقَاء الْبكارَة يعلم أَنه لم يُوجد الْإِيلَاج، وَلَكِن إِذا جومعت الْبكر فِيمَا دون الْفرج فحبلت فعلَيْهِمَا الْغسْل لوُجُود الْإِنْزَال لِأَنَّهُ لَا حَبل بِدُونِ،
    ........
    (3/253)
    لأجل اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، أَو لاخْتِلَاف الْمُحدثين فِي صِحَّته وَعدمهَا، وَقد خبط ابْن الْعَرَبِيّ على البُخَارِيّ لمُخَالفَته فِي هَذَا الْجُمْهُور، فَإِن إِيجَاب الْغسْل أطبق عَلَيْهِ الصَّحَابَة. وَمن بعدهمْ، وَمَا خَالف إلاَّ دَاوُد، وَلَا عِبْرَة بِخِلَافِهِ، وَكَيف يحكم بأستحباب الْغسْل وَهُوَ أحد أَئِمَّة الدّين، وَمن أَجله عُلَمَاء الْمُسلمين،ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مُرَاده بقوله: الْغسْل أحوط،أَي: فِي الدّين؟ وَهُوَ بَاب مَشْهُور فِي أصُول الدّين،ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بإمامته وَعلمه؟قَالَ بَعضهم: قلت: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر من تصرفه، فَإِنَّهُ لم يترجم بِجَوَاز ترك الْغسْل،وَإِنَّمَا ترْجم بِبَعْض مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث بِغَيْر هَذِه الْمَسْأَلَة قلت: من تَرْجَمته يفهم جَوَاز ترك الْغسْل لِأَنَّهُ اقْتصر على غسل مَا يُصِيب الرجل من الْمَرْأَة وَأَنه هُوَ الْوَاجِب، وَالْغسْل غير وَاجِب،وَلكنه مُسْتَحبّ للِاحْتِيَاط وَأما قَول ابْن الْعَرَبِيّ: أطبق عَلَيْهِ الصَّحَابَة، فَفِيهِ نظر، فَإِن الْخلاف مَشْهُور فِي الصَّحَابَة ثَبت عَن جمَاعَة مِنْهُم،كَذَا قَالَ بَعضهم:
    ............
    (3/254)
    رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عمر بن الْخطاب الْغسْل من الْجَنَابَة،فَقَالَ بَعضهم: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل،وَقَالَ بَعضهم: المَاء من المَاء. فَقَالَ عمر: قد اختلفتم وَأَنْتُم أهل بدر الأخيار، فَكيف بِالنَّاسِ بعدكم؟فَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِن أردْت أَن تعلم ذَلِك فارسل إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسألهن عَن ذَلِك: فَأرْسل إِلَى عَائِشَة فَقَالَت: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل. فَقَالَ عمر عِنْد ذَلِك لَا أسمع أحدا يَقُول: المَاء من المَاء،إلاَّ جعلته نكالاً قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا عمر قد حمل النَّاس على هَذَا بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ مُنكر وَادّعى ابْن الْقصار أَن الْخلاف ارْتَفع بَين التَّابِعين، وَفِيه نظر،لِأَن الْخطابِيّ قَالَ: قَالَ بِهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة،فَسمى بَعضهم: وَمن التَّابِعين الْأَعْمَش،وَتَبعهُ القَاضِي عِيَاض: وَلكنه قَالَ: لم يقل بِهِ أحد من بعد أَصْحَابه غَيره، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ قد ثَبت ذَلِك عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح حَدثنَا أَحْمد بن صَالح،قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب،قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: المَاء من المَاء) وَكَانَ أَبُو سَلمَة يفعل ذَلِك،وَعند هِشَام ابْن عُرْوَة عَن عبد الرَّزَّاق وَعِنْده أَيْضا عَن أبي جريح عَن عَطاء أَنه قَالَ: لَا تطيب نَفسِي حَتَّى اغْتسل من أجل اخْتِلَاف النَّاس لآخذ بالعروة الوثقى.
    .......
    (3/255)
    وَقَالَ بَعْضُهُمْ كانِ أَوَّلُ مَا أُرْسلَ الحَيْضُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
    هَذَا قَول عبد الله بن معسود وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنْهُمَا وَلَفظه (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي بني إِسْرَائِيل يصلونَ جَمِيعًا، وَكَانَت الْمَرْأَة تتشرف للرجل فَألْقى الله عَلَيْهِنَّ الْحيض ومنعهن الْمَسَاجِد) فَإِن قلت: الْحيض أرسل على بَنَات بني إِسْرَائِيل على هَذَا القَوْل: وَلم يُرْسل على بنيه،فَكيف قَالَ: على بني إِسْرَائِيل؟قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يسْتَعْمل بَنو إِسْرَائِيل، وَيُرَاد بِهِ أَوْلَاده، كَمَا يُرَاد من بني آدم أَوْلَاده. أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة.
    .......
    (3/257)
    قد روى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أَن ابْتِدَاء الْحيض كَانَ على حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن أهبطت من الْجنَّة وَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر. وَقد روى الطَّبَرِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره أَن قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت} (سُورَة هود: 71) أَي: حَاضَت، والقصة مُتَقَدّمَة على بني إِسْرَائِيل بِلَا ريب، لِأَن إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَلَقَد حضر لي جَوَاب فِي التَّوْفِيق من الْأَنْوَار الإلهية بعونه ولطفه، وَهُوَ أَنه، يُمكن أنالله تَعَالَى قطع نِسَائِهِم، لِأَن من حكم الله تَعَالَى أَنه جعل الْحيض مسبباً لوجو، النَّسْل، أَلا ترى أَن الْمَرْأَة إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لَا تحمل عَادَة؟ أَعَادَهُ عَلَيْهِنَّ كَانَ ذَلِك أول الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّة الِانْقِطَاع، فَأطلق الأولية عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا من الْأُمُور النسبية فَافْهَم.
    .............
    (3/ 257)
    ليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ،بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال قَالَ ابْن الْأَثِير: مَنْسُوب إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا أحد مَا اسْتعْمل بِالنّسَبِ فِيهِ خَارِجا عَن الْقيَاس، فَإِن قِيَاسه الْمدنِي،وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مدنِي وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، للْفرق
    .........
    (3/ 257)
    قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استأذنهن فِي ذَلِك،فَإِن تضحية الْإِنْسَان عَن غَيره لَا يجوز إلاَّ بِإِذْنِهِ قلت: هَذَا فِي الْوَاجِب، وَأما فِي التَّطَوُّع فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِذْن، فاستدل مَالك بِهِ على أَن التَّضْحِيَة بالبقر أفضل من الْبَدنَة، وَلَا دلَالَة فِيهِ وَالْأَكْثَرُون َ، مِنْهُم الشَّافِعِي ذَهَبُوا إِلَى أَن التَّضْحِيَة بالبدنة أفضل من الْبَقَرَة لتقديم الْبَدنَة على الْبَقَرَة فِي حَدِيث سَاعَة الْجُمُعَة
    ........
    (3/260)
    وَهُوَ جَوَاز حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته، وَكَذَلِكَ الْجنب، وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَعَطَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ،وَمُجاهد وَطَاوُس وَأَبُو وَائِل رزين وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَقَالَ ابْن بطال: رخص فِي حمله الحكم وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن جُبَير وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأهل الظَّاهِر، وَمنع الحكم مَسّه بباطن الْكَفّ خَاصَّة، وَقَالَ ابْن حزم، وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالسُّجُود فِيهِ وَمَسّ الْمُصحف وَذكر الله تَعَالَى جَائِز، كل ذَلِك وضوء وَبلا وضوء وللجنب وَالْحَائِض، وَهُوَ قَول ربيعَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن جُبَير وَابْن عَبَّاس وَدَاوُد وَجَمِيع أَصْحَابنَا، وَأما مس الْمُصحف فَإِن الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا من لم يجز للْجنب مَسّه، فآنه لَا يَصح مِنْهَا شَيْء لِأَنَّهَا إِمَّا مُرْسلَة وَإِمَّا صحيفَة لَا يسْتَند بِهِ، وَأما عَن ضَعِيف، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان حَدِيث هِرقل الَّذِي فِيهِ و {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا: {أشهدوا بِأَنا مُسلمُونَ} (سُورَة آل عمرَان: 64) فَهَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث كتابا فِيهِ قُرْآن للنصاري، وَقد أَيقَن أَنهم يمسونه، فَإِن ذكرُوا حَدِيث ابْن عمر، (نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو) قُلْنَا: هَذَا حق يلْزم اتِّبَاعه وَلَيْسَ فِيهِ لَا يمس الْمُصحف جنب وَلَا كَافِر، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن لَا ينَال أهل الْحَرْب الْقُرْآن فَقَط
    ......
    (3/261)
    قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمس الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَلما ذكره الجوزقاني فِي كِتَابه،قَالَ: هَذَا حَدِيث مَشْهُور حسن. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن كتابا فِيهِ، لَا يمس الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَرَوَاهُ فِي (الغرائب) من حَدِيث إِسْحَاق إلطباع عَن مَالك مُسْندًا وَمن الطَّرِيق الأولى خرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) .
    وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِمَنْع قِرَاءَة الْقُرْآن للْجنب وَالْحَائِض. مِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن رَوَاحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. [حم (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ أَحَدنَا الْقُرْآن وَهُوَ جنب) [/ حم. قَالَ أَبُو عمر: روينَاهُ من وُجُوه صِحَاح. وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن سَلمَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،يرفعهُ: (لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إلاَّ الْجَنَابَة) صَححهُ جمَاعَة مِنْهُمَا بن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَأَبُو عَليّ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَغوِيّ فِي (شرح السّنة) وَفِي (سُؤَالَات الْمَيْمُونِيّ) قَالَ شُعْبَة: لَيْسَ أحد يحدث بِحَدِيث أَجود من ذَا،
    .........
    (3/261)
    وغرض البُخَارِيّ الدّلَالَة على جَوَاز الْقِرَاءَة بِقرب مَوضِع النَّجَاسَة لَا على جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وَبِهَذَا رد الْكرْمَانِي على ابْن بطال فِي قَوْله وغرض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَن يدل على جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وقراءتها الْقُرْآن قلت رده عَلَيْهِ إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِي قَوْله وقراءتها الْقُرْآن لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْحَائِض الْقُرْآن وَالَّذِي فِيهِ يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْقُرْآن فِي حجر الْحَائِض وعَلى جَوَاز حمل الْمُصحف لَهَا بعلاقته فأورد حَدِيثا وأثرا
    ........
    (3/264)
    حَدِيث أم سَلمَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث سُهَيْل عَن مسَّة الإزدية عَن أم سَلمَة، وَحسنه الْبَيْهَقِيّ والخطابي،وَقَالَ الْأَزْدِيّ: حَدِيث مَسّه أحْسنهَا. وَعند الدَّارَقُطْنِي ّ: (أَن أم سَلمَة سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم تجْلِس الْمَرْأَة، إِذا ولدت؟قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك) وَعند ابْن مَاجَه، من حَدِيث سَلام بن سليم عَن حميد عَن أنس،رَضِي الله عَنهُ: (وَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنفساء أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَحَدِيث عُثْمَان عَن أبي الْعَاصِ مثله، وَضَعفه ابْن عدي. وَقَالَ الْحَاكِم: إِن سلم هَذَا الْإِسْنَاد من أبي بِلَال فَإِنَّهُ مُرْسل صَحِيح،
    وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لأبي عَليّ الطوسي، أجمع أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ على أَن النُّفَسَاء تدع الصَّلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي، فَإِذا رَأَتْ الدَّم بعد الْأَرْبَعين فَإِن أَكثر أهل الْعلم قَالُوا: لَا تدع الصَّلَاة بعد الْأَرْبَعين، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، ويروى عَن الْحسن، تدع الصَّلَاة خمسين يَوْمًا، وَعَن عَطاء سِتِّينَ يَوْمًا.
    .........
    (3/ 266)
    أَن مُبَاشرَة الْحَائِض على أَقسَام: أَحدهَا: حرَام بِالْإِجْمَاع، وَلَو اعْتقد حلّه يكفر، وَهُوَ أَن يُبَاشِرهَا فِي الْفرج عَامِدًا، فَإِن فعله غير مستحل يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَلَا يعود إِلَيْهِ، وَهل يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة أَو لَا؟ فِيهِ خلاف، فَذهب جمَاعَة إِلَى وجوب الْكَفَّارَة،مِنْهُم: قَتَادَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم،وَقَالَ فِي الْجَدِيد: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَلَا يُنكر أَن يكون فِيهِ كَفَّارَة لِأَنَّهُ وَطْء مَحْظُور كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَان. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء، لَا شَيْء عَلَيْهِ سوى الاسْتِغْفَار، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا أَيْضا. وَقَالَ الثَّوْريّ: وَلَو فعله غير مُعْتَقد حلّه، فَإِن كَانَ نَاسِيا أَو جَاهِلا بِوُجُود الْحيض أَو جَاهِلا تَحْرِيمه أَو مكْرها فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة، وَإِن كَانَ عَالما بِالْحيضِ وبالتحريم مُخْتَارًا عَامِدًا فقد ارْتكب مَعْصِيّة نَص الشَّافِعِي على أَنَّهَا كَبِيرَة،وَيجب عَلَيْهِ التَّوْبَة وَفِي وجوب الْكَفَّارَة قَولَانِ: أصَحهمَا،وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ. ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة،فَقيل: عتق رَقَبَة،وَقيل: دِينَار وَنصف دِينَار على اخْتِلَاف بَينهم، هَل الدِّينَار فِي أول الدَّم وَنصفه فِي آخِره؟ أَو الدِّينَار فِي زمن الدَّم وَنصفه بعد انْقِطَاعه؟فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض،قَالَ: (يتَصَدَّق بِدِينَار أَو بِنصْف دِينَار) وَرَوَاهُ بَقِيَّة الْأَرْبَعَة: قلت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَأعله بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن شُعْبَة، مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس، وَأَن شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه،وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ مُرْسلا. وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ معضلاً،وَهُوَ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يزِيد بن أبي مَالك عَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أمرت أَن يتَصَدَّق بخمسي دِينَار) ، والمعضل نوع خَاص من الْمُنْقَطع، فَكل معضل مُنْقَطع، وَلَيْسَ كل مُنْقَطع معضلاً، وَقوم يسمونه مُرْسلا،وَمِنْهَا: أَن فِي مَتنه اضطراباً،لِأَنَّهُ رُوِيَ: بِدِينَار، أَو نصف دِينَار على الشَّك،وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بدينارد فَإِن لم يجد فبنصف دِينَار،وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار،وَرُوِيَ: إِن كَانَ دَمًا أَحْمَر فدينار، وَإِن كَانَ أصفر فَنصف دِينَار،وَرُوِيَ: إِن كَانَ الدَّم عبيطاً فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ صفرَة فَنصف دِينَار. قلت: هَذَا الحَدِيث صَححهُ الْحَاكِم وَابْن الْقطَّان،وَذكر الْحَلَال عَن أبي دَاوُد أَن أَحْمد قَالَ: مَا أحسن حَدِيث عبد الحميد، وَهُوَ أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب بن نفَيْل الْقرشِي الْهَاشِمِي الْعَدوي، عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز على الْكُوفَة،
    .......
    (3/270)
    الثَّانِي قَول الشَّافِعِي. وَقيل: مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره فِي الْقلب. قلت: وَعَن هَذَا قَالُوا: الْعقل جَوْهَر خلقه الله فِي الدِّمَاغ وَجعل نوره فِي الْقلب، تدْرك بِهِ المغيبات بالوسائط والمحسوسات بِالْمُشَاهَدَة ِ، وَعند الْمُتَكَلِّمين ، الْعقل الْعلم،وَقيل: بعض الْعُلُوم هِيَ الضرورية،وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا حقائق المعلومات، وَفِي كتاب (الْحُدُود) لأبي عَليّ بن سينا،هُوَ اسْم مُشْتَرك لمعان عدَّة: عقل لصِحَّة الْفطْرَة الأولى فِي الناى، وَهُوَ قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين الْأُمُور القبيحة والحسنة، وعقل لما يكتسبه بالتجارب بَين الْأَحْكَام تكون مُقَدّمَة يحصل بهَا الْأَغْرَاض والمصالح، وعقل لِمَعْنى آخر، وَهَذِه هَيْئَة محمودة للْإنْسَان فِي حركاته وَكَلَامه، وَأما الْحُكَمَاء فقد فرقوا بَينه وَبَين الْعلم،وَقَالُوا: الْعقل النظري، وبالفعل والفعال، وتحقيقه فِي كتبهمْ،وَإِنَّمَا سمي: الْعقل،عقلا من قَوْلهم: ظَبْي عَاقل، إِذا امْتنع فِي أَعلَى الْجَبَل، يُسمى هَذَا بِهِ لِأَنَّهُ فِي أَعلَى الْجَسَد بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي أَعلَى الْجَبَل. وَقيل: الْعَاقِل: الْجَامِع لأموره بِرَأْيهِ،مَأْخُوذ من قَوْلهم: عقلت الْفرس إِذا جمعت قوائمه وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم: أَن المُرَاد من الْعقل الدِّيَة، لِأَن دِيَتهَا على النّصْف من دِيَة الرجل.
    ..........
    (3/271)
    قَوَّال النَّوَوِيّ: وَأما وَصفه النِّسَاء بِنُقْصَان الدّين لتركهن الصَّلَاة وَالصَّوْم فقد يسْتَشْكل مَعْنَاهُ وَلَيْسَ بمشكل، فَإِن الدّين وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام مُشْتَرك فِي معنى وَاحِد، فَإِن من كثرت عِبَادَته زَاد إيمَانه وَدينه، وَمن نقصت عِبَادَته نقص دينه
    قَالَ النَّوَوِيّ: وَنقص الدّين قد يكون على وَجه يَأْثَم بِهِ، كمن ترك الصَّلَاة بِلَا عذر، وَقد يكون على وَجه لَا يَأْثَم لَهُ، كمن ترك الْجُمُعَة بِعُذْر، وَقد يكون على وَجه هُوَ مُكَلّف بِهِ كَتَرْكِ الْحَائِض الصَّلَاة وَالصَّوْم. فَإِن قيل: فَإِذا كَانَت معذورة، فَهَل تثاب على ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض؟ وَإِن كَانَت لَا تقضيها كَمَا يُثَاب الْمَرِيض، وَيكْتب لَهُ فِي مَرضه مثل نوافل الصَّلَوَات الَّتِي كَانَ يَفْعَلهَا فِي صِحَّته. وَالْجَوَاب أَن ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا لَا تثاب، وَالْفرق أَن الْمَرِيض كَانَ يَفْعَلهَا بنية الدَّوَام عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّته لَهَا، وَالْحَائِض لَيست كَذَلِك، بل نِيَّتهَا ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَكَيف لَا وَهِي حرَام عَلَيْهَا؟
    ..............
    (3/272)
    وَقَالَت الْعلمَاء: كَانَ هَذَا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فَلَا تخرج الشَّابَّة ذَات الْهَيْئَة، وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَو رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد، كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل. قلت: هَذَا الْكَلَام من عَائِشَة بِعُذْر من يسير جدا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك، فَلَا يرخص فِي خروجهن مُطلقًا للعيد وَغَيره، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر، على مَا لَا يخفى. وَفِي (التَّوْضِيح) رأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا عَلَيْهِنَّ،يَعْنِي: فِي خروجهن للعيد مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر وَغَيرهم، وَمِنْهُم من منعن ذَلِك،مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو يُوسُف، وَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة مرّة وَمنعه أُخْرَى، وَمنع بَعضهم فِي الشَّابَّة دون غَيرهَا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي يُوسُف،وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: كَانَ الْأَمر بخروجهن أول الْإِسْلَام لتكثير الْمُسلمين فِي أعين الْعَدو. قلت: كَانَ ذَلِك لوُجُود الْأَمْن أَيْضا، وَالْيَوْم قلَّ الأمنُ، والمسلمون كثير، وَمذهب أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْبَاب مَا ذكره صَاحب (الْبَدَائِع) أَجمعُوا على أَنه لَا يرخص للشابة الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة وَشَيْء من الصَّلَوَات،لقَوْله تَعَالَى: {وقرون فِي بُيُوتكُمْ} (سُورَة الْأَحْزَاب: 33) وَلِأَن خروجهن سَبَب للفتنة وَأما الْعَجَائِز فيرخص لَهُنَّ الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ، وَلَا خلاف أَن الْأَفْضَل أَن لَا يخْرجن فِي صَلَاة مَا، فَإِذا خرجن يصلين صَلَاة الْعِيد، فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ، لَا يصلين، بل يكثرن سَواد الْمُسلمين وينتفعن بدعائهم، وَفِي حَدِيث أم عَطِيَّة،قَالَت: [حم (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور وَالْحيض
    ..........
    (3/273)
    صله الدَّارمِيّ بِلَفْظ أَرْبَعَة لَا يقرؤون الْقُرْآن: الْجنب وَالْحَائِض وَعند الْخَلَاء وَفِي الْحمام إلاَّ آيَة
    .........
    (3/274)
    وكانَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحْيَائِهِ
    هَذَا حَدِيث أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يرْوى على كل أَحْوَاله وَأَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا، وَبِمَا ذكره فِي هَذَا الْبَاب، الِاسْتِدْلَال على جَوَاز قِرَاءَة الْجنب وَالْحَائِض، لِأَن الذّكر أَعم من أَن يكون بِالْقُرْآنِ أَو بِغَيْرِهِ، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد.
    .......
    (3/275)
    قَالَ الطَّبَرِيّ فِي (كتاب التَّهْذِيب) الصَّوَاب أَن مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ، الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذكر الله على كل أحيائه وَأَنه كَانَ يقْرَأ مَا لم يكن جنبا أَن قِرَاءَته طَاهِرا اخْتِيَار مِنْهُ لأَفْضَل الْحَالَتَيْنِ
    وَالْحَالة الْأُخْرَى أَرَادَ تَعْلِيم الْأمة، وَأَن ذَلِك جَائِز لَهُم، غير مَحْظُور عَلَيْهِم ذكر الله وَقِرَاءَة الْقُرْآن.
    ...........
    (3/ 276)
    وَعند أَحْمد: [حم (اغْتَسِلِي وتوضئي لكل صَلَاة وَصلي) [/ حم وَقَالَ الشَّافِعِي: ذكر الْوضُوء عندنَا غير مَحْفُوظ، وَلَو كَانَ مَحْفُوظًا لَكَانَ أحب إِلَيْنَا من الْقيَاس وَفِي (التَّمْهِيد) رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن هِشَام مَرْفُوعا كَرِوَايَة يحيى عَن هِشَام سَوَاء،قَالَ فِيهِ: (وتوضئي لكل صَلَاة) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّاد ابْن سَلمَة عَن هِشَام مثله، وَحَمَّاد فِي ثِقَة ثَبت.
    وَاعْلَم أَن وَطْء الْمُسْتَحَاضَة جَائِز فِي حَال جَرَيَان الدَّم عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر، وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَبكر الْمُزنِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري، وَكَانَ زَوجهَا يَأْتِيهَا،قَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: لَا يَأْتِيهَا زَوجهَا، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالْحكم وَسليمَان ابْن يسَار وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَقَالَ أَحْمد لَا يَأْتِيهَا إلاَّ أَن يطول ذَلِك بهَا،وَفِي رِوَايَة: لَا يجوز وَطْؤُهَا إلاَّ أَن يخَاف زَوجهَا الْعَنَت، وَعَن مَنْصُور، تَصُوم وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا وَلَا تمس الْمُصحف وَتصلي مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل.
    وَفِي وَجه للشَّافِعِيَّة: لَا تستبيح النَّافِلَة أصلا،وَمذهب الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تصلي بِطَهَارَة وَاحِدَة أَكثر من فَرِيضَة وَاحِدَة مُؤَدَّاة أَو مقضية وَحكي ذَلِك عَن عُرْوَة وَالثَّوْري وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة طَهَارَتهَا مقدرَة فِي الْوَقْت فَتُصَلِّي فِي الْوَقْت بطهارتها الْوَاحِدَة مَا شَاءَت،وَقَالَ مَالك وَرَبِيعَة وَأَبُو دَاوُد: دم الِاسْتِحَاضَة لَا ينْقض الْوضُوء فَإِذا طهرت فلهَا أَن تصلي بطهارتها مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل إلاَّ أَن تحديث بِغَيْر الِاسْتِحَاضَة، وَيصِح وضؤوها لفريضة قبل دُخُول وَقتهَا، خلافًا للشَّافِعِيّ، وَلَا يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لشَيْء من الصَّلَاة وَلَا فِي وَقت من الْأَوْقَات إلاَّ مرّة وَاحِدَة إلاَّ فِي وَقت انْقِطَاع حَيْضهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عُرْوَة وَأبي سَلمَة وَمَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد
    .........
    (3/276)
    فَائِدَة: كَانَ فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة من النِّسَاء مستحاضات،مِنْهُنَّ: أم حَبِيبَة بنت جحش وَسَيَأْتِي حَدِيثهَا وَزَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ وَأَسْمَاء أُخْت مَيْمُونَة لأمها وَفَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، وَحمْنَة بنت جحش، ذكرهَا أَبُو دَاوُد، وسهلة بنت سُهَيْل ذكرهَا أَيْضا، وَكَذَا زَيْنَب بنت جحش وَسَوْدَة بنت زَمعَة ذكرهَا الْعَلَاء بن الْمسيب عَن الحكم عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن، وَزَيْنَب بنت أم سَلمَة ذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِ يّ فِي جمعه لحَدِيث يحيى بن أبي كثير، وَأَسْمَاء بنت مرشد الحارثية ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ، وبادية بنت غيلَان، ذكرهَا ابْن الْأَثِير. قلت: هِيَ الثقفية الَّتِي قَالَ عَنْهَا: هيت المخنث: تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان، تزَوجهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وأبوها أسلم وَتَحْته عشرَة نسْوَة.
    .........
    (3/ 279)
    قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَا عرفنَا من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَت مُسْتَحَاضَة،قَالَ: وَالظَّاهِر أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
    كَأَن ابْن الْجَوْزِيّ قد ذهل عَن الرِّوَايَتَيْن ِ فِي هَذَا الْبَاب: إِحْدَاهمَا امْرَأَة من أَزوَاجه، وَالْأُخْرَى كَانَ بعض أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اعْتكف وَهِي مُسْتَحَاضَة،
    وَذكر ابْن عبد الْبر أَن بَنَات جحش الثَّلَاثَة كن مستحاضات، زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ، وَحمْنَة زوج طَلْحَة، وَأم حَبِيبَة زوج عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهِي الْمَشْهُورَة مِنْهُنَّ، بذلك، وَسَيَأْتِي حَدِيثهَا.
    ذكرُوا فِي هَذِه المبهمة، وَهُوَ قَوْلهَا: بعض نِسَائِهِ، ثَلَاثَة أَقْوَال: فَقيل: هِيَ سَوْدَة بنت زَمعَة. وَقيل: رَملَة أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان. قيل: زَيْنَب بنت جحش الأَسدِية أول من مَاتَ من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده، وَأما على مَا زعم ابْن الْجَوْزِيّ من أَن الْمُسْتَحَاضَة لَيست أَزوَاجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد روى: فَكَانَت زَيْنَب بنت أم سَلمَة أستحيضت وَهِي لَهَا تعلق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهَا ربيبته، وَلَكِن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حِكَايَة زَيْنَب على غَيرهَا، وَهُوَ الْأَشْبَه، فَإِن زَيْنَب كَانَت صَغِيرَة فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ دخل على أمهَا فِي السّنة الثَّالِثَة وَزَيْنَب ترْضع
    ..........
    (3/281)
    قَالَ ابْن التِّين: صَوَابه، قسط ظفار، مَنْسُوب إِلَى ظفار، وَهِي سَاحل من سواحل عدن. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ مَدِينَة بِالْيمن، وَالَّذِي فِي مُسلم قسط وأظفار،وَهُوَ الْأَحْسَن فَإِنَّهَا نَوْعَانِ قيل: هُوَ شَيْء من الْعطر أسود الْقطعَة مِنْهُ شَبيهَة بالظفر، وَهُوَ بخور رخص فِيهِ للمغتسلة من الحيث لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة،وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: ظفار، وبفتح أَوله وَفِي آخِره رَاء مَكْسُورَة مَبْنِيّ على الْكسر، وَهُوَ مَدِينَة بِالْيمن، وَبهَا قصر الملكة،وَيُقَال: إِن الْجِنّ بنتهَا وَعَن الصغاني،ظفار فِي الْيمن أَرْبَعَة مَوَاضِع: مدينتان وحصتان أما المدينتان. فإحداهما: ظفار الحقل، كَانَ ينزلها التابعية، وَهِي على مرحلَتَيْنِ من صنعاء وإليها ينْسب الْجزع،وَالْأُخْرَى: ظفار السَّاحِل، قرب مرابط،وإليها ينْسب الْقسْط: يجلب إِلَيْهَا من الْهِنْد،والحصتان: أَحدهمَا: فِي يماني صنعاء، على مرحلَتَيْنِ؟وَيُسمى: ظفار الواديين. وَالثَّانِي: فِي بِلَاد هَمدَان وَيُسمى: ظفار الطَّاهِر، وَفِي (الْمُحكم) الظفر ضرب من الْعطر أسود مُقَلِّب من أَصله على شكل ظفر الْإِنْسَان يوضع فِي الدخنة، وَالْجمع أظفار وأظافير. وَقَالَ صَاحب (الْعين) لَا وَاحِد لَهُ، وظفّر ثَوْبه. طيبه الظفر، وَفِي (الْجَامِع) الْأَظْفَار شَيْء من الْعطر يشبه الْأَظْفَار يتَّخذ مِنْهَا مَعَ الأخلاط وَلَا يفرد وَاحِدهَا: وَأَن أفرد فَهُوَ أظفارة
    .........
    (3/283)
    وجوب الْإِحْدَاد على كل من هِيَ ذَات زوج، سَوَاء فِيهِ الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا، وَالصَّغِيرَة والكبيرة، وَالْبكْر وَالثَّيِّب، والحرة وَالْأمة،وَعند أبي حنيفَة: لَا إحداد على الصَّغِيرَة وَلَا على الزَّوْجَة الْأمة، وَأَجْمعُوا أَن لَا إحداد على أم الْوَلَد وَالْأمة إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا، وَلَا على الرَّجْعِيَّة، وَفِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا قَولَانِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة،وَالْحكم أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد، وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ،وَقَالَ عَطاء وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر: بِالْمَنْعِ، وَحكي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة وَلَا على المتوفي عَنْهَا زَوجهَا،وَهُوَ شَاذ وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على وجوب الْإِحْدَاد،إلاَّ الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِب، وَتعلق أَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَمَالك فِي أحد قوليه،وَابْن كنَانَة وَابْن نَافِع وَأَشْهَب بِأَن لَا إحداد على الْكِتَابِيَّة المتوفي عَنْهَا زَوجهَا الْمُسلم بقوله فِي الحَدِيث: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد)
    .......
    (3/283)
    لم خص الْأَرْبَعَة الْأَشْهر وَالْعشرَة؟قلت: لِأَن غَالب الْحمل تبين حركته فِي هَذِه الْمدَّة، وأنث الْعشْر، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَيَّام بلياليها، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ مَا حُكيَ عَن يحيى بن أبي كثير، والأزاعي أَنه أَرَادَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر لَيَال، وَإِنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر،وَعند الْجُمْهُور: لَا تحل حَتَّى تدخل اللَّيْلَة الْحَادِي عشر، وَهَذَا خرج على غَالب أَحْوَال المعتدات أَنَّهَا تَعْتَد بِالْأَشْهرِ، أما إِذا كَانَت حَامِلا فعدتها بِالْحملِ ويلزمها الْإِحْدَاد فِي جَمِيع الْمدَّة حَتَّى تضع، سَوَاء قصرت الْمدَّة أم طَالَتْ،فَإِذا وضعت فَلَا إحداد بعده وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يلْزمهَا الْإِحْدَاد بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَإِن لم تضع الْحمل.

    .............
    (3/289)
    وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَن عَائِشَة فِي مَا أَحرمت بِهِ اخْتِلَافا كثيرا كَمَا ذكره القَاضِي عِيَاض فَفِي رِوَايَة عُرْوَة " فأهلنا بِعُمْرَة " وَفِي رِوَايَة أُخْرَى " وَلم أهل إِلَّا بِعُمْرَة " وَفِي رِوَايَة " لَا نذْكر إِلَّا الْحَج " وَفِي أُخْرَى " لَا نرى إِلَّا الْحَج " وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهَا " لبينا بِالْحَجِّ " وَفِي أُخْرَى " مهلين بِالْحَجِّ " وَاخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَمنهمْ من رجح رِوَايَات الْحَج وَغلظ رِوَايَات الْعمرَة وَإِلَيْهِ ذهب إِسْمَاعِيل القَاضِي وَمِنْهُم من جمع لثقة رواتها لِأَنَّهَا أَحرمت أَولا بِالْحَجِّ وَلم تسق الْهَدْي فَلَمَّا أَمر الشَّارِع من لم يسق الْهَدْي بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة إِن شَاءَ فسخت هِيَ فِيمَن فسخ وَجَعَلته عمْرَة وأهلت بهَا ثمَّ إِنَّهَا لم تحل مِنْهَا حَتَّى حَاضَت فَتعذر عَلَيْهَا إِتْمَامهَا والتحلل مِنْهَا فَأمرهَا أَن تحرم بِالْحَجِّ فأحرمت فَصَارَت قارنة ووقفت وَهِي حَائِض ثمَّ طهرت يَوْم النَّحْر فأفاضت وَذكر ابْن حزم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيرهمْ بسرف بَين فَسخه إِلَى الْعمرَة والتمادي عَلَيْهِ وَأَنه بِمَكَّة أوجب عَلَيْهِم التَّحَلُّل إِلَّا من صَحَّ مَعَه الْهَدْي وَالصَّحِيح أَنَّهَا حَاضَت بسرف أَو قريب مِنْهَا فَلَمَّا قدم مَكَّة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْعَلُوهَا عمْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر الِاضْطِرَاب عَن عَائِشَة فِي حَدِيثهَا فِي الْحَج عَظِيم وَقد أَكثر الْعلمَاء فِي تَوْجِيه الرِّوَايَات فِيهِ وَدفع بَعضهم بَعْضهَا فِيهِ بِبَعْض وَلم يستطيعوا الْجمع بَينهَا ورام قوم الْجمع فِي بعض مَعَانِيهَا.
    .....
    (3/290)
    رِّوَايَة عَن أبي حنيفَة أَن الْإِفْرَاد أفضل من التَّمَتُّع كمذهب الشَّافِعِي، وَلَكِن الْمَذْهَب التَّمَتُّع أفضل من الْإِفْرَاد لِأَن فِيهِ جمعا بَين عبادتي الْعمرَة وَالْحج فِي سفر وَاحِد، فَأشبه القِرَان
    ..........
    (3/292)
    ن غَرَض البُخَارِيّ من وضع هَذَا الْبَاب هُنَا الْإِشَارَة إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض، لِأَن اشْتِمَال الرَّحِم على الْوَلَد يمْنَع خُرُوج دم الْحيض. وَيُقَال: إِنَّه يصير غذَاء للجنين، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض الْكُوفِيُّونَ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد بن حَنْبَل وَأَبُو نور وَابْن الْمُنْذر وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري وَأَبُو عبيد وَعَطَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَجَابِر بن زيد وَالشعْبِيّ وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، وَهُوَ قَوْله الْقَدِيم،وَقَالَ فِي الْجَدِيد: إِنَّهَا تحيض، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ،وَحكي عَن بعض الْمَالِكِيَّة: إِن كَانَ فِي آخر الْحمل فَلَيْسَ بحيض، وَذكر الدَّاودِيّ أَن الِاحْتِيَاط أَن تَصُوم وَتصلي ثمَّ تقضي الصَّوْم وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ بِإِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْحيض تَقْوِيَة
    مَذْهَب من يَقُول: إِن الْحَامِل لَا تحيض
    وَأما الاخبار فَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه قَالَ: (إِن الله تَعَالَى رفع الْحيض عَن الحبلى وَجعل الدَّم رزقا للْوَلَد مِمَّا تفيض الْأَرْحَام) ، رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين. وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،قَالَ: [حم (إِن الله رفع الْحيض عَن الحبلى وَجعل الدَّم رزقا للْوَلَد) [/ حم، رَوَاهُ ابْن شاهين أَيْضا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْأَثْرَم،وَالدَّارَقُطْن ِيّ بإسنادهما عَن عَائِشَة فِي: [حم (الْحَامِل ترى الدَّم،فَقَالَت: الحبلى لَا تحيض وتغتسل وَتصلي) [/ حم،وَقَوْلها: تَغْتَسِل، اسْتِحْبَاب لكَونهَا مُسْتَحَاضَة، وَلَا يعرف عَن غَيرهم خِلَافه. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاسْتدلَّ ابْن التِّين على أَنه: لَيْسَ بِدَم حيض، بِأَن الْملك مُوكل برحم الْحَامِل، وَالْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ قذر. وَأجِيب: بِأَن لَا يلْزم من كَون الْملك موكلاً بِهِ أَن يكون حَالا فِيهِ، ثمَّ هُوَ مُشْتَرك الْإِلْزَام لِأَن الدَّم كُله قذر. قلت: وَلَا يلْزم أَيْضا أَن لَا يكون حَالا فِيهِ، وَالدَّم فِي معدته لَا يُوصف بِالنَّجَاسَةِ، وَإِلَّا يلْزم أَن لَا يُوجد أحد طَاهِرا خَالِيا عَن النَّجَاسَة
    ......
    (3/294)
    اتفقَ الْعلمَاء أَن نفخ الرّوح لَا يكون إِلَّا بعد أَرْبَعَة أشهر ودخوله فِي الْخَامِسَة وَقَالَ الرَّاغِب وَذكر الْأَطِبَّاء أَن الْوَلَد إِذا كَانَ ذكرا يَتَحَرَّك بعد ثَلَاثَة أشهر وَإِذا كَانَ أُنْثَى بعد أَرْبَعَة أشهر
    البُخَارِيّ " أَن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ ثمَّ يكون علقَة مثله ثمَّ يكون مُضْغَة مثله ثمَّ يبْعَث الله فِيهِ الْملك فَيُؤذن بِأَرْبَع كَلِمَات فَيكْتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح " فَأتى فِيهِ بِكَلِمَة ثمَّ الَّتِي هِيَ تَقْتَضِي التَّرَاخِي فِي الْكتب إِلَى مَا بعد الْأَرْبَعين الثَّالِثَة وَالْأَحَادِيث الْبَاقِيَة تَقْتَضِي الْكتب عقيب الْأَرْبَعين الأولى
    ..........
    (3/295)
    عْلَم أَن هَذَا الحَدِيث جَامع لجَمِيع أَحْوَال الشَّخْص إِذْ فِيهِ من الْأَحْكَام بَيَان حَال المبدأ وَهُوَ ذَاته ذكرا وَأُنْثَى وَحَال الْمعَاد وَهُوَ السَّعَادَة والشقاوة وَمَا بَينهمَا وَهُوَ الْأَجَل وَمَا يتَصَرَّف فِيهِ وَهُوَ الرزق. وَقد جَاءَ أَيْضا " فرغ الله من أَربع من الْخلق والخلق وَالْأَجَل والرزق " والخلق بِفَتْح الْخَاء إِشَارَة إِلَى الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَبِضَمِّهَا السَّعَادَة وضدها وَقَالَ الْمُهلب أَن الله تَعَالَى علم أَحْوَال الْخلق قبل أَن يخلقهم وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَأجْمع الْعلمَاء أَن الْأمة تكون أم ولد بِمَا أسقطته من ولد تَامّ الْخلق. وَاخْتلفُوا فِيمَن لم يتم خلقه من المضغة والعلقة فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك تكون بالمضغة أم ولد مخلقة كَانَت أَو غير مخلقة وتنقضي بهَا الْعدة وَعَن ابْن الْقَاسِم تكون أم ولد بِالدَّمِ الْمُجْتَمع وَعَن أَشهب لَا تكون أم ولد وَتَكون بالمضغة والعلقة وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا إِن كَانَ قد تبين فِي المضغة شَيْء من الْخلق أصْبع أَو عين أَو غير ذَلِك فَهِيَ أم ولد وعَلى مثله هَذَا انْقِضَاء الْعدة. ثمَّ المُرَاد بِجَمِيعِ مَا ذكر من الرزق وَالْأَجَل والسعادة والشقاوة وَالْعَمَل والذكورة وَالْأُنُوثَة أَنه يظْهر ذَلِك للْملك وَيُؤمر بإنفاذه وكتابته وَإِلَّا فقضاء الله وَعلمه
    ..........
    (3/295)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض وَلم يخْتَلف أَن نفخ الرّوح فِيهِ يكون بعد مائَة وَعشْرين يَوْمًا وَذَلِكَ تَمام أَرْبَعَة أشهر ودخوله فِي الْخَامِس وَهَذَا مَوْجُود بِالْمُشَاهَدَة ِ وَعَلِيهِ يعول فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأَحْكَام من الِاسْتِلْحَاق وَوُجُوب النَّفَقَات وَذَلِكَ للثقة بحركة الْجَنِين فِي الْجوف وَقيل أَن الْحِكْمَة فِي عدتهَا عَن الْوَفَاة بأَرْبعَة أشهر وَالدُّخُول فِي الْخَامِس تحقق بَرَاءَة الرَّحِم ببلوغ هَذِه الْمدَّة إِذا لم يظْهر حمل وَنفخ الْملك فِي الصُّورَة سَبَب لخلق الله عِنْده فِيهَا الرّوح والحياة لِأَن النفخ الْمُتَعَارف إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاج ريح من النافخ فيصل بالمنفوخ فِيهِ فَإِن قدر حُدُوث شَيْء عِنْد ذَلِك النفخ بإحداث الله تَعَالَى لَا بالنفخ وَغَايَة النفخ أَن يكون سَببا عَادَة لَا مُوجبا عقلا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي سَائِر الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة
    ...........
    (3/297)
    كُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عائشَةَ بالدُّرْجَةِ فِيها الكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةَ فَتَقُولُ لَا تعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصةَ البَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ
    مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء) ، فَإِنَّهَا عَلامَة إدبار الْحيض، وَهَذَا الْأَثر ذكره مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) فَقَالَ: عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة،عَن أمه مولاة عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (كَانَ النِّسَاء يبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَة بالدرجة فِيهَا الكرسف فِيهَا الصُّفْرَة من دم الْحيض يسألنها عَن الصَّلَاة فَتَقول لَهُنَّ: لَا تعجلن حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء، تُرِيدُ الطُّهْر من الْحَيْضَة) . وَقَالَ ابْن حزم: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوي من رِوَايَتهَا،وَاسم: أم عَلْقَمَة، مرْجَانَة سَمَّاهَا ابْن حبَان فِي (كتاب الثِّقَات) . وَقَالَ الْعجلِيّ: مَدَنِيَّة تابعية ثِقَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره البُخَارِيّ هُنَا مُعَلّقا مَجْزُومًا،وَبِه تعلق النَّوَوِيّ فَقَالَ: هَذَا تَعْلِيق صَحِيح لِأَن البُخَارِيّ ذكره بِصِيغَة الْجَزْم، وَمَا علم أَن هَذِه الْعبارَة قد لَا تصح كَمَا سبق بَيَانه فِي كثير من التَّعْلِيق المجزوم بِهِ عِنْد البُخَارِيّ، وَلَو نظر كتاب (الْمُوَطَّأ) لمَالِك بن أنس لوجده قد قَالَ: عَن علقمةِ إِلَى آخِره،وَلَو وجده ابْن حزم لما قَالَ: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوى من رِوَايَاتهَا. قلت: حَاصِل كَلَامه أَنه يرد على النَّوَوِيّ فِي دَعْوَاهُ الْجَزْم بِهِ،وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْحصار: هَذَا حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ من غير تَقْيِيد
    .........
    (3/299)
    اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْحَائِض تطهر قبل الْفجْر وَلَا تغسل حَتَّى يطلع الْفجْر. فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَت أَيَّامهَا أقل من عشرَة صَامت وقضت، وَإِن كَانَت عشرَة صَامت وَلم تقض. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هِيَ بِمَنْزِلَة الْجنب تَغْتَسِل وتصوم، ويجزيها صَوْم ذَلِك الْيَوْم،وَعَن عبد الْملك بن ماجشون: يَوْمهَا ذَلِك يَوْم فطر. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: تصومه وتقضيه.
    .........
    (3/300)
    حرورية أَنْت لَا غير وَهِي نِسْبَة إِلَى حروراء قَرْيَة بِقرب الْكُوفَة وَكَانَ أول اجْتِمَاع الْخَوَارِج فِيهَا وَقَالَ الْهَرَوِيّ تعاقدوا فِي هَذِه الْقرْيَة فنسبوا إِلَيْهَا فَمَعْنَى كَلَام عَائِشَة هَذَا أخارجية أَنْت لِأَن طَائِفَة من الْخَوَارِج يوجبون على الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زمن الْحيض وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع وكبار فرق الحروية سِتَّة الْأزَارِقَة والصفرية والنجدات والعجاردة والأباضية والثعالبة وَالْبَاقُونَ فروع وهم الَّذين خَرجُوا على عَليّ رَضِي الله عَنهُ ويجمعهم القَوْل بالتبري من عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا ويقدمون ذَلِك على كل طَاعَة وَلَا يصححون المناكحات إِلَّا على ذَلِك وَكَانَ خُرُوجهمْ على عهد عَليّ رَضِي الله عَنهُ لما حكم أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَمْرو بن
    لْعَاصِ وأنكروا على عَليّ فِي ذَلِك وَقَالُوا شَككت فِي أَمر الله وحكمت عَدوك وطالت خصومتهم ثمَّ أَصْبحُوا يَوْمًا وَقد خَرجُوا وهم ثَمَانِيَة آلَاف وأميرهم ابْن الكوا عبد الله فَبعث إِلَيْهِم على عبد الله بن عَبَّاس فناظرهم فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ وَبَقِي سِتَّة آلَاف فَخرج إِلَيْهِم عَليّ فَقَاتلهُمْ وَكَانَ يشددون فِي الدّين وَمِنْه قَضَاء الصَّلَاة على الْحَائِض قَالُوا إِذا لم يسْقط فِي كتاب الله تَعَالَى عَنْهَا على أَصْلهَا
    ........
    (3/304)
    وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ جَوَاز خُرُوج النِّسَاء الطاهرات وَالْحيض إِلَى الْعِيدَيْنِ، وشهود الْجَمَاعَات، وتعتزل الْحيض الْمصلى، وَليكن مِمَّن يَدْعُو أَو يُؤمن رَجَاء بركَة المشهد الْكَرِيم. قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: يسْتَحبّ إِخْرَاج النِّسَاء فِي الْعِيدَيْنِ غير ذَوَات الهيئات والمستحسنات، وَأَجَابُوا عَن هَذَا الحَدِيث بِأَن الْمفْسدَة فِي ذَلِك الزَّمن كَانَت مَأْمُونَة بِخِلَاف الْيَوْم، وَقد صَحَّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (لَو رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل) . وَقَالَ [قععياض [/ قع: وَقد اخْتلف السّلف فِي خروجهن، فَرَأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا، مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر فِي آخَرين، رَضِي الله عَنْهُم، ومنعهن جمَاعَة، مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو يُوسُف؛ وَأَجَازَهُ [قعأبو حنيفَة [/ قع
    مرّة وَمنعه مرّة، وَفِي التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك: أكره الْيَوْم خروجهن فِي الْعِيدَيْنِ، فَإِن أَبَت الْمَرْأَة إِلَّا أَن تخرج فلتخرج فِي أطمارها بِغَيْر زِينَة، فَإِن أَبى ذَلِك فَللزَّوْج أَن يمْنَعهَا. ويروى عَن الثَّوْريّ أَنه كره الْيَوْم خروجهن قلت: الْيَوْم الْفَتْوَى على الْمَنْع مُطلقًا، وَلَا سِيمَا فِي الديار المصرية.
    ........
    (3/306)
    يُذْكَرُ عنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ إنِ امْرَأةٌ جاءَتْ بِبَيِّنَةٍ منْ بِطَانَةِ أهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ أنَّهَا حاضَتْ ثَلاَثا فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ
    .........
    (3/307)
    ن أقل الْحيض عِنْد عَطاء يَوْم، وَأَكْثَره خَمْسَة عشر، يَعْنِي أقل الْحيض يَوْم وَأَكْثَره خَمْسَة عشر، وَهَذَا الْمُعَلق وَصله الدَّارمِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: (أقْصَى الْحيض خَمْسَة عشر وَأدنى الْحيض يَوْم وَلَيْلَة)) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ: حدثناالحسين حَدثنَا إِبْرَاهِيم حَدثنَا النُّفَيْلِي حَدثنَا معقل بن عبد الله عَن عَطاء: (أدنى وَقت الْحيض يَوْم وَأَكْثَره خَمْسَة عشر) . وَحدثنَا ابْن حَمَّاد حَدثنَا الحرمي حَدثنَا ابْن يحيى حَفْص عَن أَشْعَث عَن عَطاء. قَالَ: (أَكثر الْحيض خمس عشرَة) . وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أقل مُدَّة الْحيض وَأَكْثَره، فمذهب أبي حنيفَة: أَقَله ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا نقص عَن ذَلِك فَهُوَ اسْتِحَاضَة، وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام. وَعَن أبي يُوسُف: أَقَله يَوْمَانِ وَالْأَكْثَر من الْيَوْم الثَّالِث، وَاسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بِمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: (الْحيض ثَلَاث وَأَرْبع وَخمْس وست وَسبع وثمان وتسع وَعشر، فَإِن زَاد فَهِيَ مُسْتَحَاضَة) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ، وَقَالَ: لم يروه غير هَارُون بن زِيَاد، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث، وَبِمَا رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: [حم (أقل الْحيض لِلْجَارِيَةِ الْبكر وَالثَّيِّب ثَلَاث، وَأَكْثَره مَا يكون عشرَة أَيَّام، فَإِذا زَاد فَهِيَ مُسْتَحَاضَة) [/ حم. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْن ِيّ، وَفِي سَنَده عبد الْملك مَجْهُول، والْعَلَاء بن الْكثير ضَعِيف الحَدِيث، وَمَكْحُول لم يسمع من أبي أُمَامَة. وَبِمَا رُوِيَ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقل الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ، وَفِي سَنَده حَمَّاد بن منهال مَجْهُول،
    وَبِمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أَكثر الْحيض عشر وَأقله ثَلَاث) ، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) ، وَفِيه حُسَيْن بن علوان، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث. وَأجَاب الْقَدُورِيّ فِي (التَّجْرِيد) أَن ظَاهر الْإِسْلَام يَكْفِي لعدالة الرَّاوِي مَا لم يُوجد فِيهِ قَادِح، وَضعف الرَّاوِي لَا يقْدَح إلاّ أَن يُقَوي وَجه الضعْف. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : إِن الحَدِيث إِذا رُوِيَ من طرق ومفرداتها ضِعَاف يحْتَج بِهِ، على أَنا نقُول: قد شهد لمذهبنا عدَّة أَحَادِيث من الصَّحَابَة بطرق مُخْتَلفَة كَثِيرَة يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِن كَانَ كل وَاحِد ضَعِيفا، لَكِن يحدث عِنْد الِاجْتِمَاع مَا لَا بِحَدَث عِنْد الِانْفِرَاد، على أَن بعض طرقها صَحِيحَة، وَذَلِكَ يَكْفِي للاحتجاج، خُصُوصا فِي المقدرات، وَالْعَمَل بِهِ أولى من الْعَمَل بالبلاغات والحكايات المروية عَن نسَاء مَجْهُولَة، وَمَعَ هَذَا نَحن لَا نكتفي بِمَا ذكرنَا، بل نقُول: مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بالآثار المنقولة عَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم
    .........
    (3/309)
    ن الكدرة والصفرة لَا تكون حيضا إِذا كَانَت فِي غير أَيَّام الْحيض، وَهُوَ معنى قَوْلهَا: (لَا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا) أَي: شَيْئا معتدا بِهِ.
    وَقَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء فِي معنى هَذَا الحَدِيث إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ فِي تَرْجَمته، فَقَالَ أَكْثَرهم: الصُّفْرَة والكدرة حيض فِي أَيَّام الْحيض خَاصَّة، وَبعد أَيَّام الْحيض لَيْسَ بِشَيْء، رُوِيَ هَذَا عَن عَليّ، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَيْسَ قبل الْحيض حيض، وَفِي آخر الْحيض حيض، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر. وَقَالَ مَالك: حيض فِي أَيَّام الْحيض وَغَيرهَا، وأظن أَن حَدِيث أم عَطِيَّة لم يبلغهُ.
    .........
    (3/ 312)
    إِذْ الْمَشْهُور من مَذْهَب عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت لَا ترى الْغسْل لكل صَلَاة، يدل على صِحَة هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَذَا عرق) ، لِأَن دم الْعرق لَا يُوجب غسلا.
    وَقيل: إِن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِحَدِيث فَاطِمَة، لِأَن عَائِشَة أفتت بِحَدِيث فَاطِمَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخالفت حَدِيث أم حَبِيبَة، وَلِهَذَا إِن أَبَا مُحَمَّد الأشبيلي قَالَ: حَدِيث فَاطِمَة أصح حَدِيث يرْوى فِي الِاسْتِحَاضَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا أمرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تَغْتَسِل وَتصلي، وَإِنَّمَا كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة تَطَوّعا. وَكَذَا قَالَ اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَته عِنْد مُسلم: لم يذكر ابْن شهَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهاأن تَغْتَسِل لكل صَلَاة، وَلكنه شَيْء فعلته هِيَ، وَإِلَى هَذَا ذهب الْجُمْهُور، قَالُوا: لَا يجب على الْمُسْتَحَاضَة الْغسْل لكل صَلَاة، لَكِن يجب عَلَيْهَا الْوضُوء إلاّ الْمُتَحَيِّرَة . وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الْخَبَر مُخْتَصر لَيْسَ فِيهِ ذكر حَال هَذِه الْمَرْأَة وَلَا بَيَان أمرهَا، وَكَيْفِيَّة شَأْنهَا، وَلَيْسَ كل مُسْتَحَاضَة يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَن تبتلى وَهِي لَا تميز دَمهَا، أَو كَانَت لَهَا أَيَّام فنسيتها وموضعها ووقتها وعددها، فَإِذا كَانَت كَذَلِك فَإِنَّهَا لَا تدع شَيْئا من الصَّلَاة، وَكَانَ عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل صَلَاة، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون ذَلِك الْوَقْت قد صَادف زمَان انْقِطَاع دَمهَا، فالغسل عَلَيْهَا عِنْد ذَلِك وَاجِب.
    ............
    (3/313)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح صَحِيح مُسلم) فَفِي الحَدِيث دَلِيل لسُقُوط طواف الْوَدَاع عَن الْحَائِض، وَأَن طواف الْإِفَاضَة ركن لَا بُد مِنْهُ، وَأَنه لَا يسْقط عَن الْحَائِض وَلَا عَن غَيرهَا، وَأَن الْحَائِض تقيم لَهُ حَتَّى تطهر، فَإِن ذهبت إِلَى وطنها قبل طواف الْإِفَاضَة بقيت مُحرمَة. انْتهى. قلت: تبقى مُحرمَة أبدا حَتَّى تَطوف فِي حق الْجِمَاع مَعَ زَوجهَا، وَأما فِي حق غَيره فَتخرج عَن الْإِحْرَام. وَفِيه دَلِيل أَن الْحَائِض لَا تَطوف بِالْبَيْتِ، فَإِن هجمت وطافت وَهِي حَائِض فَفِيهِ تَفْصِيل: فَإِن كَانَت محدثة، وَكَانَ الطّواف طواف الْقدوم، فعلَيْهَا الصَّدَقَة عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي، لَا يعْتد بِهِ، وَإِن كَانَ طواف الرُّكْن فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَت حَائِضًا وَكَانَ الطّواف طواف الْقدوم فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَ طواف الرُّكْن فعلَيْهَا بَدَنَة، وَكَذَا حكم الْجنب من الرِّجَال وَالنِّسَاء.
    ...........ز
    (3/314)
    من هَذَا يعلم أَن أقل الطُّهْر سَاعَة عِنْد ابْن عَبَّاس، وَعند جُمْهُور الْفُقَهَاء أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ذكر أَبُو ثَوْر أَن ذَلِك لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِيمَا نعلم، وَفِي (الْمُهَذّب) : لَا أعرف فِيهِ خلافًا. وَقَالَ الْمحَامِلِي: أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا بِالْإِجْمَاع، وَنَحْوه فِي (التَّهْذِيب) . وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: أجمع النَّاس على أَن أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: دَعْوَى الْإِجْمَاع غير صَحِيح، لِأَن الْخلاف فِيهِ مَشْهُور، فَإِن أَحْمد وَإِسْحَاق أنكرا التَّحْدِيد فِي الطُّهْر، فَقَالَ أَحْمد: الطُّهْر بَين الحيضتين على مَا يكون، وَقَالَ إِسْحَاق توقيفهم الطُّهْر بِخَمْسَة عشر غير صَحِيح، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أما أقل الطُّهْر فقد اضْطربَ فِيهِ قَول مَالك وَأَصْحَابه، فروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ عشرَة أَيَّام، وروى سَحْنُون عَنهُ ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقَالَ عبد الْملك بن الْمَاجشون: أقل الطُّهْر خَمْسَة أَيَّام، وَرَوَاهُ عَن مَالك رَحمَه الله. قَوْله: (ويأتيها زَوجهَا) أَي: يَأْتِي الْمُسْتَحَاضَة زَوجهَا يَعْنِي: يَطَؤُهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء وَعَامة الْعلمَاء وَمنع من ذَلِك قوم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (الْمُسْتَحَاضَ لَا يَأْتِيهَا زَوجهَا) . وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحكم وَابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: (إِنَّمَا سمعنَا بِالرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاة، وَحجَّة الْجَمَاعَة أَن دم الِاسْتِحَاضَة لَيْسَ بأذى يمْنَع الصَّلَاة وَالصَّوْم، فَوَجَبَ أَن لَا يمْنَع الْوَطْء، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عِكْرِمَة، قَالَ: (كَانَت أم حَبِيبَة تستحاض وَكَانَ زَوجهَا يَغْشَاهَا) . أَي: يُجَامِعهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَن حمْنَة بنت جحش: (أَنَّهَا كَانَت مُسْتَحَاضَة، وَكَانَ زَوجهَا يُجَامِعهَا) . وَقَالَ الْحَافِظ ركن الدّين: فِي سَماع عِكْرِمَة عَن أم حَبِيبَة وَحمْنَة نظر، وَلَيْسَ فيهمَا مَا يدل على سَمَاعه مِنْهُمَا.
    ........
    (3/316)
    قَالَ ابْن الْأَثِير الْأَظْهر هَهُنَا أَنَّهَا مَاتَت فِي نِفَاس لِأَن البُخَارِيّ ترْجم عَلَيْهِ بقوله بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ التَّيْمِيّ قيل وهم البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة حَيْثُ ظن أَن المُرَاد بقوله " مَاتَت فِي بطن " مَاتَت فِي الْولادَة فَوضع الْبَاب على بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَمعنى مَاتَت فِي بطن مَاتَت مبطونة روى ذَلِك مُبينًا من غير هَذَا الْوَجْه ثمَّ قَالَ أَقُول لَيْسَ وهما لِأَنَّهُ قد جَاءَ صَرِيحًا فِي بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء إِذا مَاتَت فِي نفَاسهَا فِي كتاب الْجَنَائِز وَفِي بَاب أَيْن يقوم الإِمَام من الْمَرْأَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ " صليت وَرَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على امْرَأَة مَاتَت فِي نفَاسهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسطهَا " فالترجمة صَحِيحَة والموهم واهم انْتهى وَقَالَ بَعضهم قَوْله " مَاتَت فِي بطن " أَي بِسَبَب بطن يَعْنِي الْحمل ثمَّ قَالَ مَا قَالَه التَّيْمِيّ ثمَّ أجَاب عَنهُ بِمَا أجَاب بِهِ الْكرْمَانِي وَنسب الْجَواب إِلَى نَفسه بقوله قلت بل الموهم لَهُ واهم إِلَى آخر مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت لقَائِل أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون من سَمُرَة حديثان أَحدهمَا فِي الَّتِي مَاتَت فِي بطن وَالْآخر فِي الَّتِي مَاتَت فِي نفَاسهَا وَيكون الْوَهم فِي اسْتِعْمَال معنى الحَدِيث الثَّانِي الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيح بالنفاس فِي معنى الحَدِيث الأول الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيح بالبطن
    .........
    (3/318)
    وَاز الصَّلَاة على الشَّيْء الْمُتَّخذ من سعف النّخل، سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو صَغِيرا، بل هَذَا أقرب إِلَى التَّوَاضُع والمسكنة، بِخِلَاف صَلَاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة مُخْتَلفَة الألوان والقماش. وَمِنْهُم من ينسج لَهُ سجادة من حَرِير، فَالصَّلَاة عَلَيْهَا مَكْرُوهَة، وَإِن كَانَ دوس الْحَرِير جَائِزا، لِأَن فِيهِ زِيَادَة كبر وطغيان.
    .............
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم وتلخيص المجلد الثالث من " عمدة القاري " للعيني
    ويليه كتاب " التيمم "
    والحمد لله
    ........


    .......

  12. #232
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الاثنين
    الموافق : 23/ذو القعدة /1441 هجري
    الموافق : 14/ يوليو / 2020 ميلادي


    الجزء الرابع
    " كتاب التيمم "
    (4/2)
    قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34،والمائدة: 6) وَالسّنة وَهِي أَحَادِيث الْبَاب وَغَيره، وَالْإِجْمَاع على جَوَازه للمحدث وَفِي الْجَنَابَة أَيْضا، وَخَالف فِيهِ عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَالْأسود كَمَا نَقله ابْن حزم، وَقد ذكرُوا رجوعهم عَن هَذَا.
    ..........
    (4/4)
    الَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) يُقَال: إِنَّه كَانَ فِي غَزْوَة بني المصطلق، وَجزم بذلك فِي كتاب (الاستذكار) ، وَورد ذَلِك عَن ابْن سعد وَابْن حبَان قبله،وغزوة بني المصطلق هِيَ: غَزْوَة الْمُريْسِيع الَّتِي كَانَ فِيهَا قصَّة الْإِفْك. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي حَدِيث الْإِفْك: (فَانْقَطع عقدٌ لَهَا من جزع ظفار، فحبس النَّاس ابتغاؤه) . وَقَالَ ابْن سعد: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمُريْسِيع يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شهر شعْبَان سنة خمس) ، وَرجحه أَبُو عبد افي (الإكليل) وَقَالَ البُخَارِيّ: عَن ابْن إِسْحَاق سنة سِتّ، وَقَالَ عَن مُوسَى بن عقبَة سنة أَربع،وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن حبيب قَالَ: سقط عقدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي غَزْوَة بني المصطلق قصَّة الْإِفْك. قلت: يُعَارض هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَن الْإِفْك قبل التَّيَمُّم،فَقَالَ: حدّثنا الْقَاسِم عَن حَمَّاد. حدّثنا مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ حدّثنا سَلمَة بن الْفضل وَإِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يحيى بن عباد عَن عبد ابْن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،قَالَت: (لما كَانَ من أَمر عقدي مَا كَانَ، وَقَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا، خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة أُخْرَى، فَسقط أَيْضا عقدي حَتَّى حبس النَّاس على التماسه، وطلع الْفجْر، فَلَقِيت من أبي بكر مَا شَاءَ ا،وَقَالَ: يَا بنية فِي كل سفر تكونين عناء وبلاء؟ لَيْسَ مَعَ النَّاس مَاء فَأنْزل االرخصة فِي التَّيَمُّم. فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّك مَا عملت لمباركة) .
    قلت: إِسْنَاده جيد حسن، وَادّعى بَعضهم تعدد السّفر بِرِوَايَة الطَّبَرَانِيّ هَذِه، ثمَّ إِن بعض الْمُتَأَخِّرين استبعد سُقُوط العقد فِي الْمُريْسِيع. قَالَ: لِأَن الْمُريْسِيع من نَاحيَة مَكَّة بَين قديد والساحل، وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت من نَاحيَة خَيْبَر،لقولها فِي الحَدِيث: (حَتَّى إِذا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَو بِذَات الْجَيْش) ، وهما بَين الْمَدِينَة وخيبر، كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ، وَيرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي عبيد فِي فصل اللّعان، وَجزم أَيْضا ابْن التِّين أَن الْبَيْدَاء هِيَ ذُو الحليفة،وَقَالَ أَبُو عبيد أَيْضا: إِن ذَات الْجَيْش من الْمَدِينَة على بريد،قَالَ: وَبَينهَا وَبَين العقيق سَبْعَة أَمْيَال، والعقيق من طَرِيق مَكَّة لَا من طَرِيق خَيْبَر.
    .......
    (4/5)
    قال ابن الْعَرَبِيّ: هَذِه معضلة مَا وجدت لدائها من دَوَاء، لأَنا لَا نعلم أَي الْآيَتَيْنِ عنت عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ أَيَّة النِّسَاء وَآيَة الْمَائِدَة،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ آيَة النِّسَاء. لِأَن آيَة الْمَائِدَة تسمى: آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي آيَة النِّسَاء ذكر الْوضُوء، وَأورد الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) هَذَا الحَدِيث عِنْد ذكر آيَة النِّسَاء أَيْضا. وَقَالَ السفاقسي،كلَاما طَويلا ملخصه: أَن الْوضُوء كَانَ لَازِما لَهُم، وَآيَة التَّيَمُّم، أما الْمَائِدَة أَو النِّسَاء، وهما مدنيتان، وَلم يكن صَلَاة قبلُ إلاَّ بِوضُوء، فَلَمَّا نزلت آيَة التَّيَمُّم لم يذكر الْوضُوء لكَونه مُتَقَدما متلواً، لِأَن حكم التَّيَمُّم هُوَ الطارىء على الْوضُوء.
    وَقيل: يحْتَمل أَن يكون نزل أَولا أول الْآيَة، وَهُوَ فرض الْوضُوء،ثمَّ نزلت عِنْد هَذِه الْوَاقِعَة آيَة التَّيَمُّم وَهُوَ تَمام الْآيَة وَهُوَ: {وَإِن كُنْتُم مرضى} (النِّسَاء: 34،والمائدة: 6) وَيحْتَمل أَن يكون الْوضُوء كَانَ بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرته عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. قلت: لَو وقف هَؤُلَاءِ على مَا ذكره أَبُو بكر الْحميدِي فِي جمعه فِي حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، فَذكر الحَدِيث،وَفِيه فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} (الْمَائِدَة: 6) الْآيَة إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) لما احتاجوا إِلَى هَذَا التخرص، وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِذْ تَلا بَقِيَّة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة.
    .........
    (4/5)
    ول من ذهب إِلَى تعدد ضيَاع العقد، وَمِمَّنْ جزم بذلك مُحَمَّد بن حبيب الْأنْصَارِيّ،فَقَالَ: (سقط عقد عَائِشَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَفِي غَزْوَة بني المصطلق) ، وَقد اخْتلف أهل الْمَغَازِي فِي أَي هَاتين الغزوتين كَانَت أول،فَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَت قصَّة التَّيَمُّم فِي غَزْوَة الْفَتْح، ثمَّ تردد فِي ذَلِك، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي اعنه،قَالَ: (لما نزلت آيَة التَّيَمُّم لم أدرِ كَيفَ أصنع) . الحَدِيث، فَهَذَا يدل على تأخرها عَن غَزْوَة بني المصطلق. لِأَن إِسْلَام أبي هُرَيْرَة كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف
    .........
    (4/6)
    قَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أهل الْمَغَازِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ مُنْذُ فرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة إلاَّ بِوضُوء، وَلَا يدْفع ذَلِك إلاَّ جَاهِل أَو معاند.
    ........
    (4/6)
    كر الْحَافِظ فِي كتاب (الْبُرْهَان) أَن الأسلع الأعرجي الَّذِي كَانَ يرحل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا: إِنِّي جنب وَلَيْسَ عِنْدِي مَاء، فَأنْزل اآية التَّيَمُّم. قلت: هَذَا ضَعِيف، وَلَئِن صَحَّ فَجَوَابه يحْتَمل أَن يكون قَضِيَّة الأسلع وَاقعَة فِي قَضِيَّة سُقُوط العقد، لِأَنَّهُ كَانَ يخْدم النَّبِي، وَكَانَ صَاحب رَاحِلَته، فاتفق لَهُ هَذَا الْأَمر عِنْد وُقُوع قَضِيَّة سُقُوط العقد
    ..........
    (4/7)
    جَوَاز التَّيَمُّم فِي السّفر، وَهَذَا أَمر مجمع عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِي الْحَضَر، فَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسّفر سَوَاء إِذا عدم المَاء أَو تعذر اسْتِعْمَاله لمَرض أَو خوف شَدِيد أَو خوف خُرُوج الْوَقْت،قَالَ أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد؛وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز للحاضر الصَّحِيح أَن يتَيَمَّم إلاَّ أَن يخَاف التّلف، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ؛وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزفر: لَا يجوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لمَرض وَلَا لخوف خُرُوج الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي أَيْضا. وَاللَّيْث والطبري: إِذا عدم المَاء فِي الْحَضَر مَعَ خوف فَوت الْوَقْت الصَّحِيح والسقيم يتَيَمَّم وَيُصلي وَيُعِيد. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: لَا يتَيَمَّم الْمَرِيض إِذا وجد المَاء وَلَا غير الْمَرِيض. قلت: قَوْله: وَهَذَا كُله قَول أبي حنيفَة، غير صَحِيح،فَإِن عِنْده: لَا يجوز التَّيَمُّم لأجل خوف فَوت الْوَقْت.

    ...............
    (4/8)
    وَإِذا تَأَمَّلت وجدت هَذِه الْخِصَال اثْنَتَيْ عشرَة خصْلَة، وَيُمكن أَن تُوجد أَكثر من ذَلِك عِنْد إمعان التتبع، وَقد ذكر أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِ ي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) أَن الَّذِي اخْتصَّ بِهِ نَبينَا من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سِتُّونَ خصْلَة. فَإِن قلت: بَين هَذِه الرِّوَايَات تعَارض، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا الْخمس والست وَالثَّلَاث؛قلت: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يظنّ أَن هَذَا تعَارض، وَإِنَّمَا هَذَا من توهم أَن ذكر الْأَعْدَاد يدل على الْحصْر وَلَيْسَ كَذَلِك،فَإِن من قَالَ: عِنْدِي خَمْسَة دَنَانِير مثلا، لَا يدل هَذَا اللَّفْظ على أَنه لَيْسَ عِنْده غَيرهَا،وَيجوز لَهُ أَن يَقُول مرّة أُخْرَى: عِنْدِي عشرُون، وَمرَّة أُخْرَى ثَلَاثُونَ، فَإِن من عِنْده ثَلَاثُونَ صدق عَلَيْهِ أَن عِنْده عشْرين وَعشرَة. فَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض، وَيجوز أَن يكون الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أعلمهُ بِثَلَاث ثمَّ بِخمْس ثمَّ بست. قلت: حَاصِل هَذَا أَن التَّنْصِيص على الشَّيْء بِعَدَد لَا يدل على نفي مَا عداهُ، وَقد علم فِي مَوْضِعه.

    ..........
    (4/8)
    قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي: لم يجمع لأحد قبله هَذِه الْخمس، لِأَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعث إِلَى كَافَّة النَّاس، وَأما الْأَرْبَع فَلم يُعْط وَاحِدَة مِنْهُنَّ قبله أحدا، وَأما كَونهَا مَسْجِدا فَلم يَأْتِ أَن غَيره منع مِنْهَا، وَقد كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة، وَزعم بَعضهم أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعد خُرُوجه من السَّفِينَة، كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض، لِأَنَّهُ لم يبْق إلاَّ من كَانَ مُؤمنا، وَقد كَانَ
    مرسلا اليهم .
    .........
    (4/9)
    ززعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه: كَانَ فِي الزَّمَان الأول، إِذا بعث نَبِي إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من الرُّسُل، فَأَما نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ انْفَرد بالبعثة، فَصَارَ بذلك للْكُلّ من غير أَن يزاحمه أحد.

    .........
    (4/10)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ احْتج بِهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة فِي جَوَاز التَّيَمُّم بِجَمِيعِ أَجزَاء الأَرْض. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَار جَائِز، وَعند مَالك يجوز بِالتُّرَابِ والرمل والحشيش وَالشَّجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِي ّ: يجوز بِكُل مَا كَانَ على الأَرْض حَتَّى الشّجر والثلج والجمد، وَنقل النقاش عَن ابْن علية وَابْن كيسَان جَوَازه بالمسك والزعفران، وَعَن إِسْحَاق مَنعه بالسباخ، وَيجوز عندنَا بِالتُّرَابِ والرمل وَالْحجر الأملس المغسول والجص والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا والطين الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض والحائط المطين والمجصص والياقوت والزبرجد والزمرد والبلخش والفيروزج والمرجان وَالْأَرْض الندية والطين الرطب. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَيجوز بالملح الْجبلي،وَفِي قاضيخان: لَا يَصح على الْأَصَح، وَلَا يجوز بالزجاج، وَيجوز بالآجر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَشرط الْكَرْخِي أَن يكون مدقوقاً. وَفِي (الْمُحِيط) ، لَا يجوز بمسبوك الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَيجوز بالمختلط بِالتُّرَابِ إِذا كَانَ التُّرَاب غَالِبا، وبالخزف إِذا كَانَ من طين خَالص.
    وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَار،واحتجا بِحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد مُسلم: (وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا)
    .......
    (4/12)
    قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ دَلِيل على أَن من عدم المَاء وَالتُّرَاب يُصَلِّي على حَاله، وَهَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف،وَهُوَ أَرْبَعَة أَقْوَال: وأصحها: عِنْد أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي وَيُعِيد الصَّلَاة. وَالثَّانِي: أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَلَكِن يسْتَحبّ، وَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء سَوَاء صلى أَو لم يصل. وَالثَّالِث: تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة لكَونه مُحدثا، وَتجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَضِي اتعالى عَنهُ. وَالرَّابِع: تجب الصَّلَاة وَلَا تجب الْإِعَادَة، وَهُوَ مَذْهَب الْمُزنِيّ، وَهُوَ أقوى الْأَقْوَال دَلِيلا.
    .............
    (4/15)
    وَفِيه: عبد ابْن يسَار، وَهُوَ أَخُو عَطاء بن يسَار التَّابِعِيّ الْمَشْهُور،وَوَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث: عبد ابْن يسَار وَهُوَ وهم، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة، وَلِهَذَا لم يذكرهُ المصنفون فِي رجال الصَّحِيحَيْنِ.
    .......
    (4/16)
    وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) حَدِيث الْمَنْع من رد السَّلَام مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء؛وَقيل: بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا: كَانَ يذكر اعلى كل أحيانه،وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن عبد ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر بن حزم عَن عبد ابْن عَلْقَمَة بن الغفراء عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّبِي إِذا أَرَادَ المَاء نكلمه فَلَا يُكَلِّمنَا ونسلم عَلَيْهِ فَلَا يسلم علينا حَتَّى نزلت آيَة الرُّخْصَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} (النِّسَاء: 34،والمائدة: 6) وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث المُهَاجر بن قنفذ مَعْلُول ومعارض، أما كَونه معلولاً فَلِأَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَانَ قد اخْتَلَط فِي آخر عمره، فيراعى فِيهِ سَماع من سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لم يَمْنعنِي إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن حميد وَغَيره عَن الْحسن عَن مهَاجر مُنْقَطِعًا، فَصَارَ فِيهِ ثَلَاث علل.
    ب 05 2 وَأما كَونه مُعَارضا، فَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث كريب عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة) . الحَدِيث، فَفِي هَذَا مَا يدل على جَوَاز ذكر اسْم اوقراءة الْقُرْآن مَعَ الْحَدث، وَزعم الْحسن أَن حَدِيث مهَاجر غير مَنْسُوخ، وَتمسك بِمُقْتَضَاهُ، فَأوجب الطَّهَارَة للذّكر،وَقيل: يتَأَوَّل الْخَبَر على الِاسْتِحْبَاب،لِأَن ابْن عمر: مِمَّن روى فِي هَذَا الْبَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب روى ذَلِك، والصحابي الرَّاوِي أعلم بِالْمَقْصُودِ. وَمِنْهَا: أَنه اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على جَوَاز التَّيَمُّم على الْحجر،قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن حيطان الْمَدِينَة مَبْنِيَّة بحجارة سود. وَقَالَ ابْن بطال، فِي تيَمّم النَّبِي بالجدار رد على الشَّافِعِي فِي اشْتِرَاط التُّرَاب، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، إِذْ لَا تُرَاب على الْجِدَار.
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول لَيْسَ فِيهِ رد على الشَّافِعِي إِذْ لَيْسَ مَعْلُوما أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، وَمَا ذَاك إلاَّ تحكم بَارِد إِذْ الْجِدَار قد يكون عَلَيْهِ التُّرَاب وَقد لَا يكون، بل الْغَالِب وجود الْغُبَار على الْجِدَار، مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه حت الْجِدَار بالعصا ثمَّ تيَمّم، فَيجب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. انْتهى. قلت: الْجِدَار إِذا كَانَ من حجر لَا يحْتَمل التُّرَاب لِأَنَّهُ لَا يثبت عَلَيْهِ، خُصُوصا جدران الْمَدِينَة، لِأَنَّهَا من صَخْرَة سَوْدَاء. وَقَوله؛ مَعَ أَنه ثَبت ... الخ، مَمْنُوع لِأَن حت الْجِدَار بالعصا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف. فَإِن قلت: حسنه الْبَغَوِيّ كَمَا ذكرنَا. قلت: كَيفَ حسنه وَشَيخ الشَّافِعِي وَشَيخ شَيْخه ضعيفان لَا يحْتَج بهما؟ قَالَه مَالك وَغَيره، وَأَيْضًا فَهُوَ مُنْقَطع، لِأَن مَا بَين الْأَعْرَج وَأبي جهيم عُمَيْر كَمَا سبق من عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، وَنَصّ عَلَيْهِ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَفِيه عِلّة أُخْرَى وَهِي زِيَادَة حك الْجِدَار لم يَأْتِ بهَا أحد غير إِبْرَاهِيم، والْحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيث أحدهم هَذِه الزِّيَادَة، وَالزِّيَادَة إِنَّمَا تقبل من ثِقَة،وَلَو وقف الْكرْمَانِي على مَا ذكرنَا لما قَالَ: مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه، حت الْجِدَار بالعصا.
    .........
    (4/19)
    أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يكن يرى للْجنب التَّيَمُّم لقَوْل عمار لَهُ " فَأَما أَنْت فَلم تصل " وَقد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ لم يسق هَذَا الحَدِيث بِتَمَامِهِ وَالْأَئِمَّة السِّتَّة أَخْرجُوهُ مطولا ومختصرا وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى " قَالَ كنت عِنْد عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ إِنَّا نَكُون بِالْمَكَانِ الشَّهْر أَو الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عمر أما أَنا فَلم أكن أُصَلِّي حَتَّى أجد المَاء قَالَ فَقَالَ عمار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما تذكر إِذْ كنت أَنا وَأَنت فِي الْإِبِل فأصابتنا جَنَابَة فَأَما أَنا فتمعكت فأتينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تَقول هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ إِلَى الأَرْض ثمَّ نفخهما ثمَّ مسح بهما وَجهه وَيَديه إِلَى نصف الذِّرَاع فَقَالَ عمر يَا عمار اتَّقِ الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن شِئْت وَالله لم أذكرهُ أبدا فَقَالَ عمر كلا وَالله لنولينك مَا توليت ".
    ........
    (4/20)
    ن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة التَّيَمُّم فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم وَاللَّيْث بن سعد إِلَى أَنه ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين غير أَن عِنْد مَالك إِلَى الكوعين فرض وَإِلَى الْمرْفقين اخْتِيَار وَقَالَ الْحسن بن حييّ وَابْن أبي ليلى التَّيَمُّم ضربتان يمسح بِكُل ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجهه وذراعيه ومرفقيه وَقَالَ الْخطابِيّ لم يقل ذَلِك أحد من أهل الْعلم غَيرهمَا فِي علمي وَقَالَ الزُّهْرِيّ يبلغ بِالتَّيَمُّمِ الآباط وَفِي شرح الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة قَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء يضْرب أَربع ضربات ضربتان للْوَجْه وضربتان لِلْيَدَيْنِ وَقَالَ ابْن بزيزة وَلَيْسَ لَهُ أصل من السّنة وَقَالَ بعض الْعلمَاء يتَيَمَّم الْجنب إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيره إِلَى الكوعين قَالَ وَهُوَ قَول ضَعِيف وَفِي الْقَوَاعِد لِابْنِ رشد روى عَن مَالك الِاسْتِحْبَاب إِلَى ثَلَاث وَالْفَرْض اثْنَتَانِ وَقَالَ ابْن سِيرِين ثَلَاث ضربات الثَّالِثَة لَهما جَمِيعًا وَفِي رِوَايَة عَنهُ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكف وضربة للذراعين انْتهى
    ..........
    (4/20)
    وَالْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة سَوَاء كَانَ وجوبا أَو جَوَازًا. وَقَالَ بَعضهم؛ بَاب التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ،أَي: هُوَ الْوَاجِب المجزىء. قلت: تَقْيِيده بِالْوُجُوب لَا يفهم مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعم من ذَلِك،ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وأتى بذلك بِصِيغَة الْجَزْم مَعَ شهرة الْخلاف فِيهِ لقُوَّة دَلِيله، فَإِن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صفة التَّيَمُّم لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، وَمَا عداهما فضعيف أَو مُخْتَلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَالرَّاجِح عدم رَفعه. وَأما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا،وَأما حَدِيث عمار فورد بِذكر الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وبذكر الْمرْفقين فِي (السّنَن) . انْتهى. قلت: قَوْله: لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، غير مُسلم،وَكُنَّا قد ذكرنَا أَنه رُوِيَ فِيهِ عَن جَابر مَرْفُوعا: (إِن التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين) ،وَأَن الْحَاكِم قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح،وَأَن الذَّهَبِيّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من يمْنَع صِحَّته. فَإِن قلت: رَوَاهُ جمَاعَة مَوْقُوفا. قلت: الرّفْع أقوى وَأثبت لِأَنَّهُ أسْند من وَجْهَيْن،وَقَوله: أما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا، غير صَحِيح، وَلَا يُطلق عَلَيْهِ حد الْإِجْمَال، بل هُوَ مُطلق يتَنَاوَل إِلَى الْكَفَّيْنِ وَإِلَى الْمرْفقين وَإِلَى مَا وَرَاء ذَلِك
    ......
    (4/21)
    وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ: حدّثنا حجاج،قَالَ: حدّثنا شُعْبَة،قَالَ: أَخْبرنِي الحكم عَن ذَر عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه عَن عمار رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا وَضرب شُعْبَة بكفيه إِلَى الأَرْض وأدناهما من فِيهِ، فَنفخ فيهمَا، ثمَّ مسح وَجهه وكفيه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ذَر عَن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ أسقط لَفْظَة (ابْن) ،وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن لَا رِوَايَة لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: رِوَايَة مُحَمَّد بن خُزَيْمَة الْمَذْكُورَة تبتنى على صِحَة قَول من يَقُول: إِن أَبْزَى وَالِد عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ، وَهُوَ قَول ابْن مَنْدَه، فَإِنَّهُ جعله من الصَّحَابَة، وروى بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن عبيد االرازي عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، (عَن رَسُول الله أَنه: خطب للنَّاس قَائِما،ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يعظونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم) ؟ . الحَدِيث،
    وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (الْمسند) عَن مُحَمَّد بن أبي سهل عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل عَن عَلْقَمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي بِهَذَا، وَقد رده أَبُو نعيم عَلَيْهِ،وَقَالَ: ذكر ابْن مَنْدَه أَن البُخَارِيّ ذكره فِي كتاب الوجدان، وَأخرج لَهُ حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن أَبْزَى عَن النَّبِي،وَلم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه،وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى الْخُزَاعِيّ، ذكره البُخَارِيّ فِي الوجدان، وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، ولابنه عبد الرَّحْمَن صُحْبَة وَرِوَايَة. قلت: وَكَذَلِكَ لم يذكر أَبُو عمر: أَبْزَى فِي الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ذكر عبد الرَّحْمَن لِأَنَّهُ لم يَصح عِنْده صُحْبَة أَبْزَى، وَمَعَ هَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي صُحْبَة عبد الرَّحْمَن أَيْضا، فَإِن ابْن حبَان ذكره فِي التَّابِعين،
    ............
    (4/22)
    الَ الْجَوْهَرِي: التفل شَبيه بالبزاق، وَهُوَ أقل مِنْهُ، أَوله البزق ثمَّ التفل ثمَّ النفث ثمَّ النفخ،
    .......
    (4/23)
    قَالَ الطَّحَاوِيّ وَغَيره. إِن حَدِيث عمار لَا يصلح حجَّة فِي كَون التَّيَمُّم إِلَى الْكَفَّيْنِ أَو الكوعين أَو الْمرْفقين أَو الْمَنْكِبَيْنِ أَو الإبطين، كَمَا ذهبت إِلَى كل وَاحِد طَائِفَة من أهل الْعلم، وَذَلِكَ لاضطرابه كَمَا قد رَأَيْت،فَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد ضعف بعض أهل الْعلم حَدِيث عمار فِي التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لما روى عَنهُ حَدِيث المناكب والأباط.
    ............
    (4/23)
    فَقَالَ: (الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَلَو إِلَى عشر سِنِين) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا،وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى تَضْعِيف ابْن الْقطَّان لهَذَا الحَدِيث بِعَمْرو بن بجدان لكَون حَاله لَا يعرف، وَيَكْفِي تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ إِيَّاه فِي معرفَة حَال عَمْرو بن بجدان،
    ..............
    (4/24)
    قَالَ ربيعَة: لَا يؤم الْمُتَيَمم من جنابته إلاَّ من هُوَ مثله، وَبِه قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤمهم إلاَّ إِذا كَانَ أَمِيرا، كَذَا قَالَه ابْن حزم. وَقَالَ أَبُو طَالب: سَأَلت أَبَا عبد اعن الْجنب يؤم المتوضئين؟قَالَ: نعم قد أمَّ ابْن عَبَّاس أَصْحَابه وَفِيهِمْ عمار بن يَاسر وَهُوَ جنب، فَتَيَمم، وَعَمْرو بن الْعَاصِ صلى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ جنب، فَأخْبر النَّبِي فَتَبَسَّمَ. قلت: حسان بن عَطِيَّة سمع من عَمْرو بن الْعَاصِ؟قَالَ: لَا وَلَكِن يقوى بِحَدِيث ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) ،وَعَن عَليّ بن أبي طَالب مَوْقُوفا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين، وَلَا الْمُقَيد المطلقين) . قلت: هَذَانِ حديثان ضعيفان، ضعفهما الدَّارَقُطْنِي ّ وَابْن حزم وَغَيرهمَا.
    ..............
    (4/30)
    لْعَجْوَة تمر من أَجود التَّمْر بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْن التِّين الْعَجْوَة نوع من تمر الْمَدِينَة أكبر من الصيحاني وَتسَمى اللينة وَهِي من أَجود تمر الْمَدِينَة
    ...........
    (4/32)
    أَن الِاسْتِيلَاء على الْكفَّار بِمُجَرَّدِهِ يُبِيح رق نِسَائِهِم وصبيانهم وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد دخلت الْمَرْأَة فِي الرّقّ باستيلائهم عَلَيْهَا
    .........
    (4/33)
    الَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} فَيُقَال الَّذين آمنُوا هم المُنَافِقُونَ أظهرُوا الْإِيمَان وأضمروا الْكفْر وَالَّذين هادوا الْيَهُود المغيرون المبدلون وَالنَّصَارَى المقيمون على الْكفْر بِمَا يصفونَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْمحَال والصابئون الْكفَّار أَيْضا المفارقون للحق وَيُقَال الَّذين آمنُوا الْمُؤْمِنُونَ حَقًا وَالَّذين هادوا الَّذين تَابُوا وَلم يُغيرُوا أَو النَّصَارَى نصار عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام والصابئون الخارجون من الْبَاطِل إِلَى الْحق من آمن بِاللَّه مَعْنَاهُ من دَامَ مِنْهُم على الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فَلهُ أجره وَفِي كتاب الرشاطي الصابي نسبه إِلَى صابي بن متوشلخ بن خنوخ بن برد بن مهليل بن فتين بن ياش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه الْمُنْتَهى هم جنس من أهل الْكتاب يَزْعمُونَ أَنهم من ولد صاب بن إِدْرِيس النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقيل نسبتهم إِلَى الصابىء بن ماري وَكَانَ فِي عصر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي منظومته
    (الصابئيات كالكتابيات ... فِي حكم حل العقد والذكاة)
    وَشَرحه أَن أَبَا حنيفَة يَقُول إِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ نَبيا وَلَهُم كتاب فَتحل مناكحة نِسَائِهِم وتؤكل ذَبَائِحهم وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد هم يَعْتَقِدُونَ الْكَوَاكِب فَلَا تحل مناكحة نِسَائِهِم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم
    .........
    (4/37)
    ن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء الِاكْتِفَاء بضربة وَاحِدَة، كَذَا ذكره ابْن الْمُنْذر، وَاخْتَارَهُ هُوَ أَيْضا، وَالْبُخَارِيّ أَيْضا، فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ.
    ..........
    (4/39)
    فعلى قَوْله يكون الْإِسْرَاء فِي شهر ذِي الْقعدَة،وعَلى قَول الزُّهْرِيّ: يكون فِي ربيع الأول. وَقيل: كَانَ الْإِسْرَاء لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب، وَقد اخْتَارَهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سرو الْمَقْدِسِي فِي سيرته، وَمِنْهُم من يزْعم أَنه كَانَ فِي أول لَيْلَة جُمُعَة من شهر رَجَب، وَهِي لَيْلَة الرغائب الَّتِي أحدثت فِيهَا الصَّلَاة الْمَشْهُورَة، وَلَا أصل لَهَا،ثمَّ قيل: كَانَ قبل موت أبي طَالب. وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَنه كَانَ بعد مَوته فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة للنبوة،
    ثمَّ قيل: كَانَ فِي لَيْلَة السبت لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان فِي السّنة الثَّالِثَة عشرَة للنبوة. وَقيل: كَانَ فِي ربيع الأول. وَقيل: كَانَ فِي رَجَب، وَا أعلم.
    .......
    (4/44)
    وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) : من حَدِيث أنس عَن مَالك بن صعصة أَنه وجد فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم كَمَا سلف فِي حَدِيث أبي ذَر، وَفِي الثَّانِيَة يحيى وَعِيسَى، وَفِي الثَّالِثَة يُوسُف، وَفِي الرَّابِعَة إِدْرِيس، وَفِي الْخَامِسَة، هَارُون وَفِي السَّادِسَة مُوسَى، وَفِي السَّابِعَة إِبْرَاهِيم، وَهُوَ مُخَالف لرِوَايَة أنس عَن أبي ذَر أَنه وجد إِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة، وَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم. وَأجِيب: بِأَن الْإِسْرَاء إِن كَانَ مرَّتَيْنِ فَيكون رأى إِبْرَاهِيم فِي إِحْدَاهمَا فِي إِحْدَى السمائين، وَيكون استقراره بهَا ووطنه، وَفِي الثَّانِيَة فِي سَمَاء غير وَطنه، وَإِن كَانَ مرّة فَيكون أَولا رَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة، ثمَّ ارْتقى مَعَه إِلَى السَّابِعَة،وَيُقَال: إِن الْمِعْرَاج إِذا كَانَ مرّة فالأرجح رِوَايَة الْجَمَاعَة بقوله فِيهَا أَنه رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، وَهُوَ فِي السَّابِعَة بِلَا خلاف،وَقَول هَذَا الْقَائِل: بِلَا خلاف، غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ خلافًا، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَالربيع أَنه فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي اعنه، أَنه عِنْد شَجَرَة طُوبَى فِي السَّادِسَة، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك أَنه فِي السَّابِعَة.

    ..........
    (4/48)
    ن النَّبِي كَيفَ رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَوَات ومقرهم فِي الأَرْض؟وَأجِيب: بِأَن اتعالى شكل أَرْوَاحهم على هَيْئَة صور أَجْسَادهم. ذكره ابْن عقيل، وَكَذَا ذكره ابْن التِّين،وَقَالَ: وَإِنَّمَا تعود الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد يَوْم الْبَعْث إلاَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ حَيّ لم يمت، وَهُوَ ينزل إِلَى الأَرْض. قلت: الْأَنْبِيَاء أَحيَاء، فقد رَآهُمْ النَّبِي حَقِيقَة، وَقد مر على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره، وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة.
    ............
    (4/49)
    فَإِن آدم أَبُو الْبشر وَأول الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، وكنيته أَبُو الْبشر أَيْضا. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد،وروى ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ مَرْفُوعا: (أهل الْجنَّة لَيْسَ لَهُم كنى إلاَّ آدم فَإِنَّهُ يكنى: أَبَا مُحَمَّد) . وَمن حَدِيث كَعْب الْأَحْبَار: (لَيْسَ لأحد من أهل الْجنَّة لحية إلاَّ آدم، فَإِن لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سرته) . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا كَانَت اللحى بعد آدم،ثمَّ قيل: إِن اسْم آدم سرياني،وَقيل: مُشْتَقّ،فَقيل: أفعل من الأدمة. وَقيل: من لفظ الْأَدِيم، لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: سمي آدم لبياضه. وَذكر مُحَمَّد بن عَليّ: أَن الآدم من الظباء الطَّوِيل القوائم. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن اخلق آدم على صورته، طوله سِتُّونَ ذِرَاعا، فَكل من يدْخل الْجنَّة على صورته وَطوله، وَولد لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا فِي عشْرين بَطنا، وَعمر ألف سنة، وَلما أهبطه من الْجنَّة هَبَط (بسر نديب) من الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ؛ (نوذ) وَلما حَضرته الْوَفَاة اشْتهى قطف عِنَب،فَانْطَلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: أَيْن تُرِيدُونَ؟قَالُوا: إِن أَبَانَا اشْتهى قطفاً. قَالُوا: ارْجعُوا فقد كفيتموه، فَرَجَعُوا فوجدوه قد قبض، فغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة خَلفه وَبَنوهُ
    خَلفهم، ودفنوه. وَقَالُوا: هَذِه سنتكم فِي مَوْتَاكُم
    دفن فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز، فِي أبي قبيس، فاستخرجه نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الطوفان وَأَخذه وَجعله فِي تَابُوت مَعَه فِي السَّفِينَة، فَلَمَّا نضب المَاء رده نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى مَكَانَهُ.
    ......
    (4/49)
    أما إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ أول من كتب بالقلم وانتشر مِنْهُ بعده فِي أهل الدُّنْيَا، فَكَذَلِك نَبينَا، كتب إِلَى الْآفَاق، وَسمي بِذَاكَ لدرسه الصُّحُف الثَّلَاثِينَ الَّتِي أنزلت عَلَيْهِ، فَقيل: إِنَّه خنوخ، وَيُقَال: أَخْنُوخ، وَيُقَال: اخنخ، وَيُقَال: اهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شِيث بن آدم. وَقَالَ الْحَرَّانِي: اسْم أمه: برة، وخنوخ سرياني، وَتَفْسِيره بالعربي: إِدْرِيس
    ...........
    (4/49)
    وَقَالَ الْمَازرِيّ: ذكر المؤرخون أَن إِدْرِيس جد نوح، فَإِن قَامَ دَلِيل على أَن إِدْرِيس أرسل، لم يَصح قَول النسابين: إِنَّه جد نوح، لإخبار نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (ائْتُوا نوحًا فَإِنَّهُ أول رَسُول بَعثه اإلى أهل الأَرْض) ، وَإِن لم يقم دَلِيل جازم، قَالَ: وَصَحَّ أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا وَلم يُرْسل، قَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث أبي ذَر الطَّوِيل يدل على أَن آدم وَإِدْرِيس رسولان. قلت: حَدِيث أبي ذَر أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : رفع إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة، وَرَآهُ فِيهَا، وَرفع وَهُوَ ابْن ثَلَاث مائَة وَخمْس وَسِتِّينَ سنة.
    وَمعنى إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، وكنيته أَبُو الضيفان. قيل: إِنَّه ولد بغوطة دمشق ببرزة فِي جبل قاسيون، وَالصَّحِيح أَنه ولد بكوثا من إقليم بابل من الْعرَاق، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عدَّة قُرُون، وَقيل: ولد على رَأس ألف سنة من خلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذكر الطَّبَرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا نطق بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من نمْرُود، عَلَيْهِ اللَّعْنَة. وَقَالَ نمْرُود للَّذين أرسلهم وَرَاءه فِي طلبه: إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّ ة فَردُّوهُ، فَلَمَّا أدركوه استنطقوه، فحول السانه عبرانياً، وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر، فسميت العبرانية بذلك. قلت: المُرَاد من هَذَا النَّهر هُوَ الْفُرَات، وَبلغ إِبْرَاهِيم مِائَتي سنة. وَقيل: تنتقص خَمْسَة وَعشْرين. وَدفن بالبلدة الْمَعْرُوفَة بالخليل.
    وَأما مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن أمره آل إِلَى قهر الْجَبَابِرَة وإخراجهم من أَرضهم،
    ..........
    (4/50)
    إِن الْإِسْرَاء كَانَ لَيْلًا بِالنَّصِّ، فَمَا الْحِكْمَة فِي كَونه لَيْلًا؟ وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه وَقت الْخلْوَة والاختصاص ومجالسة الْمُلُوك، وَهُوَ أشرف من مجالستهم نَهَارا، وَهُوَ وَقت مُنَاجَاة الْأَحِبَّة. الثَّانِي: أَن اتعالى أكْرم جمَاعَة من أنبيائه بأنواع الكرامات لَيْلًا، قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكباً} (الْأَنْعَام: 67) وَفِي قصَّة لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل} (هود: 18، وَالْحجر: 56) وَفِي قصَّة يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {سَوف اسْتغْفر لكم رَبِّي} (يُوسُف: 89) وَكَانَ آخر دُعَائِهِ وَقت السحر من لَيْلَة الْجُمُعَة، وَقرب مُوسَى نجياً لَيْلًا، وَذَلِكَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} (طه: 01، والقصص: 92) وَقَالَ: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} (الْأَعْرَاف: 241) . وَقَالَ لَهُ لما أمره بِخُرُوجِهِ من مصر ببني إِسْرَائِيل: {فَأسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون} (الدُّخان: 32) . وَأكْرم نَبينَا أَيْضا لَيْلًا بِأُمُور مِنْهَا: انْشِقَاق الْقَمَر، وإيمان الْجِنّ بِهِ، وَرَأى الصَّحَابَة آثَار نيرانهم كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) وَخرج إِلَى الْغَار لَيْلًا. الثَّالِث: أَن اتعالى قدم ذكر اللَّيْل على النَّهَار فِي غير مَا آيَة فَقَالَ: {وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ} (الْإِسْرَاء: 21) وَقَالَ: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} (يس: 04) وَلَيْلَة النَّحْر تغني عَن الْوُقُوف نَهَارا. الرَّابِع: أَن اللَّيْل أصل، وَلِهَذَا كَانَ أول الشُّهُور، وسواده يجمع ضوء الْبَصَر وَيحد كليل النّظر ويستلذ فِيهِ بالسمر ويجتلى فِيهِ وَجه الْقَمَر. الْخَامِس: أَنه لَا ليل إلاَّ وَمَعَهُ نَهَار، وَقد يكون نَهَار بِلَا ليل، وَهُوَ: يَوْم الْقِيَامَة الَّذِي مِقْدَاره خمسين ألف سنة. السَّادِس: أَن اللَّيْل مَحل استجابة الدُّعَاء والغفران وَالعطَاء. فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث: (خير يَوْم طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْم عَرَفَة، أَو يَوْم الْجُمُعَة) قلت: قَالُوا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَيَّام.
    .......
    (4/53)
    أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم عَن ابْن عمر قَالَ: (صَحِبت رَسُول الله فِي السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه ا، وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى، وصحبت عُثْمَان فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى) ، وَقد قَالَ اتعالى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول اأسوة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) وَإِلَيْهِ ذهب عُلَمَاء أَكثر السّلف وفقهاء الْأَمْصَار، أَي: إِلَى أَن الْقصر وَاجِب، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن عمر وَجَابِر وَابْن عَبَّاس، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان: يُعِيد من صلى فِي السّفر أَرْبعا. وَعَن مَالك: يُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت. وَقَالَ أَحْمد: السّنة رَكْعَتَانِ. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: أَنا أحب الْعَافِيَة من هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالْأولَى أَن يقصر الْمُسَافِر الصَّلَاة لأَنهم أَجمعُوا على جَوَازهَا إِذا قصر، وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا أتم، وَالْإِجْمَاع مقدم على الِاخْتِلَاف، وَسقط بِهَذَا كُله مَا قَالَه بَعضهم: وَيدل على أَنه أَي الْقصر رخصَة أَيْضا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (صَدَقَة تصدق ابها عَلَيْكُم) . وَقَالَ أَيْضا؛ احْتج مخالفهم أَي: مُخَالف الْحَنَفِيَّة بقوله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . لِأَن الْقصر إِنَّمَا يكون من شَيْء أطول مِنْهُ
    ....
    (4/54)
    قد اتّفق الْعلمَاء على أَن المُرَاد مِنْهُ ستر الْعَوْرَة، وَعَن مُجَاهِد: وار عورتك وَلَو بعباءة، وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا: (لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل، وَلَا الْمَرْأَة إِلَى عَورَة الْمَرْأَة) . وَعَن الْمسور، قَالَ لَهُ النَّبِي: (ارْجع إِلَى ثَوْبك فَخذه وَلَا تَمْشُوا عُرَاة) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) ، عَن عَائِشَة يرفعهُ: (لَا يقبل اصلاة امْرَأَة قد حَاضَت إِلَّا بخمار) . وَقَالَ ابْن بطال: أجمع أهل التَّأْوِيل على أَن نُزُولهَا فِي الَّذين كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَالَ ابْن رشد: من حمله على النّدب قَالَ: المُرَاد بذلك الزِّينَة الظَّاهِرَة من الرِّدَاء وَغَيره من الملابس الَّتِي هِيَ زِينَة، مستدلاً بِمَا فِي الحَدِيث أَنه كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم كيهئة الصّبيان، وَمن حمله على الْوُجُوب اسْتدلَّ بِحَدِيث مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة فَتَقول: من يعيرني تطوافاً؟ وَتقول:
    (الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله))
    فَنزلت {خُذُوا زينتكم} (
    .........
    (4/55)
    وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: زر الْقَمِيص إِذا كَانَ محلولاً فشده، وزر الرجل شدّ زره، وَأورد البُخَارِيّ هَذَا للدلالة على وجوب ستر الْعَوْرَة، وللإشارة إِلَى أَن المُرَاد بِأخذ الزِّينَة فِي الْآيَة السَّابِقَة لبس الثِّيَاب لَا تزيينها وتحسينها، إِنَّمَا أَمر بالزر ليأمن من الْوُقُوع عَن بدنه، وَمن وُقُوع نظره على عَوْرَته من زيقه حَالَة الرُّكُوع، وَمن هَذَا أَخذ مُحَمَّد بن شُجَاع من أَصْحَابنَا أَن من نظر إِلَى عَوْرَته من زيقه تفْسد صلَاته، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
    وفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ.
    أَي: وَفِي إِسْنَاد الحَدِيث الْمَذْكُور نظر، وَجه النّظر من مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، وَزعم ابْن الْقطَّان أَنه مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، فَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَرَادَهُ. فَلذَلِك قَالَ: فِي إِسْنَاده نظر، وَذكره مُعَلّقا بِصِيغَة التمريض، وَلَكِن أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن نصر بن عَليّ عَن عبد الْعَزِيز عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: سَمِعت سَلمَة، وَفِي رِوَايَة: (وَلَيْسَ على إلاَّ قَمِيص وَاحِد، أوجبه وَاحِدَة، فأزره؟ قَالَ: نعم وَلَو بشوكة
    ..........
    (4/60)
    ذهب جُمْهُور أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد تجوز وَالَّذين ذَهَبُوا إِلَى ذَلِك جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأنس بن مَالك وخَالِد بن الْوَلِيد وَجَابِر بن عبد الله وعمار بن يَاسر وَأبي بن كَعْب وَعَائِشَة وَأَسْمَاء وَأم هَانِيء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن التَّابِعين الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن الْفُقَهَاء أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بالأحاديث الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ الطَّحَاوِيّ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث وَتَتَابَعَتْ بِجَوَاز الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متوشحا بِهِ فِي حَال وجود غَيره من الثِّيَاب وَأخرج فِي ذَلِك عَن أحد عشر صحابيا
    ..........
    (4/63)
    وَجزم ابْن هِشَام فِي (تَهْذِيب السِّيرَة) بِأَن اللَّذين أجرتهما أم هانىء هما: الْحَارِث بن هِشَام وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة المخزوميان.
    ...........
    (4/65)
    وَقد أنْشد ابْن عُصْفُور فِي ذكر الْأَعْضَاء الَّتِي تذكر وتؤنث:
    (وهاك من الْأَعْضَاء مَا قد عددته ... يؤنث أَحْيَانًا وحينا يذكر)
    (لِسَان الْفَتى والعنق والإبط والقفا ... وعاتقه والمتن والضرس يذكر)
    (وَعِنْدِي ذِرَاع والكراع مَعَ المعا ... وَعجز الْفَتى ثمَّ القريض المحبر)
    (كَذَا كل نحوي حكى فِي كِتَابه ... سوى سِيبَوَيْهٍ وَهُوَ فيهم مكبر)
    (يرى أَن تَأْنِيث الذِّرَاع هُوَ الَّذِي ... أَتَى وَهُوَ للتذكير فِي ذَاك مُنكر)
    وَقَالَ صَاحب (دستور اللُّغَة) : بديع الزَّمَان: بَاب الْأَسْمَاء الخالية من عَلَامَات التَّأْنِيث، والأسماء الَّتِي اشْترك فِيهَا التَّذْكِير والتأنيث، وَهِي حُدُود مِائَتي اسْم ونيف، وعلامة الْمُشْتَرك يجمعها قَوْله نظماً:
    (عين يَمِين عضد كف شكا ... ل أذن سنّ مَعًا رِجْل يَد)
    (قتب ذِرَاع أصْبع نَاب عجو ... زعجز سَاق كرَاع كبد)
    (وَحش جَراد رجلهَا أروى سعي ... ر زندها ذكاء طاغوت يَد)
    (ذود طباع خنصر روح شبا ... خيل اتان وصف أُنْثَى الْمُفْرد)
    وَذكر بعد هَذَا أحد عشر بَيْتا على قافية الْبَاء الْمُوَحدَة، وَسَبْعَة أَبْيَات أُخْرَى على قافية اللَّام.
    ...........
    (4/67)
    قَالَ الْخطابِيّ الاشتمال الَّذِي أنكرهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ اشْتِمَال الصماء وَهُوَ أَن يُجَلل نَفسه بِثَوْبِهِ وَلَا يرفع شَيْئا من جوانبه وَلَا يُمكنهُ إِخْرَاج يَدَيْهِ إِلَّا من أَسْفَله فيخاف أَن تبدو عَوْرَته عِنْد ذَلِك وَقَالَ ابْن بطال حَدِيث جَابر هَذَا تَفْسِير حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَهُوَ " لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء " فِي أَنه أَرَادَ الثَّوْب الْوَاسِع الَّذِي يُمكن أَن يشتمله وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَلم يُمكنهُ أَن يشْتَمل بِهِ فليتز بِهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قيل الحَدِيث السَّابِق فِيهِ نهي عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزرا بِهِ وَظَاهره يُعَارض " وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ " وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن النَّهْي عَنهُ للواجد لغيره وَأما من لم يجد غَيره فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهِ كَمَا لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الضّيق متزرا.
    ......
    (4/69)
    والشامية. نِسْبَة إِلَى الشَّام، وَهُوَ الإقليم الْمَعْرُوف دَار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
    ...........
    (4/ 73)
    وَفِي (التَّوْضِيح) : إِذا أَوجَبْنَا السّتْر فِي الْخلْوَة فَهَل يجوز أَن ينزل فِي مَاء النَّهر وَالْعين بِغَيْر مئزر؟ وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا، للنَّهْي عَنهُ، وَالثَّانِي: نعم، لِأَن المَاء يقوم مقَام المئزر فِي ستر الْعَوْرَة، وَا أعلم
    .......
    (4/73)
    وَفِي (مجمع الغرائب) للفارسي، عَن كَعْب: أول من لبس القباء سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَانَ إِذا أَدخل رَأسه فِي الثِّيَاب لنصت الشَّيَاطِين، يَعْنِي: فصلت أنوفها. وَزعم أَبُو مُوسَى فِي (المغيث) بِالسِّين: لنست.
    ........
    (4/81)
    الْفَخْذ عَورَة، فهم جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، مِنْهُم: أَبُو حنيفَة وَمَالك فِي أصح أَقْوَاله وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي أصح روايتيه وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر بن الْهُذيْل، حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا: إِن الصَّلَاة مَكْشُوف الْعَوْرَة فَاسِدَة. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: الْفَخْذ عَورَة إلاَّ فِي الْحمام، وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن من صلى مَكْشُوف الْعَوْرَة لَا إِعَادَة عَلَيْهِ. قلت: دَعْوَى الْإِجْمَاع غير صَحِيحَة، فَيكون مُرَاده إِجْمَاع أهل مذْهبه.
    ..........
    (4/81)
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ويرجح حَدِيث جرهد وَهُوَ أَن تِلْكَ الْأَحَادِيث الْمُعَارضَة لَهُ قضايا مُعينَة فِي أَوْقَات وأحوال مَخْصُوصَة، يتَطَرَّق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال مَا لَا يتَطَرَّق لحَدِيث جرهد، فَإِنَّهُ أعْطى حكما كلياً، فَكَانَ أولى. وَبَيَان ذَلِك أَن تِلْكَ الوقائع تحْتَمل خُصُوصِيَّة النَّبِي بذلك، أَو الْبَقَاء على الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، أَو كَأَن لم يحكم عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت بِشَيْء، ثمَّ بعد ذَلِك حكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَورَة. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ؛ حدّثنا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حدّثنا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو خَالِد عَن عبد ابْن سعيد الْمَدِينِيّ، قَالَ: حَدَّثتنِي حَفْصَة بنت عمر قَالَت: (كَانَ رَسُول الله ذَات يَوْم قد وضع ثَوْبه بَين فَخذيهِ، فجَاء أَبُو بكر فَاسْتَأْذن فَأذن لَهُ النَّبِي على هَيئته، ثمَّ جَاءَ عمر بِمثل هَذِه الصّفة، ثمَّ جَاءَ أنَاس من أَصْحَابه وَالنَّبِيّ على هَيئته، ثمَّ جَاءَ عُثْمَان فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ ثمَّ أَخذ رَسُول الله ثَوْبه فجلله، فتحدثوا ثمَّ خَرجُوا. فَقلت: يَا رَسُول اجاء أَبُو بكر وَعمر وَعلي وأناس من أَصْحَابك وَأَنت على هيئتك، فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَان جللت بثوبك؟ فَقَالَ: (أَو لَا أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة؟)
    ......
    (4/82)
    وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: وَالَّذِي رُوِيَ فِي قصَّة عُثْمَان من كشف الفخذين مَشْكُوك فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي كتاب (تَهْذِيب الْآثَار وَالْأَخْبَار) : الَّتِي رويت عَن النَّبِي أَنه دخل عَلَيْهِ أَبُو بكر وَعمر وَهُوَ كاشف فَخذه واهية الْأَسَانِيد لَا يثبت بِمِثْلِهَا حجَّة فِي الدّين، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة بِالْأَمر بتغطية الْفَخْذ وَالنَّهْي عَن كشفها أَخْبَار صِحَاح. وَقَول الطَّحَاوِيّ: لِأَن جمَاعَة من أهل الْبَيْت رَوَوْهُ على غير هَذَا الْوَجْه، حَدِيث عَائِشَة وَعُثْمَان أخرجه مُسلم: حدّثنا عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد، قَالَ: حدّثنا بِي عَن جدي، قَالَ: حدّثنا عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب: (عَن يحيى بن سعيد بن الْعَاصِ أَن سعيد بن الْعَاصِ أخبرهُ إِن عَائِشَة، زوج النَّبِي، وَعُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ، حَدَّثَاهُ: أَن أَبَا بكر اسْتَأْذن على رَسُول الله وَهُوَ مُضْطَجع على فرَاشه، لابس مرط عَائِشَة، فَأذن لأبي بكر وَهُوَ كَذَلِك، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته ثمَّ انْصَرف، ثمَّ اسْتَأْذن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، فَأذن لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَالة، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته ثمَّ انْصَرف. قَالَ عُثْمَان: ثمَّ اسْتَأْذَنت عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لعَائِشَة: إجمعي عَلَيْك ثِيَابك، فَقضيت إِلَيْهِ حَاجَتي ثمَّ انصرفت، فَقَالَت عَائِشَة يَا رَسُول اما لي لم أرك، فزعت لأبي بكر وَعمر كَمَا فزعت لعُثْمَان؟ قَالَ رَسُول ا: (إِن عُثْمَان رجل حييّ، وَإِنِّي خشيت: إِن أَذِنت لَهُ على تِلْكَ الْحَالة أَن لَا
    يبلغ إِلَيّ فِي حَاجته)
    ........
    (4/88)
    وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: اخْتلفُوا فِي فتح خَيْبَر كَانَت عنْوَة أَو صلحا؟ أَو جلاء أَهلهَا عَنْهَا بِغَيْر قتال؟ أَو بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة وَبَعضهَا جلاء أَهلهَا عَنْهَا؟ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِهَذَا أَيْضا ينْدَفع التضاد بَين الْآثَار
    .......
    (4/87)
    وَفِي الْمثل: كَاد الْعَرُوس أَن يكون ملكا. والعروس. اسْم حصن بِالْيمن، وَقَول الْعَامَّة: الْعَرُوس للْمَرْأَة، والعريس للرجل لَيْسَ لَهُ أصل.
    .........
    (4/87)
    وَقَالَ ابْن حزم: اتّفق ثَابت وَقَتَادَة وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس أَنه: عتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وَبِه قَالَ قَتَادَة فِي رِوَايَة، وَأخذ بِظَاهِرِهِ أَحْمد وَالْحسن وَابْن الْمسيب، وَلَا يحل لَهَا مهر غَيره، وتبعهم ابْن حزم فَقَالَ: هُوَ سنة فاضلة وَنِكَاح صَحِيح وصداق صَحِيح، فَإِن طَلقهَا قبل الدُّخُول فَهِيَ حرَّة فَلَا يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء، وَلَو أَبَت أَن تتزوجه بَطل عتقهَا. وَفِي هَذَا خلاف مُتَأَخّر ومتقدم.
    قَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حدّثنا أبان وَحَمَّاد بن زيد، قَالَ: حدّثنا شُعَيْب بن الحبحاب عَن أنس بن مَالك: (أَن رَسُول الله أعتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا) . وَأخرجه مُسلم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا أعتق أمته على أَن عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك، فَإِن تزوجت فَلَا مهر لَهَا غير الْعتاق. قلت: أَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاوساً وَالْحسن بن حييّ وَأحمد وَإِسْحَاق فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا أعتق الرجل أمته على أَن يكون عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك
    .......
    (4/89)
    قد ناقش ابْن حزم فِي هَذَا الْموضع مناقشة عَظِيمَة، وخلاصة مَا ذكره أَنه قَالَ: دَعْوَى الخصوصية بِالنَّبِيِّ فِي هَذَا الْموضع كذب، وَالْأَحَادِيث الَّتِي ذكرت هَهُنَا غير صَحِيحَة، وَقد ردينا عَلَيْهِ فِي جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَعَلَيهِ بالمراجعة إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن الزفاف فِي اللَّيْل، وَقد جَاءَ أَنه دخل عَلَيْهَا نَهَارا فَفِيهِ جَوَاز الْأَمريْنِ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على مطلوبية الْوَلِيمَة للعرس، وَأَنَّهَا بعد الدُّخُول، وَقَالَ الثَّوْريّ: وَيجوز قبله وَبعده، وَالْمَشْهُور عندنَا أَنَّهَا سنة، وَقيل: وَاجِبَة، وَعِنْدنَا إِجَابَة الدعْوَة سنة سَوَاء كَانَت وَلِيمَة أَو غَيرهَا، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمَالك فِي رِوَايَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِجَابَة وَلِيمَة الْعرس وَاجِبَة، وَغَيرهَا مُسْتَحبَّة، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، والوليمة: عبارَة عَن الطَّعَام الْمُتَّخذ للعرس، مُشْتَقَّة من: الولم، وَهُوَ الْجمع، لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فَتكون الْوَلِيمَة خَاصَّة بِطَعَام الْعرس، لِأَنَّهُ طَعَام الزفاف، والوكيرة: طَعَام الْبناء، والخرس طَعَام الْولادَة، وَمَا تطعمه النُّفَسَاء نَفسهَا خرسة، والإعذار طَعَام الْخِتَان، والنقيعة طَعَام القادم من سَفَره، وكل طَعَام صنع لدَعْوَة مأدبة ومأدبة جَمِيعًا، والدعوة الْخَاصَّة: التقري، والعامة: الجفلى والأجفلى
    .....
    (4/90)
    وَزعم أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن كل شَيْء من الْمَرْأَة عَورَة حَتَّى ظفرها، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: قدم الْمَرْأَة عَورَة، فَإِن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فِي الْوَقْت عِنْد مَالك، وَكَذَلِكَ إِذا صلت وشعرها مَكْشُوف. وَعند الشَّافِعِي تعيد أبدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: قدم الْمَرْأَة لَيست بِعَوْرَة فَإِن صلت وقدمها مكشوفة صحت صلَاتهَا. وَلَكِن فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة
    ..........
    (4/92)
    الَ ابْن حَازِم فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) : قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الْإِسْفَار بِصَلَاة الصُّبْح والتغليس بهَا، فَرَأى بَعضهم الْإِسْفَار هُوَ الْأَفْضَل، وَذهب إِلَى قَوْله: (أَصْبحُوا بالصبح) ، وَرَوَاهُ محكماً، وَزعم الطَّحَاوِيّ أَن حَدِيث الْإِسْفَار نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يدْخلُونَ مغلسين وَيخرجُونَ مسفرين، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن حَدِيث التغليس ثَابت، وَأَن النَّبِي داوم عَلَيْهِ حَتَّى فَارق الدُّنْيَا.
    قلت: يرد هَذَا مَا روينَاهُ من حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَذكرنَا أَن فِيهِ دَلِيلا على أَنه، كَانَ يسفر بِالْفَجْرِ دَائِما، وَالْأَمر مثل مَا ذكره الطَّحَاوِيّ وَلَيْسَ مثل مَا ذكره ابْن حَازِم، بَيَان ذَلِك أَن اتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، بعد النَّبِي، على الْإِسْفَار بالصبح، على مَا ذكره الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: (مَا اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على التَّنْوِير) دَلِيل وَاضح على نسخ حَدِيث التغليس، لِأَن إِبْرَاهِيم أخبر أَنهم كَانُوا اجْتَمعُوا على ذَلِك، فَلَا يجوز عندنَا، وَا أعلم، اجْتِمَاعهم على خلاف مَا قد فعله النَّبِي، إلاَّ بعد نسخ ذَلِك وَثُبُوت خِلَافه، وَالْعجب من بعض شرَّاح البُخَارِيّ أَنه يَقُول: وَوهم الطَّحَاوِيّ حَيْثُ ادّعى أَن حَدِيث: (أسفروا. .) نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَلَيْسَ الواهم إلاَّ هُوَ، وَلَو كَانَ عِنْده إِدْرَاك مدارك الْمعَانِي لما اجترأ على مثل هَذَا الْكَلَام.
    وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على خُرُوج النِّسَاء، وَهُوَ جَائِز بِشَرْط أَمن الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ أَو بِهن، وَكَرِهَهُ بَعضهم للشواب، وَعند أبي حنيفَة تخرج الْعَجَائِز لغير الظّهْر وَالْعصر، وَعِنْدَهُمَا: يخْرجن للْجَمِيع، وَالْيَوْم يكره للْجَمِيع، للعجائز والشواب، لظُهُور الْفساد وَعُمُوم الْفِتْنَة. وَا أعلم
    ..............
    (4/92)
    وَقَالَ ابْن الْحصار فِي (تقريب المدارك) : من زعم أَنه مَنْسُوب إِلَى منبج فقد وهم. قلت: منبج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره جِيم: بَلْدَة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الَّذِي غلب على الشَّام، وسماها: مُنَبّه، وَبنى بهَا بَيت نَار ووكل بهَا رجلا، فعربت فَقيل: منبج، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: منبجي
    .......
    (4/95)
    وَفرق بعض الْعلمَاء بَين الصُّورَة والتمثال، فَقَالَ: الصُّورَة تكون فِي الْحَيَوَان، والتمثال تكون فِيهِ وَفِي غَيره. وَيُقَال: التمثال مَا لَهُ جرم وشخص، وَالصُّورَة مَا كَانَ رقماً أَو تزويقاً فِي ثوب أَو حَائِط. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: قيل: التماثيل الصُّور، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وتماثيل} (سبأ: 31) إِنَّهَا صور العقبان والطواويس على كرْسِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ مُبَاحا. وَقيل: صور الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من رُخَام أَو شبه لينشطوا فِي الْعِبَادَة بِالنّظرِ إِلَيْهِم. وَقيل: صور الْآدَمِيّين من نُحَاس، وَا تَعَالَى أعلم.

    ........
    (4/95)
    جرى البُخَارِيّ فِي ذَلِك على عَادَته فِي ترك الْقطع فِي الشَّيْء الَّذِي فِيهِ اخْتِلَاف، لِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النَّهْي الْوَارِد فِي الشَّيْء، فَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي نَفسه فَهُوَ يَقْتَضِي الْفساد فِيهِ، وَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي غَيره فَهُوَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَة أَو الْفساد، فِيهِ خلاف.
    وَالَّذِي ينْهَى عَنهُ من الْمَذْكُور، وَهُوَ؛ الصَّلَاة فِي ثوب مُصَور بصلبان أَو بتصاوير،
    ..............
    (4/95)
    قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن الصُّور كلهَا مَنْهِيّ عَنْهَا، سَوَاء كَانَت أشخاصاً ماثلة أَو غير ماثلة، كَانَت فِي ستر أَو بِسَاط أَو فِي وَجه جِدَار أَو غير ذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال: علم من الحَدِيث النَّهْي عَن اللبَاس الَّذِي فِيهِ التصاوير بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهَذَا كُله على الْكَرَاهَة، فَإِن من صلى فِيهِ فَصلَاته مجزئة، لِأَنَّهُ لم يعد الصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ ذكر أَنَّهَا عرضت لَهُ، وَلم يقل: إِنَّهَا قطعتها. وَمن صلى بذلك أَو نظر إِلَيْهِ فَصلَاته مجزئة عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ الْمُهلب: وَإِنَّمَا أَمر باجتناب هَذَا لإحضار الْخُشُوع فِي الصَّلَاة وَقطع دواعي الشّغل
    ,,,,,,,,,,,
    (4/97)
    وَكَانَ الَّذِي أهداه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكيدر بن عبد الْملك صَاحب دومة الجندل وَذكر أَبُو نعيم أَنه أسلم وَأهْدى إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حلَّة سيراء وَقَالَ ابْن الْأَثِير أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَالَحَهُ وَلم يسلم وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين أهل السّير وَمن قَالَ أَنه أسلم فقد أَخطَأ خطأ ظَاهر أَو كَانَ نَصْرَانِيّا وَلما صَالحه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاد إِلَى حصنه وَبَقِي فِيهِ ثمَّ أَن خَالِدا أسره لما حاصر دومة الجندل أَيَّام أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقتله مُشْركًا نَصْرَانِيّا وأكيدر بِضَم الْهمزَة ودومة الجندل اسْم حصن قَالَ الْجَوْهَرِي أَصْحَاب اللُّغَة يَقُولُونَ بِضَم الدَّال وَأهل الحَدِيث يفتحونها وَهُوَ اسْم مَوضِع فاصل بَين الشَّام وَالْعراق على سَبْعَة مراحل من دمشق وعَلى ثَلَاثَة عشر مرحلة من الْمَدِينَة
    ............
    (4/98)
    حُرْمَة لبس الْحَرِير للرِّجَال فِي كل الْأَحْوَال إِلَّا فِي صور تستثنى مِنْهَا فِي الْحَرْب يجوز لبسهَا للرِّجَال عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَمِنْهَا للجرب. وَمِنْهَا لأجل الْبرد إِذا لم يجد غَيره وَقد جوز طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة لبسه للرِّجَال مُطلقًا وَإِلَيْهِ ذهب عبد الله بن أبي مليكَة وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مسور بن مخرمَة أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه وحجج الْجُمْهُور فِي ذَلِك كَثِيرَة. مِنْهَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرج الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا الْبَاب عَن خَمْسَة عشر نَفرا من الصَّحَابَة وهم عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعمْرَان بن الْحصين والبراء بن عَازِب وَعبد الله بن الزبير وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك
    .........
    (4/98)
    قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اخْتلف الْعلمَاء فِي لِبَاس الْحَرِير على عشرَة أَقْوَال: الأول محرم بِكُل حَال. وَالثَّانِي محرم إِلَّا فِي الْحَرْب. وَالثَّالِث يحرم إِلَّا فِي السّفر. وَالرَّابِع يحرم إِلَّا فِي الْمَرَض. وَالْخَامِس يحرم إِلَّا فِي الْغَزْو. وَالسَّادِس يحرم إِلَّا فِي الْعلم. وَالسَّابِع يحرم على الرِّجَال وَالنِّسَاء. وَالثَّامِن يحرم لبسه من فَوق دون لبسه من أَسْفَل وَهُوَ الْفرش قَالَه أَبُو حنيفَة وَابْن الْمَاجشون. وَالتَّاسِع مُبَاح بِكُل حَال. والعاشر يحرم وَإِن خلط مَعَ غَيره كالخز. وَمِنْهَا مَا احْتج بِهِ
    عضهم فِي جَوَاز الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الْحَرِير لكَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يعد تِلْكَ الصَّلَاة وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لِأَن ترك إِعَادَتهَا لكَونهَا وَقعت قبل التَّحْرِيم أما بعد فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء فَقَالَ أَصْحَابنَا تصح صلَاته وَلكنهَا تكره وَيَأْثَم لارتكابه الْحَرَام وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك من صلى فِي ثوب حَرِير يُعِيد فِي الْوَقْت إِن وجد ثوبا غَيره وَعَلِيهِ جلّ أَصْحَابه وَقَالَ أَشهب لَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِي الْوَقْت وَلَا فِي غَيره وَهُوَ قَول أصبغ وخفف ابْن الْمَاجشون لِبَاسه فِي الْحَرْب وَالصَّلَاة للترهيب على الْعَدو والمباهات وَقَالَ آخَرُونَ إِن صلى فِيهِ وَهُوَ يعلم أَن ذَلِك لَا يجوز يُعِيد.
    ........
    (4/101)
    وَصَلَّى أبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ المَسْجِدِ بِصَلاَةِ الإِمَامِ
    ذكره البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن أبي عَامر عَن سعيد بن مُسلم،قَالَ: (رَأَيْت سَالم بن عبد ايصلي فَوق ظهر الْمَسْجِد صَلَاة الْمغرب وَمَعَهُ رجل آخر يَعْنِي، ويأتم بِالْإِمَامِ) . وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عدي عَن ابْن عون قَالَ: سُئِلَ مُحَمَّد عَن الرجل يكون على ظهر بَيت يُصَلِّي بِصَلَاة الإِمَام فِي رَمَضَان،فَقَالَ: لَا أعلم بِهِ بَأْسا إلاَّ أَن يكون بَين يَدي الإِمَام. وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره أَن يكون مَوضِع الإِمَام أَو الْمَأْمُوم أَعلَى من مَوضِع الآخر إلاَّ إِذا أَرَادَ تَعْلِيم أَفعَال الصَّلَاة، أَو أَرَادَ الْمَأْمُوم تَبْلِيغ الْقَوْم. وَقَالَ فِي (الْمُهَذّب) : إِذْ كره أَن يَعْلُو الإِمَام فالمأموم أولى، وَعِنْدنَا أَيْضا يكره أَن يكون الْقَوْم أَعلَى من الإِمَام. وَقَالَ ابْن حزم؛وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا يجوز. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة هَذَا، ومذهبه أَنه يجوز وَلَكِن يكره. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام: إِنَّمَا يكره إِذا لم يكن من عذر، أما إِذا كَانَ من عذر فَلَا يكره، كَمَا فِي الْجُمُعَة إِذا كَانَ الْقَوْم على الرف وَبَعْضهمْ على الأَرْض، والرف،بتَشْديد الْفَاء: شبه الطاق، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَعَن الطَّحَاوِيّ: إِنَّه لَا يكره، وَعَلِيهِ عَامَّة الْمَشَايِخ.
    ........
    (4/102)
    اخْتلفُوا فِي اسْم: فلَان، الَّذِي هُوَ نجار منبره، فَفِي (كتاب الصَّحَابَة) لِابْنِ أَمِين الطليطلي: إِن اسْم هَذَا النجار: قبيصَة المَخْزُومِي. قَالَ: وَيُقَال: مَيْمُون. وَقَالَ: وَقيل: صَلَاح غُلَام الْعَبَّاس ابْن عبد الْمطلب،وَقَالَ ابْن بشكوال: وَقيل: ميناء. وَقيل: إِبْرَاهِيم. وَقيل: باقوم، بِالْمِيم فِي آخِره. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: كَانَ رومياً غُلَاما لسَعِيد بن الْعَاصِ مَاتَ فِي حَيَاة النَّبِي، وروى أَبُو سعد فِي (شرف الْمُصْطَفى) من طَرِيق ابْن لَهِيعَة: عَن عمَارَة بن غزيَّة عَن بعاس بن سهل عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ نجار وَاحِد يُقَال لَهُ مَيْمُون، فَذكر قصَّة الْمِنْبَر. وَقَالَ ابْن التِّين: عمله غُلَام لسعد بن عبَادَة. وَقيل: لامْرَأَة من الْأَنْصَار
    .........
    (4/104)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ أَن الْعَمَل الْيَسِير لَا يفْسد الصَّلَاة، وَكَانَ الْمِنْبَر ثَلَاث مراقي، وَلَعَلَّه إِنَّمَا قَامَ على الثَّانِيَة مِنْهَا فَلَيْسَ فِي نُزُوله وصعوده إلاَّ خطوتان.

    ............
    (4/106)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: نسخ إِمَامَة الْقَاعِد بقوله: (لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) . وبفعل الْخُلَفَاء بعده، وَإنَّهُ لم يؤم أحد مِنْهُم قَاعِدا. وَإِن كَانَ النّسخ لَا يُمكن بعد النَّبِي فمثابرتهم على ذَلِك تشهد بِصِحَّة نَهْيه عَن إِمَامَة الْقَاعِد بعده
    هَذَا الحَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) عَن جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ. وَقَالَ الدارقطيني: لم يروه عَن الشّعبِيّ غير جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَتْرُوك، والْحَدِيث مُرْسل لَا تقوم بِهِ حجَّة. وَقَالَ عبد الْحق فِي (أَحْكَامه) : وَرَوَاهُ عَن الْجعْفِيّ مجَالد وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف.

    ..........
    (4/107)
    ورد فِي بعض طرق الحَدِيث أَن النَّبِي أَخذ فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ انْتهى إِلَيْهِ أَبُو بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) وَأحمد فِي (مُسْنده) . فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه (الْوَهم وَالْإِيهَام) : وَهِي رِوَايَة مُرْسلَة، فَإِنَّهَا لَيست من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي وَإِنَّمَا رَوَاهَا ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه الْعَبَّاس عَن النَّبِي، كَذَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بِسَنَد فِيهِ قيس بن الرّبيع وَهُوَ ضَعِيف، ثمَّ ذكر لَهُ مثالب فِي دينه. قَالَ: وَكَانَ ابْن عَبَّاس كثيرا مَا يُرْسل. قلت: رَوَاهُ ابْن ماجة من غير طَرِيق قيس،فَقَالَ: حدّثنا عَليّ بن مُحَمَّد،حدّثنا وَكِيع عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الأرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس: (لما مرض رَسُول ا) فَذكره إِلَى أَن قَالَ: (قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأخذ رَسُول الله فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ كَانَ بلغ أَبُو بكر رَضِي اعنه) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَذكر أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة جَابر وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة، وَلم يذكر صَلَاة رَسُول الله آخر مَا صلاهَا بِالنَّاسِ وَهُوَ قَاعد وَالنَّاس خَلفه قيام، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ من فعله، وَمن عَادَة أبي دَاوُد فِيمَا أنشأه من أَبْوَاب هَذَا الْكتاب أَن يذكر الحَدِيث فِي بَابه، وَيذكر الَّذِي يُعَارضهُ فِي بَاب آخر على إثره، وَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من النّسخ فلست أَدْرِي كَيفَ غفل عَن ذكر هَذِه الْقِصَّة وَهِي من أُمَّهَات السّنَن، وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الْفُقَهَاء. قلت: إِمَّا تَركهَا سَهوا أَو غَفلَة أَو كَانَ رَأْيه فِي هَذَا الحكم مثل مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، فَلذَلِك لم يذكر مَا ينْقضه. وَا تَعَالَى أعلم.

    .........
    (4/107)
    وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل أَن يكبر بعد فرَاغ الإِمَام من التَّكْبِير، لِأَن الْفَاء للتعقيب وَإِن كبر مَعَ الإِمَام أَجزَأَهُ عِنْد مُحَمَّد رِوَايَة وَاحِدَة، وَقد أَسَاءَ. وَكَذَلِكَ فِي أصح الرِّوَايَتَيْن ِ عَن أبي يُوسُف،وَفِي رِوَايَة: لَا يصير شَارِعا، ثمَّ يَنْبَغِي أَن يكون اقترانهما فِي التَّكْبِير على قَوْله كاقتران حَرَكَة الْخَاتم والإصبع، والبعدية على قَوْلهمَا؛أَن يُوصل ألف: ا،برَاء: أكبر،وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده: قَول أبي حنيفَة أدق وأجود، وقولهما أرْفق وأحوط، وَقَول الشَّافِعِي كقولهما. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ،فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام قبل فرَاغ الإِمَام مِنْهَا: لم تَنْعَقِد صلَاته وَلَو ركع بعد شُرُوع الإِمَام فِي الرُّكُوع، فَإِن قارنه أَو سابقه فقد أَسَاءَ وَلَا تبطل صلَاته، فَإِن سلم قبل إِمَامه بطلت صلَاته إلاَّ أَن يَنْوِي الْمُفَارقَة فَفِيهِ خلاف مَشْهُور.
    .........
    (4/109)
    ن الصَّلَاة فِي السَّفِينَة إِنَّمَا تجوز: إِذا كَانَ قَائِما. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز قَائِما وَقَاعِدا بِعُذْر وَبِغير عذر. وَبِه قَالَ الْحسن بن مَالك وَأَبُو قلَابَة وَطَاوُس، روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة،وروى أَيْضا عَن مُجَاهِد أَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة قَالَ: (كُنَّا نغزو مَعَه لَكنا نصلي فِي السَّفِينَة قعُودا) ، أَو لِأَن الْغَالِب دوران الرَّأْس فَصَارَ كالمحقق، وَالْأولَى أَن يخرج إِن اسْتَطَاعَ الْخُرُوج مِنْهَا،وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا تجوز قَاعِدا إلاَّ من عذر، لِأَن الْقيام ركن فَلَا يتْرك إلاَّ من عذر، وَالْخلاف فِي غير المربوطة، فَلَو كَانَت مربوطة لم تجز قَاعِدا إِجْمَاعًا. وَقيل: تجوز عِنْده فِي حالتي الإجراء والإرساء وَيلْزمهُ التَّوَجُّه عِنْد الِافْتِتَاح كلما دارت السَّفِينَة لِأَنَّهَا فِي حَقه كالبيت، حَتَّى لَا يتَطَوَّع فِيهَا مومياً مَعَ الْقُدْرَة على الرُّكُوع وَالسُّجُود، بِخِلَاف رَاكب الدَّابَّة.
    وَقَالَ الحَسَنُ تُصلِّي قائِماً مَا لَمْ تَشُقَّ على أصْحَابِكَ تَدُورُ مَعَها وَإِلَّا فَقاعِداً.
    ...............
    (4/112)
    أَن إِمَامَة الْمَرْأَة للرِّجَال لَا تصح لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مقَامهَا مُتَأَخِّرًا عَن مرتبَة الصَّبِي فبالأولى أَن لَا تتقدمهم، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، خلافًا للطبري وَأبي ثَوْر، فِي إجازتهما إِمَامَة النِّسَاء مُطلقًا، وَحكى عَنْهُمَا أَيْضا إجَازَة ذَلِك فِي التَّرَاوِيح إِذا لم يُوجد قارىء غَيرهَا.
    ..............
    (4/312)
    لحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يزِيد بن المقادم عَن أَبِيه شُرَيْح بن هانىء: (أَنه سَأَلَ عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، أَكَانَ النَّبِي يُصَلِّي على الْحَصِير؟وَا تَعَالَى يَقُول: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} (الْإِسْرَاء: 8) فَقَالَت: لَا لم يكن يُصَلِّي على الْحَصِير) وَقَالُوا: هَذَا غير صَحِيح لضعف يزِيد بن الْمِقْدَام، وَلِهَذَا بوب البُخَارِيّ بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يثبت عِنْده، أوردهُ لمعارضة مَا هُوَ أقوى مِنْهُ، وَالَّذِي شَذَّ فِيهِ هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ كَانَ يسْجد على التُّرَاب، وَلَكِن يحمل فعله هَذَا على التَّوَاضُع.
    ......
    (4/113)
    ن الْإِثْنَيْنِ يكونَانِ صفا وَرَاء الإِمَام، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ ابْن مَسْعُود،فَإِنَّهُ قَالَ: يكون الإِمَام بَينهمَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة والكوفيون. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَذَلِك، بل مذْهبه أَنه إِذا أم اثْنَيْنِ يتَقَدَّم عَلَيْهِمَا، وَبِه قَالَ مُحَمَّد، واحتجا فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب، نعم، عَن أبي يُوسُف رِوَايَة أَنه يتوسطهما
    .......
    قَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح رَفعه، وَأما فعله هُوَ فَإِنَّمَا كَانَ لضيق الْمَسْجِد، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) بِسَنَد عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: لَا أرى ابْن مَسْعُود فعل ذَلِك إلاَّ لضيق الْمَسْجِد، أَو لعذر آخر، لَا على أَنه السّنة.
    ..............
    (4/115)
    أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِحَدِيث: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وادرؤوا مَا اسْتَطَعْتُم) ، وَصلى الشَّارِع وَبَينه وَبَين الْقبْلَة عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَكَانَت الأتان ترتع بَين يَدَيْهِ وَلم يُنكره أحد، لَكِن النّسخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ بِأُمُور مِنْهَا التَّارِيخ، وأنى بِهِ؟ وَذهب ابْن عَبَّاس وَعَطَاء إِلَى أَن الْمَرْأَة الَّتِي تقطع الصَّلَاة إِنَّمَا هِيَ الْحَائِض، ورد بِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَات هَذَا الحَدِيث،قَالَ شُعْبَة: (وأحسبها قَالَت: وَأَنا حَائِض) . قَالَ: فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث: (يقطع الصَّلَاة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِي ّ والمجوسي وَالْخِنْزِير) ؟قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف.

    .........
    (4/115)
    وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْجِنَازَة النعش، والجنازة الْمَيِّت. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعَامَّة تَقول: الْجِنَازَة،بِالْفَتْح وَالْمعْنَى: الْمَيِّت على السرير، وَفِي (شرح الفصيح) لِابْنِ عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن المرزوقي: الْجِنَازَة اسْم المتوفي فِي الأَصْل. وَقَالَ بَعضهم، بِفَتْح الْجِيم فِي الْمُتَوفَّى،وَقَالَ الْخَلِيل: الْجِنَازَة بِكَسْر الْجِيم: السرير، يَعْنِي سَرِير الْمَيِّت. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: لَا يُقَال للْمَيت جَنَازَة حَتَّى يكون على نعش، وَلَا يُقَال للنعش جَنَازَة حَتَّى يكون عَلَيْهَا ميت.
    ..........
    (4/117)
    وَذكر مُحَمَّد بن أسلم الطوسي فِي كِتَابه (تَعْظِيم قدر الصَّلَاة) : عَن خَلاد بن يحيى عَن عبد ابْن المحرز عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي سجد على كور عمَامَته) . قَالَ ابْن أسلم: هَذَا سَنَد ضَعِيف
    قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : أما مَا روى أَن النَّبِي كَانَ يسْجد على كور عمَامَته فَلَا يثبت مِنْهُ شَيْء. قلت: حَدِيث ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن أبي أوفى جِيَاد، وَمَا كَانَ مِنْهُ من الضَّعِيف يشْتَد بِالْقَوِيّ،
    .........
    (4/120)
    الَ اتعالى فِي سُورَة الْمَائِدَة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} (النِّسَاء: 34،والمائدة: 6) الْآيَة، فَلَو كَانَ إِسْلَام جرير مُتَقَدما على نزُول الْمَائِدَة لاحتمل كَون حَدِيثه فِي مسح الْخُف مَنْسُوخا بِآيَة الْمَائِدَة، فَلَمَّا كَانَ إِسْلَامه مُتَأَخِّرًا علمنَا أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين أَن المُرَاد بِآيَة الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون السّنة مخصصة لِلْآيَةِ. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ) : عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم رَضِي اعنه،قَالَ: مَا سَمِعت فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ أحسن من حَدِيث جرير رَضِي اعنه، وَقد ورد مؤرخاً بِحجَّة الْوَدَاع فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
    وَاعْلَم أَنه وَردت فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عدَّة أَحَادِيث تبلغ التَّوَاتُر على رَأْي كثير من الْعلمَاء. قَالَ الْمَيْمُونِيّ: عَن أَحْمد: فِيهَا سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابياً. وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ: أَرْبَعُونَ، كَذَا قَالَه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مسح على الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَ ة، وَغَيرهم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار وَعَامة أهل الْعلم والأثر، وَلَا يُنكره إلاَّ مخذول مُبْتَدع خَارج عَن جمَاعَة الْمُسلمين. وَفِي (الْبَدَائِع) : الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عَامَّة الْفُقَهَاء وَعَامة الصَّحَابَة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ
    أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، كلهم يرَوْنَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط السّنة وَالْجَمَاعَة،فَقَالَ: مِنْهَا أَن تفضل الشَّيْخَيْنِ، وتحب الختنين، وَترى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَأَن لَا تحرم نَبِيذ الْجَرّ يَعْنِي المثلث. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا على كبار الصَّحَابَة، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ فَكَانَ بِدعَة،وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْ
    ........
    (4/130)
    وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا عَمْرو بن شيبَة النميري حدّثنا أَبُو خلف،يَعْنِي: عبد ابْن عِيسَى، حدّثنا دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) قَالَ: مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء مثل ذَلِك. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام: الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل تَحت قدم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَضَعفه وَرجح غَيره، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس،وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حدّثنا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن حجَّة النَّبِي قَالَ: (لما طَاف النَّبِي قَالَ لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام؟قَالَ: نعم. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟فَأنْزل اعز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 52


    (4/130)
    وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا عَمْرو بن شيبَة النميري حدّثنا أَبُو خلف،يَعْنِي: عبد ابْن عِيسَى، حدّثنا دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) قَالَ: مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء مثل ذَلِك. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام: الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل تَحت قدم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَضَعفه وَرجح غَيره، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس،وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حدّثنا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن حجَّة النَّبِي قَالَ: (لما طَاف النَّبِي قَالَ لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام؟قَالَ: نعم. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟فَأنْزل اعز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521)
    ..........
    (4/132)
    وَفِيه اسْتِحْبَاب الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْت فَإِن بِلَالًا أخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ النَّوَوِيّ أجمع أهل الحَدِيث على الْأَخْذ بِرِوَايَة بِلَال لِأَنَّهُ مُثبت وَمَعَهُ زِيَادَة علم فَوَجَبَ تَرْجِيحه وَأما نفي من نفى كأسامة فسببه أَنهم لما دخلُوا الْكَعْبَة أغلقوا الْبَاب وَاشْتَغلُوا بِالدُّعَاءِ فَرَأى أُسَامَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو فاشتغل هُوَ أَيْضا بِالدُّعَاءِ فِي نَاحيَة من نواحي الْبَيْت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَاحيَة أُخْرَى وبلال قريب مِنْهُ ثمَّ صلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَآهُ بِلَال بِقُرْبِهِ وَلم يره أُسَامَة لبعده مَعَ خفَّة الصَّلَاة وإغلاق الْبَاب واشتغاله بِالدُّعَاءِ وَجَاز لَهُ نَفيهَا عملا بظنه وَقَالَ بعض الْعلمَاء يحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت مرَّتَيْنِ فَمرَّة صلى فِيهِ وَمرَّة دَعَا فَلم يُصَلِّي وَلم تتضاد الْأَخْبَار (قلت) روى الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ " دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت فصلى بَين الساريتين رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى بَين الْبَاب وَالْحجر رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ هَذِه الْقبْلَة ثمَّ دخل مرّة أُخْرَى فَقَامَ فِيهِ يَدْعُو ثمَّ خرج وَلم يصل
    وَفِيه حجَّة على ابْن جرير الطَّبَرِيّ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ جَوَاز الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة فرضا كَانَ أَو نفلا وَقَالَ مَالك لَا تصلى فِيهِ الْفَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا الطّواف الْوَاجِب فَإِن صلى أعَاد فِي الْوَقْت وَيجوز أَن يُصَلِّي فِيهِ النَّافِلَة وَفِي المسالك لِابْنِ الْعَرَبِيّ روى مُحَمَّد عَن أصبغ أَن من صلى فِي الْبَيْت أعَاد أبدا وَقَالَ مُحَمَّد لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَقَالَ أَشهب من صلى على ظهر الْبَيْت أعَاد أبدا وَعند أبي حنيفَة يجوز الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ وَبِه قَالَ الشَّافِعِي
    .........
    (4/139)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا تتَعَلَّق بالبلاغ وَبَيَان
    أَحْكَام الشَّرْع من أَفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الْجُمْهُور. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال البلاغية فَأَجْمعُوا على مَنعه كَمَا أَجمعُوا على امْتنَاع تَعَمّده. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال الدُّنْيَوِيَّة ، وَفِيمَا لَيْسَ سَبيله الْبَلَاغ من الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَخْبَار الْقِيَامَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَلَا يُضَاف إِلَى وَحي فجوزه قوم، إِذْ لَا مفْسدَة فِيهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ تَرْجِيح قَول من منع ذَلِك على الْأَنْبِيَاء فِي كل خبر من الْأَخْبَار، كَمَا لَا يجوز عَلَيْهِم خلف فِي خبر لَا عمدا وَلَا سَهوا، لَا فِي صِحَة وَلَا فِي مرض، وَلَا رضى وَلَا غضب. وَأما جَوَاز السَّهْو فِي الاعتقادات فِي أُمُور الدُّنْيَا فَغير مُمْتَنع.
    وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز النسْيَان فِي الْأَفْعَال على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاتَّفَقُوا على أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ بل يعلمهُمْ اتعالى بِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرطه تنبيهه على الْفَوْر أَي مُتَّصِلا بالحادثة، وجوزت طَائِفَة تَأْخِير مُدَّة حَيَاته. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان؟قيل: النسْيَان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، والسهو غَفلَة الشَّيْء عَن الْقلب،فَفِي هَذَا قَالَ قوم: كَانَ النَّبِي لَا يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفى عَن نَفسه النسْيَان فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ، (بقوله: لم أنس) ، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل. وَقَالَ الْقشيرِي: يبعد الْفرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يتلوح من اللَّفْظ على أَن النيسان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق،وَلَئِن سلم فقد أضَاف النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع كَقَوْلِه: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني)
    .......
    (4/140)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر مَا ملخصه: إِن الْكَلَام لغير مصلحَة الصَّلَاة يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام:
    الأول: الْكَلَام جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فِيهَا. قَالَ القَاضِي فِي (الْجَامِع) : لَا أعرف عَن أحد نصا فِيهِ، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل.
    الثَّانِي: الْكَلَام نَاسِيا وَهُوَ على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينسى أَنه فِي الصَّلَاة،فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالْأُخْرَى: تبطل، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالنَّوْع الآخر: أَن يظنّ أَن صلَاته تمت فيتكلم، فَإِن كَانَ سَلاما لَا تبطل رِوَايَة وَاحِدَة،وإلاَّ فالمنصوص عَن أَحْمد: إِن كَانَ لأمر الصَّلَاة لَا تبطل،وَإِن كَانَ لغير أمرهَا مثل: إسقني يَا غُلَام مَاء، تبطل. وَعنهُ رِوَايَة ثَانِيَة أَنَّهَا تفْسد بِكُل حَال، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي،وَفِيه رِوَايَة ثَالِثَة: أَنَّهَا لَا تبطل بالْكلَام فِي تِلْكَ الْحَال بِحَال، سَوَاء كَانَ من شَأْن الصَّلَاة أَو لم يكن، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَتخرج رِوَايَة رَابِعَة وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم إِن كَانَ إِمَامًا تكلم لمصْلحَة الصَّلَاة لم تفْسد، وَإِن تكلم غَيره فَسدتْ.

    قسم الْخَامِس: أَن يتَكَلَّم لإِصْلَاح الصَّلَاة، وَجُمْلَته أَن من سلم من نقص فِي صلَاته يظنّ نها قد تمت،ثمَّ تكلم فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا: لَا تفْسد إِذا كَانَ لشأن الصَّلَاة. وَالثَّانيَِة: تفْسد، وَهُوَ قَول الْخلال وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالثَّالِثَة: صَلَاة الإِمَام لَا تفْسد، وَصَلَاة الْمَأْمُوم الَّذِي تكلم تفْسد انْتهى.
    وَمذهب أَصْحَابنَا أَنه: لَا يجوز الْكَلَام فِي الصَّلَاة إلاَّ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتهليل وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يجوز أَن يتَكَلَّم فِيهَا لأجل شَيْء حدث من الإِمَام فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام يبطل الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا، وَسَوَاء كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة، وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعبد ابْن وهب وَابْن نَافِع من أَصْحَاب مَالك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ أخرجه مُسلم مطولا،وَفِيه: (إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَهَذَا نَص صَرِيح على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا، لحَاجَة أَو غَيرهَا، وَسَوَاء كَانَ لمصْلحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا. فَإِن احْتَاجَ إِلَى تَنْبِيه إِمَام وَنَحْوه سبح إِن كَانَ رجلا، وصفقت إِن كَانَت امْرَأَة،وَذَلِكَ لقَوْله: (من نابه شَيْء فِي الصَّلَاة فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء وَالتَّسْبِيح للرِّجَال) ، رَوَاهُ سهل بن سعد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ مطولا،وَلَفظه: (أَيهَا النَّاس مَا لكم حِين نابكم شَيْء فِي الصَّلَاة أَخَذْتُم فِي التصفيق؟ وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء،من نابه شَيْء فِي صلَاته فَلْيقل: سُبْحَانَ ا،فَإِنَّهُ لَا يسمعهُ أحد حِين يَقُول: سُبْحَانَ ا، إِلَّا الْتفت
    ........
    (ج4/ص 143)
    هُوَ أَن الرجل إِذا اجْتهد فِي الْقبْلَة فصلى إِلَى غَيرهَا فَهَل يُعِيد أم لَا؟
    فَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَعَطَاء وَسَعِيد بن الْمسيب وَحَمَّاد: لَا يُعِيد، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ. وَعَن مَالك كَذَلِك،وَعنهُ: يُعِيد فِي الْوَقْت اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر؛ وَهُوَ قَول الْحسن وَالزهْرِيّ،وَقَالَ الْمُغيرَة: يُعِيد أبدا. وَعَن حميد بن عبد الرَّحْمَن وطاووس وَالزهْرِيّ: يُعِيد فِي الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن فرغ من صلَاته ثمَّ بَان لَهُ أَنه صلى إِلَى الْمغرب اسْتَأْنف الصَّلَاة، وَإِن لم يبن لَهُ ذَلِك إلاَّ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن لم يتَيَقَّن الْخَطَأ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ،وَإِلَّا أعَاد وروى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أَنه قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي فِي سفر فغيمت السَّمَاء وأشكلت علينا الْقبْلَة فصليناه وَأَعْلَمنَا، فَلَمَّا طلعت الشَّمْس إِذا نَحن قد صلينَا إِلَى غير الْقبْلَة، فَذَكرنَا ذَلِك للنَّبِي فَأنْزل اتعالى {فإينما توَلّوا فثم وَجه ا} (الْبَقَرَة: 511)) . وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من حَدِيث جَابر: (أَنهم صلوا فِي لَيْلَة مظْلمَة كل رجل مِنْهُم على حياله،فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: (مَضَت صَلَاتكُمْ) ، وَنزلت {فأينما توَلّوا فثم وَجه ا} (الْبَقَرَة: 511) ويحتج بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين لما ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَمن تبعه فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدِيث جَابر ضَعِيف قلت: رُوِيَ حَدِيث جَابر من ثَلَاث طرق: إِحْدَاهَا أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) عَن مُحَمَّد بن سَالم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَنهُ،ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَمُحَمّد بن سَالم لَا أعرفهُ بعدالة وَلَا جرح.
    ......
    (4/143)
    وَقَالَ ابْن عَبَّاس،رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: لما توفّي النَّجَاشِيّ جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى النَّبِي،فَقَالَ: إِن النَّجَاشِيّ توفّي فصل عَلَيْهِ. فَقَالَ الصَّحَابَة فِي أنفسهم: كَيفَ نصلي على رجل مَاتَ وَلم يصلِّ إِلَى قبلتنا؟ وَكَانَ النَّجَاشِيّ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَى أَن مَاتَ، فَنزلت الْآيَة. وَقَالَ قَتَادَة: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره}
    .............
    (4:/145)
    صلت الْمُوَافقَة لَهُ فِي أَشْيَاء غير هَذِه الثَّلَاث. مِنْهَا فِي أُسَارَى بدر حَيْثُ كَانَ رَأْيه أَن لَا يفدون فَنزل {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} وَمِنْهَا فِي منع الصَّلَاة على الْمُنَافِقين فَنزل {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَمِنْهَا فِي تَحْرِيم الْخمر. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة حَدثنَا عَليّ بن زيد " عَن أنس قَالَ عمر وَافَقت رَبِّي فِي أَربع " وَذكر مَا فِي البُخَارِيّ قَالَ " وَنزلت {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين} إِلَى قَوْله {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَقلت أَنا {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَنزلت كَذَلِك ". وَمِنْهَا فِي شَأْن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " لما قَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا فَقَالَ يَا رَسُول الله من زوجكها فَقَالَ الله تَعَالَى قَالَ أفتنظر أَن رَبك دلّس عَلَيْك فِيهَا {سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} فَأنْزل الله ذَلِك " ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه وَقد ذكر أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ أَن الْمُوَافقَة فِي أحد عشر موضعا (قلت) يشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححا من حَدِيث ابْن عمر " مَا نزل بِالنَّاسِ أَمر قطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن على نَحْو مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا يدل على كَثْرَة مُوَافَقَته فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف نَص على الثَّلَاث فِي الْعدَد (قلت) التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد وَقيل يحْتَمل أَنه ذكر ذَلِك قبل أَن يُوَافق فِي أَربع وَمَا زَاد وَفِيه نظر لِأَن عمر أخبر بِهَذَا بعد موت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يتَّجه مَا ذكر من ذَلِك وَيُقَال يحْتَمل أَن الرَّاوِي اعتنى بِذكر الثَّلَاث دون مَا سواهَا لغَرَض
    .......
    (4/145)
    وَقَالَ ابْن جرير حَدثنَا بشر بن معَاذ حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} إِنَّمَا أمروا أَن يصلوا عِنْده وَلم يؤمروا بمسحه وَلَقَد تكلفت هَذِه الْأمة شَيْئا مَا تكلفته الْأُمَم قبلهَا وَلَقَد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فِيهَا فَمَا زَالَت هَذِه الْأمة يمسحونه حَتَّى اخلولق وانمحى.
    ..........

  13. #233
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأحد
    الموافق : 28/ ذو القعدة /1441 هجري
    الموافق : 19/ يوليو / 2020 ميلادي

    (4/151)
    أثر ابْن عَبَّاس: الْفرق حَيْثُ قَالَ: إِن كَانَ رطبا فاغسله وَإِن كَانَ يَابسا فَلَا،أَي: فَلَا يَضرك وَطْؤُهُ
    ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح،وَقَالَ فِي آخِره: وَإِن كَانَ يَابسا لم يضرّهُ.
    ........
    (4/152)
    جزم النَّوَوِيّ بِالْمَنْعِ فِي كل حَالَة دَاخل الصَّلَاة وخارجها، وَسَوَاء كَانَ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره،وَنقل عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا بَأْس بِهِ خَارج الصَّلَاة، وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن مَسْعُود أَنه كره أَن يبصق عَن يَمِينه وَلَيْسَ فِي الصَّلَاة. وَعَن معَاذ بن جبل،قَالَ: مَا بصقت عَن يَمِيني مُنْذُ أسلمت، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه نهى ابْنه عَنهُ مُطلقًا، وَهَذِه كلهَا تشهد للْمَنْع مُطلقًا. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: النَّهْي عَن البصاق عَن الْيَمين فِي الصَّلَاة إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَان غَيره، فَإِن تعذر فَلهُ ذَلِك. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِن كَانَ عَن يسَاره وَاحِد فَلَا يبزق فِي وَاحِد من الْجِهَتَيْنِ، لَكِن تَحت
    قدمه أَو ثَوْبه،وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن طَارق بن عبد االمحاربي قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا قَامَ الرجل إِلَى الصَّلَاة، أَو إِذا صلى أحدكُم، فَلَا يبزق أَمَامه وَلَا عَن يَمِينه، وَلَكِن عَن تِلْقَاء يسَاره إِن كَانَ فَارغًا، أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى ثمَّ ليقل بِهِ) . وَهَذَا الحَدِيث يُؤَيّد مَا قَالَه الْخطابِيّ
    ........
    (4/153)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بدفن البزاق، فالجمهور على أَنه الدّفن فِي تُرَاب الْمَسْجِد ورمله وحصائه إِن كَانَت فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء وإلاَّ يُخرجهُ. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (من دخل هَذَا الْمَسْجِد فبزق فِيهِ أَو تنخم فليحفر فليدفنه. فَإِن لم يفعل فليبزق فِي ثَوْبه ثمَّ ليخرج بِهِ)
    ن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (البزاق فِي الْمَسْجِد خطية وكفارته دَفنه) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا فِي غير الْمَسْجِد، وَأما الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَلَا يبزق إلاَّ فِي ثَوْبه، ورد عَلَيْهِ بِأَحَادِيث كَثِيرَة إِن ذَلِك كَانَ فِي الْمَسْجِد، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن: (من تنخم فِي الْمَسْجِد فليغيب نخامته أَن تصيب جلد مُؤمن أَو ثَوْبه فتؤذيه) . وروى أَحْمد أَيْضا، وَالطَّبَرَانِي ّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا،قَالَ: (من تنخع فِي الْمَسْجِد فَلم يدفنه فسيئة، وَإِن دَفنه فحسنة) . وَفِي حَدِيث مُسلم عَن ابي ذَر: (وَوجدت فِي مساوىء أَعمال أمتِي النخامة تكون فِي الْمَسْجِد وَلَا تدفن) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَلم يثبت لَهَا حكم السَّيئَة بِمُجَرَّد إيقاعها فِي الْمَسْجِد، بل بِهِ وبتركها غير مدفونة،وروى سعيد بن مَنْصُور: (عَن أبي عُبَيْدَة أَنه تنخم فِي الْمَسْجِد لَيْلَة فنسي أَن يدفنها حَتَّى رَجَعَ إِلَى منزله، فَأخذ شعلة من نَار ثمَّ جَاءَ فطلبها حَتَّى دَفنهَا،ثمَّ قَالَ: الْحَمد الَّذِي لم يكْتب عليَّ خَطِيئَة اللَّيْلَة)
    ......
    (4/158)
    لْمُسَابقَة وَهِي السَّبق الَّذِي يشْتَرك فِي الِاثْنَان، وَبَاب المفاعلة يَقْتَضِي ذَلِك، وَالْخَيْل الَّتِي أضمرت هِيَ الَّتِي كَانَت الْمُسَابقَة بَينهَا، وَكَانَ فرس النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم،بَينهَا يُسمى: السكب، وَكَانَ أغر محجلاً طلق الْيَمين لَهُ مسحة، وَهُوَ أول فرس ملكه، وَأول فرس غزا عَلَيْهِ، وَاشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني فَزَارَة بِعشر أَوَاقٍ،وَكَانَ إسمه عِنْد الْأَعرَابِي: الضرس،فَسَماهُ رَسُول اصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: السكب، وسابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح بِهِ، وَهُوَ أول فرس سَابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح الْمُسلمُونَ بِهِ
    ..........
    (4/159)
    جَوَاز الْمُسَابقَة بَين الْخُيُول وَجَوَاز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدادها لذَلِك لينْتَفع بهَا عِنْد الْحَاجة فِي الْقِتَال كراً وفراً، وَهَذَا إِجْمَاع، وَعَن الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا سنة،وَقيل: مُبَاح، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يفعلونها فأقرها الْإِسْلَام، وَلَا يخْتَص جَوَازهَا بِالْخَيْلِ، خلافًا لقوم، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ بِغَيْر رهان،وَالْفُقَهَاء شرطُوا فِيهَا شُرُوطًا مِنْهَا: جَوَاز الرِّهَان من جَانب وَاحِد، وَمن الْجَانِبَيْنِ قمار إلاَّ بِمُحَلل، وَقد علم فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على جَوَاز ذَلِك وَلَا على مَنعه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه سَابق بَين الْخَيل على حلل أَتَتْهُ من الْيمن، فَأعْطى السَّابِق ثَلَاث حلل وَأعْطى الثَّانِي حلتين وَالثَّالِث حلَّة وَالرَّابِع دِينَارا، وَالْخَامِس درهما، وَالسَّادِس فضَّة. وَقَالَ: (بَارك افيك. وَفِي كلكُمْ وَفِي السَّابِق والفسكل) . قلت: الفسكل،بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره اللَّام: وَهُوَ الَّذِي يَجِيء فِي الجلبة آخر الْخَيل.
    ..........
    (4/160)
    ذكر أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فِي غَرِيب الحَدِيث تأليفه فِي هَذَا أَنه لما خرج رأى أقناء معلقَة فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَمر بَين كل حَائِط بقنو يعلق فِي الْمَسْجِد ليَأْكُل مِنْهُ من لَا شَيْء لَهُ وَقَالَ ثَابت فِي كتاب الدَّلَائِل وَكَانَ عَلَيْهَا على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْتهى
    .............
    (4/161)
    أما الْبَحْرين فَهُوَ تَثْنِيَة بَحر فِي الأَصْل وَهِي بَلْدَة مَشْهُورَة بَين الْبَصْرَة وعمان وَهِي هجر وَأَهْلهَا عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل بَينهَا وَبَين الْبَصْرَة أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ فرسخا. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ لما صَالح أَهله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَزعم أَبُو الْفرج فِي تَارِيخه أَنَّهَا رِيبَة وَأَن ساكنيها معظمهم مطحولون وَأنْشد
    (وَمن يسكن الْبَحْرين يعظم طحاله ... ويغبط بِمَا فِي جَوْفه وَهُوَ ساغب)
    ..........
    (4/164)
    وَقَالَ الْمُهلب: الصَّحِيح أَن الْقَاذِف: عُوَيْمِر، وَالَّذِي ذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس من قَوْله الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا فِي قَول عبد اللَّه بن مَسْعُود، وَكَانَ رجلا، وهلال بن أُميَّة خطأ، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل على ذَلِك توقفه فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل عَلَيْهِ فِي الأولى. قلت: كَأَنَّهُ تبع فِي هَذَا الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال بن أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن زيد بن الْجد بن عجلَان. وَفِيمَا قَالَاه نظر لِأَن قَضِيَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي موضِعين: الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس. وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّحِيح أَن هلالاً لَا عَن قبل عُوَيْمِر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي. الْأَكْثَرُونَ على أَن قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل) لِابْنِ الصّباغ قصَّة هِلَال، تبين أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا.

    ...........
    (4/164)
    ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا لأجل جَوَاز الْقُضَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ جَائِز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء،وَقَالَ مَالك: جُلُوس القَاضِي فِي الْمَسْجِد للْقَضَاء من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ،وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ من مضى من الْقَضَاء لَا يَجْلِسُونَ إلاَّ فِي رحاب الْمَسَاجِد خَارِجا. وَقَالَ أَشهب: لَا بَأْس أَن يقْضِي فِي بَيته أَو حَيْثُ أحب، وَاسْتحبَّ بَعضهم الرحاب، وَفِي (المعونة) : الأولى أَن يقْضِي فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ شُرَيْح وَابْن أبي ليلى يقضيان فِيهِ، وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب كَرَاهِيَة ذَلِك،قَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء مَا تركت اثْنَيْنِ يختصمان فِي الْمَسْجِد. وَعَن الشَّافِعِي كراهيته فِي الْمَسْجِد إِذا أعده لذَلِك دون مَا إِذا انفقت لَهُ حُكُومَة فِيهِ،إِذْ فِيهِ حَدِيث: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ رفع أَصْوَاتكُم وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَلَا يعْتَرض على هَذَا بِاللّعانِ لِأَنَّهَا أَيْمَان وَيُرَاد بهَا التَّرْهِيب ليرْجع الْمُبْطل.
    قلت: قَالَ أَصْحَابنَا جَمِيعًا: وَالْمُسْتَحب أَن يجلس فِي مجْلِس الحكم فِي الْجَامِع، فَإِن كَانَ مَسْجِدا
    بِجنب دَاره فَلهُ ذَلِك، وَإِن قضى فِي دَاره جَازَ، وَالْجَامِع أرْفق الْمَوَاضِع بِالنَّاسِ وأجدر أَن لَا يخفى على أحد جُلُوسه وَلَا يَوْم حكمه، وَقد كَانَ الشّعبِيّ يقْضِي فِي الْجَامِع، وَشُرَيْح يقْضِي فِي الْمَسْجِد ويخطب بِالسَّوَادِ، وَقد قضى النَّبِي فِي مَسْجده بَين الْأَنْصَار فِي مَوَارِيث تقادمت، وَكَانَت الْأَئِمَّة يقضون فِي الْمَسَاجِد، وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنهُ فِي الْحر يُقيم فِي الْمَسْجِد وَقضى بَين سقا وخصم لَهُ فِي الْمَسْجِد، وَإِن حضر فِي الْمَسْجِد لغير الحكم فَحَضَرَ خصمان لم يكره لَهُ أَن يحكم بَينهمَا،وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: لَا يقْعد القَاضِي فِي الْمَسْجِد يدْخل فِيهِ الْمُشْركُونَ، فَإِنَّهُم نجس، وتلا الْآيَة. وَكَانَ يحيى بن يعمر فِي الطَّرِيق،وقصده رجل إِلَى منزله فَقَالَ: القَاضِي لَا يُؤْتى فِي منزله.
    ........
    (4/172)
    وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا أحسن من الَّذِي يُقَال: إِن ذكر كلمة: هَل، هَهُنَا لَيْسَ لَهُ مَحل،لِأَن عَادَته إِنَّمَا يذكر: هَل، إِذا كَانَ حكم الْبَاب فِيهِ خلاف، وَلَيْسَ هَهُنَا خلاف، وَلم أَرَ شارحاً هُنَا شفى العليل وَلَا أروى الغليل،وَقد فسر بَعضهم بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟بقوله: أَي: دون غَيرهَا من قُبُور الْأَنْبِيَاء وأتباعهم،قلت: هَذَا تَفْسِير عَجِيب مُسْتَفَاد من سوء التَّصَرُّف، لِأَن مَعْنَاهُ ظَاهر، وَهُوَ جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم فيستفاد مِنْهُ عدم جَوَاز نبش قُبُور غَيرهم سَوَاء كَانَت قُبُور الْأَنْبِيَاء أَو قُبُور غَيرهم من الْمُسلمين لما فِيهِ من الإهانة لَهُم، فَلَا يجوز ذَلِك، لِأَن حُرْمَة الْمُسلم لَا تَزُول حَيا وَمَيتًا، فَإِن كَانَ هَذَا الْقَائِل اعْتمد فِي هَذَا التَّفْسِير على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر النبش وَهُوَ ظَاهر، وانما فِيهِ أَنهم إِذا مَاتَ فيهم رجل صَالح يبنون على قَبره مَسْجِدا ويصورون فِيهِ تصاوير، وَلَا يلْزم من ذَلِك النبش، لِأَن بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر من غير نبش مُتَصَوّر
    ...........
    (4/173)
    وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار،وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ: مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.

    .........
    (4/174)
    (كَنِيسَة) بِفَتْح الْكَاف، وَهِي معبد النَّصَارَى. وَفِي مَوضِع آخر: يُقَال لَهَا مَارِيَة،والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة،وبتشديدها: القطاة الملساء.
    .........
    (4/175)
    قَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بورود النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول. وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِي ّ، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع من تيرماه، وَمن شهور الرّوم الْعَاشِرَة من أيلول سنة سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لذِي القرنين،وَقَالَ الْخَوَارِزْمِي ّ: من حِين ولد إِلَى حِين أسرِي بِهِ: أحد وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ يَوْمًا،وَمِنْه إِلَى الْيَوْم الَّذِي هَاجر: سنة وشهران وَيَوْم، فَذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس.
    .......
    (4/175)
    وَبَنُو النجار هم بَنو تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الجموح، والنجار قبيل كَبِير من الْأَنْصَار، مِنْهُ بطُون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هُوَ النجار، سمي بذلك لِأَنَّهُ اختتن بقدوم،
    كره الْكَلْبِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا طلب بني النجار لأَنهم كَانُوا أَخْوَاله، لِأَن هاشماً جده تزوج سلمى بنت عَمْرو بن زيد من بني عدي بن النجار بِالْمَدِينَةِ فَولدت لَهُ عبد الْمطلب
    ........
    (4/176)
    وَفِي (شرف الْمُصْطَفى) : لما نزلت النَّاقة عِنْد دَار أبي أَيُّوب جعل جَبَّار ابْن صَخْر ينخسها بِرجلِهِ،فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: يَا جَبَّار، أعن منزلي تنخسها؟أما وَالَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ لَوْلَا الْإِسْلَام لضربتك بِالسَّيْفِ قلت: جَبَّار بن صَخْر بن أُميَّة بن خنساء السّلمِيّ،وَيُقَال: جَابر بن صَخْر الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وَهُوَ صَحَابِيّ كَبِير،روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي سعد الخطمي سمع جَبَّار بن عبد اللَّه قَالَ: (صليت خلف رَسُول الله أَنا وَجَابِر بن صَخْر فأقامنا خَلفه) . وَالصَّحِيح: أَن اسْمه: جَبَّار بن صَخْر. وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي كتاب (الْمُبْتَدَأ وقصص الْأَنْبِيَاء) ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،تأليفه: أَن تبعا وَهُوَ ابْن حسان لما قدم مَكَّة قبل مولد رَسُول ا، بِأَلف عَام، وَخرج مِنْهَا إِلَى يثرب وَكَانَ مَعَه أَربع مائَة رجل من الْحُكَمَاء، فَاجْتمعُوا وتعاقدوا على أَن لَا يخرجُوا مِنْهَا،وسألهم تبع عَن سر ذَلِك فَقَالُوا: إِنَّا نجد فِي كتبنَا أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد هَذِه دَار مهاجره، فَنحْن نُقِيم لَعَلَّ أَن نَلْقَاهُ، فَأَرَادَ تبع الْإِقَامَة مَعَهم، ثمَّ بني لكل وَاحِد من أُولَئِكَ دَار، وَاشْترى لَهُ جَارِيَة وَزوجهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَالا جزيلاً،وكتاباً فِيهِ إِسْلَامه
    وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: اسْمه تبان أسعد أَبُو كرب، وَهُوَ الَّذِي كسى الْبَيْت الْحَرَام، وَفِي (مغايص الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (لَا تسبوا تبعا) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي اتعالى عَنهُ،إِنَّه قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده.
    وَقَالَ ابْن سِيرِين: هُوَ أول من كسى الْبَيْت وَملك الدُّنْيَا والأقاليم بأسرها،وَحكى الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: كَانَ إِذا عرض الْخَيل قَامُوا صفا من دمشق إِلَى صنعاء، وَهَذَا بعيد إِن أَرَادَ بِهِ صنعاء الْيمن، لِأَن بَينهَا وَبَين دمشق أَكثر من شَهْرَيْن، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بهَا صنعاء دمشق، وَهِي قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة

    ..........
    (4/177)
    قد اخْتلف العروضيون وَأهل الْأَدَب فِي الرجز هَل هُوَ شعر أم لَا، مَعَ اتِّفَاق أَكْثَرهم على أَن الرجز لَا يكون شعرًا،وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ من النَّبِي من ذَلِك: لِأَن الشّعْر حرَام عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ القرطبى: الصَّحِيح فِي الرجز أَنه من الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرجه من الشّعْر من أشكل عَلَيْهِ إنشاد النَّبِي إِيَّاه،فَقَالَ: لَو كَانَ شعرًا لما علمه. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن من أنْشد الْقَلِيل من الشّعْر أَو قَالَه أَو تمثل بِهِ على وَجه الندور لم يسْتَحق اسْم شَاعِر،وَلَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه يعلم الشّعْر، وَلَا ينْسب إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يُطلق على الرجز شعرًا،إِنَّمَا هُوَ كَلَام مرجز مسجع بِدَلِيل أَنه يُقَال لصانعه: راجز،وَلَا يُقَال: شَاعِر. وَيُقَال: أنْشد رجزاً وَلَا يُقَال أنْشد شعرًا. وَقيل: أَن مَا قَالَه الشَّاعِر لَيْسَ برجز وَلَا مَوْزُون، وَقد اخْتلف هَل يحل لَهُ الشّعْر؟ فعلى القَوْل بِنَفْي الْجَوَاز هَل يحْكى بَيْتا وَاحِدًا؟فَقيل: لَا يتمه إلاَّ متغيراً وَأبْعد من قَالَ: الْبَيْت الْوَاحِد لَيْسَ بِشعر، وَلما ذكر قَول طرفه
    ..........
    (4/179)
    قَالَت الْفُقَهَاء: إِذا دفن الْمُسلم فِي أَرض مَغْصُوبَة يجوز إِخْرَاجه فضلا عَن الْمُشرك، وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ دعت الضَّرُورَة وَالْحَاجة إِلَى نبشهم فَجَاز،فَإِن قلت: هَل يجوز فِي هَذَا الزَّمَان نبش قُبُور الْكفَّار ليتَّخذ مَكَانهَا مَسَاجِد؟قلت: أجَاز ذَلِك قوم محتجين بِهَذَا الحَدِيث،وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي قَالَ: هَذَا قبر أبي رِغَال،وَهُوَ: أَبُو ثَقِيف، وَكَانَ من ثَمُود وَكَانَ بِالْحرم يدْفع عَنهُ، فَلَمَّا خرج أَصَابَته النقمَة فَدفن بِهَذَا الْمَكَان، وَآيَة ذَلِك أَنه دفن مَعَه غُصْن من ذهب فابتدر النَّاس فنبشوه وَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن،قَالُوا: فَإِذا جَازَ نبشها لطلب المَال فنبشها للِانْتِفَاع بمواضعها أولى، وَلَيْسَت حرمتهم موتى بأعظم مِنْهَا وهم أَحيَاء، بل هُوَ مأجور فِي ذَلِك، وَإِلَى جَوَاز نبش قُبُورهم لِلْمَالِ ذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَشْهَب بِهَذَا الحَدِيث،وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يفعل،لِأَن رَسُول الله لما مر بِالْحجرِ قَالَ: (لَا تدْخلُوا بيُوت الَّذين ظلمُوا إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) . فَنهى أَن يدْخل عَلَيْهِم بُيُوتهم، فَكيف قُبُورهم؟وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قد أَبَاحَ دُخُولهَا على وَجه الْبكاء
    ............
    (4/183)
    حكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم أَنهم لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن أنس أَنه صلى وَبَينه وَبَين الْقبْلَة بعير عَلَيْهِ محمله وروى أَيْضا الاستتار بالبعير عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَالْأسود بن يزِيد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالقَاسِم وَسَالم وَعَن الْحسن لَا بَأْس أَن يسْتَتر بالبعير وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي الاستذكار لَا أعلم فِيهِ أَي فِي الاستتار بالراحلة خلافًا وَقَالَ ابْن حزم من منع من الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَهُوَ مُبْطل
    ....
    (4/185)
    وَقَالَ ابْن بطال: الصَّلَاة جَائِزَة إِلَى كل شَيْء إِذا لم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ وَقصد بهَا اتعالى، وَالسُّجُود لوجهه خَالِصا. وَلَا يضرّهُ اسْتِقْبَال شَيْء من المعبودات وَغَيرهَا، كَمَا لم يضر النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَآهُ فِي قبلته من النَّار
    ...........
    (4/185)
    وَزعم ابْن التِّين وَغَيره: أَن بعض اللغويين قَالَ: لَا يُقَال فِي الشَّمْس إلاَّ كسفت، وَفِي الْقَمَر إلاَّ خسف، وَذكر هَذَا عَن عُرْوَة بن الزبير أَيْضا، وَحكى عِيَاض عَن بعض أهل اللُّغَة عَكسه، وَهَذَا غير جيد،لقَوْله تَعَالَى: {وَخسف الْقَمَر} (الْقِيَامَة: 8) . وَعند ابْن طريف: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْوُجُوه كسوفاً،
    يعًا،كلهم حكوا عَن النَّبِي: (لَا ينكسفان) ، بِالْكَاف، فَسُمي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر كسوفاً.


    ......
    (4/188)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ أوطاتاً للنوم لَا تصلونَ فِيهَا، فَإِن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ: وَأما من أَوله على النَّهْي عَن دفن الْمَوْتَى فِي الْبيُوت فَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد دفن رَسُول الله فِي بَيته الَّذِي كَانَ يسكنهُ أَيَّام حَيَاته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ شَيْء فِيهِ نظر، وَدفن رَسُول الله فِيهِ لَعَلَّه من خَصَائِصه،سِيمَا وَقد رُوِيَ: (الْأَنْبِيَاء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر مَرْفُوعا: (مَا قبض نَبِي إلاَّ دفن حَيْثُ يقبض) . وَفِي إِسْنَاده: حُسَيْن بن عبد اللَّه الْهَاشِمِي، وَهُوَ ضَعِيف، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل) وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) من طَرِيق سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ: (عَن أبي بكر الصّديق،رَضِي اتعالى عَنهُ أَنه: قيل لَهُ: وَأَيْنَ يدْفن رَسُول ا؟قَالَ: فِي الْمَكَان الَّذِي قبض افيه روحه، فَإِنَّهُ لم يقبض روحه إلاَّ فِي مَكَان طيب) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح وَلكنه مَوْقُوف، وَحَدِيث ابْن مَاجَه أَكثر تَصْرِيحًا فِي الْمَقْصُود.
    وَقَالَ بَعضهم: وَإِذا حمل دَفنه فِي بَيته على الِاخْتِصَاص لم يبعد نهي غَيره عَن ذَلِك، بل هُوَ مُتَّجه لِأَن اسْتِمْرَار الدّفن فِي الْبيُوت رُبمَا يصيرها مَقَابِر فَتَصِير الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة. وَلَفظ أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم أصرح من حَدِيث
    ........
    (4/188)
    وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا صلى الرجل مَعَ الرجل فهما جمَاعَة، وَلَهُمَا التَّضْعِيف خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، وَرُوِيَ أَن إِسْحَاق وَأحمد وَعلي بن الْمدنِي اجْتَمعُوا فِي دَار أَحْمد فَسَمِعُوا النداء، فَقَالَ أحدهم أخرج بِنَا إِلَى الْمَسْجِد،فَقَالَ أَحْمد: خروجنا إِنَّمَا هُوَ للْجَمَاعَة وَنحن جمَاعَة،فأقاموا الصَّلَاة وصلوا فِي الْبَيْت: وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم كَانُوا لَا يتطوعون فِي الْمَسْجِد، مِنْهُم حُذَيْفَة والسائب بن يزِيد وَالربيع بن خثيم وسُويد بن غلفة، وَمن هَذَا أَخذ علماءونا أَن الْأَفْضَل فِي غير الْفَرَائِض الْمنزل،وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ يرفعهُ: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبوراً) ،وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم عَن ولد ذِي الجناحين حَدثنِي عَليّ بن عمر عَن أَبِيه جَعْفَر الطيار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده يرفعهُ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا بُيُوتكُمْ قبوراً) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا أَبُو بكرَة قَالَ: حدّثنا أَبُو الْمطرف بن أبي الْوَزير قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن مُوسَى عَن سعيد بن إِسْحَاق عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الْمغرب فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فَلَمَّا فرغ رأى النَّاس يسبحون،فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هَذِه الصَّلَاة فِي الْبيُوت)
    ..........
    (4/189)
    وَقَالَ الْجَوْهَرِي: بابل، اسْم مَوضِع بالعراق ينْسب إِلَيْهِ السحر وَالْخمر،وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا ينْصَرف لتأنيثه، وَذَلِكَ أَن اسْم كل شَيْء مؤنث إِذا كَانَ أَكثر من ثَلَاثَة أحرف فَإِنَّهُ لَا ينْصَرف فِي الْمعرفَة،وَقَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: بنى نمْرُود المجدل،أَي: الْقصر بهَا، وَطوله فِي السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع، وَهُوَ الْبُنيان الَّذِي ذكره اتعالى فِي كِتَابه الْعَزِيز،بقوله تَعَالَى: {فَأتى ابنيانهم من الْقَوَاعِد} (النَّحْل: 62) وَبَات النَّاس ولسانهم سرياني فَأَصْبحُوا وَقد تَفَرَّقت لغاتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا، كل يتبلبل بِلِسَانِهِ، فَسمى الْموضع بابلاً. وَقَالَ الْهَمدَانِي: وَرُبمَا سموا الْعرَاق بابلاً، قَالَ عمر بن أبي ربيعَة،وأتى الْبَصْرَة فضافه ابْن الْهلَال الْمَعْرُوف بصديق الْجِنّ:
    (يَا أهل بابل مَا نفست عَلَيْكُم ... من عيشكم إلاَّ ثَلَاث خلال)
    وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره: بابل، اسْم قَرْيَة أَو مَوضِع من مَوَاضِع الأَرْض، وَقد اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِيهَا، فَقَالَ بَعضهم،وَهُوَ السّديّ: هِيَ بابل دنباوند،وَقَالَ بَعضهم: بل ذَلِك بالعراق، ورد ذَلِك فِي حَدِيث مَرْوِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا
    ........
    (4/190)
    وَاعْلَم أَنه قد وَردت أَحَادِيث فِيهَا النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع،مِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر،رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله نهى أَن يصلى فِي سَبْعَة مَوَاطِن: فِي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطَّرِيق وَفِي الْحمام وَفِي معاطن الْإِبِل وَفَوق ظهر بَيت ا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يصلى فِيهَا ثَلَاثَة عشر موضعا،فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة وَزَاد: إِلَى الْمقْبرَة. وأمامك جِدَار مرحاض عَلَيْهِ نَجَاسَة والكنيسة والبيعة وَفِي قبلتك تماثيل وَفِي دَار الْعَذَاب. وَذكر غَيره، الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَإِلَى النَّائِم والمتحدث، وَالصَّلَاة فِي بطن الْوَادي وَالصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار، فَصَارَت الْجُمْلَة ثَمَانِيَة عشر موضعا.

    ..............
    (4/191)
    وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : إِن ابْن عَبَّاس كره الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة إِذا كَانَت فِيهَا تصاوير، وَلم ير الشّعبِيّ وَعَطَاء وَابْن أبي رَبَاح بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَة والبيعة بَأْسا وَكَذَلِكَ ابْن سِيرِين، وَصلى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْكَنِيسَة.

    .......
    (4/191)
    قَالَ الْخطابِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الدَّاخِل فِي ديار الْقَوْم الَّذين أهلكوا بخسف وَعَذَاب، إِذا دَخلهَا فَلم يجلب عَلَيْهِ مَا يرى من آثَار مَا نزل بهم بكاء، وَلم يبْعَث عَلَيْهِ حزنا إِمَّا شَفَقَة عَلَيْهِم وَإِمَّا خوفًا من حُلُول مثلهَا بِهِ، فَهُوَ قاسي الْقلب قَلِيل الْخُشُوع غير مستشعر للخوف والوجل، فَلَا يَأْمَن إِذا كَانَ حَاله كَذَلِك أَن يُصِيبهُ مَا أَصَابَهُم،وَهُوَ معنى قَوْله: (لَا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم) .
    .........
    (4/194)
    جَاءَ فِي رِوَايَة عَن عِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ أَن الثَّلَاثَة الَّذين أَتَوا إِلَى أنطاكية الْمَذْكُورين فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} (يس: 41) كَانُوا رسلًا من اتعالى وهم: صَادِق وصدوق وشلوم، وَعَن قَتَادَة إِنَّهُم كَانُوا رسلًا من عِيسَى، فعلى هَذَا لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فضلا عَن أَن يَكُونُوا رسلًا من اتعالى، وَأما مَرْيَم فَزعم ابْن حزم وَآخَرُونَ أَنَّهَا نبية، وَكَذَلِكَ سارة أم إِسْحَاق وَأم مُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعند الْجُمْهُور،كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَغَيره من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة: أَن النُّبُوَّة مُخْتَصَّة بِالرِّجَالِ وَلَيْسَت فِي النِّسَاء نبية.

    ............
    (4/196)
    الَ ابْن بطال فِيهِ أَن من لم يكن لَهُ مسكن وَلَا مَكَان مبيت يُبَاح لَهُ الْمبيت فِي الْمَسْجِد سَوَاء كَانَ رجلا أَو امْرَأَة عِنْد حُصُول الْأَمْن من الْفِتْنَة وَفِيه اصطناع الْخَيْمَة وَشبههَا للمسكين رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَفِيه أَن السّنة الْخُرُوج من بَلْدَة جرت فِيهَا فتْنَة على الْإِنْسَان تشاؤما بهَا وَرُبمَا كَانَ الَّذِي جرى عَلَيْهِ من المحنة سَببا لخير إِرَادَة الله بهَا فِي غير تِلْكَ الْبَلدة كَمَا جرى لهَذِهِ السَّوْدَاء أخرجتها فتْنَة الوشاح إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ورؤية النَّبِي سيد الْأَنَام قَالَ الله تَعَالَى {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} وَفِيه فضل الْهِجْرَة من دَار الْكفْر
    ............
    (4/199)
    فِي البُخَارِيّ فِي كتاب الاسْتِئْذَان مَا كَانَ لعَلي اسْم أحب إِلَيْهِ من أبي تُرَاب وَإنَّهُ كَانَ يفرح إِذا دعِي بهَا. السَّابِع فِيهِ الْفَضِيلَة الْعَظِيمَة لعَلي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه
    .........
    (4/200)
    قَالَ سُهَيْل بن أبي صَالح:: عَن عَامر بن عبد ابْن الزبير عَن عَمْرو بن سليم عَن جَابر بن عبد ا، فَوَهم فِي ذكره جَابِرا. وَقَالَ الطوسي فِي (الْأَحْكَام) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدِيث سُهَيْل غير مَحْفُوظ. وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدِيث سُهَيْل خطأ. وَقَالَ ابْن مَاجَه: رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن سعيد عَن عَامر عَن أبي قَتَادَة وَهُوَ وهم. وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن أبي قَتَادَة رَفعه بِزِيَادَة: (قبل أَن يجلس أَو يستخبر) . وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) زِيَادَة من طَرِيق حَسَنَة: (أعْطوا الْمَسَاجِد حَقّهَا. قيل: يَا رَسُول اوما حَقّهَا؟قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) . وَزَاد أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: (وَإِذا دخل بَيته فَلَا يجلس حَتَّى يرْكَع رَكْعَتَيْنِ، فَإِن اعز وَجل جَاعل لَهُ من ركعتيه فِي بَيته خيرا) . وَقَالَ إِسْنَاده مُنكر،وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي: قَالَ البُخَارِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا، وَأنكر ذَلِك ابْن الْقطَّان. وَزعم أَنه لَا يَصح نسبته إِلَيْهِ.

    ...............
    (4/202)
    قَالَ ابْن بطال: اتّفق أَئِمَّة الْفَتْوَى أَنه مَحْمُول على النّدب والإرشاد مَعَ استحبابهم الرُّكُوع لكل من دخل الْمَسْجِد لما رُوِيَ: أَن كبار أَصْحَاب رَسُول الله يدْخلُونَ الْمَسْجِد ثمَّ يخرجُون وَلَا يصلونَ، وَأوجب أهل الظَّاهِر فرضا على كل مُسلم دَاخل فِي وَقت تجوز فِيهِ الصَّلَاة الرَّكْعَتَيْنِ ،وَقَالَ بَعضهم: وَاجِب فِي كل وَقت، لِأَن فعل الْخَيْر لَا يمْنَع مِنْهُ إلاَّ بِدَلِيل معَارض لَهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: من دخل الْمَسْجِد فِي أَوْقَات النَّهْي فَلَيْسَ بداخل فِي أمره بِالرُّكُوعِ عِنْد دُخُوله الْمَسْجِد،وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِي عدم الْوُجُوب بقوله للَّذي رَآهُ يتخطى: إجلس فقد آذيت، وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ. فَقَالَ السفاقسي: وفقهاء الْأَمْصَار حملُوا هَذَا على النّدب لقَوْله للَّذي سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة: (هَل على غَيرهَا؟قَالَ: إلاَّ أَن تطوع) . وَلَو قُلْنَا بوجوبهما لحرم على الْمُحدث الْحَدث الْأَصْغَر دُخُول الْمَسْجِد حَتَّى يتَوَضَّأ، وَلَا قَائِل بِهِ، فَإِذا جَازَ دُخُول الْمَسْجِد على غير وضوء لزم مِنْهُ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ سجودها عِنْد دُخُوله، فَإِن قصد دُخُول الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ سنة بِإِجْمَاع، فَإِن دخل وَقت كَرَاهَة يكره لَهُ أَن يُصَلِّيهمَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الشَّافِعِي، ومذهبه الصَّحِيح أَن لَا كَرَاهَة. وَا أعلم. وَقَالَ عِيَاض: وَظَاهر مَذْهَب مَالك أَنَّهُمَا من النَّوَافِل. وَقيل: من السّنَن، فَإِن دخل مجتازاً فَهَل يُؤمر بهما؟ خفف فِي ذَلِك مَالك،وَعَن بعض أَصْحَاب مَالك: إِن من تكَرر دُخُوله الْمَسْجِد سقطتا عَنهُ،
    ..........
    (4/203)
    قَالَ السفاقسي: الْحَدث فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة يحرم بِهِ الْمُحدث اسْتِغْفَار الْمَلَائِكَة، وَلما لم يكن للْحَدَث فِيهِ كَفَّارَة ترفع
    أَذَاهُ كَمَا يرفع الدّفن أَذَى النخامة فِيهِ عُوقِبَ بحرمان الاسْتِغْفَار من الْمَلَائِكَة لما آذاهم بِهِ من الرَّائِحَة الخبيثة. وَقَالَ ابْن بطال: من أَرَادَ أَن تحط عَنهُ ذنُوبه من غير تَعب فليغتنم مُلَازمَة مُصَلَّاهُ بعد الصَّلَاة ليستكثر من دُعَاء الْمَلَائِكَة واستغفارهم لَهُ،فَهُوَ مرجو إجَابَته لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} (الْأَنْبِيَاء: 82) . وَفِيه: بَيَان فَضِيلَة من انْتظر الصَّلَاة مُطلقًا سَوَاء ثَبت فِي مَجْلِسه ذَلِك من الْمَسْجِد أَو تحول إِلَى غَيره.
    ........
    (4/206)
    أَن السّنة فِي بينيان الْمَسَاجِد الْقَصْد وَترك الغلو فِي تشييدها خشيَة الْفِتْنَة والمباهاة ببنيانها، وَكَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، مَعَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت فِي أَيَّامه وتمكنه
    من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات، إلاَّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.
    قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم: وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه،وَقَول بعض أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد،مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب
    .......
    (4/209)
    اسْتِحْبَاب الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد فِي الْفِتْنَة أمأجور هُوَ أم مأزور؟ إلاَّ بِغَلَبَة الظَّن، وَلَو كَانَ مأّوراً لما استعاذ عمار من الْأجر.
    وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: رد للْحَدِيث الشَّائِع: (لَا تستعيذوا با من الْفِتَن فَإِن فِيهَا حِصَار المناقين) قلت: ويروى: (لَا تكْرهُوا الْفِتَن) ، وَلَكِن لم يَصح هَذَا، فَإِن عبد ابْن وهب قد سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ؛ إِنَّه بَاطِل.
    ..........
    (4/213)
    يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله " وَهَذِه الْجُمْلَة مدرجة مُعْتَرضَة وَقعت فِي الْبَين وَلم يجْزم بهَا بكير فَلذَلِك ذكرهَا بالحسبان وَلَيْسَت هَذِه الْجُمْلَة فِي رِوَايَة جَمِيع من روى هَذَا الحَدِيث فَإِن لَفظهمْ فِيهِ " من بني لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة " فَكَأَن بكير أنسى لَفْظَة الله فَذكرهَا بِالْمَعْنَى فَإِن معنى قَوْله " لله " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِخْلَاص ثمَّ إِن لَفْظَة يَبْتَغِي بِهِ على تَقْدِير ثُبُوتهَا فِي كَلَام الرَّسُول تكون حَالا من فَاعل بنى وَالْمرَاد بِوَجْه الله ذَات الله وابتغاء وَجه الله فِي الْعَمَل هُوَ الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن تكون نِيَّته فِي ذَلِك طلب مرضاة الله تَعَالَى من دون رِيَاء وَسُمْعَة حَتَّى قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ من كتب اسْمه على الْمَسْجِد الَّذِي يبنيه كَانَ بَعيدا من الْإِخْلَاص (فَإِن قلت) فعلى هَذَا لَا يحصل الْوَعْد الْمَخْصُوص لمن يبنيه بِالْأُجْرَةِ لعدم الْإِخْلَاص (قلت) الظَّاهِر هَذَا وَلكنه يُؤجر فِي الْجُمْلَة يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا " أَن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة الْجنَّة صانعه الْمُحْتَسب فِي صَنعته والرامي بِهِ والممد بِهِ " فَقَوله " الْمُحْتَسب فِي صَنعته " هُوَ من يقْصد بذلك إِعَانَة الْمُجَاهِد وَهُوَ أَعم من أَن يكون مُتَطَوعا بذلك أَو بِأُجْرَة لَكِن الْإِخْلَاص لَا يكون إِلَّا من المتطوع
    .......
    (4/218)
    يهِ الدّلَالَة على أَن الشّعْر الْحق لَا يحرم فِي الْمَسْجِد، وَالَّذِي يحرم فِيهِ مَا فِيهِ الخناء والزور وَالْكَلَام السَّاقِط،يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححاً من حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ رَسُول الله ينصب لحسان منبراً فِي الْمَسْجِد فَيقوم عَلَيْهِ ويهجو الْكفَّار) . فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن عبد ابْن سعيد حدّثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (نهى رَسُول الله عَن تناشد الْأَشْعَار فِي الْمَسَاجِد) ،وَحسنه الحافظان: الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ ،وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث صَدَقَة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن عبد االشعبي عَن زفر بن وثيمة عَن حَكِيم بن حزَام مَرْفُوعا: (نهى النَّبِي أَن يستقاد فِي الْمَسْجِد، وَأَن تنشد فِيهِ الْأَشْعَار، وَأَن تُقَام فِيهِ الْحُدُود) .
    ..........
    (4/219)
    قَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِي ّ فِي (كتاب الْمَسَاجِد) : نهى عَن تناشد أشعار الْجَاهِلِيَّة والمبطلين فِيهِ، فَأَما أشعار الْإِسْلَام والمحقين فواسع غير مَحْظُور.
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي جَوَاز إنشاد الشّعْر مُطلقًا،فَقَالَ الشّعبِيّ وعامر بن سعد البَجلِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: لَا بَأْس بإنشاد الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء، وَلَا نكب عرض أحد من الْمُسلمين، وَلَا فحش. وَقَالَ مَسْرُوق بن الأجدع وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد اولحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب: تكره رِوَايَة الشّعْر وإنشاده،وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمر بن الْخطاب عَن رَسُول الله قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَالْبَزَّار والطَّحَاوِي،وروى مُسلم عَن سعد بن أبي وَقاص عَن النَّبِي قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلىء شعرًا)
    .......
    (4/225)
    1. بريرة !!!

    وَهِي بنت صَفْوَان، كَانَت لقوم من الْأَنْصَار، أَو مولاة لأبي أَحْمد ابْن جحش، وَقيل: مولاة لبَعض بني هِلَال، وَكَانَت قبطية.
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَرِيرَة مولاة لعَائِشَة كَانَت لعتبة بن أبي لَهب، قلت: ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي الصحابيات، وَقَالَ: يُقَال: إِن عبد الْملك بن مَرْوَان سمع مِنْهَا، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : من حَدِيث عبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ: (كنت أجالس بَرِيرَة بِالْمَدِينَةِ فَكَانَت تَقول لي: يَا عبد الْملك إِنِّي أرى فِيك خِصَالًا وَإنَّك لخليق أَن تلِي هَذَا الْأَمر، فَإِن وليته فاحذر الدُّنْيَا، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِن الرجل ليدفع عَن بَاب الْجنَّة بعد أَن ينظر إِلَيْهَا بملىء محجمة من دم يريقه من مُسلم بِغَيْر حق) . انْتهى.
    وَقد اخْتلف فِي اسْم زوج بَرِيرَة فَفِي (الصَّحِيح) : مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء، مُثَلّثَة، وَعَن الصريفيني عَن العسكري: معتب، بِعَين مُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَعند أبي، مُوسَى الْأَصْبَهَانِي ّ اسْمه: مقسم، وَا تَعَالَى أعلم....
    ...............
    (4/225)
    وَلَا يعْتق الْمكَاتب إِلَّا بأَدَاء الْكل عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء،لما روى أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته دِرْهَم) وروى الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) أخبرنَا ابْن أبي عُيَيْنَة عَن ابْن نجيح عَن مُجَاهِد أَن زيد ابْن ثَابت قَالَ فِي الْمكَاتب: (هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم) ، وَاخْتَارَهُ لمذهبه، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَفِيه اخْتِلَاف الصَّحَابَة. فمذهب ابْن عَبَّاس أَنه يعْتق كَمَا أَخذ الصَّحِيفَة من مَوْلَاهُ يَعْنِي؛ يعْتق بِنَفس العقد وَهُوَ غَرِيم الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة، وَمذهب ابْن مَسْعُود أَنه يعْتق إِذا أدّى قيمَة نَفسه، وَمذهب زيد مَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ مؤيد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور
    ي رِوَايَة البُخَارِيّ (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رَأَيْته عبدا) يَعْنِي: زوج بَرِيرَة، (كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة يبكي عَلَيْهَا ودموعه تسيل على لحيته، فَقَالَ النَّبِي لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: أَلا تعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن بغض بَرِيرَة مغيثاً؟ فَقَالَ النَّبِي: لَو راجعتيه قَالَت: يَا رَسُول اتأمرني؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنا أشفع. قَالَت: فَلَا حَاجَة لي فِيهِ)
    .......
    (4/226)
    وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: اخْتلفُوا فِي بيع الْمكَاتب عل ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَنْع، وَالْجَوَاز، وَالْفرق بَين أَن يَشْتَرِي لِلْعِتْقِ فَيجوز أَو للاستخدام فَلَا. أما من أجَاز بَيْعه فاستدل بِهَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ ثَبت أَن بَرِيرَة كَانَت مُكَاتبَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة: لَا يجوز بَيْعه، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة
    أَصْحَابه أَنه لَا يجوز بيع الْمكَاتب مَا دَامَ مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع مكَاتبه بِحَال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق يَقُول: يجوز بَيْعه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام.

    ..........
    (4/226)
    البيع بِالشّرطِ على ثَلَاثَة أوجه. الأول: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا جائزان، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: أَن كل شَرط يَقْتَضِيهِ العقد ويلائمه فَلَا يُفْسِدهُ بِأَن يَشْتَرِي أمة بِشَرْط أَن تخدمه أَو يَغْشَاهُ، أَو دَابَّة بِشَرْط أَن يركبهَا وَنَحْو ذَلِك. النَّوْع الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن يلائمه بِأَن يشْتَرط أَن يرهنه بِالثّمن رهنا، وَسَماهُ أَن يُعْطِيهِ كَفِيلا وَسَماهُ وَالْكَفِيل حَاضر فَقبله، وَكَذَلِكَ الْحِوَالَة، جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. النَّوْع الثَّالِث: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ: كالخيار وَالْأَجَل، أَو لم يرد الشَّرْع بِهِ وَلكنه مُتَعَارَف متعامل بَين النَّاس بِأَن اشْترى نعلا على أَن يحذوه البَائِع، أَو قلنسوة بِشَرْط أَن يبطنه. جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. الْوَجْه الثَّانِي: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا فاسدان، وَهُوَ كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَفِيه مَنْفَعَة لأَحَدهمَا أَو للمعقود عَلَيْهِ. بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع، أَو عبدا على أَن لَا يَبِيعهُ، وَكَذَا على أَن لَا يعتقهُ خلافًا للشَّافِعِيّ فِيهِ، فَإِن أعْتقهُ ضمن الثّمن اسْتِحْسَانًا عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا قِيمَته. الْوَجْه الثَّالِث: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة بل فِيهِ مضرَّة بِأَن بَاعَ ثوبا أَو دَابَّة بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ، أَو طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل وَلَا يَبِيع، جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة لأحد، بِأَن بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّالِث: كل شَرط يُوجب مَنْفَعَة لغير الْمُتَعَاقدين وَالْمَبِيع نَحْو: البيع بِشَرْط أَن يقْرض أَجْنَبِيّا لَا يفْسد البيع
    ......
    (4/230)
    وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: الحض على كنس الْمَسَاجِد وتنظيفها لِأَنَّهُ إِنَّمَا رخصه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بعد دَفنه من أجل ذَلِك، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كنس الْمَسْجِد.
    ........
    (4/233)
    الَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن رُؤْيَة الْجِنّ الْبشر غير مستحيلة، وَالْجِنّ أجسام لَطِيفَة والجسم، وَإِن لطف فدركه غير مُمْتَنع أصلا، وَأما قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) فَإِن ذَلِك حكم الْأَعَمّ الْأَغْلَب من أَحْوَال بني آدم، امتحنهم ابذلك وابتلاهم ليفزعوا إِلَيْهِ ويستعيذوا بِهِ من شرهم، وَيطْلبُونَ الْأمان من غائلتهم، وَلَا يُنكر أَن يكون حكم الْخَاص والنادر من المصطفين من عباده بِخِلَاف ذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَنْفِي رؤيتنا إيَّاهُم مُطلقًا، إِذْ الْمُسْتَفَاد مِنْهَا أَن رُؤْيَته إيانا مُقَيّدَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَلَا نراهم فِي زمَان رُؤْيَتهمْ لنا قطّ، وَيجوز رؤيتنا لَهُم فِي غير ذَلِك الْوَقْت.

    ..........
    (4/235)
    وَأما غير النَّبِي من النَّاس فَلَا يُمكن مِنْهُ وَلَا يرى أحد الشَّيْطَان على صورته غَيره لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم} (الْأَعْرَاف: 72) الْآيَة، لكنه يرَاهُ سَائِر النَّاس إِذا تشكل فِي غير شكله، كَمَا تشكل الَّذِي طعنه الْأنْصَارِيّ حِين وجده فِي بَيته على صُورَة حَيَّة، فَقتله فَمَاتَ الرجل بِهِ، فَبين النَّبِي ذَلِك بقوله: (إِن بِالْمَدِينَةِ جناً قد أَسْلمُوا، فَإِذا رَأَيْتُمْ من هَذِه الْهَوَام شَيْئا فاذنوه ثَلَاثًا، فَإِن بدا لكم فَاقْتُلُوهُ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
    ثمَّ اعْلَم أَن الْجِنّ يتصورون فِي صور شَتَّى، ويتشكلون فِي صور الْإِنْسَان والبهائم والحيات والعقارب وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَفِي صُورَة الطُّيُور. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَلَا قدرَة للشَّيْطَان على تَغْيِير خلقتهمْ والانتقال فِي الصُّور، إِنَّمَا يجوز أَن يعلمهُمْ اكلمات وَضَربا من ضروب الْأَفْعَال إِذا فعله وَتكلم بِهِ نَقله امن صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى، وَأما أَن يتَصَوَّر بِنَفسِهِ فَذَلِك محَال، لِأَن انتقالها من صُورَة إِلَى صُورَة إِنَّمَا يكون بِنَقْض البنية وتفريق الْأَجْزَاء، وَإِذا انتقضت بطلت الْحَيَاة، وَالْقَوْل فِي تشكل الْمَلَائِكَة كَذَلِك.

    .........
    (4/237)
    قَالَ الْمَدَائِنِي: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن. أما تهَامَة فَهِيَ النَّاحِيَة الجنوبية من الْحجاز، وَأما نجد فَهِيَ النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَأما الْحجاز فَهُوَ جبل سد من الْيمن حَتَّى يتَّصل بِالشَّام وَفِيه الْمَدِينَة وعمان، وَأما الْعرُوض فَهِيَ الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى أَن يشارف أَرض الْبَصْرَة فَهُوَ نجد، وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف، نجد، وَمَا كَانَ وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَينهمَا
    ..........
    (4/237)
    قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَنه أطلق ثُمَامَة لما علم أَنه آمن بِقَلْبِه وسيظهره بِكَلِمَة الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم يسلم تَحت الْأسر لعزة نَفسه، وَكَأن رَسُول الله أحس بذلك مِنْهُ، فَقَالَ: أَطْلقُوهُ، فَلَمَّا أطلق أسلم قلت: يرد هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه: (فَمر يَوْمًا فَأسلم فَحله) . فَهَذَا يُصَرح بِأَن إِسْلَامه كَانَ قبل إِطْلَاقه، فيعذر الْكرْمَانِي فِي هَذَا. لِأَنَّهُ قَالَ بِالِاحْتِمَالِ وَلم يقف على حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَكيف غفل عَن ذَلِك مَعَ كَثْرَة اطِّلَاعه فِي الحَدِيث؟

    ..........
    (4/238)
    وَقَالَ مَالك: إِذا أسلم النَّصْرَانِي فَعَلَيهِ الْغسْل، لأَنهم لَا يتطهرون. فَقيل: مَعْنَاهُ لَا يتطهرون من النَّجَاسَة فِي أبدانهم، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَيْهِم التطهر من الْجَنَابَة، وَإِن نووها لعدم الشَّرْع، وَقَالَ: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي، أمره بالاغتسال، وَلذَلِك قَالَ مَالك: لم يبلغنَا أَنه، أَمر أحدا أسلم بِالْغسْلِ. قلت: قد مر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار، وَفِيه: فَأمره أَن يغْتَسل. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) للحام: من حَدِيث عبد ابْن مُحَمَّد بن عقيل: عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: لما أسلمت أَمرنِي النَّبِي بالاغتسال. وَفِي (الْحِلْية) : لأبي نعيم عَن وَاثِلَة، قَالَ: (لما أسلمت قَالَ لي النَّبِي: غتسل بِمَاء وَسدر، واحلق عَنْك شعر الْكفْر) . وَفِي كتاب الْقُرْطُبِيّ: روى عبد الرَّحِيم بن عبيد ابْن عمر عَن أَبِيه عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل) . وروى مُسلم ابْن سَالم عَن أبي الْمُغيرَة عَن الْبَراء بن عَازِب. (أَن النَّبِي أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر)
    ..........
    (4/239)
    عد بن معَاذ أَبُو عَمْرو سيد الْأَوْس، بَدْرِي كَبِير. قَالَ أَبُو نعيم: مَاتَ فِي شَوَّال سنة خمس، وَكَذَا قَالَ ابْن إِسْحَاق، وَنزل فِي جنَازَته سَبْعُونَ ألف ملك مَا وطئوا الأَرْض قبل، واهتز لَهُ عرش الرَّحْمَن، وَفِي رِوَايَة: الْعَرْش فَإِن قلت: مَا وَجه اهتزاز الْعَرْش لَهُ؟ قلت: أُجِيب بأجوبه. الأول: أَنه اهتز استبشاراً بقدوم روحه. الثَّانِي: أَن المُرَاد اهتزاز حَملَة الْعَرْش، وَمن عِنْده من الْمَلَائِكَة. الثَّالِث: أَن المُرَاد بالعرش الَّذِي وضع عَلَيْهِ
    ........
    (4/239)
    قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره: يَعْنِي بالحيين: الْأَوْس والخزرج. وَكَانَ سعد من الْأَوْس، والبراء من الْخَزْرَج، وكل مِنْهُم لَا يقر بِفضل صَاحبه عَلَيْهِ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن سَعْدا والبراء كل مِنْهُمَا أوسي، وَإِنَّمَا أشكل عَلَيْهِم فِيمَا أرى أَنه رأى فِي نسب الْبَراء بن عَازِب بن الْحَارِث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وَسعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امريء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث الأوسي، فَظن أَن الْخَزْرَج الأول هُوَ أَبُو الخزرجيين، فَفرق بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْخَزْرَج أَبُو الحارثيين الْمَذْكُورين فِي نسبهما، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس بن حَارِثَة، كَذَا ذكر نسبهما بن سعد وَابْن إِسْحَاق وَخَلِيفَة فِي الآخرين.
    ..........
    (4،241)
    أَن الْمقَام كَانَ حِينَئِذٍ مُلْصقًا بِالْبَيْتِ قبل أَن يَنْقُلهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من ذَلِك الْمَكَان إِلَى صحن الْمَسْجِد انْتهى
    ......
    (4/242)
    دلَالَة ظَاهِرَة لكرامة الْأَوْلِيَاء وَلَا شكّ فِيهِ. وَفِيه رد على من يُنكر ذَلِك وَقد وَقع مثل هَذَا قَدِيما وحديثا. أما قَدِيما فَمن ذَلِك مَا ذكره ابْن عَسَاكِر وَغَيره " عَن قَتَادَة بن النُّعْمَان أَنه خرج من عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِيَدِهِ عرجون فأضاء العرجون " وَفِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَيْمُون بن زيد بن أبي عبس حَدثنِي أبي " أَن أَبَا عبس كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَوَات ثمَّ يرجع إِلَى بني حَارِثَة فَخرج فِي لَيْلَة مظْلمَة مطيرة فنورت لَهُ عَصَاهُ حَتَّى دخل دَار بني حَارِثَة " وَمن حَدِيث كثير بن زيد عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه قَالَ " كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنفرنا فِي لَيْلَة مظْلمَة فَأَضَاءَتْ أصابعي حَتَّى جمعُوا عَلَيْهَا ظهْرهمْ وَمَا هلك مِنْهُم وَإِن أصابعي لتنير " وَفِي لفظ " نفرت دوابنا وَنحن فِي مشقة " الحَدِيث. وَأما حَدِيثا فَمن ذَلِك مَا ثَبت بالتواتر عَن جمَاعَة من طلبة الْعلم الثِّقَات أَنهم كَانُوا مَعَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة حسان الدّين الرهاوي مُصَنف الْبَحْر وَغَيره فِي وَلِيمَة بِمَدِينَة عينتاب وَكَانَت فِي لَيْلَة مظْلمَة شَاتِيَة فَلَمَّا تفَرقُوا أَرَادَ جمَاعَة أَن ينوروا على الشَّيْخ إِلَى بَاب دَاره لشدَّة الظلمَة فَمَا رَضِي بذلك فَرَجَعُوا وَتَبعهُ جمَاعَة من بعد فَقَالُوا وهم يحلفُونَ أَنهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس أَحدهمَا عَن يَمِين الشَّيْخ وَالْآخر عَن يسَاره فَلم يَزَالَا مَعَه إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب دَاره فَلَمَّا فتح الْبَاب وَدخل الشَّيْخ ارْتَفع النوران وَلَقَد أخبروا عَنهُ بكرامات أُخْرَى غير ذَلِك وَهُوَ أحد مشايخي الَّذين أخذت عَنْهُم الْعلم وانتفعت بهم
    .............
    (4/245)
    وَزعم السفاقسي أَنه كَانَ اتخذ خَلِيلًا من الْمَلَائِكَة. وَلِهَذَا قَالَ: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا من أمتِي) . انْتهى يردة قَوْله: (وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي) ،
    ........
    (4/246)
    لَ الْخطابِيّ: وَلَا أعلم أَن إِثْبَات الْقيَاس أقوى من إِجْمَاع الصَّحَابَة على اسْتِخْلَاف أبي بكر، مستدلين فِي ذَلِك باستخلافه إِيَّاه فِي أعظم أُمُور الدّين، وَهُوَ الصَّلَاة، فقاسوا عَلَيْهَا سَائِر الْأُمُور، وَلِأَنَّهُ كَانَ يخرج من بَاب بَيته وَهُوَ فِي الْمَسْجِد للصَّلَاة، فَلَمَّا غلق الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب أبي بكر دلّ على أَنه يخرج مِنْهُ للصَّلَاة، فَكَأَنَّهُ أَمر بذلك على أَن من بعده يفعل ذَلِك هَكَذَا، فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (سدوا الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب عَليّ) قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ غَرِيب، وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث: إلاَّ بَاب أبي بكر أصح. وَقَالَ الْحَاكِم: تفرد بِهِ مِسْكين بن بكير الْحَرَّانِي عَن شُعْبَة، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: وَهُوَ وهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَتَابعه
    ابراهيم بن المختار
    ..........
    (4/247)
    عثْمَان بن طَلْحَة " هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى الْعَبدَرِي الحَجبي
    قتل أَبوهُ وَعَمه يَوْم أحد كَافِرين فِي جمَاعَة من بني عَمهمَا وَهَاجَر هَذَا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو وَدفع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَإِلَى ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان مِفْتَاح الْكَعْبَة وَقَالَ الْكرْمَانِي أسلم يَوْم هدنة الْحُدَيْبِيَة وَجَاء يَوْم الْفَتْح بمفتاح الْكَعْبَة وَفتحهَا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خذوها " يَعْنِي الْمِفْتَاح " يَا آل أبي طَلْحَة خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم " ثمَّ نزل الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ تحول إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين
    .......
    (4/248)
    وروى أَحْمد من حَدِيث عُثْمَان بن أبي طَلْحَة بِسَنَد صَالح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت فصلى رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين " وَفِي فَوَائِد سمويه بن عبد الرَّحْمَن بن الوضاح قَالَ " قلت لشيبة زَعَمُوا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْكَعْبَة فَلم يصل فِيهَا قَالَ كذبُوا وَأبي لقد صلى رَكْعَتَيْنِ بَين العمودين ثمَّ ألصق بهما بَطْنه وظهره " -
    .......
    (4/251)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النَّوَافِل،فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: السّنة أَن تكون مثنى مثنى لَيْلًا وَنَهَارًا. قَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل الْأَرْبَع لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ، وبالنهار أَربع. وَاحْتج أَبُو حنيفَة فِي صَلَاة اللَّيْل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عَائِشَة (أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول ا، فِي جَوف اللَّيْل،فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة. ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَفِي آخِره: (حَتَّى قبض على ذَلِك) ،وَاحْتج فِي صَلَاة النَّهَار بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة (أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة: كم كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الضُّحَى؟
    قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده،وَفِيه: (لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام) . فَإِن قلت: روى الْأَرْبَعَة عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ،قلت: لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ سكت عَنهُ،إلاَّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد ابْن عمر عَن النَّبِي وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار،وَ
    قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ، وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) إِسْنَاد جيد إلاَّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار،مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وَطَاوُس. والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وروى الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبعا. وبالليل رَكْعَتَيْنِ،ثمَّ قَالَ: فمحال أَن يروي ابْن عمر عَن رَسُول الله شَيْئا ثمَّ يُخَالف ذَلِك، فَعلم بذلك أَنه كَانَ مَا رُوِيَ عَنهُ عَن رَسُول الله ضَعِيفا، أَو كَانَ مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. فَإِن قلت: روى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ اصفهان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول ا: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) عَنهُ قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ؟قلت: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أصح مِنْهُمَا وَأقوى وَأثبت
    .......
    (4/253)
    فَإِن قلت: قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي: لم نجد عَن النَّبِي خَبرا ثَابتا مُفَسرًا أَنه أوتر بِثَلَاث لم يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، كَمَا وجدنَا فِي الْخمس والبسع وَالتسع، غير أَنا وجدنَا عَنهُ أَخْبَارًا أَنه أوتر بِثَلَاث لَا ذكر للتسليم فِيهَا؟قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ من (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث عَائِشَة: أَنه إِن يُوتر بِثَلَاث لَا يقْعد إلاَّ فِي آخِرهنَّ،وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ،وَقد قيل: لَعَلَّ مُحَمَّد بن نصر لَا يرى هَذَا ثَابتا. قلت: هَذَا تعصب لَا يجدي وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته ثَابتا أَن لَا يكون ثَابتا عِنْد غَيره
    ..........
    (4/257)
    أَن الحَدِيث الْوَارِد فِي الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، وَأَن الْمَسَاجِد خير الْبِقَاع، كَمَا أخرجه الْبَزَّار وَغَيره لَا يَصح إِسْنَاده، وَلَو صَحَّ لم يمْنَع وضع الْمَسْجِد فِي السُّوق لِأَن بقْعَة الْمَسْجِد حِينَئِذٍ تكون بقْعَة خير.
    ......
    (4/258)
    ذكر تعدد الرِّوَايَات فِي قَوْله: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تزيد على صلَاته فِي بَيته خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) . وَعند أبي ماجة: (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) ،وَفِي لفظ: (فضل الصَّلَاة على صَلَاة أحدكُم وَحده خمْسا وَعشْرين جُزْءا) . وَعند السراج: (تعدل خَمْسَة وَعشْرين صَلَاة من صَلَاة الْفَذ) ،وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ خمْسا وَعشْرين) ،وَفِي لفظ: (سَبْعَة وَعشْرين جُزْءا) ،وَفِي لفظ: خير من صَلَاة الْفَذ) ،وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة) ،وَفِي لفظ: (صَلَاة مَعَ الإِمَام أفضل من خمس وَعشْرين يُصليهَا وَحده) . وَفِي كتاب ابْن حزم: صَلَاة الْجَمَاعَة تزيد على صَلَاة الْمُنْفَرد سبعا وَعشْرين دَرَجَة، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الْفَذ،وَعند ابْن حبَان: (فَإِن صلاهَا بِأَرْض فَيْء فَأَتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها تكْتب صلَاته بِخَمْسِينَ دَرَجَة) ،وَعند أبي دَاوُد: (بلغت خمسين صَلَاة) . وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث: صَلَاة الرجل فِي الفلاة، تضَاعف على صلَاته فِي الْجَمَاعَة، موعند البُخَارِيّ،من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تفضل على صَلَاة الرجل وَحده بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَذَا رَوَاهُ نَافِع،وَعَامة من روى عَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ،
    ........
    (4/259)
    كر وَجه هَذِه الرِّوَايَات اخْتلفُوا فِي وَجه الْجمع بَين سبع وَعشْرين دَرَجَة وَبَين خمس وَعشْرين. فَقيل: السَّبع مُتَأَخِّرَة عَن الْخمس فَكَأَن اأخبره بِخمْس ثمَّ زَاده، ورد هَذَا بتعذر التَّارِيخ، ورد هَذَا الرَّد بِأَن الْفَضَائِل لَا تنسخ، فَتعين أَنه مُتَأَخّر. وَقيل: إِن صَلَاة الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد أفضل من صَلَاة الْفَذ فِي الْمَسْجِد بِسبع وَعشْرين دَرَجَة،ورد هَذَا بقوله: (وَصَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تضعف على صلَاته فِي بَيته وَفِي سوقه بِخمْس وَعشْرين ضعفا) . وَقيل: إِن الصَّلَاة الَّتِي لم تكن فِيهَا فَضِيلَة الخطى إِلَى الصَّلَاة، وَلَا فَضِيلَة انتظارها تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِسبع. وَقيل: إِن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْمُصَلِّين وَالصَّلَاة، فَمن أكملها وحافظ عَلَيْهَا فَوق من أخل بِشَيْء من ذَلِك،وَقيل: إِن الزِّيَادَة لصلاتي الْعشَاء وَالصُّبْح لِاجْتِمَاع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فيهمَا،وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (تفضل صَلَاة أحدكُم وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا، وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . فَذكر اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة بواو فاصلة، واستأنف الْكَلَام وقطعه من الْجُمْلَة الْمُتَقَدّمَة،وَقيل: لَا مُنَافَاة بَين الحدثين لِأَن ذكر الْقَلِيل لَا يُنَافِي الْكثير، وَمَفْهُوم الْعدَد بَاطِل عِنْد جمَاعَة من الْأُصُولِيِّين َ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا قَالَ: دَرَجَة،وَلم يقل: جُزْءا وَلَا نَصِيبا وَلَا حَافِظًا وَلَا شَيْئا من أَمْثَال ذَلِك، لِأَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَاب من جِهَة الْعُلُوّ والارتفاع، وَأَن تِلْكَ فَوق هَذِه بِكَذَا وَكَذَا دَرَجَة،لِأَن الدَّرَجَات إِلَى جِهَة فَوق قلت: قد جَاءَ فِيهِ لفظ: الْجُزْء والضعف،
    ....
    (4/259)
    نقل الطَّيِّبِيّ عَن التوربشتي: وَأما وَجه قصر أَبْوَاب الْفَضِيلَة على خمس وَعشْرين تَارَة، وعَلى سبع وَعشْرين أُخْرَى فَإِن الْمرجع فِي حَقِيقَة ذَلِك إِلَى عُلُوم النُّبُوَّة الَّتِي قصرت عقل الألباء عَن إِدْرَاك جملها وتفاصيلها،وَلَعَلَّ الْفَائِدَة فِيمَا كشف بِهِ حَضْرَة النُّبُوَّة وَهِي اجْتِمَاع الْمُسلمين مصطفين كَصُفُوف الْمَلَائِكَة والاقتداء بِالْإِمَامِ وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وَغَيرهَا انْتهى قلت: هَذَا لَا يشفي الغليل وَلَا يجدي العليل، وَالَّذِي ظهر لي فِي هَذَا
    الْمقَام من الْأَنْوَار الإلهية والأسرار الربانية والعنايات المحمدية أَن كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ، وَأَنه لَو صلى فِي بَيته كَانَ يحصل لَهُ ثَوَاب عشر صلوَات، وَكَذَا لَو صلىَّ فِي سوقه كَانَ لكل صَلَاة عشر، ثمَّ أَنه إِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُضَاعف لَهُ مثله فَيصير ثَوَاب عشْرين صَلَاة، أَو زِيَادَة الْخمس فَلِأَنَّهُ أدّى فرضا من الْفُرُوض الْخَمْسَة، فأنعم اعليه ثَوَاب خمس صلوَات أُخْرَى نَظِير عدد الْفُرُوض الْخَمْسَة زِيَادَة عشْرين إنعاماً وفضلاً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَتَصِير الْجُمْلَة خَمْسَة وَعشْرين
    .......
    (4/262)
    عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فِي بَيته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يرجع فَلَا يفعل هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه) ،وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن موهب عَن عَمه عَن مولى لأبي سعيد، وَهُوَ مَعَ رَسُول ا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد فَرَأى رجلا جَالِسا وسط النَّاس وَقد شَبكَ بَين أَصَابِعه يحدث نَفسه، فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله فَلم يفْطن لَهُ،فَالْتَفت إِلَى أبي سعيد فَقَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان) . فَإِن قلت: هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لأحاديث الْبَاب قلت: غير مقاومة لَهَا فِي الصِّحَّة، وَلَا مُسَاوِيَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه مُعَارضَة بِمَا رُوِيَ من النَّهْي عَن
    التشبيك فِي الْمَسْجِد، وَقد وَردت فِيهِ مَرَاسِيل،ومسند من طرق غير ثَابِتَة قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بالمسند حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث كَعْب هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان قلت: فِي اسناده اخْتِلَاف، فضعفه بَعضهم بِسَبَبِهِ،وَقيل: لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لِأَن النَّهْي إِنَّمَا ورد عَن فعل ذَلِك فِي الصَّلَاة أَو فِي الْمُضِيّ إِلَى الصَّلَاة وَفعله لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الْمُضِيّ إِلَيْهَا مُعَارضَة إِذا،وَبَقِي كل حَدِيث على حياله
    وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن ذَلِك مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد ضعيفه، لِأَن فِيهَا ضَعِيفا ومجهولاً، وَقد رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة،وَلَفظه: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان، وَإِن أحدكُم لَا يزَال فِي صَلَاة مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج مِنْهُ) وَقَالَ ابْن الْمُنِير: التَّحْقِيق أَنه لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث تعَارض،إِذا الْمنْهِي عَنهُ فعله على وَجه الْعَبَث وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُود التَّمْثِيل وتصوير الْمَعْنى فِي اللَّفْظ فَإِن قلت: مَا حكمه النَّهْي عَن التشبيك؟قلت: أُجِيب بأجوبة. الأول: لكَونه من الشَّيْطَان، كَمَا مر الْآن. الثَّانِي: لِأَنَّهُ يجلب النّوم، وَهُوَ من مظان الْحَدث. الثَّالِث: أَن صُورَة التشبيك تشبه صُورَة الِاخْتِلَاف، كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي حَدِيث ابْن عمر، فكره ذَلِك لمن هُوَ فِي حكم الصَّلَاة حَتَّى لَا يَقع فِي الْمنْهِي عَنهُ. قَوْله: للمصلين: (وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبهم) ، وَا تَعَالَى أعلم.
    ........
    (4/265)
    وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (معرفَة الصَّحَابَة) : ذُو الْيَدَيْنِ اسْمه الْخِرْبَاق من بني سليم، كَانَ نزل بِذِي خشب من نَاحيَة الْمَدِينَة، وَلَيْسَ هُوَ ذَا الشمالين خزاعي حَلِيف لبني زهرَة، قتل يَوْم بدر، وَأَن قصَّة ذِي الشمالين كَانَت قبل بدر، ثمَّ أحكمت الْأُمُور بعد ذَلِك.
    ...........
    (4/266)
    وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: ذُو الشمالين رجل من بني زهرَة، وبسبب هَذِه الْكَلِمَة ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود،قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق،وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره،وَلقَوْله: صلى بِنَا رَسُول ا، وَذكر الحَدِيث، وَإِسْلَام أبي هُرَيْرَة بِخَير بعد يَوْم بدر بِسنتَيْنِ، فَهُوَ غير ذِي الشمالين المستشهد ببدر، وَقد عدوا قَول الزُّهْرِيّ فِيهِ هَذَا من وهمه، وَقد عدهما بَعضهم حديثين فِي نازلتين وَهُوَ الصَّحِيح لاخْتِلَاف صفتهما،لِأَن فِي حَدِيث الْخِرْبَاق ذَا الشمالين أَنه: سلم من ثَلَاث،وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: من اثْنَتَيْنِ،وَفِي حَدِيث الْخِرْبَاق: إِنَّهَا الْعَصْر،وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: الظّهْر لغير شكّ عِنْد نعضهم، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك كُله. اناتهى
    ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود،قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق،وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره،
    وَقَالَ أَبُو عمر: ذُو الْيَدَيْنِ غير ذِي الشمالين الْمَقْتُول ببدر بِدَلِيل مَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَنه ذُو الشمالين، فَلم يُتَابع عَلَيْهِ.
    فَثَبت أَن الزُّهْرِيّ لم ينْفَرد بذلك، وَأَن الْمُخَاطب للنَّبِي ذُو الشمالين، وَأَن من قَالَ ذَلِك لم يهم، وَلَا يلْزم من عدم تَخْرِيج ذَلِك فِي الصَّحِيح عدم صِحَّته، فَثَبت أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، وَهَذَا أولى من جعله رجلَيْنِ لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي هَذَا الْموضع فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ حَدِيثا وَاسْتدلَّ بِهِ على بَقَاء ذِي الْيَدَيْنِ بعد النَّبِي، فَقَالَ: الَّذِي قتل ببدر هُوَ ذُو الشمالين بن عبد عَمْرو بن فضلَة، حَلِيف بني زهرَة من خُزَاعَة: وَأما ذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي أخبر النَّبِي، بسهوه فَإِنَّهُ بَقِي بعد النَّبِي. كَذَا ذكره شَيخنَا أَبُو عبد االحافظ


    .........
    (4/269)
    الروحاء) ، وَهُوَ مَوضِع ارْتَفع من مَكَان الروحاء، وَهِي بحاء مُهْملَة ممدودة. قَالَ أَبُو عبيد االبكري: هِيَ قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا. وَقَالَ كثير عزة: سميت الروحاء لِكَثْرَة أرواحها وبالروحاء بِنَاء يَزْعمُونَ أَنه قبر مُضر بن نزار. وَقَالَ أَبُو عبيد: وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: روحاني، على غير قِيَاس. وَقد قيل: روحاوي، على الْقيَاس. وَفِي (كتاب الْجبَال) للزمخشري: بَين الْمَدِينَة والروحاء أَرْبَعَة برد إلاَّ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَفِي (صَحِيح مُسلم) فِي بَاب الْأَذَان: (سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا) . وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة: على ثَلَاثِينَ ميلًا.
    .......
    (4/274)
    (مر الظهْرَان) زعم الْبكْرِيّ أَنه بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه،مُضَاف إِلَى: الظهْرَان،بِظَاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة: بَين مر وَالْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا. قلت: هُوَ الْوَادي الَّذِي تسميه الْعَامَّة بطن مر، وبسكون الرَّاء بعْدهَا وَاو، وَقَالَ كثير عزة سميت مرا لمرارة مَائِهَا. وَقَالَ أَبُو غَسَّان: سميت بذلك لِأَن فِي بطن الْوَادي بِئْرا ونخلة كبابة بعرق من الأَرْض أَبيض هجامر، إلاَّ أَن الْمِيم مَوْصُولَة بالراء، وببطن مر تخزعت خُزَاعَة من أخواتها فَبَقيت بِمَكَّة شرفها اتعالى، وسارت أخواتها إِلَى الشَّام أَيَّام سيل العرم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مر الظهْرَان بتهامة قريب من عَرَفَة
    .........
    (4/274)
    وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي (كتاب الْمَرَاسِيل) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: عَم بكير بن عبد االأشج قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَة مَسَاجِد مَعَ مَسْجِد النَّبِي يسمع أَهله تأذين بِلَال، رَضِي اتعالى عَنهُ، فيصلون فِي مَسَاجِدهمْ أقربها مَسْجِد بني عَمْرو بن مبذول، وَمَسْجِد بني سَاعِدَة، وَمَسْجِد بني عبيد، وَمَسْجِد بني سَلمَة، وَمَسْجِد بني رَايِح بن عبد الْأَشْهَل، وَمَسْجِد بني زُرَيْق، وَمَسْجِد غفار، وَمَسْجِد أسلم، وَمَسْجِد جُهَيْنَة، وَشك فِي التَّاسِع. وَفِي كتاب (أَخْبَار الْمَدِينَة) لأبي زيد عَمْرو بن شبة النميري النَّحْوِيّ الأخباري،بِسَنَد لَهُ فِي ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي بِالْمَدِينَةِ: عَن رَافع بن خديج: صلى النَّبِي،فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأحد فِي شعب الجرار على يَمِينك اللازق بِالْجَبَلِ: وَعَن أسيد بن أبي أسيد عَن أشياخه أَن النَّبِي،، دَعَا على الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ مَسْجِد الْفَتْح. وَصلى فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأَصْل الْجَبَل حِين تصعد الْجَبَل: وَعَن عمَارَة ابْن أبي الْيُسْر: صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْأَسْفَل. وَعَن جَابر: دَعَا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فِي الْمَسْجِد الْمُرْتَفع وَرفع يَدَيْهِ مدا، وَعَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني خدارة، وَعَن عَمْرو بن قَتَادَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى لَهُم فِي مَسْجِد فِي بني أُميَّة من الْأَنْصَار، وَكَانَ فِي مَوضِع الخربتين
    قلت: قد اندرس أَكثر هَذِه الْمَسَاجِد وَبَقِي من الْمَشْهُور الْآن مَسْجِد قبا، وَمَسْجِد بني قُرَيْظَة، ومشربة أم إِبْرَاهِيم وَهِي شمَالي مَسْجِد قُرَيْظَة، وَمَسْجِد بني ظفر، شَرْقي البقيع وَيعرف: بِمَسْجِد البغلة، وَمَسْجِد بني مُعَاوِيَة وَيعرف بِمَسْجِد الْإِجَابَة، وَمَسْجِد الْفَتْح قريب من جبل سلع، وَمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ فِي بني سَلمَة.
    ...........
    (4/275)
    ي بَيَان وَجه تتبع عبد ابْن عمر الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا رَسُول ا، وَهُوَ أَنه يسْتَحبّ التتبع لآثار النَّبِي والتبرك بهَا، وَلم يزل النَّاس يتبركون بمواضع الصَّالِحين. وَقد روى شُعْبَة عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد،قَالَ: كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي اعنه،فِي سفر فصلى الْغَدَاة ثمَّ أَتَى على مَكَان فَجعل النَّاس يأتونه وَيَقُولُونَ: صلى فِيهِ النَّبِي. فَقَالَ عمر: إِنَّمَا هلك أهل الْكتاب، إِنَّهُم كَانُوا اتبعُوا آثَار أَنْبِيَائهمْ فاتخذوا كنائس وبيعاً، فَمن عرضت لَهُ الصَّلَاة فَليصل، وَإِلَّا فليمض. قَالُوا: أما مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه ذكر ذَلِك فَلِأَنَّهُ خشِي أَن يلْتَزم النَّاس الصَّلَاة فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع، فيشكل ذَلِك على من يَأْتِي بعدهمْ، وَيرى ذَلِك وَاجِبا. وَكَذَا يَنْبَغِي للْعَالم إِذا رأى النَّاس يلبتزمون النَّوَافِل التزاماً شَدِيدا أَن يترخص فِيهَا فِي بعض المرات وَيَتْرُكهَا ليعلم بِفِعْلِهِ، ذَلِك أَنَّهَا غير وَاجِبَة، كَمَا فعل ابْن عَبَّاس فِي ترك الْأُضْحِية.
    .......
    (4/277)
    لحربة الْمَذْكُورَة هَل لَهَا حد فِي الطول وَمَا الْمُعْتَبر فِي طول الستْرَة (قلت) قَالَ أَصْحَابنَا مقدارها ذِرَاع فَصَاعِدا وَأخذُوا ذَلِك بِحَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا جعلت بَين يَديك مثل مؤخرة الرحل فَلَا يَضرك من يمر بَين يَديك " رَوَاهُ مُسلم وَذكر شيخ الْإِسْلَام فِي مبسوطه من حَدِيث أبي جُحَيْفَة الْآتِي ذكره أَن مِقْدَار العنزة طول ذِرَاع فِي غلظ أصْبع وَيُؤَيّد هَذَا قَول ابْن مَسْعُود يجزىء من الستْرَة السهْم وَفِي الذَّخِيرَة طول السهْم ذِرَاع وَعرضه قدر أصْبع وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَت الستْرَة أقل من ذِرَاع وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام لَو وضع قناة أَو جعبة بَين يَدَيْهِ وارتفع قدر ذِرَاع كَانَت ستْرَة بِلَا خلاف وَإِن كَانَت دونه فَفِيهِ خلاف
    ............
    (4/286)
    وَقد اخْتلف السّلف فِي الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فكرهه أنس بن مَالك لوُرُود النَّهْي بذلك، رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ،وَقَالَ ابْن مَسْعُود: لَا تصفوا بَين الأساطين واتموا الصُّفُوف) . وَأَجَازَهُ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وسُويد بن غَفلَة يؤمُّونَ قَومهمْ بَين الأساطين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَقَالَ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) لَا بَأْس باصلاة بَينهمَا لضيق الْمَسْجِد. وَقَالَ ابْن حبيب: لَيْسَ النَّهْي عَن تقطيع الصُّفُوف إِذْ ضَاقَ الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ إِذا كَانَ الْمَسْجِد وَاسِعًا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَسبب الْكَرَاهَة بَين الأساطين أَنه رُوِيَ أَنه مصلى الْجِنّ الْمُؤمنِينَ.
    ...........
    (4/291)
    وَزعم ابْن الْعَرَبِيّ أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي وجوب وضع الستْرَة بَين يَدي الْمُصَلِّي على ثَلَاثَة أَقْوَال. الأول: أَنه وَاجِب، فَإِن لم يجد وضع خطا، وَبِه قَالَ أَحْمد،كَأَنَّهُ اعْتمد حَدِيث ابْن عمر الَّذِي صَححهُ الْحَاكِم: (لَا تصلي إلاَّ إِلَى ستْرَة وَلَا تدع أحدا يمر بَين يَديك) . وَعَن أبي نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) : حدّثنا سُلَيْمَان، أَظُنهُ عَن حميد بن هِلَال،قَالَ عمر ابْن الْخطاب: لَو يعلم الْمُصَلِّي مَا ينقص من صلَاته مَا صلى إِلَّا إِلَى شَيْء يستره من النَّاس، وَعند ابْن أبي شيبَة،عَن ابْن مَسْعُود: (إِنَّه ليقطع نصف صَلَاة الْمَرْء الْمُرُور بَين يَدَيْهِ) . الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَحبَّة، ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. الثَّالِث: جَوَاز تَركهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن مَالك. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الأَصْل فِي الستْرَة أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يستحبون إِذا صلوا فِي الفضاء أَن يكون بَين أَيْديهم مَا يسترهم. وَقَالَ عَطاء، لَا بَأْس بترك الستْرَة، وَصلى الْقَاسِم وَسَالم فِي الصَّحرَاء إِلَى غير ستْرَة، ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
    وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي هَذَا على عشرَة أَنْوَاع: الأول: أَن الستْرَة وَاجِبَة أَو لَا؟ وَقد مر الْآن. الثَّانِي: مِقْدَار مَوضِع يكره الْمُرُور فِيهِ،فَقيل: مَوضِع سُجُوده، وَهُوَ اخْتِيَار شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَشَيخ الْإِسْلَام قاضيخان،وَقيل: مِقْدَار صفّين أَو ثَلَاثَة،وَقيل: بِثَلَاثَة أَذْرع،وَقيل: بِخَمْسَة أَذْرع. وَقيل: بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعا، وَقدر الشَّافِعِي وَأحمد بِثَلَاثَة أَذْرع، وَلم يحد مَالك فِي ذَلِك حدا إلاّ أَن ذَلِك بِقدر مَا يرْكَع فِيهِ وَيسْجد ويتمكن من دفع من مر بَين يَدَيْهِ. وَالثَّالِث: أَنه يسْتَحبّ لمن صلى فِي الصَّحرَاء أَن يتَّخذ أَمَامه ستْرَة،وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فليجعل تِلْقَاء وَجهه شَيْئا، فَإِن لم يجد فلينصب عَصا، فَإِن لم يكن لَهُ عَصا، فليخط خطا وَلَا يضرّهُ مَا مر أَمَامه) . وخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَذكر عبد الْحق أَن ابْن الْمَدِينِيّ وَأحمد بن حَنْبَل صَحَّحَاهُ،وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَإِن كَانَ قد أَخذ بِهِ أَحْمد. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: لم نجد شَيْئا نَشد بِهِ هَذَا الحَدِيث. وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول: عنْدكُمْ شَيْء تشدون بِهِ، وَأَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى ضعفه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ ضعف وأضطراب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا بَأْس بِهِ فِي مثل هَذَا الجكم.
    الرَّابِع: مِقْدَار الستْرَة،قد ورد: قدر ذِرَاع، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ

    .........
    (4/292)
    وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: الْخط بَاطِل، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَجوزهُ أَشهب فِي (الْعُتْبِيَّة) وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالشَّافِعِيّ بالعراق،ثمَّ قَالَ بِمصْر: لَا يخط، والمانعون أجابوا عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أَنه ضَعِيف. وَقَالَ عبد الْحق: ضعفه جمَاعَة ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لم يَصح فِي الْخط شَيْء وَلَا يجوز القَوْل بِهِ.
    ,,,,,,,,,,,,
    (4/293)
    وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم) ، وَلَيْسَت هَذِه الزِّيَادَة فِي شَيْء من الرِّوَايَات غَيره، وَكَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) لَيست هَذِه الزِّيَادَة، وَكَذَا فِي سَائِر المسندات. وَفِي المستخرجات، غير أَنه وَقع فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : مَاذَا عَلَيْهِ، يَعْنِي من الْإِثْم، وعيب على الْمُحب الطَّبَرِيّ حَيْثُ عزا هَذِه الزِّيَادَة فِي الْأَحْكَام للْبُخَارِيّ.
    .........



    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم المجلد الرابع من " عمدة القاري " ويليه المجلد الخامس " كتاب مواقيت الصلاة "

  14. #234
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأحد
    الموافق : 28/ ذو القعدة /1441 هجري
    الموافق : 19/ يوليو / 2020 ميلادي

    (4/151)
    أثر ابْن عَبَّاس: الْفرق حَيْثُ قَالَ: إِن كَانَ رطبا فاغسله وَإِن كَانَ يَابسا فَلَا،أَي: فَلَا يَضرك وَطْؤُهُ
    ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح،وَقَالَ فِي آخِره: وَإِن كَانَ يَابسا لم يضرّهُ.
    ........
    (4/152)
    جزم النَّوَوِيّ بِالْمَنْعِ فِي كل حَالَة دَاخل الصَّلَاة وخارجها، وَسَوَاء كَانَ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره،وَنقل عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا بَأْس بِهِ خَارج الصَّلَاة، وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن مَسْعُود أَنه كره أَن يبصق عَن يَمِينه وَلَيْسَ فِي الصَّلَاة. وَعَن معَاذ بن جبل،قَالَ: مَا بصقت عَن يَمِيني مُنْذُ أسلمت، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه نهى ابْنه عَنهُ مُطلقًا، وَهَذِه كلهَا تشهد للْمَنْع مُطلقًا. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: النَّهْي عَن البصاق عَن الْيَمين فِي الصَّلَاة إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَان غَيره، فَإِن تعذر فَلهُ ذَلِك. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِن كَانَ عَن يسَاره وَاحِد فَلَا يبزق فِي وَاحِد من الْجِهَتَيْنِ، لَكِن تَحت
    قدمه أَو ثَوْبه،وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن طَارق بن عبد االمحاربي قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا قَامَ الرجل إِلَى الصَّلَاة، أَو إِذا صلى أحدكُم، فَلَا يبزق أَمَامه وَلَا عَن يَمِينه، وَلَكِن عَن تِلْقَاء يسَاره إِن كَانَ فَارغًا، أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى ثمَّ ليقل بِهِ) . وَهَذَا الحَدِيث يُؤَيّد مَا قَالَه الْخطابِيّ
    ........
    (4/153)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بدفن البزاق، فالجمهور على أَنه الدّفن فِي تُرَاب الْمَسْجِد ورمله وحصائه إِن كَانَت فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء وإلاَّ يُخرجهُ. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (من دخل هَذَا الْمَسْجِد فبزق فِيهِ أَو تنخم فليحفر فليدفنه. فَإِن لم يفعل فليبزق فِي ثَوْبه ثمَّ ليخرج بِهِ)
    ن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (البزاق فِي الْمَسْجِد خطية وكفارته دَفنه) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا فِي غير الْمَسْجِد، وَأما الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَلَا يبزق إلاَّ فِي ثَوْبه، ورد عَلَيْهِ بِأَحَادِيث كَثِيرَة إِن ذَلِك كَانَ فِي الْمَسْجِد، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن: (من تنخم فِي الْمَسْجِد فليغيب نخامته أَن تصيب جلد مُؤمن أَو ثَوْبه فتؤذيه) . وروى أَحْمد أَيْضا، وَالطَّبَرَانِي ّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا،قَالَ: (من تنخع فِي الْمَسْجِد فَلم يدفنه فسيئة، وَإِن دَفنه فحسنة) . وَفِي حَدِيث مُسلم عَن ابي ذَر: (وَوجدت فِي مساوىء أَعمال أمتِي النخامة تكون فِي الْمَسْجِد وَلَا تدفن) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَلم يثبت لَهَا حكم السَّيئَة بِمُجَرَّد إيقاعها فِي الْمَسْجِد، بل بِهِ وبتركها غير مدفونة،وروى سعيد بن مَنْصُور: (عَن أبي عُبَيْدَة أَنه تنخم فِي الْمَسْجِد لَيْلَة فنسي أَن يدفنها حَتَّى رَجَعَ إِلَى منزله، فَأخذ شعلة من نَار ثمَّ جَاءَ فطلبها حَتَّى دَفنهَا،ثمَّ قَالَ: الْحَمد الَّذِي لم يكْتب عليَّ خَطِيئَة اللَّيْلَة)
    ......
    (4/158)
    لْمُسَابقَة وَهِي السَّبق الَّذِي يشْتَرك فِي الِاثْنَان، وَبَاب المفاعلة يَقْتَضِي ذَلِك، وَالْخَيْل الَّتِي أضمرت هِيَ الَّتِي كَانَت الْمُسَابقَة بَينهَا، وَكَانَ فرس النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم،بَينهَا يُسمى: السكب، وَكَانَ أغر محجلاً طلق الْيَمين لَهُ مسحة، وَهُوَ أول فرس ملكه، وَأول فرس غزا عَلَيْهِ، وَاشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني فَزَارَة بِعشر أَوَاقٍ،وَكَانَ إسمه عِنْد الْأَعرَابِي: الضرس،فَسَماهُ رَسُول اصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: السكب، وسابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح بِهِ، وَهُوَ أول فرس سَابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح الْمُسلمُونَ بِهِ
    ..........
    (4/159)
    جَوَاز الْمُسَابقَة بَين الْخُيُول وَجَوَاز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدادها لذَلِك لينْتَفع بهَا عِنْد الْحَاجة فِي الْقِتَال كراً وفراً، وَهَذَا إِجْمَاع، وَعَن الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا سنة،وَقيل: مُبَاح، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يفعلونها فأقرها الْإِسْلَام، وَلَا يخْتَص جَوَازهَا بِالْخَيْلِ، خلافًا لقوم، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ بِغَيْر رهان،وَالْفُقَهَاء شرطُوا فِيهَا شُرُوطًا مِنْهَا: جَوَاز الرِّهَان من جَانب وَاحِد، وَمن الْجَانِبَيْنِ قمار إلاَّ بِمُحَلل، وَقد علم فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على جَوَاز ذَلِك وَلَا على مَنعه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه سَابق بَين الْخَيل على حلل أَتَتْهُ من الْيمن، فَأعْطى السَّابِق ثَلَاث حلل وَأعْطى الثَّانِي حلتين وَالثَّالِث حلَّة وَالرَّابِع دِينَارا، وَالْخَامِس درهما، وَالسَّادِس فضَّة. وَقَالَ: (بَارك افيك. وَفِي كلكُمْ وَفِي السَّابِق والفسكل) . قلت: الفسكل،بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره اللَّام: وَهُوَ الَّذِي يَجِيء فِي الجلبة آخر الْخَيل.
    ..........
    (4/160)
    ذكر أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فِي غَرِيب الحَدِيث تأليفه فِي هَذَا أَنه لما خرج رأى أقناء معلقَة فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَمر بَين كل حَائِط بقنو يعلق فِي الْمَسْجِد ليَأْكُل مِنْهُ من لَا شَيْء لَهُ وَقَالَ ثَابت فِي كتاب الدَّلَائِل وَكَانَ عَلَيْهَا على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْتهى
    .............
    (4/161)
    أما الْبَحْرين فَهُوَ تَثْنِيَة بَحر فِي الأَصْل وَهِي بَلْدَة مَشْهُورَة بَين الْبَصْرَة وعمان وَهِي هجر وَأَهْلهَا عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل بَينهَا وَبَين الْبَصْرَة أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ فرسخا. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ لما صَالح أَهله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَزعم أَبُو الْفرج فِي تَارِيخه أَنَّهَا رِيبَة وَأَن ساكنيها معظمهم مطحولون وَأنْشد
    (وَمن يسكن الْبَحْرين يعظم طحاله ... ويغبط بِمَا فِي جَوْفه وَهُوَ ساغب)
    ..........
    (4/164)
    وَقَالَ الْمُهلب: الصَّحِيح أَن الْقَاذِف: عُوَيْمِر، وَالَّذِي ذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس من قَوْله الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا فِي قَول عبد اللَّه بن مَسْعُود، وَكَانَ رجلا، وهلال بن أُميَّة خطأ، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل على ذَلِك توقفه فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل عَلَيْهِ فِي الأولى. قلت: كَأَنَّهُ تبع فِي هَذَا الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال بن أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن زيد بن الْجد بن عجلَان. وَفِيمَا قَالَاه نظر لِأَن قَضِيَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي موضِعين: الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس. وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّحِيح أَن هلالاً لَا عَن قبل عُوَيْمِر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي. الْأَكْثَرُونَ على أَن قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل) لِابْنِ الصّباغ قصَّة هِلَال، تبين أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا.

    ...........
    (4/164)
    ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا لأجل جَوَاز الْقُضَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ جَائِز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء،وَقَالَ مَالك: جُلُوس القَاضِي فِي الْمَسْجِد للْقَضَاء من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ،وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ من مضى من الْقَضَاء لَا يَجْلِسُونَ إلاَّ فِي رحاب الْمَسَاجِد خَارِجا. وَقَالَ أَشهب: لَا بَأْس أَن يقْضِي فِي بَيته أَو حَيْثُ أحب، وَاسْتحبَّ بَعضهم الرحاب، وَفِي (المعونة) : الأولى أَن يقْضِي فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ شُرَيْح وَابْن أبي ليلى يقضيان فِيهِ، وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب كَرَاهِيَة ذَلِك،قَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء مَا تركت اثْنَيْنِ يختصمان فِي الْمَسْجِد. وَعَن الشَّافِعِي كراهيته فِي الْمَسْجِد إِذا أعده لذَلِك دون مَا إِذا انفقت لَهُ حُكُومَة فِيهِ،إِذْ فِيهِ حَدِيث: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ رفع أَصْوَاتكُم وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَلَا يعْتَرض على هَذَا بِاللّعانِ لِأَنَّهَا أَيْمَان وَيُرَاد بهَا التَّرْهِيب ليرْجع الْمُبْطل.
    قلت: قَالَ أَصْحَابنَا جَمِيعًا: وَالْمُسْتَحب أَن يجلس فِي مجْلِس الحكم فِي الْجَامِع، فَإِن كَانَ مَسْجِدا
    بِجنب دَاره فَلهُ ذَلِك، وَإِن قضى فِي دَاره جَازَ، وَالْجَامِع أرْفق الْمَوَاضِع بِالنَّاسِ وأجدر أَن لَا يخفى على أحد جُلُوسه وَلَا يَوْم حكمه، وَقد كَانَ الشّعبِيّ يقْضِي فِي الْجَامِع، وَشُرَيْح يقْضِي فِي الْمَسْجِد ويخطب بِالسَّوَادِ، وَقد قضى النَّبِي فِي مَسْجده بَين الْأَنْصَار فِي مَوَارِيث تقادمت، وَكَانَت الْأَئِمَّة يقضون فِي الْمَسَاجِد، وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنهُ فِي الْحر يُقيم فِي الْمَسْجِد وَقضى بَين سقا وخصم لَهُ فِي الْمَسْجِد، وَإِن حضر فِي الْمَسْجِد لغير الحكم فَحَضَرَ خصمان لم يكره لَهُ أَن يحكم بَينهمَا،وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: لَا يقْعد القَاضِي فِي الْمَسْجِد يدْخل فِيهِ الْمُشْركُونَ، فَإِنَّهُم نجس، وتلا الْآيَة. وَكَانَ يحيى بن يعمر فِي الطَّرِيق،وقصده رجل إِلَى منزله فَقَالَ: القَاضِي لَا يُؤْتى فِي منزله.
    ........
    (4/172)
    وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا أحسن من الَّذِي يُقَال: إِن ذكر كلمة: هَل، هَهُنَا لَيْسَ لَهُ مَحل،لِأَن عَادَته إِنَّمَا يذكر: هَل، إِذا كَانَ حكم الْبَاب فِيهِ خلاف، وَلَيْسَ هَهُنَا خلاف، وَلم أَرَ شارحاً هُنَا شفى العليل وَلَا أروى الغليل،وَقد فسر بَعضهم بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟بقوله: أَي: دون غَيرهَا من قُبُور الْأَنْبِيَاء وأتباعهم،قلت: هَذَا تَفْسِير عَجِيب مُسْتَفَاد من سوء التَّصَرُّف، لِأَن مَعْنَاهُ ظَاهر، وَهُوَ جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم فيستفاد مِنْهُ عدم جَوَاز نبش قُبُور غَيرهم سَوَاء كَانَت قُبُور الْأَنْبِيَاء أَو قُبُور غَيرهم من الْمُسلمين لما فِيهِ من الإهانة لَهُم، فَلَا يجوز ذَلِك، لِأَن حُرْمَة الْمُسلم لَا تَزُول حَيا وَمَيتًا، فَإِن كَانَ هَذَا الْقَائِل اعْتمد فِي هَذَا التَّفْسِير على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر النبش وَهُوَ ظَاهر، وانما فِيهِ أَنهم إِذا مَاتَ فيهم رجل صَالح يبنون على قَبره مَسْجِدا ويصورون فِيهِ تصاوير، وَلَا يلْزم من ذَلِك النبش، لِأَن بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر من غير نبش مُتَصَوّر
    ...........
    (4/173)
    وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار،وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ: مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.

    .........
    (4/174)
    (كَنِيسَة) بِفَتْح الْكَاف، وَهِي معبد النَّصَارَى. وَفِي مَوضِع آخر: يُقَال لَهَا مَارِيَة،والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة،وبتشديدها: القطاة الملساء.
    .........
    (4/175)
    قَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بورود النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول. وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِي ّ، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع من تيرماه، وَمن شهور الرّوم الْعَاشِرَة من أيلول سنة سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لذِي القرنين،وَقَالَ الْخَوَارِزْمِي ّ: من حِين ولد إِلَى حِين أسرِي بِهِ: أحد وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ يَوْمًا،وَمِنْه إِلَى الْيَوْم الَّذِي هَاجر: سنة وشهران وَيَوْم، فَذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس.
    .......
    (4/175)
    وَبَنُو النجار هم بَنو تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الجموح، والنجار قبيل كَبِير من الْأَنْصَار، مِنْهُ بطُون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هُوَ النجار، سمي بذلك لِأَنَّهُ اختتن بقدوم،
    كره الْكَلْبِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا طلب بني النجار لأَنهم كَانُوا أَخْوَاله، لِأَن هاشماً جده تزوج سلمى بنت عَمْرو بن زيد من بني عدي بن النجار بِالْمَدِينَةِ فَولدت لَهُ عبد الْمطلب
    ........
    (4/176)
    وَفِي (شرف الْمُصْطَفى) : لما نزلت النَّاقة عِنْد دَار أبي أَيُّوب جعل جَبَّار ابْن صَخْر ينخسها بِرجلِهِ،فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: يَا جَبَّار، أعن منزلي تنخسها؟أما وَالَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ لَوْلَا الْإِسْلَام لضربتك بِالسَّيْفِ قلت: جَبَّار بن صَخْر بن أُميَّة بن خنساء السّلمِيّ،وَيُقَال: جَابر بن صَخْر الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وَهُوَ صَحَابِيّ كَبِير،روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي سعد الخطمي سمع جَبَّار بن عبد اللَّه قَالَ: (صليت خلف رَسُول الله أَنا وَجَابِر بن صَخْر فأقامنا خَلفه) . وَالصَّحِيح: أَن اسْمه: جَبَّار بن صَخْر. وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي كتاب (الْمُبْتَدَأ وقصص الْأَنْبِيَاء) ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،تأليفه: أَن تبعا وَهُوَ ابْن حسان لما قدم مَكَّة قبل مولد رَسُول ا، بِأَلف عَام، وَخرج مِنْهَا إِلَى يثرب وَكَانَ مَعَه أَربع مائَة رجل من الْحُكَمَاء، فَاجْتمعُوا وتعاقدوا على أَن لَا يخرجُوا مِنْهَا،وسألهم تبع عَن سر ذَلِك فَقَالُوا: إِنَّا نجد فِي كتبنَا أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد هَذِه دَار مهاجره، فَنحْن نُقِيم لَعَلَّ أَن نَلْقَاهُ، فَأَرَادَ تبع الْإِقَامَة مَعَهم، ثمَّ بني لكل وَاحِد من أُولَئِكَ دَار، وَاشْترى لَهُ جَارِيَة وَزوجهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَالا جزيلاً،وكتاباً فِيهِ إِسْلَامه
    وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: اسْمه تبان أسعد أَبُو كرب، وَهُوَ الَّذِي كسى الْبَيْت الْحَرَام، وَفِي (مغايص الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (لَا تسبوا تبعا) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي اتعالى عَنهُ،إِنَّه قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده.
    وَقَالَ ابْن سِيرِين: هُوَ أول من كسى الْبَيْت وَملك الدُّنْيَا والأقاليم بأسرها،وَحكى الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: كَانَ إِذا عرض الْخَيل قَامُوا صفا من دمشق إِلَى صنعاء، وَهَذَا بعيد إِن أَرَادَ بِهِ صنعاء الْيمن، لِأَن بَينهَا وَبَين دمشق أَكثر من شَهْرَيْن، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بهَا صنعاء دمشق، وَهِي قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة

    ..........
    (4/177)
    قد اخْتلف العروضيون وَأهل الْأَدَب فِي الرجز هَل هُوَ شعر أم لَا، مَعَ اتِّفَاق أَكْثَرهم على أَن الرجز لَا يكون شعرًا،وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ من النَّبِي من ذَلِك: لِأَن الشّعْر حرَام عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ القرطبى: الصَّحِيح فِي الرجز أَنه من الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرجه من الشّعْر من أشكل عَلَيْهِ إنشاد النَّبِي إِيَّاه،فَقَالَ: لَو كَانَ شعرًا لما علمه. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن من أنْشد الْقَلِيل من الشّعْر أَو قَالَه أَو تمثل بِهِ على وَجه الندور لم يسْتَحق اسْم شَاعِر،وَلَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه يعلم الشّعْر، وَلَا ينْسب إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يُطلق على الرجز شعرًا،إِنَّمَا هُوَ كَلَام مرجز مسجع بِدَلِيل أَنه يُقَال لصانعه: راجز،وَلَا يُقَال: شَاعِر. وَيُقَال: أنْشد رجزاً وَلَا يُقَال أنْشد شعرًا. وَقيل: أَن مَا قَالَه الشَّاعِر لَيْسَ برجز وَلَا مَوْزُون، وَقد اخْتلف هَل يحل لَهُ الشّعْر؟ فعلى القَوْل بِنَفْي الْجَوَاز هَل يحْكى بَيْتا وَاحِدًا؟فَقيل: لَا يتمه إلاَّ متغيراً وَأبْعد من قَالَ: الْبَيْت الْوَاحِد لَيْسَ بِشعر، وَلما ذكر قَول طرفه
    ..........
    (4/179)
    قَالَت الْفُقَهَاء: إِذا دفن الْمُسلم فِي أَرض مَغْصُوبَة يجوز إِخْرَاجه فضلا عَن الْمُشرك، وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ دعت الضَّرُورَة وَالْحَاجة إِلَى نبشهم فَجَاز،فَإِن قلت: هَل يجوز فِي هَذَا الزَّمَان نبش قُبُور الْكفَّار ليتَّخذ مَكَانهَا مَسَاجِد؟قلت: أجَاز ذَلِك قوم محتجين بِهَذَا الحَدِيث،وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي قَالَ: هَذَا قبر أبي رِغَال،وَهُوَ: أَبُو ثَقِيف، وَكَانَ من ثَمُود وَكَانَ بِالْحرم يدْفع عَنهُ، فَلَمَّا خرج أَصَابَته النقمَة فَدفن بِهَذَا الْمَكَان، وَآيَة ذَلِك أَنه دفن مَعَه غُصْن من ذهب فابتدر النَّاس فنبشوه وَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن،قَالُوا: فَإِذا جَازَ نبشها لطلب المَال فنبشها للِانْتِفَاع بمواضعها أولى، وَلَيْسَت حرمتهم موتى بأعظم مِنْهَا وهم أَحيَاء، بل هُوَ مأجور فِي ذَلِك، وَإِلَى جَوَاز نبش قُبُورهم لِلْمَالِ ذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَشْهَب بِهَذَا الحَدِيث،وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يفعل،لِأَن رَسُول الله لما مر بِالْحجرِ قَالَ: (لَا تدْخلُوا بيُوت الَّذين ظلمُوا إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) . فَنهى أَن يدْخل عَلَيْهِم بُيُوتهم، فَكيف قُبُورهم؟وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قد أَبَاحَ دُخُولهَا على وَجه الْبكاء
    ............
    (4/183)
    حكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم أَنهم لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن أنس أَنه صلى وَبَينه وَبَين الْقبْلَة بعير عَلَيْهِ محمله وروى أَيْضا الاستتار بالبعير عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَالْأسود بن يزِيد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالقَاسِم وَسَالم وَعَن الْحسن لَا بَأْس أَن يسْتَتر بالبعير وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي الاستذكار لَا أعلم فِيهِ أَي فِي الاستتار بالراحلة خلافًا وَقَالَ ابْن حزم من منع من الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَهُوَ مُبْطل
    ....
    (4/185)
    وَقَالَ ابْن بطال: الصَّلَاة جَائِزَة إِلَى كل شَيْء إِذا لم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ وَقصد بهَا اتعالى، وَالسُّجُود لوجهه خَالِصا. وَلَا يضرّهُ اسْتِقْبَال شَيْء من المعبودات وَغَيرهَا، كَمَا لم يضر النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَآهُ فِي قبلته من النَّار
    ...........
    (4/185)
    وَزعم ابْن التِّين وَغَيره: أَن بعض اللغويين قَالَ: لَا يُقَال فِي الشَّمْس إلاَّ كسفت، وَفِي الْقَمَر إلاَّ خسف، وَذكر هَذَا عَن عُرْوَة بن الزبير أَيْضا، وَحكى عِيَاض عَن بعض أهل اللُّغَة عَكسه، وَهَذَا غير جيد،لقَوْله تَعَالَى: {وَخسف الْقَمَر} (الْقِيَامَة: 8) . وَعند ابْن طريف: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْوُجُوه كسوفاً،
    يعًا،كلهم حكوا عَن النَّبِي: (لَا ينكسفان) ، بِالْكَاف، فَسُمي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر كسوفاً.


    ......
    (4/188)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ أوطاتاً للنوم لَا تصلونَ فِيهَا، فَإِن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ: وَأما من أَوله على النَّهْي عَن دفن الْمَوْتَى فِي الْبيُوت فَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد دفن رَسُول الله فِي بَيته الَّذِي كَانَ يسكنهُ أَيَّام حَيَاته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ شَيْء فِيهِ نظر، وَدفن رَسُول الله فِيهِ لَعَلَّه من خَصَائِصه،سِيمَا وَقد رُوِيَ: (الْأَنْبِيَاء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر مَرْفُوعا: (مَا قبض نَبِي إلاَّ دفن حَيْثُ يقبض) . وَفِي إِسْنَاده: حُسَيْن بن عبد اللَّه الْهَاشِمِي، وَهُوَ ضَعِيف، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل) وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) من طَرِيق سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ: (عَن أبي بكر الصّديق،رَضِي اتعالى عَنهُ أَنه: قيل لَهُ: وَأَيْنَ يدْفن رَسُول ا؟قَالَ: فِي الْمَكَان الَّذِي قبض افيه روحه، فَإِنَّهُ لم يقبض روحه إلاَّ فِي مَكَان طيب) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح وَلكنه مَوْقُوف، وَحَدِيث ابْن مَاجَه أَكثر تَصْرِيحًا فِي الْمَقْصُود.
    وَقَالَ بَعضهم: وَإِذا حمل دَفنه فِي بَيته على الِاخْتِصَاص لم يبعد نهي غَيره عَن ذَلِك، بل هُوَ مُتَّجه لِأَن اسْتِمْرَار الدّفن فِي الْبيُوت رُبمَا يصيرها مَقَابِر فَتَصِير الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة. وَلَفظ أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم أصرح من حَدِيث
    ........
    (4/188)
    وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا صلى الرجل مَعَ الرجل فهما جمَاعَة، وَلَهُمَا التَّضْعِيف خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، وَرُوِيَ أَن إِسْحَاق وَأحمد وَعلي بن الْمدنِي اجْتَمعُوا فِي دَار أَحْمد فَسَمِعُوا النداء، فَقَالَ أحدهم أخرج بِنَا إِلَى الْمَسْجِد،فَقَالَ أَحْمد: خروجنا إِنَّمَا هُوَ للْجَمَاعَة وَنحن جمَاعَة،فأقاموا الصَّلَاة وصلوا فِي الْبَيْت: وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم كَانُوا لَا يتطوعون فِي الْمَسْجِد، مِنْهُم حُذَيْفَة والسائب بن يزِيد وَالربيع بن خثيم وسُويد بن غلفة، وَمن هَذَا أَخذ علماءونا أَن الْأَفْضَل فِي غير الْفَرَائِض الْمنزل،وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ يرفعهُ: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبوراً) ،وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم عَن ولد ذِي الجناحين حَدثنِي عَليّ بن عمر عَن أَبِيه جَعْفَر الطيار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده يرفعهُ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا بُيُوتكُمْ قبوراً) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا أَبُو بكرَة قَالَ: حدّثنا أَبُو الْمطرف بن أبي الْوَزير قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن مُوسَى عَن سعيد بن إِسْحَاق عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الْمغرب فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فَلَمَّا فرغ رأى النَّاس يسبحون،فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هَذِه الصَّلَاة فِي الْبيُوت)
    ..........
    (4/189)
    وَقَالَ الْجَوْهَرِي: بابل، اسْم مَوضِع بالعراق ينْسب إِلَيْهِ السحر وَالْخمر،وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا ينْصَرف لتأنيثه، وَذَلِكَ أَن اسْم كل شَيْء مؤنث إِذا كَانَ أَكثر من ثَلَاثَة أحرف فَإِنَّهُ لَا ينْصَرف فِي الْمعرفَة،وَقَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: بنى نمْرُود المجدل،أَي: الْقصر بهَا، وَطوله فِي السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع، وَهُوَ الْبُنيان الَّذِي ذكره اتعالى فِي كِتَابه الْعَزِيز،بقوله تَعَالَى: {فَأتى ابنيانهم من الْقَوَاعِد} (النَّحْل: 62) وَبَات النَّاس ولسانهم سرياني فَأَصْبحُوا وَقد تَفَرَّقت لغاتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا، كل يتبلبل بِلِسَانِهِ، فَسمى الْموضع بابلاً. وَقَالَ الْهَمدَانِي: وَرُبمَا سموا الْعرَاق بابلاً، قَالَ عمر بن أبي ربيعَة،وأتى الْبَصْرَة فضافه ابْن الْهلَال الْمَعْرُوف بصديق الْجِنّ:
    (يَا أهل بابل مَا نفست عَلَيْكُم ... من عيشكم إلاَّ ثَلَاث خلال)
    وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره: بابل، اسْم قَرْيَة أَو مَوضِع من مَوَاضِع الأَرْض، وَقد اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِيهَا، فَقَالَ بَعضهم،وَهُوَ السّديّ: هِيَ بابل دنباوند،وَقَالَ بَعضهم: بل ذَلِك بالعراق، ورد ذَلِك فِي حَدِيث مَرْوِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا
    ........
    (4/190)
    وَاعْلَم أَنه قد وَردت أَحَادِيث فِيهَا النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع،مِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر،رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله نهى أَن يصلى فِي سَبْعَة مَوَاطِن: فِي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطَّرِيق وَفِي الْحمام وَفِي معاطن الْإِبِل وَفَوق ظهر بَيت ا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يصلى فِيهَا ثَلَاثَة عشر موضعا،فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة وَزَاد: إِلَى الْمقْبرَة. وأمامك جِدَار مرحاض عَلَيْهِ نَجَاسَة والكنيسة والبيعة وَفِي قبلتك تماثيل وَفِي دَار الْعَذَاب. وَذكر غَيره، الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَإِلَى النَّائِم والمتحدث، وَالصَّلَاة فِي بطن الْوَادي وَالصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار، فَصَارَت الْجُمْلَة ثَمَانِيَة عشر موضعا.

    ..............
    (4/191)
    وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : إِن ابْن عَبَّاس كره الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة إِذا كَانَت فِيهَا تصاوير، وَلم ير الشّعبِيّ وَعَطَاء وَابْن أبي رَبَاح بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَة والبيعة بَأْسا وَكَذَلِكَ ابْن سِيرِين، وَصلى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْكَنِيسَة.

    .......
    (4/191)
    قَالَ الْخطابِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الدَّاخِل فِي ديار الْقَوْم الَّذين أهلكوا بخسف وَعَذَاب، إِذا دَخلهَا فَلم يجلب عَلَيْهِ مَا يرى من آثَار مَا نزل بهم بكاء، وَلم يبْعَث عَلَيْهِ حزنا إِمَّا شَفَقَة عَلَيْهِم وَإِمَّا خوفًا من حُلُول مثلهَا بِهِ، فَهُوَ قاسي الْقلب قَلِيل الْخُشُوع غير مستشعر للخوف والوجل، فَلَا يَأْمَن إِذا كَانَ حَاله كَذَلِك أَن يُصِيبهُ مَا أَصَابَهُم،وَهُوَ معنى قَوْله: (لَا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم) .
    .........
    (4/194)
    جَاءَ فِي رِوَايَة عَن عِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ أَن الثَّلَاثَة الَّذين أَتَوا إِلَى أنطاكية الْمَذْكُورين فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} (يس: 41) كَانُوا رسلًا من اتعالى وهم: صَادِق وصدوق وشلوم، وَعَن قَتَادَة إِنَّهُم كَانُوا رسلًا من عِيسَى، فعلى هَذَا لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فضلا عَن أَن يَكُونُوا رسلًا من اتعالى، وَأما مَرْيَم فَزعم ابْن حزم وَآخَرُونَ أَنَّهَا نبية، وَكَذَلِكَ سارة أم إِسْحَاق وَأم مُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعند الْجُمْهُور،كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَغَيره من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة: أَن النُّبُوَّة مُخْتَصَّة بِالرِّجَالِ وَلَيْسَت فِي النِّسَاء نبية.

    ............
    (4/196)
    الَ ابْن بطال فِيهِ أَن من لم يكن لَهُ مسكن وَلَا مَكَان مبيت يُبَاح لَهُ الْمبيت فِي الْمَسْجِد سَوَاء كَانَ رجلا أَو امْرَأَة عِنْد حُصُول الْأَمْن من الْفِتْنَة وَفِيه اصطناع الْخَيْمَة وَشبههَا للمسكين رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَفِيه أَن السّنة الْخُرُوج من بَلْدَة جرت فِيهَا فتْنَة على الْإِنْسَان تشاؤما بهَا وَرُبمَا كَانَ الَّذِي جرى عَلَيْهِ من المحنة سَببا لخير إِرَادَة الله بهَا فِي غير تِلْكَ الْبَلدة كَمَا جرى لهَذِهِ السَّوْدَاء أخرجتها فتْنَة الوشاح إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ورؤية النَّبِي سيد الْأَنَام قَالَ الله تَعَالَى {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} وَفِيه فضل الْهِجْرَة من دَار الْكفْر
    ............
    (4/199)
    فِي البُخَارِيّ فِي كتاب الاسْتِئْذَان مَا كَانَ لعَلي اسْم أحب إِلَيْهِ من أبي تُرَاب وَإنَّهُ كَانَ يفرح إِذا دعِي بهَا. السَّابِع فِيهِ الْفَضِيلَة الْعَظِيمَة لعَلي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه
    .........
    (4/200)
    قَالَ سُهَيْل بن أبي صَالح:: عَن عَامر بن عبد ابْن الزبير عَن عَمْرو بن سليم عَن جَابر بن عبد ا، فَوَهم فِي ذكره جَابِرا. وَقَالَ الطوسي فِي (الْأَحْكَام) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدِيث سُهَيْل غير مَحْفُوظ. وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدِيث سُهَيْل خطأ. وَقَالَ ابْن مَاجَه: رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن سعيد عَن عَامر عَن أبي قَتَادَة وَهُوَ وهم. وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن أبي قَتَادَة رَفعه بِزِيَادَة: (قبل أَن يجلس أَو يستخبر) . وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) زِيَادَة من طَرِيق حَسَنَة: (أعْطوا الْمَسَاجِد حَقّهَا. قيل: يَا رَسُول اوما حَقّهَا؟قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) . وَزَاد أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: (وَإِذا دخل بَيته فَلَا يجلس حَتَّى يرْكَع رَكْعَتَيْنِ، فَإِن اعز وَجل جَاعل لَهُ من ركعتيه فِي بَيته خيرا) . وَقَالَ إِسْنَاده مُنكر،وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي: قَالَ البُخَارِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا، وَأنكر ذَلِك ابْن الْقطَّان. وَزعم أَنه لَا يَصح نسبته إِلَيْهِ.

    ...............
    (4/202)
    قَالَ ابْن بطال: اتّفق أَئِمَّة الْفَتْوَى أَنه مَحْمُول على النّدب والإرشاد مَعَ استحبابهم الرُّكُوع لكل من دخل الْمَسْجِد لما رُوِيَ: أَن كبار أَصْحَاب رَسُول الله يدْخلُونَ الْمَسْجِد ثمَّ يخرجُون وَلَا يصلونَ، وَأوجب أهل الظَّاهِر فرضا على كل مُسلم دَاخل فِي وَقت تجوز فِيهِ الصَّلَاة الرَّكْعَتَيْنِ ،وَقَالَ بَعضهم: وَاجِب فِي كل وَقت، لِأَن فعل الْخَيْر لَا يمْنَع مِنْهُ إلاَّ بِدَلِيل معَارض لَهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: من دخل الْمَسْجِد فِي أَوْقَات النَّهْي فَلَيْسَ بداخل فِي أمره بِالرُّكُوعِ عِنْد دُخُوله الْمَسْجِد،وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِي عدم الْوُجُوب بقوله للَّذي رَآهُ يتخطى: إجلس فقد آذيت، وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ. فَقَالَ السفاقسي: وفقهاء الْأَمْصَار حملُوا هَذَا على النّدب لقَوْله للَّذي سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة: (هَل على غَيرهَا؟قَالَ: إلاَّ أَن تطوع) . وَلَو قُلْنَا بوجوبهما لحرم على الْمُحدث الْحَدث الْأَصْغَر دُخُول الْمَسْجِد حَتَّى يتَوَضَّأ، وَلَا قَائِل بِهِ، فَإِذا جَازَ دُخُول الْمَسْجِد على غير وضوء لزم مِنْهُ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ سجودها عِنْد دُخُوله، فَإِن قصد دُخُول الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ سنة بِإِجْمَاع، فَإِن دخل وَقت كَرَاهَة يكره لَهُ أَن يُصَلِّيهمَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الشَّافِعِي، ومذهبه الصَّحِيح أَن لَا كَرَاهَة. وَا أعلم. وَقَالَ عِيَاض: وَظَاهر مَذْهَب مَالك أَنَّهُمَا من النَّوَافِل. وَقيل: من السّنَن، فَإِن دخل مجتازاً فَهَل يُؤمر بهما؟ خفف فِي ذَلِك مَالك،وَعَن بعض أَصْحَاب مَالك: إِن من تكَرر دُخُوله الْمَسْجِد سقطتا عَنهُ،
    ..........
    (4/203)
    قَالَ السفاقسي: الْحَدث فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة يحرم بِهِ الْمُحدث اسْتِغْفَار الْمَلَائِكَة، وَلما لم يكن للْحَدَث فِيهِ كَفَّارَة ترفع
    أَذَاهُ كَمَا يرفع الدّفن أَذَى النخامة فِيهِ عُوقِبَ بحرمان الاسْتِغْفَار من الْمَلَائِكَة لما آذاهم بِهِ من الرَّائِحَة الخبيثة. وَقَالَ ابْن بطال: من أَرَادَ أَن تحط عَنهُ ذنُوبه من غير تَعب فليغتنم مُلَازمَة مُصَلَّاهُ بعد الصَّلَاة ليستكثر من دُعَاء الْمَلَائِكَة واستغفارهم لَهُ،فَهُوَ مرجو إجَابَته لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} (الْأَنْبِيَاء: 82) . وَفِيه: بَيَان فَضِيلَة من انْتظر الصَّلَاة مُطلقًا سَوَاء ثَبت فِي مَجْلِسه ذَلِك من الْمَسْجِد أَو تحول إِلَى غَيره.
    ........
    (4/206)
    أَن السّنة فِي بينيان الْمَسَاجِد الْقَصْد وَترك الغلو فِي تشييدها خشيَة الْفِتْنَة والمباهاة ببنيانها، وَكَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، مَعَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت فِي أَيَّامه وتمكنه
    من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات، إلاَّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.
    قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم: وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه،وَقَول بعض أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد،مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب
    .......
    (4/209)
    اسْتِحْبَاب الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد فِي الْفِتْنَة أمأجور هُوَ أم مأزور؟ إلاَّ بِغَلَبَة الظَّن، وَلَو كَانَ مأّوراً لما استعاذ عمار من الْأجر.
    وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: رد للْحَدِيث الشَّائِع: (لَا تستعيذوا با من الْفِتَن فَإِن فِيهَا حِصَار المناقين) قلت: ويروى: (لَا تكْرهُوا الْفِتَن) ، وَلَكِن لم يَصح هَذَا، فَإِن عبد ابْن وهب قد سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ؛ إِنَّه بَاطِل.
    ..........
    (4/213)
    يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله " وَهَذِه الْجُمْلَة مدرجة مُعْتَرضَة وَقعت فِي الْبَين وَلم يجْزم بهَا بكير فَلذَلِك ذكرهَا بالحسبان وَلَيْسَت هَذِه الْجُمْلَة فِي رِوَايَة جَمِيع من روى هَذَا الحَدِيث فَإِن لَفظهمْ فِيهِ " من بني لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة " فَكَأَن بكير أنسى لَفْظَة الله فَذكرهَا بِالْمَعْنَى فَإِن معنى قَوْله " لله " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِخْلَاص ثمَّ إِن لَفْظَة يَبْتَغِي بِهِ على تَقْدِير ثُبُوتهَا فِي كَلَام الرَّسُول تكون حَالا من فَاعل بنى وَالْمرَاد بِوَجْه الله ذَات الله وابتغاء وَجه الله فِي الْعَمَل هُوَ الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن تكون نِيَّته فِي ذَلِك طلب مرضاة الله تَعَالَى من دون رِيَاء وَسُمْعَة حَتَّى قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ من كتب اسْمه على الْمَسْجِد الَّذِي يبنيه كَانَ بَعيدا من الْإِخْلَاص (فَإِن قلت) فعلى هَذَا لَا يحصل الْوَعْد الْمَخْصُوص لمن يبنيه بِالْأُجْرَةِ لعدم الْإِخْلَاص (قلت) الظَّاهِر هَذَا وَلكنه يُؤجر فِي الْجُمْلَة يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا " أَن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة الْجنَّة صانعه الْمُحْتَسب فِي صَنعته والرامي بِهِ والممد بِهِ " فَقَوله " الْمُحْتَسب فِي صَنعته " هُوَ من يقْصد بذلك إِعَانَة الْمُجَاهِد وَهُوَ أَعم من أَن يكون مُتَطَوعا بذلك أَو بِأُجْرَة لَكِن الْإِخْلَاص لَا يكون إِلَّا من المتطوع
    .......
    (4/218)
    يهِ الدّلَالَة على أَن الشّعْر الْحق لَا يحرم فِي الْمَسْجِد، وَالَّذِي يحرم فِيهِ مَا فِيهِ الخناء والزور وَالْكَلَام السَّاقِط،يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححاً من حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ رَسُول الله ينصب لحسان منبراً فِي الْمَسْجِد فَيقوم عَلَيْهِ ويهجو الْكفَّار) . فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن عبد ابْن سعيد حدّثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (نهى رَسُول الله عَن تناشد الْأَشْعَار فِي الْمَسَاجِد) ،وَحسنه الحافظان: الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ ،وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث صَدَقَة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن عبد االشعبي عَن زفر بن وثيمة عَن حَكِيم بن حزَام مَرْفُوعا: (نهى النَّبِي أَن يستقاد فِي الْمَسْجِد، وَأَن تنشد فِيهِ الْأَشْعَار، وَأَن تُقَام فِيهِ الْحُدُود) .
    ..........
    (4/219)
    قَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِي ّ فِي (كتاب الْمَسَاجِد) : نهى عَن تناشد أشعار الْجَاهِلِيَّة والمبطلين فِيهِ، فَأَما أشعار الْإِسْلَام والمحقين فواسع غير مَحْظُور.
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي جَوَاز إنشاد الشّعْر مُطلقًا،فَقَالَ الشّعبِيّ وعامر بن سعد البَجلِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: لَا بَأْس بإنشاد الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء، وَلَا نكب عرض أحد من الْمُسلمين، وَلَا فحش. وَقَالَ مَسْرُوق بن الأجدع وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد اولحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب: تكره رِوَايَة الشّعْر وإنشاده،وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمر بن الْخطاب عَن رَسُول الله قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَالْبَزَّار والطَّحَاوِي،وروى مُسلم عَن سعد بن أبي وَقاص عَن النَّبِي قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلىء شعرًا)
    .......
    (4/225)
    1. بريرة !!!

    وَهِي بنت صَفْوَان، كَانَت لقوم من الْأَنْصَار، أَو مولاة لأبي أَحْمد ابْن جحش، وَقيل: مولاة لبَعض بني هِلَال، وَكَانَت قبطية.
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَرِيرَة مولاة لعَائِشَة كَانَت لعتبة بن أبي لَهب، قلت: ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي الصحابيات، وَقَالَ: يُقَال: إِن عبد الْملك بن مَرْوَان سمع مِنْهَا، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : من حَدِيث عبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ: (كنت أجالس بَرِيرَة بِالْمَدِينَةِ فَكَانَت تَقول لي: يَا عبد الْملك إِنِّي أرى فِيك خِصَالًا وَإنَّك لخليق أَن تلِي هَذَا الْأَمر، فَإِن وليته فاحذر الدُّنْيَا، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِن الرجل ليدفع عَن بَاب الْجنَّة بعد أَن ينظر إِلَيْهَا بملىء محجمة من دم يريقه من مُسلم بِغَيْر حق) . انْتهى.
    وَقد اخْتلف فِي اسْم زوج بَرِيرَة فَفِي (الصَّحِيح) : مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء، مُثَلّثَة، وَعَن الصريفيني عَن العسكري: معتب، بِعَين مُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَعند أبي، مُوسَى الْأَصْبَهَانِي ّ اسْمه: مقسم، وَا تَعَالَى أعلم....
    ...............
    (4/225)
    وَلَا يعْتق الْمكَاتب إِلَّا بأَدَاء الْكل عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء،لما روى أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته دِرْهَم) وروى الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) أخبرنَا ابْن أبي عُيَيْنَة عَن ابْن نجيح عَن مُجَاهِد أَن زيد ابْن ثَابت قَالَ فِي الْمكَاتب: (هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم) ، وَاخْتَارَهُ لمذهبه، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَفِيه اخْتِلَاف الصَّحَابَة. فمذهب ابْن عَبَّاس أَنه يعْتق كَمَا أَخذ الصَّحِيفَة من مَوْلَاهُ يَعْنِي؛ يعْتق بِنَفس العقد وَهُوَ غَرِيم الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة، وَمذهب ابْن مَسْعُود أَنه يعْتق إِذا أدّى قيمَة نَفسه، وَمذهب زيد مَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ مؤيد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور
    ي رِوَايَة البُخَارِيّ (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رَأَيْته عبدا) يَعْنِي: زوج بَرِيرَة، (كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة يبكي عَلَيْهَا ودموعه تسيل على لحيته، فَقَالَ النَّبِي لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: أَلا تعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن بغض بَرِيرَة مغيثاً؟ فَقَالَ النَّبِي: لَو راجعتيه قَالَت: يَا رَسُول اتأمرني؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنا أشفع. قَالَت: فَلَا حَاجَة لي فِيهِ)
    .......
    (4/226)
    وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: اخْتلفُوا فِي بيع الْمكَاتب عل ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَنْع، وَالْجَوَاز، وَالْفرق بَين أَن يَشْتَرِي لِلْعِتْقِ فَيجوز أَو للاستخدام فَلَا. أما من أجَاز بَيْعه فاستدل بِهَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ ثَبت أَن بَرِيرَة كَانَت مُكَاتبَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة: لَا يجوز بَيْعه، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة
    أَصْحَابه أَنه لَا يجوز بيع الْمكَاتب مَا دَامَ مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع مكَاتبه بِحَال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق يَقُول: يجوز بَيْعه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام.

    ..........
    (4/226)
    البيع بِالشّرطِ على ثَلَاثَة أوجه. الأول: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا جائزان، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: أَن كل شَرط يَقْتَضِيهِ العقد ويلائمه فَلَا يُفْسِدهُ بِأَن يَشْتَرِي أمة بِشَرْط أَن تخدمه أَو يَغْشَاهُ، أَو دَابَّة بِشَرْط أَن يركبهَا وَنَحْو ذَلِك. النَّوْع الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن يلائمه بِأَن يشْتَرط أَن يرهنه بِالثّمن رهنا، وَسَماهُ أَن يُعْطِيهِ كَفِيلا وَسَماهُ وَالْكَفِيل حَاضر فَقبله، وَكَذَلِكَ الْحِوَالَة، جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. النَّوْع الثَّالِث: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ: كالخيار وَالْأَجَل، أَو لم يرد الشَّرْع بِهِ وَلكنه مُتَعَارَف متعامل بَين النَّاس بِأَن اشْترى نعلا على أَن يحذوه البَائِع، أَو قلنسوة بِشَرْط أَن يبطنه. جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. الْوَجْه الثَّانِي: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا فاسدان، وَهُوَ كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَفِيه مَنْفَعَة لأَحَدهمَا أَو للمعقود عَلَيْهِ. بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع، أَو عبدا على أَن لَا يَبِيعهُ، وَكَذَا على أَن لَا يعتقهُ خلافًا للشَّافِعِيّ فِيهِ، فَإِن أعْتقهُ ضمن الثّمن اسْتِحْسَانًا عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا قِيمَته. الْوَجْه الثَّالِث: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة بل فِيهِ مضرَّة بِأَن بَاعَ ثوبا أَو دَابَّة بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ، أَو طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل وَلَا يَبِيع، جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة لأحد، بِأَن بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّالِث: كل شَرط يُوجب مَنْفَعَة لغير الْمُتَعَاقدين وَالْمَبِيع نَحْو: البيع بِشَرْط أَن يقْرض أَجْنَبِيّا لَا يفْسد البيع
    ......
    (4/230)
    وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: الحض على كنس الْمَسَاجِد وتنظيفها لِأَنَّهُ إِنَّمَا رخصه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بعد دَفنه من أجل ذَلِك، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كنس الْمَسْجِد.
    ........
    (4/233)
    الَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن رُؤْيَة الْجِنّ الْبشر غير مستحيلة، وَالْجِنّ أجسام لَطِيفَة والجسم، وَإِن لطف فدركه غير مُمْتَنع أصلا، وَأما قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) فَإِن ذَلِك حكم الْأَعَمّ الْأَغْلَب من أَحْوَال بني آدم، امتحنهم ابذلك وابتلاهم ليفزعوا إِلَيْهِ ويستعيذوا بِهِ من شرهم، وَيطْلبُونَ الْأمان من غائلتهم، وَلَا يُنكر أَن يكون حكم الْخَاص والنادر من المصطفين من عباده بِخِلَاف ذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَنْفِي رؤيتنا إيَّاهُم مُطلقًا، إِذْ الْمُسْتَفَاد مِنْهَا أَن رُؤْيَته إيانا مُقَيّدَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَلَا نراهم فِي زمَان رُؤْيَتهمْ لنا قطّ، وَيجوز رؤيتنا لَهُم فِي غير ذَلِك الْوَقْت.

    ..........
    (4/235)
    وَأما غير النَّبِي من النَّاس فَلَا يُمكن مِنْهُ وَلَا يرى أحد الشَّيْطَان على صورته غَيره لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم} (الْأَعْرَاف: 72) الْآيَة، لكنه يرَاهُ سَائِر النَّاس إِذا تشكل فِي غير شكله، كَمَا تشكل الَّذِي طعنه الْأنْصَارِيّ حِين وجده فِي بَيته على صُورَة حَيَّة، فَقتله فَمَاتَ الرجل بِهِ، فَبين النَّبِي ذَلِك بقوله: (إِن بِالْمَدِينَةِ جناً قد أَسْلمُوا، فَإِذا رَأَيْتُمْ من هَذِه الْهَوَام شَيْئا فاذنوه ثَلَاثًا، فَإِن بدا لكم فَاقْتُلُوهُ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
    ثمَّ اعْلَم أَن الْجِنّ يتصورون فِي صور شَتَّى، ويتشكلون فِي صور الْإِنْسَان والبهائم والحيات والعقارب وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَفِي صُورَة الطُّيُور. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَلَا قدرَة للشَّيْطَان على تَغْيِير خلقتهمْ والانتقال فِي الصُّور، إِنَّمَا يجوز أَن يعلمهُمْ اكلمات وَضَربا من ضروب الْأَفْعَال إِذا فعله وَتكلم بِهِ نَقله امن صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى، وَأما أَن يتَصَوَّر بِنَفسِهِ فَذَلِك محَال، لِأَن انتقالها من صُورَة إِلَى صُورَة إِنَّمَا يكون بِنَقْض البنية وتفريق الْأَجْزَاء، وَإِذا انتقضت بطلت الْحَيَاة، وَالْقَوْل فِي تشكل الْمَلَائِكَة كَذَلِك.

    .........
    (4/237)
    قَالَ الْمَدَائِنِي: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن. أما تهَامَة فَهِيَ النَّاحِيَة الجنوبية من الْحجاز، وَأما نجد فَهِيَ النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَأما الْحجاز فَهُوَ جبل سد من الْيمن حَتَّى يتَّصل بِالشَّام وَفِيه الْمَدِينَة وعمان، وَأما الْعرُوض فَهِيَ الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى أَن يشارف أَرض الْبَصْرَة فَهُوَ نجد، وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف، نجد، وَمَا كَانَ وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَينهمَا
    ..........
    (4/237)
    قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَنه أطلق ثُمَامَة لما علم أَنه آمن بِقَلْبِه وسيظهره بِكَلِمَة الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم يسلم تَحت الْأسر لعزة نَفسه، وَكَأن رَسُول الله أحس بذلك مِنْهُ، فَقَالَ: أَطْلقُوهُ، فَلَمَّا أطلق أسلم قلت: يرد هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه: (فَمر يَوْمًا فَأسلم فَحله) . فَهَذَا يُصَرح بِأَن إِسْلَامه كَانَ قبل إِطْلَاقه، فيعذر الْكرْمَانِي فِي هَذَا. لِأَنَّهُ قَالَ بِالِاحْتِمَالِ وَلم يقف على حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَكيف غفل عَن ذَلِك مَعَ كَثْرَة اطِّلَاعه فِي الحَدِيث؟

    ..........
    (4/238)
    وَقَالَ مَالك: إِذا أسلم النَّصْرَانِي فَعَلَيهِ الْغسْل، لأَنهم لَا يتطهرون. فَقيل: مَعْنَاهُ لَا يتطهرون من النَّجَاسَة فِي أبدانهم، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَيْهِم التطهر من الْجَنَابَة، وَإِن نووها لعدم الشَّرْع، وَقَالَ: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي، أمره بالاغتسال، وَلذَلِك قَالَ مَالك: لم يبلغنَا أَنه، أَمر أحدا أسلم بِالْغسْلِ. قلت: قد مر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار، وَفِيه: فَأمره أَن يغْتَسل. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) للحام: من حَدِيث عبد ابْن مُحَمَّد بن عقيل: عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: لما أسلمت أَمرنِي النَّبِي بالاغتسال. وَفِي (الْحِلْية) : لأبي نعيم عَن وَاثِلَة، قَالَ: (لما أسلمت قَالَ لي النَّبِي: غتسل بِمَاء وَسدر، واحلق عَنْك شعر الْكفْر) . وَفِي كتاب الْقُرْطُبِيّ: روى عبد الرَّحِيم بن عبيد ابْن عمر عَن أَبِيه عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل) . وروى مُسلم ابْن سَالم عَن أبي الْمُغيرَة عَن الْبَراء بن عَازِب. (أَن النَّبِي أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر)
    ..........
    (4/239)
    عد بن معَاذ أَبُو عَمْرو سيد الْأَوْس، بَدْرِي كَبِير. قَالَ أَبُو نعيم: مَاتَ فِي شَوَّال سنة خمس، وَكَذَا قَالَ ابْن إِسْحَاق، وَنزل فِي جنَازَته سَبْعُونَ ألف ملك مَا وطئوا الأَرْض قبل، واهتز لَهُ عرش الرَّحْمَن، وَفِي رِوَايَة: الْعَرْش فَإِن قلت: مَا وَجه اهتزاز الْعَرْش لَهُ؟ قلت: أُجِيب بأجوبه. الأول: أَنه اهتز استبشاراً بقدوم روحه. الثَّانِي: أَن المُرَاد اهتزاز حَملَة الْعَرْش، وَمن عِنْده من الْمَلَائِكَة. الثَّالِث: أَن المُرَاد بالعرش الَّذِي وضع عَلَيْهِ
    ........
    (4/239)
    قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره: يَعْنِي بالحيين: الْأَوْس والخزرج. وَكَانَ سعد من الْأَوْس، والبراء من الْخَزْرَج، وكل مِنْهُم لَا يقر بِفضل صَاحبه عَلَيْهِ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن سَعْدا والبراء كل مِنْهُمَا أوسي، وَإِنَّمَا أشكل عَلَيْهِم فِيمَا أرى أَنه رأى فِي نسب الْبَراء بن عَازِب بن الْحَارِث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وَسعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امريء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث الأوسي، فَظن أَن الْخَزْرَج الأول هُوَ أَبُو الخزرجيين، فَفرق بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْخَزْرَج أَبُو الحارثيين الْمَذْكُورين فِي نسبهما، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس بن حَارِثَة، كَذَا ذكر نسبهما بن سعد وَابْن إِسْحَاق وَخَلِيفَة فِي الآخرين.
    ..........
    (4،241)
    أَن الْمقَام كَانَ حِينَئِذٍ مُلْصقًا بِالْبَيْتِ قبل أَن يَنْقُلهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من ذَلِك الْمَكَان إِلَى صحن الْمَسْجِد انْتهى
    ......
    (4/242)
    دلَالَة ظَاهِرَة لكرامة الْأَوْلِيَاء وَلَا شكّ فِيهِ. وَفِيه رد على من يُنكر ذَلِك وَقد وَقع مثل هَذَا قَدِيما وحديثا. أما قَدِيما فَمن ذَلِك مَا ذكره ابْن عَسَاكِر وَغَيره " عَن قَتَادَة بن النُّعْمَان أَنه خرج من عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِيَدِهِ عرجون فأضاء العرجون " وَفِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَيْمُون بن زيد بن أبي عبس حَدثنِي أبي " أَن أَبَا عبس كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَوَات ثمَّ يرجع إِلَى بني حَارِثَة فَخرج فِي لَيْلَة مظْلمَة مطيرة فنورت لَهُ عَصَاهُ حَتَّى دخل دَار بني حَارِثَة " وَمن حَدِيث كثير بن زيد عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه قَالَ " كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنفرنا فِي لَيْلَة مظْلمَة فَأَضَاءَتْ أصابعي حَتَّى جمعُوا عَلَيْهَا ظهْرهمْ وَمَا هلك مِنْهُم وَإِن أصابعي لتنير " وَفِي لفظ " نفرت دوابنا وَنحن فِي مشقة " الحَدِيث. وَأما حَدِيثا فَمن ذَلِك مَا ثَبت بالتواتر عَن جمَاعَة من طلبة الْعلم الثِّقَات أَنهم كَانُوا مَعَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة حسان الدّين الرهاوي مُصَنف الْبَحْر وَغَيره فِي وَلِيمَة بِمَدِينَة عينتاب وَكَانَت فِي لَيْلَة مظْلمَة شَاتِيَة فَلَمَّا تفَرقُوا أَرَادَ جمَاعَة أَن ينوروا على الشَّيْخ إِلَى بَاب دَاره لشدَّة الظلمَة فَمَا رَضِي بذلك فَرَجَعُوا وَتَبعهُ جمَاعَة من بعد فَقَالُوا وهم يحلفُونَ أَنهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس أَحدهمَا عَن يَمِين الشَّيْخ وَالْآخر عَن يسَاره فَلم يَزَالَا مَعَه إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب دَاره فَلَمَّا فتح الْبَاب وَدخل الشَّيْخ ارْتَفع النوران وَلَقَد أخبروا عَنهُ بكرامات أُخْرَى غير ذَلِك وَهُوَ أحد مشايخي الَّذين أخذت عَنْهُم الْعلم وانتفعت بهم
    .............
    (4/245)
    وَزعم السفاقسي أَنه كَانَ اتخذ خَلِيلًا من الْمَلَائِكَة. وَلِهَذَا قَالَ: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا من أمتِي) . انْتهى يردة قَوْله: (وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي) ،
    ........
    (4/246)
    لَ الْخطابِيّ: وَلَا أعلم أَن إِثْبَات الْقيَاس أقوى من إِجْمَاع الصَّحَابَة على اسْتِخْلَاف أبي بكر، مستدلين فِي ذَلِك باستخلافه إِيَّاه فِي أعظم أُمُور الدّين، وَهُوَ الصَّلَاة، فقاسوا عَلَيْهَا سَائِر الْأُمُور، وَلِأَنَّهُ كَانَ يخرج من بَاب بَيته وَهُوَ فِي الْمَسْجِد للصَّلَاة، فَلَمَّا غلق الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب أبي بكر دلّ على أَنه يخرج مِنْهُ للصَّلَاة، فَكَأَنَّهُ أَمر بذلك على أَن من بعده يفعل ذَلِك هَكَذَا، فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (سدوا الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب عَليّ) قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ غَرِيب، وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث: إلاَّ بَاب أبي بكر أصح. وَقَالَ الْحَاكِم: تفرد بِهِ مِسْكين بن بكير الْحَرَّانِي عَن شُعْبَة، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: وَهُوَ وهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَتَابعه
    ابراهيم بن المختار
    ..........
    (4/247)
    عثْمَان بن طَلْحَة " هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى الْعَبدَرِي الحَجبي
    قتل أَبوهُ وَعَمه يَوْم أحد كَافِرين فِي جمَاعَة من بني عَمهمَا وَهَاجَر هَذَا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو وَدفع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَإِلَى ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان مِفْتَاح الْكَعْبَة وَقَالَ الْكرْمَانِي أسلم يَوْم هدنة الْحُدَيْبِيَة وَجَاء يَوْم الْفَتْح بمفتاح الْكَعْبَة وَفتحهَا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خذوها " يَعْنِي الْمِفْتَاح " يَا آل أبي طَلْحَة خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم " ثمَّ نزل الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ تحول إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين
    .......
    (4/248)
    وروى أَحْمد من حَدِيث عُثْمَان بن أبي طَلْحَة بِسَنَد صَالح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت فصلى رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين " وَفِي فَوَائِد سمويه بن عبد الرَّحْمَن بن الوضاح قَالَ " قلت لشيبة زَعَمُوا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْكَعْبَة فَلم يصل فِيهَا قَالَ كذبُوا وَأبي لقد صلى رَكْعَتَيْنِ بَين العمودين ثمَّ ألصق بهما بَطْنه وظهره " -
    .......
    (4/251)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النَّوَافِل،فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: السّنة أَن تكون مثنى مثنى لَيْلًا وَنَهَارًا. قَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل الْأَرْبَع لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ، وبالنهار أَربع. وَاحْتج أَبُو حنيفَة فِي صَلَاة اللَّيْل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عَائِشَة (أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول ا، فِي جَوف اللَّيْل،فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة. ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَفِي آخِره: (حَتَّى قبض على ذَلِك) ،وَاحْتج فِي صَلَاة النَّهَار بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة (أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة: كم كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الضُّحَى؟
    قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده،وَفِيه: (لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام) . فَإِن قلت: روى الْأَرْبَعَة عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ،قلت: لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ سكت عَنهُ،إلاَّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد ابْن عمر عَن النَّبِي وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار،وَ
    قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ، وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) إِسْنَاد جيد إلاَّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار،مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وَطَاوُس. والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وروى الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبعا. وبالليل رَكْعَتَيْنِ،ثمَّ قَالَ: فمحال أَن يروي ابْن عمر عَن رَسُول الله شَيْئا ثمَّ يُخَالف ذَلِك، فَعلم بذلك أَنه كَانَ مَا رُوِيَ عَنهُ عَن رَسُول الله ضَعِيفا، أَو كَانَ مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. فَإِن قلت: روى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ اصفهان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول ا: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) عَنهُ قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ؟قلت: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أصح مِنْهُمَا وَأقوى وَأثبت
    .......
    (4/253)
    فَإِن قلت: قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي: لم نجد عَن النَّبِي خَبرا ثَابتا مُفَسرًا أَنه أوتر بِثَلَاث لم يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، كَمَا وجدنَا فِي الْخمس والبسع وَالتسع، غير أَنا وجدنَا عَنهُ أَخْبَارًا أَنه أوتر بِثَلَاث لَا ذكر للتسليم فِيهَا؟قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ من (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث عَائِشَة: أَنه إِن يُوتر بِثَلَاث لَا يقْعد إلاَّ فِي آخِرهنَّ،وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ،وَقد قيل: لَعَلَّ مُحَمَّد بن نصر لَا يرى هَذَا ثَابتا. قلت: هَذَا تعصب لَا يجدي وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته ثَابتا أَن لَا يكون ثَابتا عِنْد غَيره
    ..........
    (4/257)
    أَن الحَدِيث الْوَارِد فِي الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، وَأَن الْمَسَاجِد خير الْبِقَاع، كَمَا أخرجه الْبَزَّار وَغَيره لَا يَصح إِسْنَاده، وَلَو صَحَّ لم يمْنَع وضع الْمَسْجِد فِي السُّوق لِأَن بقْعَة الْمَسْجِد حِينَئِذٍ تكون بقْعَة خير.
    ......
    (4/258)
    ذكر تعدد الرِّوَايَات فِي قَوْله: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تزيد على صلَاته فِي بَيته خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) . وَعند أبي ماجة: (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) ،وَفِي لفظ: (فضل الصَّلَاة على صَلَاة أحدكُم وَحده خمْسا وَعشْرين جُزْءا) . وَعند السراج: (تعدل خَمْسَة وَعشْرين صَلَاة من صَلَاة الْفَذ) ،وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ خمْسا وَعشْرين) ،وَفِي لفظ: (سَبْعَة وَعشْرين جُزْءا) ،وَفِي لفظ: خير من صَلَاة الْفَذ) ،وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة) ،وَفِي لفظ: (صَلَاة مَعَ الإِمَام أفضل من خمس وَعشْرين يُصليهَا وَحده) . وَفِي كتاب ابْن حزم: صَلَاة الْجَمَاعَة تزيد على صَلَاة الْمُنْفَرد سبعا وَعشْرين دَرَجَة، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الْفَذ،وَعند ابْن حبَان: (فَإِن صلاهَا بِأَرْض فَيْء فَأَتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها تكْتب صلَاته بِخَمْسِينَ دَرَجَة) ،وَعند أبي دَاوُد: (بلغت خمسين صَلَاة) . وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث: صَلَاة الرجل فِي الفلاة، تضَاعف على صلَاته فِي الْجَمَاعَة، موعند البُخَارِيّ،من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تفضل على صَلَاة الرجل وَحده بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَذَا رَوَاهُ نَافِع،وَعَامة من روى عَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ،
    ........
    (4/259)
    كر وَجه هَذِه الرِّوَايَات اخْتلفُوا فِي وَجه الْجمع بَين سبع وَعشْرين دَرَجَة وَبَين خمس وَعشْرين. فَقيل: السَّبع مُتَأَخِّرَة عَن الْخمس فَكَأَن اأخبره بِخمْس ثمَّ زَاده، ورد هَذَا بتعذر التَّارِيخ، ورد هَذَا الرَّد بِأَن الْفَضَائِل لَا تنسخ، فَتعين أَنه مُتَأَخّر. وَقيل: إِن صَلَاة الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد أفضل من صَلَاة الْفَذ فِي الْمَسْجِد بِسبع وَعشْرين دَرَجَة،ورد هَذَا بقوله: (وَصَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تضعف على صلَاته فِي بَيته وَفِي سوقه بِخمْس وَعشْرين ضعفا) . وَقيل: إِن الصَّلَاة الَّتِي لم تكن فِيهَا فَضِيلَة الخطى إِلَى الصَّلَاة، وَلَا فَضِيلَة انتظارها تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِسبع. وَقيل: إِن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْمُصَلِّين وَالصَّلَاة، فَمن أكملها وحافظ عَلَيْهَا فَوق من أخل بِشَيْء من ذَلِك،وَقيل: إِن الزِّيَادَة لصلاتي الْعشَاء وَالصُّبْح لِاجْتِمَاع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فيهمَا،وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (تفضل صَلَاة أحدكُم وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا، وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . فَذكر اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة بواو فاصلة، واستأنف الْكَلَام وقطعه من الْجُمْلَة الْمُتَقَدّمَة،وَقيل: لَا مُنَافَاة بَين الحدثين لِأَن ذكر الْقَلِيل لَا يُنَافِي الْكثير، وَمَفْهُوم الْعدَد بَاطِل عِنْد جمَاعَة من الْأُصُولِيِّين َ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا قَالَ: دَرَجَة،وَلم يقل: جُزْءا وَلَا نَصِيبا وَلَا حَافِظًا وَلَا شَيْئا من أَمْثَال ذَلِك، لِأَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَاب من جِهَة الْعُلُوّ والارتفاع، وَأَن تِلْكَ فَوق هَذِه بِكَذَا وَكَذَا دَرَجَة،لِأَن الدَّرَجَات إِلَى جِهَة فَوق قلت: قد جَاءَ فِيهِ لفظ: الْجُزْء والضعف،
    ....
    (4/259)
    نقل الطَّيِّبِيّ عَن التوربشتي: وَأما وَجه قصر أَبْوَاب الْفَضِيلَة على خمس وَعشْرين تَارَة، وعَلى سبع وَعشْرين أُخْرَى فَإِن الْمرجع فِي حَقِيقَة ذَلِك إِلَى عُلُوم النُّبُوَّة الَّتِي قصرت عقل الألباء عَن إِدْرَاك جملها وتفاصيلها،وَلَعَلَّ الْفَائِدَة فِيمَا كشف بِهِ حَضْرَة النُّبُوَّة وَهِي اجْتِمَاع الْمُسلمين مصطفين كَصُفُوف الْمَلَائِكَة والاقتداء بِالْإِمَامِ وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وَغَيرهَا انْتهى قلت: هَذَا لَا يشفي الغليل وَلَا يجدي العليل، وَالَّذِي ظهر لي فِي هَذَا
    الْمقَام من الْأَنْوَار الإلهية والأسرار الربانية والعنايات المحمدية أَن كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ، وَأَنه لَو صلى فِي بَيته كَانَ يحصل لَهُ ثَوَاب عشر صلوَات، وَكَذَا لَو صلىَّ فِي سوقه كَانَ لكل صَلَاة عشر، ثمَّ أَنه إِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُضَاعف لَهُ مثله فَيصير ثَوَاب عشْرين صَلَاة، أَو زِيَادَة الْخمس فَلِأَنَّهُ أدّى فرضا من الْفُرُوض الْخَمْسَة، فأنعم اعليه ثَوَاب خمس صلوَات أُخْرَى نَظِير عدد الْفُرُوض الْخَمْسَة زِيَادَة عشْرين إنعاماً وفضلاً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَتَصِير الْجُمْلَة خَمْسَة وَعشْرين
    .......
    (4/262)
    عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فِي بَيته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يرجع فَلَا يفعل هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه) ،وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن موهب عَن عَمه عَن مولى لأبي سعيد، وَهُوَ مَعَ رَسُول ا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد فَرَأى رجلا جَالِسا وسط النَّاس وَقد شَبكَ بَين أَصَابِعه يحدث نَفسه، فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله فَلم يفْطن لَهُ،فَالْتَفت إِلَى أبي سعيد فَقَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان) . فَإِن قلت: هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لأحاديث الْبَاب قلت: غير مقاومة لَهَا فِي الصِّحَّة، وَلَا مُسَاوِيَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه مُعَارضَة بِمَا رُوِيَ من النَّهْي عَن
    التشبيك فِي الْمَسْجِد، وَقد وَردت فِيهِ مَرَاسِيل،ومسند من طرق غير ثَابِتَة قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بالمسند حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث كَعْب هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان قلت: فِي اسناده اخْتِلَاف، فضعفه بَعضهم بِسَبَبِهِ،وَقيل: لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لِأَن النَّهْي إِنَّمَا ورد عَن فعل ذَلِك فِي الصَّلَاة أَو فِي الْمُضِيّ إِلَى الصَّلَاة وَفعله لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الْمُضِيّ إِلَيْهَا مُعَارضَة إِذا،وَبَقِي كل حَدِيث على حياله
    وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن ذَلِك مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد ضعيفه، لِأَن فِيهَا ضَعِيفا ومجهولاً، وَقد رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة،وَلَفظه: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان، وَإِن أحدكُم لَا يزَال فِي صَلَاة مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج مِنْهُ) وَقَالَ ابْن الْمُنِير: التَّحْقِيق أَنه لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث تعَارض،إِذا الْمنْهِي عَنهُ فعله على وَجه الْعَبَث وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُود التَّمْثِيل وتصوير الْمَعْنى فِي اللَّفْظ فَإِن قلت: مَا حكمه النَّهْي عَن التشبيك؟قلت: أُجِيب بأجوبة. الأول: لكَونه من الشَّيْطَان، كَمَا مر الْآن. الثَّانِي: لِأَنَّهُ يجلب النّوم، وَهُوَ من مظان الْحَدث. الثَّالِث: أَن صُورَة التشبيك تشبه صُورَة الِاخْتِلَاف، كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي حَدِيث ابْن عمر، فكره ذَلِك لمن هُوَ فِي حكم الصَّلَاة حَتَّى لَا يَقع فِي الْمنْهِي عَنهُ. قَوْله: للمصلين: (وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبهم) ، وَا تَعَالَى أعلم.
    ........
    (4/265)
    وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (معرفَة الصَّحَابَة) : ذُو الْيَدَيْنِ اسْمه الْخِرْبَاق من بني سليم، كَانَ نزل بِذِي خشب من نَاحيَة الْمَدِينَة، وَلَيْسَ هُوَ ذَا الشمالين خزاعي حَلِيف لبني زهرَة، قتل يَوْم بدر، وَأَن قصَّة ذِي الشمالين كَانَت قبل بدر، ثمَّ أحكمت الْأُمُور بعد ذَلِك.
    ...........
    (4/266)
    وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: ذُو الشمالين رجل من بني زهرَة، وبسبب هَذِه الْكَلِمَة ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود،قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق،وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره،وَلقَوْله: صلى بِنَا رَسُول ا، وَذكر الحَدِيث، وَإِسْلَام أبي هُرَيْرَة بِخَير بعد يَوْم بدر بِسنتَيْنِ، فَهُوَ غير ذِي الشمالين المستشهد ببدر، وَقد عدوا قَول الزُّهْرِيّ فِيهِ هَذَا من وهمه، وَقد عدهما بَعضهم حديثين فِي نازلتين وَهُوَ الصَّحِيح لاخْتِلَاف صفتهما،لِأَن فِي حَدِيث الْخِرْبَاق ذَا الشمالين أَنه: سلم من ثَلَاث،وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: من اثْنَتَيْنِ،وَفِي حَدِيث الْخِرْبَاق: إِنَّهَا الْعَصْر،وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: الظّهْر لغير شكّ عِنْد نعضهم، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك كُله. اناتهى
    ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود،قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق،وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره،
    وَقَالَ أَبُو عمر: ذُو الْيَدَيْنِ غير ذِي الشمالين الْمَقْتُول ببدر بِدَلِيل مَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَنه ذُو الشمالين، فَلم يُتَابع عَلَيْهِ.
    فَثَبت أَن الزُّهْرِيّ لم ينْفَرد بذلك، وَأَن الْمُخَاطب للنَّبِي ذُو الشمالين، وَأَن من قَالَ ذَلِك لم يهم، وَلَا يلْزم من عدم تَخْرِيج ذَلِك فِي الصَّحِيح عدم صِحَّته، فَثَبت أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، وَهَذَا أولى من جعله رجلَيْنِ لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي هَذَا الْموضع فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ حَدِيثا وَاسْتدلَّ بِهِ على بَقَاء ذِي الْيَدَيْنِ بعد النَّبِي، فَقَالَ: الَّذِي قتل ببدر هُوَ ذُو الشمالين بن عبد عَمْرو بن فضلَة، حَلِيف بني زهرَة من خُزَاعَة: وَأما ذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي أخبر النَّبِي، بسهوه فَإِنَّهُ بَقِي بعد النَّبِي. كَذَا ذكره شَيخنَا أَبُو عبد االحافظ


    .........
    (4/269)
    الروحاء) ، وَهُوَ مَوضِع ارْتَفع من مَكَان الروحاء، وَهِي بحاء مُهْملَة ممدودة. قَالَ أَبُو عبيد االبكري: هِيَ قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا. وَقَالَ كثير عزة: سميت الروحاء لِكَثْرَة أرواحها وبالروحاء بِنَاء يَزْعمُونَ أَنه قبر مُضر بن نزار. وَقَالَ أَبُو عبيد: وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: روحاني، على غير قِيَاس. وَقد قيل: روحاوي، على الْقيَاس. وَفِي (كتاب الْجبَال) للزمخشري: بَين الْمَدِينَة والروحاء أَرْبَعَة برد إلاَّ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَفِي (صَحِيح مُسلم) فِي بَاب الْأَذَان: (سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا) . وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة: على ثَلَاثِينَ ميلًا.
    .......
    (4/274)
    (مر الظهْرَان) زعم الْبكْرِيّ أَنه بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه،مُضَاف إِلَى: الظهْرَان،بِظَاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة: بَين مر وَالْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا. قلت: هُوَ الْوَادي الَّذِي تسميه الْعَامَّة بطن مر، وبسكون الرَّاء بعْدهَا وَاو، وَقَالَ كثير عزة سميت مرا لمرارة مَائِهَا. وَقَالَ أَبُو غَسَّان: سميت بذلك لِأَن فِي بطن الْوَادي بِئْرا ونخلة كبابة بعرق من الأَرْض أَبيض هجامر، إلاَّ أَن الْمِيم مَوْصُولَة بالراء، وببطن مر تخزعت خُزَاعَة من أخواتها فَبَقيت بِمَكَّة شرفها اتعالى، وسارت أخواتها إِلَى الشَّام أَيَّام سيل العرم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مر الظهْرَان بتهامة قريب من عَرَفَة
    .........
    (4/274)
    وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي (كتاب الْمَرَاسِيل) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: عَم بكير بن عبد االأشج قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَة مَسَاجِد مَعَ مَسْجِد النَّبِي يسمع أَهله تأذين بِلَال، رَضِي اتعالى عَنهُ، فيصلون فِي مَسَاجِدهمْ أقربها مَسْجِد بني عَمْرو بن مبذول، وَمَسْجِد بني سَاعِدَة، وَمَسْجِد بني عبيد، وَمَسْجِد بني سَلمَة، وَمَسْجِد بني رَايِح بن عبد الْأَشْهَل، وَمَسْجِد بني زُرَيْق، وَمَسْجِد غفار، وَمَسْجِد أسلم، وَمَسْجِد جُهَيْنَة، وَشك فِي التَّاسِع. وَفِي كتاب (أَخْبَار الْمَدِينَة) لأبي زيد عَمْرو بن شبة النميري النَّحْوِيّ الأخباري،بِسَنَد لَهُ فِي ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي بِالْمَدِينَةِ: عَن رَافع بن خديج: صلى النَّبِي،فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأحد فِي شعب الجرار على يَمِينك اللازق بِالْجَبَلِ: وَعَن أسيد بن أبي أسيد عَن أشياخه أَن النَّبِي،، دَعَا على الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ مَسْجِد الْفَتْح. وَصلى فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأَصْل الْجَبَل حِين تصعد الْجَبَل: وَعَن عمَارَة ابْن أبي الْيُسْر: صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْأَسْفَل. وَعَن جَابر: دَعَا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فِي الْمَسْجِد الْمُرْتَفع وَرفع يَدَيْهِ مدا، وَعَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني خدارة، وَعَن عَمْرو بن قَتَادَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى لَهُم فِي مَسْجِد فِي بني أُميَّة من الْأَنْصَار، وَكَانَ فِي مَوضِع الخربتين
    قلت: قد اندرس أَكثر هَذِه الْمَسَاجِد وَبَقِي من الْمَشْهُور الْآن مَسْجِد قبا، وَمَسْجِد بني قُرَيْظَة، ومشربة أم إِبْرَاهِيم وَهِي شمَالي مَسْجِد قُرَيْظَة، وَمَسْجِد بني ظفر، شَرْقي البقيع وَيعرف: بِمَسْجِد البغلة، وَمَسْجِد بني مُعَاوِيَة وَيعرف بِمَسْجِد الْإِجَابَة، وَمَسْجِد الْفَتْح قريب من جبل سلع، وَمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ فِي بني سَلمَة.
    ...........
    (4/275)
    ي بَيَان وَجه تتبع عبد ابْن عمر الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا رَسُول ا، وَهُوَ أَنه يسْتَحبّ التتبع لآثار النَّبِي والتبرك بهَا، وَلم يزل النَّاس يتبركون بمواضع الصَّالِحين. وَقد روى شُعْبَة عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد،قَالَ: كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي اعنه،فِي سفر فصلى الْغَدَاة ثمَّ أَتَى على مَكَان فَجعل النَّاس يأتونه وَيَقُولُونَ: صلى فِيهِ النَّبِي. فَقَالَ عمر: إِنَّمَا هلك أهل الْكتاب، إِنَّهُم كَانُوا اتبعُوا آثَار أَنْبِيَائهمْ فاتخذوا كنائس وبيعاً، فَمن عرضت لَهُ الصَّلَاة فَليصل، وَإِلَّا فليمض. قَالُوا: أما مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه ذكر ذَلِك فَلِأَنَّهُ خشِي أَن يلْتَزم النَّاس الصَّلَاة فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع، فيشكل ذَلِك على من يَأْتِي بعدهمْ، وَيرى ذَلِك وَاجِبا. وَكَذَا يَنْبَغِي للْعَالم إِذا رأى النَّاس يلبتزمون النَّوَافِل التزاماً شَدِيدا أَن يترخص فِيهَا فِي بعض المرات وَيَتْرُكهَا ليعلم بِفِعْلِهِ، ذَلِك أَنَّهَا غير وَاجِبَة، كَمَا فعل ابْن عَبَّاس فِي ترك الْأُضْحِية.
    .......
    (4/277)
    لحربة الْمَذْكُورَة هَل لَهَا حد فِي الطول وَمَا الْمُعْتَبر فِي طول الستْرَة (قلت) قَالَ أَصْحَابنَا مقدارها ذِرَاع فَصَاعِدا وَأخذُوا ذَلِك بِحَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا جعلت بَين يَديك مثل مؤخرة الرحل فَلَا يَضرك من يمر بَين يَديك " رَوَاهُ مُسلم وَذكر شيخ الْإِسْلَام فِي مبسوطه من حَدِيث أبي جُحَيْفَة الْآتِي ذكره أَن مِقْدَار العنزة طول ذِرَاع فِي غلظ أصْبع وَيُؤَيّد هَذَا قَول ابْن مَسْعُود يجزىء من الستْرَة السهْم وَفِي الذَّخِيرَة طول السهْم ذِرَاع وَعرضه قدر أصْبع وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَت الستْرَة أقل من ذِرَاع وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام لَو وضع قناة أَو جعبة بَين يَدَيْهِ وارتفع قدر ذِرَاع كَانَت ستْرَة بِلَا خلاف وَإِن كَانَت دونه فَفِيهِ خلاف
    ............
    (4/286)
    وَقد اخْتلف السّلف فِي الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فكرهه أنس بن مَالك لوُرُود النَّهْي بذلك، رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ،وَقَالَ ابْن مَسْعُود: لَا تصفوا بَين الأساطين واتموا الصُّفُوف) . وَأَجَازَهُ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وسُويد بن غَفلَة يؤمُّونَ قَومهمْ بَين الأساطين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَقَالَ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) لَا بَأْس باصلاة بَينهمَا لضيق الْمَسْجِد. وَقَالَ ابْن حبيب: لَيْسَ النَّهْي عَن تقطيع الصُّفُوف إِذْ ضَاقَ الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ إِذا كَانَ الْمَسْجِد وَاسِعًا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَسبب الْكَرَاهَة بَين الأساطين أَنه رُوِيَ أَنه مصلى الْجِنّ الْمُؤمنِينَ.
    ...........
    (4/291)
    وَزعم ابْن الْعَرَبِيّ أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي وجوب وضع الستْرَة بَين يَدي الْمُصَلِّي على ثَلَاثَة أَقْوَال. الأول: أَنه وَاجِب، فَإِن لم يجد وضع خطا، وَبِه قَالَ أَحْمد،كَأَنَّهُ اعْتمد حَدِيث ابْن عمر الَّذِي صَححهُ الْحَاكِم: (لَا تصلي إلاَّ إِلَى ستْرَة وَلَا تدع أحدا يمر بَين يَديك) . وَعَن أبي نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) : حدّثنا سُلَيْمَان، أَظُنهُ عَن حميد بن هِلَال،قَالَ عمر ابْن الْخطاب: لَو يعلم الْمُصَلِّي مَا ينقص من صلَاته مَا صلى إِلَّا إِلَى شَيْء يستره من النَّاس، وَعند ابْن أبي شيبَة،عَن ابْن مَسْعُود: (إِنَّه ليقطع نصف صَلَاة الْمَرْء الْمُرُور بَين يَدَيْهِ) . الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَحبَّة، ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. الثَّالِث: جَوَاز تَركهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن مَالك. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الأَصْل فِي الستْرَة أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يستحبون إِذا صلوا فِي الفضاء أَن يكون بَين أَيْديهم مَا يسترهم. وَقَالَ عَطاء، لَا بَأْس بترك الستْرَة، وَصلى الْقَاسِم وَسَالم فِي الصَّحرَاء إِلَى غير ستْرَة، ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
    وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي هَذَا على عشرَة أَنْوَاع: الأول: أَن الستْرَة وَاجِبَة أَو لَا؟ وَقد مر الْآن. الثَّانِي: مِقْدَار مَوضِع يكره الْمُرُور فِيهِ،فَقيل: مَوضِع سُجُوده، وَهُوَ اخْتِيَار شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَشَيخ الْإِسْلَام قاضيخان،وَقيل: مِقْدَار صفّين أَو ثَلَاثَة،وَقيل: بِثَلَاثَة أَذْرع،وَقيل: بِخَمْسَة أَذْرع. وَقيل: بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعا، وَقدر الشَّافِعِي وَأحمد بِثَلَاثَة أَذْرع، وَلم يحد مَالك فِي ذَلِك حدا إلاّ أَن ذَلِك بِقدر مَا يرْكَع فِيهِ وَيسْجد ويتمكن من دفع من مر بَين يَدَيْهِ. وَالثَّالِث: أَنه يسْتَحبّ لمن صلى فِي الصَّحرَاء أَن يتَّخذ أَمَامه ستْرَة،وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فليجعل تِلْقَاء وَجهه شَيْئا، فَإِن لم يجد فلينصب عَصا، فَإِن لم يكن لَهُ عَصا، فليخط خطا وَلَا يضرّهُ مَا مر أَمَامه) . وخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَذكر عبد الْحق أَن ابْن الْمَدِينِيّ وَأحمد بن حَنْبَل صَحَّحَاهُ،وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَإِن كَانَ قد أَخذ بِهِ أَحْمد. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: لم نجد شَيْئا نَشد بِهِ هَذَا الحَدِيث. وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول: عنْدكُمْ شَيْء تشدون بِهِ، وَأَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى ضعفه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ ضعف وأضطراب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا بَأْس بِهِ فِي مثل هَذَا الجكم.
    الرَّابِع: مِقْدَار الستْرَة،قد ورد: قدر ذِرَاع، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ

    .........
    (4/292)
    وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: الْخط بَاطِل، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَجوزهُ أَشهب فِي (الْعُتْبِيَّة) وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالشَّافِعِيّ بالعراق،ثمَّ قَالَ بِمصْر: لَا يخط، والمانعون أجابوا عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أَنه ضَعِيف. وَقَالَ عبد الْحق: ضعفه جمَاعَة ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لم يَصح فِي الْخط شَيْء وَلَا يجوز القَوْل بِهِ.
    ,,,,,,,,,,,,
    (4/293)
    وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم) ، وَلَيْسَت هَذِه الزِّيَادَة فِي شَيْء من الرِّوَايَات غَيره، وَكَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) لَيست هَذِه الزِّيَادَة، وَكَذَا فِي سَائِر المسندات. وَفِي المستخرجات، غير أَنه وَقع فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : مَاذَا عَلَيْهِ، يَعْنِي من الْإِثْم، وعيب على الْمُحب الطَّبَرِيّ حَيْثُ عزا هَذِه الزِّيَادَة فِي الْأَحْكَام للْبُخَارِيّ.
    .........



    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم المجلد الرابع من " عمدة القاري " ويليه المجلد الخامس " كتاب مواقيت الصلاة "

  15. #235
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الله أكبر الله أكبر الله أكبر
    ولله الحمد
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    اليوم : السبت
    الموافق :11/ ذو الحجة /1441 ه
    الموافق : 1/ أغسطس /2020 ميلادي

    " ملخص المجلد الخامس كاملاً " .


    المجلد الخامس
    باب " مواقيت الصلاة "
    ( 5/2 )
    من الْعَادة المستمرة عِنْد المصنفين أَن يذكرُوا الْأَبْوَاب والفصول بعد لفظ: الْكتاب، فَإِن الْكتاب يَشْمَل الْأَبْوَاب والفصول، وَالْبَاب هُوَ النَّوْع،
    ..................
    )5/5(
    أن وَقت الصَّلَاة من فرائضها وَأَنَّهَا لَا تجزي، قبل وَقتهَا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء إلاَّ شَيْء رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَعَن بعض التَّابِعين: أجمع الْعلمَاء على خِلَافه وَلَا وَجه لذكره هَهُنَا لِأَنَّهُ لَا يَصح عَنْهُم وَصَحَّ عَن أبي مُوسَى خِلَافه مِمَّا وَافق الْجَمَاعَة فَصَارَ اتِّفَاقًا صَحِيحا.
    ..........
    (5/9)
    قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يَعْنِي الصَّلَوَات الْخمس إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر هَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ قَول العَبْد سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَقَالَ ابْن عبد الْبر قَالَ بعض المنتسبين إِلَى الْعلم من أهل عصرنا أَن الْكَبَائِر والصغائر تكفرها الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَاسْتدلَّ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث وَبِحَدِيث الصنَابحِي " إِذا تَوَضَّأ خرجت الْخَطَايَا من فِيهِ " الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عمر هَذَا جهل وموافقة للمرجئة وَكَيف يجوز أَن تحمل هَذِه الْأَخْبَار على عمومها وَهُوَ يسمع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} فِي آي كثير فَلَو كَانَت الطَّهَارَة وَأَدَاء الصَّلَوَات وأعمال الْبر مكفرة لما احْتَاجَ إِلَى التَّوْبَة وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن الْمَعْنى أَنَّهَا تكفر إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر
    ..............
    (4/11)
    وروى مُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (يَا رَسُول الله إِنِّي عَالَجت امْرَأَة فِي أقْصَى الْمَدِينَة، وَإِنِّي أصبت مِنْهَا مَا دون أَن أَمسهَا، فَأَنا هَذَا فَاقْض فيَّ بِمَا شِئْت. فَقَالَ عمر: لقد سترك الله لَو سترت على نَفسك، وَلم يرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. فَانْطَلق الرجل فَأتبعهُ رجلا فَتلا عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة) . وَاعْلَم أَن فِي كَون الرجل فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: أَبَا الْيُسْر، هُوَ أصح الْأَقْوَال السِّتَّة. القَوْل الثَّانِي: إِنَّه عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، أَبُو حَبَّة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، التمار،رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: (جَاءَت امْرَأَة إِلَى عَمْرو بن غزيَّة تبْتَاع تَمرا،فَقَالَ: إِن فِي بَيْتِي تَمرا فانطلقي أبيعك مِنْهُ، فَلَمَّا دخلت الْبَيْت بَطش بهَا، فَصنعَ بهَا كل شَيْء إلاّ أَنه لم يَقع عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذهب عَنهُ الشَّيْطَان نَدم على مَا صنع،وأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله تناولت امْرَأَة فصنعت بهَا كل شَيْء يصنع الرجل بامرأته إلاَّ أَنِّي لم أقع عَلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أَدْرِي، وَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا
    لقَوْل الثَّالِث: إِنَّه ابْن معتب، رجل من الْأَنْصَار ذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه) من حَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ،قَالَ: (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: معتب) ، فَذكر الحَدِيث.
    القَوْل الرَّابِع: إِنَّه أَبُو مقبل، عَامر بن قيس الْأنْصَارِيّ ذكره مقَاتل فِي (نَوَادِر التَّفْسِير) وَقَالَ: هُوَ الَّذِي نزل فِيهِ: {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114)
    القَوْل الْخَامِس: هُوَ نَبهَان التمار،وَزعم الثَّعْلَبِيّ أَن نَبهَان لم ينزل فِيهِ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم} (آل عمرَان: 135) . الْآيَة.
    القَوْل السَّادِس: إِنَّه عباد، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره.

    ............

    (5/14)
    ثمَّ أَي الْعَمَل أحب؟ فَيُوقف عَلَيْهِ بِلَا تَنْوِين. قلت: قَالَ النُّحَاة: إِن أيا الموصولة والشرطية والاستفهامية معربة دَائِما فَإِذا كَانَت: أَي هَذِه معربة عِنْد الْإِفْرَاد،فَكيف يُقَال: إِنَّهَا مَبْنِيَّة عِنْد الْإِضَافَة؟ وَلما نقل عَن سِيبَوَيْهٍ هَذَا هَكَذَا أنكر عَلَيْهِ الزّجاج،فَقَالَ: مَا تبين لي أَن سِيبَوَيْهٍ غلط إلاَّ فِي موضِعين: هَذَا أَحدهمَا، فَإِنَّهُ يسلم أَنَّهَا تعرب إِذا أفردت، فَكيف يَقُول ببنائها إِذا أضيفت؟
    ..........
    (5/15)
    من ضيع الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين مَعَ الْعلم بفضيلتها كَانَ لغَيْرهَا من أَمر الدّين أَشد تضييعا، وَأَشد تهاونا واستخفافا، وَكَذَا من ترك بر وَالِديهِ فَهُوَ لغير ذَلِك من حُقُوق الله أَشد تركا،وَكَذَا الْجِهَاد: من تَركه مَعَ قدرته عَلَيْهِ عِنْد تعينه، فَهُوَ لغير ذَلِك من الْأَعْمَال الَّتِي يتَقرَّب بهَا إِلَى الله تَعَالَى أَشد تركا، فالمحافظ على هَذِه الثَّلَاثَة حَافظ على مَا سواهَا، والمضيع لَهَا كَانَ لما سواهَا أضيع.
    .........
    (5/15)
    أَن أَعمال الْبر تفضل بَعْضهَا على بعض عِنْد الله تَعَالَى. فَإِن قلت: ورد أَن إطْعَام الطَّعَام خير أَعمال الْإِسْلَام،وَورد: (إِن أحب الْأَعْمَال إِلَى الله أَدْوَمه) ، وَغير ذَلِك، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟قلت: أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل من سَأَلَ بِمَا يُوَافق غَرَضه، أَو بِمَا يَلِيق بِهِ، أَو بِحَسب الْوَقْت، فَإِن الْجِهَاد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام أفضل الْأَعْمَال، لِأَنَّهُ كَانَ كالوسيلة إِلَى الْقيام بهَا. والتمكن من أَدَائِهَا، أَو بِحَسب الْحَال، فَإِن النُّصُوص تعاضدت على فضل الصَّلَاة على الصَّدَقَة، وَرُبمَا تجدّد حَال يَقْتَضِي مواساة مُضْطَر فَتكون الصَّدَقَة حِينَئِذٍ أفضل،وَيُقَال: إِن أفعل،فِي: أفضل الْأَعْمَال، لَيْسَ على بَابه، بل المُرَاد بِهِ الْفضل الْمُطلق.
    ......
    (5/14)
    روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْوَقْت الأول من الصَّلَاة رضوَان الله، وَالْوَقْت الآخر عَفْو الله) . وَالْعَفو لَا يكون إلاَّ عِنْد التَّقْصِير. . قلت: قَالَ ابْن حبَان، لما رَوَاهُ فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : وَتفرد بِهِ يَعْقُوب بن الْوَلِيد، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ مَوْضُوع. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول: لَا أعرف شَيْئا يثبت فِي أَوْقَات الصَّلَاة أَولهَا كَذَا وَآخِرهَا
    .............
    (5/16)
    روى مُسلم من حَدِيث الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر) . قَالَ ابْن بطال: يُؤْخَذ من الحَدِيث أَن المُرَاد الصَّغَائِر خَاصَّة لِأَنَّهُ شبه الْخَطَايَا بالدرن والدرن صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ من القروح والجراحات
    إِن قلت: الصَّغَائِر مكفرة بِنَصّ الْقُرْآن باجتناب الْكَبَائِر، فَمَا الَّذِي تكفره الصَّلَوَات الْخمس؟قلت: لَا يتم اجْتِنَاب الْكَبَائِر إِلَّا بِفعل الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا لم يَفْعَلهَا لم يكن مجتنبا للكبائر لِأَن تَركهَا من الْكَبَائِر فَيتَوَقَّف التَّكْفِير على فعلهَا. قَوْله: (بهَا) : أَي: بالصلوات،ويروى بِهِ بتذكير الضَّمِير أَي: بأَدَاء الصَّلَوَات
    ..........
    (5/20)
    لفظ جَهَنَّم فقد قَالَ قطرب زعم يُونُس أَنه اسْم أعجمي وَفِي الزَّاهِر لِابْنِ الْأَنْبَارِي قَالَ أَكثر النَّحْوِيين هِيَ أَعْجَمِيَّة لَا تجْرِي للتعريف والعجمة وَقَالَ أَنه عَرَبِيّ وَلم تجر للتعريف والتأنيث وَفِي المغيث هِيَ نعريب كهنام بالعبرانية وَذكره فِي الصِّحَاح فِي الرباعي ثمَّ قَالَ هُوَ مُلْحق بالخماسي لتشديد الْحَرْف الثَّالِث وَفِي الْمُحكم سميت جَهَنَّم لبعد قعرها وَلم يَقُولُوا فِيهَا جهنام وَيُقَال بِئْر جهنام بعيدَة القعر وَبِه سميت جَهَنَّم وَقَالَ أَبُو عَمْرو جهنام اسْم وَهُوَ الغليظ الْبعيد القعر
    .......
    (5/21)
    روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ قدر صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر فِي الصَّيف ثَلَاثَة أَقْدَام إِلَى خَمْسَة أَقْدَام وَفِي الشتَاء خَمْسَة أَقْدَام إِلَى سَبْعَة أَقْدَام فَهَذَا يدل على التَّحْدِيد. اعْلَم أَن هَذَا الْأَمر مُخْتَلف فِي الأقاليم والبلدان وَلَا يَسْتَوِي فِي جَمِيع المدن والأمصار وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي طول الظل وقصره هُوَ زِيَادَة ارْتِفَاع الشَّمْس فِي السَّمَاء وانحطاطها فَكلما كَانَت أَعلَى وَإِلَى محاذاة الرؤس فِي مجْراهَا أقرب كَانَ الظل أقصر وَكلما كَانَت أَخفض وَمن محاذاة الرؤس أبعد كَانَ الظل أطول وَلذَلِك ظلال الشتَاء ترَاهَا أبدا أطول من ظلال الصَّيف فِي كل مَكَان وَكَانَت صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما من الإقليم الثَّانِي ثَلَاثَة أَقْدَام ويذكرون أَن الظل فيهمَا فِي أول الصَّيف فِي شهر أدَار ثَلَاثَة أَقْدَام وَشَيْء وَيُشبه أَن تكون صلَاته إِذا اشْتَدَّ الْحر مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت الْمَعْهُود قبله فَيكون الظل عِنْد ذَلِك خَمْسَة أَقْدَام وَأما الظل فِي الشتَاء فَإِنَّهُم يذكرُونَ أَنه فِي تشرين الأول خَمْسَة أَقْدَام وَشَيْء وَفِي الكانون سَبْعَة أَقْدَام أَو سَبْعَة وَشَيْء فَقَوْل ابْن مَسْعُود منزل على هَذَا التَّقْدِير فِي ذَلِك الإقليم دون سَائِر الأقاليم والبلدان الَّتِي هِيَ خَارِجَة عَن الإقليم الثَّانِي
    ........
    (5/26)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على أَن وَقت الظّهْر زَوَال الشَّمْس،وَذكر ابْن بطال عَن الْكَرْخِي عَن أبي حنيفَة: أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت تقع نفلا،قَالَ: وَالْفُقَهَاء بأسرهم على خلاف
    .........
    (5/27)
    قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِن عبد الله بن حذافة كَانَ يطعن فِي نسبه، فَأَرَادَ أَن يبين لَهُ ذَلِك،فَقَالَت أمه: أما خشيت أَن أكون قارفت بعض مَا كَانَ يصنع فِي الْجَاهِلِيَّة، أَكنت فاضحي عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟فَقَالَ: وَالله لَو ألحقني بِعَبْد للحقت بِهِ.
    .....
    (5/31)
    قَالَ الْخطابِيّ: وَقد اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ للمطر فِي الْحَضَر فَأَجَازَهُ جمَاعَة من السّلف، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر، وَفعله عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَابْن الْمسيب وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبُو سَلمَة وَعَامة فُقَهَاء الْمَدِينَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، غير أَن الشَّافِعِي اشْترط فِي ذَلِك أَن يكون الْمَطَر قَائِما فِي وَقت افْتِتَاح الصَّلَاتَيْنِ مَعًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْر وَلم يشْتَرط ذَلِك غَيرهمَا. وَكَانَ مَالك يرى أَن يجمع الممطور فِي الطين وَفِي حَالَة الظلمَة، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي: يُصَلِّي الممطور كل صَلَاة فِي وَقتهَا
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه إبِْطَال تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم إِن المُرَاد بِالْجمعِ تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا، وَمثله فِي حَدِيث أنس: إِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر، ثمَّ نزل فَجمع بَينهمَا، وَهُوَ صَرِيح فِي الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقت الثَّانِيَة، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى أوضح دلَالَة وَهِي قَوْله: إِذا أَرَادَ أَن يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر أخر الظّهْر حَتَّى يدْخل أول وَقت الْعَصْر، ثمَّ يجمع بَينهمَا. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (وَيُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء حَتَّى يغيب الشَّفق) .
    .......
    (5/32)
    اسْتدلَّ جمَاعَة من الْأَئِمَّة إِلَى الْأَخْذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث على جَوَاز الْجمع فِي الْحَضَر للْحَاجة، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يتَّخذ عَادَة،وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وَابْن الْمُنْذر والقفال الْكَبِير، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَاسْتدلَّ لَهُم بِمَا وَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق سعيد بن جُبَير،قَالَ: (فَقلت لِابْنِ عباسِ: لِمَ فعل ذَلِك؟قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يُحرج أحد من أمته) . وللنسائي من طَرِيق عَمْرو بن هرم: عَن أبي الشعْثَاء أَن ابْن عَبَّاس صلى بِالْبَصْرَةِ الأولى وَالْعصر لَيْسَ بَينهمَا شَيْء، وَالْمغْرب وَالْعشَاء لَيْسَ بَينهمَا شَيْء، فعل ذَلِك من شغل. وروى مُسلم من طَرِيق عبد الله بن شَقِيق أَن شغل ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور كَانَ بِالْخطْبَةِ، وَأَنه خطب بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَن بَدَت النُّجُوم، ثمَّ جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَالَّذِي ذكره ابْن عَبَّاس من التَّعْلِيل بِنَفْي الْحَرج جَاءَ مثله عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ،وَلَفظه: (جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك،فَقَالَ: صنعت هَذَا لِئَلَّا تُحرج أمتِي) . قلت: قَالَ الْخطابِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: رَوَاهُ مُسلم عَن ابْن عَبَّاس، هَذَا حَدِيث لَا يَقُول بِهِ أَكثر الْفُقَهَاء. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ فِي كتابي حَدِيث أَجمعت الْعلمَاء على ترك الْعَمَل بِهِ إلاَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْجمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر، وَحَدِيث قتل شَارِب الْخمر فِي الْمرة الرَّابِعَة. وَأما الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ فَيردهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة لغير وَقتهَا)
    .........
    (5/37)
    قَالَ أَبُو عمر: قَول مَالك، قبَاء، وهم لَا شكّ فِيهِ وَلم يُتَابِعه أحد فِيهِ عَن ابْن شهَاب،وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يُتَابع مَالك على قَوْله: (قبَاء) ،وَالْمَعْرُوف: العوالي،وَكَذَا قَالَه الدَّارَقُطْنِي ّ فِي آخَرين: إِلَى العوالي، وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حدديث الزُّهْرِيّ،وَقَالَ التَّيْمِيّ: الصَّحِيح بدل قبَاء العوالي، كَذَلِك رَوَاهُ أَصْحَاب ابْن شهَاب كلهم غير مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) فَإِنَّهُ تفرد بِذكر: قبَاء، وَهُوَ مِمَّا يعد على مَالك أَنه وهم فِيهِ. قلت: تَابع مَالِكًا ابْن أبي ذِئْب،فَإِنَّهُ روى عَن الزُّهْرِيّ: إِلَى قبَاء، كَمَا قَالَه مَالك، نَقله الْبَاجِيّ عَن الدَّارَقُطْنِي ّ، فنسبة الْوَهم إِلَى مَالك غير موجه، وَلَئِن سلمنَا أَنه وهم، وَلَكِن لَا نسلم أَن يكون ذَلِك من مَالك قطعا، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ مَالِكًا. وَقَالَ ابْن بطال: روى خَالِد بن مخلد عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: إِلَى العوالي، كَمَا قَالَه الْجَمَاعَة، فَهَذَا يدل على أَن الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مَالك. ورد هَذَا بِأَن مَالِكًا أثْبته فِي (الْمُوَطَّأ) بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ كَافَّة أَصْحَابه، فرواية خَالِد عَنهُ شَاذَّة، وَلَئِن سلمنَا الْوَهم فِيهِ، فَهُوَ إِمَّا من مَالك كَمَا جزم بِهِ الْبَزَّار وَالدَّارَقُطْن ِيّ وَمن تبعهما، أَو من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ، وَمَعَ هَذَا كُله فقباء من العوالي، فَلَعَلَّ مَالِكًا رأى فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ إِجْمَالا وفسرها بقباء، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة الْوَهم إِلَى أحد. فَافْهَم
    ............
    (5/44)
    اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَبِالْقُرْآنِ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على إِثْبَات رُؤْيَة الله فِي الْآخِرَة للْمُؤْمِنين، وَقد روى أَحَادِيث الرُّؤْيَة أَكثر من عشْرين صحابيا،وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: روى رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لرَبهم عز وَجل فِي الْقِيَامَة: أَبُو بكر وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَابْن مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَحُذَيْفَة وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَأنس وعمار بن يَاسر وَزيد بن ثَابت وَعبادَة بن الصَّامِت وَبُرَيْدَة بن حصيب وجنادة بن أبي أُميَّة وفضالة بن عبيد وَرجل لَهُ صُحْبَة بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ذكر أَحَادِيثهم بأسانيد غالبها جيد، وَذكر أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي (كتاب تثبيت النّظر) أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَعمارَة بن رؤيبة وَأَبا رزين الْعقيلِيّ وَأَبا بَرزَة. وَزَاد الْآجُرِيّ فِي (كتاب الشَّرِيعَة) وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي الشَّيْخ فِي (كتاب السّنة الْوَاضِحَة) تأليفهما: عدي بن حَاتِم الطَّائِي بِسَنَد جيد، والرؤية مُخْتَصَّة بِالْمُؤْمِنِين َ مَمْنُوعَة من الْكفَّار. وَقيل: يرَاهُ مُنَافِقُو هَذِه الْأمة، وَهَذَا ضَعِيف،وَالصَّحِيح أَن الْمُنَافِقين كالكفار بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَعَن ابْن عمر وَحُذَيْفَة: من أهل الْجنَّة من ينظر إِلَى وَجهه غدْوَة وَعَشِيَّة.
    وَمنع من ذَلِك الْمُعْتَزلَة والخوارج وَبَعض المرجئة،وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوه: الأول: قَوْله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) . وَقَالُوا: يلْزم من نفي الْإِدْرَاك بالبصر نفي الرُّؤْيَة. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . و: لن،للتأييد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {قل لن تتبعونا} (الْفَتْح: 15) . وَإِذا ثَبت فِي حق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عدم الرُّؤْيَة ثَبت فِي حق غَيره،الثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} (الشورى: 51) . فالآية دلّت على أَن كل من يتَكَلَّم الله مَعَه فَإِنَّهُ لَا يرَاهُ، فَإِذا ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي وَقت الْكَلَام ثَبت فِي غير وَقت الْكَلَام ضَرُورَة، أَنه لَا قَائِل بِالْفَصْلِ. الرَّابِع: أَن الله تَعَالَى مَا ذكر فِي طلب الرُّؤْيَة فِي الْقُرْآن إلاَّ وَقد استعظمه وذم عَلَيْهِ،وَذَلِكَ فِي آيَات: مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون} (الْبَقَرَة: 55) . الْخَامِس: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى لرأيناه الْآن، والتالي بَاطِل، والمقدم مثله.
    .........
    (5/50)
    لَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور،وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب،وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ، وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل: يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس، وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ،قَالَ: وَإِذا انْتهى إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه،وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا.
    ..........
    (5/52)
    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل،ووزنهما: تفعلة وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين.
    .........
    (5/52)
    مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله،وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا،فيستقيم قَوْلهم: أَكثر عملا؟وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يتفقان على قَول وَاحِد،بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد هَكَذَا،ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ مُسَاوِيا لوقت الظّهْر،وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا، فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله،مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة بالتحقيق
    ..........
    (5/51)
    أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَنهُ،وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا أَرْبَعمِائَة سنة،وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة،وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ،قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي أنذر بهَا،ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي: والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح،أَنه قَالَ: (الدُّنْيَا سَبْعَة
    أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار
    ........
    (5/53)
    وَزعم السُّهيْلي: أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
    ........
    (5/54)
    قَالَ عِيَاض: الْجمع بَين الصَّلَوَات الْمُشْتَركَة فِي الْأَوْقَات تكون تَارَة سنة وَتارَة رخصَة، فَالسنة الْجمع بِعَرَفَة والمزدلفة. وَأما الرُّخْصَة فالجمع فِي السّفر وَالْمَرَض والمطر، فَمن تمسك بِحَدِيث صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد أمَّه، لم ير الْجمع فِي ذَلِك، وَمن خصّه أثبت جَوَاز الْجمع فِي السّفر بالأحاديث الْوَارِدَة فِيهِ، وقاس الْمَرَض عَلَيْهِ،فَنَقُول: إِذا أُبِيح للْمُسَافِر الْجمع بِمَشَقَّة السّفر، فأحرى أَن يُبَاح للْمَرِيض. وَقد قرن الله تَعَالَى الْمَرِيض بالمسافر فِي الترخيص لَهُ فِي الْفطر وَالتَّيَمُّم، وَأما الْجمع فِي الْمَطَر فَالْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك إثْبَاته فِي الْمغرب وَالْعشَاء،وَعنهُ قولة شَاذَّة: إِنَّه لَا يجمع إلاَّ فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمذهب الْمُخَالف جَوَاز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء، فِي الْمَطَر.

    .........

    (5/56)
    ثمَّ اخْتلفُوا فِي خُرُوج وَقت الْمغرب،فَقَالَ الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وطاووس وَمَكْحُول وَالْحسن بن حَيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد: إِذا غَابَ الشَّفق وَهُوَ الْحمرَة خرج وقتهاوممن قَالَ ذَلِك أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعبد الله بن الْمُبَارك وَالْأَوْزَاعِي ّ، فِي رِوَايَة،وَمَالك فِي رِوَايَة وَزفر بن الْهُذيْل وَأَبُو ثَوْر والمبرد وَالْفراء: لَا يخرج حَتَّى يغيب الشَّفق الْأَبْيَض، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة ومعاذ بن جبل وَأبي ابْن كَعْب وَعبد الله بن الزبير، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَكَانَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ يَقُولُونَ: لَا وَقت لَهَا إلاَّ وقتا وَاحِدًا إِذا غَابَتْ الشَّمْس، وَقد روينَا عَن طَاوُوس (أَنه قَالَ: لَا تفوت الْمغرب وَالْعشَاء حَتَّى الْفجْر.
    ..........
    (5/56)
    قَوله فِي مُسلم: هُوَ مَا رَوَاهُ من طَرِيق معَاذ عَن شُعْبَة: كَانَ الْحجَّاج يُؤَخر الصَّلَوَات. قَوْله: (قدم الْحجَّاج) يَعْنِي: قدم الْمَدِينَة واليا من قبل عبد الْملك بن مَرْوَان سنة أَربع وَسبعين، وَذَلِكَ عقيب قتل ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا،فأمَّره عبد الْملك على الْحَرَمَيْ
    ............
    (5/59)
    الَ الْقُرْطُبِيّ: الْأَعْرَاب من كَانَ من أهل الْبَادِيَة وَإِن لم يكن عَرَبيا، والعربي من ينْسب إِلَى الْعَرَب وَلَو لم يسكن الْبَادِيَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْأَعْرَاب ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إلاَّ لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل من النَّاس، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن. وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمَا أَعْرَابِي
    .............
    (5/60)
    لم يثبت عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِطْلَاق إسم الْعشَاء على الْمغرب، وَثَبت عَنهُ إِطْلَاق اسْم الْعَتَمَة على الْعشَاء، فغاير البُخَارِيّ بَين الترجمتين
    ............
    (5/61)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة سنة، سَوَاء قل عمره بعد ذَلِك أَو لَا وَلَيْسَ فِيهِ نفي عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذين هم فِيهَا، فوعظهم بقصر أعمارهم وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَرْضِ: الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا: وَقَالَ تَعَالَى: {ألَمْ تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء: 97) . يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: (مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض) إحتراز عَن الْمَلَائِكَة، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
    .......
    (6/62)
    احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر، وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَقَالَ السُّهيْلي،عَن أبي عمر بن عبد الْبر: قد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار باجتماع الْخضر بسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: لَو كَانَ حَيا لاجتمع بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَيْضًا عدم إِتْيَانه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ مؤثرا فِي الْحَيَاة وَلَا غَيرهَا، لأَنا عهدنا جمَاعَة آمنُوا بِهِ وَلم يروه مَعَ الْإِمْكَان،وَزعم ابْن عَبَّاس ووهب: أَن الْخضر كَانَ نَبيا مُرْسلا،وَمِمَّنْ قَالَ بنبوته أَيْضا: مقَاتل وَإِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي. وَقيل: كَانَ وليا. وَقَالَ أَبُو الْفرج: وَالصَّحِيح أَنه نَبِي، وَلَا يعْتَرض على الحَدِيث بِعِيسَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ على وَجه الأَرْض، وَلَا بالخضر لِأَنَّهُ فِي الْبَحْر، وَلَا لِأَنَّهُمَا ليسَا ببشر، وَكَذَا الْجَواب فِي إِبْلِيس. وَيُقَال معنى الحَدِيث: لَا يبْقى مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص،وَالْجَوَاب الْأَوْجه فِي هَذَا أَن نقُول: إِن المُرَاد مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض: أمته،وكل من هُوَ على ظهر الأَرْض: أمته الْمُسلمُونَ أمة إِجَابَة، وَالْكفَّار أمة دَعْوَة، وَعِيسَى وَالْخضر ليسَا داخلين فِي الْأمة، والشيطان لَيْسَ من بني آدم.
    .......
    (5/66)
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: كره أَكثر أهل الْعلم النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء، وَرخّص فِيهِ بَعضهم فِي رَمَضَان خَاصَّة، وَحمل الطَّحَاوِيّ الرُّخْصَة على مَا قبل دُخُول وَقت الْعشَاء، وَالْكَرَاهَة على مَا بعد دُخُوله. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف السّلف فِي ذَلِك،فَكَانَ ابْن عمر يسب الَّذِي ينَام قبلهَا فِيمَا حَكَاهُ ابْن بطال: وَلَكِن رُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يرقد قبلهَا،وَذكر عَنهُ: كَانَ ينَام ويوكل من يوقظه. روى معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَنهُ: أَنه كَانَ رُبمَا ينَام عَن الْعشَاء الْآخِرَة وَيَأْمُر أَن يُوقِظُوهُ. وَعَن أنس،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كُنَّا نجتنب الْفرش قبل الْعشَاء. وَكتب عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا ينَام قبل أَن يُصليهَا، فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عَيناهُ. وَكره ذَلِك أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وابراهيم وَمُجاهد وطاووس وَمَالك والكوفيون، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رُبمَا أغفى قبل الْعشَاء، وَعَن أبي مُوسَى وَعبيدَة، ينَام ويوكل من يوقظه،وَعَن عُرْوَة وَابْن سِيرِين وَالْحكم: أَنهم كَانُوا ينامون نومَة قبل الصَّلَاة، وَكَانَ أَصْحَاب عبد الله يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَبِه قَالَ بعض الْكُوفِيّين، وَاحْتج لَهُم بِأَنَّهُ كره ذَلِك لمن خشِي الْفَوات فِي الْوَقْت وَالْجَمَاعَة، أما من وكل بِهِ من يوقظه لوَقْتهَا فمباح، فَدلَّ على أَن النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم لفعل الصَّحَابَة، لَكِن الْأَخْذ بِظَاهِر الحَدِيث أحوط
    ...........
    (5/68)
    أَن النّوم من الْقَاعِد لَا ينْقض الْوضُوء إِذا كَانَ مَقْعَده مُمكنا، وَهَذَا هُوَ محمل الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين، وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر أحد من الروَاة أَنهم توضأوا من ذَلِك النّوم،وَلَا يدل لفظ: (ثمَّ استيقظوا) ، على النّوم الْمُسْتَغْرق الَّذِي يزِيل الْعقل،لِأَن الْعَرَب تَقول: اسْتَيْقَظَ من سنته وغفلته. وَفِيه: رد على الْمُزنِيّ حَيْثُ يَقُول: قَلِيل النّوم وَكَثِيره حدث ينْقض الْوضُوء. لِأَنَّهُ محَال أَن يذهب على أَصْحَابه أَن النّوم حدث فيصلون بِهِ.
    ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النّوم، فمذهب الْبَعْض إِلَى أَن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء على أَي حَالَة كَانَ، وَهَذَا محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَسَعِيد بن الْمسيب وَأبي مجلز وَحميد الْأَعْرَج وَشعْبَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ والمزني وَأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَهُوَ قَول غَرِيب للشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَقد رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة. وَمذهب الْبَعْض أَن كَثِيره ينقص بِكُل حَال وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّين: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْتَقض وضوؤه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، وَإِن نَام مضطجعآ أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَدَاوُد وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَمذهب الْبَعْض أَنه لَا ينْقض إِلَّا نوم الرَّاكِع والساجد، وَرُوِيَ هَذَا عَن أَحْمد أَيْضا. وَمذهب الْبَعْض: لَا ينْقض النّوم فِي الصَّلَاة بِكُل حَال، وينقض خَارج الصَّلَاة. وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْتَقض، وإلاَّ انْتقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
    .......
    (5/70)
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَ كثير من الْعلمَاء: البردان الْفجْر وَالْعصر، وسميا بذلك لِأَنَّهُمَا يفْعَلَانِ فِي وَقت الْبرد. وَقَالَ الْخطابِيّ: لِأَنَّهُمَا يصليان فِي بردي النَّهَار، وهما طرفاه حِين يطيب الْهَوَاء وَتذهب سُورَة الْحر. وَقَالَ السفاقسي عَن أبي عُبَيْدَة: المُرَاد الصُّبْح وَالْعصر وَالْمغْرب، وَفِيه نظر لِأَن الْمَذْكُور تَثْنِيَة وَمَعَ هَذَا لم يتبعهُ على هَذَا أحد، وَزعم الْقَزاز أَنه اجْتهد فِي تَمْيِيز هذَيْن الْوَقْتَيْنِ لعظم فائدتهما،فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى أَدخل الْجنَّة كل من صلى تِلْكَ الصَّلَاة مِمَّن آمن بِهِ فِي أول دَعوته، وَبشر بِهَذَا الْخَبَر أَن من صلاهما مَعَه فِي أول فَرْضه إِلَى أَن نسخ لَيْلَة الْإِسْرَاء، أدخلهم الله الْجنَّة كَمَا بَادرُوا إِلَيْهِ من الْإِيمَان تفضلاً مِنْهُ تَعَالَى. انْتهى
    ........
    (5/74)
    الرَّائِي من ايْنَ يعرف هَيْئَة كل امْرَأَة حِين كن مغطيات؟ وَالرجل لَا يعرف هَيْئَة امْرَأَته إِذا كَانَت بَين المغطيات إلاَّ بِدَلِيل من الْخَارِج؟وَقَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا يدل على أَنَّهُنَّ كن سافرات، إِذْ لَو كن متنقبات لمنع تَغْطِيَة الْوَجْه من معرفتهن لَا الْغَلَس.
    ........
    (5/76)
    وَقَالَ ابْن بطال تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَبعد الْعَصْر " وَكَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر بِمحضر من الصَّحَابَة من غير نَكِير فَدلَّ على أَن صلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصَة بِهِ دون أمته وَكره ذَلِك عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وَزيد بن ثَابت وَسَلَمَة بن عَمْرو وَكَعب بن مرّة وَأَبُو أُمَامَة وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وَعَائِشَة والصنابحي واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عسيلة وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ لَا تصلح الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغيب الشَّمْس وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس قَالَ وَكَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على ذَلِك
    ...........
    (5/89)
    اسْتدلَّ بِهِ مَالك فِي عدم قَضَاء سنة الْفجْر،وَقَالَ أَشهب: سُئِلَ مَالك هَل ركع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتي الْفجْر حِين نَام عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى طلعت الشَّمْس؟قَالَ: مَا بَلغنِي. وَقَالَ أَشهب: بَلغنِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركع. وَقَالَ عَليّ بن زِيَاد: وَقَالَ غير مَالك، وَهُوَ أحب إِلَى أَن يرْكَع، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ،وَقد قَالَ مَالك: إِن أحب أَن يركعهما من فَاتَتْهُ بعد طُلُوع الشَّمْس فعل. قلت: مَذْهَب مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ رَكعَتَا الْفجْر يقضيهما إِذا ارْتَفع النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يقضيهما هَذَا إِذا فَاتَت وَحدهَا، وَإِذا فَاتَت مَعَ الْفَرْض يقْضِي اتِّفَاقًا.
    .........
    (5/91)
    وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الصَّحِيح أَن الصَّلَاة الَّتِي شغل عَنْهَا وَاحِدَة وَهِي الْعَصْر وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " قَالَ وَمِنْهُم من جمع بِأَن الخَنْدَق كَانَت وقعته أَيَّامًا وَكَانَ ذَلِك فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة فِي تِلْكَ الْأَيَّام قَالَ وَهَذَا أولى (فَإِن قلت) تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة فِي ذَلِك الْيَوْم كَانَ نِسْيَانا أَو عمدا فَقيل كَانَ نِسْيَانا وَيُمكن أَن يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث ابْن لَهِيعَة أَن أَبَا جُمُعَة حبيب بن سِبَاع قَالَ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْأَحْزَاب صلى الْمغرب فَلَمَّا فرغ قَالَ هَل علم أحد مِنْكُم أَنِّي صليت الْعَصْر قَالُوا لَا يَا رَسُول الله مَا صليتها فَأمر الْمُؤَذّن فَأَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أعَاد الْمغرب " وَقيل كَانَ عمدا لكِنهمْ شغلوه وَلم يمكنوه من ذَلِك وَهُوَ أقرب (فَإِن قلت) هَل يجوز الْيَوْم تَأْخِير الصَّلَاة بِسَبَب الِاشْتِغَال بالعدو والقتال (قلت) الْيَوْم لَا يجوز تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا بل يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف وَكَانَ ذَلِك الِاشْتِغَال عذرا فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ كَانَ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف
    .......
    (5/93)
    مشْرُوعِيَّة الْجَمَاعَة فِي الْفَائِتَة وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وشذ اللَّيْث فَمنع من ذَلِك وَيرد عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث الْوَادي وَفِيه احتجاج من يرى امتداد وَقت الْمغرب إِلَى مغيب الشَّفق لِأَنَّهُ قدم الْعَصْر عَلَيْهَا وَلَو كَانَ ضيقا لبدأ بالمغرب لِئَلَّا يفوت وَقتهَا أَيْضا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي قَوْله الْجَدِيد فِي وَقت الْمغرب أَنه مضيق وقته. وَفِيه دَلِيل على عدم كَرَاهِيَة من يَقُول مَا صليت وروى البُخَارِيّ عَن ابْن سِيرِين أَنه كره أَن يُقَال فاتتنا وَليقل لم ندرك وَقَالَ البُخَارِيّ وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – أصح
    .
    .............
    (5/92)
    وَاسْتدلَّ أَيْضا من يرى وجوب التَّرْتِيب بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ أَبُو بكر هُوَ بَاطِل وتأوله جمَاعَة على معنى لَا نَافِلَة لمن عَلَيْهِ فَرِيضَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا نَسْمَعهُ على أَلْسِنَة النَّاس وَمَا عرفنَا لَهُ أصلا وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل مَا معنى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ لَا أعرف هَذَا الْبَتَّةَ. وَفِيه مَا اسْتدلَّ بِهِ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان للفائتة وَأجَاب من اعْتَبرهُ بِأَن الْمغرب كَانَت حَاضِرَة وَلم يذكر الرَّاوِي الْأَذَان لَهَا اعْتِمَادًا على أَن من عَادَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَان للحاضرة فالترك من الرَّاوِي لِأَنَّهُ لم يَقع فِي نفس الْأَمر وَاعْترض بِاحْتِمَال وُقُوع الْمغرب بعد خُرُوج الْوَقْت بعد نهي إيقاعها فِيهِ
    ........
    (5/93)
    روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمرَان بن الْحصين فِي هَذِه الْقِصَّة: (من أدْرك مِنْكُم صَلَاة الْغَدَاة من غَد صَالحا فليقض مَعهَا مثلهَا) قلت: قَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا قَالَ بِظَاهِرِهِ وجوبا،قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْأَمر فِيهِ للاستحباب ليحرز فَضِيلَة الْوَقْت فِي الْقَضَاء. انْتهى. وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: أَن هَذَا غلط من رِوَايَة،وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَيْضا: (أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَلا نقضيها لوَقْتهَا من الْغَد؟فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْهَاكُم الله عَن الرِّبَا وَيَأْخُذهُ مِنْكُم؟) .
    ..........
    (5/94)
    الْأَمر بِقَضَاء النَّاسِي من غير إِثْم، وَكَذَلِكَ النَّائِم سَوَاء كثرت الصَّلَاة أَو قلت، وَهَذَا مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة، وشذ بَعضهم فِيمَن زَاد على خمس صلوَات بِأَنَّهُ لَا يلْزمه قَضَاء، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَلَا يعْتد بِهِ، فَإِن تَركهَا عَامِدًا فالجمهور على وجوب الْقَضَاء أَيْضا، وَحكي عَن دَاوُد وَجمع يسير عد ابْن حزم، مِنْهُم خَمْسَة من الصَّحَابَة، عدم وجوب قَضَاء الصَّلَاة على الْعَامِد لِأَن انْتِفَاء الشَّرْط يستلزمم انْتِفَاء الْمَشْرُوط، فَيلْزم مِنْهُ أَن من لم ينس لَا يُصَلِّي إِذا ذكر،والخمسة الَّذين ذكرهم ابْن حزم من الصَّحَابَة وهم: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
    .............
    (5/101)
    بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
    10 - (كِتَابُ الأذَانِ)
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره: الْأَذَان على قلَّة أَلْفَاظه مُشْتَمل على مسَائِل العقيدة، لِأَنَّهُ بَدَأَ بالأكبرية، وَهِي تَتَضَمَّن وجود الله تَعَالَى وكماله، ثمَّ ثنى بِالتَّوْحِيدِ وَنفي الشَّرِيك، ثمَّ بِإِثْبَات الرسَالَة، ثمَّ دَعَا إِلَى الطَّاعَة الْمَخْصُوصَة عقيب الشَّهَادَة بالرسالة لِأَنَّهَا لَا تعرف إلاَّ من جِهَة الرَّسُول، ثمَّ دَعَا إِلَى الْفَلاح وَهُوَ الْبَقَاء الدَّائِم، وَفِيه الْإِشَارَة إِلَى الْمعَاد، ثمَّ أعَاد مَا أعَاد توكيدا. وَيحصل من الْأَذَان الْإِعْلَام بِدُخُول الْوَقْت، وَالدُّعَاء إِلَى الْجَمَاعَة، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام، وَالْحكمَة فِي اخْتِيَار القَوْل لَهُ دون الْفِعْل وسهولة القَوْل وتيسره لكل أحد فِي كل زمَان وَمَكَان، وَالله أعلم.
    .............
    (5/102)
    وَاخْتلفُوا فِي هَذَا،فَمنهمْ من قَالَ: إِن الْأَذَان كَانَ وَحيا لَا مناما. وَقيل: إِنَّه أَخذ من أَذَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْحَج. {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 27) ،قَالَ: فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: نزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَكْثَرُون َ على أَنه كَانَ برؤيا عبد الله بن زيد وَغَيره،
    ........
    (5/104)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالَّذِي جرى بِهِ الْعَمَل فِي الْحَرَمَيْنِ والحجاز وَالشَّام واليمن ومصر وَالْمغْرب إِلَى أقْصَى بِلَاد الْإِسْلَام: أَن الْإِقَامَة فُرَادَى،وَمذهب عَامَّة الْعلمَاء أَن يكون لفظ: قد قَامَت الصَّلَاة مكررا، إِلَّا مَالِكًا،فَالْمَشْهُور عَنهُ: أَنه لَا تَكْرِير،وَقَالَ: فرق بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة فِي التَّثْنِيَة والإفراد ليعلم أَن الْأَذَان إِعْلَام بورود الْوَقْت، وَالْإِقَامَة أَمارَة لقِيَام الصَّلَاة، وَلَو سوى بَينهمَا لاشتبه الْأَمر فِي ذَلِك، وَصَارَ سَببا لِأَن يفوت كثير من النَّاس صَلَاة الْجَمَاعَة إِذا سمعُوا الْإِقَامَة، فظنوا أَنَّهَا الْأَذَان. انْتهى
    ........
    (5/106)
    قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عبد الله بن زيد فِي بَدْء الْأَذَان جمَاعَة من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَمَعَان مُتَقَارِبَة، وَكلهَا تتفق على أمره عِنْد ذَلِك. والأسانيد فِي ذَلِك من وُجُوه صِحَاح،وَفِي مَوضِع آخر: من وُجُوه حسان، وَنحن نذْكر أحْسنهَا،فَذكر مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد:
    فَأَبُو دَاوُد ترْجم لهَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب بَدْء الْأَذَان، فَهَذَا الَّذِي هُوَ أحسن أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، كَمَا ذكره أَبُو عمر يُقَوي كَلَام الْقُرْطُبِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالف حَدِيث عبد الله بن زيد بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا أَن عمر سمع الصَّوْت فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ بِحَسب الظَّاهِر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ حَاضرا فَهُوَ يرد كَلَام بَعضهم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ
    .......
    (5/107)
    الَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا الْمَشْهُور أَنه سنة، فَلَو أذن قَاعِدا بِغَيْر عذر صَحَّ أَذَانه، لَكِن فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلم يثبت فِي اشْتِرَاط الْقيام شَيْء. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن وَائِل بن حجر،قَالَ: حق وَسنة مسنونة ألاَّ يُؤذن إِلَّا وَهُوَ طَاهِر، وَلَا يُؤذن إلاَّ وَهُوَ قَائِم. وَفِي (الْمُحِيط) : إِن أذن لنَفسِهِ فَلَا بَأْس أَن يُؤذن قَاعِدا من غير عذر، مُرَاعَاة لسنة الْأَذَان وَعدم الْحَاجة إِلَى إِعْلَام النَّاس، وَإِن أذن قَاعِدا لغير عذر صَحَّ، وفاتته الْفَضِيلَة، وَكَذَا لَو أذن قَاعِدا مَعَ قدرته على الْقيام صَحَّ أَذَانه،وَفِيه: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة طلب الْأَحْكَام من الْمعَانِي المستنبطة دون الِاقْتِصَار على الظَّوَاهِر.
    .......
    (5/107)
    هَل أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ بِنَفسِهِ؟فروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق يَدُور على عمر بن الرماح يرفعهُ إِلَى أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي سفر وَصلى بِأَصْحَابِهِ، وهم على رواحلهم، السَّمَاء من فَوْقهم، والبلة من أسفلهم) . هَكَذَا قَالَه السُّهيْلي. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَمَا ذكره السُّهيْلي،وَإِنَّمَا هُوَ عِنْده من حَدِيث عمر بن الرماح: عَن كثير بن زِيَاد عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن يعلى بن مرّة الثَّقَفِيّ عَن أَبِيه عَن جده،وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب، تفرد بِهِ عمر بن الرماح الْبَلْخِي، لَا يعرف إلاَّ من حَدِيثه، وَمن هَذِه الطَّرِيقَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ابْن الْعَرَبِيّ، وَسكت عَنهُ الإشبيلي، وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِأَن عمرا وأباه عُثْمَان لَا يعرف حَالهمَا. وَلما ذكره النَّوَوِيّ صَححهُ؛ وَمن حَدِيث يعلى أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَأحمد بن منيع وَابْن أُميَّة وَالطَّبَرَانِي ّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) والعدني، وَفِي (التَّارِيخ) للأثرم، و (تَارِيخ الْخَطِيب) وَغَيرهم،وَقَالَ الذَّهَبِيّ: يعلى بن مرّة بن وهب الثَّقَفِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة وَله دَار بِالْبَصْرَةِ
    .........
    (5/107)
    وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاس: ألله كبر، وَاحْتج بِأَن الْأَذَان سمع وَقفا لَا إِعْرَاب فِيهِ.
    حَيّ على الصَّلَاة) . قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكون الْيَاء الَّتِي قبلهَا. وَقَالَ ابْن الانباري: فِيهِ سِتّ لُغَات، حَيّ هلا، بِالتَّنْوِينِ، وَفتح اللَّام بِغَيْر تَنْوِين، وتسكين الْهَاء، وَفتح الَّلام، وَحي هلن، لَا وَحي هلين، قَالَه الزجاجي.

    وروى مجاشع عَن هَارُون بن مُحَمَّد عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُؤذن لكم إلاَّ فصيح) ،وَقَالَ ابْن عدي: هَارُون هَذَا لَا يعرف،
    ..........
    (5/117)
    وَقَالَ ابْن وضاح: قَوْله الْمُؤَذّن،مدرج والْحَدِيث: (فَقولُوا مثل مَا يَقُول) ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُؤَذّن، وَفِيه نظر لِأَن الإدراج لَا يثبت بِمُجَرَّد الدَّعْوَى،وَالرِّوَايَات فِي الصَّحِيحَيْنِ: (مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن) ، وَحذف صَاحب (الْعُمْدَة) لفظ: الْمُؤَذّن، لَيْسَ بِشَيْء،وَإِنَّمَا قَالَ: مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن، بِلَفْظ الْمُضَارع،وَلم يقل: مثل مَا قَالَ الْمُؤَذّن، بِلَفْظ الْمَاضِي، ليَكُون قَول السَّامع بعد كل كلمة مثل كلمتها،والصريح فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أم حَبِيبَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ عِنْدهَا فَسمع الْمُؤَذّن قَالَ مثل مَا يَقُول حِين يسكت) ، وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
    ..........
    (5/120)
    وَقَالَ المطرزي: فِي (كتاب اليواقيت) وَفِي غَيره: إِن الْأَفْعَال الَّتِي اخذت من أسمائها سَبْعَة وَهِي: بسمل الرجل،إِذا قَالَ: بِسم الله، وسبحل،إِذا قَالَ: سُبْحَانَ الله، وحوقل،إِذا قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وحيعل،إِذا قَالَ: حَيّ على الْفَلاح. وَيَجِيء على الْقيَاس: حيصل،إِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة،وَلم يذكر: وحمدل،إِذا قَالَ: الْحَمد لله. و: هيلل،إِذا قَالَ: لَا أَله إِلَّا الله،و: جعفل،إِذا قَالَ: جعلت فداءك. زَاد الثعالبي: الطيقلة،إِذا قَالَ: أَطَالَ الله بَقَاءَك،و: الدمعزة،إِذا قَالَ: أدام الله عزك. وَقَالَ عِيَاض: قَوْله: الحيصلة على قِيَاس الحيعلة غير صَحِيح، بل الحيعلة تطلق على حَيّ على الصَّلَاة وَحي على الْفَلاح، كلهَا حيعلة،وَلَو كَانَ على قِيَاسه فِي الحيصلة لَكَانَ الَّذِي يُقَال فِي: حَيّ على الْفَلاح، الحيفلة بِالْفَاءِ، وَهَذَا لم يقل،وَإِنَّمَا الحيعلة من قَوْلهم: حَيّ على كَذَا، فَكيف وَهُوَ بَاب مسموع لَا يُقَاس عَلَيْهِ؟وَانْظُر قَوْله: جعفل،فِي: جعلت فدَاك، لَو كَانَ على قِيَاس الحيعلة لقَالَ جعلف، إِذْ اللَّام مُقَدّمَة على الْفَاء،كَذَلِك: والطيقلة، تكون اللَّام على الْقيَاس قبل الْقَاف، وَالله تَعَالَى أعلم.
    .........
    (5/123)
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَكْثَر على أَن المُرَاد يالمقام الْمَحْمُود: الشَّفَاعَة. وَقيل: إجلاسه على الْعَرْش. وَقيل: على الْكُرْسِيّ وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذِي يحمده الْقَائِم فِيهِ وكل من رَآهُ وعرفه، وَهُوَ مُطلق فِي كل مَا يجلب الْحَمد من أَنْوَاع الكرامات. وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام يحمدك فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، وتشرف فِيهِ على جَمِيع الْخَلَائق، تُسأل فتعطي، لَيْسَ أحدا إلاَّ تَحت لوائك. وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ الْمقَام الَّذِي أشفع فِيهِ لأمتي.
    ..........
    (5/124)
    مر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالقادسية فَوجدَ هُنَاكَ عجوزا،فغسلت رَأسه فَقَالَ: قدست من أَرض،فسميت: الْقَادِسِيَّة. وَقيل: سميت بهَا لنزول أهل قادس بهَا، وقادس قَرْيَة بمروالروذ.
    .........
    (5/126)
    رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من ترك الصَّفّ الأول مَخَافَة أَن يُؤْذِي مُسلما أَضْعَف الله لَهُ الْأجر)
    ..........
    (5/126)
    وَتَكَلّمَ سُلَيْمَانُ بنُ صْرَدٍ فِي أذَانِهِ
    مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وصرد،بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ سُلَيْمَان بن صرد بن أبي الجون الْخُزَاعِيّ الصَّحَابِيّ،وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: يسارا فَسَماهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُلَيْمَان، وكنيته أَبُو الطّرف، وَكَانَ خيّرا عابدا، نزل الْكُوفَة،وَقَالَ ابْن سعد: قتل بالجزيرة بِعَين الوردة فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ أَمِيرا على البوابين، أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ بِدَم الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وعلق البُخَارِيّ مَا روى عَنهُ، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة من حَدِيث مُوسَى بن عبد الله بن يزِيد بن سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَت لَهُ صُحْبَة، كَانَ يُؤذن فِي الْعَسْكَر وَكَانَ يَأْمر غُلَامه بِالْحَاجةِ فِي أَذَانه، وَوَصله أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة لَهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ عَنهُ فِي (التَّارِيخ) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه مثل لفظ ابْن أبي شيبَة.
    وَقَالَ الحَسَنُ لَا بَأسَ أَن يَضْحَكَ وهْوَ يُؤَذِّنُ أوْ يُقِيمُ
    ..........
    (5/127)
    روى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل أَخْبرنِي عبد الحميد صَاحب الزيَادي،حَدثنَا عبد الله بن الْحَارِث ابْن عَم مُحَمَّد بن سِيرِين: (أَن ابْن عَبَّاس قَالَ لمؤذنه فِي يَوْم مطير: إِذا قلت: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله،فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة،قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ،قَالَ: فَكَأَن النَّاس استنكروا ذَلِك،فَقَالَ: قد فعل ذَا من هُوَ خير مني، إِن الْجُمُعَة عَزمَة، وَإِنِّي كرهت أَن أحرجكم فتمشون فِي الطين والمطر)
    .............
    (5/128)
    مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وَغَيرهمَا أَنهم كَرهُوا أَن يكون الْمُؤَذّن أعمى، مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت،وَنقل النَّوَوِيّ عَن أبي حنيفَة: أَن أَذَان الْأَعْمَى لَا يَصح قلت: هَذَا غلط لم يقل بِهِ أَبُو حنيفَة، وَإِنَّمَا ذكر أَصْحَابنَا أَنه يكره ذكره فِي (الْمُحِيط) وَفِي (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) : غَيره أحب، فَكَأَن وَجه الْكَرَاهَة لأجل عدم قدرته على مُشَاهدَة دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ فِي الأَصْل مَبْنِيّ على الْمُشَاهدَة.
    ............
    (5/128)
    ابْن أم مَكْتُوم،واسْمه: عبد الله،وَيُقَال: عَمْرو وَهُوَ الْأَكْثَر،وَيُقَال: كَانَ اسْمه الْحصين فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن قيس بن زَائِدَة الْقرشِي العامري،وَاسم أم مَكْتُوم: عَاتِكَة بنت عبد الله بن عنكشة بن عَامر بن مَخْزُوم، وَهُوَ ابْن خَال خَدِيجَة بنت خويلد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَابْن ام مَكْتُوم هَاجر الى الْمَدِينَة قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلفه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرّة، وَشهد فتح الْقَادِسِيَّة، وَقتل شَهِيدا، وَكَانَ مَعَه اللِّوَاء يَوْمئِذٍ. وَقيل: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا،وَهُوَ الْأَعْمَى الْمَذْكُور فِي سُورَة: عبس،ومكتوم من: الكتم، سمي بِهِ لكتمان نور عَيْنَيْهِ.
    .............
    (5/134)
    أما السَّبع وَنصف السَّبع فَحَدِيث بَاطِل عِنْد أهل الحَدِيث، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن بعض أَصْحَابه عَن الْأَعْرَج عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عمَارَة عَن أَبِيه عَن جده عَن سعيد الْقرظِيّ،وَهُوَ مُخَالف لمذهبه فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ آذاننا فِي الشتَاء لسبع وَنصف السَّبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لسبع يبْقى مِنْهُ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) ، وَتَقْدِيم الْأَذَان على الْفجْر مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَبُو يُوسُف. وَقَالَ بَعضهم: ادّعى بعض الْحَنَفِيَّة كَمَا حَكَاهُ السرُوجِي عَنْهُم أَن النداء قبل الْفجْر لم يكن بِأَلْفَاظ الْأَذَان، وَإِنَّمَا كَانَ تذكيرا أَو تسحيرا، كَمَا يَقع للنَّاس الْيَوْم، وَهَذَا مَرْدُود لِأَن الَّذِي يصنعه النَّاس الْيَوْم مُحدث قطعا، وَقد تظافرت الطّرق على التَّعْبِير بِلَفْظ الْأَذَان فَحَمله على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ مقدم
    .......
    (5/138)
    روى الدَّارَقُطْنِي ّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن حبَان بن عبد الله الْعَدوي حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَن عِنْد كل أذانين رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب " (فَإِن قلت) ذكر ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الموضوعات وَنقل عَن الفلاس أَنه قَالَ كَانَ حبَان هَذَا كذابا (قلت) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده فَقَالَ لَا نعلم من رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إِلَّا حبَان بن عبد الله وَهُوَ رجل مَشْهُور من أهل الْبَصْرَة لَا بَأْس بِهِ
    ............
    (5/139)
    مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن طَاوس،قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب؟فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّيهمَا. وَقَالَ أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ، وَلم يَفْعَله أحد بعد الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ النَّخعِيّ: إِنَّهَا بِدعَة، وَرُوِيَ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا لَا يصلونهما.
    قَالَ عُثْمَانُ بنُ جَبَلَةَ وأبُو دَاوُد عَن شُعْبَةَ لَمْ يَكُن بَيْنَهُمَا إلاَّ قَلِيلٌ
    ..........
    (5/141)
    وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء، وَجَمِيع مَا صدر عَنهُ من قَول وَفعل كَانَ على أحسن الْوُجُوه وأفضلها وأكملها، وَأَيْضًا النّوم على الْيَمين نوم الصَّالِحين، وعَلى الْيَسَار نوم الْحُكَمَاء، وعَلى الظّهْر نوم الجبارين والمتكبرين، وعَلى الْوَجْه نوم الْكفَّار
    ........
    (5/142)
    سْتِحْبَاب الِاضْطِجَاع على الْأَيْمن عِنْد النّوم، وَهُوَ سنة عِنْد الْبَعْض وَاجِب عِنْد الْحسن الْبَصْرِيّ،وَذكر القَاضِي عِيَاض: أَن عِنْد مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة بِدعَة. قلت: يَعْنِي الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صلى أحدكُم رَكْعَتي الْفجْر فليضطجع على يَمِينه) . وَاعْلَم أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يُوتر مِنْهَا بِوَاحِدَة، فَإِذا فرغ مِنْهَا اضْطجع على شقَّه حَتَّى يَأْتِيهِ الْمُؤَذّن فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، فَهَذَا الِاضْطِجَاع كَانَ بعد صَلَاة اللَّيْل، وَقبل صَلَاة رَكْعَتي الْفجْر،وَلم يقل أحد: إِن الِاضْطِجَاع قبلهمَا سنة، فَكَذَا بعدهمَا. وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: (إِن كنت مستيقظة حَدثنِي وَإِلَّا اضْطجع) . فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِسنة، وَأَنه تَارَة كَانَ يضطجع قبل وَتارَة بعد وَتارَة لَا يضطجع.

    ..........

    (5/143)
    كافة الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الْأَذَان للْمُسَافِر،إِلَّا عَطاء فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا لم يُؤذن وَلم يقم أعَاد الصَّلَاة،وإلاَّ مُجَاهدًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا نسي الْإِقَامَة أعَاد، وأخذا بِظَاهِر الْأَمر،وَهُوَ: أذنا وأقيما. وَقيل: الْإِجْمَاع صَارف عَن الْوُجُوب، وَفِيه نظر،وَحكى الطَّبَرِيّ عَن مَالك أَنه: يُعِيد إِذا ترك الْأَذَان، ومشهور مذْهبه الِاسْتِحْبَاب. وَفِي (الْمُخْتَصر) عَن مَالك: وَلَا أَذَان على مُسَافر، وَإِنَّمَا الْأَذَان على من يجْتَمع إِلَيْهِ لتأذينه، وبوجوبه على الْمُسَافِر قَالَ دَاوُد. قَالَت طَائِفَة: هُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ أذن وَأقَام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول عُرْوَة وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تجزيه الْإِقَامَة، رُوِيَ ذَلِك عَن مَكْحُول وَالْحسن وَالقَاسِم، وَكَانَ ابْن عمر يُقيم فِي السّفر لكل صَلَاة إلاَّ الصُّبْح فَإِنَّهُ كَانَ يُؤذن لَهَا وَيُقِيم.
    .....
    (5/146)
    . وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) من الشَّافِعِيَّة: الِالْتِفَات فِي الحيعلتين سنة ليعم النَّاس بأسماعه، وَخص بذلك لِأَنَّهُ دُعَاء،وَفِي وَجه: يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا فيحيعل، ثمَّ يسْتَقْبل ثمَّ يلْتَفت فيحيعل، وَكَذَلِكَ الشمَال. قَالَ: ويلتفت فِي الْإِقَامَة أَيْضا على الْأَصَح، ثمَّ ذكر أَبُو دَاوُد فِي روايه، وَلم يستدر،وَتَمَامه: قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا قيس يَعْنِي ابْن الرّبيع وَحدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان جَمِيعًا عَن عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه،قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء من أَدَم، فَخرج بِلَال فَأذن، فَكنت اتتبع فَمه هَهُنَا وَهَهُنَا،قَالَ: ثمَّ خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء برود يَمَانِية قطري) ،وَقَالَ مُوسَى: قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا خرج إِلَى الأبطح فَأذن،فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم يستدر، ثمَّ دخل فَأخْرج العنزة)
    وَاعْترض الْبَيْهَقِيّ،فَقَالَ: الاستدارة فِي الْأَذَان لَيست فِي الطّرق الصَّحِيحَة فِي حَدِيث أبي جُحَيْفَة،
    وَقَالَ الشَّيْخ فِي الإِمَام: أما كَونه غير مخرج فِي الصَّحِيح فَلَيْسَ بِلَازِم، وَقد صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ من أَئِمَّة الشان. وَأما عبد الرَّزَّاق وهم فِيهِ فقد تَابعه مُؤَمل، كَمَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن مُؤَمل عَن سُفْيَان بِهِ نَحوه، وَتَابعه أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) على كتاب البُخَارِيّ، وَقد جَاءَت الاستدارة من غير جِهَة الْحجَّاج، أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن زِيَاد بن عبد الله عَن إِدْرِيس الْأَزْدِيّ عَن عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه،قَالَ: (بَينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَضَرت الصَّلَاة، فَقَامَ بِلَال فَأذن وَجعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَجعل يستدير يَمِينا وَشمَالً
    ............
    (5/147)
    يُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أنَّهُ جَعَلَ إصْبَعَيْه فِي أُذُنَيْهِ
    ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التمريض، وَقد ذكرناالآن عَن ابْن مَاجَه حَدِيثه، وَفِيه جعل يَعْنِي بِلَال إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ.
    وَفِي الصَّلَاة لأبي نعيم عَن سهل بن سعد،قَالَ: (من السّنة أَن تدخل إصبعيك فِي أذنيك) . وَكَانَ سُوَيْد بن غَفلَة يَفْعَله، وَكَذَا ابْن جُبَير، وَأمر بِهِ الشّعبِيّ وَشريك. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه قَالَ الْحسن، وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن سِيرِين،وَقَالَ مَالك: ذَلِك وَاسع. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم فِي الْأَذَان. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: وَفِي الْإِقَامَة أَيْضا، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ مُبَاح عِنْد الْعلمَاء، وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن جعل إِحْدَى يَدَيْهِ على أُذُنَيْهِ فَحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد.
    وَلم يبين فِي الحَدِيث مَا هِيَ الإصبع،وَنَصّ النَّوَوِيّ على أَنَّهَا: المسبحة، وَلَو كَانَ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ عِلّة جعل الإصبع الْأُخْرَى فِي صماخه،وَصرح الرَّوْيَانِيّ: أَن ذَلِك لَا يسْتَحبّ فِي الْإِقَامَة لفقد الْمَعْنى الَّذِي علل بِهِ،وَعَن بَعضهم: أَنه يسْتَحبّ فِي الْإِقَامَة أَيْضا، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
    وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
    ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح، فَكَأَن ميله إِلَيْهِ. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا سُفْيَان عَن نسير قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يُؤذن على بعير،قَالَ سُفْيَان: فَقلت لَهُ: رَأَيْته يَجْعَل أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ؟قَالَ: لَا. ونسير،بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة: ابْن ذعلوق،بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم اللَّام وَفِي آخِره قَاف: أَبُو طعمة.
    وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لاَ بَأسَ أنْ يُؤَذِّن عَلَى غَيرِ وُضُوءٍ



    ..........
    (5/149)
    الَ لي عَطاء: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن الْمُؤَذّن إلاَّ متوضأ، هُوَ من الصَّلَاة، هُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأَسدي، عَن معقل بن عبيد الله، عَن عَطاء أَنه كره أَن يُؤذن الرجل وَهُوَ على غير وضوء، وَقد جَاءَت هَذِه اللَّفْظَة مَرْفُوعَة،وَذكرهَا أَبُو الشَّيْخ عَن أبي عَاصِم: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن مُعَاوِيَة عَن يحيى عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: لَا يُؤذن
    إِلَّا متوضىء) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي وَهُوَ ضَعِيف،وَالصَّحِيح رِوَايَة يُونُس وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيث يُونُس قَالَ: هَذَا أصح، يَعْنِي من الحَدِيث الْمَرْفُوع الَّذِي عِنْده من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة،وَعند أبي الشَّيْخ من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل عَن أَبِيه قَالَ: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن إلاَّ وَهُوَ طَاهِر. وَقَالَهُ عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، وَرَوَاهُ عَن أَبِيه أَيْضا مَرْفُوعا، وَعند ابْن أبي شيبَة أَمر مُجَاهِد مؤذنه أَنه لَا يُؤذن حَتَّى يتَوَضَّأ.
    ........
    (5/150)
    أخرجه الغساني فِي الصَّلَاة عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَنهُ نَحوه، وَرِوَايَة وَكِيع عَن سُفْيَان عِنْد مُسلم أتم من رِوَايَة البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أوردهُ مُخْتَصرا،وفيهَا: (فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا يَمِينا وَشمَالًا يَقُول: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح) . وَفِيه تَقْيِيد الِالْتِفَات فِي الْأَذَان وَأَن مَحَله عِنْد الحيعلتين،وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن خُزَيْمَة: انحراف الْمُؤَذّن عِنْد قَوْله: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، بفمه لَا بِبدنِهِ كُله. قَالَ: وَإِنَّمَا يُمكن الانحراف بالفم بانحراف الْوَجْه
    .........
    (5/150)
    وَفِي هَذِه اللَّفْظَة اخْتِلَاف،فَعِنْدَ أبي نعيم الْأَصْبَهَانِي ّ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) ، وَكَذَا ذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِ يّ من حَدِيث شَيبَان عَن يحيى، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، (فَمَا أدركتم فصلوا، وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَكَذَا هُوَ فِي أَكثر رِوَايَات مُسلم. وَفِي رِوَايَة: (فَاقْض مَا سَبَقَك) ،وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (فاقضوا مَا سبقكم) ،وَعند أَحْمد من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَنهُ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) . وَفِي (الْمحلى) : من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم مُقبلا إِلَى الصَّلَاة فليمش على رسله، فَإِنَّهُ فِي صَلَاة، فَمَا أدْرك فَليصل، وَمَا فَاتَهُ فليقض،بعد مَا قَالَ عَطاء: وَإِنِّي لَا أصنعه)
    خْتلف الْعلمَاء فِي الْقَضَاء والإتمام الْمَذْكُورين: هَل هما بِمَعْنى وَاحِد أَو بمعنيين؟وترتب على ذَلِك خلاف فِيمَا يُدْرِكهُ الدَّاخِل مَعَ الإِمَام: هَل هُوَ فِي أول صلَاته أَو آخرهَا؟على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه أول صلَاته وَأَنه يكون بانيا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِي ّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول، وَرِوَايَة عَن مَالك وَأحمد،وَاسْتَدَلُّوا بقوله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، لِأَن لفظ إلاتمام وَاقع على باقٍ من شَيْء
    الثَّانِي: أَنه أول صلَاته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْعَال فيبنى عَلَيْهَا، وَآخِرهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقْوَال فيقضيها، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ ابْن بطال عَنهُ: مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه يقْضِي مثل الَّذِي فَاتَهُ من الْقِرَاءَة بِأم الْقُرْآن وَسورَة،وَقَالَ سَحْنُون: هَذَا الَّذِي لم يعرف خِلَافه دَلِيله مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قَتَادَة: أَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: (مَا أدْركْت مَعَ الإِمَام فَهُوَ أول صَلَاتك، واقض مَا سَبَقَك بِهِ من الْقُرْآن) .
    الثَّالِث: أَن مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه يقْرَأ فِيهَا. بِالْحَمْد وَسورَة مَعَ الإِمَام، وَإِذا قَامَ للْقَضَاء قضى بِالْحَمْد وَحدهَا، لِأَنَّهُ آخر صلَاته، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر.
    الرَّابِع: أَنه آخر صلَاته وَأَنه يكون قَاضِيا فِي الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة، وسُفْيَان وَمُجاهد وَابْن سِيرِين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَشْبَه بمذهبنا وَمذهب أبي حنيفَة أَنه آخر صلَاته،وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَأبي قلَابَة، وَرَوَاهُ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَهُوَ قَول أَشهب وَابْن الْمَاجشون، وَاخْتَارَهُ ابْن حبيب،وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَمَا فاتكم فاقضوا) .
    ..........
    (5/153)
    ن الْمُقْتَدِي إِذا لحق الإِمَام وَهُوَ فِي الرُّكُوع فَلَو شرع مَعَه مَا لم يرفع رَأسه يصير مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، فَإِذا شرع وَقد رفع رَأسه لَا يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، وَلَو ركع الْمُقْتَدِي قبل الإِمَام فَلحقه الإِمَام قبل قِيَامه يجوز عندنَا خلافًا لزفَر، رَحمَه الله
    .............
    (5/154)
    وَقد اخْتلف السّلف مَتى يقوم النَّاس إِلَى الصَّلَاة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَنه لَيْسَ لقيامهم حد، وَلَكِن اسْتحبَّ عامتهم الْقيام إِذا أَخذ الْمُؤَذّن فِي الْإِقَامَة، وَكَانَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،يقوم إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة وَكبر الإِمَام، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن سُوَيْد بن غَفلَة، وَكَذَا قيس بن أبي حَازِم وَحَمَّاد،وَعَن سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الله إكبر، وَجب الْقيام،وَإِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، اعتدلت الصُّفُوف،وَإِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، كبر الإِمَام. وَذَهَبت عَامَّة الْعلمَاء إِلَى أَنه: لَا يكبر حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة
    .........
    (5/155)
    وقالَ الحَسَنُ إنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي الجَماعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
    لم يذكر صَاحب (التَّلْوِيح) وَلَا صَاحب (التَّوْضِيح) وصل هَذَا الْأَثر مَعَ كَثْرَة تتبع صَاحب (التَّلْوِيح) لمثل هَذَا، واتساع اطِّلَاعه فِي هَذَا الْبَاب، وَذكر بَعضهم أَنه وجد مَعْنَاهُ، بل أتم مِنْهُ، وأصرح، فِي كتاب (الصّيام) للحسين بن الْحسن الْمروزِي بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن الْحسن فِي رجل يَصُوم، يَعْنِي تَطَوّعا فتأمره أمه أَن يفْطر. قَالَ: فليفطر، وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَله أجر الصَّوْم وَأجر الْبر
    ..........
    (5/161)
    وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح اخْتلف فِي صَلَاة الْجَمَاعَة هَل هِيَ شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة كَمَا قَالَ دَاوُد بن عَليّ وَأحمد بن حَنْبَل أَو فرض على الْأَعْيَان كَمَا قَالَه جمَاعَة من الْعلمَاء ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر وَهُوَ قَول عَطاء وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي ثَوْر وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَحْمد وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل أَنه قَول للشَّافِعِيّ وَعَن أَحْمد وَاجِبَة لَيست بِشَرْط وَقيل سنة مُؤَكدَة كَمَا قَالَه الْقَدُورِيّ وَفِي شرح الْهِدَايَة عَامَّة مَشَايِخنَا أَنَّهَا وَاجِبَة وَقد سَمَّاهَا بعض أَصْحَابنَا سنة مُؤَكدَة وَفِي الْمُفِيد الْجَمَاعَة وَاجِبَة وتسميتها سنة لوُجُوبهَا بِالسنةِ وَفِي الْبَدَائِع إِذا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَة لَا يجب عَلَيْهِ الطّلب فِي مَسْجِد آخر بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا لَكِن إِن أَتَى مَسْجِدا يَرْجُو إِدْرَاك الْجَمَاعَة فِيهِ فَحسن وَإِن صلى فِي مَسْجِد حيه فَحسن وَعَن الْقَدُورِيّ يجمع بأَهْله وَفِي التُّحْفَة إِنَّمَا تجب على من قدر عَلَيْهَا من غير
    حرج وَتسقط بالعذر فَلَا تجب على الْمَرِيض وَلَا على الْأَعْمَى والزمن وَنَحْوهم
    وَقيل فرض كِفَايَة وَهُوَ اخْتِيَار الطَّحَاوِيّ والكرخي وَغَيرهمَا وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الْمُخْتَار وَقيل سنة وَفِي الْجَوَاهِر عَن مَالك هِيَ سنة مُؤَكدَة وَقيل فرض كِفَايَة وَاسْتدلَّ من قَالَ بفرضية عينهَا بِحَدِيث الْبَاب وَقَالَ لَو كَانَت فرض كِفَايَة لَكَانَ قيام النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه بهَا كَافِيا وَلَو كَانَت سنة فتارك السّنة لَا يحرق عَلَيْهِ بَيته
    بِمَا فِي صَحِيح مُسلم " أَن أعمى قَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ لي قَائِد يقودني إِلَى الْمَسْجِد قَالَ هَل تسمع النداء قَالَ نعم قَالَ فأجب " وخرجه أَبُو عبد الله فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَبَّاس عَن ابْن أم مَكْتُوم " قلت يَا رَسُول الله إِن الْمَدِينَة كَثِيرَة الْهَوَام وَالسِّبَاع قَالَ تسمع حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح قَالَ نعم قَالَ فَحَيَّهَلا " وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد
    .........
    (5/170)
    وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم،من حَدِيث جَابر بن عتِيك مَرْفُوعا: (الشَّهَادَة سَبْعَة سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله: المطعون والغريق وَصَاحب الْجنب والمبطون وَصَاحب الْحَرِيق وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع) . وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه،من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (موت الْغَرِيب شَهَادَة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وروى سُوَيْد بن سعيد الحدثاني عَن عَليّ بن مسْهر عَن أبي يحيى القَتَّات، عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عشق فعف وكتمه ثمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدا) . وَقد أنكرهُ على سُوَيْد الْأَئِمَّة، قَالَه ابْن عدي فِي كَامِله، وَكَذَا أنكرهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن طَاهِر،وَقَالَ ابْن حبَان: من روى مثل هَذَا عَن عَليّ بن مسْهر تجب مجانبة رِوَايَته، وسُويد بن سعيد هَذَا وَإِن كَانَ مُسلم أخرج لَهُ فِي صَحِيحه فقد اعتذر مُسلم عَن ذَلِك،وَقَالَ: إِنَّه لم يَأْخُذ عَنهُ إلاَّ مَا كَانَ عَالِيا وتوبع عَلَيْهِ، وَلأَجل هَذَا أعرض عَن مثل هَذَا الحَدِيث،وَذكر ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس فِي تعداد الشُّهَدَاء: الشريق وَمَا أكله السَّبع. فَإِن قلت: الشُّهَدَاء فِي الصَّحِيح: خَمْسَة،وَفِي رِوَايَة مَالك: سَبْعَة،وَمَعَ رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن ابْن عَبَّاس تكون: ثَمَانِيَة،وَمَعَ رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة عَن بن عَبَّاس: تِسْعَة، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَنهُ يكون أحد عشر؟قلت: لَا تنَاقض بَينهَا لِأَن الِاخْتِلَاف فِي الْعدَد بِحَسب اخْتِلَاف الْوَحْي على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
    .........
    (5/171*)
    فِي (الْمُغنِي) : إِذا مَاتَ فِي المعترك: فَإِنَّهُ لَا يغسل، رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم،وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ عَن [قعالحسن [/ قع و [قعابن الْمسيب [/ قع فَإِنَّهُمَا قَالَا: يغسل الشَّهِيد وَلَا يعْمل بِهِ، وَيصلى عَلَيْهِ عندنَا، وَهُوَ قَول بن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعتبَة ابْن عَامر وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ والمزني وَأحمد فِي رِوَايَة، واختارها الْخلال،وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يصلى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : الْجَزْم بِتَحْرِيم الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حزم: إِن شاؤا صلوا عَلَيْهِ وَإِن شاؤا تركوها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الشَّهِيد حكمه أَن لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم غير ثَابت فِي الْأَرْبَعَة الأول بالِاتِّفَاقِ؟قلت: مَعْنَاهُ أَنه يكون لَهُم فِي الْآخِرَة مثل ثَوَاب الشُّهَدَاء،قَالُوا: الشُّهَدَاء على ثَلَاثَة أَقسَام: شَهِيد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ من مَاتَ فِي قتال الْكفَّار بِسَبَبِهِ. وشهيد الْآخِرَة دون أَحْكَام الدُّنْيَا، وهم هَؤُلَاءِ المذكورون. وشهيد الدُّنْيَا دون الْآخِرَة، وَهُوَ من قتل مُدبرا أَو غل فِي الْغَنِيمَة أَو قَاتل لغَرَض دنياوي لَا لإعلاء كلمة الله تَعَالَى.
    ..............
    (5/174)
    ثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة. وَهُوَ لفظ حَدِيث ورد من طرق ضَعِيفَة، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن أَبِيه عَن جده عَن عَمْرو بن جَراد عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة) ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (كتاب الْأَحْكَام) : هَذَا خبر سَاقِط. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي زَرْبِي، وَهُوَ ضَعِيف،قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس ... فَذكره بِمثلِهِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده ... مثله،قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي (الْكَامِل) للجرجاني من حَدِيث الحكم بن عُمَيْر مَرْفُوعا مثله ... ،وَفِي سَنَده: عِيسَى بن طهْمَان، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث.
    ..........
    (5/177)
    (يظلهم الله) ،جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر للمبتدأ أَعنِي قَوْله: (سَبْعَة) . وَقَالَ عِيَاض: إِضَافَة الظل إِلَى الله إِضَافَة ملك،وكل ظله فَهُوَ ملكه قلت: إِضَافَة الظل إِلَيْهِ إِضَافَة تشريف ليحصل امتياز هَذَا عَن غَيره،كَمَا يُقَال للكعبة: بَيت الله، مَعَ أَن الْمَسَاجِد كلهَا ملكه. وَأما الظل الْحَقِيقِيّ فَالله تَعَالَى منزه عَنهُ، لِأَنَّهُ من خَواص الْأَجْسَام،وَيُقَال: المُرَاد ظلّ الْعَرْش، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث سلمَان،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظلّ عَرْشه) فَذكر الحَدِيث،ثمَّ كَونهم فِي ظلّ عَرْشه يسْتَلْزم مَا ذكره بَعضهم من أَن معنى: (يظلهم الله) ، يسترهم فِي ستره وَرَحمته. تَقول الْعَرَب: أَنا فِي ظلّ فلَان،أَي: فِي ستره وكنفه،وتسمي الْعَرَب اللَّيْل: ظلاً، لبرده،وَيُقَال المُرَاد من الظل: ظلّ طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة،وَيرد هَذَا قَوْله: (يَوْم لَا ظلّ إلاَّ ظله)
    .........
    (5/178)
    ثمَّ إعلم أَن أَكثر الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره: (حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مقلوبا،وَهُوَ: حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله. وَقَالَ عِيَاض: هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي وصلت إِلَيْنَا من (صَحِيح مُسلم) مقلوبا،وَالصَّوَاب الأول قلت: لِأَن السُّنَّة الْمَعْهُودَة إِعْطَاء الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ،وَقد ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ،قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم،وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم وَلَا مِنْهُ،بل هُوَ من شَيْخه أَو شيخ شَيْخه: يحيى الْقطَّان، وَقد طول الْكَلَام فِيهِ، وَلَا يُنكر الْوَهم من مُسلم وَلَا مِمَّن هُوَ دونه أَو فَوْقه، وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْقلب من الْكَاتِب واستمرت الروَاة عَلَيْهِ.

    ...............

    (5/179)
    وَقيل لِابْنِ عَبَّاس: رجل كثير الصَّلَاة كثير الْقيام يقارف بعض الْأَشْيَاء، وَرجل يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ويصوم مَعَ السَّلامَة. قَالَ: لَا أعدل بالسلامة شَيْئا،قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إلاَّ اللمم}
    .........
    (5/184)
    وَاسْتدلَّ من أجَاز ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق حجاج بن نصير عَن عباد بن كثير عَن لَيْث عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر " قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا وحجاج وَعباد ضعيفان (قلت) قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة سَأَلت ابْن معِين عَن حجاج بن نصير الفساطيطي الْبَصْرِيّ فَقَالَ صَدُوق وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَعباد بن كثير كَانَ من الصَّالِحين وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه دخل الْمَسْجِد وَقد أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فَرَكَعَ رَكْعَتي الْفجْر إِلَى أسطوانة بِمحضر حُذَيْفَة وَأبي مُوسَى قَالَ ابْن بطال وروى مثله عَن عمر بن الْخطاب وَأبي الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَعَن ابْن عمر أَنه أَتَى الْمَسْجِد لصَلَاة الصُّبْح فَوجدَ الإِمَام يُصَلِّي فَدخل بَيت حَفْصَة فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل فِي صَلَاة الإِمَام وَعند ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم كَانَ يَقُول إِن بَقِي من صَلَاتك شَيْء فأتممه وَعنهُ إِذا افتتحت الصَّلَاة تَطَوّعا وأقيمت الصَّلَاة فَأَتمَّ الثَّانِي من الْوُجُوه فِي حِكْمَة إِنْكَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة عِنْد إِقَامَة الْفَرْض فَقَالَ عِيَاض لِئَلَّا يَتَطَاوَل الزَّمَان فيظن وُجُوبهَا وَيُؤَيِّدهُ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد " يُوشك أحدكُم أَن يُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا "
    .......
    (5/187)
    عِنْد التِّرْمِذِيّ: (صلى خلف أبي بكر فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدا) . وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب،وَعِنْده من حَدِيث أنس: (صلى فِي مَرضه خلف أبي بكر قَاعِدا فِي ثوب متوشحا بِهِ) . وَقَالَ: حسن صَحِيح. زَاد النَّسَائِيّ: وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا مَعَ الْقَوْم. قَالَ ابْن حبَان: خَالف شُعْبَة زَائِدَة بن قدامَة فِي متن هَذَا الْخَبَر عَن مُوسَى، فَجعل شُعْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما حَيْثُ صلى قَاعِدا، وَالْقَوْم قيام، وَجعله زَائِدَة إِمَامًا حَيْثُ صلى قَاعِدا وَالْقَوْم قيام، وهما متقنان حَافِظَانِ
    وَلَيْسَ بَين حديثيهما تضَاد وَلَا تهاتر وَلَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ، بل مُجمل مُفَسّر. وَإِذا ضم بَعْضهَا إِلَى بعض بَطل التضاد بَينهمَا، وَاسْتعْمل كل خبر فِي مَوْضِعه. بَيَان ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي علته صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد جمَاعَة لَا صَلَاة وَاحِدَة،فِي إِحْدَاهمَا: كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما،وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك فِي خبر عبد الله بن جريج: بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا الْعَبَّاس وَالْآخر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي خبر مَسْرُوق: خرج بَين بَرِيرَة ونوبة، فَهَذَا يدلك على أَنَّهَا كَانَت صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاة وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ التَّوْفِيق بَين كَلَام نعيم بن أبي هِنْد، وَبَين كَلَام عَاصِم بن أبي النجُود فِي متن خبر أبي وَائِل،فَإِن فِيهِ: (وَجِيء بِنَبِي لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع بحذاء أبي بكر فِي الصَّفّ) قَالَ أَبُو حَاتِم: فِي هَذِه الصَّلَاة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما وَصلى قَاعِدا خلف أبي بكر، فَإِن عَاصِمًا جعل أَبَا بكر مَأْمُوما وَجعل نعيم أَبَا بكر إِمَامًا، وهما ثقتان حَافِظَانِ متقنان. وَذكر أَبُو حَاتِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بَين الجاريتين إِلَى الْبَاب، وَمن الْبَاب أَخذه الْعَبَّاس وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حَتَّى دخلا بِهِ الْمَسْجِد، وَذكر الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) : (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهادي بَين الرجلَيْن: أُسَامَة وَالْفضل، حَتَّى صلى خلف أبي بكر) ، فِيمَا ذكره السُّهيْلي، وَزعم بعض النَّاس أَن طَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ الْعَبَّاس ألزمهم بِيَدِهِ، وَأُولَئِكَ يتناوبونها،فَذكرت عَائِشَة أَكْثَرهم مُلَازمَة ليده وَهُوَ: الْعَبَّاس، وعبرت عَن أحد المتناوبين بِرَجُل آخر


    ........
    (5/189)
    الَ النَّوَوِيّ: تَأَوَّلَه بَعضهم على أَنه قَالَه تواضعا وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَالَه للْعُذْر الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه رَقِيق الْقلب كثير الْبكاء، فخشي أَن لَا يسمع النَّاس. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فهم من الْإِمَامَة الصُّغْرَى الْإِمَامَة الْكُبْرَى، وَعلم مَا فِي تحملهَا من الْخطر، وَعلم قُوَّة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ذَلِك فاختاره. وَيُؤَيِّدهُ أَنه عِنْد الْبيعَة أَشَارَ عَلَيْهِم أَن يبايعوه أَو يبايعوا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح.
    ............
    (5/192)
    اخْتلفت الرِّوَايَات: هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام أَو أَبُو بكر الصّديق؟فجماعة قَالُوا: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عَائِشَة صَرِيح فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ الإِمَام إِذا جلس عَن يسَار أبي بكر،وَلقَوْله: (فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسا وَأَبُو بكر قَائِما يَقْتَدِي بِهِ) ، وَكَانَ أَبُو بكر مبلغا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون للنَّاس إمامان. وَجَمَاعَة قَالُوا: كَانَ أَبُو بكر هُوَ الإِمَام،لما رَوَاهُ شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر) وَفِي رِوَايَة مَسْرُوق عَنْهَا: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر جَالِسا فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ، وَرُوِيَ حَدِيث عَائِشَة بطرق كَثِيرَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، وَفِيه اضْطِرَاب غير قَادِح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا تعَارض فِي أحاديثها، فَإِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَامًا هِيَ صَلَاة الظّهْر يَوْم السبت أَو يَوْم الْأَحَد، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُوما هِيَ صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْإِثْنَيْنِ. وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خرج من الدُّنْيَا. وَقَالَ نعيم بن أبي هِنْد: الْأَخْبَار الَّتِي وَردت فِي هَذِه الْقِصَّة كلهَا صَحِيحَة، وَلَيْسَ فِيهَا تعَارض، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، فِي إِحْدَاهمَا كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي وَابْن نَاصِر: صَحَّ وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خَلفه مقتديا بِهِ فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ ثَلَاث مَرَّات، وَلَا يُنكر ذَلِك إلاَّ جَاهِل لَا علم لَهُ بالرواية. وَقيل: إِن ذَلِك كَانَ مرَّتَيْنِ جمعا بَين الْأَحَادِيث، وَبِه جزم ابْن حبَان. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْآثَار الصِّحَاح على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الإِمَام.
    ...........
    (5/193)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثَبت أَيْضا أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،جَاءَ بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة وَأَيْضًا أَن الْفضل بن عَبَّاس كَانَ آخِذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة فوجهه أَن يُقَال: إِن الثَّلَاثَة كَانُوا يتناوبون فِي الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، وَكَانَ الْعَبَّاس يلازم الْأَخْذ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وأكرموا الْعَبَّاس باختصاصه بِيَدِهِ واستمرارها لَهُ لما لَهُ من السن والعمومة وَغَيرهمَا، فَلذَلِك ذكرته عَائِشَة مُسَمّى صَرِيحًا وأبهمت الرجل الآخر، إِذْ لم يكن أحدهم ملازما فِي جَمِيع الطَّرِيق وَلَا معظمه، بِخِلَاف الْعَبَّاس. انْتهى.
    ......
    (5/194)
    اسْتِحْبَاب صَلَاة الضُّحَى، لِأَن أنسا أخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا، وَلَكِن مَا رَآهَا إلاَّ يَوْمئِذٍ،يَعْنِي: يَوْم كَانَ فِي منزل رجل من الْأَنْصَار. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم هانىء بنت أبي طَالب،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (ان رَسُول الله صلى يَوْم الْفَتْح سبْحَة الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات يسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ) وَرُوِيَ ايضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَن عبد الله بن شَقِيق سَأَلَهَا: هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟قَالَت: لَا إلاَّ أَن يَجِيء من مغيبه) الحَدِيث. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مطولا ومختصرا، وَالْجمع بَين حَدِيث عَائِشَة فِي نفي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وإثباتها هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصليهَا فِي بعض الْأَوْقَات لفضلها، وَيَتْرُكهَا فِي بَعْضهَا خشيَة أَن تفرض
    قد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ فِي الضُّحَى: هِيَ بِدعَة قلت: هُوَ مَحْمُول على أَن صلَاتهَا فِي الْمَسْجِد والتظاهر بهَا، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدعَة، لَا أَن أَصْلهَا فِي الْبيُوت وَنَحْوهَا مَذْمُوم،أَو يُقَال: قَوْله: بِدعَة أَي: الْمُوَاظبَة عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يواظب عَلَيْهَا خشيَة أَن تفرض. وَقد يُقَال: إِن ابْن عمر لم يبلغهُ فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وَأمره بهَا، وَكَيف مَا كَانَ، فجمهور الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الضُّحَى، وَإِنَّمَا نقل التَّوَقُّف فِيهَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن تَوْبَة الْعَنْبَري عَن مُورق الْعجلِيّ،قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا عمر؟قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا أَبُو بكر؟قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟قَالَ: لَا أخال
    ........
    (5/196)
    وَزعم ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَنه تتبع الْأَعْذَار الْمَانِعَة من إتْيَان الْجَمَاعَة من السّنَن،فَوَجَدَهَا عشرا: الْمَرَض الْمَانِع من الْإِتْيَان إِلَيْهَا، وَحُضُور الطَّعَام عِنْد الْمغرب، وَالنِّسْيَان الْعَارِض فِي بعض الْأَحْوَال، وَالسمن المفرط، وَوُجُود الْمَرْء حَاجته فِي نَفسه، وَخَوف الْإِنْسَان على نَفسه وَمَاله فِي طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد، وَالْبرد الشَّديد، والمطر المؤذي، وَوُجُود الظلمَة الَّتِي يخَاف الْمَرْء على نَفسه الْمَشْي فِيهَا، وَأكل الثوم والبصل والكراث
    .....
    (5/197)
    (فابدأوا) اخْتلفُوا فِي هَذَا الْأَمر، فالجمهور على أَنه للنَّدْب. وَقيل: للْوُجُوب، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة،وَقَالُوا: لَا يجوز لأحد حضر طَعَامه بَين يَدَيْهِ وَسمع الْإِقَامَة أَن يبْدَأ بِالصَّلَاةِ قبل الْعشَاء، فَإِن فعل فَصلَاته بَاطِلَة، وَالْجُمْهُور على الصِّحَّة وعَلى عدم الْإِقَامَة.
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد ظن قوم أَن هَذَا من بَاب تَقْدِيم حَظّ العَبْد على حق الْحق، عز وَجل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة لحق الْحق ليدْخل الْعِبَادَة بقلوب غير مَشْغُولَة. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُؤخر الصَّلَاة لطعام وَلَا لغيره) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، فبالضعيف لَا يعْتَرض على الصَّحِيح، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَلهُ معنى غير معنى الآخر، بِمَعْنى إِذا وَجَبت
    ا تُؤخر، وَإِذا كَانَ الْوَقْت بَاقِيا يبْدَأ بالعشاء فَاجْتمع مَعْنَاهُمَا وَلم يتهاترا.
    ......
    (5/201)
    احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَقَالَ: إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الثَّانِيَة يجلس جلْسَة خَفِيفَة ثمَّ ينْهض مُعْتَمدًا يَدَيْهِ على الأَرْض. وَفِي (التَّلْوِيح) : اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الجلسة الَّتِي تسمى: جلْسَة الاسْتِرَاحَة، عقيب الْفَرَاغ من الرَّكْعَة الأولى وَالثَّالِثَة،فَقَالَ بهَا الشَّافِعِي فِي قَول: وَزعم ابْن الْأَثِير أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ فِي (الام) : يقوم من السَّجْدَة الثَّانِيَة، وَلم يَأْمر بِالْجُلُوسِ. فَقَالَ بعض أَصْحَابه: إِن ذَلِك على اخْتِلَاف حَالين إِن كَانَ كَبِيرا أَو ضَعِيفا جلس، وإلاَّ لم يجلس. وَقَالَ بعض أَصْحَابه: فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يجلس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعمر وَعلي وَأبي الزِّنَاد وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ ابْن قدامَة: وَعَن أَحْمد قَول: إِنَّه يجلس، وَهُوَ اخْتِيَار الْخلال. وَقيل: إِنَّه فصل بَين الضَّعِيف وَغَيره. وَقَالَ أَحْمد: وَترك الْجُلُوس عَلَيْهِ أَكثر الْأَحَادِيث. وَقَالَ النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش: أدْركْت غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجلس. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم. وَقَالَ أَبُو (الزِّنَاد: تِلْكَ السّنة،وَأَجَابُوا عَن حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث بِأَنَّهُ: يحْتَمل ذَلِك أَن يكون بِسَبَب ضعف كَانَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ السفاقسي: قَالَ أَبُو عبد الْملك: كَيفَ ذهب هَذَا الَّذِي أَخذ بِهِ الشَّافِعِي على أهل الْمَدِينَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي بهم عشر سِنِين، وَصلى بهم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَالصَّحَابَة والتابعون؟ فَأَيْنَ كَانَ يذهب عَلَيْهِم هَذَا الْمَذْهَب؟قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَالنَّظَر يُوجب أَنه لَيْسَ بَين السُّجُود وَالْقِيَام جُلُوس، لِأَن من شَأْن الصَّلَاة التَّكْبِير فِيهَا والتحميد عِنْد كل خفض وَرفع وانتقال من حَال إِلَى حَال، فَلَو كَانَ بَينهمَا جُلُوس لاحتاج أَن يكبر عِنْد قِيَامه من ذَلِك الْجُلُوس تَكْبِيرَة، كَمَا يكبر عِنْد قِيَامه من الْجُلُوس فِي صلَاته إِذا أَرَادَ الْقيام إِلَى الرَّكْعَة الَّتِي بعد الْجُلُوس. وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يعْتَمد عِنْد قِيَامه، وَفعله مَسْرُوق وَمَكْحُول وَعَطَاء وَالْحسن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد محتجين بِهَذَا الحَدِيث. وَأَجَازَهُ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) ثمَّ كرهه، وَرَأَتْ طَائِفَة أَن لَا يعْتَمد على يَدَيْهِ إلاَّ أَن يكون شَيخا أَو مَرِيضا،وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري، وَكره الِاعْتِمَاد ابْن سِيرِين وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) . وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَهُوَ حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث، مَحْمُول على فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد
    مَا كبر وأسن. قلت: فِيهِ تَأمل، لِأَن إنهاء مَا عمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وَفِي هَذَا الْقدر لَا يعجز الرجل عَن النهوض، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا كَانَ لعذر مرض أَو جِرَاحَة وَنَحْوهمَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحمل مَالك هَذَا الحَدِيث على حَالَة الضعْف بعيد، وَكَذَا قَول من قَالَ أَن مَالك بن الْحُوَيْرِث رجل من أهل الْبَادِيَة أَقَامَ عِنْد رَسُول الله عشْرين لَيْلَة وَلَعَلَّه رَآهُ فعل ذَلِك فِي صَلَاة وَاحِدَة لعذر فَظن أَنه من سنة الصَّلَاة أبعد، وَأبْعد لَا يُقَال ذَلِك فِيهِ.
    وجلسة الاسْتِرَاحَة ثَابِتَة فِي حَدِيث أبي حميد الساعدة، لَا كَمَا نفاها الطَّحَاوِيّ، بل هِيَ ثَابِتَة فِي حَدِيث الْمُسِيء فِي صلَاته فِي البُخَارِيّ. انْتهى. قلت: مَا نفى الطَّحَاوِيّ إلاَّ كَونهَا سنة،وَكَيف وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْهض فِي الصَّلَاة مُعْتَمدًا على صُدُور قَدَمَيْهِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم. فَإِن قلت: فِي سَنَده خَالِد بن إِيَاس،وَقيل: خَالِد بن إِيَاس ضعفه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن معِين؟قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه، ويقويه مَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي ذَلِك
    .............
    (5/203)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن هُوَ أولى بِالْإِمَامَةِ. فَقَالَت طَائِفَة: الأفقه، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأحمد وَإِسْحَاق: الأقرأ، وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَلَا شكّ فِي اجْتِمَاع هذَيْن الوصفين فِي حق الصّديق،أَلا ترى إِلَى قَول أبي سعيد: وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، ومراجعة الشَّارِع بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي تدل على تَرْجِيحه على جَمِيع الصَّحَابَة وتفضيله. فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي مَسْعُود البدري الثَّابِت فِي مُسلم: (ليؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى) ، يُعَارض هَذَا؟قلت: لَا، لِأَنَّهُ لَا يكَاد يُوجد إِذْ ذَاك قارىء إلاّ وَهُوَ فَقِيه،وَأجَاب بَعضهم: بِأَن تَقْدِيم الأقرأ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام حِين كَانَ حفاظ الْإِسْلَام قَلِيلا، وَقد قدم عَمْرو بن سَلمَة وَهُوَ صَغِير على الشُّيُوخ لذَلِك، وَكَانَ سَالم يؤم الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فِي مَسْجِد قبَاء حِين أَقبلُوا من مَكَّة لعدم الْحفاظ حِينَئِذٍ،وَقَالَ أَصْحَابنَا: أولى النَّاس بِالْإِمَامَةِ أعلمهم بِالسنةِ،أَي: بالفقه وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذا كَانَ يحسن من الْقِرَاءَة مَا تجوز بِهِ الصَّلَاة، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أبي يُوسُف: أَقرَأ النَّاس أولى بِالْإِمَامَةِ،يَعْنِي: أعلمهم بِالْقِرَاءَةِ وَكَيْفِيَّة أَدَاء حروفها ووقوفها وَمَا يتَعَلَّق بِالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أحد الْوُجُود عِنْد الشَّافِعِيَّة.
    ..........
    (5،/207)
    للْمَأْمُوم أَن يقف بِجنب الإِمَام عِنْد وجود أَسبَاب تَقْتَضِي ذَلِك: أَحدهَا: هُوَ الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا. وَالثَّانِي: ضيق الْموضع، فَلَا يقدر الإِمَام على التَّقَدُّم فَيكون مَعَ الْقَوْم فِي الصَّفّ. وَالثَّالِث: جمَاعَة العراة فَإِن إمَامهمْ يقف مَعَهم فِي الصَّفّ. وَالرَّابِع: أَن يكون مَعَ الإِمَام وَاحِد فَقَط يقف عَن يَمِينه، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس إِذْ أداره من خَلفه إِلَى يَمِينه، وَبِهَذَا يرد على التَّمِيمِي حَيْثُ حصر الْجَوَاز الْمَذْكُور على صُورَتَيْنِ،فَقَالَ: لَا يجوز أَن يكون أحد مَعَ الإِمَام فِي صف إلاّ فِي موضِعين: أَحدهمَا: مثل مَا فِي الحَدِيث من ضيق الْموضع وَعدم الْقُدْرَة على التَّقَدُّم. وَالثَّانِي: أَن يكون رجل وَاحِد مَعَ الإِمَام، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس حَيْثُ أداره من خَلفه إِلَى يَمِينه.
    ..........
    (5/211)
    جَوَاز الِالْتِفَات للْحَاجة، قَالَه ابْن عبد الْبر،وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على أَن الِالْتِفَات لَا يفْسد الصَّلَاة إِذا كَانَ يَسِيرا قلت: هَذَا إِذا كَانَ لحَاجَة،لما روى سهل بن الحنظلية من حَدِيث فِيهِ: (فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ يلْتَفت إِلَى الشّعب) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ أرسل فَارِسًا إِلَى الشّعب يحرس،وَقَالَ الْحَاكِم: سَنَده صَحِيح، وَأما إِذا كَانَ لَا لحَاجَة فَإِنَّهُ يكره،لما رُوِيَ عَن أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يزَال الله تَعَالَى مُقبلا على العَبْد وَهُوَ فِي صلَاته مَا لم يلْتَفت، فَإِذا الْتفت انْصَرف عَنهُ) . وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا وَلَا يلوي عُنُقه خلف ظَهره) .
    ......
    (5/217)
    وَرِوَايَة الْأَكْثَرين " فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ قَائِم " من الْقيام قَوْله " بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ويروى " بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَقد قَالَ الشَّافِعِي بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل بِالنَّاسِ فِي مرض مَوته فِي الْمَسْجِد إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَهِي هَذِه الَّتِي صلى فِيهَا قَاعِدا وَكَانَ أَبُو بكر فِيهَا إِمَامًا ثمَّ صَار مَأْمُوما يسمع النَّاس التَّكْبِير
    ...........
    (5/217)
    روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالْأَرْبَعَة عَن أنس قَالَ " سقط رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن فرس " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا " وروى البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم عَن عَائِشَة قَالَت " اشْتَكَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدخل عَلَيْهِ نَاس من أَصْحَابه " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا " (قلت) هَؤُلَاءِ يجْعَلُونَ هذَيْن الْحَدِيثين منسوخين بِحَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم أَنه صلى آخر صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس خَلفه قيام وَأَيْضًا أَن تِلْكَ الصَّلَاة كَانَت تَطَوّعا والتطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض وَقد صرح بذلك فِي بعض طرقه كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ " ركب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرسا لَهُ فِي الْمَدِينَة فصرعه على جذع نَخْلَة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه فِي مشربَة لعَائِشَة يسبح جَالِسا قَالَ فقمنا خَلفه فَسكت عَنَّا ثمَّ أتيناه مرّة أُخْرَى نعوده فصلى الْمَكْتُوبَة جَالِسا فقمنا خَلفه فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا قَالَ فَلَمَّا قضى الصَّلَاة قَالَ إِذا صلى الإِمَام جَالِسا فصلوا جُلُوسًا فَإِذا صلى قَائِما فصلوا قيَاما وَلَا تَفعلُوا كَمَا يفعل أهل الْفَارِس بعظمائها "
    .......
    (5/216)
    وَمِمَّا يدل على أَن التطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أنس قَالَ " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إياك والالتفات فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ هلكة فَإِن كَانَ لَا بُد فَفِي التَّطَوُّع لَا فِي الْفَرِيضَة " وَقَالَ حَدِيث حسن
    ............
    (5/219)
    أن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَا قَالَه الْحميدِي، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور السّلف أَن الْقَادِر على الْقيام لَا يُصَلِّي وَرَاء الْقَاعِد إلاَّ قَائِما. وَقَالَ المرغيناني: الْفَرْض وَالنَّفْل سَوَاء.
    إِشَارَة إِلَى أَن الَّذِي يجب بِهِ الْعَمَل هُوَ مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر الْأَمر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما كَانَ آخر الْأَمريْنِ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس وَرَاءه قيام، دلّ على أَن مَا كَانَ قبله من ذَلِك مَرْفُوع الحكم. فَإِن قلت: ابْن حبَان لم ير النّسخ، فَإِنَّهُ قَالَ،بعد أَن روى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضح أَن الإِمَام إِذا صلى قَاعِدا كَانَ على الْمَأْمُومين أَن يصلوا قعُودا، وَأفْتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر بن عبد الله وَأَبُو هُرَيْرَة وَأسيد بن حضير وَقيس ابْن فَهد، وَلم يرو عَن غَيرهم من الصَّحَابَة خلاف هَذَا بِإِسْنَاد مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطع، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقد أفتى بِهِ أَيْضا من التَّابِعين. وَأول من أبطل ذَلِك من الْأمة الْمُغيرَة بن مقسم، وَأخذ عَنهُ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ثمَّ أَخذه عَنهُ أَبُو حنيفَة ثمَّ عَنهُ أَصْحَابه وَأَعْلَى حَدِيث احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ،وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) ، وَهَذَا لَو صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسلا، والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان، لأَنا لَو قبلنَا إرْسَال تَابِعِيّ وَأَن كَانَ ثِقَة للزمنا قبُول مثله عَن اتِّبَاع التَّابِعين، وَإِذ قبلنَا لزمنا قبُوله من أَتبَاع التَّابِعين،وَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن نقبل من كل أحد إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا نقض الشَّرِيعَة، وَالْعجب أَن أَبَا حنيفَة يخرج عَن جَابر الْجعْفِيّ ويكذبه، ثمَّ لما اضطره الْأَمر جعل أحتج بحَديثه، وَذَلِكَ
    .......
    (5/220)
    سْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا لقبُول الْمُرْسل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على قبُول رِوَايَات ابْن عَبَّاس مَعَ أَنه لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاّ أَربع أَحَادِيث لصِغَر سنه كَمَا ذكره الْغَزالِيّ، أَو بضع عشر حَدِيثا كَمَا ذكره شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ. وَقَالَ ابْن سِيرِين: مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة،وَقَالَ بَعضهم: رد الْمَرَاسِيل بِدعَة حَادِثَة بعد الْمِائَتَيْنِ، وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ من أهل الْكُوفَة، وَأَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن من أهل الْبَصْرَة، وَمَكْحُول من أهل الشَّام كَانُوا يرسلون، وَلَا يظنّ بهم إلاّ الصدْق، فَدلَّ على كَون الْمُرْسل حجَّة نعم، وَقع الِاخْتِلَاف فِي مَرَاسِيل من دون الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث،فَعِنْدَ أبي الْحسن الْكُوفِي: يقبل إرْسَال كل عدل فِي كل عصر،فَإِن الْعلَّة الْمُوجبَة لقبُول الْمَرَاسِيل فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَهِي: الْعَدَالَة والضبط، تَشْمَل سَائِر الْقُرُون، فَبِهَذَا التَّقْدِير انْتقض قَوْله، وَفِي هَذَا نقض للشريعة. وَأما قَوْله: وَالْعجب من أبي حنيفَة ... إِلَى آخِره،كَلَام فِيهِ إساءة أدب وتشنيع بِدُونِ دَلِيل جلي: فَإِن أَبَا حنيفَة من أَيْن أحتج بِحَدِيث جَابر الْجعْفِيّ فِي كَونه نَاسِخا؟ وَمن نقل هَذَا من الثِّقَات عَن أبي حنيفَة حَتَّى يكون متناقضا فِي قَوْله وَفعله؟ بل احْتج أَبُو حنيفَة فِي نسخ هَذَا الْبَاب مثل مَا احْتج بِهِ غَيره كالثوري وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَجُمْهُور السّلف، كَمَا مر مُسْتَوفى
    ...........
    (5/224)
    وَلَا يلْزم من التَّعَرُّض للشَّيْء وُقُوع ذَلِك الشَّيْء. قلت: وَإِن سلمنَا ذَلِك فلِمَ لَا يجوز أَن يُؤَخر الْعقَاب إِلَى وَقت يُريدهُ الله تَعَالَى؟ كَمَا وقفنا فِي بعض الْكتب وَسَمعنَا من الثِّقَات أَن جمَاعَة من الشِّيعَة الَّذين يسبون الصَّحَابَة قد تحولت صورتهم إِلَى صُورَة حمَار وخنزير عِنْد مَوْتهمْ، وَكَذَلِكَ جرى على من عق وَالِديهِ، وخاطبهما باسم الْحمار أَو الْخِنْزِير أَو الْكَلْب؟

    ...........

    (5/205)
    وَقَالَ ابْن حزم: لَا تجوز الْقِرَاءَة من الْمُصحف وَلَا من غَيره لمصل إِمَامًا كَانَ أَو غَيره، فَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته، وَبِه قَالَ ابْن الْمسيب وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهُوَ غَرِيب لم أره عَنهُ. قلت: الْقِرَاءَة من مصحف فِي الصَّلَاة مفْسدَة عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ عمل كثير، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز، لِأَن النّظر فِي الْمُصحف عبَادَة، وَلكنه يكره لما فِيهِ من التَّشَبُّه بِأَهْل الْكتاب فِي هَذِه الْحَالة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَعند مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. لَا تفْسد فِي النَّفْل فَقَط.
    وَأما إِمَامَة العَبْد،فقد قَالَ أَصْحَابنَا: تكره إِمَامَة العَبْد لاشتغاله بِخِدْمَة مَوْلَاهُ، وأجازها أَبُو ذَر وَحُذَيْفَة وَابْن مَسْعُود، ذكره ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَعَن أبي سُفْيَان أَنه كَانَ يؤم بني عبد الْأَشْهَل وَهُوَ مكَاتب وَخَلفه صحابة مُحَمَّد بن مسلمة وَسَلَمَة بن سَلام، وَصلى َالم خلف زِيَاد مولى ابْن الْحسن وَهُوَ عبد، وَمن التَّابِعين ابْن سِيرِين وَالْحس
    .......
    (5/228)
    لنَّهْي عَن الْقيام على السلاطين وَإِن جاروا، لِأَن فِيهِ تهييج فتْنَة تذْهب بهَا الْأَنْفس وَالْحرم وَالْأَمْوَال، وَقد مثله بَعضهم بِالَّذِي يَبْنِي قصرا ويهدم مصرا. وَفِيه: دلَالَة على وجوب طَاعَة الْخَارِجِي لِأَنَّهُ قَالَ: حبشِي، والخلافة فِي قُرَيْش، فَدلَّ على أَن الحبشي إِنَّمَا يكون متغلبا، وَالْفُقَهَاء على أَنه يطاع مَا أَقَامَ الْجمع وَالْجَمَاعَات والعيد وَالْجهَاد.
    ...........
    (5/229)
    إِذا صلى بِقوم مُحدثا أَنه تصح صَلَاة الْمَأْمُومين خَلفه وَعَلِيهِ الْإِعَادَة قلت: هَذَا على مَذْهَب الشَّافِعِي كَمَا ذكرنَا أَن الْمُؤْتَم عِنْده تبع للْإِمَام فِي مُجَرّد الْمُوَافقَة لَا فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعِنْدنَا يتبع لَهُ مُطلقًا،يَعْنِي: فِي الصِّحَّة وَالْفساد،وَثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي مسَائِل: مِنْهَا: أَن الإِمَام إِذا ظهر مُحدثا أَو جنبا لَا يُعِيد الْمُؤْتَم صلَاته عِنْدهم. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء الْقَائِم بالمومى. وَمِنْهَا: قِرَاءَة الإِمَام لَا تنوب عَن قِرَاءَة الْمُقْتَدِي. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وبمن يُصَلِّي فرضا آخر. وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَدِي يَقُول: سمع الله لمن حَمده. وَعِنْدنَا: الحكم بِالْعَكْسِ فِي كلهَا،وَدَلِيلنَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم مصححا عَن سهل بن سعد: (الإِمَام ضَامِن) ،يَعْنِي: صلَاتهم فِي ضمن صلَاته صِحَة وَفَسَادًا. وَقد اسْتدلَّ بِهِ قوم: أَن الائتمام بِمن يحل بِشَيْء من الصَّلَاة ركنا كَانَ أَو غَيره صَحِيح إِذا أتم الْمَأْمُوم،قيل: هَذَا وَجه عِنْد الشَّافِعِيَّة
    ..........
    (5/230)
    كانَ جمَاعَة من السّلف يَفْعَلُونَ، رُوِيَ عَن ابْن عمر أَن الْحجَّاج لما أخر الصَّلَاة بِعَرَفَة صلى ابْن عمر فِي رَحْله ووقف فَأمر بِهِ الْحجَّاج فحبس، وَكَانَ الْحجَّاج يُؤَخر الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ أَبُو وَائِل يَأْمُرنَا أَن نصلي فِي بُيُوتنَا ثمَّ نأتي الْحجَّاج فنصلي مَعَه، وَفعله مَسْرُوق مَعَ زِيَاد، وَكَانَ عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير فِي زمن الْوَلِيد إِذا أخر الصَّلَاة صليا فِي مَحلهمَا ثمَّ صليا مَعَه، وَفعله مَكْحُول مَعَ الْوَلِيد أَيْضا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَكَانَ جمَاعَة من السّلف يصلونَ فِي بُيُوتهم فِي الْوَقْت ثمَّ يعيدون مَعَهم، وَهُوَ مَذْهَب مَالك،وَعَن بعض السّلف: لَا يعيدون. وَقَالَ النَّخعِيّ: كَانَ عبد الله يُصَلِّي مَعَهم إِذا أخروا عَن الْوَقْت قَلِيلا،وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا قسام قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ عَن الصَّلَاة خلف الْأُمَرَاء قَالَ: صلِّ مَعَهم وَقيل لجَعْفَر ابْن مُحَمَّد: كَانَ أَبوك يُصَلِّي إِذا رَجَعَ إِلَى الْبَيْت؟فَقَالَ: لَا وَالله مَا كَانَ يزِيد على صَلَاة الْأَئِمَّة، وَالله أعلم.
    انَ الْحسن الْبَصْرِيّ سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف المبتدع،فَقَالَ: صل وَعَلِيهِ إِثْم بدعته،وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن هِشَام بن حسان: أَن الْحسن سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف صَاحب بِدعَة فَقَالَ: صل خَلفه وَعَلِيهِ بدعته.



    ...........
    (5/231)
    الَ ابْن وضاح إِمَام الْفِتْنَة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ الَّذِي جلب على عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أهل مصر وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد صلى كنَانَة بن بشر أحد رُؤْس الْخَوَارِج بِالنَّاسِ أَيْضا وَكَانَ هَؤُلَاءِ لما هجموا على الْمَدِينَة كَانَ عُثْمَان يخرج فَيصَلي بِالنَّاسِ شهرا ثمَّ خرج يَوْمًا فحصبوه حَتَّى وَقع على الْمِنْبَر وَلم يسْتَطع الصَّلَاة يَوْمئِذٍ فصلى بهم أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف فمنعوه فصلى بهم عبد الرَّحْمَن بن عديس تَارَة وكنانة بن بشر تَارَة فبقيا على ذَلِك عشرَة أَيَّام
    ...........
    (5/232)
    وَقد روى ابْن ماجة عَن جَابر بن عبد الله قَالَ " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَفِيه " فَمن تَركهَا " أَي الْجُمُعَة " فِي حَياتِي أَو بعدِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا فَلَا جمع الله شَمله وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بر لَهُ حَتَّى يَتُوب " الحَدِيث وَمن هَذَا أَخذ أَصْحَابنَا وَقَالُوا لَا تجوز إِقَامَتهَا إِلَّا للسُّلْطَان وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم أَو لمن أمره كالنائب وَالْقَاضِي والخطيب (فَإِن قلت) هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَفِي سَنَده عبد الله بن مُحَمَّد وَهُوَ تكلم فِيهِ (قلت) هَذَا رُوِيَ من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة فَحصل لَهُ بذلك قُوَّة فَلَا يمْنَع من الِاحْتِجَاج بِهِ وَأما الصَّلَاة خلف الْخَوَارِج وَأهل الْبدع فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فأجازت طَائِفَة مِنْهُم ابْن عمر إِذا صلى خلف الْحجَّاج وَكَذَلِكَ ابْن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير ثمَّ خرجا عَلَيْهِ وَقَالَ النَّخعِيّ كَانُوا يصلونَ وَرَاء الْأُمَرَاء مَا كَانُوا وَكَانَ أَبُو وَائِل يجمع مَعَ المختارين عبيد وَسُئِلَ مَيْمُون بن مهْرَان عَن الصَّلَاة خلف رجل يذكر أَنه من الْخَوَارِج فَقَالَ أَنْت لَا تصلي لَهُ إِنَّمَا تصلي لله عز وَجل وَقد كُنَّا نصلي خلف الْحجَّاج وَكَانَ حروريا أزرقيا وروى أَشهب عَن مَالك لَا أحب الصَّلَاة خلف الأباضية والواصلية وَلَا السُّكْنَى مَعَهم فِي بلد وَقَالَ ابْن الْقَاسِم أرى الْإِعَادَة فِي الْوَقْت على من صلى خلف أهل الْبدع وَقَالَ أصبغ يُعِيد أبدا وَقَالَ الثَّوْريّ فِي القدري لَا تقدموه وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل لَا يصلى خلف أحد من أهل الْأَهْوَاء إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى هَوَاهُ وَمن صلى خلف الْجَهْمِية والرافضية والقدرية يُعِيد وَقَالَ أَصْحَابنَا تكره الصَّلَاة خلف صَاحب هوى وبدعة وَلَا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري لأَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن الله لَا يعلم الشَّيْء قبل حُدُوثه وَهُوَ كفر والمشبهة وَمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَكَانَ أَبُو حنيفَة لَا يرى الصَّلَاة خلف المبتدع وَمثله عَن أبي يُوسُف وَأما الْفَاسِق بجوارحه كالزاني وشارب الْخمر فَزعم ابْن حبيب أَن من صلى خلف من شرب الْخمر يُعِيد أبدا إِلَّا أَن يكون واليا وَقيل فِي رِوَايَة يَصح وَفِي الْمُحِيط لَو صلى خلف فَاسق أَو مُبْتَدع يكون مُحرز لثواب الْجَمَاعَة وَلَا ينَال ثَوَاب من صلى خلف المتقي وَفِي الْمَبْسُوط يكره الِاقْتِدَاء بِصَاحِب الْبِدْعَة
    ..........
    (5/237)
    وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل،وَذَلِكَ لِأَن ابْن جريج روى عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر فِي حَدِيث الْبَاب: (هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة) . قلت: هَذِه زِيَادَة، وَقد تكلمُوا فِيهَا،فَزعم أَبُو البركات ابْن تَيْمِية: أَن الإِمَام أَحْمد ضعف هَذِه الزِّيَادَة،وَقَالَ: أخْشَى أَن لَا تكون مَحْفُوظَة، لِأَن ابْن عُيَيْنَة يزِيد فِيهَا كلَاما لَا يَقُوله أحد، وَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : وروى الحَدِيث مَنْصُور بن زَاذَان وَشعْبَة فَلم يَقُولَا مَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة،وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، وَلَو صحت لكَانَتْ ظنا من جَابر، وبنحوه ذكره ابْن الْعَرَبِيّ فِي (الْعَارِضَة) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة روى عَن عَمْرو حَدِيث جَابر أتم من سِيَاق ابْن جريج، وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة. وَقَالَ بَعضهم: وتعليل الطَّحَاوِيّ بِهَذَا لَيْسَ بقادح فِي صِحَّته، لِأَن ابْن جريج أسن وَأجل من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ،وَلَو لم يكن كَذَلِك فَهِيَ زِيَادَة ثِقَة حَافظ لَيست مُنَافِيَة لرِوَايَة من هُوَ أحفظ مِنْهُ قلت: هَذِه مُكَابَرَة لتمشية كَلَامه فِي حق الطَّحَاوِيّ، فَهَل ذكر هَذَا عِنْد قَول أَحْمد،وَهُوَ أجل من ابْن جريج وَابْن عُيَيْنَة: هَذِه الزياة ضَعِيفَة،أَو عِنْد كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ: إِن هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، أَو عِنْد كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ على مَا ذكرنَا؟ وَهَذَا الرَّافِعِيّ الَّذِي هُوَ من أكَابِر أئمتهم، وَمِمَّنْ يعْتَمد عَلَيْهِم وَيُؤْخَذ عَلَيْهِم،قَالَ فِي شرح هَذَا الحَدِيث: هَذَا غير مَحْمُول على مَا قَالُوا، لِأَن الْفَرْض لَا يقطع بعد الشُّرُوع فِيهِ، وَكَون ابْن جريج أسن من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ بعد التَّسْلِيم لَا يسْتَلْزم نفي مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ،وَقد قَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، ورده بَعضهم بِأَن الأَصْل عدم الإدراج حَتَّى يثبت التَّفْصِيل
    لَا دَلِيل على كَونهَا مدرجة لجَوَاز أَن تكون من ابْن جريج، وَجَوَاز أَن تكون من عَمْرو بن دِينَار، وَيجوز أَن تكون من قَول جَابر، فَمن أَي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانَ هَذَا القَوْل؟ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على حَقِيقَة مَا كَانَ يفعل معَاذ، وَلَو ثَبت أَنه عَن معَاذ لم يكن فِيهِ دَلِيل أَنه كَانَ بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

    .........

    (5/244)
    اسْتدلَّ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن الإِمَام إِذا كَانَ رَاكِعا فأحس بداخل يُرِيد الصَّلَاة مَعَه ينتظره ليدرك مَعَه فَضِيلَة الرَّكْعَة فِي جمَاعَة، وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ لَهُ أَن يحذف من طول الصَّلَاة لحَاجَة الْإِنْسَان فِي بعض أُمُور الدُّنْيَا كَانَ لَهُ أَن يزِيد فِيهَا لعبادة الله تَعَالَى، بل هَذَا أَحَق وَأولى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن هَذَا زِيَادَة عمل فِي الصَّلَاة بِخِلَاف الْحَذف. وَقَالَ ابْن بطال: وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك الشّعبِيّ وَالْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى،وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَظر مَا لم يشق على أَصْحَابه، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر،وَقَالَ مَالك: لَا ينْتَظر لِأَنَّهُ يضر من خَلفه، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ السفاقسي عَن سَحْنُون: صلَاتهم بَاطِلَة. قلت: وَفِي (الذَّخِيرَة) من كتب أَصْحَابنَا: سمع الإِمَام فِي الرُّكُوع خَفق النِّعَال، هَل ينْتَظر؟قَالَ أَبُو يُوسُف: سَأَلت أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى عَن ذَلِك فكرهاه،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أخْشَى عَلَيْهِ أمرا عَظِيما يَعْنِي الشّرك وروى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه كره ذَلِك،وَعَن أبي مُطِيع: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا كَانَ ذَلِك مِقْدَار التسبيحة والتسبيحتين،وَقَالَ بَعضهم: يطول التسبيحات وَلَا يزِيد فِي الْعدَد،وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفَّار: إِن كَانَ الجائي غَنِيا لَا يجوز، وَإِن كَانَ فَقِيرا يجوز انْتِظَاره. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: إِن كَانَ الإِمَام عرف الجائي لَا ينتظره، وَإِن لم يعرفهُ فَلَا بَأْس بِهِ، إِذْ فِيهِ إِعَانَة على الطَّاعَة. وَقيل: إِن أَطَالَ الرُّكُوع لإدراك الجائي خَاصَّة وَلَا يُرِيد إطالة الرُّكُوع للتقرب إِلَى الله تَعَالَى، فَهَذَا مَكْرُوه،وَقيل: إِن كَانَ الجائي شريرا ظَالِما لَا يكره لدفع شَره.
    ......
    (5/249)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي، وَيذكر تَعْلِيق بِلَفْظ التمريض،قَالَ بَعضهم: هَذَا عِنْدِي لَيْسَ بصواب لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونه على غير شَرطه أَنه لَا يصلح للاحتجاج بِهِ عِنْده،بل قد يكون صَالحا للاحتجاج بِهِ عِنْده وَلَيْسَ هُوَ على شَرط صَحِيحه الَّذِي هُوَ على شُرُوط الصِّحَّة قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يخرم قَاعِدَته، لِأَنَّهُ إِذا لم يكن على شَرطه كَيفَ يحْتَج بِهِ؟ وإلاّ فَلَا فَائِدَة لذَلِك الشَّرْط، وَأَبُو نَضرة الَّذِي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، لَيْسَ على شَرطه، وَإِنَّمَا يصلح عِنْده للاستشهاد، وَلِهَذَا اسْتشْهد بِهِ عَن جَابر فِي كتاب الشُّرُوط
    ............
    (5/250)
    قد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الإِمَام إِذا شكّ فِي صلَاته فَأخْبرهُ الْمَأْمُوم بترك رَكْعَة مثلا، هَل يرجع إِلَى قَوْله أم لَا؟وَاخْتلف عَن مَالك فِي ذَلِك فَقَالَ مرّة: يرجع إِلَى قَوْلهم: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: وَقَالَ مرّة: يعْمل عمل يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابه. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكّ بِإِخْبَار ذِي الْيَدَيْنِ، فَسَأَلَهُمْ إِرَادَة تَيَقّن أحد الْأَمريْنِ، فَلَمَّا صدقُوا ذَا الْيَدَيْنِ علم صِحَة قَوْله. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ البُخَارِيّ بتبويبه.
    ............
    (5/252)
    وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله عَن بهز عَن شُعْبَة بِهِ،وَقَالَ: لَا أعلم أحدا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ،غير سعد بن إِبْرَاهِيم فَإِن قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا ابْن معِين حَدثنَا شُعَيْب بن أبي مَرْيَم حَدثنَا لَيْث وَابْن وهب عَن عبد الله الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ سَجْدَتي السَّهْو،قَالَ: وَكَانَ ابْن شهَاب يَقُول: إِذا عرف الرجل مَا نسي من صلَاته فأتمها فَلَيْسَ عَلَيْهِ سجدتا السَّهْو،لهَذَا الحَدِيث قلت: قَالَ مُسلم فِي التَّمْيِيز: قَول ابْن شهَاب، إِنَّه لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، خطأ وَغلط، وَقد ثَبت أَنه سجد سَجْدَتي السَّهْو من رِوَايَة الثِّقَات ابْن سِيرِين وَغَيره.
    ..........
    (5/252)
    قَالَ السفاقسي: أجَاز الْعلمَاء الْبكاء فِي الصَّلَاة من خوف الله تَعَالَى وخشيته.
    وَاخْتلفُوا فِي الأنين والتأوه قَالَ ابْن الْمُبَارك: إِذا كَانَ غَالِبا فَلَا بَأْس، وَعند أبي حنيفَة إِذا ارْتَفع تأوهه أَو بكاؤه فَإِن كَانَ من ذكر الْجنَّة وَالنَّار لم يقطعهَا، وَإِن كَانَ من وجع أَو مُصِيبَة قطعهَا،وَعَن الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر: لَا بَأْس بِهِ إلاّ أَن يكون كلَاما مفهوما،وَعَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ: يُعِيد صلَاته.
    ............
    (5/252)
    فَاسْتَفْتَحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر من الْقِرَاءَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه كَانَ يبكي وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، وَأَنه كَانَ يقْرَأ وَهُوَ إِمَام إِلَى وَقت مَجِيء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فطابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. فَافْهَم. فَإِن أحدا مَا نبه على ذَلِك.
    ..........
    (5/253)
    نِّي أرى من خلف ظَهْري، كَمَا إرى من بَين يَدي. ثمَّ إِن هَذَا يجوز أَن يكون إدراكا خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محققا انخرقت لَهُ الْعَادة وخلقت لَهُ عين وَرَاءه فَيرى بهَا،كَمَا ذكر مُخْتَار بن مُحَمَّد فِي رسَالَته الناصرية: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بَين كتفه عينان مثل سم الْخياط، فَكَانَ يبصر بهما، وَلَا تحجبهما الثِّيَاب. وَفِي حَدِيث: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى فِي الظلام كَمَا يرى فِي الضَّوْء. وَذكر بعض أهل الْعلم أَن ذَلِك رَاجع إِلَى الْعلم،وَأَن مَعْنَاهُ: لَا علم، وَهَذَا تَأْوِيل لَا حَاجَة إِلَيْهِ، بل حمل ذَلِك على ظَاهره أولى، وَيكون ذَلِك زِيَادَة فِي كرامات الشَّارِع، قَالَه الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ أَحْمد وَجُمْهُور الْعلمَاء: هَذِه الرُّؤْيَة رُؤْيَة الْعين حَقِيقَة وَلَا مَانع لَهُ من جِهَة الْعقل، وَورد الشَّرْع بِهِ فَوَجَبَ القَوْل بِهِ.

    ..............

    (5/253)
    لْأَمر بتسوية الصُّفُوف، وَهِي من سنة الصَّلَاة عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك، وَزعم ابْن حزم أَنه فرض، لِأَن إِقَامَة الصَّلَاة فرض، وَمَا كَانَ من الْفَرْض فَهُوَ فرض. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن تَسْوِيَة الصَّفّ من تَمام الصَّلَاة) . فَإِن قلت: الأَصْل فِي الْأَمر الْوُجُوب وَلَا سِيمَا فِيهِ الْوَعيد على ترك تَسْوِيَة الصُّفُوف، فَدلَّ على أَنَّهَا وَاجِبَة. قلت: هَذَا الْوَعيد من بَاب التَّغْلِيظ وَالتَّشْدِيد تَأْكِيدًا وتحريضا على فعلهَا، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَيْسَ بسديد. لِأَن الْأَمر المقرون بالوعيد يدل على الْوُجُوب،بل الصَّوَاب أَن يَقُول: فلتكن التَّسْوِيَة وَاجِبَة بِمُقْتَضى الْأَمر، وَلكنهَا لَيست من وَاجِبَات الصَّلَاة بِحَيْثُ أَنه إِذا تَركهَا فَسدتْ صلَاته أَو نقصتها. غَايَة مَا فِي الْبَاب إِذا تَركهَا يَأْثَم، وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُوكل رجَالًا بِإِقَامَة الصُّفُوف، فَلَا يكبر حَتَّى يخبر أَن الصُّفُوف قد اسْتَوَت، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَنَّهُمَا كَانَا يتعاهدان ذَلِك ويقولان: اسْتَووا، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،يَقُول: تقدم يَا فلَان، وَتَأَخر يَا فلَان. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير،قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسَوِّي صُفُوفنَا إِذا قمنا للصَّلَاة وَإِذا استوينا كبر للصَّلَاة) ،وَلَفظ مُسلم: (كَانَ يُسَوِّي صُفُوفنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بهَا القداح، حَتَّى رأى أَنا قد غفلنا عَنهُ، خرج يَوْمًا حَتَّى كَاد أَن يكبر، فَرَأى رجلا باديا صَدره،فَقَالَ: عباد الله لتسونَّ صفوفكم)
    .......
    (5/255)
    وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) و (صَحِيح ابْن حبَان) : من حَدِيث أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (رصوا صفوفكم وقاربوا بَينهَا وحاذوا بالأعناق، فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ أَنِّي لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ، كَأَنَّهُ الْحَذف) . والحذف،بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره فَاء: وَهِي غنم صغَار سود تكون بِالْيمن،وفسرها مُسلم: بِالنَّقْدِ، بِالتَّحْرِيكِ، وَهِي جنس من الْغنم قصار الأرجل قباح الْوُجُود. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أَجود الصُّوف صوفها. وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا أَوْلَاد الْحَذف؟قَالَ: ضَأْن جرد سود تكون بِأَرْض الْيمن) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَيُقَال: أَكثر مَا تكون بِأَرْض الْحجاز.
    ..........
    (5/257)
    لتأثيم يحصل أَيْضا عَن ترك السّنة، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت مُؤَكدَة، وَمَعَ الْقَوْم بِوُجُوب التَّسْوِيَة فَتَركهَا لَا يضر صلَاته لِأَنَّهَا خَارِجَة عَن حَقِيقَة الصَّلَاة، أَلا ترى أَن أنسا، مَعَ إِنْكَاره عَلَيْهِم، لم يَأْمُرهُم بِإِعَادَة الصَّلَاة، وَلَا يعْتَبر مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم من بطلَان صلَاته مستدلاً بِمَا صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه ضرب قدم أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ لإِقَامَة الصَّفّ،وَبِمَا صَحَّ عَن سُوَيْد ابْن غَفلَة قَالَ: كَانَ بِلَال يُسَوِّي مناكبنا وَيضْرب أقدامنا فِي الصَّلَاة،فَقَالَ ابْن حزم: مَا كَانَ عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الْوَاجِب. قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لجَوَاز أَنَّهُمَا كَانَا يريان التَّعْزِير على ترك السّنة قلت: فِي هَذَا النّظر نظر، لِأَن قَائِله قد نَاقض فِي قَوْله حَيْثُ قَالَ،فِيمَا مر عَن قريب: التأثيم إِنَّمَا يحصل عَن ترك وَاجِب، فَإِذا لم يكن تَارِك السّنة آثِما فَكيف يسْتَحق التَّعْزِير؟ بل الظَّاهِر أَن ضربهما كَانَ لترك الْأَمر الَّذِي ظَاهره الْوُجُوب، ولاستحقاق الْوَعيد الشَّديد فِي التّرْك.

    ,,,,,,,,,,,

    (5/261)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: اخْتلف أهل الْعلم فِيمَن صلى خلف الصَّفّ وَحده،فَقَالَت طَائِفَة: صلَاته فَاسِدَة على ظَاهر حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يُصَلِّي خلف الصَّفّ وَحده فَقَالَ: أعد الصَّلَاة) . هَذَا قَول النَّخعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن حزم: صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ وَحده بَاطِلَة، لما فِي حَدِيث وابصة بن معبد، أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : (صلى رجل خلف الصَّفّ فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعد صَلَاتك فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لَك) . وَفِي حَدِيث عَليّ بن شَيبَان: (اسْتقْبل صَلَاتك) ،وَفِي لفظ: (أعد صَلَاتك فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لمنفرد خلف الصَّفّ وَحده) . وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الإِمَام جَائِزَة.
    (وَأجِيب) : عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِأَن الْأَمر بِالْإِعَادَةِ على الِاسْتِحْبَاب دون الْإِيجَاب،وَعَن حَدِيث وابصة: أَنه لم يثبت عَن جمَاعَة، وَفِيه اضْطِرَاب، قَالَه أَبُو عمر. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي سَنَده اخْتِلَاف،وَعَن حَدِيث ابْن شَيبَان: أَن رِجَاله غير مشهورين،وَعَن الشَّافِعِي: لَو ثَبت هَذَا لَقلت بِهِ.
    ........
    (5/266)
    صل التَّرَاوِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلاهَا فِي رَمَضَان بعض اللَّيَالِي ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تكْتب علينا، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي كَونهَا سنة أَو تَطَوّعا مُبْتَدأ،فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين الضَّرِير: نفس التَّرَاوِيح سنة، أما أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَة فمستحب،وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا. وَقَالَ الشَّهِيد: هُوَ الصَّحِيح، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : التَّرَاوِيح سنة مُؤَكدَة، وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة، وَفِي (الرَّوْضَة) لِأَصْحَابِنَا: إِن الْجَمَاعَة فَضِيلَة. وَفِي (الذَّخِيرَة) لِأَصْحَابِنَا عَن أَكثر الْمَشَايِخ: إِن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على الْكِفَايَة، وَمن صلى فِي الْبَيْت فقد ترك فَضِيلَة الْمَسْجِد. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَو صلى إِنْسَان فِي بَيته لَا يَأْثَم، فعلهَا ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وَنَافِع وَإِبْرَاهِيم، ثمَّ إِنَّهَا عشرُون رَكْعَة. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَنَقله القَاضِي عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع،وَعند مَالك: تسع ترويحات بست وَثَلَاثِينَ رَكْعَة غير الْوتر، وَاحْتج على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّ ة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ،قَالَ: كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِعشْرين رَكْعَة، وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مثله. فَإِن قلت: قَالَ فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: كَانَ النَّاس فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقومُونَ فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة؟قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر، وَيزِيد لم يدْرك عمر، فَفِيهِ انْقِطَاع.

    ........
    (5/268)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام،فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ شَرط،وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: ركن. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تَنْعَقِد الصَّلَاة بِمُجَرَّد النِّيَّة بِلَا تَكْبِير،قَالَ أَبُو بكر: وَلم يقل بِهِ غَيره. قَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى وجوب تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنَّهَا سنة، رُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَالْحكم وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ،وَقَالُوا: إِن تَكْبِير الرُّكُوع يجْزِيه عَن تَكْبِير الْإِحْرَام، وَرُوِيَ عَن مَالك فِي الْمَأْمُوم مَا يدل على أَنه سنة، وَلم يخْتَلف قَوْله فِي الْمُنْفَرد وَالْإِمَام أَنه وَاجِب على كل وَاحِد مِنْهُمَا، وَأَن من نَسيَه يسْتَأْنف الصَّلَاة. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: التَّكْبِير ركن لَا تَنْعَقِد الصَّلَاة إِلَّا بِهِ، سَوَاء تَركه سَهوا أَو عمدا. قَالَ: وَهَذَا قَول ربيعَة وَالثَّوْري وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَحكى الثَّوْريّ وَأَبُو الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ عَن ابْن علية، والأصم كَقَوْل الزُّهْرِيّ فِي انْعِقَاد الصَّلَاة بِمُجَرَّد النِّيَّة بِغَيْر تَكْبِير،وَقَالَ عبد الْعَزِيز ابْن ابراهيم بن بزيزة: قَالَت طَائِفَة بِوُجُوب تَكْبِير الصَّلَاة كُله،وَعكس آخَرُونَ فَقَالُوا: كل تَكْبِيرَة فِي الصَّلَاة لَيست بواجبة مُطلقًا،مِنْهُم: ابْن شهَاب وَابْن الْمسيب،وأجازوا الْإِحْرَام بِالنِّيَّةِ لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) ، وَالْجُمْهُور أوجبوها خَاصَّة دون مَا عَداهَا. وَاخْتلف مَذْهَب مَالك: هَل يحملهَا الإِمَام عَن الْمَأْمُوم أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ فِي الْمَذْهَب.

    ...........
    (5/271)
    الَ ابْن الْمُنْذر: وَلم يَخْتَلِفُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : أَجمعت الْأمة على اسْتِحْبَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع فِيهِ، وَنقل الْعَبدَرِي عَن الزيدية، وَلَا يعْتد بهم أَنه لَا يرفع يَدَيْهِ عِنْد الْإِحْرَام، وَفِي (فتاوي الْقفال) : إِن أَبَا الْحسن أَحْمد بن سيار الْمروزِي قَالَ: إِذا لم يرفع يَدَيْهِ لم تصح صلَاته لِأَنَّهَا وَاجِبَة، فَوَجَبَ الرّفْع لَهَا، بِخِلَاف بَاقِي التَّكْبِيرَات، لَا يجب الرّفْع لَهَا، لِأَنَّهَا غير وَاجِبَة. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا مَرْدُود بِإِجْمَاع من قبله. وَقَالَ ابْن حزم: رفع الْيَدَيْنِ فِي أول الصَّلَاة فرض لَا تجزىء الصَّلَاة إلاّ بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ. قلت: وَمِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوب: الْحميدِي وَابْن خُزَيْمَة، نَقله عَنهُ الْحَاكِم، وَحَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن عَن أَحْمد،وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كل من نقل عَنهُ الْإِيجَاب لَا تبطل الصَّلَاة بِتَرْكِهِ إلاّ رِوَايَة عَن الْأَوْزَاعِيّ والْحميدِي، وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْمَالِكِيَّة.
    ..........
    (5/272)
    وَعَن الْبَراء من عِنْد الطَّحَاوِيّ: (يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي أُذُنَيْهِ) ، وَذهب ابْن حبيب إِلَى رفعهما إِلَى حَذْو أُذُنَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: فَوق رَأسه،. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرّفْع مدا مَعَ الرَّأْس، وَرُوِيَ أَنه كَانَ يرفعهما حذاء أُذُنَيْهِ،وَرُوِيَ: إِلَى صَدره،وَرُوِيَ: حَذْو مَنْكِبَيْه، وَكلهَا آثَار مَحْفُوظَة مَشْهُورَة دَالَّة على التَّوسعَة. وَعَن ابْن طَاوُوس،عَن طَاوُوس: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُجَاوز بهما رَأسه،وَقَالَ: رَأَيْت ابْن عَبَّاس يصنعه،وَلَا أعلم إلاّ أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنعه. وَصَححهُ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه (الْوَهم وَالْإِيهَام) : وَيكبر مرّة وَاحِدَة. وَعند الرافضة: ثَلَاثًا. وَأخرج ابْن مَاجَه: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ عِنْد كل تَكْبِيرَة) . وَزعم النَّوَوِيّ: أَن هَذَا الحَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ.

    ...........
    (5/275)
    وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر، وروى هَذَا الحَدِيث أَيْضا نَافِع عَن ابْن عمر،وَزَاد فِي رِوَايَة كَمَا ستعلمه فِي: بَاب رفع الْيَدَيْنِ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ،وَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عشرَة: مَالك. وَيُونُس. وَشُعَيْب. وَابْن أبي حَمْزَة. وَابْن جريج. وَابْن عُيَيْنَة. وَعقيل. والزبيدي. وَمعمر. وَعبد الله بن عمر. وَرَوَاهُ عَن مَالك جمَاعَة مِنْهُم: القعْنبِي وَيحيى بن يحيى الأندلسي فَلم يذكر فِيهِ الرّفْع عِنْد الانحطاط إِلَى الرُّكُوع، وَتَابعه على ذَلِك جماعات، وَرَوَاهُ عشرُون نفسا بإثباته، كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (جمعه لغرائب مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ جمَاعَة: إِن الْإِسْقَاط إِنَّمَا أَتَى من مَالك، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أوهم فِيهِ، وَنَقله ابْن عبد الْبر،قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث أحد الإحاديث الْأَرْبَعَة الَّتِي رَفعهَا سَالم بن عبد الله إِلَى ابْن عمر وَفعله، وَمِنْهَا مَا جعله عَن ابْن عمر عَن عمر، وَالْقَوْل فِيهَا قَول سَالم، وَلم يلْتَفت النَّاس فِيهَا إِلَى نَافِع، فَهَذَا أَحدهَا.

    ...........
    (5/276)
    أخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَفِيه: (إِذا قَامَ من السَّجْدَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ كَذَلِك وَكبر) . وَأخرج الْحَدِيثين ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وصححاهما،وَالْمرَاد من السَّجْدَتَيْنِ: الركعتان،وَهُوَ الْموضع الَّذِي اشْتبهَ على الْخطابِيّ لِأَنَّهُ قَالَ: أما مَا رُوِيَ فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ عِنْد الْقيام من السَّجْدَتَيْنِ فلست أعلم أحدا من الْفُقَهَاء ذهب إِلَيْهِ،فَإِن صَحَّ الحَدِيث فَالْقَوْل بِهِ وَاجِب قلت: اشْتبهَ عَلَيْهِ ذَلِك لكَونه لم يقف على طرق الحَدِيث. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : وَقع فِي لفظ أبي دَاوُد: (السَّجْدَتَيْنِ) ،وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ: (الرَّكْعَتَيْنِ) ،وَالْمرَاد بالسجدتين: الركعتان. كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ: مَا زَاده ابْن عمر وَعلي وَأَبُو حميد فِي عشرَة من الصَّحَابَة من الرّفْع عِنْد الْقيام من الرَّكْعَتَيْنِ صَحِيح، لأَنهم لم يحكوا صَلَاة وَاحِدَة، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَإِنَّمَا زَاد بَعضهم على بعض، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من أهل الْعلم. وَقَالَ ابْن بطال: هَذِه زِيَادَة يجب قبُولهَا لمن يَقُول بِالرَّفْع،وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: هُوَ سنة وَإِن لم يذكرهُ الشَّافِعِي، فالإسناد صَحِيح. وَقد قَالَ: قُولُوا بِالسنةِ ودعوا قولي. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: قِيَاس نظر الشَّافِعِي أَن يسْتَحبّ الرّفْع فِيهِ لِأَنَّهُ أثبت عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ لكَونه زَائِدا على من اقْتصر عَلَيْهِ عِنْد الِافْتِتَاح، وَالْحجّة
    فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَة، وَأول رَاض سيرة من يسيرها. قَالَ: وَالصَّوَاب إثْبَاته،وَأما كَونه مذهبا للشَّافِعِيّ لكَونه قَالَ: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي فَفِيهِ نظر. انْتهى.
    ستنبط الْبَيْهَقِيّ من كَلَام الشَّافِعِي أَنه يَقُول بِهِ،لقَوْله فِي حَدِيث أبي حميد الْمُشْتَمل على هَذِه السّنة وَغَيرهَا: وَبِهَذَا نقُول. وَالنَّوَوِيّ أَيْضا أطلق فِي (الرَّوْضَة) أَنه نَص عَلَيْهِ قلت: الَّذِي فِي (الْأُم) خلاف ذَلِك،فَإِنَّهُ قَالَ فِي: بَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِير فِي الصَّلَاة،بعد أَن أورد حَدِيث ابْن عمر من طَرِيق سَالم وَتكلم عَلَيْهِ: وَلَا نأمره أَن يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من الذّكر فِي الصَّلَاة الَّتِي لَهَا رُكُوع وَسُجُود، إلاّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة. فَإِن قلت: وَقع فِي آخر الْبُوَيْطِيّ: يرفع يَدَيْهِ فِي كل خفض وَرفع
    ............
    (5/280*)
    \قال العيني "
    ي الصَّلَاة فَكَانَ أولى من إِشَارَته إِلَى الْعَوْرَة بِالْوَضْعِ تَحت السُّرَّة وَهَذَا قَول من ذهب إِلَى أَن السّنة الْوَضع على الصَّدْر وَنحن نقُول الْوَضع تَحت السُّرَّة أقرب إِلَى التَّعْظِيم وَأبْعد من التَّشَبُّه بِأَهْل الْكتاب وَأقرب إِلَى ستر الْعَوْرَة وَحفظ الْإِزَار عَن السُّقُوط وَذَلِكَ كَمَا يفعل بَين يَدي الْمُلُوك وَفِي الْوَضع على الصَّدْر تشبه بِالنسَاء فَلَا يسن

    ..........
    (5/283)
    الَ النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة وَقد ضعف الْحفاظ حَدِيث عبد الله بن مُغفل الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ وأنكروا على التِّرْمِذِيّ تحسينه كَابْن خُزَيْمَة وَابْن عبد الْبر والخطيب قَالُوا أَن مَدَاره على ابْن عبد الله بن مُغفل وَهُوَ مَجْهُول (قلت) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي نعَامَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل قَالَ " كَانَ أَبونَا إِذا سمع أحدا منا يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يَقُول أَي بني صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل عَن أَبِيه مثله ثمَّ أخرجه عَن أبي سُفْيَان طريف بن شهَاب عَن يزِيد بن عبد الله بن مُغفل عَن أَبِيه قَالَ " صليت خلف إِمَام فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَلَمَّا فرغ من صلَاته قَالَ مَا هَذَا غيب عَنَّا هَذِه الَّتِي أَرَاك تجْهر بهَا
    قَالَ ابْن عبد الْبر هُوَ ثِقَة عِنْد جَمِيعهم وَقَالَ الْخَطِيب لَا أعلم أحدا رَمَاه ببدعة فِي دينه وَلَا كذب فِي رِوَايَته وَعبد الله بن بُرَيْدَة وَهُوَ أشهر من أَن يثنى عَلَيْهِ وَأَبُو سُفْيَان السَّعْدِيّ وَهُوَ وَإِن تكلم فِيهِ وَلكنه يعْتَبر بِهِ فِيمَا تَابعه عَلَيْهِ غَيره من الثِّقَات وَهُوَ الَّذِي سمى ابْن عبد الله بن مُغفل يزِيد كَمَا هُوَ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فقد ارْتَفَعت الْجَهَالَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل بِرِوَايَة هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَنهُ وَقد تقدم فِي مُسْند الإِمَام أَحْمد عَن أبي نعَامَة عَن بني عبد الله بن مُغفل وَبَنوهُ الَّذين يروي عَنْهُم يزِيد وَزِيَاد وَمُحَمّد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا يحتجون بِمثل هَؤُلَاءِ مَعَ أَنهم مَشْهُورُونَ بالرواية وَلم يرو أحد مِنْهُم حَدِيثا مُنْكرا لَيْسَ لَهُ شَاهد وَلَا متابع حَتَّى يخرج بِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا رووا مَا رَوَاهُ غَيرهم من الثِّقَات فَأَما يزِيد فَهُوَ الَّذِي سمى فِي هَذَا الحَدِيث وَأما مُحَمَّد فروى لَهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " مَا من إِمَام يبيت غاشا لرعيته إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة " وَزِيَاد أَيْضا روى لَهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن أَبِيه مَرْفُوعا " لَا تخذفوا فَإِنَّهُ لَا يصاد بِهِ صيد وَلَا ينْكَأ الْعَدو وَلكنه يكسر السن ويفقأ الْعين " وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا حَدِيث صَرِيح فِي عدم الْجَهْر بالبسملة وَهُوَ وَإِن لم يكن من أَقسَام الصَّحِيح فَلَا ينزل عَن دَرَجَة الْحسن وَقد حسنه التِّرْمِذِيّ والْحَدِيث الْحسن يحْتَج بِهِ لَا سِيمَا إِذا تعدّدت شواهده وَكَثُرت متابعاته وَالَّذين تكلمُوا فِيهِ وَتركُوا الِاحْتِجَاج بِهِ بِجَهَالَة ابْن عبد الله بن مُغفل قد احْتَجُّوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا هُوَ أَضْعَف مِنْهُ بل احْتج الْخَطِيب بِمَا يعلم أَنه مَوْضُوع فَذَلِك جرْأَة عَظِيمَة لأجل تعصبه وحميته بِمَا لَا يَنْفَعهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَلم يحسن الْبَيْهَقِيّ فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث إِذْ قَالَ بعد أَن رَوَاهُ فِي كتاب الْمعرفَة فَهَذَا حَدِيث تفرد بِهِ أَبُو نعَامَة قيس بن عَبَايَة وَابْن عبد الله بن مُغفل وَأَبُو نعَامَة وَابْن عبد الله بن مُغفل لم يحْتَج بهما صاحبا الصَّحِيح فَقَوله تفرد بِهِ أَبُو نعَامَة غير صَحِيح فقد تَابعه عبد الله بن بُرَيْدَة وَأَبُو سُفْيَان كَمَا ذَكرْنَاهُ وَقَوله وَأَبُو نعَامَة وَابْن عبد الله بن مُغفل لم يحْتَج بهما صاحبا الصَّحِيح لَيْسَ هَذَا لَازِما فِي صِحَة الْإِسْنَاد وَلَئِن سلمنَا فقد قُلْنَا أَنه حسن وَالْحسن يحْتَج بِهِ وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن ترك الْجَهْر عِنْدهم كَانَ مِيرَاثا عَن نَبِيّهم يتوارثونه خَلفهم عَن سلفهم وَهَذَا وَحده كَاف فِي الْمَسْأَلَة لِأَن الصَّلَاة الجهرية دائمة صباحا وَمَسَاء فَلَو كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجْهر بهَا دَائِما لما وَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف وَلَا الِاشْتِبَاه ولكان مَعْلُوما بالاضطرار وَلما قَالَ أنس يجْهر بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا خلفاؤه الراشدون وَلما قَالَ عبد الله بن مُغفل ذَلِك أَيْضا وَسَماهُ حَدثا وَلما اسْتمرّ عمل أهل الْمَدِينَة فِي محراب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومقامه على ترك الْجَهْر فيتوارثه آخِرهم عَن أَوَّلهمْ وَلَا يظنّ عَاقل أَن أكَابِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأكْثر أهل الْعلم كَانُوا يواظبون على خلاف مَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَله
    ......
    (5/284)
    قَالَ أَكثر الْعلمَاء وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْجَهْر كَثِيرَة مُتعَدِّدَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة يرتقي عَددهمْ إِلَى أحد وَعشْرين صحابيا رووا ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُم من صرح بذلك وَمِنْهُم من فهم من عِبَارَته وَالْحجّة قَائِمَة بالجهر وبالصحة ثمَّ ذكر من الصَّحَابَة أَبَا هُرَيْرَة وَأم سَلمَة وَابْن عَبَّاس وأنسا وَعلي بن أبي طَالب وَسمرَة بن جُنْدُب (قلت) وَمن الَّذين عدهم عمار وَعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير وَالْحكم بن عُمَيْر وَمُعَاوِيَة وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وَجَابِر وَأَبُو سعيد وَطَلْحَة وَعبد الله بن أبي أوفى وَأَبُو بكر الصّديق ومجالد بن ثَوْر وَبشر بن مُعَاوِيَة وَالْحُسَيْن بن عرفطة وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَهَؤُلَاءِ أحد
    وَعِشْرُونَ نفسا. أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه من حَدِيث نعيم المجمر قَالَ " صليت وَرَاء أبي هُرَيْرَة فَقَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ قَرَأَ بِأم الْقُرْآن حَتَّى قَالَ غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين قَالَ آمين فِي آخِره فَلَمَّا سلم قَالَ إِنِّي لأشبهكم صَلَاة برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَقَالَ أَنه على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي سنَنه وَقَالَ حَدِيث صَحِيح وَرُوَاته كلهم ثِقَات وأخره الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَقَالَ إِسْنَاده صَحِيح وَله شَوَاهِد وَقَالَ فِي الخلافيات رُوَاته كلهم ثِقَات مجمع على عدالتهم مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه. الأول أَنهم مَعْلُول فَإِن ذكر الْبَسْمَلَة فِيهِ مِمَّا تفرد بِهِ نعيم المجمر من بَين أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة وهم ثَمَان مائَة مَا بَين صَاحب وتابع وَلَا يثبت عَن ثِقَة من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة أَنه حدث عَن أبي هُرَيْرَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجْهر بالبسملة فِي الصَّلَاة أَلا ترى كَيفَ أعرض صَاحب الصَّحِيح عَن ذكر الْبَسْمَلَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَانَ يكبر فِي كل صَلَاة من الْمَكْتُوبَة وَغَيرهَا الحَدِيث (فَإِن قلت) قد رَوَاهَا نعيم المجمر وَهُوَ ثِقَة وَالزِّيَادَة عَن الثِّقَة مَقْبُولَة (قلت) فِي هَذَا خلاف مَشْهُور فَمنهمْ من لَا يقبلهَا.
    ,,,,,,,,,
    (5/288)
    روى الْحَاكِم من طَرِيق آخر عَن مُحَمَّد بن أبي السرى حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس حَدثنَا مَالك عَن حميد عَن أنس قَالَ " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَكلهمْ كَانُوا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " قَالَ الْحَاكِم وَإِنَّمَا ذكرته شَاهدا (قلت) قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصره أما يستحي الْحَاكِم أَن يُورد فِي كِتَابه مثل هَذَا الحَدِيث الْمَوْضُوع فَأَنا أشهد بِاللَّه وَالله إِنَّه لكذب وَقَالَ ابْن عبد الْهَادِي سقط مِنْهُ لَا
    ..........
    (5/290)
    أَحَادِيث الْجَهْر وَإِن كثرت رواتها فَكلهَا ضَعِيفَة وَأَحَادِيث الْجَهْر لَيست مخرجة فِي الصِّحَاح وَلَا فِي المسانيد الْمَشْهُورَة وَلم يرو أَكْثَرهَا إِلَّا الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْن ِيّ فالحاكم قد عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل الْمَوْضُوعَة وَالدَّارَقُطْن ِيّ فقد مَلأ كِتَابه من الْأَحَادِيث الغريبة والشاذة والمعللة وَكم فِيهِ من حَدِيث لَا يُوجد فِيهِ غَيره وَفِي رواتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الَّذين لَا يوجدون فِي كتب التواريخ وَلَا فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل كعمرو بن شمر وَجَابِر بن الْجعْفِيّ وحصين بن مُخَارق وَعمر بن حَفْص الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عَمْرو بن حسان وَأبي الصَّلْت الْهَرَوِيّ الملقب بجراب الْكَذِب وَعمر بن هَارُون الْبَلْخِي وَعِيسَى بن مَيْمُون الْمدنِي وَآخَرُونَ وَكَيف يجوز أَن يُعَارض بِرِوَايَة هَؤُلَاءِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة الثِّقَات الْأَثْبَات وَمِنْهُم قَتَادَة الَّذِي كَانَ أحفظ أهل زَمَانه وَيَرْوِيه عَنهُ شُعْبَة الملقب بأمير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث وتلقاه الْأَئِمَّة بِالْقبُولِ وَهَذَا البُخَارِيّ مَعَ شدَّة تعصبه وفرط تحمله على مَذْهَب أبي حنيفَة لم يودع فِي صَحِيحه مِنْهَا حَدِيثا وَاحِدًا وَقد تَعب كثيرا فِي تَحْصِيل حَدِيث صَحِيح فِي الْجَهْر حَتَّى يُخرجهُ فِي صَحِيحه فَمَا ظفر بِهِ وَكَذَلِكَ مُسلم لم يذكر شَيْئا من ذَلِك وَلم يذكرَا فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيث أنس الدَّال على الْإخْفَاء (فَإِن قلت) أَنَّهُمَا لم يلتزما أَن يودعا فِي صَحِيحَيْهِمَا كل حَدِيث صَحِيح فيكونان قد تركا أَحَادِيث الْجَهْر فِي جملَة مَا تركاه من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة (قلت) هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا كل مكابر أَو سخيف فَإِن مَسْأَلَة الْجَهْر من اعلام الْمسَائِل ومعضلات الْفِقْه وَمن أَكْثَرهَا دورانا فِي المناظرة وجولانا فِي المصنفات وَلَو حلف الشَّخْص بِالله
    بِاللَّه أيمانا مُؤَكدَة أَن البُخَارِيّ لَو اطلع على حَدِيث مِنْهَا مُوَافق لشرطه أَو قريب مِنْهُ لم يخل مِنْهُ كِتَابه وَلَإِنْ سلمنَا فَهَذَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة مَعَ اشْتِمَال كتبهمْ على الْأَحَادِيث السقيمة والأسانيد الضعيفة لم يخرجُوا مِنْهَا شَيْئا فلولا أَنَّهَا واهية عِنْدهم بِالْكُلِّيَّةِ لما تركوها وَقد تفرد النَّسَائِيّ مِنْهَا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وَهُوَ أقوى مَا فِيهِ عِنْدهم وَقد بَينا ضعفه من وُجُوه. (فَإِن قلت) أَحَادِيث الْجَهْر تقدم على أَحَادِيث الْإخْفَاء بأَشْيَاء. مِنْهَا كَثْرَة الروَاة فَإِن أَحَادِيث الْإخْفَاء رَوَاهَا اثْنَان من الصَّحَابَة وهما أنس بن مَالك وَعبد الله بن مُغفل وَأَحَادِيث الْجَهْر فرواها أَكثر من عشْرين صحابيا كَمَا ذكرنَا. وَمِنْهَا أَن أَحَادِيث الْإخْفَاء شَهَادَة على نفي وَأَحَادِيث الْجَهْر شَهَادَة على إِثْبَات وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي. وَمِنْهَا أَن أنسا قد رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار ذَلِك فِي الْجُمْلَة
    وَالْعجب من صَاحب التَّوْضِيح كَيفَ يَقُول وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الْجَهْر وَلم يرد تَصْرِيح بالإسرار عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا رِوَايَتَانِ أَحدهمَا عَن ابْن مُغفل وَهِي ضَعِيفَة وَالثَّانيَِة عَن أنس وَهِي معللة بِمَا أوجب سُقُوط الِاحْتِجَاج بهَا وَهل هَذَا إِلَّا من عدم البصيرة وفرط شدَّة العصبية الْبَاطِلَة وَقد عرفت فِيمَا مضى ظلم المتعصبين الَّذين عرفُوا الْحق وغمضوا أَعينهم عَنهُ وأعجب من هَذَا بَعضهم من الَّذين يَزْعمُونَ أَن لَهُم يدا طولى فِي هَذَا الْفَنّ كَيفَ يَقُول يتَعَيَّن الْأَخْذ بِحَدِيث من أَثْبَتَت الْجَهْر فَكيف يجترىء هَذَا ويصدر مِنْهُ هَذَا القَوْل الَّذِي تمجه الأسماع فَأَي حَدِيث صَحَّ فِي الْجَهْر عِنْده حَتَّى يَقُول هَذَا القَوْل
    .........
    (5/292)
    زعم الشَّافِعِي أَنَّهَا آيَة من كل سُورَة وَمَا سبقه إِلَى هَذَا القَوْل أحد لِأَن الْخلاف بَين السّلف إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا من الْفَاتِحَة أَو لَيست بِآيَة مِنْهَا وَلم يعدها أحد آيَة من سَائِر السُّور وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنَّهَا آيَة من الْقُرْآن حَيْثُ كتبت وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِك لَيست من السُّور بل كتبت آيَة فِي كل سُورَة وَلذَلِك تتلى آيَة مُفْردَة فِي أول كل سُورَة كَمَا تَلَاهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أنزلت عَلَيْهِ {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} وَعَن هَذَا قَالَ الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ وَهِي آيَة من الْقُرْآن أنزلت للفصل بَين السُّور وَعَن ابْن عَبَّاس كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يعرف فصل السُّورَة حَتَّى ينزل عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَفِي رِوَايَة لَا يعرف انْقِضَاء السُّورَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَقَالَ إِنَّه على شَرط الشَّيْخَيْنِ (فَإِن قلت) لَو لم تكن من أول كل سُورَة لما قَرَأَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكوثر (قلت) لَا نسلم أَنه يدل على أَنَّهَا من أول كل سُورَة بل يدل على أَنَّهَا آيَة مُنْفَرِدَة وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا ورد فِي حَدِيث بَدْء الْوَحْي " فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ لَهُ اقْرَأ فَقَالَ مَا أَنا بقارىء ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق " فَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة آيَة من أول كل سُورَة لقَالَ اقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اقْرَأ باسم رَبك وَيدل على ذَلِك أَيْضا مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَيَّاش الْجُهَنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِن سُورَة من الْقُرْآن شفعت لرجل حَتَّى غفر لَهُ وَهِي تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك " وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن
    .............
    (5/294)
    ذكر البُخَارِيّ لهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب دَلِيل على أَنه يرى الاستفتاح بِهَذَا، وَقد اخْتلف النَّاس فِيمَا يستفتح بِهِ الصَّلَاة. فَأَبُو حنيفَة وَأحمد يريان الاستفتاح بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. فَأَبُو دَاوُد
    عَن حُسَيْن بن عِيسَى: حَدثنَا طلق بن غَنَّام حَدثنَا عبد السَّلَام بن حَرْب الْملَائي عَن بديل بن ميسرَة عَن أبي الجوراء عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا استفتح الصَّلَاة قَالَ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وتبارك اسْمك وَتَعَالَى جدك وَلَا إِلَه غَيْرك)) . وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث حَارِثَة بن أبي الرِّجَال: عَن عمْرَة عَن عَائِشَة؛ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استفتح الصَّلَاة قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)
    .........
    (5/300)
    الكسوف آيَة من آيَات الله تَعَالَى يخوف الله بِهِ عباده ليتركوا الْمعاصِي ويرجعوا إِلَى طَاعَة الله تَعَالَى الَّتِي فِيهَا فوزهم، وبالسنة وَهُوَ مَا ذَكرْنَاهُ،وبالإجماع: فَإِن الْأمة قد اجْتمعت عَلَيْهَا من غير إِنْكَار من أحد.

    .......
    (5/302)
    خْتلفت الْأَحَادِيث فِي الْجَهْر والإسرار فِي صَلَاة الْكُسُوف، فَعِنْدَ مُسلم من حَدِيث عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَقَالَهُ البُخَارِيّ فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَعند أبي دَاوُد من رِوَايَة
    الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ،فَذكره بِلَفْظ: (قَرَأَ قِرَاءَة طَوِيلَة فجهر بهَا) ،يَعْنِي: فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ،بِلَفْظ: (صلى صَلَاة الْكُسُوف وجهر بهَا فِي الْقِرَاءَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح،
    .........
    (5/303)
    اخْتلفت الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَيْفيَّة صَلَاة الْكُسُوف من الِاقْتِصَار على ركوعين، كَمَا فِي حَدِيث أبي بكرَة وَغَيره، وَثَلَاث ركوعات فِي كل رَكْعَة كَمَا فِي حَدِيث جَابر، وَأَرْبع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة وَغَيره، وست ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيث جَابر وَغَيره وثمان ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي حَدِيث أبي بن كَعْب، وَخَمْسَة عشر رَكْعَة فِي ثَلَاث ركوعات، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) عَن أبي بن كَعْب.

    ..........
    (5/313)
    قَوْله " إِلَى أبي جهم " بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الكشمسهني " جهيم " بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الذَّهَبِيّ أَبُو جهب بن حُذَيْفَة صَاحب الأنبجانية وَهُوَ الْأَصَح
    ............
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    انتهى المجلد الخامس من " عمدة القاري "
    ويليه " المجلد السادس "
    (بَاب هَل يلْتَفت لأمر ينزل بِهِ أَو يرى شَيْئا)
    ........


    ..............

  16. #236
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأربعاء
    الموافق : 22/ ذو الحجة /1441 هجري
    الموافق : 12/ اغسطس /2020 ميلادي

    " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "
    " ختم وتلخيص المجلد السادس " من عمدة القاري للحافظ العيني رحمه الله تعالى .


    ويليه " المجلد السادس "
    (بَاب هَل يلْتَفت لأمر ينزل بِهِ أَو يرى شَيْئا)
    ........

    ..............

    المجلد السادس
    (6/5)
    سعد بن أبي وَقاص،وَاسم أبي وَقاص: مَالك بن أهيب،وَيُقَال: وهيب بن عبد منَاف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، مَاتَ فِي قصره بالعقيق على عشرَة أَمْيَال من الْمَدِينَة، وَحمل على رِقَاب النَّاس إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بِالبَقِيعِ سنة خمس وَخمسين، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ آخر الْعشْرَة المبشرة وَفَاة، وَاخْتلف فِي عمره،فأنهى مَا قيل: ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة.
    ............
    (6/6)
    وَقَالَ ابْن حوقل: الْكُوفَة على الْفُرَات وبناؤها كبناء الْبَصْرَة، مصّرها سعد بن أبي وَقاص، وَهِي خطط لقبائل الْعَرَب وَهِي خراج بِخِلَاف الْبَصْرَة، لِأَن ضيَاع الْكُوفَة قديمَة جَاهِلِيَّة وضياع الْبَصْرَة إحْيَاء موَات فِي الْإِسْلَام، وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : سميت الْكُوفَة لِأَن سَعْدا لما افْتتح الْقَادِسِيَّة نزل الْمُسلمُونَ الإكار، فَإِذا هم أليق، فَخرج فارتاد لَهُم مَوضِع الْكُوفَة،وَقَالَ: تكوفوا فِي هَذَا الْموضع أَي: اجْتَمعُوا. وَقَالَ مُحَمَّد بن سهل: كَانَت الْكُوفَة منَازِل نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الَّذِي بنى مَسْجِدهَا. وَقَالَ اليعقوبي فِي كِتَابه: هِيَ مَدِينَة الْعرَاق الْكُبْرَى والمصر الْأَعْظَم وقبة الْإِسْلَام وَدَار هِجْرَة الْمُسلمين، وَهِي أول مَدِينَة اختط الْمُسلمُونَ بالعراق فِي سنة أَربع عشرَة، وَهِي على مُعظم الْفُرَات وَمِنْه تشرب أَهلهَا، وَمن بَغْدَاد إِلَيْهَا ثَلَاثُونَ فرسخا. وَفِي (تَارِيخ الطَّبَرِيّ) : لما احتوى الْمُسلمُونَ الأنبار كتب سعد إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُخبرهُ بذلك،فَكتب إِلَيْهِ: أنظر فلاة إِلَى جَانب الْبَحْر فارتاد الْمُسلمُونَ بهَا منزلا،فَبعث سعد رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: الْحَارِث بن سَلمَة،وَيُقَال: عُثْمَان بن الحنيف، فارتاد لَهُم موضعا من الْكُوفَة. وَفِي (الصِّحَاح) : الْكُوفَة الرملة الْحَمْرَاء، وَبهَا سميت الْكُوفَة.
    ...........
    (6/7)
    (فَقَالَ عمر: لقد شكوك فِي كل شَيْء حَتَّى فِي الصَّلَاة) . وَمِنْهَا: مَا ذكره ابْن سعد وَسيف: أَنهم زَعَمُوا أَنه حابى فِي بيع خمس بَاعه، وَأَنه صنع على دَاره بَابا مبوبا من خشب، وَكَانَ السُّوق مجاورا لَهُ، فَكَانَ يتَأَذَّى بأصواتهم،فزعموا أَنه قَالَ: لينقطع الصويت. وَمِنْهَا: مَا ذكره سيف: أَنهم زَعَمُوا أَنه كَانَ يلهيه الصَّيْد عَن الْخُرُوج فِي السَّرَايَا. وَقَالَ الزبير بن بكار فِي كتاب (النّسَب) : رفع أهل الْكُوفَة عَلَيْهِ أَشْيَاء كشفها عمر فَوَجَدَهَا بَاطِلَة، وَيشْهد لذَلِك قَول عمر فِي وَصيته. فَإِنِّي لم أعزله عَن عجز وَلَا خِيَانَة، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر سعد بن أبي وَقاص على قتال الْفرس فِي سنة أَربع عشرَة، فَفتح الله تَعَالَى الْعرَاق على يَدَيْهِ ثمَّ اختط الْكُوفَة سنة سبع عشرَة، وَاسْتمرّ عَلَيْهَا أَمِيرا، إِلَى سنة إِحْدَى وَعشْرين فِي قَول خَليفَة بن خياط،وَعند الطَّبَرِيّ: سنة عشْرين، فَوَقع لَهُ مَعَ أهل الْكُوفَة مَا وَقع.
    فَقَالَ سعد: أتعلمني الْأَعْرَاب الصَّلَاة؟ أخرجه مُسلم، وَفِيه دلَالَة على أَن الَّذِي شكوه كَانُوا جُهَّالًا، لِأَن الْجَهَالَة فيهم غالبة، والأعراب، بِفَتْح الْهمزَة، ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إلاّ لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن
    .........
    (6/8)
    الْحكمَة فِي هَذِه الدَّعْوَات الثَّلَاث أَن أُسَامَة بن قَتَادَة الْمَذْكُور نفى عَن سعد الْفَضَائِل الثَّلَاث الَّتِي هِيَ أصُول الْفَضَائِل وَأُمَّهَات الكمالات،وَهِي: الشجَاعَة الَّتِي هِيَ الْقُوَّة الغضبية حَيْثُ قَالَ: لَا يسير بالسرية،والعفة: الَّتِي هِيَ كَمَال الْقُوَّة الشهوانية،حَيْثُ قَالَ: لَا يقسم بالسرية،وَالْحكمَة: الَّتِي هِيَ كَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة،حَيْثُ قَالَ: وَلَا يعدل فِي الْقَضِيَّة، فالثلاثة تتَعَلَّق بِالنَّفسِ وَالْمَال وَالدّين، فقابل سعد هَذِه الثَّلَاثَة بِثَلَاثَة مثلهَا،فَدَعَا عَلَيْهِ بِمَا يتَعَلَّق بِالنَّفسِ: وَهُوَ طول الْعُمر،وَبِمَا يتَعَلَّق بِالْمَالِ: وَهُوَ الْفقر،وَبِمَا يتَعَلَّق بِالدّينِ: وَهُوَ الْوُقُوع فِي الْفِتَن.
    .........
    (6/9)
    وَعَن جَابر قَالَ: سَأَلت الشّعبِيّ وسالما وَقَاسما وَالْحكم ومجاهدا وَعَطَاء عَن الرجل يجْهر فِي الظّهْر وَالْعصر؟فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ سَهْو. وَعَن قَتَادَة: أَن أنسا جهر فيهمَا فَلم يسْجد، وَكَذَا فعله سعيد بن الْعَاصِ إِذْ كَانَ أَمِيرا بِالْمَدِينَةِ. وَفِي (التَّلْوِيح) : ويستدل لأبي حنيفَة بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة من كتاب ابْن شاهين بِسَنَد فِيهِ كَلَام،قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ من يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة النَّهَار فارجموه بالبعر) . وَفِي (المُصَنّف) عَن يحيى بن كثير: (قَالُوا يَا رَسُول الله: إِن هُنَا قوما يجهرون بِالْقِرَاءَةِ بِالنَّهَارِ! فَقَالَ: ارموهم بالبعر) . وَعَن الْحسن وَأبي عُبَيْدَة: صَلَاة النَّهَار عجماء. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَحَدِيث ابْن عَبَّاس: صَلَاة النَّهَار عجماء،وَإِن كَانَ بعض الْأَئِمَّة قَالَ: هُوَ حَدِيث لَا أصل لَهُ بَاطِل، فَيُشبه أَن يكون لَيْسَ كَذَلِك
    ............
    (6/9)
    إِن مَذْهَب عمر أَن لَا يسْتَمر بالعامل أَكثر من أَربع سِنِين. وَقَالَ الْمَازرِيّ: اخْتلفُوا هَل يعْزل القَاضِي بشكوى الْوَاحِد أَو الْإِثْنَيْنِ أَو لَا يعْزل حَتَّى يجْتَمع الْأَكْثَر على الشكوى عَنهُ.

    ............

    (6/10)
    قَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَقِرَاءَة أم الْقُرْآن فرض فِي كل رَكْعَة من كل صَلَاة، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَالْفَرْض والتطوع سَوَاء، وَالرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِي ّ فِي رِوَايَة، وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعبد الله بن وهب وَأَشْهَب: لَا يقْرَأ الْمُؤْتَم شَيْئا من الْقُرْآن وَلَا بِفَاتِحَة الْكتاب فِي شَيْء من الصَّلَوَات، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب فِي جمَاعَة من التَّابِعين، وفقهاء الْحجاز وَالشَّام على أَنه: لَا يقْرَأ مَعَه فِيمَا يجْهر بِهِ وَإِن لم يسمعهُ وَيقْرَأ فِيمَا يسر فِيهِ الإِمَام، ثمَّ وَجه اسْتِدْلَال الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ أَنه: نفى جنس الصَّلَاة عَن الْجَوَاز إلاّ بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب.
    وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بقوله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} (المزمل: 20) . أَمر الله تَعَالَى بِقِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن مُطلقًا، وتقييده بِالْفَاتِحَةِ زِيَادَة على مُطلق النَّص، وَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ نسخ، فَيكون أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الْقُرْآن فرضا لكَونه مَأْمُورا بِهِ، وَأَن الْقِرَاءَة خَارج الصَّلَاة لَيست بِفَرْض، فَتعين أَن يكون فِي الصَّلَاة.
    ......
    (6/12)
    عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَرْفُوعا: (لَا صَلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام) فَإِنَّهُ فِي (صَحِيح ابْن حبَان) بِلَفْظ: (لَا يُصَلِّي أحدكُم بِحَضْرَة الطَّعَام) . قلت: تنظيره بِحَدِيث مُسلم غير صَحِيح، لِأَن لفظ حَدِيث ابْن حبَان غير نهي بل هُوَ نفي الْغَائِب، وَكَلَامه يدل على أَنه لَا يعرف الْفرق بَين النَّفْي وَالنَّهْي. وَقَالَ أَيْضا: اسْتدلَّ من أسقطها أَي: من أسقط قِرَاءَة الْفَاتِحَة عَن الْمَأْمُوم مُطلقًا يَعْنِي أسر الإِمَام أَو جهر كالحنفية بِحَدِيث: (من صلى خلف الإِمَام فقراءة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، لكنه حَدِيث ضَعِيف عِنْد الْحفاظ، وَقد استوعب طرقه وَعلله الدَّارَقُطْنِي ّ وَغَيره. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم: جَابر بن عبد الله وَابْن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وانس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ فِي سنَنه عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . وَحَدِيث أبي سعيد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) من حَدِيث سهل بن صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا نَحوه سَوَاء. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ أَيْضا عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يَكْفِيك قِرَاءَة الإِمَام خَافت أَو جهر)
    ..........
    (6/12)
    ي (الْمُوَطَّأ) عَن أبي حنيفَة، قَالَ: أخبرنَا الإِمَام أَبُو حنيفَة حَدثنَا أَبُو الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن جَابر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى خلف الإِمَام فَإِن قِرَاءَة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) . فَإِن قلت: هَذَا حَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي حنيفَة مَقْرُونا بالْحسنِ بن عمَارَة وَعَن الْحسن بن عمَارَة وَحده بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث لم يسْندهُ عَن جَابر بن عبد الله غير أبي حنيفَة وَالْحسن بن عمَارَة وهما ضعيفان، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو الْأَحْوَص وَشعْبَة وَإِسْرَائِيل وَشريك وَأَبُو خَالِد الدالاني وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيرهم عَن أبي الْحسن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبد الله بن شَدَّاد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَهُوَ الصَّوَاب. قلت: لَو تأدب الدَّارَقُطْنِي ّ واستحيى لما تلفظ بِهَذِهِ اللَّفْظَة فِي حق أبي حنيفَة فَإِنَّهُ إِمَام طبق علمه الشرق والغرب، وَلما سُئِلَ إِبْنِ معِين عَنهُ فَقَالَ: ثِقَة مَأْمُون مَا سَمِعت أحدا ضعفه، هَذَا شُعْبَة بن الْحجَّاج يكْتب إِلَيْهِ أَن يحدث وَشعْبَة شُعْبَة. وَقَالَ أَيْضا: كَانَ أَبُو حنيفَة ثِقَة من أهل الدّين والصدق وَلم يتهم بِالْكَذِبِ، وَكَانَ مَأْمُونا على دين الله تَعَالَى، صَدُوقًا فِي الحَدِيث، وَأثْنى عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَئِمَّة الْكِبَار مثل عبد الله بن الْمُبَارك، ويعد من أَصْحَابه، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَحَمَّاد بن زيد وَعبد الرَّزَّاق ووكيع، وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيهِ وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَقد ظهر لَك من هَذَا تحامل الدَّارَقُطْنِي ّ عَلَيْهِ وتعصبه الْفَاسِد، وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَار بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَؤُلَاءِ حَتَّى يتَكَلَّم فِي إِمَام مُتَقَدم على هَؤُلَاءِ فِي الدّين وَالتَّقوى وَالْعلم، وبتضعيفه إِيَّاه يسْتَحق هُوَ التَّضْعِيف، أَفلا يرضى بسكوت أَصْحَابه عَنهُ وَقد روى فِي (سنَنه) أَحَادِيث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة؟ وَلَقَد روى أَحَادِيث ضَعِيفَة فِي كِتَابه (الْجَهْر بالبسملة) وَاحْتج بهَا مَعَ علمه بذلك، حَتَّى إِن بَعضهم استحلفه على ذَلِك فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث صَحِيح. وَلَقَد صدق الْقَائِل:
    (حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
    .............
    (6/13)
    روى منع الْقِرَاءَة خلف الإِمَام عَن ثَمَانِينَ من الصَّحَابَة الْكِبَار مِنْهُم: المرتضي والعبادلة الثَّلَاثَة وأساميهم عِنْد أهل الحَدِيث، فَكَانَ اتِّفَاقهم بِمَنْزِلَة الْإِجْمَاع، فَمن هَذَا قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من أَصْحَابنَا: وعَلى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَسَماهُ إِجْمَاعًا بِاعْتِبَار اتِّفَاق الْأَكْثَر، وَمثل هَذَا يُسمى إِجْمَاعًا عندنَا، وَذكر الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يَعْقُوب الحارني السيذموني فِي كتاب (كشف الْأَسْرَار) : عَن عبد الله بن زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عشرَة من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،ينهون عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام أَشد النَّهْي: أَبُو بكر الصّديق وَعمر الْفَارُوق وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد ابْن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
    مَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَؤُلَاءِ جمَاعَة من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَجمعُوا على ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَقد وافقهم على ذَلِك مَا قد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا قدمنَا ذكره، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَحَادِيث الصَّحَابَة الَّذين رووا ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام. فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْجريرِي عَن أبي الْأَزْهَر قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، فَقَالَ: إِنِّي لاستحيي من رب هَذِه البنية أَن أُصَلِّي صَلَاة لَا أَقرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن. قلت: هَذِه مُعَارضَة بَاطِلَة، فَإِن إِسْنَاد مَا ذكره مُنْقَطع، وَالصَّحِيح عَن ابْن عمر عدم وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام. فَإِن قلت: قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ) ، معَارض لقَوْله تَعَالَى:: {فاقرؤا} (المزمل: 20) . أَفلا يجوز تَركه بِخَبَر الْوَاحِد. قلت: جعل الْمُقْتَدِي قَارِئًا بِقِرَاءَة الإِمَام فَلَا يلْزم التّرْك،
    .........
    (6/15)
    ا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) ، بِهَذَا الْخَبَر،وَزَاد: (وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه والطخاوي، وَهَذَا حجَّة صَرِيحَة فِي أَن الْمُقْتَدِي لَا يجب عَلَيْهِ أَن يقْرَأ خلف الإِمَام أصلا على الشَّافِعِي فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وعَلى مَالك فِي الظّهْر وَالْعصر. فَإِن قلت: قد قَالَ أَبُو دَاوُد عقيب إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث: وَهَذِه الزِّيَادَة يَعْنِي: (إِذا قَرَأَ فأنصتوا) لَيست بمحفوظة الْوَهم من أبي خَالِد أحد رُوَاته،واسْمه: سُلَيْمَان بن حَيَّان،بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ من رجال الْجَمَاعَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : أجمع الْحفاظ على خطأ هَذِه اللَّفْظَة، وَأسْندَ عَن ابْن معِين فِي (سنَنه الْكَبِير) قَالَ: فِي حَدِيث ابْن عجلَان وَزَاد: (وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا) ، لَيْسَ بِشَيْء،وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (وَإِذا قَرَأَ الإِمَام فأنصتوا) ،وَقد رَوَاهُ أَصْحَاب قَتَادَة الْحفاظ عَنهُ مِنْهُم: هِشَام الدستوَائي وَسَعِيد وَشعْبَة وَهَمَّام وَأَبُو عوَانَة وَأَبَان وعدي بن أبي عمَارَة وَلم يقل وَاحِد مِنْهُم: (وَإِذا قَرَأَ فأنصتوا قَالَ: وإجماعهم يدل على وهمه،وَعَن أبي حَاتِم: لَيست هَذِه الْكَلِمَة بمحفوظة، إِنَّمَا هِيَ من تخاليط ابْن عجلَان. قلت: فِي هَذَا كُله نظر، أما ابْن عجلَان فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَفِي (الْكَمَال) : ثِقَة كثير الحَدِيث،وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: إِن مُسلما أخرج لَهُ فِي (صَحِيحه) قلت: أخرج لَهُ الْجَمَاعَة البُخَارِيّ مستشهدا وَهُوَ مُحَمَّد بن عجلَان الْمدنِي، فَهَذَا زِيَادَة ثِقَة فَتقبل، وَقد تَابعه عَلَيْهِمَا خَارِجَة ابْن مُصعب وَيحيى بن الْعَلَاء، كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه الْكَبِير)
    .........
    (6/16)
    حجَّة الْكُوفِيّين فِي هَذَا الْبَاب مواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة النَّهَار على الْإِسْرَار وعَلى الْجَهْر فِي صَلَاة اللَّيْل فِي الْفَرَائِض، وَفِي حَدِيث إِمَامَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، روى أنس أَنه أسر فِي الظّهْر وَالْعصر وَالثَّالِثَة من الْمغرب والأخريين من الْعشَاء،وأصل الحَدِيث فِي سنَن الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث قَتَادَة: عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو دَاوُد فِي (مراسيله) عَن الْحسن فِي صَلَاة النَّبِي خلف جِبْرِيل،عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه أسر فِي الظّهْر وَالْعصر وَالثَّالِثَة من الْمغرب والأخريين من الْعشَاء وَنَحْو ذَلِك.
    ............
    (6/20)
    قَالَ عِيَاض: فِيهِ حجَّة على من أجَاز الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّ ةِ، لكَون مَا لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب لَا يُسمى قُرْآنًا. قلت: هَذَا الْخلاف مَبْنِيّ على أَن الْقُرْآن اسْم للمعنى فَقَط، أَو للنظم وَالْمعْنَى جَمِيعًا،فَمن ذهب إِلَى أَنه اسْم للمعنى احْتج بقوله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} (الشُّعَرَاء: 196) . وَلم يكن الْقُرْآن فِي زبر الْأَوَّلين بِلِسَان الْعَرَب،وَقَوله: لكَون مَا لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب لَا يُسمى قُرْآنًا فِيهِ نظر، لِأَن التَّوْرَاة الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يُطلق على أَنه قُرْآن وَهُوَ لَيْسَ بِلِسَان الْعَرَب، وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيل وَالزَّبُور، لِأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى قَائِم بِذَاتِهِ لَا يتَجَزَّأ وَلَا ينْفَصل عَنهُ، غير أَنه إِذا نزل بِلِسَان الْعَرَب سمي قُرْآنًا، وَلما نزل على مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، سمي توراة، وَلما نزل على عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سمي إنجيلاً، وَلما نزل على دَاوُد سمي زبورا. وَاخْتِلَاف الْعبارَات باخْتلَاف الاعتبارات.

    ..........

    (6/22)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا لم يُعلمهُ أَولا ليَكُون أبلغ فِي تَعْرِيفه وتعريف غَيره بِصفة الصَّلَاة المجزئة،وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يكون ترديده لتفخيم الْأَمر وتعظيمه عَلَيْهِ، وَرَأى أَن الْوَقْت لم يفته فَأَرَادَ إيقاظ الفطنة للمتروك،وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَيْسَ التَّقْرِير بِدَلِيل على الْجَوَاز مُطلقًا، بل لَا بُد من انْتِفَاء الْمَوَانِع، وَلَا شكّ أَن فِي زِيَادَة قبُول التَّعَلُّم لما يلقى إِلَيْهِ بعد تكْرَار فعله واستجماع نَفسه وَتوجه سُؤَاله مصلحَة مَانِعَة من وجوب الْمُبَادرَة إِلَى التَّعَلُّم، لَا سِيمَا مَعَ عدم خوف الْفَوات، إِمَّا بِنَاء على ظَاهر الْحَال أَو بِوَحْي خَاص.

    .....

    (6/24)
    والمفصل السَّبع السَّابِع، سمي بِهِ لِكَثْرَة فصوله، وَهُوَ من سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقيل: من الْفَتْح،وَقيل: من قَاف إِلَى آخر الْقُرْآن. وقصار الْمفصل من {لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) . إِلَى آخر الْقُرْآن، وأوساطه من {وَالسَّمَاء ذَات البروج} (البروج: 1) . إِلَى {لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) . وطواله من سُورَة مُحَمَّد أَو من الْفَتْح إِلَى {وَالسَّمَاء ذَات البروج} (البروج: 1)
    ............
    (6/27)
    وَأما الطّور فَعَن ابْن عَبَّاس: الطّور الْجَبَل الَّذِي كلم الله، عز وَجل، مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَلَيْهِ لُغَة سريانية. وَفِي (الْمُحكم) : الطّور الْجَبَل، وَقد غلب طور سيناء، على جبل بِالشَّام،وَهُوَ بالسُّرْيَانيَّ ة: طورى،وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ: طوري وطوراني،وَزعم أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: أَنه جبل بِبَيْت الْمُقَدّس ممتد مَا بَين مصر وأيلة سمي بطور إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ طور سيناء وطور سينين، وَفِي (الْمُتَّفق وضعا والمختلف صنفا) اخْتلفُوا فِيهِ،فَقَالَ قوم: هُوَ جبل بِقرب أَيْلَة: وَقيل: هُوَ جبل بِالشَّام، وَأما طور زيتا، بِالْقصرِ، فجبل بِقرب رَأس عين،وببيت الْمُقَدّس أَيْضا جبل يعرف: بطور زيتا،وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الحَدِيث: (مَاتَ بطور زيتا سَبْعُونَ ألف نَبِي كلهم قَتلهمْ الْجُوع) . وَهُوَ شَرْقي وَادي سلوان،وعَلى مَدِينَة طبرية يُقَال لَهُ: الطّور، مطل عَلَيْهَا،وبأرض مصر جبل يُقَال لَهُ: الطّور بَين مصر وفاران، يشْتَمل على عدَّة قرى،وطور عَبْدَيْنِ: اسْم بليدَة بنواحي نَصِيبين،وَفِي قبلي الْبَيْت الْمُقَدّس جبل عَال يُقَال لَهُ: الطّور، فِيهِ فِيمَا يُقَال قبر هَارُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

    .......

    (6/28)
    بُوت سَجْدَة التِّلَاوَة فِي سُورَة {إِذا السَّمَاء انشقت} وَهُوَ حجَّة على مَالك فِي قَوْله لَا سَجْدَة فِيهَا وَقَالَ ابْن الْمُنِير لَا حجَّة فِيهِ على مَالك حَيْثُ كره السَّجْدَة فِي الْفَرِيضَة يَعْنِي فِي الْمَشْهُور عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَرْفُوعا ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَرْفُوع كَمَا ذكرنَا وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا رِوَايَة أبي الْأَشْعَث عَن مُعْتَمر بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظ " صليت خلف أبي الْقَاسِم فَسجدَ بهَا " أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَكَذَلِكَ أخرجه الجوزقي من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ بِلَفْظ " صليت مَعَ أبي الْقَاسِم فَسجدَ فِيهَا " (قلت) هَذَا حجَّة على مَالك مُطلقًا سَوَاء قُرِئت هَذِه فِي الْفَرْض أَو فِي النَّفْل وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا ثمَّ اخْتلفُوا هَل هِيَ سنة أَو وَاجِبَة على مَا يَأْتِي وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي مَوضِع السَّجْدَة فَقيل {وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} وَقيل آخر السُّورَة
    ............
    (6/35)
    الَ الْأَزْهَرِي: هُوَ اسْم سوق من أسواق الْعَرَب وموسم من مواسم الْجَاهِلِيَّة كَانَت الْعَرَب تَجْتَمِع بِهِ كل سنة يتفاخرون بهَا، ويحضرها الشُّعَرَاء فيتناشدون مَا أَحْدَثُوا من الشّعْر. وَعَن اللَّيْث: سمي عكاظ عكاظا لِأَن الْعَرَب كَانَت تَجْتَمِع فِيهَا فيعكظ بَعضهم بَعْضًا بالمفاخرة أَي: يدعك. وَقَالَ غَيره: عكظ الرجل دَابَّته يعكظها عكظا إِذا حَبسهَا، وتعكظ الْقَوْم تعكظا إِذا تحبسوا ينظرُونَ فِي أَمرهم، وَبِه سميت عكاظ
    كَانَ سوق عكاظ يقوم صبيح هِلَال ذِي الْقعدَة عشْرين يَوْمًا، وسوق مجنة يقوم بعده عشرَة أَيَّام. وسوق ذِي الْمجَاز يقوم هِلَال ذِي الْحجَّة. وَزعم الرشاطي أَنَّهَا كَانَت تُقَام نصف ذِي الْقعدَة إِلَى آخر الشَّهْر، فَإِذا أهل ذُو الْحجَّة أَتَوا إِذا الْمجَاز وَهِي قريب من عكاظ فَيقوم سوقها إِلَى يَوْم التَّرويَة، فيسيرون إِلَى منى، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: لم يكن بعكاظ عشور وَلَا خفارة.
    .......
    (6/36)
    وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: الْجِنّ منزلون على مَرَاتِب،فَإِذا ذكر الْجِنّ خَالِصا يُقَال: جني،وَإِن أُرِيد بِهِ أَنه مِمَّن يسكن مَعَ النَّاس: يُقَال: عَامر،وَالْجمع: عمار،وَإِن كَانَ مِمَّا يعرض للصبيان يُقَال: أَرْوَاح، فَإِن خبث فَهُوَ شَيْطَان، فَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ مارد، فَإِن زَاد على ذَلِك وَقَوي أمره فَهُوَ عفريت،وَالْجمع: عفاريت. انْتهى.
    ..........
    (6/37)
    فَذكر ابْن اسحاق أَن الْعَرَب أنْكرت وُقُوع الشهب، وأشدهم إنكارا ثَقِيف،، وَأَنَّهُمْ جاؤوا إِلَى رئيسهم عَمْرو بن أُميَّة بَعْدَمَا عمي فَسَأَلُوهُ،فَقَالَ: انْظُرُوا إِن كَانَت هِيَ الَّتِي يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر فَهُوَ خراب الدُّنْيَا وزوالها، وَإِن كَانَ غَيرهَا فَهُوَ لأمر حدث، وَإِن الشَّيَاطِين استنكرت ذَلِك وضربوا فِي الْآفَاق لينظروا مَا مُوجبه، وَنَفس الْآيَة الْكَرِيمَة تدل على وجود حراسها بِمَا شَاءَ الله تَعَالَى، إلاّ أَنه قَلِيل،وَإِنَّمَا كثر عِنْد أبان مبعث سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالُوا: ملئت حرسا شَدِيدا لأَنهم عهدوا حرسا، وَلكنه غير شَدِيد، وَلِأَن جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَالزهْرِيّ،قَالُوا: مَا زَالَت الشهب مذ كَانَت الدُّنْيَا، يُؤَيّدهُ مَا فِي (صَحِيح مُسلم) من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَرمى بِنَجْم مَا كُنْتُم تَقولُونَ أَن كَانَ مثل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟قَالُوا: يَمُوت عَظِيم أَو يُولد عَظِيم. .) الحَدِيث. وَذكر بَعضهم أَن السَّمَاء كَانَت محروسة قبل النُّبُوَّة، وَلَكِن إِنَّمَا كَانَت تقع الشهب عِنْد حُدُوث أَمر عَظِيم من عَذَاب ينزل أَو إرْسَال رَسُول إِلَيْهِم،وَعَلِيهِ تأولوا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} (الْجِنّ: 10) . وَقيل: كَانَت الشهب مرئية مَعْلُومَة، لَكِن رجم الشَّيَاطِين وإحراقهم لم يكن إلاّ بعد نبوة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قيل: كَيفَ تتعرض الْجِنّ لإتلاف نَفسهَا بِسَبَب سَماع خبر بعد أَن صَار ذَلِك مَعْلُوما لَهُم؟أُجِيب: قد ينسيهم الله تَعَالَى ذَلِك لينفذ فيهم قَضَاؤُهُ،كَمَا قيل فِي الهدهد: إِنَّه يرى المَاء فِي تخوم الأَرْض وَلَا يرى الفخ على ظهر الأَرْض، على أَن السُّهيْلي وَغَيره زَعَمُوا أَن الشهَاب تَارَة يصيبهم فيحرقهم، وَتارَة لَا يصيبهم، فَإِن صَحَّ هَذَا فَيَنْبَغِي كَأَنَّهُمْ غير متيقنين بِالْهَلَاكِ وَلَا جازمين بِهِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَت الشَّيَاطِين لَا تحجب عَن السَّمَوَات، فَلَمَّا ولد عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منعت من ثَلَاث سموات، فَلَمَّا ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منعت مِنْهَا كلهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله، الَّذِي أميل إِلَيْهِ أَن الشهب لم تَرَ إلاّ قبل مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتمرّ ذَلِك وَكثر حِين بعث،وَعَن الزُّهْرِيّ: كَانَت الشهب قَليلَة فغلظ أمرهَا وَكَثُرت حِين الْبعْثَة. وَقَالَ أَبُو الْفرج فَإِن قيل: أيزول الْكَوْكَب إِذا رجم بِهِ؟قُلْنَا: قد يُحَرك الْإِنْسَان يَده أَو حَاجِبه فتضاف تِلْكَ الْحَرَكَة إِلَى جَمِيعه، وَرُبمَا فصل شُعَاع من الْكَوْكَب فَأحرق، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْكَوْكَب يفنى ويتلاشى.
    ........
    (6/37)
    وَقَالَ الْمَدَائِنِي: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض
    ويمن، أما تهَامَة فَهِيَ النَّاحِيَة الجنوبية من الْحجاز، وَأما نجد فَهِيَ النَّاحِيَة الَّتِي من الْحجاز وَالْعراق، وَأما الْحجاز فَهُوَ جبل يقبل من الْيمن حَتَّى يتَّصل بِالشَّام، وَفِيه الْمَدِينَة وعمان. وَأما الْعرُوض فَهِيَ الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين. قَالَ: وَإِنَّمَا سمي الْحجاز حجازا لِأَنَّهُ يحجز بَين نجد وتهامة
    ..........
    (6/37)
    نفر من الْجِنّ} (الْجِنّ: 1) . قَالَ الزّجاج: هَؤُلَاءِ النَّفر من الْجِنّ كَانُوا من نَصِيبين،وَقيل: أَنهم كَانُوا من الْيمن،وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يهودا. وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا مُشْرِكين. وَذكر ابْن دُرَيْد أَن أَسْمَاءَهُم: شاصر وماصر والأحقب ومنشىء وناشىء، لم يزدْ شَيْئا. وَفِي (تَفْسِير الضَّحَّاك) : كَانُوا تِسْعَة من أهل نَصِيبين، قَرْيَة بِالْيمن غير الَّتِي بالعراق،وَفِي رِوَايَة عَاصِم عَن زر بن حُبَيْش: أَنهم كَانُوا سَبْعَة: ثَلَاثَة من أهل حران، وَأَرْبَعَة من نَصِيبين، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي (تَفْسِيره) وَعند الْحَاكِم: عَن ابْن مَسْعُود،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَبَطُوا على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،بِبَطن نَخْلَة وَكَانُوا تِسْعَة: أحدهم زَوْبَعَة،وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد. وَعند الْقُرْطُبِيّ: كَانُوا اثْنَي عشر،وَعَن عِكْرِمَة: كَانُوا اثْنَي عشر ألفا. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل: كَانُوا من بني الشيبان، وهم أَكثر الْجِنّ عددا، وهم عَامَّة جنود إِبْلِيس.
    .........
    (6/38)
    ي الحَدِيث وجود الْجِنّ. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه (الشَّامِل) : إِن كثيرا من الفلاسفة وجماهير الْقَدَرِيَّة وكافة الزَّنَادِقَة أَنْكَرُوا الشَّيَاطِين وَالْجِنّ رَأْسا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفار فِي (شرح الْإِرْشَاد) : وَقد أنكرهم مُعظم الْمُعْتَزلَة، وَقد دلّت نُصُوص الْكتاب وَالسّنة على إثباتهم. وَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني: وَكثير من الْقَدَرِيَّة يثبتون وجود الْجِنّ قَدِيما وينفون وجودهم الْآن، وَمِنْهُم من يقر بوجودهم وَيَزْعُم أَنهم لَا يرَوْنَ لرقة أَجْسَادهم ونفوذ الشعاع. وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّهُم لَا يرَوْنَ لأَنهم لَا ألوان لَهُم. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية: لم يُخَالف أحد من طوائف الْمُسلمين فِي وجود الْجِنّ وَجُمْهُور طوائف الْكفَّار على إِثْبَات الْجِنّ، وَإِن وجد من يُنكر ذَلِك مِنْهُم، كَمَا يُوجد فِي بعض طوائف الْمُسلمين، كالجهمية والمعتزلة، من يُنكر ذَلِك، وَإِن كَانَ جُمْهُور الطَّائِفَة وأئمتها مقرين بذلك، وَهَذَا لِأَن وجود الْجِنّ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تواترا مَعْلُوما بالاضطرار.
    ....
    (6/43)
    وَقَالَ عِيَاض: هَل تَرْتِيب السُّور من تَرْتِيب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو من اجْتِهَاد الْمُسلمين؟قَالَ ابْن الباقلاني: الثَّانِي أصح الْقَوْلَيْنِ مَعَ احتمالهما، وتأولوا النَّهْي عَن قِرَاءَة الْقُرْآن منكوسا على من يقْرَأ من آخر السُّورَة إِلَى أَولهَا، وَأما تَرْتِيب الْآيَات فَلَا خلاف أَنه تَوْقِيف من الله تَعَالَى على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصحف.
    ......
    (6/47)
    وروى عبد الرَّزَّاق عَن أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد ضَعِيف أَنه اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى. وَعَن هِلَال بن يسَاف التَّابِعِيّ مثله
    ..........
    (6/49)
    ي (الصَّحِيحَيْنِ) : عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قَالَ أحدكُم: آمين، وَقَالَت الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، ووافقت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . انْتهى. وَزَاد فِيهِ مُسلم: (إِذا قَالَ أحدكُم فِي الصَّلَاة) وَلم يقلها البُخَارِيّ وَغَيره، وَهِي زِيَادَة حَسَنَة نبه عَلَيْهَا عبد الْحق فِي (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) ، وَفِي هَذَا اللَّفْظ فَائِدَة أُخْرَى. وَهِي: اندراج الْمُنْفَرد فِيهِ، وَغير هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا هُوَ فِي الإِمَام وَفِي الْمَأْمُوم أَو فيهمَا، وَالله أعلم.
    .........
    (6/49)
    وَاخْتلفُوا فِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة، فَقيل هم الْحفظَة،وَقيل: الْمَلَائِكَة المتعاقبون،وَقيل: غير هَؤُلَاءِ لما روى الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (إِذا قَالَ القاريء: {غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} ،وَقَالَ من خَلفه: آمين،وَوَافَقَ ذَلِك قَول أهل السَّمَاء: آمين، غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ أَيْضا فِي (مُسْنده) وَقيل: هم جَمِيع الْمَلَائِكَة، بِدَلِيل عُمُوم اللَّفْظ لِأَن الْجمع الْمحلى بِاللَّامِ يُفِيد الِاسْتِغْرَاق بِأَن يَقُولهَا الْحَاضِرُونَ من الْحفظَة وَمن فَوْقهم حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى، وَأهل السَّمَوَات
    .....
    (6/50)
    غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) وَوَقع فِي رِوَايَة بَحر بن نصر: عَن ابْن وهب عَن يُونُس فِي آخر هَذَا الحَدِيث: (وَمَا تَأَخّر)
    ذكرهَا الْجِرْجَانِيّ فِي (أَمَالِيهِ) قيل: إِنَّهَا شَاذَّة لِأَن ابْن الْجَارُود روى فِي (الْمُنْتَقى) : عَن بَحر بن نصر بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن حَرْمَلَة، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة،وَالَّذِي وَقع فِي نُسْخَة لِابْنِ مَاجَه: عَن هِشَام بن عمار وَأبي بكر ابْن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة بِإِثْبَات هَذِه الزِّيَادَة غير صَحِيح، لِأَن ابْن أبي شيبَة قد روى هَذَا الحَدِيث فِي (مُسْنده) و (مُصَنفه) بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَكَذَلِكَ الْحفاظ من أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة مثل الْحميدِي وَابْن الْمَدِينِيّ وَغَيرهمَا رووا بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة،
    ..........
    (6/50)
    التأمين
    رد على الإمامية فِي قَوْلهم: إِن التَّأْمِين يبطل الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لفظ لَيْسَ بقرآن وَلَا ذكر. وَقَالَ السفاقسي: وَزَعَمت طَائِفَة من المبتدعة أَن لَا فَضِيلَة فِيهَا،وَعَن بَعضهم: إِنَّهَا تفْسد الصَّلَاة،وَقَالَ ابْن حزم: يَقُولهَا الإِمَام سنة وَالْمَأْمُوم فرضا.
    .........
    (6/54)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة ظَاهِرَة على أَن تَأْمِين الْمَأْمُوم يكون مَعَ تَأْمِين الإِمَام لَا بعده. قلت: بل الْأَمر بِالْعَكْسِ، لِأَن الْفَاء فِي الأَصْل للتعقيب،وَقَالَ أَيْضا: وَأولُوا: إِذا أَمن،بِأَن مَعْنَاهُ: إِذا أَرَادَ التَّأْمِين، جمعا بَين الْحَدِيثين
    ...........
    (6/56)
    وْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لفرد خلف الصَّفّ) ،وَمَعْنَاهُ: لَا صَلَاة كَامِلَة،كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا وضوء لمن لم يسم الله) ،وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاّ فِي الْمَسْجِد) ،وَقَالَ حَمَّاد ابْن أبي سُلَيْمَان وإبرهيم النَّخعِيّ وَابْن أبي ليلى ووكيع وَالْحكم وَالْحسن بن صَالح وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر: من صلى خلف صف مُنْفَردا فَصلَاته بَاطِلَة. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَقد أجبنا عَنهُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث وابصة بن معبد الْأَشْجَعِيّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى رجلا يُصَلِّي خلف الصَّفّ وَحده، فَأمره أَن يُعِيد. قَالَ سُلَيْمَان: الصَّلَاة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَصَححهُ أَحْمد وَابْن خُزَيْمَة. وَالْجَوَاب عَنهُ أَن فِي سَنَده اخْتِلَافا، بَيَانه أَن الَّذِي يرويهِ هِلَال بن يسَاف عَن عَمْرو بن رَاشد عَن وابصة،وَمِنْهُم من قَالَ: هِلَال عَن وابصة،
    وَعَن هَذَا قَالَ الشَّافِعِي: لَو ثَبت الحَدِيث لَقلت بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِم: إِنَّمَا لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ لفساد الطَّرِيق إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَزَّار عَن عَمْرو بن رَاشد: لَيْسَ مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ فَلَا يحْتَج بحَديثه، وهلال لم يسمع من وابصة، فأمسكنا عَن ذكره لإرساله. وَقَالَ أَبُو عمر: فِيهِ اضْطِرَاب وَلَا تثبته جمَاعَة
    ...........
    (6/57)
    روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي،قَالَ: (صليت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يتم التَّكْبِير) ، فَهَذَا يُخَالف التَّرْجَمَة؟قلت: روى البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أَنه قَالَ: هَذَا عندنَا حَدِيث بَاطِل،وَقَالَ الطَّبَرِيّ وَالْبَزَّار: تفرد بِهِ الْحسن بن عمرَان، وَهُوَ مَجْهُول.
    .............
    (6/57)
    (بِالْبَصْرَةِ) ، بِتَثْلِيث الْبَاء ثَلَاث لُغَات، ذكرهَا الْأَزْهَرِي، وَالْمَشْهُور الْفَتْح،وَحكى الْخَلِيل فِيهَا ثَلَاث لُغَات أُخْرَى: البصْرة والبصَرة والبصِرة، الأولى بِسُكُون الصَّاد، وَالثَّانيَِة بِفَتْحِهَا، وَالثَّالِثَة بِكَسْرِهَا. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: يُقَال لَهَا: قبَّة الْإِسْلَام وخزانة الْعَرَب بناها عتبَة بن غَزوَان فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يعبد الصَّنَم قطّ على أرْضهَا، وَكَانَ بناؤها فِي سنة سبع عشرَة، وطولها فرسخان فِي فَرسَخ. وَقَالَ الرشاطي: الْبَصْرَة فِي الْعرَاق، وَالْبَصْرَة أَيْضا مَدِينَة فِي الْمغرب بِقرب طنجة، وَهِي الْآن خراب، وَالْبَصْرَة هِيَ الْحِجَارَة الرخوة تضرب إِلَى الْبيَاض، وَسميت الْبَصْرَة بِهَذَا لِأَن أرْضهَا الَّتِي بَين العقيق وَأَعْلَى المربد حِجَارَة،وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: بَصرِي وبصري بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا، وَكَانَت صَلَاة عمرَان مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بِالْبَصْرَةِ بعد وقْعَة الْجمل
    .........
    )6/85(
    قَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَالتَّكْبِير للرُّكُوع فرض،وَقَول: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم فِي الرُّكُوع فرض، وَالْقِيَام إِثْر الرُّكُوع فرض لمن قدر عَلَيْهِ حَتَّى يعتدل قَائِما،وَقَول: سمع الله لمن حَمده، عِنْد الْقيام من الرُّكُوع فرض، فَإِن كَانَ مَأْمُوما فَفرض عَلَيْهِ أَن يَقُول بعد ذَلِك، رَبنَا لَك الْحَمد،أَو: وَلَك الْحَمد، وَلَيْسَ هَذَا فرضا على إِمَام وَلَا فذ، فَإِن قَالَاه كَانَ حسنا وَسنة، وَالتَّكْبِير لكل سَجْدَة مِنْهَا فرض،وَقَول: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، فِي كل سَجْدَة فرض، وَوضع الْجَبْهَة وَالْيَدَيْنِ وَالْأنف والركبتين وصدور الْقَدَمَيْنِ على مَا هُوَ قَائِم عَلَيْهِ مِمَّا أُبِيح لَهُ التَّصَرُّف عَلَيْهِ فرض، كل ذَلِك، وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ فرض، والطمأنينة فِيهِ فرض،
    .......
    (6/60)
    نقل الطَّحَاوِيّ الْإِجْمَاع على: أَن من تَركه فَصلَاته تَامَّة، وَفِيه نظر، لما تقدم عَن أَحْمد، وَالْخلاف فِي بطلَان صلَاته ثَابت فِي مَذْهَب مَالك، إِلَّا أَن يُرِيد إِجْمَاعًا سَابِقًا. قلت: لم يقل الطَّحَاوِيّ هَكَذَا،وَإِنَّمَا قَالَ: هَذِه الْآثَار المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّكْبِير فِي كل رفع وخفض أولى من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، وَأكْثر تواترا، وَقد عمل بهَا من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر وَعمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وتواتر بهَا الْعَمَل إِلَى يَوْمنَا هَذَا لَا يُنكر ذَلِك مُنكر، وَلَا يَدْفَعهُ دَافع. انْتهى. قلت: أَرَادَ بالآثار المروية الَّتِي أخرجهَا عَن عبد الله بن مَسْعُود وَأبي مَسْعُود البدري وَأبي هُرَيْرَة وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأنس بن مَالك، وَأَشَارَ بِهَذَا أَيْضا إِلَى أَن من جملَة أَسبَاب التَّرْجِيح كَثْرَة عدد الروَاة وشهرة الْمَرْوِيّ حَتَّى إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ يرويهِ وَاحِد، وَالْآخر يرويهِ إثنان، فَالَّذِي يرويهِ إثنان أولى بِالْعَمَلِ بِهِ.
    ..........
    (6/65)
    سْتدلَّ بِهِ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على أَن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود فرض، وَفِي (التُّحْفَة) : قَالَ أَبُو يُوسُف: طمأنينة الرُّكُوع وَالسُّجُود مِقْدَار تَسْبِيحَة وَاحِدَة فرض،وَفِي الأسبيجابي: الطُّمَأْنِينَة لَيست بِفَرْض فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنَّهَا فرض. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: فِي قلبِي شَيْء فِي وجوب الطُّمَأْنِينَة فِي الِاعْتِدَال، فَلَو أَتَى بِالرُّكُوعِ الْوَاجِب فعرضت عَلَيْهِ عِلّة من الانتصاب سجد فِي رُكُوعه وَسقط عَنهُ الِاعْتِدَال
    .........
    (6/71)
    روى البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده،قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا وَلَك الْحَمد) الحَدِيث، فَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجمع بَينهمَا، لَا لعِلَّة قنوت وَلَا لغيره. قلت: يُمكن أَن يكون هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُنْفَرد، فَافْهَم. وَقَالَ الْكرْمَانِي إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالهما جَمِيعًا، وَالْمَأْمُوم مَأْمُور بمتابعته،
    ........
    (6/73)
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: لَا يقنت فِي الْفجْر إِلَّا عِنْد نازلة تنزل بِالْمُسْلِمين، فَإِذا نزلت نازلة فللإمام أَن يَدْعُو لجيوش الْمُسلمين. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِن قنت فِي الْفجْر فَحسن، وَإِن لم يقنت فَحسن، وَاخْتَارَ أَن لَا يقنت، وَلم ير ابْن الْمُبَارك الْقُنُوت فِي الْفجْر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا الْمقدمِي حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا أَبُو حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود،قَالَ: (قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت) . وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صلَاته. ثمَّ قَالَ: فَهَذَا ابْن مَسْعُود يخبر أَن قنوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يقنته إِنَّمَا كَانَ من أجل من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَنه قد كَانَ ترك ذَلِك فَصَارَ الْقُنُوت مَنْسُوخا، فَلم يكن هُوَ من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت. وَكَانَ أحد من روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا عبد الله بن عمر،ثمَّ أخبر أَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك حِين أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} (آل عمرَان: 128) . فَصَارَ ذَلِك عِنْد ابْن عمر مَنْسُوخا أَيْضا،
    .....
    (6/74)
    روى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس عَن أنس بن مَالك " قَالَ مازال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا " وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي سنَنه وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده (قلت) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْعِلَل المتناهية هَذَا حَدِيث لَا يَصح فَإِن أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ اسْمه عِيسَى بن ماهان وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ كَانَ يخلط وَقَالَ يحيى كَانَ يخطىء وَقَالَ أَحْمد لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث وَقَالَ أَبُو زرْعَة كَانَ يتهم كثيرا وَقَالَ ابْن حبَان كَانَ ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير انْتهى. وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي شرح الْآثَار وَسكت عَنهُ إِلَّا أَنه قَالَ وَهُوَ معَارض بِمَا رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قنت شهرا يَدْعُو على أَحيَاء من الْعَرَب ثمَّ تَركه وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا شَيبَان بن فروخ حَدثنَا غَالب بن فرقد الطَّحَّان قَالَ كنت عِنْد أنس بن مَالك شَهْرَيْن فَلم يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة انْتهى فَهَذَا يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ ثمَّ نسخ إِذْ لَو لم ينْسَخ لم يكن أنس يتْركهُ
    ......
    (6/75)
    وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْعَاطِس يحمد الله فِي نَفسه وَلَا يُحَرك لِسَانه، وَلَو حرك تفْسد صلَاته، كَذَا فِي (الْمُحِيط) : وَالصَّحِيح خلاف، هَذَا كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: دَلِيل على أَن من كَانَ فِي الصَّلَاة فَسمع عطسة رجل لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ تشميته، وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شمته تفْسد صلَاته.
    .......
    (6/78)
    وَقَالَ الْحَازِمِي: اخْتلف أهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن وضع الْيَدَيْنِ قبل الرُّكْبَتَيْنِ أولى، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالْحسن. وَفِي (المغنى) ، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد وَبِه قَالَ ابْن حزم وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ وَرَأَوا وضع الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ أولى. مِنْهُم: عمر بن الْخطاب وَالنَّخَعِيّ وَمُسلم بن يسَار وسُفْيَان بن سعيد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأهل الْكُوفَة. وَفِي (المُصَنّف) زَاد: أَبَا قلَابَة وَمُحَمّد بن سِيرِين،وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: كَانَ أَصْحَاب عبد الله أذا انحطوا للسُّجُود وَقعت ركبهمْ قبل أَيْديهم، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب عَن عَامَّة الْفُقَهَاء، وَحَكَاهُ ابْن بطال عَن ابْن وهب. قَالَ: وَهِي رِوَايَة ابْن شعْبَان عَن مَالك،وَقَالَ قَتَادَة: يضع أَهْون ذَلِك عَلَيْهِ،
    ......
    (6/80
    والوليد بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله المَخْزُومِي أَخُو خَالِد بن الْوَلِيد أسر يَوْم بدر كَافِرًا فَلَمَّا أفدي أسلم فَقيل لَهُ هلا أسلمت قبل أَن تفتدى فَقَالَ كرهت أَن يظنّ بِي أَنِّي أسلمت جزعا فحبس بِمَكَّة ثمَّ أفلت من أسارتهم بِدُعَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلحق برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الذَّهَبِيّ أسره عبد الله بن جحش يَوْم بدر وذهبوا بِهِ إِلَى مَكَّة فَأسلم فحبسوه بِمَكَّة وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو لَهُ فِي الْقُنُوت ثمَّ أَنه نجا فتوصل إِلَى الْمَدِينَة فَمَاتَ بهَا فِي حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
    سَلَمَة بن هِشَام " بِالنّصب عطفا على مَا قبله أَي أَنْج سَلمَة بن هِشَام بن الْمُغيرَة الْمَذْكُور آنِفا أَخُو أبي جهل وَكَانَ قديم الْإِسْلَام وعذب فِي الله ومنعوه أَن يُهَاجر إِلَى الْمَدِينَة قَالَ الذَّهَبِيّ هَاجر إِلَى الْحَبَشَة ثمَّ قدم مَكَّة فمنعوه من الْهِجْرَة وعذبوه ثمَّ هَاجر بعد الخَنْدَق وَشهد مُؤْتَة وَاسْتشْهدَ بمرج الصُّفْرَة وَقيل بأجنادين قَوْله " وَعَيَّاش " بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف شين مُعْجمَة ابْن أبي ربيعَة وَاسم أبي ربيعَة عَمْرو بن الْمُغيرَة الْمَذْكُور وَهُوَ أَخُو أبي جهل أَيْضا لأمه أسلم قَدِيما وأوثقه أَبُو جهل بِمَكَّة قتل يَوْم اليرموك بِالشَّام وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة أَسْبَاط الْمُغيرَة كل وَاحِد مِنْهُم ابْن عَم الآخر
    ......
    (6/90)
    قَالَ ابْن بطال اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يجزىء السُّجُود عَلَيْهِ من الْآرَاب السَّبْعَة بعد إِجْمَاعهم على أَن السُّجُود على الأَرْض فَرِيضَة وَقَالَ النَّوَوِيّ أَعْضَاء السُّجُود سَبْعَة وَيَنْبَغِي للساجد أَن يسْجد عَلَيْهَا كلهَا وَأَن يسْجد على الْجَبْهَة وَالْأنف جَمِيعًا وَأما الْجَبْهَة فَيجب وَضعهَا مكشوفة على الأَرْض وَيَكْفِي بَعْضهَا وَالْأنف مُسْتَحبّ فَلَو تَركه جَازَ وَلَو اقْتصر عَلَيْهِ وَترك الْجَبْهَة لم يجزه هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك والأكثرين وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَابْن الْقَاسِم من أَصْحَاب مَالك لَهُ أَن يقْتَصر على أَيهمَا شَاءَ وَقَالَ أَحْمد وَابْن حبيب من أَصْحَاب مَالك يجب أَن يسْجد على الْجَبْهَة وَالْأنف جَمِيعًا لظَاهِر الحَدِيث وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بل ظَاهر الحَدِيث أَنَّهُمَا فِي حكم عُضْو وَاحِد لِأَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيث سَبْعَة فَإِن جعلا عضوين صَارَت ثَمَانِيَة وَذكر الْأنف اسْتِحْبَابا
    .........
    (6/100)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: وضع الْيَدَيْنِ فِي السَّجْدَتَيْنِ غير مفترش فَهُوَ أَن يضع كفيه على الأَرْض، ويقل ساعديه وَلَا يضعهما على الأَرْض
    وَغير قَابض الْيَدَيْنِ بِأَن لَا يجافيهما عَن جَنْبَيْهِ، بل يضمهما إِلَيْهِمَا، وَهَذَا الَّذِي يُسمى بالتخوية عِنْد الْفُقَهَاء.
    ..........
    (6/98)
    وَفِي (التَّمْهِيد) : اخْتلف الْفُقَهَاء فِي النهوض عَن السُّجُود إِلَى الْقيام،فَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: ينْهض على صُدُور قَدَمَيْهِ وَلَا يجلس، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس،وَقَالَ النُّعْمَان ابْن أبي عَيَّاش: أدْركْت غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: ذَلِك السّنة، وَبِه قَالَ أَحْمد ابْن رَاهَوَيْه. وَقَالَ أَحْمد: وَأكْثر الْأَحَادِيث على هَذَا. قَالَ الْأَثْرَم: رَأَيْت أَحْمد ينْهض بعد السُّجُود على صُدُور قَدَمَيْهِ وَلَا يجلس قبل أَن ينْهض. وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهض فِي الصَّلَاة على رُؤُوس قَدَمَيْهِ) ،ثمَّ قَالَ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم. وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه كَانَ ينْهض فِي الصَّلَاة على صُدُور قَدَمَيْهِ وَلم يجلس. وَأخرج نَحوه عَن عَليّ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس وَنَحْو ذَلِك. وَأخرج أَيْضا عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
    ........
    (6/102)
    وَذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى: أَن الْمُصَلِّي يفعل فِي الْقعُود الأول مثل مَا ذكرنَا الْآن، وَإِن كَانَ فِي الْقعُود الثَّانِي يقْعد على رجله الْيُسْرَى وَينصب الْيُمْنَى. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ الشَّافِعِي: إِذا قعد فِي الرَّابِعَة أماط رجلَيْهِ جَمِيعًا فأخرجهما عَن وركه الْأَيْمن وأفضى بمقعدته إِلَى الأَرْض، واضجع الْيُسْرَى وَنصب الْيُمْنَى فِي الْقعدَة الأولى. وَقَالَ أَحْمد مثل قَول الشَّافِعِي، إلاّ فِي الْجُلُوس فِي الصُّبْح، فَإِن عِنْده كالجلوس فِي ثِنْتَيْنِ، وَهُوَ قَول دَاوُود. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِن فعل هَذَا فَحسن، وَإِن فعل هَذَا فَحسن، لِأَن ذَلِك كُله قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الجلسات عِنْد الشَّافِعِي أَربع: الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ ، وجلسة الاسْتِرَاحَة عقيب كل رَكْعَة يعقبها قيام، والجلسة للتَّشَهُّد الأول، والجلسة للتَّشَهُّد الْأَخير، فالجميع يسن مفترشا إلاّ الْأَخِيرَة. فَلَو كَانَ مَسْبُوقا وَجلسَ إِمَامه فِي آخر الصَّلَاة متوركا جلس الْمَسْبُوق مفترشا فِي تشهده، فَإِذا سجد سَجْدَتي السَّهْو تورك ثمَّ سلم انْتهى.
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وجلوس الْمَرْأَة كجلوس الرجل،وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن بعض السّلف: أَن سنة الْمَرْأَة التربع،وَعَن بَعضهم: التربع فِي النَّافِلَة،وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي التربع فِي النَّافِلَة وَفِي الْفَرِيضَة للْمَرِيض، فَأَما الصَّحِيح فَلَا يجوز لَهُ التربع فِي الْفَرِيضَة
    باجماع العلماء
    وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنهم كَانُوا يتربعون فِي الصَّلَاة، كَمَا فعله ابْن عمر،مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَأنس وَسَالم وَعَطَاء وَابْن سِيرِين وَمُجاهد، وَجوزهُ الْحسن فِي النَّافِلَة،وَفِي رِوَايَة: كرهه هُوَ وَالْحكم وَابْن مَسْعُود.
    احْتج الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمن قَالَ بقوله أَن هَيْئَة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد الأول مُغَايرَة لهيئة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد الْأَخير، وَقد ذكرنَا عَن قريب اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: الْقعُود فِي الصَّلَاة كلهَا سَوَاء، وَهُوَ أَن ينصب رجله الْيُمْنَى ويفترش رجله الْيُسْرَى فيقعد عَلَيْهَا، ثمَّ ذكر الِاحْتِجَاج فِي هَذَا بِحَدِيث وَائِل بن حجر الْحَضْرَمِيّ،قَالَ: (صليت خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقلت: لأحفظن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: فَلَمَّا قعد للتَّشَهُّد فرش رجله الْيُسْرَى ثمَّ قعد عَلَيْهَا وَوضع كَفه الْيُسْرَى على فَخذه الْيُسْرَى وَوضع مرفقه الْأَيْمن على فَخذه الْيُمْنَى، ثمَّ عقد أَصَابِعه وَجعل حَلقَة بالإبهام وَالْوُسْطَى، ثمَّ جعل يَدْعُو بِالْأُخْرَى) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأحمد فِي رِوَايَة. فَإِن قلت: لَا يتم الِاسْتِدْلَال للحنفية بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ إلاّ أَنه فرش رجله الْيُسْرَى فَقَط. قلت: كثر الْخلاف فِيهِ فَاكْتفى بِهَذَا الْمِقْدَار، وَأما نصب رجله الْيُمْنَى فقد ذكرهه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه (عَن وَائِل بن حجر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس فَثنى الْيُسْرَى وَنصب الْيُمْنَى) ، يَعْنِي فِي الصَّلَاة
    ..........
    (6/106)
    وَفِي (التَّوْضِيح) : أجمع فُقَهَاء الْأَمْصَار،أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَاللَّيْث وَأَبُو ثَوْر: على أَن التَّشَهُّد الأول غير وَاجِب، حاشا أَحْمد، فَإِنَّهُ أوجبه. كَذَا نَقله ابْن الْقصار، وَنَقله ابْن التِّين أَيْضا عَن اللَّيْث وَأبي ثَوْر. وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : قِرَاءَة التَّشَهُّد فِي الْقعدَة الأولى وَاجِبَة عِنْد أبي حنيفَة، وَهُوَ الْمُخْتَار وَالصَّحِيح،وَقيل: سنة وَهُوَ الأقيس، لكنه خلاف ظَاهر الرِّوَايَة،
    ........
    (6/108)
    وَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : السُّجُود كُله عِنْد أَحْمد قبل السَّلَام إلاّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذين ورد النَّص بسجودهما بعد السَّلَام،وهما: إِذا سلم من نقص فِي صلَاته، أَو تحرى الإِمَام فَبنى على غَالب ظَنّه، وَمَا عداهما يسْجد لَهُ قبل السَّلَام، نَص على هَذَا فِي رِوَايَة الْأَثْرَم. وَالْجَمَاعَة المذكورون احْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب،وَقَول الْخطابِيّ: وَمن فرق بِأَن السَّهْو ... إِلَى آخِره، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَذْهَب مَالك، فَإِنَّهُ فصل،وَقَالَ: إِن سُجُود السَّهْو للنقصان قبل السَّلَام وللزيادة بعد السَّلَام، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو ثَوْر أَيْضا وَنَفر من الْحِجَازِيِّين َ. وَأجَاب الْكرْمَانِي عَن قَول الْخطابِيّ: لم يرجع فِيمَا ذهب إِلَيْهِ إِلَى فرق صَحِيح، بِأَن الْفرق صَحِيح،لِأَنَّهُ قَالَ: السُّجُود فِي النُّقْصَان لجبر مَا فَاتَ لَهُ من الصَّلَاة، فَنَاسَبَ أَن يتداركه فِي نفس الصَّلَاة، وَفِي الزِّيَادَة لترغيم الشَّيْطَان، فَنَاسَبَ خَارج الصَّلَاة. قلت: هَذَا دَلِيل عَقْلِي،فلِمَ لَمْ يقل فِي رده على الْخطابِيّ: إِن مَالِكًا عمل فِي النُّقْصَان بِحَدِيث ابْن بُحَيْنَة، وَهُوَ حَدِيث الْبَاب،وَبِحَدِيث مُعَاوِيَة أخرجه النَّسَائِيّ: (أَنه صلى إمَامهمْ فَقَامَ فِي الصَّلَاة وَعَلِيهِ جُلُوس فسبح النَّاس فتم على قِيَامه ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالس بعد أَن أتم الصَّلَاة،ثمَّ قعد على الْمِنْبَر فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من نسي شَيْئا من صلَاته فليسجد مثل هَاتين السَّجْدَتَيْنِ)
    ...........
    (6/113)
    قَالَ الْخطابِيّ التَّحِيَّات كَلِمَات مَخْصُوصَة كَانَت الْعَرَب تحيي بهَا الْمُلُوك نَحْو قَوْلهم أَبيت اللَّعْن وَقَوْلهمْ أنعم الله صباحا وَقَول الْعَجم وزى ده هزار سَأَلَ أَي عش عشرَة آلَاف سنة وَنَحْوهَا من عاداتهم فِي تَحِيَّة الْمُلُوك عِنْد الملاقاة وَهَذِه الْأَلْفَاظ لَا يصلح شَيْء مِنْهَا للثناء على الله تَعَالَى فَتركت أَعْيَان تِلْكَ الْأَلْفَاظ وَاسْتعْمل مِنْهَا معنى التَّعْظِيم فَقيل قُولُوا التَّحِيَّات لله أَي أَنْوَاع التَّعْظِيم لله كَمَا يسْتَحقّهُ وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي أَسمَاء الله تَعَالَى السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار الْأَحَد الصَّمد قَالَ التَّحِيَّات لله بِهَذِهِ الْأَسْمَاء وَهِي الطَّيِّبَات لَا يحيى بهَا غَيره وَاللَّام فِي لله لَام الْملك والتخصيص وَهِي للْأولِ أبلغ وَللثَّانِي أحسن
    ........
    (6/114)
    قَالَ التِّرْمِذِيّ أصح حَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد حَدِيث ابْن مَسْعُود وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ثمَّ أخرج عَن معمر عَن خصيف قَالَ " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَام فَقلت لَهُ إِن النَّاس قد اخْتلفُوا فِي التَّشَهُّد فَقَالَ عَلَيْك بتشهد ابْن مَسْعُود " وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه عَن بشير بن المُهَاجر عَن أبي بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ " مَا سَمِعت فِي التَّشَهُّد أحسن من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَذَلِكَ أَنه رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَقَالَ الْخطابِيّ أصح الرِّوَايَات وأشهرها رجَالًا تشهد ابْن مَسْعُود وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَأَبُو عَليّ الطوسي قد روى حَدِيث ابْن مَسْعُود من غير وَجه وَهُوَ أصح حَدِيث رُوِيَ فِي التَّشَهُّد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ أَبُو عمر بتشهد ابْن مَسْعُود أَخذ أَكثر أهل الْعلم لثُبُوت فعله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ لم يَصح فِي التَّشَهُّد إِلَّا مَا نَقله أهل الْكُوفَة عَن ابْن مَسْعُود وَأهل الْبَصْرَة عَن أبي مُوسَى وبنحوه قَالَه ابْن طَاهِر وَقَالَ النَّوَوِيّ أَشدّهَا صِحَة بِاتِّفَاق الْمُحدثين حَدِيث ابْن مَسْعُود ثمَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْبَزَّار أصح حَدِيث فِي التَّشَهُّد حَدِيث ابْن مَسْعُود وروى عَنهُ عَن نَيف وَعشْرين طَرِيقا ثمَّ سرد أَكْثَرهَا قَالَ وَلَا أعلم فِي التَّشَهُّد أثبت مِنْهُ وَلَا أصح أَسَانِيد وَلَا أشهر رجَالًا (قلت) هَذَا الطَّحَاوِيّ الجهبذ أخرج حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي كِتَابه شرح مَعَاني آثَار من اثنى عشر طَرِيقا وسرد الْجَمِيع ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب فَلهَذَا الَّذِي ذكرنَا استحسنا مَا رُوِيَ عَن عبد الله بتشديده فِي ذَلِك ولإجماعهم عَلَيْهِ إِذْ كَانُوا قد اتَّفقُوا على أَنه
    لَا يَنْبَغِي أَن يتَشَهَّد إِلَّا بخاص من التَّشَهُّد يَعْنِي كلهم اتَّفقُوا على أَن التَّشَهُّد لَا يكون إِلَّا بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة وَلَا يكون بِأَيّ لفظ كَانَ فَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمتفق عَلَيْهِ أولى من الْمُخْتَلف فِيهِ فَصَارَ كَونه مُتَّفقا عَلَيْهِ دون غَيره من مرجحاته لِأَن الروَاة عَنهُ من الثِّقَات لم يَخْتَلِفُوا فِي أَلْفَاظه بِخِلَاف غَيره وَأَن ابْن مَسْعُود تَلقاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلقيا فروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق الْأسود بن يزِيد عَنهُ قَالَ " أخذت التَّشَهُّد من فِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولقننيه كلمة كلمة
    .......
    (6/117)
    فتْنَة الْحَيَاة فَهِيَ الَّتِي تعرض للْإنْسَان مُدَّة حَيَاته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وَأَعْظَمهَا، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى، أَمر الخاتمة عِنْد الْمَوْت، وَأما فتْنَة الْمَوْت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا،فَقيل: فتْنَة الْقَبْر،وَقيل: يحْتَمل أَن يُرَاد بالفتنة عِنْد الاحتضار أضيفت إِلَى الْمَوْت لقربها مِنْهُ.
    .......
    (6/118)
    إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيمَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته. فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأحمد: لَا يجوز الدُّعَاء إلاّ بالأدعية المأثورة أَو الْمُوَافقَة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم،لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) . رَوَاهُ مُسلم، وَذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُحَمّد بن سِيرِين. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجوز أَن يَدْعُو فِيهَا بِكُل مَا يجوز الدُّعَاء بِهِ فِي خَارج الصَّلَاة من أُمُور الدُّنْيَا وَالدّين، مِمَّا يشبه كَلَام النَّاس، وَلَا تبطل صلَاته بِشَيْء من ذَلِك عِنْدهمَا. وَقَالَ ابْن حزم بفرضية التَّعَوُّذ الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة، لما ذكر مُسلم عَن طَاوُوس أَنه أَمر ابْنه بِإِعَادَة صلَاته الَّتِي لم يدع بهَا فِيهَا.
    ............
    (6/119)
    اسْتِحْبَاب قِرَاءَة الْأَدْعِيَة فِي آخر الصَّلَاة من الدَّعْوَات المأثورة أَو المشابهة لألفاظ الْقُرْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز الدُّعَاء فِي الصَّلَاة بِمَا شَاءَ من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَا لم يكن إِثْمًا قَالَ ابْن عمر: لأدعو فِي صَلَاتي حَتَّى بشعير حماري وملح بَيْتِي. انْتهى. وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه لَا يَدْعُو إلاّ بالأدعية المأثورة، أَو بِمَا يشبه أَلْفَاظ الْقُرْآن،لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.
    ..........
    (6/123)
    وَذهب نَافِع بن عبد الْحَارِث وعلقمة وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر: إِلَى أَن التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة ثِنْتَانِ، مرّة عَن يمينة وَمرَّة عَن يسَاره، ويحكى ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق، وَعلي ابْن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث التسليمتين عَن ثَلَاثَة عشر من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وهم: سعد وَعلي وَابْن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن سَمُرَة والبراء بن عَازِب وَوَائِل بن حجر وعدي بن عميرَة الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ وطلق بن عَليّ وَأَوْس ابْن أبي أَوْس وَأَبُو رمثة.
    وَأجَاب الطَّحَاوِيّ مثله بِمَا محصله: أَن رِوَايَة التسليمة الْوَاحِدَة هِيَ رِوَايَة الدَّرَاورْدِي، وَأَن عبد الله بن الْمُبَارك وَغَيره خالفوه فِي ذَلِك،وَرووا عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كَانَ يسلم تسليمتين.
    ثمَّ اخْتلفُوا فِي السَّلَام: هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟ فَعَن أبي حنيفَة أَنه وَاجِب، وَعنهُ أَنه سنة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ثمَّ إِصَابَة لفظ السَّلَام وَاجِبَة، عندنَا، وَلَيْسَت بِفَرْض، خلافًا للشَّافِعِيّ. وَفِي (الْمُغنِي) : لِابْنِ قدامَة: التَّسْلِيم وَاجِب لَا يقوم غَيره مقَامه، وَالْوَاجِب تَسْلِيمَة وَاحِدَة وَالثَّانيَِة سنة،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على أَن صَلَاة من اقْتصر على تَسْلِيمَة وَاحِدَة جَائِزَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ الْحسن بن حر: هما واجبتان، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد. وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ الثَّوْريّ: لَو أخل بِحرف من حُرُوف: السَّلَام عَلَيْكُم، لم تصح صلَاته. وَفِي (الْمُغنِي) : السّنة أَن يَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله،وَإِن قَالَ: وَبَرَكَاته، أَيْضا فَحسن، وَالْأول أحسن. وَإِن قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، وَلم يزدْ فَظَاهر كَلَام أَحْمد أَنه يجْزِيه،وَقَالَ ابْن عقيل: الْأَصَح أَنه لَا يجْزِيه وَإِن نكس السَّلَام فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام، وَلم يجزه. وَقَالَ القَاضِي: فِيهِ وَجه أَنه يجْزِيه، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي. وَقَالَ ابْن حزم: الأولى فرض، وَالثَّانيَِة سنة حَسَنَة لَا يَأْثَم تاركها.
    ..........
    (6/124)
    اسْتدلَّ بِهِ بعض السّلف على اسْتِحْبَاب رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذكر عقيب الْمَكْتُوبَة،وَمِمَّنْ استحبه من الْمُتَأَخِّرين: ابْن حزم،وَقَالَ ابْن بطال: أَصْحَاب الْمذَاهب المتبعة وَغَيرهم متفقون على عدم اسْتِحْبَاب رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ، وَالذكر، حاشا ابْن حزم، وَحمل الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث على أَنه جهر ليعلمهم صفة الذّكر، لَا أَنه كَانَ دَائِما. قَالَ: وَاخْتَارَ للْإِمَام وَالْمَأْمُوم أَن يذكر الله بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة، ويخفيان ذَلِك، إلاّ أَن يقْصد التَّعْلِيم فيعلما ثمَّ يسرا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: فِيهِ الْبَيَان على صِحَة فعل من كَانَ يفعل ذَلِك من الْأُمَرَاء والولاة، يكبر بعد صلَاته وَيكبر من خَلفه،وَقَالَ غَيره: لم أجد أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهَذَا إِلَّا ابْن حبيب فِي (الْوَاضِحَة) : كَانُوا يستحبون التَّكْبِير فِي العساكر والبعوث إِثْر صَلَاة الصُّبْح وَالْعشَاء، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه مُحدث، وَعَن عُبَيْدَة، وَهُوَ بِدعَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَقَول ابْن عَبَّاس: كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ دلَالَة أَنه لم يكن يفعل حِين حدث بِهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يفعل لم يكن لقَوْله معنى، فَكَانَ التَّكْبِير فِي إِثْر الصَّلَوَات لم يواظب الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِ طول حَيَاته، وَفهم أَصْحَابه أَن ذَلِك لَيْسَ بِلَازِم فَتَرَكُوهُ خشيَة أَن يظنّ أَنه مِمَّا لَا تتمّ الصَّلَاة إلاّ بِهِ، فَذَلِك كرهه من كرهه من الْفُقَهَاء.
    ...........
    وَبَين الْمعرفَة وَالْعلم فرق، وَهُوَ أَن الْمعرفَة تسْتَعْمل فِي الجزئيات وَالْعلم فِي الكليات،
    ...
    (6/130)
    قَالَ الْعلمَاء: إِن إِدْرَاك صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَحْظَة خير وفضيلة لَا يوازيها عمل، وَلَا تنَال درجتها بِشَيْء، ثمَّ إِن كَانَت نيتهم، لَو كَانُوا أَغْنِيَاء لعملوا مثل عَمَلهم وَزِيَادَة، (وَنِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) ، فَلهم ثَوَاب هَذِه النِّيَّة وَهَذِه الْأَذْكَار.
    .......
    6/130)
    (تسبحون وتحمدون وتكبرون) كَذَا وَقع فِي أَكثر الْأَحَادِيث تَقْدِيم التَّسْبِيح على التَّحْمِيد وَتَأْخِير التَّكْبِير،وَفِي رِوَايَة ابْن عجلَان: تَقْدِيم التَّكْبِير على التَّحْمِيد خَاصَّة،وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه: تَقْدِيم التَّحْمِيد على التَّسْبِيح، فَدلَّ هَذَا الِاخْتِلَاف على أَن لَا تَرْتِيب فِيهَا،وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات: (لَا يَضرك
    بأيهن بدأت )
    وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: الأولى الْبدَاءَة بالتسبيح لِأَنَّهُ يتَضَمَّن نفي النقائص عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثمَّ التَّحْمِيد لِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِثْبَات الْكَمَال لله تَعَالَى، لِأَن جَمِيع المحامد لَهُ، ثمَّ التَّكْبِير لِأَنَّهُ تَعْظِيم، وَمن كَانَ منزها عَن النقائص، ومستحقا لجَمِيع المحامد يجب تَعْظِيمه، وَذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ يخْتم ذَلِك كُله بالتهليل الدَّال على وحدانيته وانفراده تَعَالَى وتقدس،
    ......
    (6/132)
    إِذا نقص من هَذِه الْأَعْدَاد الْمعينَة أَو زَاد، هَل يحصل لَهُ الْوَعْد الَّذِي وعد لَهُ فِيهِ؟قلت: ذكر شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) قَالَ: كَانَ بعض مَشَايِخنَا يَقُول: إِن هَذِه الْأَعْدَاد الْوَارِدَة عقيب الصَّلَوَات أَو غَيرهَا من الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي الصَّباح والمساء وَغير ذَلِك، إِذا كَانَ ورد لَهَا عدد مَخْصُوص مَعَ ثَوَاب مَخْصُوص، فَزَاد الْآتِي بهَا فِي أعدادها عمدا لَا يحصل لَهُ ذَلِك الثَّوَاب الْوَارِد على الْإِتْيَان بِالْعدَدِ النَّاقِص، فَلَعَلَّ لتِلْك الْأَعْدَاد حِكْمَة، وخاصة تفوت بمجاوزة تِلْكَ الْأَعْدَاد وتعديها، وَلذَلِك نهى عَن الاعتداء فِي الدُّعَاء. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ: فِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد أَتَى بالمقدار الَّذِي رتب على الْإِتْيَان بِهِ ذَلِك الثَّوَاب، فَلَا تكون الزِّيَادَة مزيلة لذَلِك الثَّوَاب بعد حُصُوله عِنْد الْإِتْيَان بذلك الْعدَد. انْتهى. قلت: الصَّوَاب هُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ، لِأَن هَذَا لَيْسَ من الْحُدُود الَّتِي نهى عَن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ حِين يصبح وَحين يُمْسِي: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مائَة مرّة، لم يَأْتِ أحد يَوْم الْقِيَامَة بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلاّ أحد قَالَ مثل مَا قَالَ أَو زَاد عَلَيْهِ.
    ........
    (6/133)
    التَّفْضِيل بَين الْغَنِيّ الشاكر وَالْفَقِير الصابر، فَذهب الْجُمْهُور من الصُّوفِيَّة إِلَى تَرْجِيح الْفَقِير الصابر، لِأَن مدَار الطَّرِيق على تَهْذِيب النَّفس ورياضتها، وَذَلِكَ مَعَ الْفقر أَكثر
    مِنْهُ مَعَ الْغنى، فَكَانَ أفضل بِمَعْنى أشرف. وَذكر الْقُرْطُبِيّ: أَن فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال: فَمن قَائِل بتفضيل الْغَنِيّ، من قَائِل بتفضيل الْفَقِير. وَمن قَائِل بتفضيل الكفاف. وَمن قَائِل برد هَذَا إِلَى اعْتِبَار أَحْوَال النَّاس فِي ذَلِك. وَمن قَائِل بِالْوَقْفِ لِأَنَّهَا مَسْأَلَة لَهَا غور، وفيهَا أَحَادِيث متعارضة. قَالَ: وَالَّذِي يظْهر لي أَن الْأَفْضَل مَا اخْتَارَهُ الله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولجمهور صحابته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ الْفقر غير المدقع، وَيَكْفِيك من هَذَا أَن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِخَمْسِمِائَة عَام، وَأَصْحَاب الْأَمْوَال محبوسون على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَالهم. وَقَالَ ابْن بطال عَن الْمُهلب فِي هَذَا الحَدِيث: فضل الْغَنِيّ نصا لَا تَأْوِيلا إِذا اسْتَوَت أَعمال الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِيمَا افْترض الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا، فللغني حِينَئِذٍ فضل عمل الْبر من الصَّدَقَة وَنَحْوهَا، مِمَّا لَا سَبِيل للْفَقِير إِلَيْهِ. قَالَ: وَرَأَيْت بعض الْمُتَكَلِّمين ذهب إِلَى أَن الْفضل الْمُرَتّب على الذّكر يخص الْفُقَرَاء دون غَيرهم،
    .......
    (6/136)
    وَقَالَ أَبُو عبيد: الأنواء ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجما مَعْرُوفَة الْمطَالع فِي أزمنة السّنة كلهَا، يسْقط مِنْهَا فِي كل ثَلَاث عشرَة لَيْلَة نجم فِي الْمغرب مَعَ طُلُوع الْفجْر، ويطلع آخر مُقَابِله فِي الْمشرق من سَاعَته، وَإِنَّمَا سمي نوأً لِأَنَّهُ إِذا سقط السَّاقِط ناء الطالع، وَذَلِكَ النهوض هُوَ النوء، وانقضاء هَذِه الثَّمَانِية وَالْعِشْرين مَعَ انْقِضَاء السّنة،وَكَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا سقط مِنْهَا نجم وطلع آخر يَقُولُونَ: لَا بُد أَن يكون عِنْد ذَلِك مطر أَو ريح فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا،أَي: الْمَطَر كَانَ من أجل أَن الْكَوْكَب ناء، وَأَنه هُوَ الَّذِي هاجه. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الساقطة مِنْهَا فِي الْمغرب هِيَ: الأنواء،والطالعة مِنْهَا هِيَ: البوارح، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : وَقد أجَاز الْعلمَاء أَن يُقَال: مُطِرْنَا فِي نوء كَذَا، وَلَا يُقَال بِنَوْء كَذَا، ويحكى عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه كَانَ يَقُول: مُطِرْنَا بِنَوْء الله تَعَالَى،
    .........
    (6/139)
    وَقَالَ ابْن مَسْعُود أَيْضا: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قضى صلَاته انْتقل سَرِيعا إِمَّا أَن يقوم وَإِمَّا أَن ينحرف) . وَقَالَ سعيد بن جُبَير: (شَرق أَو غرب وَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة) . وَقَالَ قَتَادَة: (كَانَ الصّديق إِذا سلم كَانَ على الرضف حَتَّى ينْهض) ،وَقَالَ ابْن عمر: الإِمَام إِذا سلم قَامَ. وَقَالَ مُجَاهِد: قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: جُلُوس الإِمَام بعد السَّلَام بِدعَة. وَذهب جمَاعَة من الْفُقَهَاء إِلَى أَن الإِمَام إِذا سلم قَامَ، وَمن صلى خَلفه من الْمَأْمُومين يجوز لَهُم الْقيام قبل قِيَامه إلاّ رِوَايَة عَن الْحسن وَالزهْرِيّ، ذكره عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ: لَا تنصرفوا حَتَّى يقوم الإِمَام. قَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، وَجَمَاعَة النَّاس على خلافهما
    .........
    (6/139)
    علم أَن الْجُمْهُور على أَن الإِمَام لَا يتَطَوَّع فِي مَكَانَهُ الَّذِي صلى فِيهِ الْفَرِيضَة، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يتَطَوَّع الإِمَام حَتَّى يتَحَوَّل من مَكَان أَو يفصل بَينهمَا بِكَلَام، وَكَرِهَهُ ابْن عمر للْإِمَام، وَلم ير بِهِ بَأْسا لغيره، وَعَن عبد الله بن عمر وَمثله،وَعَن الْقَاسِم: أَن الإِمَام إِذا سلم فواسع أَن يتنقل فِي مَكَانَهُ. قَالَ ابْن بطال: وَلم أجد لغيره من الْعلمَاء. قلت: ذكر ابْن التِّين أَنه قَول أَشهب.
    وفَعَلَهُ القاسِمُ
    أَي: فعل الصَّلَاة النَّفْل فِي الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ الْفَرِيضَة الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة: (عَن مُعْتَمر عَن عبيد الله بن عمر قَالَ: رَأَيْت الْقَاسِم وسالما يصليان الْفَرِيضَة ثمَّ يتطوعان فِي مكانهما) .
    ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإمَامُ فِي مَكَانِهِ ولَمْ يَصِحَّ
    ..........
    (6/146)
    وشذ أهل الظَّاهِر فحرموا هَذِه الْأَشْيَاء لإفضائها إِلَى ترك الْجَمَاعَة، وَهِي عِنْدهم فرض عين،وَتَقْرِيره أَن يُقَال: صَلَاة الْجَمَاعَة فرض عين، وَلَا يتم إلاّ بترك أكلهَا. وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إلاّ بِهِ فَهُوَ وَاجِب، فَترك أكلهَا وَاجِب، فَتكون حَرَامًا. قلت: صرح ابْن حزم مِنْهُم بِأَن أكلهَا حَلَال مَعَ قَوْله بِأَن الْجَمَاعَة فرض عين. وَفِيه: ترك الْإِتْيَان إِلَى الْمَسْجِد عِنْد أكل الثوم وَنَحْوه،وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل المجامع: كمصلى الْعِيد والجنازة وَمَكَان الْوَلِيمَة، وَحكم رحبة الْمَسْجِد حكمه، لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخص القَاضِي عِيَاض الْكَرَاهَة بِمَا إِذا كَانَ مَعَهم غَيرهم، أما إِذا كَانَ كلهم أكلوه فَلَا، وَلَكِن يَنْبَغِي احترام الْمَلَائِكَة، وَلَيْسَ المُرَاد بِالْمَلَائِكَة ِ الْحفظَة.
    .....
    (6/150)
    وَفِي (الْمُوَطَّإِ) : أَن عَمْرو بن الجموح وَعبد الله بن عَمْرو الأنصاريين كَانَ السَّيْل قد حفر قبرهما وهما من شُهَدَاء أحد، فوجدا لم يتغيرا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بالْأَمْس، ولقتلهما سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة.
    ......
    (6/153)
    وَقَالَ مَالك: لَا أعلم أحدا أوجب غسل الْجُمُعَة إلاَّ أهل الظَّاهِر، فَإِنَّهُم أوجبوه. ثمَّ قَالَ: روى ابْن وهب عَن مَالك أَنه سُئِلَ عَن غسل يَوْم الْجُمُعَة أواجب هُوَ؟قَالَ: حسن وَلَيْسَ بِوَاجِب، وَهَذِه الرِّوَايَة عَن مَالك تدل على أَنه مُسْتَحبّ، وَذَلِكَ عِنْدهم دون السّنة،وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن هَذَا الحَدِيث وَعَن أَمْثَاله الَّتِي ظَاهرهَا الْوُجُوب: أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِحَدِيث: (من تَوَضَّأ فبها ونعمت وَمن اغْتسل فَهُوَ أفضل) . فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَحَادِيث الْوُجُوب أصح وَأقوى، والضعيف لَا ينْسَخ الْقوي. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة، وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (سنَنه) وَالْبَيْهَقِيّ كَذَلِك وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَرَوَاهُ سَبْعَة من الصَّحَابَة
    .......
    (6/155)
    (وَكثير بن الصَّلْت) ، هُوَ أَبُو عبد الله، ولد فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَله دَار كَبِيرَة بِالْمَدِينَةِ قبْلَة الْمصلى للعيدين،وَكَانَ اسْمه: قَلِيلا، فَسَماهُ عمر بن الْخطاب،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كثيرا، وَكَانَ يعد فِي أهل الْحجاز. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: كثير بن الصَّلْت ابْن معدي الْكِنْدِيّ، أَخُو زيد،روى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن كثير بن الصَّلْت كَانَ اسْمه: قَلِيلا،فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كثيرا، الْأَصَح أَن الَّذِي سَمَّاهُ كثيرا عمر بن الْخطاب
    ...........
    (6/158)
    لَو شاهدت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَا أحدث نسَاء هَذَا الزَّمَان من أَنْوَاع الْبدع والمنكرات لكَانَتْ أَشد إنكارا وَلَا سِيمَا نسَاء مصر فَإِن فِيهِنَّ بدعا لَا تُوصَف ومنكرات لَا تمنع. مِنْهَا ثيابهن من أَنْوَاع الْحَرِير المنسوجة أطرافها من الذَّهَب والمرصعة باللآلىء وأنواع الْجَوَاهِر وَمَا على رءوسهن من الأقراص المذهبة المرصعة باللآلىء والجواهر الثمينة والمناديل الْحَرِير المنسوج بِالذَّهَب وَالْفِضَّة الممدودة وقمصانهن من أَنْوَاع الْحَرِير الواسعة الأكمام جدا السابلة أذيالها على الأَرْض مِقْدَار أَذْرع كَثِيرَة بِحَيْثُ يُمكن أَن يَجْعَل من قَمِيص وَاحِد ثَلَاثَة قمصان وَأكْثر وَمِنْهَا مشيهن فِي الْأَسْوَاق فِي ثِيَاب فاخرة وَهن متبخترات متعطرات مائلات متبخترات متزاحمات مَعَ الرِّجَال مكشوفات الْوُجُوه فِي غَالب الْأَوْقَات. وَمِنْهَا ركوبهن على الْحمير الْغرَّة وأكمامهن سابلة من الْجَانِبَيْنِ فِي أزر رفيعة جدا. وَمِنْهَا ركوبهن على مراكب فِي نيل مصر وخلجانها مختلطات بِالرِّجَالِ وبعضهن يغنين بِأَصْوَات عالية مطربة والأقداح تَدور بَينهُنَّ. وَمِنْهَا غلبتهن على الرِّجَال وقهرهن إيَّاهُم وحكمهن عَلَيْهِم بِأُمُور شَدِيدَة. ومنهن نسَاء يبعن الْمُنْكَرَات بالإجهار ويخالطن الرِّجَال فِيهَا. ومنهن قوادات يفسدن الرِّجَال وَالنِّسَاء ويمشين بَينهُنَّ بِمَا لم يرض بِهِ الشَّرْع. ومنهن صنف بَغَايَا قاعدات مترصدات للْفَسَاد ومنهن صنف دائرات على أرجلهن يصطدن الرِّجَال. ومنهن نصف سوارق من الدّرّ والحمامات. ومنهن صنف سواحر يسحرن وينفثن فِي العقد ومنهن بياعات فِي الْأَسْوَاق يتعايطن بِالرِّجَالِ. ومنهن دلالات نصابات على النِّسَاء. ومنهن صنف نوائح ودفافات يرتكبن هَذِه الْأُمُور القبيحة بِالْأُجْرَةِ. ومنهن مغنيات يغنين بأنواع الملاهي بِالْأُجْرَةِ للرِّجَال
    وَالنِّسَاء ومنهن صنف خطابات يخطبن للرِّجَال نسَاء لَهَا أَزوَاج بفتن يوقعنها بَينهم وَغير ذَلِك من الْأَصْنَاف الْكَثِيرَة الْخَارِجَة عَن قَوَاعِد الشَّرِيعَة فَانْظُر إِلَى مَا قَالَت الصديقة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا من قَوْلهَا لَو أدْرك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أحدثت النِّسَاء وَلَيْسَ بَين هَذَا القَوْل وَبَين وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مُدَّة يسيرَة على أَن نسَاء ذَلِك الزَّمَان مَا أحدثن جزأ من ألف جُزْء مِمَّا أحدثت نسَاء هَذَا الزَّمَان
    مِمَّا شاهدت من الْقَوَاعِد الدِّينِيَّة الْمُقْتَضِيَة لحسم مواد الْفساد وَالْأولَى فِي هَذَا الْبَاب أَن ينظر إِلَى مَا يخْشَى مِنْهُ الْفساد فيجتنب لإشارته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ذَلِك بِمَنْع الطّيب والتزين لما روى مُسلم من حَدِيث زَيْنَب امْرَأَة ابْن مَسْعُود " إِذا شهِدت إحداكن الْمَسْجِد فَلَا تمس طيبا " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله وَلَكِن ليخرجن وَهن تفلات " وَكَذَلِكَ قيد ذَلِك فِي بعض الْمَوَاضِع بِاللَّيْلِ ليتَحَقَّق الْأَمْن فِيهِ من الْفِتْنَة وَالْفساد وَبِهَذَا يمْنَع اسْتِدْلَال بَعضهم فِي الْمَنْع مُطلقًا فِي قَول عَائِشَة لِأَنَّهَا علقته على شَرط لم يُوجد فَقَالَت لَو رأى لمنع فَيُقَال عَلَيْهِ لم ير وَلم يمْنَع على أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لم تصرح بِالْمَنْعِ وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَامهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا ترى الْمَنْع وَأَيْضًا فالإحداث لم يَقع من الْكل بل من بَعضهم
    ........
    (6/160)
    وَفِي كتاب (الدَّاودِيّ) : سمي يَوْم الْجُمُعَة يَوْم الْقِيَامَة لِأَن الْقِيَامَة تقوم فِيهِ النَّاس. وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ اسْم إسلامي. وَلم يكن فِي الْجَاهِلِيَّة،إِنَّمَا كَانَت تسمى فِي الْجَاهِلِيَّة: الْعرُوبَة،فسميت فِي الْإِسْلَام: الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ للصَّلَاة، إسما مأخوذا من الْجمع،وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين قَالَ: جمع أهل الْمَدِينَة قبل أَن يقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَقبل أَن تنزل الْجُمُعَة،وهم الَّذين سَموهَا: الْجُمُعَة. وَذَلِكَ أَن الْأَنْصَار قَالُوا: للْيَهُود يَوْم يَجْتَمعُونَ فِيهِ كل سَبْعَة أَيَّام، وَكَذَا لِلنَّصَارَى، فَهَلُمَّ فلنجهل يَوْمًا نَجْتَمِع فِيهِ، وَنَذْكُر الله وَنُصَلِّي ونشكره، فَاجْعَلُوهُ يَوْم الْعرُوبَة،وَكَانُوا يسمون يَوْم الْجُمُعَة: يَوْم الْعرُوبَة،فَاجْتمعُوا إِلَى أسعد فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ وَذكرهمْ فسموا: الْجُمُعَة، حِين اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، وَذبح لَهُم أسعد شَاة فتغدوا وتعشوا من شَاة، وَذَلِكَ لقلتهم،فَأنْزل الله فِي ذَلِك بعد: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة) (الْجُمُعَة: 9) . الْآيَة. انْتهى. وَقَالَ الزّجاج وَالْفراء وَأَبُو عبيد وَأَبُو عَمْرو: كَانَت الْعَرَب العاربة تَقول ليَوْم السبت: شبار،وليوم الْأَحَد: أول،وليوم الِاثْنَيْنِ: أَهْون،وليوم الثُّلَاثَاء: جَبَّار،وللأربعاء: دبار،وللخميس: مونس،وليوم الْجُمُعَة: الْعرُوبَة،وَأول من نقل الْعرُوبَة إِلَى يَوْم الْجُمُعَة: كَعْب بن لؤَي،
    ......
    (6/165)
    ن تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت، وَمن اغْتسل فَهُوَ أفضل) . وَاعْترض بِأَنَّهُ ضَعِيف، فَكيف يحكم أَن الصَّحِيح مَنْسُوخ بِهِ؟قلت: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من سَبْعَة أنفس من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وهم: سَمُرَة بن جُنْدُب أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة، فَذكره. وَأنس عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِي ّ، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عِنْد الْبَيْهَقِيّ وَالْبَزَّار، وَأَبُو هُرَيْرَة عِنْد الْبَزَّار، وَابْن عدي، وَجَابِر عِنْد ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَابْن عَبَّاس عِنْد الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) ،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَاخْتلف فِي سَماع الْحسن عَن سَمُرَة،فَعَن ابْن الْمَدِينِيّ إِمَام هَذَا الْفَنّ: أَنه سمع مِنْهُ مُطلقًا،. وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه الْمُعْتَرض فالأحاديث الضعيفة إِذا ضم بَعْضهَا إِلَى بعض أخذت قُوَّة فِيمَا اجْتمعت فِيهِ من الحكم،
    وَقَالَ الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَمِمَّا يدل على أَن أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْغسْلِ يَوْم الْجُمُعَة فَضِيلَة على الِاخْتِيَار لَا على الْوُجُوب، حَدِيث عمر حَيْثُ قَالَ لعُثْمَان: وَالْوُضُوء أَيْضا؟ وَقد علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْغسْلِ يَوْم الْجُمُعَة؟ فَلَو علما أَن أمره على الْوُجُوب لم يتْرك عمر عُثْمَان حَتَّى يردهُ وَيَقُول لَهُ: إرجع فاغتسل. وَقَالَ ابْن دَقِيق: فِي الحَدِيث دَلِيل على تَعْلِيق الْأَمر بِالْغسْلِ بالمجيء إِلَى الْجُمُعَة، وَاسْتدلَّ بِهِ لمَالِك فِي أَنه يعْتَبر أَن يكون الْغسْل مُتَّصِلا بالذهاب، وَوَافَقَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالْجُمْهُور، قَالُوا: يجزىء من بعد الْفجْر. انْتهى.
    ......
    (6/168)
    ذكر الطَّحَاوِيّ والطبري: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قرن الْغسْل بالطيب يَوْم الْجُمُعَة، وَأجْمع الْجَمِيع على أَن تَارِك الطّيب يَوْمئِذٍ غير حرج إِذا لم يكن لَهُ رَائِحَة مَكْرُوهَة يُؤْذِي بهَا أهل الْمَسْجِد، فَكَذَا حكم تَارِك الْغسْل، لِأَن مخرجهما من الشَّارِع وَاحِد، وَكَذَا الاستنان بِالْإِجْمَاع أَيْضا، وَكَذَا هما وَإِن كَانَ الْعلمَاء يستحبون لمن قدر عَلَيْهِ كَمَا يستحبون اللبَاس الْحسن. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل إِن يكون قَوْله: (وَأَن يستن) إِلَى آخِره من كَلَام أبي سعيد، خلطه الرَّاوِي بِكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ بَعضهم: لم أر هَذَا فِي شَيْء من النّسخ وَلَا فِي المسانيد، وَدَعوى الإدراج فِيهِ لَا حَقِيقَة لَهَا. قلت: ظَاهر التَّرْكِيب يَقْتَضِي صِحَة مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ، وَإِن تكلفنا وَجه صِحَة الْعَطف فِيمَا قبل قَوْله، وَلَكِن هَكَذَا فِي الحَدِيث.
    قَالَ الْخطابِيّ: ذهب مَالك إِلَى إِيجَاب الْغسْل، وَأكْثر الْفُقَهَاء إِلَى أَنه غير وَاجِب، وتأولوا الحَدِيث على معنى التَّرْغِيب فِيهِ والتوكيد لأَمره حَتَّى يكون كالواجب على معنى التَّشْبِيه،
    وَفِي (المُصَنّف) : وَكَانَ ابْن عمر يجمر ثِيَابه كل جُمُعَة. وَقَالَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة: أدْركْت ثَلَاثِينَ من مزينة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَحَكَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس
    ........
    (6/173)
    وَاخْتلفُوا فِي الْأُضْحِية فمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: أَن الْإِبِل أفضل ثمَّ الْبَقر ثمَّ الْغنم كالهدايا،وَمذهب مَالك: أَن الْغنم أفضل ثمَّ الْبَقر ثمَّ الْإِبِل،قَالُوا: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى بكبشين وَهُوَ فدَاء إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحجَّة الْجُمْهُور حَدِيث الْبَاب مَعَ الْقيَاس على الْهَدَايَا، وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدل على الْأَفْضَلِيَّة بل على الْجَوَاز، وَلَعَلَّه لم يجد غَيره، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ضحى عَن نِسَائِهِ بالبقرة. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه قَالَ: (خير الْأُضْحِية الْكَبْش الأقرن)
    .......
    (6/177)
    ن الْمَغْفِرَة مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى،مَشْرُوطَة بِوُجُود مَا تقدم من الْأُمُور السَّبْعَة
    ............
    (6/185)
    قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَكثر من يحفظ فِيهِ من أهل الْعلم يَقُولُونَ: يجزىء غسلة وَاحِدَة للجنابة وَالْجُمُعَة. وَقَالَ ابْن بطال: روينَاهُ عَن ابْن عمر وَمُجاهد وَمَكْحُول وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي ثَوْر،وَقَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن يجْزِيه، وَهُوَ قَول أَشهب وَغَيره، وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ. وَعَن أَحْمد: أَنه لَا يجْزِيه عَن غسل الْجَنَابَة حَتَّى ينويها، وَهُوَ قَول مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) : وَذكره ابْن عبد الحكم،وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن بعض ولد أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: من اغْتسل للجنابة يَوْم الْجُمُعَة اغْتسل للْجُمُعَة
    ........
    (6/180)
    عُطَارِد بن حَاجِب بن زُرَارَة بن زيد بن عبد الله ابْن درام بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَفد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة تسع وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ،وَقيل: سنة عشر، وَهُوَ صَاحب الديباج الَّذِي أهداه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ كسْرَى كَسَاه إِيَّاه فَعجب مِنْهُ الصَّحَابَة،فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لمناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة خير من هَذَا) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ: لَهُ وفادة مَعَ الْأَقْرَع والزبرقان، ذكره فِي (كتاب الصَّحَابَة) وَكَانَ عُطَارِد يُقيم بِالسوقِ الْحلَل أَي: يعرضهَا للْبيع، فأضاف الْحلَّة إِلَيْهِ بِهَذِهِ الملابسة،وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَيُّوب: عَن ابْن سِيرِين: حلَّة عُطَارِد أَو لبيد على الشَّك.
    ......
    (6/181)
    ان اسْتِعْمَال السِّوَاك، هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟ فَذهب أَكثر أهل الْعلم إِلَى عدم وُجُوبه، بل ادّعى بَعضهم فِيهِ الْإِجْمَاع،وَحكى الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْمَاوَرْدِي ّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه قَالَ
    هُوَ وَاجِب لكل صَلَاة فَمن تَركه عَامِدًا بطلت صلَاته،وَعَن دَاوُد: أَنه وَاجِب وَلكنه لَيْسَ بِشَرْط، وَاحْتج من قَالَ بِوُجُوبِهِ بورود الْأَمر بِهِ،فَعِنْدَ ابْن مَاجَه فِي حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (تسوكوا)
    .........
    (6/182)
    فِيمَن لَا يجد السِّوَاك يعالج بالأصبع، لما روى الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يجزىء من السِّوَاك الْأَصَابِع) ، وَضَعفه. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله! الرجل يدهن فوه أيستاك؟قاال: نعم. قلت: كَيفَ يصنع؟قَالَ: يدْخل إصبعه فِي فِيهِ) .
    ...........
    (6/186)
    أَكثر الْعلمَاء على أَن: كَانَ، لَا يَقْتَضِي المداومة، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير،قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَة: ب {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} . و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} . الحَدِيث،وروى أَيْضا من حَدِيث الضَّحَّاك بن قيس أَنه سَأَلَ عَن النُّعْمَان بن بشير: (مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بِهِ يَوْم الْجُمُعَة؟ . قَالَ: سُورَة الْجُمُعَة، و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} . وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: (كَانَ يقْرَأ فِي الْجُمُعَة بِسُورَة الْجُمُعَة و {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} فَهَذِهِ الْأَحَادِيث فِيهَا لَفْظَة: كَانَ، وَلم تدل على المداومة، بل كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ بِهَذَا مرّة وَبِهَذَا مرّة، فَحكى عَنهُ كل فريق مَا حَضَره، فَفِيهِ دَلِيل على أَن لَا تَوْقِيت للْقِرَاءَة فِي ذَلِك، وَأَن للْإِمَام أَن يقْرَأ فِي ذَلِك مَعَ فَاتِحَة الْكتاب أَي الْقُرْآن شَاءَ.
    ..........
    (6/186)
    وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: كل قَرْيَة فِيهَا أَرْبَعُونَ رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين بهَا لَا يظعنون عَنْهَا صيفا وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة، فالجمعة وَاجِبَة عَلَيْهِم، وَسَوَاء كَانَ الْبناء من حجر أَو خشب أَو طين أَو قصب أَو غَيرهَا، بِشَرْط أَن تكون الْأَبْنِيَة مجتمعة، فَإِن كَانَت مُتَفَرِّقَة لم تصح، وَأما أهل الْخيام فَإِن كَانُوا ينتقلون من موضعهم شتاءً أَو صيفا لم تصح الْجُمُعَة بِلَا خلاف،وَإِن كَانُوا دائمين فِيهَا شتاءً وصيفا وَهِي مجتمعة بَعْضهَا إِلَى بعض فَفِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا: لَا تجب عَلَيْهِم الْجُمُعَة وَلَا تصح مِنْهُم، وَبِه قَالَ مَالك. وَالثَّانِي: تجب عَلَيْهِم وَتَصِح مِنْهُم،وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد: وَمذهب أبي حنيفَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تصح الْجُمُعَة إلاّ فِي مصر جَامع أَو فِي مصلى الْمصر، وَلَا تجوز فِي الْقرى، وَتجوز فِي منى إِذا كَانَ الْأَمِير أَمِير الْحَاج، أَو كَانَ الْخَلِيفَة مُسَافِرًا. وَقَالَ مُحَمَّد: لَا جُمُعَة بمنى وَلَا تصح بِعَرَفَات فِي قَوْلهم جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي كِتَابه (الْأَحْكَام) : اتّفق فُقَهَاء الْأَمْصَار على أَن الْجُمُعَة مَخْصُوصَة بِموضع لَا يجوز فعلهَا فِي غَيره لأَنهم مجتمعون على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الْبَوَادِي، ومناهل الْأَعْرَاب، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يرى على أهل المناهل والمياه أَنهم يجمعُونَ
    ..........
    (6/188)
    ما رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن حجاج عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث، (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق وَلَا صَلَاة فطر وَلَا أضحى إلاّ فِي مصر جَامع أَو مَدِينَة عَظِيمَة) ، وروى أَيْضا بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن أَنه قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) . فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: حَدِيث عَليّ ضَعِيف مُتَّفق على ضعفه، وَهُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ بِسَنَد ضَعِيف مُنْقَطع؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع إلاّ على الْأَثر الَّذِي فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَلم يطلع على طَرِيق جرير عَن مَنْصُور، فَإِنَّهُ سَنَد صَحِيح، وَلَو اطلع لم يقل بِمَا قَالَه،
    ........
    (6/188)
    وَفِي (الْمعرفَة) : قَالَ الزُّهْرِيّ: لما بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة ليقرئهم الْقُرْآن جمع بهم وهم اثْنَا عشر رجلا، فَكَانَ مُصعب أول من جمع الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ بِالْمُسْلِمين قبل أَن يقدمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يُرِيد الاثنا عشر النُّقَبَاء الَّذين خَرجُوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة وَكَانُوا لَهُ ظهيرا. وَفِي حَدِيث كَعْب: جمع بهم أسعد وهم أَرْبَعُونَ، وَهُوَ يُرِيد جَمِيع من صلى مَعَه مِمَّن أسلم من أهل الْمَدِينَة مَعَ النُّقَبَاء، وَعَن جَعْفَر بن برْقَان،قَالَ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى عدي بن عدي. وَأما أهل قَرْيَة لَيْسُوا بِأَهْل عَمُود فأمِّر عَلَيْهِم أَمِيرا يجمع بهم. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
    ..........
    (6/190)
    قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ مَدِينَة على شاطىء الْبَحْر فِي منتصف مَا بَين مصر وَمَكَّة وتبوك، ورد صَاحب أَيْلَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَة. وَقَالَ الْبكْرِيّ: سميت بأيلة بنت مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد رُوِيَ أَن أَيْلَة هِيَ الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر. وَقَالَ اليعقوبي: أَيْلَة مَدِينَة جليلة على سَاحل الْبَحْر الْملح، وَبهَا يجْتَمع حَاج الشَّام ومصر وَالْمغْرب، وَبهَا التِّجَارَة الْكَثِيرَة، وَمن القلزم إِلَى أَيْلَة سِتّ مراحل فِي بَريَّة صحراء يتزود النَّاس من القلزم إِلَى أَيْلَة لهَذِهِ المراحل. قلت: هِيَ الْآن خراب ينزل بهَا الْحَاج الْمصْرِيّ والمغربي والغزي، وَبَعض آثَار الْمَدِينَة ظَاهر
    .......
    (6/201)
    أجمع الْعلمَاء على أَن وَقت الْجُمُعَة بعد زَوَال الشَّمْس إلاّ مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: يجوز فعلهَا فِي وَقت صَلَاة الْعِيد، لِأَنَّهَا صَلَاة عيد،وَقَالَ أَحْمد: تجوز قبل الزَّوَال، وَنَقله ابْن الْمُنْذر عَن عَطاء وَإِسْحَاق، وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي السَّادِسَة. وَقَالَ ابْن قدامَة، فِي (الْمقنع) : يشْتَرط لصِحَّة الْجُمُعَة أَرْبَعَة شُرُوط: أَحدهَا الْوَقْت، وأوله أول وَقت صَلَاة الْعِيد،قَالَ: وَقَالَ الْجرْمِي: يجوز فعلهَا فِي السَّاعَة السَّادِسَة،قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر وَسعد وَمُعَاوِيَة أَنهم صلوها قبل الزَّوَال،وَقَالَ القَاضِي وَأَصْحَابه: يجوز فعلهَا فِي وَقت صَلَاة الْعِيد. قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله عَن أَبِيه،قَالَ: نَذْهَب إِلَى أَنَّهَا كَصَلَاة الْعِيد، وَأَرَادَ بِعَبْد الله عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل،وَقَالَ عَطاء: كل عيد حِين يَمْتَد الضُّحَى الْجُمُعَة والأضحى وَالْفطر، لما رُوِيَ (عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: مَا كَانَ عيدا إلاّ فِي أول النَّهَار، وَلَقَد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَة فِي ظلّ الْحطيم)
    ........
    (6/206)
    وَقَالَ ابْن بطال: وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه لَا جُمُعَة على مُسَافر، حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأنس بن مَالك وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَابْن مَسْعُود وَنَفر من أَصْحَاب عبد الله وَمَكْحُول وَعُرْوَة بن الْمُغيرَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الْملك بن مَرْوَان والشعب وَعمر بن عبد الْعَزِيز. وَلما ذكر ابْن التِّين قَول الزُّهْرِيّ،قَالَ: إِن أَرَادَ وُجُوبهَا فَهُوَ قَول شَاذ، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : أما السّفر لَيْلهَا يَعْنِي: لَيْلَة الْجُمُعَة قبل طُلُوع الْفجْر فَيجوز عندنَا،وَعند الْعلمَاء كَافَّة إلاّ مَا حَكَاهُ الْعَبدَرِي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لَا يُسَافر بعد دُخُول الْعشَاء من يَوْم الْخَمِيس حَتَّى يُصَلِّي الْجُمُعَة، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: بل لَهُ أصل صَحِيح، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَائِشَة،قَالَت: (إِذا أَدْرَكتك لَيْلَة الْجُمُعَة فَلَا تخرج حَتَّى تصلي
    لْجُمُعَة) ، وَأما السّفر قبل الزَّوَال فجوزه عمر بن الْخطاب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح وَعبد الله بن عمر وَالْحسن وَابْن سِيرِين، وَبِه قَالَ مَالك وَابْن الْمُنْذر. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الْأَصَح تَحْرِيمه. وَبِه قَالَت عَائِشَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَحسان بن عَطِيَّة ومعاذ بن جبل. وَأما السّفر بعد الزول يَوْم الْجُمُعَة إِذا لم يخف فَوت الرّفْقَة وَلم يصل الْجُمُعَة فِي طَرِيقه فَلَا يجوز عِنْد مَالك وَأحمد، وَجوزهُ أَبُو حنيفَة
    .......
    (6/208)
    عبارَة الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : وأكره تخطي رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة لما فِيهِ من الْأَذَى وَسُوء الْأَدَب. انْتهى. قلت: هَذَا التَّعْلِيل يَشْمَل يَوْم الْجُمُعَة وَغَيره من سَائِر الصَّلَوَات فِي الْمَسَاجِد وَغَيرهَا، وَسَائِر المجامع من حلق الْعلم وَسَمَاع الحَدِيث ومجالس الْوَعْظ، وعَلى هَذَا يحمل التَّقْيِيد بِيَوْم الْجُمُعَة على أَنه خرج مخرج الْغَالِب لاخْتِصَاص الْجُمُعَة بمَكَان الْخطْبَة وَكَثْرَة النَّاس، بِخِلَاف غَيره. وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَآهُ أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي (مُسْند الفردوس) من حَدِيث أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تخطى حَلقَة قوم بِغَيْر إذْنهمْ فَهُوَ عَاص) ، وَلكنه ضَعِيف لِأَنَّهُ من رِوَايَة جَعْفَر بن الزبير، فَإِنَّهُ كذبه شُعْبَة وَتَركه للنَّاس.
    ثمَّ اخْتلفُوا فِي كَرَاهَة ذَلِك: هَل هُوَ للتَّحْرِيم أَو لَا؟ فالمتقدمون يطلقون الْكَرَاهَة ويريدون كَرَاهَة التَّحْرِيم وَحكى الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَن نَص الشَّافِعِي التَّصْرِيح بِتَحْرِيمِهِ، وَحكى الرَّافِعِيّ فِي الشَّهَادَات عَن صَاحب (الْعدة) أَنه عده من الصَّغَائِر،ونازعه الرَّافِعِيّ وَقَالَ: إِنَّه من المكروهات،وَقَالَ فِي: بَاب الْجُمُعَة: إِن تَركه من المندوبات، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) بِأَنَّهُ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. وَقَالَ فِي (زَوَائِد الرَّوْضَة) : إِن الْمُخْتَار تَحْرِيمه، للأحاديث الصَّحِيحَة. وَاقْتصر أَصْحَاب أَحْمد على الْكَرَاهَة فَقَط،وَقَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ: وَيسْتَثْنى من التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة: الإِمَام أَو من كَانَ بَين يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يصل إِلَيْهَا إلاّ بالتخطي، وَأطلق النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) اسْتثِْنَاء الإِمَام وَمن بَين يَدَيْهِ فرجه، وَلم يُقيد الإِمَام بِالضَّرُورَةِ وَلَا الفرجة بِكَوْن التخطي إِلَيْهَا يزِيد على صفّين. وَقيد ذَلِك فِي (شرح الْمُهَذّب) فَقَالَ: فَإِن كَانَ إِمَامًا لم يجد طَرِيقا إِلَى الْمِنْبَر والمحراب إلاّ بالتخطي لم يكره، لِأَنَّهُ ضَرُورَة.
    .......
    (6/210)
    وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب من الشَّافِعِيَّة: تجوز إِقَامَة الرجل من مَكَانَهُ فِي ثَلَاث صور: وَهُوَ أَن يقْعد فِي مَوضِع الإِمَام، أَو فِي طَرِيق يمْنَع النَّاس من الْمُرُور فِيهِ، أَو بَين يَدي الصَّفّ مُسْتَقْبل الْقبْلَة.
    .........
    (6/211)
    اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث على الْجُلُوس على الْمِنْبَر قبل الْخطْبَة،قَالَ بَعضهم: خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) قَوْله: (إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر) هَذَا سنة، وَعَلِيهِ عَامَّة الْعلمَاء، خلافًا لأبي حنيفَة، كَذَا قَالَه ابْن بطال وَتَبعهُ ابْن التِّين.
    ........
    (6/215)
    وأشبه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي صانع الْمِنْبَر بِالصَّوَابِ قَول من قَالَ: هُوَ مَيْمُون، لكَون الْإِسْنَاد فِيهِ من طَرِيق سهل بن سعد، وَبَقِيَّة الْأَقْوَال بأسانيد ضَعِيفَة بل فِيهَا شَيْء واه.
    إنماأمرني أَمِير المأمنين أَن أرفعه، فَدَعَا نجارا وَكَانَ ثَلَاث دَرَجَات فَزَاد فِيهِ الزِّيَادَة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْم. وَرَوَاهُ من وَجه آخر،قَالَ: فكسفت الشَّمْس حَتَّى رَأينَا النُّجُوم،قَالَ: وَزَاد فِيهِ سِتّ دَرَجَات،وَقَالَ: إِنَّمَا زِدْت فِيهِ حِين كثر النَّاس.
    ..........
    (6/216)
    قَالَ ابْن النجار وَغَيره: اسْتمرّ على ذَلِك إِلَّا مَا أصلح مِنْهُ إِلَى أَن أحترق مَسْجِد الْمَدِينَة سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة، فَاحْتَرَقَ ثمَّ جدد المظفر صَاحب الْيمن سنة سِتّ وَخمسين منبرا ثمَّ أرسل الظَّاهِر بيبرس رَحمَه الله بعد عشر سِنِين منبرا، فأزيل مِنْبَر المظفر فَلم يزل ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَصْر، فَأرْسل الْملك الْمُؤَيد شيخ، رَحمَه الله، فِي سنة عشْرين وثمان مائَة منبرا جَدِيدا، وَكَانَ أرسل فِي سنة ثَمَانِي عشرَة منبرا جَدِيدا إِلَى مَكَّة أَيْضا.

    .......

    (6/216)
    وَيسْتَحب أَن يكون الْمِنْبَر على يَمِين الْمِحْرَاب مُسْتَقْبل الْقبْلَة فَإِن لم يكن مِنْبَر فموضع عَال، وإلاّ فَإلَى خَشَبَة لِلِاتِّبَاعِ فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب إِلَى جذع قبل اتِّخَاذ الْمِنْبَر، فَلَمَّا صنع تحول إِلَيْهِ، وَيكرهُ الْمِنْبَر الْكَبِير جدا الَّذِي يضيق على الْمُصَلِّين إِذا لم يكن الْمَسْجِد متسعا.
    .........
    (6/217)
    وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا ذكره ابْن أبي شيبَة عَن طَاوُوس،قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان قيَاما، وَأول من جلس على الْمِنْبَر مُعَاوِيَة،قَالَ الشّعبِيّ: حِين كثر شَحم بَطْنه ولحمه) . وَرَوَاهُ ابْن حزم عَن على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
    .........
    (6/218)
    قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم فِي ذَلِك خلافًا بَين الْعلمَاء،وَحكى غَيره: (عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ لَا يسْتَقْبل هِشَام بن إِسْمَاعِيل إِذا خطب، فَوكل بِهِ هِشَام شرطيا يعطفه إِلَيْهِ) . وَهِشَام هَذَا هُوَ هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن الْوَلِيد بن
    الْمُغيرَة المَخْزُومِي، كَانَ واليا بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي ضرب سعيد بن الْمسيب أفضل التَّابِعين بالسياط، فويل لَهُ من ذَلِك

    ...........

    (6/220)
    اتّفق الْعلمَاء على كَرَاهَة ذَلِك، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْبدع الْمُنكرَة، خلافًا لأبي حنيفَة،فَإِنَّهُ قَالَ: يلْتَفت يمنة ويسرة كالأذان، نَقله الشَّيْخ أَبُو حَامِد. قلت: فِي هَذَا النَّقْل عَن أبي حنيفَة نظر، وَلَا يَصح ذَلِك عَنهُ، وَمن السّنة عندنَا أَن يتْرك الْخَطِيب السَّلَام من وَقت خُرُوجه إِلَى دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام أَيْضا، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: السّنة إِذا صعد الْمِنْبَر أَن يسلم على الْقَوْم إِذا أقبلهم بِوَجْهِهِ، كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: هَذَا الحَدِيث أوردهُ ابْن عدي من حَدِيث ابْن عمر فِي تَرْجَمَة عِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ضعفه ابْن حبَان.
    ........

    )6/221(

    اخْتلف فِي أول من قَالَهَا. فَقيل: دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَفِي اسناده ضعف،وَقيل: قس بن سَاعِدَة. وَقيل: يعرب بن قحطان. وَقيل: كَعْب بن لؤَي جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: سحبان بن وَائِل. وَفِي (غرائب مَالك) للدارقطني بِسَنَد ضَعِيف: (لما جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،قَالَ يَعْقُوب فِي جملَة كَلَامه: أما بعد، فَإنَّا أهل بَيت مُوكل بِنَا الْبلَاء) ، وَذكر الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عبد الله الرهاوي أَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رووا هَذِه اللَّفْظَة عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،مِنْهُم: سعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الله وَالْفضل ابْنا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب
    .........
    (6/229)
    وَفِي الحَدِيث أَن خطْبَة الْجُمُعَة خطبتان وَفِيه الْجُلُوس بَينهمَا لاستراحة الْخَطِيب وَنَحْوهَا،وهما واجبتان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) قلت: هَذَا أصل لَا يتَنَاوَل الْخطْبَة لِأَنَّهَا لَيست بِصَلَاة حَقِيقَة،وَقَالَ أَحْمد: رُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق أَنه قَالَ: رَأَيْت عليا يخْطب على الْمِنْبَر فَلم يجلس ختى فرغ، وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَفِيه اشْتِرَاط خطبتين لصِحَّة الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَته الْمَشْهُورَة عَنهُ،وَعند الْجُمْهُور: يَكْتَفِي بِخطْبَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَأبي ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
    ......
    (6/232*)
    قَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا صَرِيحَة فِي الدّلَالَة لمَذْهَب الشَّافِعِي، وَأحمد وَإِسْحَاق وفقهاء الْمُحدثين أَنه إِذا دخل الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب يسْتَحبّ لَهُ أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَيكرهُ الْجُلُوس قبل أَن يُصَلِّيهمَا. وَأَنه يسْتَحبّ أَن يتجوز فيهمَا ليسمع الْخطْبَة. وَحكي هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين. وَقَالَ القَاضِي: قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجُمْهُور السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ : لَا يُصَلِّيهمَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وحجتهم: الْأَمر بالإنصات للْإِمَام، وتأولوا هَذِه الْأَحَادِيث أَنه كَانَ عُريَانا فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقيامِ ليراه النَّاس ويتصدقوا عَلَيْهِ،وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل يردهُ صَرِيح قَوْله: (إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) وَهَذَا نَص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ صَحِيحا فيخالفه. قلت: أَصْحَابنَا لم يأولوا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِهَذَا الَّذِي ذكره حَتَّى يشنع عَلَيْهِم هَذَا التشنيع، بل أجابوا بأجوبة غير هَذَا. الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنصت لَهُ حَتَّى فرغ من صلَاته، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عبيد بن مُحَمَّد الْعَبْدي: حَدثنَا مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة عَن أنس،قَالَ: دخل رجل الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب،فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
    ..........
    (6/234)
    وَأثر عَلْقَمَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن القَاضِي بكار عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبراهيم قَالَ لعلقمة: أَتكَلّم وَالْإِمَام يخْطب وَقد خرج الإِمَام؟قَالَ: لَا ... إِلَى آخِره.
    وَأثر أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَنه: جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل. وَأثر مُجَاهِد أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ: كره أَن يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا.
    فَهَؤُلَاءِ السادات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار لم يعْمل أحد مِنْهُم بِمَا فِي حَدِيث سليك، وَلَو علمُوا أَنه يعْمل بِهِ لما تَرَكُوهُ، فَحِينَئِذٍ بَطل اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض.
    فَإِن قلت: روى الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي قَتَادَة السّلمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) ، فَهَذَا عَام يتَنَاوَل كل دَاخل فِي الْمَسْجِد، سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أَو غَيره. قلت: هَذَا على من دخل الْمَسْجِد فِي حَال تحل فِيهَا الصَّلَاة لَا مُطلقًا، ألاَ يرى أَن من دخل الْمَسْجِد عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، أَو عِنْد قِيَامهَا فِي كبد السَّمَاء، لَا يُصَلِّي فِي هَذِه الْأَوْقَات للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ؟ فَكَذَلِك لَا يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، لوُرُود وجوب الْإِنْصَات فِيهِ. وَالصَّلَاة حِينَئِذٍ مِمَّا يخل بالانصات. وَ
    نقل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه دخل ومروان يخْطب، فصلى الرَّكْعَتَيْنِ ، فَأَرَادَ حرس مَرْوَان أَن يمنعوه فَأبى حَتَّى صلاهما،ثمَّ قَالَ: مَا كنت لأدعهما بعد أَن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بهما. انْتهى. وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك،وَنقل أَيْضا عَن شَارِح التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: كل من نقل عَنهُ منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب مَحْمُول على من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة، وَكَيف يَقُول هَذَا الْقَائِل وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك؟ وإي مُخَالفَة تكون أقوى من هَذَا حَيْثُ جعل الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة؟وَكَيف يَقُول الشَّارِح التِّرْمِذِيّ: لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة؟ وَأي تَصْرِيح يكون أقوى من قَول عقبَة حَيْثُ أطلق على فعل هَذِه الصَّلَاة مَعْصِيّة؟فَلَو كَانَ قَالَ: يكره أَو لَا يفعل لَكَانَ منعا صَرِيحًا،فضلا أَنه قَالَ: مَعْصِيّة وَفعل الْمعْصِيَة حرَام، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ الْمعْصِيَة لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْوَقْت تخل بالإنصات الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون بِفِعْلِهَا تَارِكًا لِلْأَمْرِ، وتارك الْأَمر يُسمى عَاصِيا، وَفعله يُسمى مَعْصِيّة، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا الْإِطْلَاق مُبَالغَة.
    ..........
    (6/238)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء فكرهه مَالك فِي رِوَايَة وَأَجَازَهُ غَيره فِي كل الدُّعَاء وَبَعض الْعلمَاء جوزوه فِي الاسْتِسْقَاء فَقَط وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء السّنة فِي دُعَاء رفع الْبلَاء أَن يرفع يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهرهما إِلَى السَّمَاء وَفِي دُعَاء سُؤال شَيْء وتحصيله يَجْعَل بطنهما إِلَى السَّمَاء وَعَن مَالك بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ ببطون أكفكم وَلَا تسألوه بظهورها " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ سلمَان الْفَارِسِي
    ن عِنْد التِّرْمِذِيّ محسنا " إِن الله حَيّ كريم يستحيي أَن يرفع الرجل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا " قَالَ التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ بَعضهم فَلم يرفعهُ وَعَن أبي يُوسُف إِن شَاءَ رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء وَإِن شَاءَ أَشَارَ بإصبعيه وَفِي الْمُحِيط بإصبعه السبابَة وَفِي التَّجْرِيد من يَده الْيُمْنَى وَقَالَ ابْن بطال رفع الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة فِي معنى الضراعة إِلَى الْجَلِيل والتذلل لَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيّ رفع الْأَيْدِي يَوْم الْجُمُعَة مُحدث وَقَالَ ابْن سِيرِين أول من رفع يَدَيْهِ فِي الْجُمُعَة عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وَفِيه الاسْتِسْقَاء بِالدُّعَاءِ بِدُونِ صَلَاة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَبِه احْتج على ذَلِك وَفِيه قيام الْوَاحِد بِأَمْر الْعَامَّة.
    .......
    (6/242)
    بأصح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي تعْيين السَّاعَة الْمَذْكُورَة،وهما حديثان: أَحدهمَا من جُلُوس الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِلَى انْصِرَافه من الصَّلَاة. وَالْآخر: من بعد الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، فَفِي الأول حَال الْخطْبَة كُله،وَلَيْسَت صَلَاة حَقِيقَة وَفِي الثَّانِي: لَيست سَاعَة صَلَاة أَلا ترى أَن أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،لما روى حَدِيثه الْمَذْكُور قَالَ: (فَلَقِيت عبد الله بن سَلام، فَذكرت لَهُ هَذَا الحَدِيث،فَقَالَ: أَنا أعلم تِلْكَ السَّاعَة،فَقلت: أَخْبرنِي بهَا وَلَا تضنن بهَا عَليّ {قَالَ: هِيَ بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغرب الشَّمْس. قلت: وَكَيف تكون بعد الْعَصْر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم وَهُوَ يُصَلِّي) ، وَتلك السَّاعَة لَا يُصَلِّي فِيهَا؟قَالَ عبد الله ابْن سَلام: أَلَيْسَ قد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من جلس مَجْلِسا ينْتَظر الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة؟قلت: بلَى،قَالَ: فَهُوَ ذَاك) انْتهى. فَهَذَا دلّ على أَن المُرَاد من الصَّلَاة الدُّعَاء وَمن الْقيام الْمُلَازمَة والمواظبة لَا حَقِيقَة الْقيام،
    .......
    (ج6/243)
    ن فِي هَذِه السَّاعَة اخْتِلَافا هَل هِيَ بَاقِيَة أَو رفعت؟ فَزعم قوم أَنَّهَا رفعت، حَكَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر وزيفه،وَقَالَ عِيَاض: رده السّلف على قَائِله، وَاحْتج أَبُو عمر فِيهِ بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن دَاوُد بن أبي عَاصِم (عَن عبد الله بن يحنس مولى مُعَاوِيَة،قَالَ: قلت لأبي هُرَيْرَة: زَعَمُوا أَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة قد رفعت؟قَالَ: كذب من قَالَ ذَلِك. قلت: فَهِيَ بَاقِيَة فِي كل جُمُعَة اسْتَقْبلهَا؟قَالَ: نعم) . إِسْنَاده قوي، قَالَ أَبُو عمر على هَذَا تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار. وَفِي (صَحِيح الْحَاكِم) من حَدِيث أبي سَلمَة: (قلت: يَا أَبَا سعيد، إِن أَبَا هُرَيْرَة حَدثنَا عَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، هَل عنْدك فِيهَا علم؟فَقَالَ: سَأَلنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا،فَقَالَ: إِنِّي كنت أعلمها ثمَّ أنسيتها كَمَا أنسيت لَيْلَة الْقدر) . ثمَّ قَالَ: صَحِيح. وخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَفِي (كتاب ابْن زَنْجوَيْه) : عَن مُحَمَّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ أَن كَلْبا مر بعد الْعَصْر فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ رجل من الصَّحَابَة: اللَّهُمَّ اقتله،فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد وَافق هَذَا السَّاعَة الَّتِي إِذا دعِي اسْتُجِيبَ.
    .........
    (6/244)
    وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أصح الْأَحَادِيث فِيهَا حَدِيث أبي مُوسَى، وَأشهر الْأَقْوَال فِيهَا قَول عبد الله بن سَلام. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُسلم أَنه قَالَ: حَدِيث أبي مُوسَى أَجود شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وأصحه، وَبِذَلِك قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ وَجَمَاعَة آخَرُونَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هُوَ نَص فِي مَوضِع الْخلاف فَلَا يلْتَفت إِلَى غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح بل الصَّوَاب، وَجزم فِي (الرَّوْضَة) أَنه هُوَ الصَّوَاب، وَرجح أَيْضا بِكَوْنِهِ مَرْفُوعا صَرِيحًا فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ، وَذهب الأخرون إِلَى تَرْجِيح قَول عبد الله بن سَلام،فَحكى التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: أَكثر الْأَحَادِيث على ذَلِك. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه أثبت شَيْء فِي هَذَا الْبَاب
    وَقَالَ شَيخنَا شَارِح التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَصَحهَا وَلَيْسَ بَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَبَين حَدِيث أبي مُوسَى اخْتِلَاف وَلَا تبَاين،
    وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف بَين حَدِيث أبي مُوسَى وَبَين الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد الْعَصْر أَو آخر سَاعَة مِنْهُ، فإمَّا أَن يُصَار إِلَى الْجمع أوالترجيح، فَأَما الْجمع فَإِنَّمَا يُمكن بِأَن يُصَار إِلَى القَوْل بالانتقال، وَإِن لم يقل بالانتقال يكون الْأَمر بالترجيح، فَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد الْعَصْر أرجح لكثرتها واتصالها بِالسَّمَاعِ، وَلِهَذَا لم يخْتَلف فِي رَفعهَا، والاعتضاد بِكَوْنِهِ قَول أَكثر الصَّحَابَة فَفِيهَا أوجه من وُجُوه التَّرْجِيح.
    وَفِي حَدِيث أبي مُوسَى وَجه وَاحِد من وُجُوه التَّرْجِيح، وَهُوَ كَونه فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ دون بَقِيَّة الْأَحَادِيث،وَلَكِن عَارض كَونه فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ مُتَّصِلا بِالسَّمَاعِ بَين مخرمَة بن بكير وَبَين أَبِيه بكير بن عبد الله بن الْأَشَج،قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مخرمَة ثِقَة وَلم يسمع من أَبِيه،وَقَالَ عَبَّاس الدوري عَن ابْن معِين: مخرمَة ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء،يَقُولُونَ: إِن حَدِيثه عَن أَبِيه كتاب. وَالْأَمر الثَّانِي: أَن أَكثر الروَاة جَعَلُوهُ من قَول أبي بردة مَقْطُوعًا، وَأَنه لم يرفعهُ غير مخرمَة عَن أَبِيه، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا استدركه الدَّارَقُطْنِي ّ على مُسلم.
    .........
    (6/248)
    ن الْجَمَاعَة من شَرَائِط الْجُمُعَة لِأَنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْهَا. وأجمعت الْأمة على أَن الْجُمُعَة لَا تصح من الْمُنْفَرد إلاّ مَا ذكر ابْن حزم فِي (الْمحلى) عَن بعض النَّاس: أَن الْفَذ يُصَلِّي الْجُمُعَة كالظهر. ثمَّ أقل الْجَمَاعَة عِنْد أبي حنيفَة ثَلَاثَة سوى الإِمَام، وَبِه قَالَ زفر وَاللَّيْث بن سعد، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري فِي قَول وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: اثْنَان سوى الإِمَام. وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالثَّوْري فِي قَول: وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، ثمَّ الْجَمَاعَة
    ........
    (6/248)
    وَفِي الْعدَد الَّذِي تصح بِهِ الْجُمُعَة أَرْبَعَة عشر قولا. ثَلَاثَة سوى الإِمَام عِنْد أبي حنيفَة، وإثنان سواهُ عِنْدهمَا، وَوَاحِد سواهُ عِنْد النَّخعِيّ وَالْحسن بن حَيّ وَجَمِيع الظَّاهِرِيَّة، وَسَبْعَة عَن عِكْرِمَة، وَتِسْعَة وَاثنا عشر عَن ربيعَة، وَثَلَاثَة عشر وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ عَن مَالك فِي رِوَايَة ابْن حبيب، وَأَرْبَعُونَ موَالِي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَأَرْبَعُونَ أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لَا يظعنون صيفا وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة عِنْد الشَّافِعِي، وَأحمد فِي ظَاهر قَوْله، وَخَمْسُونَ رجلا عَن أَحْمد فِي رِوَايَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي رِوَايَة، وَثَمَانُونَ ذكره الْمَازرِيّ وَغير مَحْدُود بِعَدَد ذكره الْمَازرِيّ أَيْضا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث دَلِيل لمَالِك حَيْثُ قَالَ: تَنْعَقِد الْجُمُعَة بإثني عشر، وَأجَاب الشَّافِعِي بِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنهم رجعُوا أَو رَجَعَ مِنْهُم تَمام أَرْبَعِينَ، فَأَتمَّ بهم الْجُمُعَة.
    ...
    (6/250)
    وَعند ابْن مَاجَه بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْكَع قبل الْجُمُعَة أَرْبعا لَا يفصل فِي شَيْء مِنْهُنَّ) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) : بِرِجَال ابْن مَاجَه، وَهِي رِوَايَة بَقِيَّة عَن مُبشر بن عبيد عَن حجاج بن أَرْطَاة عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، فَزَاد فِيهِ: (وَبعدهَا أَرْبعا) . قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : هَذَا حَدِيث بَاطِل اجْتمع فِيهِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة وهم ضعفاء، ومبشر وضَّاع صَاحب أباطيل. قلت: بَقِيَّة بن الْوَلِيد موثق وَلكنه مُدَلّس، وحجاج صَدُوق روى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وعطية مَشاهُ يحيى بن معِين فَقَالَ فِيهِ: صَالح وَلَكِن ضعفهما الْجُمْهُور
    ........
    (6/256)
    قَالَ الْخطابِيّ: صَلَاة الْخَوْف أَنْوَاع صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام مُخْتَلفَة وأشكال متباينة يتحَرَّى فِي كلهَا مَا هُوَ أحوط للصَّلَاة وأبلغ فِي الخراسة، فَهِيَ على اخْتِلَاف صورها متفقة الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) : رُوِيَ فِي صَلَاة الْخَوْف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُجُوه كَثِيرَة فَذكر مِنْهَا سِتَّة أوجه: الأول: مَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر، قَالَ بِهِ من الْأَئِمَّة الْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب. قلت: قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على مَا ذكرنَا. الثَّانِي: حَدِيث صَالح بن خَوات عَن سهل بن أبي حثْمَة، قَالَ بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر. الثَّالِث: حَدِيث ابْن مَسْعُود قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إلاّ أَبَا يُوسُف. الرَّابِع: حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي، قَالَ بِهِ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري. الْخَامِس: حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ بِهِ الثَّوْريّ فِي (مجيزه) وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: حُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله. السَّادِس: حَدِيث أبي بكرَة أَنه صلى بِكُل طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يُفْتِي بِهِ، وَقد حكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي: أَنه لَو صلى فِي الْخَوْف بطَائفَة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم فصلى بالطائفة الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم كَانَ جَائِزا. قَالَ: وَهَكَذَا صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطن نخل، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَرُوِيَ أَن صلَاته هَكَذَا كَانَت يَوْم ذَات الرّقاع، وَذكر أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) لصَلَاة الْخَوْف ثَمَانِيَة صور، وَذكرهَا ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) تِسْعَة أَنْوَاع، وَذكر القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) لصَلَاة الْخَوْف ثَلَاثَة عشر وَجها، وَذكر الثَّوْريّ أَنَّهَا تبلغ سِتَّة عشر وَجها، وَلم يبين شَيْئا من ذَلِك. وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : قد جمعت طرق الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صَلَاة الْخَوْف فبلغت سَبْعَة عشر وَجها، وبيّنها، لَكِن يُمكن التَّدَاخُل فِي بَعْضهَا. وَحكى ابْن الْقصار الْمَالِكِي: أَن
    لنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا عشر مَرَّات،وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: صلاهَا أَرْبعا وَعشْرين مرّة وبيّن القَاضِي عِيَاض تِلْكَ المواطن،فَقَالَ: وَفِي حَدِيث ابْن أبي حثْمَة وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر أَنه صلاهَا فِي يَوْم ذَات الرّقاع سنة خمس من الْهِجْرَة، وَفِي حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي أَنه صلاهَا بعسفان وَيَوْم بني سليم، وَفِي حَدِيث جَابر فِي غزَاة جُهَيْنَة وَفِي غزَاة بني محَارب بِنَخْل، وروى أَنه صلاهَا فِي غَزْوَة نجد يَوْم ذَات الرّقاع، وَهِي غَزْوَة نجد وغزوة غطفان.
    .............
    (6/264)
    وَسميت بالأحزاب لِأَن الْكفَّار تألفوا من قبائل الْعَرَب وهم عشرَة آلَاف نفس وَكَانُوا ثَلَاثَة عَسَاكِر وَجَنَاح الْأَمر إِلَى أبي سُفْيَان وَسميت أَيْضا بغزوة الخَنْدَق لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سمع بهم وَمَا جمعُوا لَهُ من الْأَمر ضرب الخَنْدَق على الْمَدِينَة قَالَ ابْن هِشَام يُقَال أَن الَّذِي أَشَارَ بِهِ سلمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ الطَّبَرِيّ والسهيلي أول من حفر الْخَنَادِق منوجهر بن أيرج وَكَانَ فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَذكر ابْن إِسْحَق لما انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الخَنْدَق رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة والمسلمون قد وضعُوا السِّلَاح فَلَمَّا كَانَ الظّهْر أَتَى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لَهُ مَا وضعت الْمَلَائِكَة السِّلَاح بعد وَإِن الله يَأْمُرك أَن تسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَائِد إِلَيْهِم فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا فَأذن فِي النَّاس من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يصلين الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة قَالَ ابْن سعد ثمَّ سَار إِلَيْهِم وهم ثَلَاثَة آلَاف وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لتسْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة
    ............
    (6/276)
    وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه خرج يَوْمًا وَعَلِيهِ حلَّة يمَان، وعَلى فرقد جُبَّة صوف، فَجعل فرقد ينظر ويمس حلَّة الْحسن ويسبح،فَقَالَ لَهُ: يَا فرقد ثِيَابِي ثِيَاب أهل الْجنَّة وثيابك ثِيَاب أهل النَّار يَعْنِي القسيسين والرهبان،ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا فرقد التَّقْوَى لست فِي هَذَا الكساء، وَإِنَّمَا التَّقْوَى مَا وقر فِي الصَّدْر وَصدقه الْعَمَل.
    ........
    _(6/269)
    صَاحب النِّهَايَة هُوَ اسْم حصن لِلْأَوْسِ وَفِي كتاب أبي الْفرج الْأَصْفَهَانِي فِي تَرْجَمَة أبي قيس بن الأسلت هُوَ مَوضِع فِي ديار بني قُرَيْظَة فِيهِ أَمْوَالهم وَكَانَ مَوضِع الْوَقْعَة فِي مزرعة لَهُم هُنَاكَ وَقَالَ الْخطابِيّ يَوْم بُعَاث يَوْم مَشْهُور من أَيَّام الْعَرَب كَانَت فِيهِ مقتلة عَظِيمَة لِلْأَوْسِ على الْخَزْرَج وَبقيت الْحَرْب مائَة وَعِشْرُونَ سنة إِلَى الْإِسْلَام على مَا ذكره ابْن اسحق وَغَيره وَكَانَ أول هَذِه الْوَقْعَة فِيمَا ذكره ابْن اسحق وَهِشَام ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيرهمَا أَن الْأَوْس والخزرج لما نزلُوا الْمَدِينَة وجدوا الْيَهُود مستوطنين بهَا فحالفوهم وَكَانُوا تَحت قهرهم ثمَّ غلبوا على الْيَهُود لعنهم الله بمساعدة أبي جبلة ملك غَسَّان فَلم يزَالُوا على اتِّفَاق بَينهم حَتَّى كَانَت أول حَرْب وَقعت بَينهم حَرْب سمير بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء بِسَبَب رجل يُقَال لَهُ كَعْب من بني ثَعْلَبَة نزل على مَالك بن العجلان الخزرجي فحالفه فَقتله رجل من الْأَوْس يُقَال لَهُ سمير فَكَانَ ذَلِك سَبَب الْحَرْب بَين الْحَيَّيْنِ ثمَّ كَانَت بَينهم وقائع من أشهرها يَوْم السرارة بمهملات وَيَوْم فارع بفاء وَرَاء وَعين مُهْملَة وَيَوْم الْفجار الأول وَالثَّانِي وَحرب حُصَيْن بن الأسلت وَحرب حَاطِب بن قيس إِلَى أَن كَانَ آخر ذَلِك يَوْم بُعَاث وَكَانَ رَئِيس الْأَوْس فِيهِ حضير وَالِد أسيد وَكَانَ يُقَال لَهُ حضير الْكَتَائِب وجرح يَوْمئِذٍ ثمَّ مَاتَ بعد مُدَّة من جراحته وَكَانَ رَئِيس الْخَزْرَج عَمْرو بن النُّعْمَان وجاءه سهم فِي الْقِتَال فصرعه فهزموا بعد أَن كَانُوا قد استظهروا ولحسان وَغَيره من الْخَزْرَج وَكَذَا لقيس بن الْحطيم وَغَيره من الْأَوْس فِي ذَلِك أشعار كَثِيرَة مثبتة فِي دواوينهم
    ......
    .........
    ( 2 )
    (6/270)
    وَرِوَايَة للنسائي من طَرِيق أبي سَلمَة عَنْهَا " دخل الْحَبَشَة الْمَسْجِد يَلْعَبُونَ فَقَالَ لي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا حميراء تحبين أَن تنظري إِلَيْهِم فَقلت نعم " إِسْنَاده صَحِيح قَالَ بَعضهم وَلم أر فِي حَدِيث صَحِيح ذكر الْحُمَيْرَاء إِلَّا فِي هَذَا (قلت) رُوِيَ من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه " عَن عَائِشَة قَالَت استخنت مَاء فِي الشَّمْس فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تفعلي يَا حميراء فَإِنَّهُ يُورث البرص " وَهَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا فَفِيهِ ذكر الْحُمَيْرَاء وَفِي مُسْند السراج من حَدِيث أنس " أَن الْحَبَشَة كَانَت تزفن بَين يَدي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويتكلمون بِكَلَام لَهُم فَقَالَ مَا يَقُولُونَ قَالَ يَقُولُونَ مُحَمَّد عبد صَالح "
    ........
    (6/271)
    قَالَ الْقُرْطُبِيّ أما الْغناء فَلَا خلاف فِي تَحْرِيمه لِأَنَّهُ من اللَّهْو واللعب المذموم بالِاتِّفَاقِ فَأَما مَا يسلم من الْمُحرمَات فَيجوز الْقَلِيل مِنْهُ فِي الأعراس والأعياد وشبههما وَمذهب أبي حنيفَة تَحْرِيمه وَبِه يَقُول أهل الْعرَاق وَمذهب الشَّافِعِي كَرَاهَته وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك وَاسْتدلَّ جمَاعَة من الصُّوفِيَّة بِحَدِيث الْبَاب على إِبَاحَة الْغناء وسماعه بِآلَة وَبِغير آلَة وَيرد عَلَيْهِم بِأَن غناء الجاريتين لم يكن إِلَّا فِي وصف الْحَرْب والشجاعة وَمَا يجْرِي فِي الْقِتَال فَلذَلِك رخص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ وَأما الْغناء الْمُعْتَاد عَن المشتهرين بِهِ الَّذِي يُحَرك السَّاكِن ويهيج الكامن الَّذِي فِيهِ وصف محَاسِن الصّبيان وَالنِّسَاء وَوصف الْخمر وَنَحْوهَا من الْأُمُور الْمُحرمَة فَلَا يخْتَلف فِي تَحْرِيمه وَلَا اعْتِبَار لما أبدعته الجهلة من الصُّوفِيَّة فِي ذَلِك فَإنَّك إِذا تحققت أَقْوَالهم فِي ذَلِك وَرَأَيْت أفعالهم وقفت على آثَار الزندقة مِنْهُم وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا مُجَرّد الْغناء وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهِ مَعْصِيّة حَتَّى قَالُوا اسْتِمَاع الْقُرْآن بالألحان مَعْصِيّة والتالي وَالسَّامِع آثمان وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} جَاءَ فِي التَّفْسِير أَن المُرَاد بِهِ الْغناء وَفِي فردوس الْأَخْبَار " عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ إحذروا الْغناء فَإِنَّهُ من قبل إِبْلِيس وَهُوَ شرك عِنْد الله وَلَا يُغني إِلَّا الشَّيْطَان " وَلَا يلْزم من إِبَاحَة الضَّرْب بالدف فِي الْعرس وَنَحْوه إِبَاحَة غَيره من الْآلَات كالعود وَنَحْوه وَسُئِلَ أَبُو يُوسُف عَن الدُّف أتكرهه فِي غير الْعرس مثل الْمَرْأَة فِي منزلهَا وَالصَّبِيّ قَالَ فَلَا كَرَاهَة وَأما الَّذِي يَجِيء مِنْهُ اللّعب الْفَاحِش والغناء فَإِنِّي أكرهه
    ...........
    (6/279)
    وروى ابْن سعد بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى نَافِع قَالَ: كَانَ إسم كثير بن الصَّلْت قَلِيلا، فَسَماهُ عمر كثيرا، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فوصله بِذكر ابْن عمر وَرَفعه بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأول أصح. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : كثير بن الصَّلْت بن معدي كرب الْكِنْدِيّ أَخُو زبيد،ولد فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم روى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن كثير بن الصَّلْت كَانَ اسْمه: قَلِيلا فَسَماهُ النَّبِي كثيرا. الْأَصَح أَن الَّذِي سَمَّاهُ كثيرا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. انْتهى.
    .........
    (6/280)
    ن أول من اتخذ الْمِنْبَر فِي الْمصلى مَرْوَان،وَقد رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من رِوَايَة عِيَاض: (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج يَوْم الْأَضْحَى. .) الحَدِيث،وَفِيه: (فَخرجت محاضرا مَرْوَان حَتَّى أَتَيْنَا الْمصلى، فَإِذا كثير بن الصَّلْت قد بنى منبرا من طين وَلبن. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلف فِي أول من فعل ذَلِك. فَقيل: عمر بن الْخطاب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَهُوَ شَاذ. وَقيل: عُثْمَان، وَلَيْسَ لَهُ أصل. وَقيل: مُعَاوِيَة، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض. وَقيل: زِيَاد بِالْبَصْرَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، حَكَاهُ عِيَاض أَيْضا. بل الصَّوَاب أَن أول من فعله مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا اخْتصَّ كثير بن الصَّلْت بِبِنَاء الْمِنْبَر بالمصلى لِأَن دَاره كَانَت مجاورة بالمصلى على مَا يَجِيء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْعلم الَّذِي عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت. قَالَ ابْن سعيد: كَانَت دَار كثير بن الصَّلْت قبْلَة الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ وَهِي تطل على بطحان الْوَادي الَّذِي فِي وسط الْمَدِينَة
    ........
    (6/282)
    ن لَا أَذَان لصَلَاة الْعِيدَيْنِ وَلَا إِقَامَة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة،قَالَ: (صليت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْعِيدَيْنِ غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث طَاوُوس (عَن بن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان) . وَأخرجه ابْن مَاجَه،وروى الْبَزَّار من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي يَوْم الْأَضْحَى بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير: من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا يُصَلِّي بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن مهْدي: (عَن سماك،قَالَ: رَأَيْت الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَالضَّحَّاك وزيادا يصلونَ يَوْم الْفطر والأضحى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة)
    ........
    (6/283)
    قَالَ ابْن بزيزة: انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن صَلَاة الْعِيد رَكْعَتَانِ لَا أَكثر إلاّ مَا رُوِيَ عَن عَليّ فِي (الْجَامِع) : أَربع، فَإِن صليت فِي الْمصلى فَهِيَ رَكْعَتَانِ كَقَوْل الْجُمْهُور.

    أَن الحَدِيث يدل على أَن لَا تنفل قبل صَلَاة الْعِيد وَلَا بعْدهَا، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري إِلَى أَنه يجوز التَّنَفُّل بعد صَلَاة الْعِيد، وَلَا يتَنَفَّل قبلهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَنَفَّل قبلهَا وَبعدهَا،وروى ابْن وهب وَأَشْهَب عَن مَالك: لَا يتَنَفَّل قبلهَا وَيُبَاح بعْدهَا. وَفِي (البدرية) : يجوز فِي بَيته. وَعَن ابْن حبيب: قَالَ قوم: هِيَ سبْحَة ذَلِك الْيَوْم يقْتَصر عَلَيْهَا إِلَى الزَّوَال،قَالَ: وَهُوَ أحب إِلَيّ. وَفِي (الذَّخِيرَة) : لَيْسَ قبل صَلَاة الْعِيد صَلَاة، كَذَا ذكره مُحَمَّد بن الْحسن فِي الأَصْل، وَإِن شَاءَ تطوع قبل الْفَرَاغ من الْخطْبَة،يَعْنِي: لَيْسَ قبلهَا صَلَاة مسنونة لَا إِنَّهَا تكره إلاّ أَن الْكَرْخِي نَص على الْكَرَاهَة قبل الْعِيد حَيْثُ قَالَ: يكره لمن حضر الْمصلى التَّنَفُّل قبل صَلَاة الْعِيد.
    قد أخرج ابْن مَاجَه حَدِيث عبد الله بن عمر وَمن حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا) ، وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ ابْن مَاجَه.
    ..........
    (6/287)
    حكى الزبير فِي (الْأَنْسَاب) : أَن عبد الْملك لما كتب إِلَى الْحجَّاج: أَن لَا يُخَالف ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، شقّ عَلَيْهِ، فَأمر رجلا مَعَه حَرْبَة،يُقَال: إِنَّهَا مَسْمُومَة، فلصق ذَلِك الرجل بِهِ، فَأمر الحربة على قدمه فَمَرض مِنْهَا أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ. وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين
    ........
    (6/289)
    عبد الله بن حميد فِي تَفْسِيره: حَدثنَا قبيصَة عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج: (عَن عَمْرو بن دِينَار: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: اذْكروا الله فِي أَيَّام معدودات: الله أكبر،واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات: الله أكبر الْأَيَّام المعدودات أَيَّام التَّشْرِيق وَالْأَيَّام المعلومات الْعشْر) . وَاخْتلف السّلف فِي الْأَيَّام المعدودات والمعلومات، فالأيام المعلومات الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة، رَوَاهُ عَنهُ الْكَرْخِي، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة،وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَن المعلومات هِيَ: ثَلَاثَة أَيَّام النَّحْر،والمعدودات: أَيَّام التَّشْرِيق،وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد: سميت معدودات لقلتهن ومعلومات لجزم النَّاس على علمهَا لأجل فعل الْمَنَاسِك فِي الْحَج،وَقَالَ الشَّافِعِي: من الْأَيَّام المعلومات النَّحْر،وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعمر: يَوْم النَّحْر ويومان بعده، وَبِه قَالَ مَالك. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَإِلَيْهِ أذهب لقَوْله تَعَالَى: {لِيذكرُوا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 28) . وَهِي أَيَّام النَّحْر،وَسميت معدودات لقَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 203) . وَسميت أَيَّام التَّشْرِيق معدودات لِأَنَّهُ إِذا زيد عَلَيْهَا فِي الْبَقَاء كَانَ حصرا. لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يبْقين مُهَاجِرِي بِمَكَّة بعد قَضَاء نُسكه فَوق ثَلَاث) .
    ......
    (296)
    حدث مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أُخْته حَفْصَة بنت سِيرِين وَيُقَال هَذَا كَانَ فِي ذَلِك الزَّمَان لأمنهن عَن الْمفْسدَة بِخِلَاف الْيَوْم وَلِهَذَا صَحَّ " عَن عَائِشَة لَو رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل " فَإِذا كَانَ الْأَمر قد تغير فِي زمن عَائِشَة حَتَّى قَالَت هَذَا القَوْل فَمَاذَا يكون الْيَوْم الَّذِي عَم الْفساد فِيهِ وفشت الْمعاصِي من الْكِبَار وَالصغَار فنسأل الله الْعَفو والتوفيق

    ..........
    (6/301)
    أَن الصَّدَقَة من دوافع الْعَذَاب لِأَنَّهُ أمرهن بِالصَّدَقَةِ ثمَّ علل بأنهن أَكثر أهل النَّار لما يَقع مِنْهُنَّ من كفران النعم
    ............
    (6/307)
    فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِ يّ: (كَانَ إِذا خرج إِلَى الْعِيد رَجَعَ من غير الطَّرِيق الَّذِي ذهب فِيهِ) .
    وَالْحكمَة فِيهِ على مَا ذكره أَكثر الشُّرَّاح أَنه ينتهى إِلَى عشرَة أوجه، وَلَكِن أَكثر من ذَلِك، بل رُبمَا ذكرُوا فِيهِ مَا يَنْتَهِي إِلَى عشْرين وَجها. الأول: ى نه فعل ذَلِك لتشهد لَهُ الطريقان. الثَّانِي: ليشهد لَهُ الْإِنْس وَالْجِنّ من سكان الطَّرِيق. الثَّالِث: ليسوي بَينهمَا فِي مرتبَة الْفضل بمرورة. الرَّابِع: لِأَن طَرِيقه إِلَى الْمصلى كَانَت على الْيَمين فَلَو رَجَعَ مِنْهَا لرجع على جِهَة الشمَال، فَرجع من غَيرهَا. الْخَامِس: لإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام فيهمَا. السَّادِس: لإِظْهَار ذكر الله تَعَالَى. السَّابِع: ليغيظ الْمُنَافِقين أَو الْيَهُود. الثَّامِن: ليرهبهم بِكَثْرَة من مَعَه. التَّاسِع: للحذر من كيد الطَّائِفَتَيْن ِ أَو من إِحْدَاهمَا. الْعَاشِر: ليعم أهل الطَّرِيقَيْنِ بالسرور بِهِ. الْحَادِي عشر: ليتبركوا بمروره وبرؤيته. الثَّانِي عشر: ليقضي حَاجَة من يحْتَاج إِلَيْهَا من نَحْو صَدَقَة أَو استرشاد إِلَى شَيْء أَو استشفاع وَنَحْو ذَلِك.
    ........
    (6/308)
    وَقَالَ الشَّافِعِي: من فَاتَتْهُ صَلَاة الْعِيد يُصَلِّي وَحده كَمَا يُصَلِّي مَعَ الإِمَام،وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمُنْفَرد: هَل يُصَلِّي صَلَاة الْعِيد؟ عندنَا لَا يُصَلِّي، وَعِنْده يُصَلِّي. وَقَالَ السَّرخسِيّ: وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، الْأَصَح قَضَاؤُهَا، فَإِن أمكن جمعهم فِي يومهم صلى بهم، وإلاّ صلاهَا من الْغَد، وَهُوَ فرع قَضَاء النَّوَافِل عِنْده،وعَلى القَوْل الآخر: هِيَ كَالْجُمُعَةِ يشْتَرط لَهَا الْجَمَاعَة وَالْأَرْبَعُون َ وَدَار الْإِقَامَة، وَفعله فِي الْغَد إِن قُلْنَا أَدَاء لَا يُصليهَا فِي بَقِيَّة الْيَوْم، وإلاّ صلاهَا فِي بَقِيَّته، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وتأخرها عَنهُ لَا يسْقط أبدا. وَقيل: إِلَى آخر الشَّهْر.
    وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فقد قَالَت طَائِفَة: إِذا فَاتَت صَلَاة الْعِيد يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، إلاّ أَن مَالِكًا اسْتحبَّ لَهُ ذَلِك من غيرإيجاب،وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يجْهر بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يكبر تَكْبِير الإِمَام، وَلَيْسَ بِلَازِم. وَقَالَت طَائِفَة: يُصليهَا إِن شَاءَ أَرْبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأحمد،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَاءَ صلى وَإِن شَاءَ لم يصل، فَإِن شَاءَ صلى أَرْبعا، وَإِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاق: إِن صلى فِي الْجَبانَة صلى كَصَلَاة الإِمَام، فَإِن لم يصلِ فِيهَا صلى أَرْبعا.
    وكَذالِكَ النِّسَاءُ
    قالَ عَطَاءٌ إذَا فَاتَهُ العِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ

    ..............
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    فضل من الله ونعمة
    انتهينا من المجلد السادس
    ويليه " المجلد السابع "
    كتاب " الوتر
    ..........

  17. #237
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    وبه نستعين
    الموافق 3 / محرم / 1442 هجري
    الموافق 22/ اغسطس / 2020 ميلادي

    " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "
    ختم وتلخيص المجلد السابع " من " عمدة القاري " للحافظ العيني رحمه الله


    المجلد السابع "
    كتاب " الوتر "
    (7/3)
    احْتج بِهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَهُوَ أَن يسلم فِي آخر كل رَكْعَتَيْنِ، وَأما صَلَاة النَّهَار فأربع عِنْدهمَا،وَعند أبي حنيفَة: أَربع فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، وَعند الشَّافِعِي فيهمَا. مثنى مثنى، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ الْأَرْبَعَة من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ،وَبِمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَلأبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي اللَّيْل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث زُرَارَة بن أوفى، (عَن عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوف اللَّيْل،فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة، ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه)
    ...............
    (7/3)
    وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار،وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ. وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) : إِسْنَاده جيد إلاّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار،مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وطاووس، والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار،وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) غير مَحْفُوظ، وَإِنَّمَا تعرف صَلَاة النَّهَار عَن يعلى بن عَطاء عَن عَليّ الْبَارِقي عَن ابْن عمر، وَقد خَالفه نَافِع وَهُوَ أحفظ مِنْهُ فَذكر إِن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى وَالنَّهَار أَرْبعا. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: سُئِلَ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ عَن حَدِيث الْبَارِقي هَذَا: أصحيح هُوَ؟قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه زِيَادَة من ثِقَة فَهِيَ مَقْبُولَة. قلت: لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لخرجه البُخَارِيّ هُنَا،وَقَالَ يحيى: كَانَ شُعْبَة يَنْفِي هَذَا الحَدِيث، وَرُبمَا لم يرفعهُ، وروى إِبْرَاهِيم الحنيني عَن مَالك والنمري عَن نَافِع عَن ابْن عمر،يرفعهُ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة الحنيني خطأ، وَلم يُتَابِعه عَن مَالك أحد.

    ...............
    (7/4)
    قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح الإيتار بِوَاحِدَة وَلَا تكون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة صَلَاة قطّ،وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ترد عَلَيْهِ قلت: مَعْنَاهُ يُوتر بِسَجْدَة أَي: بِرَكْعَة وَرَكْعَتَيْنِ قبله فَيصير وتره ثَلَاثًا ونفله ثمانيا، والركعتان للفجر، وَلأبي حنيفَة أَيْضا أَحَادِيث صَحِيحَة ترد عَلَيْهِ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة،قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسلم فِي رَكْعَتي الْوتر) ،وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة،قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر بِثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ) .
    .........
    (7/5)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ أَصْحَابنَا: لم يقل أحد من الْعلمَاء: إِن الرَّكْعَة الْوَاحِدَة لَا يَصح الإيتار بهَا إلاّ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمن تابعهما قلت: عجبا للنووي كَيفَ ينْقل هَذَا النَّقْل الْخَطَأ وَلَا يردهُ مَعَ علمه بخطئه، وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ أَن الإيتار بِثَلَاث، وَلَا تجزى الرَّكْعَة الْوَاحِدَة. وروى الطَّحَاوِيّ: عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه أثبت الْوتر بِالْمَدِينَةِ بقول الْفُقَهَاء: ثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ، واتفاق الْفُقَهَاء بِالْمَدِينَةِ على اشْتِرَاط الثَّلَاث بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة يبين لَك خطأ نقل النَّاقِل اخْتِصَاص ذَلِك بِأبي حنيفَة وَالثَّوْري وأصحابهما. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا خشيت الصُّبْح فأوتر بِرَكْعَة؟) قلت: مَعْنَاهُ مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا،وَلذَلِك قَالَ: (توتر لَك مَا قبلهَا) ، وَمن يقْتَصر على رَكْعَة وَاحِدَة كَيفَ توتر لَهُ مَا قبلهَا وَلَيْسَ قبلهَا شَيْء؟
    ........
    (7/5)
    وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : جُمْهُور الْعلمَاء على أَن وَقت الْوتر يخرج بِطُلُوع الْفجْر،وَقيل: إِنَّه يَمْتَد بعد الْفجْر إِلَى أَن يصلى الْفجْر. قَالَ ابْن بزيزة: ومشهور مَذْهَب مَالك أَن يصليه بعد طُلُوع الْفجْر مَا لم يصل الصُّبْح، والشاذ من مذْهبه إِنَّه لَا يُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر. قَالَ: وبالمشهور من مذْهبه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ،وَمن السّلف: ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعبادَة بن الصَّامِت وَحُذَيْفَة وَأَبُو الدَّرْدَاء وَعَائِشَة. وَقَالَ طَاوُوس: يُصَلِّي الْوتر بعد صَلَاة الصُّبْح،وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالْحسن وَاللَّيْث: يُصَلِّي وَلَو طلعت الشَّمْس،وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يُوتر من الْقَابِلَة، وَفِي (المُصَنّف) : عَن الْحسن قَالَ: لَا وتر بعد الْغَدَاة،وَفِي لفظ: (إِذا طلعت الشَّمْس فَلَا وتر) ،وَقَالَ الشّعبِيّ: من صلى الْغَدَاة وَلم يُوتر فَلَا وتر عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَه مَكْحُول وَسَعِيد بن جُبَير.
    .......
    (7/6)
    قَالَ الطَّحَاوِيّ: إِذا جمعت مَعَاني هَذِه الْأَحَادِيث تذل على أَن وتره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَلَاث رَكْعَات. قَوْله: (ثمَّ اضْطجع حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ) ،قَالَ القَاضِي: فِيهِ أَن الِاضْطِجَاع كَانَ قبل رَكْعَتي الْفجْر،وَفِيه رد على الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَذهب مَالك وَالْجُمْهُور إِلَى أَنه بِدعَة.
    .......
    (7/10)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ،فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: إِن الْعلمَاء كَافَّة قَالَت: إِنَّه سنة، حَتَّى أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد،وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَحده: هُوَ وَاجِب وَلَيْسَ بِفَرْض. وَقَالَ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه: الْوتر سنة مُؤَكدَة لَيْسَ بِفَرْض وَلَا وَاجِب، وَبِه قَالَت الإئمة كلهَا إلاّ أَبَا حنيفَة.
    ...........
    (7/13)
    وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نَام عَن وتر أَو نَسيَه فليصله إِذا أصبح أَو ذكره) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَنقل تَصْحِيحه ابْن الْحصار أَيْضا عَن شَيْخه، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن الله وتر يحب الْوتر فأوتروا يَا أهل الْقُرْآن،فَقَالَ أَعْرَابِي: مَا تَقول؟فَقَالَ: لَيْسَ لَك ولأصحابك) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا.
    .......
    (7/15)
    قَالَ ابْن بطال: الْوتر سنة مُؤَكدَة فِي السّفر والحضر،وَهَذَا رد على الضَّحَّاك فِيمَا قَالَ: إِن الْمُسَافِر لَا وتر عَلَيْهِ.
    ..........
    (7/17)
    اخْتلف الْعلمَاء هَل الْقُنُوت قبل الرُّكُوع أَو بعده؟ فمذهب أبي حنيفَة أَنه قبل الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَابْن أبي ليلى،وَبِه قَالَ: مَالك وَإِسْحَاق وَابْن الْمُبَارك،وصحيح مَذْهَب الشَّافِعِي: بعد الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فِي قَول، وَحكى أَيْضا التَّخْيِير. قبل الرُّكُوع وَبعده، عَن أنس وَأَيوب بن أبي تَمِيمَة وَأحمد بن حَنْبَل.
    ..........
    (7/21)
    وَفِي الحَدِيث: (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) ، انْتهى. وَقد ذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَن للقنوت عشرَة معَان. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَقد نظمتها فِي بَيْتَيْنِ بِقَوْلِي:
    (وَلَفظ الْقُنُوت اعدد مَعَانِيه تَجدهُ ... مزيدا على عشر مَعَاني مرضية)
    (دُعَاء خشوع، وَالْعِبَادَة طَاعَة ... إِقَامَتهَا إقرارنا بالعبودية)
    (سكُوت صَلَاة، وَالْقِيَام، وَطوله ... كَذَاك دوَام الطَّاعَة الرابح الْقنية)
    .........
    (7/21)
    وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي كِتَابه (الْآثَار) : أخبرنَا أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لم ير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَانِتًا فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : أَحَادِيث الشَّافِعِيَّة على أَرْبَعَة أَقسَام، مِنْهَا مَا هُوَ مُطلق، وَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قنت. وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ، لِأَنَّهُ ثَبت أَنه قنت. وَالثَّانِي: مُقَيّد بِأَنَّهُ قنت فِي صَلَاة الصُّبْح فَيحمل
    على فعله شهرا بأدلتنا. وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْبَراء بن عَازِب، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمد: لَا يرْوى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قنت فِي الْمغرب إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث. وَالرَّابِع: مَا هُوَ صَرِيح فِي حجتهم نَحْو مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ،
    ..............
    (7/22)
    وَقد أورد الْخَطِيب فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) أَحَادِيث أظهر فِيهَا تعصبه. فَمِنْهَا: مَا أخرجه عَن دِينَار بن عبد الله خَادِم أنس بن مَالك (عَن أنس،قَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح حَتَّى مَاتَ) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وسكوته عَن الْقدح فِي هَذَا الحَدِيث واحتجاحه بِهِ وقاحة عَظِيمَة وعصبية بَارِدَة وَقلة دين، لِأَنَّهُ يعلم أَنه بَاطِل. وَقَالَ ابْن حبَان: دِينَار يروي عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب إلاّ على سَبِيل الْقدح فِيهَا، فواعجبا للخطيب،أما سمع فِي الصَّحِيح: (من حدث عني حَدِيثا وَهُوَ يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَذَّابين؟) وَهل مثله إلاّ مثل من أنْفق بهرجا ودلسه فَإِن أَكثر النَّاس لَا يعْرفُونَ الصَّحِيح من السقيم، وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك للنقاد، فَإِذا أورد الحَدِيث مُحدث وَاحْتج بِهِ حَافظ لم يَقع فِي النُّفُوس إلاّ أَنه صَحِيح؟ وَلَكِن عصبيته حَملته على هَذَا، وَمن نظر فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) ، وَكتابه الَّذِي صنفه فِي (الْجَهْر بالبسملة) وَمَسْأَلَة العتم، واحتجاجه بالأحاديث الَّتِي يعلم بُطْلَانهَا، اطلع على فرط عصبيته وَقلة دينه،ثمَّ ذكر لَهُ أَحَادِيث أُخْرَى كلهَا عَن أنس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى مَاتَ، وَطعن فِي أسانيدها.
    ........
    (7/24)
    قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ،وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: السّنة أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَة كَهَيئَةِ صَلَاة الْعِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَذكر فِي (الْمُحِيط) قَول أبي يُوسُف مَعَ أبي حنيفَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ لم يقل أحد غير أبي حنيفَة هَذَا القَوْل. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ مثل قَول أبي حنيفَة،فروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه خرج مَعَ الْمُغيرَة بن عبد الله الثَّقَفِيّ يَسْتَسْقِي،قَالَ: فصلى الْمُغيرَة فَرجع إِبْرَاهِيم حَيْثُ رَآهُ يُصَلِّي، وروى ذَلِك أَيْضا عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن عِيسَى بن حَفْص عَن عَاصِم عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه،قَالَ: خرجنَا مَعَ عمر ابْن الْخطاب يَسْتَسْقِي فَمَا زَاد على الاسْتِغْفَار.
    نه احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء وَلَيْسَ فِيهِ صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن الحَدِيث لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة
    حْويل الرِّدَاء سنة عِنْد الْجُمْهُور، وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة وَأنْكرهُ وَوَافَقَهُ ابْن سَلام. من قدماء الْعلمَاء بالأندلس وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. قلت: أَبُو حنيفَة لم يُنكر التَّحْوِيل الْوَارِد فِي الْأَحَادِيث إِنَّمَا أنكر كَونه من السّنة لِأَن تحويله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لأجل التفاؤل لينقلب حَالهم من الجدب إِلَى الخصب، فَلم يكن لبَيَان السّنة،
    وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقَوْم كَالْإِمَامِ، يَعْنِي يقلبون أرديتهم، وَاسْتثنى ابْن الْمَاجشون النِّسَاء،
    ........
    (7/34)
    قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء والاجتماع لَا يكون إلاّ بِإِذن الإِمَام لما فِي الْخُرُوج والاجتماع من الْآفَات الدَّاخِلَة على السُّلْطَان،وَهَذِه سنَن الْأُمَم السالفة قَالَ تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه} (الْأَعْرَاف: 061) .
    .......
    (7/35)
    أَن صَلَاة الاسْتِسْقَاء رَكْعَتَانِ، وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس حَدِيثا. وَفِيه: (وَلم يخْطب خطبتكم هَذِه وَلَكِن لم يزل فِي الدُّعَاء والتضرع وَالتَّكْبِير، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه دلَالَة على أَنه يكبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمَكْحُول وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَنه يكبر فيهمَا كَسَائِر الصَّلَوَات تَكْبِيرَة وَاحِدَة للافتتاح،وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَقَالَ دَاوُد: إِن شَاءَ كبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِن شَاءَ كبر تَكْبِيرَة وَاحِدَة للاستفتاح كَسَائِر الصَّلَوَات. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن المُرَاد من قَوْله: (كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ) ، يَعْنِي فِي الْعدَد والجهر بِالْقِرَاءَةِ، وَفِي كَون الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْخطْبَة. فَإِن قلت: قد روى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالدَّارَقُطْن ِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أَبِيه (عَن طَلْحَة،قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى ابْن عَبَّاس اسأله عَن سنة الاسْتِسْقَاء،فَقَالَ: سنة الاسْتِسْقَاء سنة الصَّلَاة فِي الْعِيدَيْنِ إلاّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلب رِدَاءَهُ فَجعل يَمِينه على يسَاره ويساره على يَمِينه، وَصلى رَكْعَتَيْنِ كبر فِي الأولى سبع تَكْبِيرَات، وَقَرَأَ بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى،وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة: هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية، وَكبر فِيهَا خمس تَكْبِيرَات) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد
    أَن وَقت صَلَاة الاسْتِسْقَاء كوقت صَلَاة الْعِيدَيْنِ، كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك. فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: إِلَى أَنه يخرج لَهَا كالخروج إِلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ، وَحكى ابْن الْمُنْذر وَابْن عبد الْبر عَن الشَّافِعِي هَذَا، وَنقل ابْن الصّباغ فِي (الشَّامِل) وَصَاحب (جمع الْجَوَامِع) عَن نَص الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تخْتَص بِوَقْت، وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَالْمَاوَرْدِي ّ وَابْن الصّباغ، وَصَححهُ الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر، وَنقل النَّوَوِيّ الْقطع بِهِ عَن الْأَكْثَرين، وَأَنه صَححهُ الْمُحَقِّقُونَ وَأما وَقتهَا كوقت الْعِيد،فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه لم يرو لغير الشَّيْخ أبي عَليّ. قلت: لم ينْفَرد بِهِ الشَّيْخ أَبُو عَليّ، بل قَالَه أَيْضا الشَّيْخ أَبُو حَامِد والمحاملي الْبَغَوِيّ فِي (التَّهْذِيب) [/ ح
    ..........
    (7/37)
    قَالَ أبُو عَبْدِ الله كانَ ابنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ هُوَ صاحِبُ الأذَانِ ولاكِنَّهُ وَهَمٌ لأنَّ هاذَا عَبْدُ الله بنُ زَيْدِ بنِ عاصِمٍ المَازِنِيُّ الأنْصَارِي
    أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (كَانَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول هُوَ أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء صَاحب الْأَذَان، هَذَا يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا، وَيحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ سمع ذَلِك من شَيْخه عَليّ بن عبد الله الْمَذْكُور،وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْن ِ وهم ابْن عُيَيْنَة فِي قَوْله فِي عبد الله بن زيد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: أَنه صَاحب الْأَذَان، يَعْنِي الَّذِي أرِي النداء، وَهُوَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثَعْلَبَة بن زيد بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج،وراوي حَدِيث الاسْتِسْقَاء هُوَ: عبد الله ابْن عَاصِم بن عَمْرو بن عَوْف بن مبذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن،وَهُوَ معنى قَوْله: لِأَن هَذَا،أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء عبد الله بن زيد بن عَاصِم،وَلم يذكر البُخَارِيّ مُقَابِله حَيْثُ لم يقل: وَذَاكَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه، كَأَنَّهُ اكْتفى بِالَّذِي ذكره، وَقد اتّفق كِلَاهُمَا فِي الِاسْم وَاسم الْأَب وَالنِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار، ثمَّ إِلَى الْخَزْرَج والصحبة وَالرِّوَايَة، وافترقا فِي الْجد والبطن الَّذِي من الْخَزْرَج، لِأَن حفيد عَاصِم بن مَازِن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الْخَزْرَج
    ..........
    (4/40)
    جَاءَ فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: (وَرفع النَّاس أَيْديهم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدعونَ) . وَفِيه: حجَّة وَاضِحَة لأبي حنيفَة أَن الاسْتِسْقَاء دُعَاء واستغفار وَلَا صَلَاة فِيهِ،قيل: مُجَرّد الدُّعَاء لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة فِيهِ. قلت: أَبُو حنيفَة لم يقل: إِن الصَّلَاة فِيهِ غير مَشْرُوعَة،بل يَقُول: إِنَّهَا لَيست بِسنة، وَمَا ورد فِي أَحَادِيث الصَّلَاة فلبيان الْجَوَاز
    .........

    (7/48)
    قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَين قَالَ لنا، وَحدثنَا: أَن القَوْل يسْتَعْمل إِذا سمع من شَيْخه فِي مقَام المذاكرة والمحاورة، والتحديث إِذا سمع فِي مقَام التحميل وَالنَّقْل. قيل: لَيْسَ اسْتِعْمَال البُخَارِيّ لذَلِك منحصرا فِي المذاكرة، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا يكون ظَاهره الْوَقْف، وَفِيمَا يصلح للمتابعات.
    ...........
    (7/48)
    قَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن لَا أَذَان وَلَا إِقَامَة للاستسقاء
    أَن الْخطْبَة فِي الاسْتِسْقَاء قبل الصَّلَاة
    ......ز
    (7/52)
    الَ النَّوَوِيّ قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم السّنة فِي كل دُعَاء لدفع بلَاء كالقحط أَن يرفع يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهر كفيه إِلَى السَّمَاء فَإِذا دَعَا
    لسؤال شَيْء وتحصله جعل بطُون كفيه إِلَى السَّمَاء
    الَ النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث ظَاهره يُوهم أَنه لم يرفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل قد ثَبت رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء فِي مَوَاطِن غير الاسْتِسْقَاء وَهِي أَكثر من أَن تحصى فيتؤول هَذَا الحَدِيث على أَنه لم يرفع الرّفْع البليغ بِحَيْثُ يرى بَيَاض أبطيه إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء أَو أَن المُرَاد لم أره يرفع وَقد رَآهُ غَيره فَتقدم رِوَايَة المثبتين فِيهِ



    ..........
    (7/56)
    نصرت بالصبا وَذكر أَبُو حنيفَة فِي كتاب الأنواء أَن خَالِد بن صَفْوَان قَالَ الرِّيَاح أَربع الصِّبَا ومهبها فِيمَا بَين مطلع الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب ومهب الشمَال فِيمَا بَين القطب إِلَى مسْقط الشَّرْطَيْنِ وَمَا بَين مسْقط الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب الْأَسْفَل مهب الدبور وَمَا بَين القطب الْأَسْفَل إِلَى مطلع الشَّرْطَيْنِ مهب الْجنُوب وَحكي عَن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة أَنه قَالَ الرِّيَاح سِتّ الْقبُول وَهِي الصِّبَا مخرجها مَا بَين المشرقين وَمَا بَين المغربين الدبور وَزَاد النكباء ومحوة وَقَالَ الْجَوْهَرِي الصِّبَا ريح مهبها المستوى مَوضِع مطلع الشَّمْس إِذا اسْتَوَى اللَّيْل وَالنَّهَار وَالدبور الرّيح الَّذِي يُقَابل الصِّبَا وَيُقَال الصِّبَا مَقْصُورَة الرّيح الشرقية وَالدبور بِفَتْح الدَّال الرّيح الغربية وَيُقَال الصِّبَا الَّتِي تَجِيء من ظهرك إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة وَالدبور الَّتِي تَجِيء من قبل وَجهك إِذا استقبلتها وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ مهب الصِّبَا من مطلع الثريا إِلَى بَنَات نعش ومهب الدبور من مسْقط النسْر الطَّائِر إِلَى سُهَيْل وَالصبَا ريح الْبرد وَالدبور ريح الصَّيف وَعَن أبي عُبَيْدَة الصِّبَا للإلذاذ وَالدبور للبلاء وأهونه أَن يكون غبارا عاصفا يقذي الْأَعْين وَهِي أقلهن هبوبا وَفِي التَّفْسِير ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي حملت ريح يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل البشير إِلَيْهِ فإليها يستريح كل محزون وَالدبور هِيَ الرّيح الْعَقِيم يُقَال صبا وصبيان وصبوات وأصباء وكتابتها بِالْألف لقَولهم صبَّتْ الرّيح تصبو أصبا إِذا هبت وَقَالَ أَبُو عَليّ الصِّبَا وَالدبور يكونَانِ اسْما وَصفَة وَالدبور يجمع على دبر وأدبار ودبائر وَيجمع قبُول على قبائل يُقَال قبلت الرّيح تقبل قبولا ودبرت تدبر دبورا وَيُقَال أَقبلنَا من الْقبُول وأصبينا من الصِّبَا وأدبرنا من الدبور فَنحْن مصبون ومدبرون فَإِذا أردْت أَنَّهَا أصابتنا قلت قبلنَا فَنحْن مقبولون وصبينا فَنحْن مصبون ومصبيون ودبرنا فَنحْن مدبرون -
    .............
    (7/54)
    فِي شامنا) ، قَالَ ابْن هِشَام فِي (التيجان) هُوَ اسْم أعجمي من لُغَة بني حام،وَتَفْسِيره بالعربي: خير طيب، وَذكر الْكَلْبِيّ فِي (كتاب الْبلدَانِ) عَن الشرفي: إِنَّمَا سميت بسام بن نوح لِأَنَّهُ أول من نزلها. قَالَ الْكَلْبِيّ: وَلم ينزلها سَام قطّ،قَالَ: وَلما أخرج النَّاس من بابل أَخذ بَعضهم يمنة فسميت الْيمن، وتشاءم آخَرُونَ فسميت الشَّام. وَكَانَت الشَّام يُقَال لَهَا: أَرض كنعان،قَالَ: وَكَانَ فالخ بن عَامر هُوَ الَّذِي قسم الأَرْض بَين بني نوح، عَلَيْهِ السَّلَام،وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي فِي كَلَامه على الزَّاهِر: سميت بذلك لِكَثْرَة قراها وتداني بَعْضهَا من بعض، فشبهت بالشامات،وَقَالَ أهل الْأَثر: سميت بذلك لِأَن قوما من كنعان بن حام خَرجُوا عِنْد التَّفَرُّق فتشأموا إِلَيْهَا: أَي أخذُوا ذَات الشمَال،
    ..........
    (7/55)
    قَالَ ابْن المقفع: سميت الشَّام بسام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام،وسام اسْمه بالسُّرْيَانيَّ ة: شام،وبالعبرانية: شيم. قَالَ ابْن عَسَاكِر. وَقيل: سميت شاما لِأَنَّهَا عَن شمال الأَرْض. وَقَالَ بعض الروَاة: إِن اسْم الشَّام أَولا سورية، وككانت أَرض بني إِسْرَائِيل، قسمت على اثْنَي عشر سَهْما، فَصَارَ لسهم مِنْهُم مَدِينَة شامرين، وَهِي من أَرض فلسطين
    ...........
    (7/65)
    قَالَ الْخطابِيّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَ أَن الْكُسُوف يُوجب حُدُوث تغير فِي الأَرْض من موت أَو ضَرَر، فَأعْلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه اعْتِقَاد بَاطِل، وَأَن الشَّمْس وَالْقَمَر خلقان مسخران لله تَعَالَى، لَيْسَ لَهما سُلْطَان فِي غَيرهمَا وَلَا قدرَة على الدّفع عَن أَنفسهمَا.

    ...........
    (7/66)
    روى الدَّارَقُطْنِي ّ أَيْضا من طَرِيق حبيب: (عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر ثَمَان رَكْعَات فِي أَربع سَجدَات) . قلت: فِي إِسْنَاده نظر،والْحَدِيث فِي مُسلم وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: الْقَمَر، وَالْعجب من شَيخنَا زين الدّين الْعِرَاقِيّ، رَحمَه الله،يَقُول: لم تثبت صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخسوف الْقَمَر بِإِسْنَاد مُتَّصِل، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس اللَّذين رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِي ّ،وَقَالَ: وَرِجَال إسنادهما ثِقَات، وَلَكِن كَون رجالهما ثِقَات لَا يسْتَلْزم اتِّصَال الْإِسْنَاد. وَلَا نفي المدرج ,.
    ..........
    (7/69)
    وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي بَاب مَا يحول على جَوَاز الِاجْتِمَاع للعيد وللخسوف لجَوَاز وُقُوع الخسوف فِي الْعَاشِر، ثمَّ رُوِيَ عَن الْوَاقِدِيّ مَا ذَكرْنَاهُ عَن تَارِيخ وَفَاة إِبْرَاهِيم. وَقَالَ الذَّهَبِيّ، فِي (مُخْتَصر السّنَن) : لم يَقع ذَلِك وَلنْ يَقع، وَالله قَادر على كل شَيْء، لَكِن امْتنَاع وُقُوع ذَلِك كامتناع رُؤْيَة الْهلَال لَيْلَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من الشَّهْر، وَأم إِبْرَاهِيم مَارِيَة الْقبْطِيَّة، ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان، وَتُوفِّي وعمره ثَمَانِيَة عشر شهرا، هَذَا هُوَ الْأَشْهر. وَقيل: سِتَّة عشر شهرا. وَقيل: سَبْعَة عشر شهرا وَثَمَانِية أَيَّام. وَقيل: سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، وَدفن بِالبَقِيعِ.
    ........
    (7/73)
    قد ثَبت عِنْد مُسلم عَن عَائِشَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات،وَعِنْده عَن ابْن عَبَّاس: أَن فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات،وَعند أبي دَاوُد عَن أبي بن كَعْب وَعند الْبَزَّار عَن عَليّ: أَن فِي كل رَكْعَة خمس ركوعات، فَمَا كَانَ جوابهم فِي هَذِه فَهُوَ جَوَابنَا فِي تِلْكَ، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن صَاحب (الْهدى) أَنه نقل عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَالْبُخَارِيّ أَنهم: كَانُوا يعدون الزِّيَادَة على الركوعين فِي كل رَكْعَة غَلطا من بعض الروَاة. قلت: يَنْبَغِي أَن لَا يُؤَاخذ بِهَذَا لِأَنَّهُ ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) ثَلَاث ركوعات وَأَرْبع ركوعات،
    .........
    (7/73)
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أجمع الْعلمَاء على أَن صَلَاة الْكُسُوف لَيْسَ فِيهَا أَذَان وَلَا إِقَامَة إِلَّا أَن الشَّافِعِي قَالَ: لَو نَادَى مُنَاد: الصَّلَاة جَامِعَة، ليخرج النَّاس بذلك إِلَى الْمَسْجِد لم يكن بذلك بَأْس.
    ..........
    (7/76)
    مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: (إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفا لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، ولكنهما آيتان من آيَات الله، وَإِن الله إِذا تجلى لشَيْء من خلقه خضع لَهُ) . وَقَالَ الْغَزالِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لم تثبت فَيجب تَكْذِيب ناقلها، وَلَو صحت لَكَانَ أَهْون من مُكَابَرَة أُمُور قَطْعِيَّة لَا تصادم الشَّرِيعَة،ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ: كَيفَ يسلم دَعْوَى الفلاسفة وَيَزْعُم أَنَّهَا لَا تصادم الشَّرِيعَة مَعَ أَنَّهَا مَبْنِيَّة على أَن الْعَالم
    كري الشكل وَظَاهر الشَّرْع خلاف ذَلِك؟ وَالثَّابِت من قَوَاعِد الشَّرْع أَن الْكُسُوف أثر الْإِرَادَة الْقَدِيمَة، وَفعل الْفَاعِل الْمُخْتَار فيخلق فِي هذَيْن الجرمين النُّور مَتى شَاءَ والظلمة مَتى شَاءَ من غير تَوْقِيف على سَبَب أَو ربط باقتراب، وَكَيف يرد الحَدِيث الْمَذْكُور وَقد أثْبته جمَاعَة من الْعلمَاء وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم؟ وَلَئِن سلمنَا أَن مَا ذكره أهل الْحساب صَحِيح فِي نفس الْأَمر، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي كَون ذَلِك مخوفا لعباد الله تَعَالَى.
    .................
    (7/80)
    وإطالة السُّجُود وَردت فِي أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: مَا تقدم فِي رِوَايَة عُرْوَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ: (ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود) . وَمِنْهَا: مَا تقدم فِي أَوَائِل صفة الصَّلَاة من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر مثله. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عبد الله ابْن عَمْرو: (ثمَّ رفع رَأسه وسجدها فَأطَال السُّجُود) ، وَنَحْوه مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي مُوسَى (بأطول قيام وركوع وَسُجُود) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث سَمُرَة: (كأطول مَا سجد بِنَا فِي صَلَاة) ،وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَا يلْزم من كَونه أَطَالَ السُّجُود أَن يكون بلغ بِهِ حد الإطالة فِي الرُّكُوع،ورد عَلَيْهِم بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: (وَسُجُوده نَحْو من رُكُوعه) ، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَادّعى صَاحب (الْمُهَذّب) : أَنه لم يقل بِهِ الشَّافِعِي، ورد عَلَيْهِ بِأَن الشَّافِعِي نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ،وَلَفظه: (ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ طويلتين يُقيم فِي كل سَجْدَة نَحوا مِمَّا قَامَ لَهُ فِي رُكُوعه) ، وَحَدِيث جَابر الَّذِي رَوَاهُ مُسلم يدل على تَطْوِيل الِاعْتِدَال الَّذِي يَلِيهِ السُّجُود،
    فَهَذَا يدل على تَطْوِيل الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ ، وَبِهَذَا يرد على الْغَزالِيّ فِي نَقله الِاتِّفَاق على ترك إطالته،أللهمّ إلاّ إِذا أَرَادَ بِهِ: بالِاتِّفَاقِ من أهل الْمَذْهَب. وَالله أعلم.
    ....
    (7/90)
    قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا كُله حجَّة على أبي حنيفَة فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ كَسَائِر النَّوَافِل. قلت: لَيْت شعري لِمَ لَا يذكر حَدِيث أبي بكرَة الَّذِي هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، على أَنه لَا خلاف بَين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تكْرَار الرُّكُوع، كَمَا مر تَحْقِيقه فِيمَا مضى،وَفِي مثل هَذَا لَا يُقَال: هَذَا حجَّة على فلَان وَذَاكَ على فلَان، وَإِنَّمَا هَذَا اخْتِيَار، فَأَبُو حنيفَة اخْتَار حَدِيث أبي بكرَة وَغَيره من الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكرنَاهَا عِنْد الِاحْتِجَاج لَهُ، وَالشَّافِعِيّ اخْتَار حَدِيث عَائِشَة وَمَا أشبهه من الْأَحَادِيث الأُخر، فَأَبُو حنيفَة لم يقل إِذا كرر الرُّكُوع أَن صلَاته تفْسد،وَالشَّافِعِيّ: لم يقل أَنه إِذا ترك التّكْرَار تفْسد، وَلَكِن حمية العصبية توقع بَعضهم فِي أَكثر من هَذَا.
    .......
    (7/92)
    أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن أبان عَن إِبْرَاهِيم بن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى صَلَاة الْكُسُوف وجهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا) . قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، حكى التِّرْمِذِيّ ذَلِك عَنْهُم، ثمَّ حكى عَن الشَّافِعِي مثل ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : إِن مَذْهَبنَا وَمذهب مَالك وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث بن سعد وَجُمْهُور الْفُقَهَاء أَنه: يسَّر فِي كسوف الشَّمْس ويجهر فِي خُسُوف الْقَمَر،قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق: يجْهر فيهمَا وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الصيدلاني أَن مثله يرْوى عَن أبي حنيفَة،وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: الْجَهْر والإسرار سَوَاء، وَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن مَالك هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ بِخِلَاف مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ، فقد حُكيَ عَن مَالك الْإِسْرَار، كَقَوْل الشَّافِعِي ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) وَابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ أَن مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مَالك من الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ رِوَايَة شَاذَّة مَا وقفت عَلَيْهَا فِي غير كِتَابه.
    .......
    (7/95)
    أَن سَجْدَة التِّلَاوَة أسنة أم وَاجِبَة؟ فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى وُجُوبهَا على التَّالِي وَالسَّامِع، سَوَاء قصد سَماع الْقُرْآن، أَو لم يقْصد، وَاسْتدلَّ صَاحب (الْهِدَايَة) على الْوُجُوب بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السَّجْدَة على من سَمعهَا، السَّجْدَة على من تَلَاهَا) . ثمَّ قَالَ كلمة: على، للْإِيجَاب، والْحَدِيث غير مُقَيّد بِالْقَصْدِ. قلت: هَذَا غَرِيب لم يثبت، وَإِنَّمَا روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَنه قَالَ: السَّجْدَة على من سَمعهَا) . وَفِي البُخَارِيّ (قَالَ عُثْمَان: إِنَّمَا السُّجُود على من اسْتمع) . وَاسْتدلَّ أَيْضا بِالْآيَاتِ: {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرىء عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} (الانشقاق: 02، 12) . {فاسجدوا لله واعبدوا} (النَّجْم: 26) . واسجد واقترب} (العلق: 91) . وَقَالُوا: الذَّم لَا يتَعَلَّق إلاّ بترك وَاجِب، وَالْأَمر فِي الْآيَتَيْنِ للْوُجُوب، وروى ابْن أبي شيبَة (عَن حَفْص عَن حجاج عَن إِبْرَاهِيم وَنَافِع وَسَعِيد ابْن جُبَير: أَنهم قَالُوا: من سمع السَّجْدَة فَعَلَيهِ أَن يسْجد) . وَعَن إِبْرَاهِيم بِسَنَد صَحِيح: (إِذا سمع الرجل السَّجْدَة وَهُوَ يُصَلِّي فليسجد) ،وَعَن الشّعبِيّ: (كَانَ أَصْحَاب عبد الله إِذا سمعُوا السَّجْدَة سجدوا، فِي صَلَاة كَانُوا أَو غيرهآ) . وَقَالَ شُعْبَة: (سَأَلت حمادا عَن الرجل يُصَلِّي فَيسمع السَّجْدَة؟قَالَ: يسْجد)
    وَذهب الشَّافِعِي وَمَالك فِي أحد قوليه وَأحمد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِي ّ وَدَاوُد إِلَى: أَنَّهَا سنة، وَهُوَ قَول عمر وسلمان وَابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن الْحصين، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَدَاوُد. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف فِي كَونهَا سنة أَو فَضِيلَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
    (إِن الله لم يكْتب علينا السُّجُود إلاّ أَن نشَاء) ، وَهَذَا يَنْفِي الْوُجُوب. قَالُوا: قَالَ عمر هَذَا القَوْل وَالصَّحَابَة حاضرون، وَالْإِجْمَاع السكوتي حجَّة عِنْدهم، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث زيد بن ثَابت الْآتِي، (قَالَ: قرىء على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنجم فَلم يسْجد فِيهَا) . وَبِحَدِيث الْأَعرَابِي: (هَل عَليّ غَيرهَا؟قَالَ: لَا، إلاّ أَن تطوع) . أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَبِحَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؛ (أَنه دخل الْمَسْجِد وَفِيه قوم يقرأون فقرأوا السَّجْدَة،فسجدوا فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا أَبَا عبد الله لَوْلَا أَتَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم؟ فَقَالَ مَا لهَذَا غدونا) . رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة.
    ............
    (7/97)
    اخْتلفُوا فِي عدد سُجُود الْقُرْآن على اثْنَي عشر قولا: الأول: مَذْهَبنَا أَنَّهَا: أَربع عشرَة سَجْدَة: فِي آخر الْأَعْرَاف، والرعد، والنحل، وَبني إِسْرَائِيل، وَمَرْيَم، وَالْأولَى فِي الْحَج، وَالْفرْقَان، والنمل، وآلم تَنْزِيل، وص، وحم السَّجْدَة، والنجم، وَإِذا السَّمَاء انشقت، واقرأ باسم رَبك. الثَّانِي: إِحْدَى عشرَة، بِإِسْقَاط الثَّلَاث من الْمفصل، وَبِه قَالَ الْحسن وَابْن الْمسيب وَابْن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَعَطَاء وطاووس وَمَالك فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الثَّالِث: خمس عشرَة، وَبِه قَالَ المدنيون عَن مَالك،فكملتها: ثَانِيَة الْحَج، وَهُوَ مَذْهَب عمر وَابْنه عبد الله وَاللَّيْث وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ الْمروزِي وَابْن شُرَيْح الشافعيان. الرَّابِع: أَربع عشرَة، بِإِسْقَاط ص وَهُوَ أصح قولي الشَّافِعِي وَأحمد. الْخَامِس: أَربع عشرَة بِإِسْقَاط سَجْدَة النَّجْم، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر. السَّادِس: ثنتا عشرَة،بِإِسْقَاط: ثَانِيَة الْحَج، وص، والانشقاق، وَهُوَ قَول مَسْرُوق، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ. السَّابِع: ثَلَاث عشرَة، بِإِسْقَاط ثَانِيَة الْحَج والإنشقاق، وَهُوَ قَول عَطاء الْخُرَاسَانِي. الثَّامِن: أَن عزائم السُّجُود خمس: الْأَعْرَاف، وَبَنُو إِسْرَائِيل، والنجم، والإنشقاق، واقرأ باسم رَبك، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن أبراهيم عَنهُ. التَّاسِع: عَزَائِمه أَربع: آلم تَنْزِيل، وحم تَنْزِيل، والنجم، واقرأ باسم رَبك، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عَفَّان عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَليّ بن زيد عَن يُوسُف بن مهْرَان عَن عبد الله بن عَبَّاس عَنهُ
    .....
    (7/101)
    والمؤرخون المولعون بِكُل قريب، المتلقنون من الصُّحُف كل صَحِيح وَسَقِيم. قلت: الْأَمر كَذَلِك، فَإِن غَالب هَؤُلَاءِ مثل الطرقية وَالْقصاص وَلَيْسَ عِنْدهم تَمْيِيز، يخبطون خبط عشواء، ويمشون فِي ظلمَة ظلماء، وَكَيف يُقَال مثل هَذَا وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزاهته عَن مثل هَذِه الرذيلة؟ وَلَو وَقعت هَذِه الْقِصَّة لوجدت قُرَيْش على الْمُسلمين بهَا الصولة، ولأقامت عَلَيْهِم الْيَهُود بهَا الْحجَّة، كَمَا علم من عَادَة الْمُنَافِقين وعناد الْمُشْركين، كَمَا وَقع فِي قصَّة الْإِسْرَاء حَتَّى كَانَت فِي ذَلِك لبَعض الضُّعَفَاء ردة.
    .......
    (7/102)
    عَمْرو الجني، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان بن صَالح،قَالَ: حَدثنِي عَمْرو الجني قَالَ: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَعُثْمَان بن أبي صَالح شيخ البُخَارِيّ لم يدْرك أحدا من الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ توفّي سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، إلاّ أَنه ذكر أَن عمرا هَذَا من الْجِنّ، وَقد نسبه أَبُو مُوسَى فِي (ذيله) : من الصَّحَابَة عَمْرو بن طلق،وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عَمْرو الجني،قيل: هُوَ ابْن طلق، أوردهُ أَبُو مُوسَى،وَقَالَ: وَالْعجب أَنهم يذكرُونَ الْجِنّ من الصَّحَابَة وَلَا يذكرُونَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل؟قلت: لِأَن الْجِنّ آمنُوا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُرْسل إِلَيْهِم، وَالْمَلَائِكَة ينزلون بالرسالة إِلَى الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

    ..........
    (7/102)
    ن رُؤْيَة الْإِنْس للجن لَا تنكر، وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة رُؤْيَة الْإِنْس للجن،وَاسْتدلَّ بَعضهم بقوله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) . مَعَ قَوْله: {إلاّ إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} (فصلت: 05) . وَأجَاب أهل السّنة بِأَن هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فِي عدم رُؤْيَة الْإِنْس الْجِنّ أَو الشَّيَاطِين، وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْطَان الَّذِي أَرَادَ أَن يقطع عَلَيْهِ صلَاته، وَأَنه خنقه حَتَّى وجد برد لِسَانه،وَأَنه قَالَ: (لَوْلَا دَعْوَة سُلَيْمَان لربطته إِلَى سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد) الحَدِيث، وَثَبت فِي الصَّحِيح رُؤْيَة أبي هُرَيْرَة لَهُ لما دخل ليَسْرِق تمر الصَّدَقَة،وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة: (تَدْرِي من تخاطب مُنْذُ ثَلَاث؟) وَقَالَ فِيهِ: (صدقك وَهُوَ كذوب) ، لَكِن أَبَا هُرَيْرَة رَآهُ فِي صُورَة مِسْكين على هَيْئَة الْإِنْس، وَهُوَ دَال على أَن الشَّيَاطِين وَالْجِنّ يتشكلون فِي غير صورهم، كَمَا تتشكل الْمَلَائِكَة فِي هَيْئَة الْآدَمِيّين، وَقد نَص الله فِي كِتَابه على عمل الْجِنّ لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،ومخاطبتهم لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ عفريت من الْجِنّ: أَنا آتِيك بِهِ.} (النَّمْل: 93) . الْآيَة، وَمثل هَذَا لَا يُنكر مَعَ تَصْرِيح الْقُرْآن بذلك وَثُبُوت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
    ............
    (7/112)
    احْتج بِهِ الثَّوْريّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ أَنه: من قَرَأَ سَجْدَة فِي صلَاته الْمَكْتُوبَة أَنه لَا بَأْس أَن يسْجد فِيهَا، وَكره مَالك ذَلِك فِي الْفَرِيضَة الجهرية والسرية. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا يقْرَأ الإِمَام السَّجْدَة فِيمَا يسر بِهِ، ويقرؤها فِيمَا يجْهر فِيهِ، وَذكر الطَّبَرِيّ عَن أبي مجلز أَنه كَانَ لَا يرى السُّجُود فِي الْفَرِيضَة، وَزعم أَن ذَلِك زِيَادَة فِي الصَّلَاة، وَرَأى أَن السُّجُود فِيهَا غير الصَّلَاة، وَحَدِيث الْبَاب يرد عَلَيْهِ، وَعمل السّلف من الصَّحَابَة وعلماء الْأمة. وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه صلى الصُّبْح فَقَرَأَ: والنجم، فَسجدَ فِيهَا، وَقَرَأَ مرّة فِي الصُّبْح فَسجدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود،فِي السُّورَة يكون آخرهَا سَجْدَة: إِن شِئْت سجدت بهَا ثمَّ قُمْت وقرأت فركعت، وَإِن شِئْت ركعت بهَا.
    .........
    (7/112)
    أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا: إِنَّه يكره أَن يقْرَأ السُّورَة الَّتِي فِيهَا السَّجْدَة، وَلَا يسْجد فِيهَا فِي صَلَاة كَانَ أَو فِي غَيرهَا، لِأَنَّهُ كالاستنكاف عَن السُّجُود،فعلى هَذَا فالاحتياط على قَوْلهم: إِنَّه لَا يقْرَأ فِي الصَّلَاة السّريَّة سُورَة فِيهَا سَجْدَة. قلت: وَفِي (الْهِدَايَة) قَالَ: لَا بَأْس أَن يقْرَأ آيَة السَّجْدَة ويدع مَا سواهَا. قَالَ مُحَمَّد: وَأحب إِلَيّ أَن يقْرَأ قبلهَا آيَة أَو آيَتَيْنِ دفعا لوهم التَّفْضِيل، وَاسْتحْسن الْمَشَايِخ إخفاءها شَفَقَة على السامعين وَفِي (الْمُحِيط) : إِذا كَانَ التَّالِي وَحده يقْرَأ كَيفَ شَاءَ جَهرا أَو إخفاء، وَإِن كَانَ مَعَه جمَاعَة

    .........
    (7:115)
    حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن فَالْمُرَاد بهما: دُخُوله فِي فتح مَكَّة،وَقد جمع بَينهمَا الْبَيْهَقِيّ بِأَن من روى: تِسْعَة عشر عد يومي الدُّخُول وَالْخُرُوج. وَمن روى سَبْعَة عشر تَركهمَا، وَمن روى ثَمَانِيَة عشر عد أَحدهمَا، وَأما رِوَايَة خَمْسَة عشر، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِنَّهَا ضَعِيفَة مُرْسلَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن رواتها ثِقَات، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس،فَإِن قَالَ النَّوَوِيّ: تَضْعِيفه لأجل إِبْنِ اسحاق فإبن إِسْحَاق لم ينْفَرد بِهِ، بل رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عرَاك بن مَالك عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَمن حفظ زِيَادَة على ذَلِك قبل مِنْهُ لِأَنَّهُ زِيَادَة ثِقَة، وَالله تَعَالَى أعلم.
    قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَصَح الرِّوَايَات عِنْدِي: تسع عشرَة، وَهِي الَّتِي أوردهَا البُخَارِيّ، وَعبد الله ابْن الْمُبَارك أحفظ من رَوَاهُ عَن عَاصِم، وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِي ّ عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَقَامَ سبع عشرَة بِمَكَّة يقصر)

    ...........
    (7/115)
    اخْتِلَاف الْأَقْوَال: فِي الْمدَّة الَّتِي إِذا نوى الْمُسَافِر الْإِقَامَة فِيهَا لزمَه الْإِتْمَام،وَهُوَ على اثْنَيْنِ وَعشْرين قولا: الأول: ذكر ابْن حزم عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: إِذا وضعت رجلك بِأَرْض فَأَتمَّ، وَهُوَ فِي (المُصَنّف) : عَن عَائِشَة وطاووس بِسَنَد صَحِيح،قَالَ: وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن دَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة،قَالَ: (إِذا اطْمَأَن صلى أَرْبعا) ،يَعْنِي: نزل. وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد صَحِيح مثله. الثَّانِي: إِقَامَة يَوْم وَلَيْلَة، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن ربيعَة. الثَّالِث: ثَلَاثَة أَيَّام، قَالَه ابْن الْمسيب، فِي مثله. الرَّابِع:
    أَرْبَعَة أَيَّام، رُوِيَ عَن الشَّافِعِي وَأحمد،وروى مَالك عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي أَنه سمع سعيد بن الْمسيب قَالَ: من أجمع على إِقَامَة أَربع لَيَال وَهُوَ مُسَافر أتم الصَّلَاة،قَالَ مَالك: وَذَلِكَ أحب مَا سَمِعت إِلَيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحْسب يَوْم ظعنه وَلَا يَوْم نُزُوله. وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي: أَرْبَعَة أَيَّام ولحظة. الْخَامِس: أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام، ذكره ابْن رشد فِي الْقَوَاعِد عَن أَحْمد وَدَاوُد. السَّادِس: أَن يَنْوِي إِقَامَة اثْنَيْنِ وَعشْرين صَلَاة، قَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : هُوَ مَذْهَب أَحْمد. السَّابِع: عشرَة أَيَّام،رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب:
    ..........
    (7/117)
    احْتج بِهِ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، أَن الْمُسَافِر إِذا أَقَامَ ببلدة أَرْبَعَة أَيَّام قصر، لِأَن إِقَامَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة كَانَت أَرْبَعَة أَيَّام، كَمَا ذكرنَا. وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَأَبُو ثَوْر،وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ: الْأَصَح أَن المُرَاد بالأربعة غير يَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج،وَعَن الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِذا أَقَامَ أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام كَانَ مُقيما وَإِن لم ينْو الْإِقَامَة وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: مَا قَالَه الشَّافِعِي خلاف الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن أحد قبله بِأَن يصير مُقيما بنية أَرْبَعَة أَيَّام،وَعند أَصْحَابنَا: إِن نوى أقل من خَمْسَة عشر يَوْمًا قصر صلَاته، لِأَن الْمدَّة خَمْسَة عشر يَوْمًا كمدة الطُّهْر، لما روى (عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،قَالَا: إِذا قدمت بَلْدَة وَأَنت مُسَافر وَفِي نَفسك أَن تقيم خَمْسَة عشر يَوْمًا فأكمل الصَّلَاة بهَا، وَإِن كنت لَا تَدْرِي مَتى تظعن فأقصرها) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد أَن ابْن عمر كَانَ إِذا أجمع على إِقَامَة خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم الصَّلَاة) وروى هشيم عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: إِذا أَقَامَ الْمُسَافِر خمس عشرَة لَيْلَة أتم الصَّلَاة وَمَا كَانَ دون ذَلِك فليقصر
    .....
    (7/118)
    وَذكر الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت منى، لِأَنَّهَا مني بهَا الْكَبْش الَّذِي فدى بِهِ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،من: الْمنية. وَيُقَال: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،لما أَتَى آدم بمنى قَالَ لَهُ: تمن. قَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل بِمَكَّة مَعْرُوف. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: لامه يَاء، من منيت الشَّيْء إِذا قدرته. وَقَالَ الْفراء: الْأَغْلَب عَلَيْهِ التَّذْكِير. وَقَالَ الْحَازِمِي: إِن منى صقع قرب مَكَّة، وَهُوَ أَيْضا هضبة قرب قَرْيَة من ديار غَنِي بن أعصر، وَقد امتنى الْقَوْم إِذا أَتَوا منى، قَالَه يُونُس. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أمني الْقَوْم.
    ......
    (7/120)
    وَقَالَ ابْن بطال: وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِك، وَالله أعلم، أَن عُثْمَان وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّمَا أتما فِي السّفر لِأَنَّهُمَا اعتقدا فِي قصره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لما خير بَين الْقصر والإتمام اخْتَار الْأَيْسَر من ذَلِك على أمته،وَقد قَالَت عَائِشَة: مَا خير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن إلاّ اخْتَار إيسرهما مَا لم يكن إِثْمًا، فَأخذت هِيَ وَعُثْمَان فِي أَنفسهمَا بالشدة وتركا الرُّخْصَة، إِذْ كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهما فِي حكم التَّخْيِير فِيمَا أذن الله تَعَالَى فِيهِ، وَيدل على ذَلِك إِنْكَار ابْن مَسْعُود الْإِتْمَام على عُثْمَان، ثمَّ صلى خَلفه وَأتم،فكُلم فِي ذَلِك فَقَالَ: الْخلاف شَرّ. [/ شَرّ
    ...........
    (7/122)
    ا قَالَه الْأَثْرَم. قلت لِأَحْمَد: للرجل أَن يُصَلِّي أَرْبعا فِي السّفر؟قَالَ: لَا مَا يُعجبنِي. وَحكى ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) : أَن أَحْمد قَالَ: أَنا أحب الْعَافِيَة عَن هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: الأولى الْقصر، ليخرج عَن الْخلاف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ،رَحمَه الله تَعَالَى: الْعَمَل على مَا فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الْقصر، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن سَحْنُون وَرِوَايَة عَن مَالك وَأحمد، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَحَمَّاد، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عمر وَعلي وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وَبِهَذَا يرد على هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الشَّافِعِي على عدم الْوُجُوب بِأَن الْمُسَافِر إِذا دخل فِي صَلَاة الْمُقِيم صلى أَرْبعا باتفاقهم، وَلَو كَانَ فَرْضه الْقصر لم يأتم مُسَافر بمقيم،وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن صَلَاة الْمُسَافِر كَانَت أَرْبعا عِنْد اقتدائه بالمقيم لالتزامه الْمُتَابَعَة، فيتغير فَرْضه للتبعية وَلَا يتَغَيَّر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ فرضا لَا بُد من إِتْيَانه كُله، وَلَيْسَ لَهُ خِيَار فِي تَركه.
    ......
    (7/128)
    وَذهب الشّعبِيّ وطاووس وَقوم من الظَّاهِرِيَّة إِلَى أَن الْمَرْأَة لَا يجوز لَهَا أَن تُسَافِر مُطلقًا سَوَاء كَانَ السّفر قَرِيبا أَو بَعيدا، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم لَهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ. قَالَ حَدثنَا روح بن الْفرج،قَالَ: حَدثنَا حَامِد بن يحيى،قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة،قَالَ: حَدثنَا ابْن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: اتّفقت الْآثَار الَّتِي فِيهَا مُدَّة الثَّلَاث كلهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَحْرِيم السّفر ثَلَاثَة أَيَّام على الْمَرْأَة بِغَيْر محرم، وَاخْتلف فِيمَا دون الثَّلَاث، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا النَّهْي عَن السّفر بِلَا محرم مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا ثَابتا بِهَذِهِ الْآثَار كلهَا، وَكَانَ توقيته ثَلَاثَة أَيَّام فِي ذَلِك إِبَاحَة السّفر دون الثَّلَاث لَهَا بِغَيْر محرم، وَلَوْلَا ذَلِك لما كَانَ لذكره الثَّلَاث معنى، ولنهى نهيا مُطلقًا. وَلم يتَكَلَّم بِكَلَام يكون فصلا، وَلَكِن ذكر الثَّلَاث ليعلم أَن مَا دونهَا بِخِلَافِهَا، ثمَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي منعهَا من السّفر دون الثَّلَاث من الْيَوْم واليومين والبريد، فَكل وَاحِد من تِلْكَ الْآثَار، وَمن الْأَثر الْمَرْوِيّ فِي الثَّلَاث مَتى كَانَ بعد الَّذِي خَالفه شَيْخه إِن كَانَ على سفر الْيَوْم بِلَا محرم بعد النَّهْي عَن سفر الثَّلَاث بِلَا محرم فَهُوَ نَاسخ، وَإِن كَانَ خبر الثَّلَاث هُوَ الْمُتَأَخر عَنهُ فَهُوَ نَاسخ، فقد ثَبت أَن أحد الْمعَانِي دون الثَّلَاث ناسخة للثلاث، أَو الثَّلَاث ناسخة لَهَا،فَلم يخل خبر الثَّلَاث من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون هُوَ الْمُتَقَدّم، أَو يكون هُوَ الْمُتَأَخر، فَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم فقد أَبَاحَ السّفر بِأَقَلّ من ثَلَاث بِلَا محرم، ثمَّ جَاءَ بعده النَّهْي عَن سفر مَا هُوَ دون الثَّلَاث بِغَيْر محرم، فَحرم مَا حرم الحَدِيث الأول وَزَاد عَلَيْهِ حُرْمَة أُخْرَى وَهِي مَا بَينه وَبَين الثَّلَاث، فَوَجَبَ اسْتِعْمَال الثَّلَاث على مَا أوجبه الْأَثر الْمَذْكُور فِيهِ، وَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر وَغَيره الْمُتَقَدّم فَهُوَ نَاسخ لما تقدمه،
    .........
    (7/132)
    فِي (التَّوْضِيح) : أورد الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث مستدلاً على أَن من أَرَادَ سفرا وَصلى قبل خُرُوجه فَإِنَّهُ يتم، كَمَا فعله الشَّارِع فِي الظّهْر بِالْمَدِينَةِ، وَقد نوى السّفر، ثمَّ صلى الْعَصْر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، وَالْحَاصِل أَن من نوى السّفر فَلَا يقصر حَتَّى يُفَارق بيُوت مصره، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب مستقصىً. وَفِيه: حجَّة على من يَقُول: يقصر إِذا أَرَادَ السّفر، وَلَو فِي بَيته،وعَلى مُجَاهِد فِي قَوْله: لَا يقصر حَتَّى يدْخل اللَّيْل.
    ..........
    (7/133)
    الَ أَبُو عمر: كل من رَوَاهُ عَن عَائِشَة قَالَ فِيهِ: فرضت الصَّلَاة إلاّ مَا حدث بِهِ أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ،قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْحجَّاج حَدثنَا ابْن الْمُبَارك حَدثنَا ابْن عجلَان عَن صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة قَالَت: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، الحَدِيث. انْتهى كَلَامه. قلت: فِي مُسْند عبد الله بن وهب بِسَنَد صَحِيح، (عَن عُرْوَة عَنْهَا: فرض الله الصَّلَاة حِين فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ. .) الحَدِيث. وَعند السراج،بِسَنَد صَحِيح:
    (فرض الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول مَا فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ) (ح) وَفِي لفظ: (كَانَ أول مَا افْترض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب) ، وَسَنَده صَحِيح.
    .......
    (7/135)
    الْمُسَافِر لَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي السّفر أَرْبعا، لِأَن فَرْضه فِيهِ رَكْعَتَانِ. وَمِمَّنْ ذهب إِلَى هَذَا عمر بن عبد الْعَزِيز، إِن صَحَّ عَنهُ. وَعنهُ: الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَانِ لَا يَصح غَيرهمَا، ذكره ابْن حزم محتجا بِهِ، وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَقَول بعض أَصْحَاب مَالك، وروى عَن مَالك أَيْضا وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ،أَنه قَالَ: من أتم فِي السّفر أعَاد فِي الْوَقْت،وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث عمر بن الْخطاب: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح،وَبِمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس عِنْد مُسلم: (إِن الله فرض الصَّلَاة على نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَضَر أَرْبعا وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي (التَّمْهِيد) من حَدِيث أبي قلَابَة: (عَن رجل من بني عَامر أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى وضع عَن الْمُسَافِر الصَّوْم وَشطر الصَّلَاة) ، وَعَن أنس بن مَالك الْقشيرِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، وَعند ابْن حزم صَحِيحا عَن ابْن عمر،قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ من ترك السّنة كفر) ،وَعَن ابْن عَبَّاس: من صلى فِي السّفر أَرْبعا كمن صلى فِي الْحَضَر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي (مُسْند السراج) بِسَنَد جيد: عَن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي يرفعهُ: (إِن الله تَعَالَى وضع عَن الْمُسَافِر الصّيام وَنصف الصَّلَاة) ، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَالثَّوْري، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن قَامَ إِلَى الثَّالِثَة ألغاها وَسجد للسَّهْو. وَقَالَ الْحسن بن حَيّ: إِذا صلى أَرْبعا مُتَعَمدا أَعَادَهَا إِذا كَانَ ذَلِك مِنْهُ الشَّيْء الْيَسِير، فَإِن طَال ذَلِك مِنْهُ وَكثر فِي سَفَره لم يعد،وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: من صلى أَرْبعا عمدا بئس مَا صنع، وقضيت عَنهُ. ثمَّ قَالَ: لَا أَبَا لَك، أَتَرَى أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تركوها لِأَنَّهَا ثقلت عَلَيْهِم؟وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت لِأَحْمَد: الرجل يُصَلِّي أَرْبعا فِي السّفر؟قَالَ: لَا، مَا يُعجبنِي. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: الأولى الْقصر ليخرج من الْخلاف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على مَا فعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث دَلِيل صَرِيح للحنفية فِي وجوب الْقصر؟قلت: لَا دلَالَة لَهُم فِيهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الحَدِيث مجْرى على ظَاهِرَة لما جَازَ لعَائِشَة إِتْمَامهَا،ثمَّ إِنَّه خبر وَاحِد لَا يُعَارض لفظ الْقُرْآن وَهُوَ: {أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . الصَّرِيح فِي أَنَّهَا كَانَت فِي الأَصْل زَائِدَة عَلَيْهِ، إِذْ الْقصر مَعْنَاهُ التنقيص، ثمَّ إِن الحَدِيث عَام مَخْصُوص بالمغرب وبالصبح، وحجية الْعَام الْمُخَصّص مُخْتَلف فِيهَا، ثمَّ إِن راوية الحَدِيث عَائِشَة قد خَالَفت رِوَايَتهَا،وَإِذا خَالف الرَّاوِي رِوَايَته لَا يجب الْعَمَل بروايته
    ...........
    (7/134)
    روى النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْعَلَاء بن زُهَيْر عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود (عَن عَائِشَة أَنَّهَا، اعْتَمَرت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا قدمت مَكَّة قَالَت: يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي: قصرت فأتممت، وَأَفْطَرت فَصمت،قَالَ: أَحْسَنت يَا عَائِشَة، وَمَا عَابَ عَليّ) . انْتهى. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح مَوْصُول، فَهَذَا يدل على أَن الْقصر غير وَاجِب، إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا لأنكر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على عَائِشَة فِي إِتْمَامهَا. قلت: قد اخْتلف فِيهِ على الْعَلَاء بن زُهَيْر، فَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَنهُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن الْعَلَاء بن زُهَيْر عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن عَائِشَة، فعلى هَذَا الْإِسْنَاد غير مَوْصُول. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : هَذِه اللَّفْظَة مشكلة، فَإِن الْمَعْرُوف أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يعْتَمر إلاّ أَربع عمر، كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار من رِوَايَة الْمُغيرَة بن زِيَاد عَن عَائِشَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُسَافر فَيتم الصَّلَاة وَيقصر، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ،وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَوَافَقَهُ الْبَيْهَقِيّ على صِحَة إِسْنَاده. قلت: كَيفَ يحكم بِصِحَّتِهِ وَقد قَالَ أَحْمد: الْمُغيرَة بن زِيَاد مُنكر الحَدِيث أَحَادِيثه مَنَاكِير؟وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: شيخ لَا يحْتَج بحَديثه؟ وَأدْخلهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الضُّعَفَاء
    .......
    (7/134)
    وَعَادَة الْبَيْهَقِيّ التَّصْحِيح عِنْد الِاحْتِجَاج لإمامه والتضعيف عِنْد الِاحْتِجَاج لغيره.
    ....
    (7/136)
    وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله: بَلغنِي إِن الْملك الْكَامِل سَأَلَ الْحَافِظ أَبَا الْخطاب بن دحْيَة عَن الْمغرب: هَل تقصر فِي السّفر؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهَا تقصر إِلَى ركعين، فَأنْكر عَلَيْهِ ذَلِك. فروى حَدِيثا بِسَنَدِهِ فِيهِ قصر الْمغرب إِلَى رَكْعَتَيْنِ، وَنسب إِلَى أَنه اختلقه، فَالله أعلم هَل يَصح وُقُوعه فِي ذَلِك؟ وَمَا أَظُنهُ يَقع فِي مثل هَذَا، إلاَّ أَنه اتهمَ. قَالَ الضياء الْمَقْدِسِي: لم يُعجبنِي حَاله، كَانَ كثير الوقيعة فِي الْأَئِمَّة، قَالَ ابْن وَاصل، قَاضِي حمان. . كَانَ ابْن دحْيَة مَعَ فرط مَعْرفَته بِالْحَدِيثِ وَحفظه الْكثير لَهُ مُتَّهمًا بالمجازفة فِي النَّقْل،وَقَالَ ابْن نقطة: كَانَ مَوْصُوفا بالمعرفة وَالْفضل إلاّ أَنه كَانَ يَدعِي أَشْيَاء لَا حَقِيقَة لَهَا. وَذكره الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) فَقَالَ: مُتَّهم فِي نَقله، مَعَ أَنه كَانَ من أوعية الْعلم، دخل فِيمَا لَا يعنيه
    .......
    (7/138)
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد عَامَّة أهل الْعلم، لَا نعلم بَينهم اخْتِلَافا،لَا يرَوْنَ بَأْسا أَن يُصَلِّي الرجل على رَاحِلَته تَطَوّعا حَيْثُ مَا كَانَ وَجهه إِلَى الْقبْلَة أَو غَيرهَا قلت: هَذَا بِالْإِجْمَاع فِي السّفر،وَاخْتلفُوا فِي الْحَضَر: فجوزه أَبُو يُوسُف وَأَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي من الشَّافِعِيَّة وَأهل الظَّاهِر،وَعَن بعض الشَّافِعِيَّة: يجوز التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر لَكِن مَعَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي جَمِيع الصَّلَاة،وَفِي وَجه آخر: يجوز للراكب دون الْمَاشِي، وَاسْتدلَّ أَبُو يُوسُف وَمن ذكرنَا مَعَه من جَوَاز التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر بِعُمُوم حَدِيث الْبَاب، لِأَنَّهُ لم يُصَرح فِيهِ بِذكر السّفر، وَمنع أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد من ذَلِك فِي الْحَضَر،واحتجا على ذَلِك بِحَدِيث ابْن عمر الْآتِي فِي: بَاب الْإِيمَاء على الدَّابَّة، عقيب هَذَا الْبَاب، لِأَن السّفر فِيهِ مَذْكُور،وَفِي إِحْدَى رِوَايَات مُسلم: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ مقبل من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة على رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجهه)
    ........
    (7/139)
    وَقَالَ ابْن حزم: يُوتر الْمَرْء قَائِما وَقَاعِدا لغير عذر إِن شَاءَ وعَلى دَابَّته،وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يجوز الْوتر على الرَّاحِلَة، وَلَا يجوز إلاّ على الأَرْض كَمَا فِي الْفَرَائِض، وَبِه قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَعُرْوَة ابْن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، ويروى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله فِي رِوَايَة،وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يزِيد بن سِنَان،قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم: قَالَ: حَدثنَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته ويوتر بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك كَانَ يفعل) وَإِسْنَاده صَحِيح، وَيزِيد بن سِنَان شيخ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل شيخ البُخَارِيّ، وحَنْظَلَة روى لَهُ الْجَمَاعَة، فَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب وَأَمْثَاله، وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى عَن ابْن عمر من غير هَذَا الْوَجْه من فعله،رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حدثما أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا عُثْمَان بن عمر وَبكر بن بكار،قَالَا: حَدثنَا عمر بن ذَر (عَن مُجَاهِد: أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر على بعيره أَيْنَمَا توجه بِهِ، فَإِذا كَانَ فِي السحر نزل فأوتر) ، وَإِسْنَاده صَحِيح. وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعيد بن جُبَير: (ان ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته تَطَوّعا، فَإِذا أَرَادَ أَن يُوتر نزل فأوتر على الأَرْض. .) ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك لَا يبْقى لأهل الْمقَالة الأولى حجَّة، وَلَا سِيمَا الرَّاوِي، إِذا فعل بِخِلَاف مَا روى، فَإِنَّهُ يدل على سُقُوط مَا روى. فَإِن قلت: صَلَاة ابْن عمر الْوتر على الأَرْض لَا تَسْتَلْزِم عدم جَوَازه عِنْده على الرَّاحِلَة. لِأَنَّهُ يجوز لَهُ أَن يفعل ذَلِك، وَله أَن يُوتر على الرَّاحِلَة. قلت: يجوز أَن يكون مَا رَوَاهُ ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وتره على الرَّاحِلَة قبل أَن يحكم أَمر الْوتر ويغلظ شَأْنه، لِأَنَّهُ كَانَ أَولا كَسَائِر التطوعات، ثمَّ أكد بعد ذَلِك فنسخ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَمن هَذِه الْجِهَة ثَبت نسخ الْوتر على الرَّاحِلَة، وَكَانَ مَا فعله ابْن عمر من وتره على الرَّاحِلَة قبل علمه بالنسخ، ثمَّ لما علمه رَجَعَ إِلَيْهِ وَترك الْوتر على الرَّاحِلَة، وَيجوز أَن يكون الْوتر عِنْده كالتطوع، فَلهُ أَن يُصَلِّي على الرَّاحِلَة وعَلى الأَرْض.
    ......
    (7/139)
    الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،إِنَّه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (ثَلَاث هن على فَرَائض وَهن لكم تطوع: الْوتر والنحر وركعتا الْفجْر) ، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالدَّارَقُطْن ِيّ وَالطَّبَرَانِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ ،وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ: (رَكعَتَا الضُّحَى) بدل: (رَكْعَتي
    الْفجْر) وَفِي إِسْنَاده أَبُو جناب الْكَلْبِيّ،واسْمه: يحيى بن أبي حَيَّة، وَهُوَ ضَعِيف. وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم سكت عَلَيْهِ، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته وخصوصية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوُجُوبِهِ فَالْوَاجِب لَا يُؤدى على الرَّاحِلَة، وَيحْتَمل أَن يكون فعله على الرَّاحِلَة من بَاب الخصوصية أَيْضا،وَقَوله: لَا يُسلمهُ الْجُمْهُور، وَكَلَام لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن الِاصْطِلَاح لَا يُنَازع فِيهِ،وَقَوله: وَلَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع، أبعد من ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يبين مَا المُرَاد من اقْتِضَاء الشَّرْع، وَعدم اقتضائه
    .........
    (7/142)
    لما فرغ خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،من وقْعَة الْيَمَامَة أرْسلهُ أَبُو بكر إِلَى الْعرَاق فَفتح فِي الْعرَاق فتوحات مِنْهَا: الْحيرَة والأيلة والأنبار وَغَيرهَا، وَلما انْتقل خَالِد بالأنبار استناب عَلَيْهَا الزبْرِقَان بن بدر وَقصد هُوَ عين التَّمْر، وَبهَا يَوْمئِذٍ مهْرَان بن بهْرَام فِي جمع عَظِيم من الْعَرَب، وَعَلَيْهِم عفة بن أبي عفة، فَتلقى خَالِدا فَكَسرهُ خَالِد وَانْهَزَمَ جَيش عفة من غير قتال، وَلما بلغ ذَلِك مهْرَان نزل من الْحصن وهرب وَتَركه، وَرجعت قلال نَصَارَى الْأَعْرَاب إِلَى الْحصن فدخلوه واحتموا بِهِ، فَجَاءَهُمْ خَالِد فأحاط بهم وحاصرهم أَشد الْحصار، فآخر الْأَمر سَأَلُوا الصُّلْح فَأبى خَالِد إلاَّ أَن ينزلُوا على حكمه، فنزلوا على حكمه فجعلهم فِي السلَاسِل وتسلم الْحصن، فَضرب عنق عفة وَمن كَانَ أسر مَعَه وَالَّذين نزلُوا على حكمه أَيْضا أَجْمَعِينَ، وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِي الْحصن، وَوجد فِي الْكَنِيسَة الَّتِي بِهِ أَرْبَعِينَ غُلَاما يتعلمون الْإِنْجِيل وَعَلَيْهِم بَاب مغلق،فَكَسرهُ خَالِد وفرقهم فِي الْأُمَرَاء فَكَانَ فيهم: حمْرَان، صَار إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَمِنْهُم: سِيرِين وَالِد مُحَمَّد بن سِيرِين أَخذه أنس بن مَالك وَجَمَاعَة آخَرُونَ من الموَالِي إِلَى آخَرين من الْمَشَاهِير أَرَادَ الله بهم وبذراريهم خيرا.
    .........
    (7/144)
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: اخْتلف أهل الْعلم بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرَأى بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَطَوَّع الرجل فِي السّفر، وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَلم تَرَ طَائِفَة من أهل الْعلم أَن يُصَلِّي قبلهَا وَلَا بعْدهَا،وَمعنى: من لم يتَطَوَّع فِي السّفر، قبُول الرُّخْصَة، وَمن تطوع فَلهُ فِي ذَلِك فضل كثير، وَقَول أَكثر أهل الْعلم يختارون التَّطَوُّع فِي السّفر. وَقَالَ السَّرخسِيّ فِي (الْمَبْسُوط) والمرغيناني: لَا قصر فِي السّنَن، وَتَكَلَّمُوا فِي الْأَفْضَل،قيل: التّرْك ترخصا،وَقيل: الْفِعْل تقربا،وَقَالَ الهندواني: الْفِعْل أفضل فِي حَال النُّزُول وَالتّرْك فِي حَال السّير،قَالَ هِشَام: رَأَيْت مُحَمَّدًا كثيرا لَا يتَطَوَّع فِي السّفر قبل الظّهْر وَلَا بعْدهَا وَلَا يدع رَكْعَتي الْفجْر وَالْمغْرب، وَمَا رَأَيْته يتَطَوَّع قبل الْعَصْر وَلَا قبل الْعشَاء وَيُصلي الْعشَاء ثمَّ يُوتر.
    .......
    (7/149)
    وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الْجُمْهُور: الْمُسَافِر يجوز لَهُ الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء مُطلقًا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين. وَفِي الْمَسْأَلَة سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: جَوَاز الْجمع مثل مَا قَالَه ابْن بطال،وروى ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد وَأُسَامَة بن زيد ومعاذ بن جبل وَأَبُو مُوسَى وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين،مِنْهُم: عَطاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد وَرَبِيعَة الرَّأْي وَأَبُو الزِّنَاد وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَصَفوَان بن سليم،وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر،وَمن الْمَالِكِيَّة: أَشهب، وَحَكَاهُ ابْن قدامَة عَن مَالك أَيْضا،وَالْمَشْهُور عَن مَالك: تَخْصِيص الْجمع بجد السّير. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّمَا يجوز الْجمع إِذا جد بِهِ السّير، رُوِيَ ذَلِك عَن أُسَامَة بن زيد وَابْن عمر وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ. القَوْل الثَّالِث: إِنَّه تجوز إِذا أَرَادَ قطع الطَّرِيق، وَهُوَ قَول ابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة،وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَأما قَول ابْن حبيب فَهُوَ قَول الشَّافِعِي، لِأَن السّفر نَفسه إِنَّمَا هُوَ لقطع الطَّرِيق. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْجمع مَكْرُوه،وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: إِنَّهَا رِوَايَة المصريين عَن مَالك. وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه يجوز جمع التَّأْخِير لَا جمع التَّقْدِيم، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن حزم. وَالْقَوْل السَّادِس: أَنه لَا يجوز مُطلقًا بِسَبَب السّفر، وَإِنَّمَا يجوز بِعَرَفَة والمزدلفة، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْأسود وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ فِي (التَّلْوِيح) : وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إِلَى منع الْجمع فِي غير هذَيْن المكانين، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص فِيمَا ذكره ابْن شَدَّاد فِي كِتَابه (دَلَائِل الْأَحْكَام) وَابْن عمر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمَكْحُول وَعَمْرو بن دِينَار وَالثَّوْري وَالْأسود وَأَصْحَابه وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَالم وَاللَّيْث بن سعد،
    ..........
    (7/151)
    وَقَالَ الْخطابِيّ فِي الرَّد على تَأْوِيل أَصْحَابنَا: إِن الْجمع رخصَة، فَلَو كَانَ على مَا ذَكرُوهُ لَكَانَ أعظم ضيقا من الْإِتْيَان بِكُل صَلَاة فِي وَقتهَا، لِأَن أَوَائِل الْأَوْقَات وأواخرها مِمَّا لَا يُدْرِكهُ أَكثر الْخَاصَّة فضلا عَن الْعَامَّة،وَقَالَ ابْن قدامَة: أَن حمل الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ على الْجمع الصُّورِي فَاسد لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه جَاءَ الْخَبَر صَرِيحًا فِي أَنه كَانَ يجمعهما فِي وَقت
    إِحْدَاهمَا،وَالثَّانِي: أَن الْجمع رخصَة، فَلَو كَانَ على مَا ذَكرُوهُ لَكَانَ أَشد ضيقا وَأعظم حرجا من الْإِتْيَان بِكُل صَلَاة فِي وَقتهَا،قَالَ: وَلَو كَانَ الْجمع هَكَذَا لجَاز الْجمع بَين الْعَصْر وَالْمغْرب، وَبَين الْعشَاء وَالصُّبْح. قَالَ: وَلَا خلاف بَين الْأمة فِي تَحْرِيم ذَلِك. قَالَ: وَالْعَمَل بالْخبر على الْوَجْه السَّابِق مِنْهُ إِلَى الْفَهم أولى من هَذَا التَّكَلُّف الَّذِي يصان كَلَام رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من حمله عَلَيْهِ. قلت: سلمنَا أَن الْجمع رخصَة، وَلَكِن حملناه على الْجمع الصُّورِي حَتَّى لَا يُعَارض الْخَبَر الْوَاحِد الْآيَة القطعية،وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} (الْبَقَرَة: 832) . أَي: أدوها فِي أَوْقَاتهَا،وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} (النِّسَاء: 301) . أَي: فرضا موقوتا، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْعَمَل بِالْآيَةِ وَالْخَبَر، وَمَا قَالُوهُ يُؤَدِّي إِلَى ترك الْعَمَل بِالْآيَةِ ويلزمهم على مَا قَالُوا من الْجمع الْمَعْنَوِيّ رخصَة أَن يجمعوا لعذر الْمَطَر أَو الْخَوْف فِي الْحَضَر، وَمَعَ هَذَا لم يجوزوا ذَلِك، وَأولُوا حَدِيث ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر) ، الحَدِيث، بتأويلات مَرْدُودَة، وَفِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ الْعَمَل بِالْكتاب، وَبِكُل حَدِيث جَاءَ فِي هَذَا الْبَاب من غير حَاجَة إِلَى تأويلات،وَأما قَول الْخطابِيّ: لِأَن أَوَائِل الْأَوْقَات. . إِلَى آخِره، غير مُسلم، لِأَن الصَّلَاة من أعظم أُمُور الدّين فالمسلم الْكَامِل كَيفَ يخفى عَلَيْهِ أُمُور مَا يتَعَلَّق بأعظم أُمُور دينه؟ وَيرد على ابْن قدامَة أَيْضا بِمَا ذكرنَا، وَقِيَاسه على الْجمع بَين الْعَصْر وَالْمغْرب، وَبَين الْعشَاء وَالصُّبْح بَاطِل لَا وَجه لَهُ أصلا لعدم وجود الْمُلَازمَة، وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا ترك صون كَلَام الرَّسُول، بل فِيمَا قُلْنَا صون كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وللتوفيق بَين الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهرهَا يتعارض، فَافْهَم.
    .....
    (7/155)
    وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي وَقت الْجمع،فَقَالَ الْجُمْهُور: إِن شَاءَ جمع بَينهمَا فِي وَقت الأولى، وَإِن شَاءَ جمع فِي وَقت الْآخِرَة،ثمَّ نقل قَول أبي حنيفَة ثمَّ قَالَ: وَهَذَا قَول بِخِلَاف الْآثَار. قُلْنَا: قد ذكرنَا أَن فِي هَذَا الْبَاب سِتَّة أَقْوَال قد بيناها، وَأَبُو حنيفَة قطّ مَا خَالف الْآثَار، فَإِنَّهُ احْتج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بِالْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس، وَحمل أَحَادِيث الْجمع على الْجمع الْمَعْنَوِيّ. فَفِيمَا قَالَه عمل بِجَمِيعِ الْآثَار، وَفِيمَا قَالَه ابْن بطال وَمن رأى الْجمع الصُّورِي إهمال للْبَعْض، مَعَ أَنه فِيمَا نقل عَن الْجُمْهُور مُخَالفَة للْحَدِيث الْمَذْكُور، وَهُوَ ظَاهر.
    ...........
    (7/158)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: وَأما قَوْله: (وَمن صلى نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد) ، فَإِنِّي لَا أعلم أَنِّي سمعته إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا أحفظ من أحد من أهل الْعلم أَنه رخص فِي صَلَاة التَّطَوُّع نَائِما، كَمَا رخصوا فِيهَا قَاعِدا، فَإِن صحت هَذِه اللَّفْظَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يكن من كَلَام بعض الروَاة أدرجه فِي الحَدِيث وقاسه على صَلَاة الْقَاعِد أَو اعْتَبرهُ بِصَلَاة الْمَرِيض نَائِما إِذا لم يقدر على الْقعُود، فَإِن التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر على الْقعُود جَائِز، كَمَا يجوز أَيْضا للْمُسَافِر إِذا تطوع على رَاحِلَته، فَأَما من جِهَة الْقيَاس فَلَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي مُضْطَجعا، كَمَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي قَاعِدا، لِأَن الْقعُود شكل من أشكال الصَّلَاة وَلَيْسَ الِاضْطِجَاع فِي شَيْء من أشكال الصَّلَاة،
    قَالَ شَيخنَا زين الدّين: أما نفي الْخطابِيّ وَابْن بطال للْخلاف فِي صِحَة التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر فمردود،فَإِن فِي مَذْهَبنَا وَجْهَيْن: الْأَصَح مِنْهُمَا الصِّحَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة فِيهِ ثَلَاثَة أوجه حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) : أَحدهَا الْجَوَاز مُطلقًا فِي الاضطراار، وَالِاخْتِيَار للصحيح وَالْمَرِيض لظَاهِر الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي صدر بِهِ القَاضِي كَلَامه. وَالثَّانِي: مَنعه مُطلقًا لَهما، إِذْ لَيْسَ فِي هَيْئَة الصَّلَاة. وَالثَّالِث: إِجَازَته لعدم قُوَّة الْمَرِيض فَقَط،وَقد روى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ جَوَازه حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن أَشْعَث بن عبد الْملك (عَن الْحسن،قَالَ: إِن شَاءَ الرجل صلى صَلَاة التَّطَوُّع قَائِما أَو جَالِسا أَو مُضْطَجعا) فَكيف يَدعِي مَعَ هَذَا الْخلاف الْقَدِيم والْحَدِيث الِاتِّفَاق؟وَأما مَا ادَّعَاهُ ابْن بطال عَن النَّسَائِيّ من أَنه صحفه فَقَالَ: نَائِما،وَإِنَّمَا الرِّوَايَة: بإيماء، على الْجَار وَالْمَجْرُور،فَلَعَلَّ التَّصْحِيف من ابْن بطال: وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِك حمل قَوْله: (نَائِما) على النّوم حَقِيقَة الَّذِي أَمر الْمُصَلِّي إِذا وجده أَن يقطع الصَّلَاة، وَلَيْسَ المُرَاد هَهُنَا إلاّ الِاضْطِجَاع لمشابهته لهيئة النَّائِم،وَحكى القَاضِي عِيَاض فِي الْإِكْمَال) : أَن فِي بعض الرِّوَايَات: مُضْطَجعا،مَكَان: نَائِما، وَبِه فسره أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي،فَقَالَ: نَائِما،يَعْنِي: مُضْطَجعا. وَقَالَ شَيخنَا: وَبِه فسره البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) فَقَالَ،بعد إِيرَاده للْحَدِيث: قَالَ أَبُو عبد الله: نَائِما عِنْدِي مُضْطَجعا،وَقَالَ أَيْضا: وَقد بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ: فضل صَلَاة الْقَاعِد على النَّائِم،وَلم أر فِيهِ: بَاب صَلَاة النَّائِم، كَمَا نَقله ابْن بطال.

    ...........
    (7/159)
    فِي حَدِيث عمرَان حجَّة على أبي حنيفَة من أَنه إِذا عجز عَن الْقعُود سَقَطت الصَّلَاة، حَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن أبي حنيفَة فِي (الْوَسِيط) قلت: هَذَا لم يَصح وَلم ينْقل هَذَا أحد من أَصْحَابنَا عَن أبي حنيفَة،وَلِهَذَا قَالَ لرافعي: لَكِن هَذَا النَّقْل لَا يكَاد يلفي فِي كتبهمْ وَلَا فِي كتب أَصْحَابنَا، وَإِنَّمَا الثَّابِت عَن أبي حنيفَة إِسْقَاط الصَّلَاة إِذا عجز عَن الْإِيمَاء بِالرَّأْسِ،وَاسْتدلَّ بِحَدِيث عمرَان من قَالَ: لَا ينْتَقل الْمَرِيض بعد الْعَجز عَن الصَّلَاة على الْجنب والإيماء بِالرَّأْسِ إِلَى فرض آخر من الْإِيمَاء بالطرف، وَحكي ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَمَالك إلاّ أَنَّهُمَا اخْتلفَا،فَأَبُو حنيفَة يَقُول: يقْضِي بعد الْبُرْء،وَمَالك يَقُول: لَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَحكى صَاحب (الْبَيَان) عَن بعض الشَّافِعِيَّة وَجها مثل مَذْهَب أبي حنيفَة وَقَالَ جُمْهُور الشَّافِعِيَّة: إِن عجز عَن الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ أَوْمَأ بطرفه، فَإِن لم يقدر على تَحْرِيك الأجفان أجْرى أَفعَال الصَّلَاة على لِسَانه، فَإِن اعتقل لِسَانه أجْرى الْقُرْآن والأذكار على قلبه، وَمَا دَامَ عَاقِلا لَا تسْقط عَنهُ الصَّلَاة،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي هَذَا الحَدِيث: (من صلى جَالِسا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم) . قَالَ: هَذَا للصحيح وَلمن لَيْسَ لَهُ عذر، فَأَما من كَانَ لَهُ عذر من مرض أَو غَيره فصلى جَالِسا فَلهُ مثل أجر الْقَائِم،وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِذا صلى قَاعِدا صَلَاة النَّفْل مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام فَهَذَا لَهُ نصف ثَوَاب الْقَائِم، وَأما إِذا صلى النَّفْل قَاعِدا لعَجزه عَن الْقيام فَلَا ينقص ثَوَابه، بل يكون ثَوَابه كثوابه قَائِما، وَأما الْفَرْض فَإِن صلَاته قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام لَا تصح، فضلا عَن الثَّوَاب. وَإِن صلى قَاعِدا لعَجزه عَن الْقيام أَو مُضْطَجعا لعَجزه عَن الْقعُود، فثوابه كثوابه قَائِما لَا ينقص
    ............
    (7/165)
    وَذكر ابْن بطال عَن الْبَعْض: إِنَّمَا خص سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهَا كَانَت فَرِيضَة عَلَيْهِ، وَلغيره تطوع،وَمِنْهُم من قَالَ: بِأَن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة، ثمَّ نسخت فَصَارَت نَافِلَة،أَي: تَطَوّعا. وَذكر فِي كَونهَا نَافِلَة أَن الله تَعَالَى غفر لَهُ من ذنُوبه مَا تقدم وَمَا تَأَخّر، فَكل طَاعَة يَأْتِي بهَا سوى الْمَكْتُوبَة تكون زِيَادَة فِي كَثْرَة الثَّوَاب فَلهَذَا سمي نَافِلَة بِخِلَاف الْأمة فَإِن لَهُم ذنوبا محتاجة إِلَى الْكَفَّارَات، فَثَبت أَن هَذِه الطَّاعَات إِنَّمَا تكون زَوَائِد ونوافل فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا فِي حق غَيره،وَأما الَّذين قَالُوا: إِن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ قَالُوا: معنى كَونهَا نَافِلَة على التَّخْصِيص أَي: أَنَّهَا فَرِيضَة لَك زَائِدَة على الصَّلَوَات الْخمس، خصصت بهَا من بَين أمتك وَذكر بعض السّلف أَنه يجب على الْأمة قيام اللَّيْل مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم، وَلَو قدر حلب شَاة،وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا غلط ومردود، وَقيام اللَّيْل أَمر مَنْدُوب إِلَيْهِ وَسنة متأكدة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي (صَحِيح مُسلم) : (أفضل الصَّلَاة بعد الْمَكْتُوبَة صَلَاة اللَّيْل، فَإِن قسمت اللَّيْل نِصْفَيْنِ فالنصف الآخر أفضل. وَإِن قسمته أَثلَاثًا. فالأوسط أفضلهَا) . وَأفضل مِنْهُ صَلَاة السُّدس الرَّابِع وَالْخَامِس لحَدِيث ابْن عَمْرو فِي صَلَاة دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكرهُ أَن يقوم كل اللَّيْل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (بَلغنِي أَنَّك تقوم اللَّيْل؟قلت: نعم،قَالَ: لكني أُصَلِّي وأنام، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني)
    .......
    (7/170)
    قَالَ الْقُرْطُبِيّ إِنَّمَا فسر الشَّارِع من رُؤْيا عبد الله بِمَا هُوَ ممدوح لِأَنَّهُ عرض على النَّار ثمَّ عوفي مِنْهَا وَقيل لَهُ لَا روع عَلَيْك وَذَلِكَ لصلاحه غير أَنه لم يكن يقوم من اللَّيْل فَحصل لعبد الله من ذَلِك تَنْبِيه على أَن قيام اللَّيْل مِمَّا يَتَّقِي بِهِ النَّار والدنو
    مِنْهَا فَلذَلِك لم يتْرك قيام اللَّيْل بعد ذَلِك وَقَالَ الْمُهلب السِّرّ فِي ذَلِك كَون عبد الله كَانَ ينَام فِي الْمَسْجِد وَمن حق الْمَسْجِد أَن يتعبد فِيهِ فنبه على ذَلِك بالتخويف بالنَّار قَوْله " لَو كَانَ يُصَلِّي " كلمة لَو لِلتَّمَنِّي لَا للشّرط وَلذَلِك لم يذكر لَهَا جَوَاب.
    ............
    (7/170)
    كَرَاهَة كَثْرَة النّوم بِاللَّيْلِ وروى سعيد عَن يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن أَبِيه عَن جَابر مَرْفُوعا " قَالَت أم سُلَيْمَان لِسُلَيْمَان يَا بني لَا تكْثر النّوم بِاللَّيْلِ فَإِن كَثْرَة النّوم بِاللَّيْلِ تدع الرجل فَقِيرا يَوْم الْقِيَامَة " وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال
    ..........
    (7/172)
    الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مُخْتَلف فِيهَا،فَفِي رِوَايَة الْحَاكِم: امْرَأَة أبي لَهب، وَهِي أم جميل العوراء بنت حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف، وَهِي أُخْت أبي سُفْيَان بن حَرْب،وَقيل: امْرَأَة من أَهله أَو من قومه. قلت: لَا شكّ أَن أم جميلَة من قومه لِأَنَّهَا من بني عبد منَاف،وَفِي رِوَايَة سنيد بن دَاوُد: إِنَّهَا عَائِشَة، وَقد غلط سنيد فِيهِ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن وَكِيع،فَقَالَ فِيهِ: قَالَت خَدِيجَة. وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن أبي حَاتِم، وَقد أنكر ذَلِك، لِأَن خَدِيجَة قَوِيَّة الْإِيمَان فَلَا يَلِيق نِسْبَة هَذَا القَوْل إِلَيْهَا وَإِن كَانَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (أَحْكَامه) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فِي (تَفْسِيره) وَأَبُو دَاوُد فِي (أَعْلَام النُّبُوَّة) لَهُ، كلهم من طَرِيق عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد،وَمَعَ هَذَا لَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُم أَنَّهَا عبرت بقولِهَا: شَيْطَانك، وَهَذِه لَفْظَة مستنكرة جدا، وَزعم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عَسْكَر أَن القائلة ذَاك إِحْدَى عماته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،ثمَّ الظَّاهِر أَن الْمَرْأَة الَّتِي قَالَت: يَا مُحَمَّد} مَا أرى شَيْطَانك إلاّ قد تَركك؟ير الْمَرْأَة الَّتِي قَالَت: مَا أرى صَاحبك إلاّ قد أَبْطَأَ عَنْك؟لِأَن هَذِه قَالَت: يَا رَسُول الله،وَتلك قَالَت: يَا مُحَمَّد،وَالَّتِي قَالَت: شَيْطَانك قَالَت تهكما وشماتة،وَالَّتِي قَالَت: صَاحبك، قَالَت تأسفا وتوجعا
    ..........
    (7/175)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا من عَائِشَة إِخْبَار عَمَّا عَلمته دون مَا لم تعلم، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الضُّحَى يَوْم الْفَتْح، وَأوصى أَبَا ذَر وَأَبا هُرَيْرَة،وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أما قَوْلهَا: مَا سبح سبْحَة الضُّحَى قطّ، فَهُوَ أَن من علم من السّنَن علما خَاصّا يَأْخُذ عَنهُ بعض أهل الْعلم دون بعض، فَلَيْسَ لأحد من الصَّحَابَة إلاّ وَقد فَاتَهُ من الحَدِيث مَا أَحْصَاهُ غَيره، والإحاطة
    متنعة، وَإِنَّمَا حصل الْمُتَأَخّرُون َ علم ذَلِك مُنْذُ صَار الْعلم فِي الْكتب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يكون عِنْد عَائِشَة فِي وَقت الضُّحَى إِلَّا فِي نَادِر من الْأَوْقَات، فإمَّا مُسَافر أَو حَاضر فِي الْمَسْجِد أَو غَيره أَو عِنْد بعض نِسَائِهِ،وَمَتى يَأْتِي يَوْمهَا بعد تِسْعَة
    .......
    (7/177)
    أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهَا هَل هِيَ سنة أَو تطوع مُبْتَدأ فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين الضزيري رَحمَه الله نفس التَّرَاوِيح سنة وَأما أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَة فمستحب وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن نفس التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا وَقَالَ الصَّدْر الشَّهِيد هُوَ الصَّحِيح وَفِي جَوَامِع الْفِقْه التَّرَاوِيح سنة مُؤَكدَة وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة وَفِي رَوْضَة الْحَنَفِيَّة وَالْجَمَاعَة فَضِيلَة وَفِي الذَّخِيرَة لنا عَن أَكثر الْمَشَايِخ أَن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على الْكِفَايَة الثَّانِي أَن عَددهَا عشرُون رَكْعَة وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَنَقله القَاضِي عَن جُمْهُور الْعلمَاء وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة ويوتر بِسبع وَعند مَالك سِتَّة وَثَلَاثُونَ رَكْعَة غير الْوتر وَاحْتج على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة وَاحْتج أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّ ة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح " عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ قَالَ كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِعشْرين رَكْعَة وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مثله " وَفِي الْمُغنِي عَن عَليّ أَنه أَمر رجلا أَن يُصَلِّي بهم فِي رَمَضَان بِعشْرين رَكْعَة قَالَ وَهَذَا كالإجماع (فَإِن قلت) قَالَ فِي الْمُوَطَّأ عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ كَانَ النَّاس فِي زمن عمر يقومُونَ فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة (قلت) قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر وَيزِيد لم يدْرك عمر فَيكون مُنْقَطِعًا
    ........
    (7/178)
    قَالَ ابْن بطال. وَفِيه أَن قيام رَمَضَان سنة بِالْجَمَاعَة وَلَيْسَ كَمَا زَعمه بَعضهم أَنه سنة عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أَجمعُوا على أَنه لَا يجوز تَعْطِيل الْمَسَاجِد عَن قيام رَمَضَان فَهُوَ وَاجِب على الْكِفَايَة
    .........
    (7/185)
    اخْتلف الْعلمَاء: هَل الْأَفْضَل فِي صَلَاة التَّطَوُّع طول الْقيام أَو كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود؟ فَذهب بَعضهم إِلَى أَن كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود أفضل، وَاحْتَجُّوا
    فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن ثَوْبَان: أفضل الْأَعْمَال كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود، قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما سَأَلَهُ ربيعَة بن كَعْب مرافقته فِي الْجنَّة،قَالَ: (أَعنِي على نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود) ،وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة إلاَّ كتب الله، عز وَجل، لَهُ بهَا حَسَنَة ومحا عَنهُ بهَا سَيِّئَة، وَرفع لَهَا بهَا دَرَجَة، فاستكثروا من السُّجُود) . وروى ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث كثير بن مرّة: (أَن أَبَا فَاطِمَة حَدثهُ،قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله {أَخْبرنِي بِعَمَل أستقيم عَلَيْهِ وأعمله} قَالَ: عَلَيْك بِالسُّجُود فَإنَّك لَا تسْجد لله سَجْدَة إلاَّ رفعك الله بهَا دَرَجَة وَحط عَنْك بهَا خَطِيئَة) وَبِمَ
    وَقَالَ أَشهب: هُوَ أحب إِلَيّ لِكَثْرَة الْقِرَاءَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث الْبَاب، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصَّلَاة أفضل؟ قَالَ: طول الْقُنُوت) . وَأَرَادَ بِهِ طول الْقيام، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن حبش الْخَثْعَمِي: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي الصَّلَاة أفضل؟ فَقَالَ: طول الْقيام) . وَهَذَا يُفَسر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (طول الْقُنُوت)
    ...........
    (7/185)
    حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمرَ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عَبْدِ الله عنْ حُصَيْنٍ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا قامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ بِالسِّوَاكِ..
    قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث لَا دخل لَهُ فِي الْبَاب لِأَن شوص الْفَم لَا يدل على طول الصَّلَاة. قَالَ: وَيُمكن أَن يكون ذَلِك من غلط النَّاسِخ، فَكَتبهُ فِي غير مَوْضِعه أَو أَن البُخَارِيّ أعجلته الْمنية عَن تَهْذِيب كِتَابه وتصفحه، وَله فِيهِ مَوَاضِع مثل هَذَا تدل على أَنه مَاتَ قبل تَحْرِير الْكتاب. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَن حُذَيْفَة روى قَالَ: (صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات لَيْلَة فَافْتتحَ الْبَقَرَة،فَقلت: يرْكَع عِنْد الْمِائَة فَمضى،فَقلت: يُصَلِّي بهَا فِي رَكْعَة فَمضى. .) الحَدِيث. فَكَأَنَّهُ لما قَالَ: يتهجد، وَذكر حَدِيثه فِي السِّوَاك، وَكَانَ يتَسَوَّك حِين يقوم من النّوم، وَلكُل صَلَاة فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى طول الْقيام، أَو يحمل على أَن فِي الحَدِيث إِشَارَة من جِهَة أَن اسْتِعْمَال السِّوَاك حِينَئِذٍ يدل على مَا يُنَاسِبه من إِكْمَال الْهَيْئَة وَالتَّأَهُّب لِلْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ دَلِيل على طول الْقيام، إِذْ النَّافِلَة المخففة لَا يتهيأ لَهَا هَذَا التهيؤ الْكَامِل.
    لت: هَذِه كلهَا تعسفات لَا طائل تحتهَا، أما ابْن بطال فَإِنَّهُ لم يذكر شَيْئا مَا فِي تَوْجِيه وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب،وَإِنَّمَا ذكر وَجْهَيْن: أَحدهمَا: نِسْبَة هَذَا إِلَى الْغَلَط من النَّاسِخ، وَهَذَا بعيد، لِأَن النَّاسِخ لم يَأْتِ بِهَذَا الحَدِيث من عِنْده وَكتبه هُنَا. وَالثَّانِي: أَنه اعتذر من جِهَة البُخَارِيّ بِأَنَّهُ لم يدْرك تحريره، وَفِيه نوع نِسْبَة إِلَى التَّقْصِير، وَأما كَلَام ابْن الْمُنِير فَإِنَّهُ لَا يجدي شَيْئا فِي تَوْجِيه هَذَا الْموضع، لِأَن حَاصِل مَا ذكره من الطول هُوَ الْخَارِج عَن مَاهِيَّة الصَّلَاة، وَلَيْسَ المُرَاد من التَّرْجَمَة مُطلق الطول، وَإِنَّمَا المُرَاد هُوَ الطول الْكَائِن فِي هَيْئَة الصَّلَاة،وَأما الْقَائِل الَّذِي وَجه بقوله: أَرَادَ بِهَذَا الحَدِيث استحضار حَدِيث حُذَيْفَة، فَإِنَّهُ تَوْجِيه بعيد، لِأَن استحضار حَدِيث أَجْنَبِي بِالْوَجْهِ الَّذِي ذكره لَا يدل على الْمُطَابقَة، وَأما كَلَام بَعضهم، فاحتمال بعيد، لِأَن تبييض التَّرْجَمَة لحَدِيث حُذَيْفَة لَا وَجه لَهُ أصلا لعدم الْمُنَاسبَة، وَلَكِن يُمكن أَن يعْتَذر عَن البُخَارِيّ فِي وَضعه هَذَا الحَدِيث هُنَا بِوَجْه مِمَّا يسْتَأْنس بِهِ، وَهُوَ أَن التَّرْجَمَة فِي طول الْقيام فِي صَلَاة اللَّيْل وَحَدِيث حُذَيْفَة فِيهِ الْقيام للتهجد، والتهجد فِي اللَّيْل غَالِبا يكون بطول الصَّلَاة، وَطول الصَّلَاة غَالِبا يكون بطول الْقيام، فِيهَا وَإِن كَانَ يَقع أَيْضا بطول الرُّكُوع وَالسُّجُود.


    .......
    (7/187)
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر،رَحمَه الله تَعَالَى: وَأهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن الِاضْطِرَاب عَنْهَا فِي الْحَج وَالرّضَاع وَصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ وَقصر صَلَاة الْمُسَافِر لم يَأْتِ ذَلِك إلاّ مِنْهَا، لِأَن الروَاة عَنْهَا حفاظ، وَكَأَنَّهَا أخْبرت بذلك فِي أَوْقَات مُتعَدِّدَة وأحوال مُخْتَلفَة.

    ..........
    (7/189)
    قَالَ أَبُو عمر: قَول بعض التَّابِعين: قيام اللَّيْل فرض وَلَو قدر حلب شَاة،قَول شَاذ مَتْرُوك لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن قيام اللَّيْل نسخ بقوله: {علم إِن لن تحصوه. .} الْآيَة. وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: افْترض الْقيام فِي أول هَذِه الصُّورَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم، وَأمْسك الله خاتمتها إثني عشر شهرا، ثمَّ نزل التَّخْفِيف فِي آخرهَا، فَصَارَ قيام اللَّيْل تَطَوّعا بعد أَن كَانَ فَرِيضَة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَزيد بن أسلم وَآخَرين، فِيمَا حكى عَنْهُم النّحاس،
    .........
    (7/189)
    قَوْله: {إِن ناشئة اللَّيْل} قَالَ السَّمرقَنْدِي: يَعْنِي سَاعَات اللَّيْل
    وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ناشئة اللَّيْل النَّفس الناشئة بِاللَّيْلِ الَّتِي تنشأ من مضجعها إِلَى الْعِبَادَة،أَي: تنهض وترفع من نشأت السَّحَاب إِذا ارْتَفَعت، وَنَشَأ من مَكَانَهُ وَنشر إِذا نَهَضَ،
    الَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَشَأَ قامَ بالحَبَشِيَّة
    ........
    (7/191)
    اخْتلف الْعلمَاء، هَل فِي الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر الْعَرَبيَّة؟ فَذهب بَعضهم،إِلَى أَن غير الْعَرَبيَّة مَوْجُود فِي الْقُرْآن: كسجيل وفردوس وناشئة، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَيْسَ الْقُرْآن شَيْء بِغَيْر الْعَرَبيَّة،وَقَالُوا: مَا ورد من ذَلِك فَهُوَ من توَافق اللغتين، فعلى هَذَا لفظ، ناشئة،إِمَّا مصدر على وزن: فاعلة، كعاقبة من نَشأ إِذا قَامَ،أَو هُوَ: اسْم فَاعل،صفة لمَحْذُوف تَقْدِيره: النَّفس الناشئة، كَمَا نقلنا عَن الزَّمَخْشَرِيّ عَن قريب.
    ........
    (7/195)
    وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: (بَال الشَّيْطَان) ،فَقيل: هُوَ على حَقِيقَته. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا مَانع من حَقِيقَته لعدم الإحالة فِيهِ لِأَنَّهُ ثَبت أَنه يَأْكُل وَيشْرب وينكح، فَلَا مَانع من أَن يَبُول. وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ تَمْثِيل، شبه تثاقل نَومه وإغفاله عَن الصَّلَاة بِحَال من يبال فِي أُذُنه فيثقل سَمعه وَيفْسد حسه. قَالَ: وَإِن كَانَ المُرَاد حَقِيقَة عين الْبَوْل من الشَّيْطَان نَفسه فَلَا يُنكر ذَلِك إِن كَانَت لَهُ هَذِه الصّفة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ اسْتِعَارَة عَن تحكمه فِيهِ وانقياده لَهُ. وَقَالَ التوريشتي: يحْتَمل أَن يُقَال: إِن الشَّيْطَان مَلأ سَمعه بالأباطيل فأحدث فِي أُذُنه وقرا عَن اسْتِمَاع دَعْوَة الْحق،وَقيل: هُوَ كِنَايَة عَن استهانة الشَّيْطَان وَالِاسْتِخْفَا ف بِهِ، فَإِن من عَادَة المستخف بالشَّيْء أَن يَبُول عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من شدَّة استخفافه بِهِ يَتَّخِذهُ كالكنيف الْمعد للبول. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أفسد،يُقَال: بَال فِي كَذَا أَي: أفسد، وَالْعرب تكنى عَن الْفساد بالبول. قَالَ الراجز:
    (بَال سُهَيْل فِي الفضيخ ففسد)
    .......
    (7/198)
    احْتج بِهِ قوم على إِثْبَات الْجِهَة لله تَعَالَى،وَقَالُوا: هِيَ جِهَة الْعُلُوّ،وَمِمَّنْ قَالَ بذلك: ابْن قُتَيْبَة وَابْن عبد الْبر، وَحكي أَيْضا عَن أبي مُحَمَّد بن أبي زيد القيرواني، وَأنكر ذَلِك جُمْهُور الْعلمَاء لِأَن القَوْل بالجهة يُؤَدِّي إِلَى تحيز وإحاطة، وَقد تَعَالَى الله عَن ذَلِك.

    ............
    (7/199)
    وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) : عَن مُوسَى بن دَاوُد،قَالَ: قَالَ لي عباد ابْن عوام، قدم علينا شريك بن عبد الله مُنْذُ نَحْو من خمسين سنة،قَالَ: فَقل: يَا أَبَا عبد الله إِن عندنَا قوما من الْمُعْتَزلَة يُنكرُونَ هَذِه الْأَحَادِيث؟قَالَ: فَحَدثني نَحْو عشرَة أَحَادِيث فِي هَذَا،وَقَالَ: أما نَحن فقد أَخذنَا ديننَا هَذَا عَن التَّابِعين عَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم عَمَّن أخذُوا؟ وَقد وَقع بَين إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَبَين إِبْرَاهِيم بن صَالح المعتزلي، وَبَينه وَبَين مَنْصُور بن طَلْحَة أَيْضا مِنْهُم كَلَام، بعضه عِنْد عبد الله بن طَاهِر بن عبد الله المعتزلي، وَبَعضه عِنْد أَبِيه طَاهِر بن عبد الله. قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: جمعني وَهَذَا المبتدع، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن صَالح، مجْلِس الْأَمِير عبد الله بن طَاهِر، فَسَأَلَنِي الْأَمِير عَن أَخْبَار النُّزُول فسردتها،فَقَالَ إِبْرَاهِيم: كفرت بِرَبّ ينزل من سَمَاء إِلَى سَمَاء. فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء. قَالَ: فَرضِي عبد الله كَلَامي وَأنكر عَليّ آبراهيم، وَقد أَخذ إِسْحَاق كَلَامه هَذَا من الفضيل بن عِيَاض، رَحمَه الله،فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا قَالَ الجهمي: أَنا أكفر بِرَبّ ينزل ويصعد،فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء، ذكره أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب السّنة) ذكر فِيهِ: عَن أبي زرْعَة،قَالَ: هَذِه الْأَحَادِيث المتواترة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، قد رَوَاهُ عدَّة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي عندنَا صِحَاح قَوِيَّة. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ينزل) وَلم يقل: كَيفَ ينزل،فَلَا نقُول: كَيفَ ينزل؟ نقُول، كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    ..........
    (7/217)
    تَأْكِيد رَكْعَتي الْفجْر وأنهما من أشرف التَّطَوُّع لمواظبته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِمَا وملازمته لَهما،وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف: هَل هِيَ سنة أَو من الرغائب؟ فَالصَّحِيح عِنْدهم أَنَّهَا سنة، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْعلمَاء، وَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ إِلَى وُجُوبهَا وَهُوَ شَاذ لَا أصل لَهُ، نَقله صَاحب (التَّوْضِيح)
    وَلِهَذَا ذكر المرغيناني عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا وَاجِبَة. وَفِي (جَامع المحبوبي) : روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: لَو صلى سنة الْفجْر قَاعِدا بِلَا عذر لَا يجوز؟قلت: إِنَّمَا لم يقل بِوُجُوبِهَا لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَاقهَا مَعَ سَائِر السّنَن فِي حَدِيث المثابرة،هَكَذَا قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَيْسَ فِيهِ مَا يشفي العليل،وَقد روى أَحَادِيث كَثِيرَة فِي رَكْعَتي الْفجْر مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تدعوا رَكْعَتي الفحر وَلَو طردتكم الْخَيل) أَي: الفرسان، وَهَذَا كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة وحث عَظِيم على مواظبتهما، وَبِه اسْتدلَّ أَصْحَابنَا أَن الرجل إِذا انْتهى إِلَى الإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر وَهُوَ لم يصل رَكْعَتي الْفجْر إِن خشِي أَن تفوته رَكْعَة وَيدْرك الْأُخْرَى يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر عِنْد بَاب الْمَسْجِد ثمَّ يدْخل، وَلَا يتركهما، وَأما إِذا خشِي فَوت الْفَرْض فَحِينَئِذٍ يدْخل مَعَ الإِمَام وَلَا يُصَلِّي. ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي الْوَقْت الَّذِي يقضيهما فِيهِ،فأظهر أَقْوَال الشَّافِعِي: يقْضِي مُؤَبَّدًا وَلَو بعد الصُّبْح، وَهُوَ قَول عَطاء وطاووس، وَرِوَايَة عَن ابْن عمر وأبى ذَلِك مَالك وَنَقله عَن ابْن بطال عَن أَكثر الْعلمَاء،وَقَالَت طَائِفَة: يقضيهما بعد طُلُوع الشَّمْس
    ........
    (7/218)
    ي أَن هَذِه الضجعة سنة أَو مُسْتَحبَّة أَو وَاجِبَة أَو غير ذَلِك؟ فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ، وَمن بعدهمْ على سِتَّة أَقْوَال. أَحدهَا: أَنه سنة، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَالصَّحِيح أَو الصَّوَاب أَن الِاضْطِجَاع بعد سنة الْفجْر سنة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى أَن الِاضْطِجَاع الْمَنْقُول فِي الْأَحَادِيث للفصل بَين النَّافِلَة وَالْفَرِيضَة، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك الْفَصْل بالاضطجاع أَو التحدث أَو التَّحَوُّل من ذَلِك الْمَكَان إِلَى غَيره أَو غَيره، والاضطجاع غير مُتَعَيّن فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : الْمُخْتَار الِاضْطِجَاع. القَوْل الثَّانِي: أَنه مُسْتَحبّ،
    .........
    (7/225)
    ي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة لِابْنِ السّني من رِوَايَة إِبْرَاهِيم ابْن الْبَراء،قَالَ: (حَدثنِي أبي عَن جده،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أنس إِذا هَمَمْت بِأَمْر فاستخر رَبك فِيهِ سبع مَرَّات ثمَّ انْظُر إِلَى الَّذِي يسْبق إِلَى قَلْبك، فَإِن الْخَيْر فِيهِ) . قَالَ النَّوَوِيّ: فِي (الْأَذْكَار) : إِسْنَاده غَرِيب، وَفِيه من لَا أعرفهم،قَالَ شَيخنَا زين الدّين: كلهم معروفون، وَلَكِن بَعضهم مَعْرُوف بالضعف الشَّديد وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن الْبَراء، والبراء هُوَ ابْن النَّضر ابْن أنس بن مَالك، وَقد ذكره فِي (الضُّعَفَاء) الْعقيلِيّ وَابْن حبَان وَابْن عدي والأزدي. قَالَ الْعقيلِيّ: يحدث عَن الثِّقَات بِالْبَوَاطِيل. وَقَالَ ابْن حبَان: شيخ كَانَ يَدُور بِالشَّام يحدث عَن الثِّقَات بالموضوعات: لَا يجوز ذكره إلاَّ على مثل الْقدح فِيهِ. وَقَالَ ابْن عدي: ضَعِيف جدا، حدث بِالْبَوَاطِيل، فعلى هَذَا فَالْحَدِيث سَاقِط لَا حجَّة فِيهِ، نعم، قد يسْتَدلّ للتكرار بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا،وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه يسْتَحبّ أَن يقْرَأ فِي رَكْعَتي الإستخارة فِي الأولى بعد الْفَاتِحَة: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ،وَفِي الثَّانِيَة: قل هُوَ الله أحد، وَقد سبقه إِلَى ذَلِك الْغَزالِيّ،فَإِنَّهُ ذكره فِي الْإِحْيَاء كَمَا ذكره النَّوَوِيّ: وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله: لم أجد فِي شَيْء من طرق أَحَادِيث الاستخارة تعْيين مَا يقْرَأ فيهمَا.
    ........
    (7/235)
    وَحكى النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) عَن الْعلمَاء: أَن معنى قَول عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (مَا رَأَيْته يسبح سبْحَة الضُّحَى) ،أَي: لم يداوم عَلَيْهَا، وَكَانَ يُصليهَا فِي بعض الْأَوْقَات فَتَركهَا فِي بَعْضهَا خشيَة أَن تفرض. قَالَ: وَبِهَذَا يجمع بَين الْأَحَادِيث. فَإِن قلت: يُعَكر على هَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من الْجَزْم بِكَوْنِهَا محدثة،وَكَونهَا بِدعَة أما الأول: فَمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: إِنَّهَا محدثة، وَإِنَّهَا لمن أحسن مَا أَحْدَثُوا. وَأما الثَّانِي: فَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن الحكم بن الْأَعْرَج،قَالَ: سَأَلت ابْن عمر عَن صَلَاة الضُّحَى؟فَقَالَ: بِدعَة، نعمت الْبِدْعَة. قلت: أجَاب القَاضِي عَنهُ: أَنَّهَا بِدعَة،أَي: ملازمتها وإظهارها فِي الْمَسَاجِد مِمَّا لم يكن يعْهَد،لَا سِيمَا وَقد قَالَ: ونعمت الْبِدْعَة،قَالَ: وَرُوِيَ عَنهُ: مَا ابتدع الْمُسلمُونَ بِدعَة أفضل من صَلَاة الضُّحَى،كَمَا قَالَ عمر فِي صَلَاة التَّرَاوِيح: لَا إِنَّهَا بِدعَة
    مخالفة السنة
    .........
    (7/245)
    قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَاخْتلف الْعلمَاء هَل للفرائض رواتب مسنونة أَو لَيست لَهَا فَذهب الْجُمْهُور وَقَالُوا هِيَ سنة مَعَ الْفَرَائِض وَذهب مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ إِلَى أَنه لَا رواتب فِي ذَلِك وَلَا تَوْقِيت حماية للفرائض وَلَا يمْنَع من تطوع بِمَا شَاءَ إِذا أَمن ذَلِك.
    ........
    )7/257(
    اخْتلف السّلف فِي التَّنَفُّل قبل الْمغرب فَأَجَازَهُ طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء وحجتهم هَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم أَنهم كَانُوا لَا يصلونها وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اخْتلف الصَّحَابَة فيهمَا وَلم يفعلهما أحد بعدهمْ وَقَالَ سعيد بن الْمسيب مَا رَأَيْت فَقِيها يُصَلِّيهمَا إِلَّا سعد بن أبي قاص وَذكر ابْن حزم أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَ يُصَلِّيهمَا وَكَذَا أبي بن كَعْب وَأنس بن مَالك وَجَابِر وَخَمْسَة آخَرُونَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَقَالَ حبيب بن سَلمَة رَأَيْت الصَّحَابَة يهبون إِلَيْهَا كَمَا يهبون إِلَى صَلَاة الْفَرِيضَة وَسُئِلَ عَنْهُمَا الْحسن فَقَالَ حَسَنَتَانِ لمن أَرَادَ بهما وَجه الله تَعَالَى وَقَالَ ابْن بطال وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَق وَفِي الْمُغنِي ظَاهر كَلَام أَحْمد أَنَّهُمَا جائزتان وليستا سنة قَالَ الْأَثْرَم قلت لِأَحْمَد الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب قَالَ مَا فعلته قطّ إِلَّا مرّة حِين سَمِعت الحَدِيث قَالَ وَفِيهِمَا أَحَادِيث جِيَاد أَو قَالَ صِحَاح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ إِلَّا أَنه قَالَ لمن شَاءَ فَمن شَاءَ صلى وَعند الْبَيْهَقِيّ عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَا يركعونهما وَكَانَت الْأَنْصَار تركعهما وَمن حَدِيث مَكْحُول عَن أبي أُمَامَة كُنَّا لَا نَدع الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب فِي زمَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
    .........

    ..........

  18. #238
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تابع / المجلد السابع
    من " عمدة القاري " للحافظ العيني رحمه الله .


    ..........
    (7/255)
    وَفِيه عَن أبي الدَّرْدَاء أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة أم الدَّرْدَاء عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة وَالصَّلَاة فِي مَسْجِدي بِأَلف صَلَاة وَالصَّلَاة فِي بَيت الْمُقَدّس بِخَمْسِمِائَة صَلَاة " وَإِسْنَاده حسن وَفِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا روى حَدِيثهَا التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل الْكَبِير قَالَت قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَاة فِي مَسْجِدي أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ اخْتلف فِي اسْتثِْنَاء الْمَسْجِد الْحَرَام هَل ذَلِك أَنه أفضل من مَسْجده أَو هُوَ لِأَن الْمَسْجِد الْحَرَام أفضل من غير مَسْجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ أفضل الْمَسَاجِد كلهَا وَهَذَا الْخلاف فِي أَي البلدين أفضل فَذهب عمر وَبَعض الصَّحَابَة وَمَالك وَأكْثر الْمَدَنِيين إِلَى تَفْضِيل
    الْمَدِينَة وحملوا الِاسْتِثْنَاء فِي مَسْجِد الْمَدِينَة بِأَلف صَلَاة على الْمَسَاجِد كلهَا إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام فبأقل من الْألف وَاحْتَجُّوا بِمَا قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلَا يَقُول عمر هَذَا من تِلْقَاء نَفسه فعلى هَذَا تكون فَضِيلَة مَسْجِد الْمَدِينَة على الْمَسْجِد الْحَرَام بتسعمائة وعَلى غَيره بِأَلف وَذهب الْكُوفِيُّونَ والمكيون وَابْن وهب وَابْن حبيب إِلَى تَفْضِيل مَكَّة وَلَا شكّ أَن الْمَسْجِد الْحَرَام مُسْتَثْنى من قَوْله من الْمَسَاجِد وَهِي بالِاتِّفَاقِ مفضولة والمستثنى من الْمَفْضُول مفضول إِذا سكت عَلَيْهِ فالمسجد الْحَرَام مفضول لكنه يُقَال مفضول بِأَلف لِأَنَّهُ قد اسْتَثْنَاهُ مِنْهَا فَلَا بُد أَن يكون لَهُ مزية على غَيره من الْمَسَاجِد
    ...........
    (7/259)
    روى عمر بن شيبَة فِي أَخْبَار الْمَدِينَة تأليفه من رِوَايَة ابْن الْمُنْكَدر " عَن جَابر كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْتِي قبَاء صَبِيحَة سبع عشرَة من رَمَضَان " وروى من رِوَايَة الدَّرَاورْدِي " عَن شريك بن عبد الله كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْتِي قبَاء يَوْم الِاثْنَيْنِ " وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم وأصل مَذْهَب مَالك كَرَاهَة تَخْصِيص شَيْء من الْأَوْقَات بِشَيْء من الْقرب إِلَّا مَا ثَبت بِهِ تَوْقِيف. وَفِيه حجَّة على من كره تَخْصِيص زِيَارَة قبَاء يَوْم السبت وَقد حَكَاهُ عِيَاض عَن مُحَمَّد بن مسلمة من الْمَالِكِيَّة مَخَافَة أَن يظنّ أَن ذَلِك سنة فِي ذَلِك الْيَوْم قَالَ عِيَاض وَلَعَلَّه لم يبلغهُ هَذَا الحَدِيث وَقد احْتج ابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة بزيارته
    ..........
    (7/265)
    وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف السّلف فِي الِاعْتِمَاد فِي الصَّلَاة والتوكؤ على الشَّيْء فَقَالَت طَائِفَة لَا بَأْس أَن يَسْتَعِين فِي الصَّلَاة بِمَا شَاءَ من جسده وَغَيره وَذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه كَانَ يتَوَكَّأ على عصى وَعَن أبي ذَر مثله وَقَالَ عَطاء كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوكئون على العصي فِي الصَّلَاة وأوتد عَمْرو بن مَيْمُون وتدا إِلَى الْحَائِط فَكَانَ إِذا سئم الْقيام فِي الصَّلَاة أَو شقّ عَلَيْهِ أمسك بالوتد يعْتَمد عَلَيْهِ وَقَالَ الشّعبِيّ لَا بَأْس أَن يعْتَمد على الْحَائِط وَكره ذَلِك غَيرهم وَعَن الْحسن أَنه كره أَن يعْتَمد على الْحَائِط فِي الْمَكْتُوبَة إِلَّا من عِلّة وَلم ير بِهِ بَأْسا فِي النَّافِلَة وَقَالَ مَالك وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين فِي الْفَرِيضَة والتطوع وَقَالَ مُجَاهِد إِذا توكأ على الْحَائِط ينقص من صلَاته قدر ذَلِك قَالَ وَالْعَمَل فِي الصَّلَاة على ثَلَاثَة أضْرب يسير جدا كالغمز وحك الْجَسَد وَالْإِشَارَة فَهَذَا لَا ينقص عمده وَلَا سَهْوه وَكَذَلِكَ التخطي إِلَى الفرجة الْقَرِيبَة. الثَّانِي أَكثر من هَذَا يبطل عمده دون سَهْوه كالانصراف من الصَّلَاة. الثَّالِث الْمَشْي الْكثير وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد فَهَذَا يبطل الصَّلَاة عمده وسهوه وَفِي مُسْند أَحْمد " عَن ابْن عمر نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يجلس الرجل فِي الصَّلَاة وَهُوَ مُعْتَمد على يَده " وَعند أبي دَاوُد " رأى رجل يتكىء على يَده الْيُسْرَى وَهُوَ قَاعد فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَا تجْلِس هَكَذَا فَإِن هَكَذَا يجلس الَّذين يُعَذبُونَ " وَفِي رِوَايَة " تِلْكَ صَلَاة المغضوب عَلَيْهِم "
    ..........
    (7/268)
    وكل من ملك الْحَبَشَة يُسمى النَّجَاشِيّ كَمَا يُسمى كل من ملك الرّوم قيصرا وكل من ملك الْفرس يُسمى كسْرَى وكل من ملك التّرْك يُسمى خافانا وكل من ملك الْهِنْد يُسمى بطلميوسا وكل من ملك الْيمن يُسمى تبعا
    ............
    (7/273)
    ذَا الْيَدَيْنِ قتل يَوْم بدر
    قَالَ الْبَيْهَقِيّ الَّذِي قتل ببدر هُوَ ذُو الشمالين وَأما ذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي أخبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بسهوه فَإِنَّهُ بَقِي بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا ذكره شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ ثمَّ خرج عَنهُ بِسَنَدِهِ إِلَى معدي بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنِي شُعَيْب بن مطير عَن أَبِيه ومطير حَاضر فَصدقهُ قَالَ شُعَيْب يَا أبتاه أَخْبَرتنِي أَن ذَا الْيَدَيْنِ لقيك بِذِي خشب فأخبرك أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الحَدِيث ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ بعض الروَاة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة " فَقَالَ ذُو الشمالين يَا رَسُول الله أقصرت الصَّلَاة " وَكَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله يَقُول كل من قَالَ ذَلِك فقد أَخطَأ فَإِن ذَا الشمالين تقدم مَوته وَلم يعقب وَلَيْسَ لَهُ راو (قلت) قَالَ السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب ذُو الْيَدَيْنِ وَيُقَال لَهُ ذُو الشمالين لِأَنَّهُ كَانَ يعْمل بيدَيْهِ جَمِيعًا وَفِي الْفَاصِل للرامهرمزي ذُو الْيَدَيْنِ وَذُو الشمالين قد قيل أَنَّهُمَا وَاحِد وَقَالَ ابْن حبَان فِي الثِّقَات ذُو الْيَدَيْنِ وَيُقَال لَهُ أَيْضا ذُو الشمالين ابْن عبد عَمْرو بن نَضْلَة الْخُزَاعِيّ حَلِيف بن زهرَة والْحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ على بَقَاء ذِي الْيَدَيْنِ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَعِيف لِأَن معدي بن سُلَيْمَان مُتَكَلم فِيهِ قَالَ أَبُو زرْعَة واهي الحَدِيث وَقَالَ ابْن حبَان يروي المقلوبات عَن الثِّقَات والملزوقات عَن الْأَثْبَات لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا انْفَرد وَشُعَيْب مَا عرفنَا حَاله ووالده مطير لم يكْتب حَدِيثه وَقَالَ الذَّهَبِيّ لم يَصح حَدِيثه
    ..........
    (7/272)
    لصَّلَاة الْوُسْطَى وَذكر الْعلمَاء فِيهِ عشْرين قولا الأول أَن الصَّلَاة الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْر وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَمْرو فِي رِوَايَة وَسمرَة بن جُنْدُب وَأم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَقَالَ ابْن حزم وَلَا يَصح عَن عَليّ وَلَا عَن عَائِشَة غير هَذَا أصلا وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَيُونُس وَقَتَادَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالضَّحَّاك بن مُزَاحم وَعبيد بن مَرْيَم وذر بن حُبَيْش وَمُحَمّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَآخَرين وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ هُوَ مَذْهَب جُمْهُور التَّابِعين وَقَالَ أَبُو عمر هُوَ قَول أَكثر أهل الْأَثر وَقَالَ ابْن عَطِيَّة عَلَيْهِ جُمْهُور النَّاس وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ الصَّوَاب من ذَلِك مَا تظاهرت بِهِ الْأَخْبَار من أَنَّهَا الْعَصْر وَقَالَ أَبُو عمر وَإِلَيْهِ ذهب عبد الْملك بن حبيب وَقَالَ التِّرْمِذِيّ هُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء من الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي لصِحَّة الْأَحَادِيث فِيهِ
    ........
    (7/274)
    صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " وَحَدِيث أبي هِشَام بن عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس عِنْد ابْن جَعْفَر الطَّبَرِيّ من حَدِيث كهيل بن حَرْمَلَة سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى فَقَالَ اخْتَلَفْنَا فِيهَا كَمَا اختلفتم فِيهَا وَنحن بِفنَاء بَيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفينَا الرجل الصَّالح أَبُو هَاشم بن عتبَة فَقَالَ أَنا أعلم ذَلِك فَقَامَ فَاسْتَأْذن على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدخل عَلَيْهِ ثمَّ خرج إِلَيْنَا فَقَالَ أخبرنَا أَنَّهَا صَلَاة الْعَصْر قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة أَبُو هَاشم هَذَا لَهُ حديثان حسنان. وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَبُو هَاشم بن عتبَة بن ربيعَة العبشمي أَخُو أبي حُذَيْفَة وأخو مُصعب بن عُمَيْر لأمه أسلم يَوْم الْفَتْح وَسكن الشَّام وَكَانَ صَالحا توفّي فِي زمن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى
    .......
    (7/274)
    ن الصَّلَاة الْوُسْطَى الْمغرب وَهُوَ قَول قبيصَة بن ذِئْب قَالَ أَبُو عمر هَذَا لَا أعلم قَالَه غير قبيصَة قَالَ أَلا ترى أَنَّهَا لَيست بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرهَا وَلَا تقصر فِي السّفر وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يؤخرها عَن وَقتهَا وَلم يعجلها قَالَ أَبُو جَعْفَر وَجه قَوْله أَنه يُرِيد التَّوَسُّط الَّذِي هُوَ يكون صفة للشَّيْء الَّذِي يكون عدلا بَين الْأَمريْنِ كَالرّجلِ المعتدل الْقَامَة.
    أَنَّهَا الْعشَاء الْأَخِيرَة وَهُوَ قَول الْمَازرِيّ وَزعم الْبَغَوِيّ فِي شرح السّنة أَن السّلف لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم هَذَا القَوْل قَالَ وَقد ذكره بعض الْمُتَأَخِّرين (الرَّابِع) أَنَّهَا الصُّبْح وَهُوَ قَول جَابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وَابْن عَبَّاس فِي قَول وَابْن عمر فِي قَول وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَالربيع بن أنس وَمَالك بن أنس وَالشَّافِعِيّ فِي قَول وَقَالَ أَبُو عمر وَمِمَّنْ قَالَ الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الصُّبْح عبد الله بن عَبَّاس وَهُوَ أصح مَا رُوِيَ عَنهُ فِي ذَلِك وَهُوَ قَول طَاوس وَمَالك وَأَصْحَابه وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث جَابر بن زيد " عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أدْلج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ عرس فَلم يَسْتَيْقِظ حَتَّى طلعت الشَّمْس أَو بَعْضهَا فَلم يصل حَتَّى ارْتَفَعت الشَّمْس وَهِي الصَّلَاة الْوُسْطَى " وَفِي حَدِيث صَالح أبي الْخَلِيل عَن جَابر بن زيد " عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْفجْر "
    ......
    (7/275)
    ذهب بعض الشَّافِعِيَّة وَالْقَاضِي أَبُو بكر أَولا إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء عين النَّهْي عَن ضِدّه وَقَالَ القَاضِي آخرا وَكثير من الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء يسْتَلْزم النَّهْي عَن ضِدّه لِأَنَّهُ عينه إِذْ اللَّازِم غير الْمَلْزُوم وَذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَبَاقِي الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنه لَا حكم لكل وَاحِد مِنْهُمَا فِي ضِدّه أصلا بل هُوَ مسكوت عَنهُ وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي وَأهل الحَدِيث أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه إِذا كَانَ لَهُ ضد وَاحِد كالأمر بِالْإِيمَان نهي عَن الْكفْر وَإِن كَانَ لَهُ أضداد كالأمر بِالْقيامِ لَهُ أضداد من الْقعُود وَالرُّكُوع وَالسُّجُود والاضطجاع يكون الْأَمر بِهِ نهيا عَن جَمِيع أضداده كلهَا وَقَالَ بَعضهم يكون نهيا عَن وَاحِد مِنْهَا غير معِين وَفصل بَعضهم بَين الْأَمر للْإِيجَاب فَقَالَ أَمر الْإِيجَاب يكون نهيا عَن ضد الْمَأْمُور بِهِ
    ...
    (7/276)
    وَاحْتج بِهِ بَعضهم على أَن التصفيح والتصفيق بِمَعْنى وَاحِد وَبِه صرح الْخطابِيّ والجوهري وَأَبُو عَليّ القالي وَآخَرُونَ حَتَّى ادّعى ابْن حزم نفي الْخلاف فِي ذَلِك وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن القَاضِي عِيَاض حكى أَنه بِالْحَاء الضَّرْب بِظَاهِر إِحْدَى الْيَدَيْنِ على الْأُخْرَى وبالقاف بباطنها على بَاطِن الْأُخْرَى وَقيل بِالْحَاء الضَّرْب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو واللعب وَأغْرب الدَّاودِيّ فَزعم أَن الصَّحَابَة ضربوا بأكفهم على أَفْخَاذهم قَالَ القَاضِي عِيَاض كَأَنَّهُ أَخذه من حَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم الَّذِي أخرجه مُسلم فَفِيهِ " وَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم على أَفْخَاذهم "

    ..........
    (7/285)
    وَفِي الْوُجُوب فِي حق الْأُم حَدِيث مُرْسل رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص بن غياث عَن ابْن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا دعتك أمك فِي الصَّلَاة فأجبها وَإِن دعَاك أَبوك فَلَا تجبه " وَقَالَ مَكْحُول رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَنهُ وَقَالَ الْعَوام سَأَلت مُجَاهدًا عَن الرجل تَدعُوهُ أمه أَو أَبوهُ فِي الصَّلَاة قَالَ يجيبهما وَعَن مَالك إِذا منعته أمه عَن شُهُود الْعشَاء فِي جمَاعَة لم يطعها وَإِن منعته عَن الْجِهَاد أطاعها وَالْفرق ظَاهر لِأَن الْأَمْن غَالب فِي الأول دون الثَّانِي وَفِي كتاب الْبر والصلة عَن الْحسن فِي الرجل تَقول لَهُ أمه أفطر قَالَ يفْطر وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء وَله أجر الصَّوْم وَإِذا قَالَت أمه لَهُ لَا تخرج إِلَى الصَّلَاة فَلَيْسَ لَهَا فِي هَذَا طَاعَة لِأَن هَذَا فرض وَقَالُوا إِن مُرْسل ابْن الْمُنْكَدر الْفُقَهَاء على خِلَافه وَلم يعلم بِهِ قَائِل غير مَكْحُول وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ إِذا دَعَتْهُ أمه فليجبها يَعْنِي بالتسبيح وَبِمَا أُبِيح للْمُصَلِّي الْإِجَابَة بِهِ وَقَالَ ابْن حبيب من أَتَاهُ أَبوهُ ليكلمه وَهُوَ فِي نَافِلَة فليخفف وَيسلم وَيتَكَلَّم
    .......
    (7/283)
    وروى اللَّيْث بن سعد عَن يزِيد بن حُوسِبَ عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها عَالما لعلم أَن إِجَابَة أمه خير من عبَادَة ربه " قَالَ صَاحب التَّوْضِيح وحوشب هَذَا هُوَ ابْن طخمة بِالْمِيم الْحِمْيَرِي (قلت) قَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة حَوْشَب بن طخنة وَقيل طخمة يَعْنِي بِالْمِيم الْحِمْيَرِي الْأَلْهَانِي يعرف بِذِي ظليم أسلم على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعداده فِي أهل الْيمن وَكَانَ مُطَاعًا فِي قومه كتب إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قتل الْأسود الْعَنسِي وَفِي تَارِيخ دمشق كَانَ على رجالة حمص يَوْم صفّين ثمَّ قَالَ حَوْشَب لَهُ صُحْبَة وَله حَدِيث فَفِي مُسْند الشاميين فِي مُسْند أَحْمد وَلَعَلَّه الأول ثمَّ قَالَ حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب وَفِيه عظم بر الْوَالِدين وَأَن دعاءهما مستجاب وَعَن هَذَا قَالَ الْعلمَاء إِن إكرامهما وَاجِب وَلَو كَانَا كَافِرين حَتَّى روى عَن ابْن عَبَّاس أَن لَهُ أَن يزور قبر وَالِديهِ وَلَو كَانَا كَافِرين وَتجب نفقتهما على الْوَلَد
    ........
    (7/286)
    معيقب بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْقَاف بعْدهَا بَاء مُوَحدَة ابْن أبي فَاطِمَة الدوسي حَلِيف بني عبد شمس أسلم قَدِيما كَانَ على خَاتم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَعْملهُ الشَّيْخَانِ على بَيت المَال وأصابه الجذام فَجمع لَهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْأَطِبَّاء فعالجوه فَوقف الْمَرَض وَهُوَ الَّذِي سقط من يَده خَاتم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيَّام عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي بِئْر أريس فَلم يُوجد فمذ سقط الْخَاتم اخْتلفت الْكَلِمَة وَتُوفِّي فِي آخر خلَافَة عُثْمَان وَقيل توفّي فِي سنة أَرْبَعِينَ فِي خلَافَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
    أَن معيقيبا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث فَقَط وَقَالَ ابْن التِّين وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة أحد أَجْذم غَيره
    ............
    (7/286)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض وَكره السّلف مسح الْجَبْهَة فِي الصَّلَاة وَقبل الِانْصِرَاف يَعْنِي من الْمَسْجِد مِمَّا يتَعَلَّق بهَا من تُرَاب وَنَحْوه وَحكى ابْن عبد الْبر عَن سعيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ أَن يمسح الرجل جَبهته قبل أَن ينْصَرف وَيَقُولُونَ هُوَ من الْجفَاء وَقَالَ ابْن مَسْعُود أَربع من الْجفَاء أَن تصلي إِلَى غير ستْرَة أَو تمسح جبهتك قبل أَن تَنْصَرِف أَو تبول قَائِما أَو تسمع الْمُنَادِي ثمَّ لَا تجيبه

    .............
    (7/287)
    وَقَالَ صَاحب الْعين الأهواز سبع كور بَين الْبَصْرَة وَفَارِس لكل كورة مِنْهَا اسْم ويجمعها الأهواز وَلَا تنفرد وَاحِدَة مِنْهَا بهوز فِي وَفِي الْمُحكم لَيْسَ للأهواز وَاحِد من لَفظه وَقَالَ ابْن خردابة هِيَ بِلَاد وَاسِعَة مُتَّصِلَة بِالْجَبَلِ وأصبهان وَقَالَ الْبكْرِيّ بلد يجمع سبع كور كورة الأهواز وجندي وسابور والسوس وسرق ونهر بَين ونهر تيرى وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ يُقَال لَهَا الْآن سوق الأهواز وَقَالَ بَعضهم الأهواز بَلْدَة مَعْرُوفَة بَين الْبَصْرَة وَفَارِس فتحت أَيَّام عمر رَضِي الله تَعَالَى
    ..........
    (7/288)
    الَ ابْن بطال لَا خلاف بَين الْفُقَهَاء أَن من أفلتت دَابَّته وَهُوَ فِي الصَّلَاة أَنه يقطع الصَّلَاة ويتبعها وَقَالَ مَالك من خشِي على دَابَّته الْهَلَاك أَو على صبي رَآهُ فِي الْمَوْت فليقطع صلَاته وروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ فِي مُسَافر أفلتت دَابَّته وَخَافَ عَلَيْهَا أَو على صبي أَو أعمى أَن يَقع فِي بِئْر أَو نَار أَو ذكر مَتَاعا يخَاف أَن يتْلف فَذَلِك عذر يُبِيح لَهُ أَن يسْتَخْلف وَلَا تفْسد على من خَلفه شَيْئا وَلَا يجوز أَن يفعل هَذَا أَبُو بَرزَة دون أَن يُشَاهِدهُ من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ ابْن التِّين وَالصَّوَاب أَنه إِذا كَانَ لَهُ شَيْء لَهُ قدر يخْشَى فَوَاته يقطع وَإِن كَانَ يَسِيرا فعادته على صلَاته أولى من صِيَانة قدر يسير من مَاله هَذَا حكم الْفَذ وَالْمَأْمُوم فَأَما الإِمَام فَفِي كتاب سَحْنُون إِذا صلى رَكْعَة ثمَّ انفلتت دَابَّته وَخَافَ عَلَيْهَا أَو على صبي أَو أعمى أَن يقعا فِي الْبِئْر وَذكر مَتَاعا لَهُ يخَاف تلفه فَذَلِك عذر يُبِيح لَهُ أَن يسْتَخْلف وَلَا يفْسد على من خَلفه شَيْئا
    .........
    (7/290)
    رَأَيْت عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ يجر قصبه فِي النَّار " وَكَانَ أول من سيب السوائب والسوائب جمع سائبة وَهِي الَّتِي كَانُوا يسيبونها لآلهتهم فَلَا يحل عَلَيْهَا شَيْء (فَإِن قلت) السوائب هِيَ المسيبة فَكيف يُقَال سيب السوائب (قلت) مَعْنَاهُ سيب النوق الَّتِي تسمى بالسوائب وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة} كَانَ يَقُول الرجل إِذا قدمت من سَفَرِي أَو بَرِئت من مرضِي فناقتي سائبة أَي لَا تركب وَلَا تطرد عَن مَاء وَلَا عَن مرعى

    .........
    (7/297)
    يل لِأَنَّهُ فعل المختالين والمتكبرين قَالَه الْمُهلب بن أبي صفرَة وَقيل لِأَنَّهُ شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أَيْديهم على الخواصر إِذا قَامُوا فِي المآثم قَالَه الْخطابِيّ النَّوْع السَّابِع فِي حكم الخصر فِي الصَّلَاة اخْتلفُوا فِيهِ فكرهه ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُجاهد وَأَبُو مجلز وَآخَرُونَ وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الِاخْتِصَار فِي الصَّلَاة عملا بِظَاهِر الحَدِيث
    .........
    (7/298)
    حدثنَا وَكِيع " عَن أبان بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ رَأَيْت أَبَا بكر بن أبي مُوسَى يُصَلِّي مُتكئا على عَصا " وَمِنْهَا مَا قيل أَن صَاحب الْإِكْمَال ذكر فِي حَدِيث آخر " المختصرون يَوْم الْقِيَامَة على وُجُوههم النُّور ثمَّ قَالَ هم الَّذين يصلونَ بِاللَّيْلِ ويضعون أَيْديهم على خواصرهم من التَّعَب " قَالَ وَقيل يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة مَعَهم أَعمال يتكؤن عَلَيْهَا مَأْخُوذ من المخصرة وَهِي الْعَصَا وَأجَاب عَنهُ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله هَذَا الحَدِيث لَا أعلم لَهُ أصلا وَهُوَ مُخَالف للأحاديث الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَن ذَلِك وعَلى تَقْدِير وُرُوده يكون المُرَاد أَن يكون بِأَيْدِيهِم مخاصر يختصرون وَيجوز أَن تكون أَعْمَالهم تجسد لَهُم كَمَا ورد فِي بعض الْأَعْمَال وَفِي حَدِيث عبد الله بن أنيس " إِن أقل النَّاس يَوْمئِذٍ المتخصرون " أَي يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالطَّبَرَانِي ّ فِي الْكَبِير فِي قصَّة قَتله لخَالِد بن سُفْيَان الْهُذلِيّ وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ خَالِد بن نُبيح من بني هُذَيْل وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطَاهُ عَصا فَقَالَ أمسك هَذِه عَنْك يَا عبد الله بن أنيس وَفِيه أَنه سَأَلَهُ لم أَعْطَيْتنِي هَذِه قَالَ آيَة بيني وَبَيْنك يَوْم الْقِيَامَة وَإِن أقل النَّاس المتخصرون يَوْمئِذٍ وَفِيه أَنَّهَا دفنت مَعَه. وَمِنْهَا مَا قيل أَنه لَيْسَ لأهل النَّار المخلدين فِيهَا رَاحَة وَكَيف يذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ " الِاخْتِصَار فِي الصَّلَاة رَاحَة أهل النَّار "
    .......
    (7/302)
    وَقَالَ الْحَازِمِي طَرِيق الْإِنْصَاف أَن نقُول أما حَدِيث الزُّهْرِيّ الَّذِي فِيهِ دلَالَة على النّسخ فَفِيهِ انْقِطَاع فَلَا يَقع مُعَارضا للأحاديث الثَّابِتَة وَأما بَقِيَّة الْأَحَادِيث فِي السُّجُود قبل السَّلَام وَبعده قولا وفعلا فَهِيَ وَإِن كَانَت ثَابِتَة صَحِيحَة فَفِيهَا نوع من تعَارض غير أَن تَقْدِيم بَعْضهَا على بعض غير مَعْلُوم رِوَايَة صَحِيحَة مَوْصُولَة وَالْأَشْبَه حمل الْأَحَادِيث على التَّوَسُّع وَجَوَاز الْأَمريْنِ انْتهى
    ........
    (7/302)
    الأول أَن فِي مَحل سَجْدَتي السَّهْو خَمْسَة أَقْوَال الْقَوْلَانِ للحنفية وَالشَّافِعِيَّ ة ذكرناهما. وَالثَّالِث مَذْهَب الْمَالِكِيَّة فَإِن عِنْدهم إِن كَانَ للنقصان فَقبل السَّلَام وَإِن كَانَ للزِّيَادَة فَبعد السَّلَام وَهُوَ قَول للشَّافِعِيّ. وَالرَّابِع مَذْهَب الْحَنَابِلَة أَنه يسْجد قبل السَّلَام فِي الْمَوَاضِع الَّتِي سجد فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبعد السَّلَام فِي الْمَوَاضِع الَّتِي سجد فِيهَا بعد السَّلَام وَمَا كَانَ من السُّجُود فِي غير تِلْكَ الْمَوَاضِع يسْجد لَهُ أبدا قبل السَّلَام. وَالْخَامِس مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة أَنه لَا يسْجد للسَّهْو إِلَّا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي سجد فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَط وَغير ذَلِك إِن كَانَ فرضا أَتَى بِهِ وَإِن كَانَ ندبا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء. والمواضع الَّتِي سجد فِيهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَة. أَحدهَا قَامَ من ثِنْتَيْنِ على مَا جَاءَ بِهِ فِي حَدِيث
    ابْن بُحَيْنَة. وَالثَّانِي سلم من ثِنْتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ. وَالثَّالِث سلم من ثَلَاث كَمَا جَاءَ بِهِ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن. وَالرَّابِع أَنه صلى خمْسا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالْخَامِس السُّجُود على الشَّك كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الحكم الثَّانِي أَن فِي الحَدِيث دلَالَة على سنية التَّشَهُّد الأول وَالْجُلُوس لَهُ إِذْ لَو كَانَا واجبين لما جبرا بِالسُّجُود كالركوع وَغَيره وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة كَذَا نَقله صَاحب التَّوْضِيح عَن أبي حنيفَة فَإِن كَانَ مُرَاده من السّنة السّنة الْمُؤَكّدَة يَصح النَّقْل عَنهُ لِأَن السّنة الْمُؤَكّدَة فِي قُوَّة الْوَاجِب وَفِي الْمُحِيط قَالَ الْكَرْخِي والطَّحَاوِي وَبَعض الْمُتَأَخِّرين الْقعدَة الأولى وَاجِبَة وَقِرَاءَة التَّشَهُّد فِيهَا سنة عِنْد بعض الْمَشَايِخ وَهُوَ الأقيس وَعند بَعضهم وَاجِبَة وَهُوَ الْأَصَح وَقِرَاءَة التَّشَهُّد فِي الْقعدَة الْأَخِيرَة وَاجِبَة بالِاتِّفَاقِ الحكم الثَّالِث فِي أَن التَّكْبِير مَشْرُوع لسجود السَّهْو بِالْإِجْمَاع وَفِي التَّوْضِيح مَذْهَبنَا أَن تَكْبِير الصَّلَوَات كلهَا سنة غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام فَهُوَ ركن وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَأَبُو حنيفَة يُسمى تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَاجِبَة وَفِي رِوَايَة عَن أَحْمد والظاهرية أَن كلهَا وَاجِبَة (قلت) مَذْهَب أبي حنيفَة أَن تَكْبِيرَة الْإِحْرَام فرض وَنحن نفرق بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب وَلكنه شَرط أَو ركن فعندنا شَرط وَعند الشَّافِعِي ركن كَمَا عرف فِي مَوْضِعه الحكم الرَّابِع فِي أَنه هَل يتَشَهَّد فِي سُجُود السَّهْو أم لَا فعندنا يتَشَهَّد وَعند الشَّافِعِي فِي الصَّحِيح لَا يتَشَهَّد كَمَا فِي سُجُود التِّلَاوَة والجنازة وَقَالَ ابْن قدامَة إِن كَانَ قبل السَّلَام يسلم عقيب التَّكْبِير وَإِن كَانَ بعده يتَشَهَّد وَيسلم قَالَ وَبِه قَالَ ابْن مَسْعُود وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ
    ........
    (7/306)
    قَالَ النَّوَوِيّ فِي قَوْله " أَزِيد فِي الصَّلَاة " دَلِيل لمَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف أَن من زَاد فِي صلَاته رَكْعَة نَاسِيا لم تبطل صلَاته بل إِن علم بعد السَّلَام فقد مَضَت صلَاته صَحِيحَة وَيسْجد للسَّهْو وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِذا
    زَاد رَكْعَة سَاهِيا بطلت صلَاته وَلَزِمَه إِعَادَتهَا وَقَالَ أَيْضا إِن كَانَ تشهد فِي الرَّابِعَة ثمَّ زَاد خَامِسَة أضَاف إِلَيْهَا سادسة تشفعها وَإِن لم يكن تشهد بطلت صلَاته وَهَذَا الحَدِيث يرد عَلَيْهِ وَهُوَ حجَّة لِلْجُمْهُورِ (قلت) لَا نسلم صِحَة النَّقْل عَن أبي حنيفَة بِبُطْلَان صلَاته إِذا زَاد رَكْعَة سادسة سَاهِيا وَالظَّاهِر من حَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قعد على الرَّابِعَة لِأَن حمل فعله على الصَّوَاب أحسن من حمله على غَيره وَهُوَ اللَّائِق بِحَالهِ
    .........
    (7/306)
    حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مستقصى فَمن أَرَادَ ذَلِك فَليرْجع إِلَى ذَاك الْبَاب قَوْله " صلى بِنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر " ظَاهره أَن أَبَا هُرَيْرَة حضر الْقِصَّة وَذُو الْيَدَيْنِ اسْتشْهد ببدر قَالَه الزُّهْرِيّ وَمُقْتَضَاهُ أَن تكون الْقِصَّة قبل بدر وَهِي قبل إِسْلَام أبي هُرَيْرَة بِأَكْثَرَ من خمس سِنِين وَلَكِن معنى قَول أبي هُرَيْرَة " صلى بِنَا " أَي صلى بِالْمُسْلِمين وَهَذَا جَائِز فِي اللُّغَة
    قَالَ بَعضهم اتّفق أَئِمَّة الحَدِيث كَمَا نَقله ابْن عبد الْبر وَغَيره على أَن الزُّهْرِيّ وهم فِي ذَلِك وَسَببه أَنه جعل الْقِصَّة لذِي الشمالين وَذُو الشمالين هُوَ الَّذِي قتل ببدر وَهُوَ خزاعي واسْمه عَمْرو بن نَضْلَة وَأما ذُو الْيَدَيْنِ فَتَأَخر بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ سلمي واسْمه الْخِرْبَاق وَقد وَقع عِنْد مُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة " عَن أبي هُرَيْرَة فَقَامَ رجل من بني سليم " فَلَمَّا وَقع عِنْد الزُّهْرِيّ بِلَفْظ " فَقَامَ ذُو الشمالين " وَهُوَ يعرف أَنه قتل ببدر قَالَ لأجل ذَلِك أَن الْقِصَّة وَقعت قبل بدر انْتهى (قلت) وَقع فِي كتاب النَّسَائِيّ أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد كِلَاهُمَا لقب على الْخِرْبَاق حَيْثُ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن رَافع حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي
    سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة " عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ صلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر أَو الْعَصْر فَسلم من رَكْعَتَيْنِ فَانْصَرف فَقَالَ لَهُ ذُو الشمالين ابْن عَمْرو أنقصت الصَّلَاة أم نسيت قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا صدق يَا رَسُول الله فَأَتمَّ بهم الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نقص " وَهَذَا سَنَد صَحِيح مُتَّصِل صرح فِيهِ بِأَن ذَا الشمالين هُوَ ذُو الْيَدَيْنِ وروى النَّسَائِيّ أَيْضا بِسَنَد صَحِيح صرح فِيهِ أَيْضا أَن ذَا الشمالين هُوَ ذُو الْيَدَيْنِ وَقد تَابع الزُّهْرِيّ على ذَلِك عمرَان بن أبي أنس قَالَ النَّسَائِيّ أخبرنَا عِيسَى بن حَمَّاد أخبرنَا اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عمرَان بن أبي أنس عَن أبي سَلمَة " عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى يَوْمًا فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف فأدركه ذُو الشمالين فَقَالَ يَا رَسُول الله أنقصت الصَّلَاة أم نسيت فَقَالَ لم تنقص الصَّلَاة وَلم أنس قَالَ بلَى وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصدق ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا نعم فصلى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ " وَهَذَا أَيْضا سَنَد صَحِيح على شَرط مُسلم
    ثَبت أَن الزُّهْرِيّ لم يهم وَلَا يلْزم من عدم تَخْرِيج ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ عدم صِحَّته فَثَبت أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل أَنه مَعَ اطِّلَاعه على مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذَا كَيفَ اعْتمد على قَول من نسب الزُّهْرِيّ إِلَى الْوَهم وَلَكِن أريحية العصبية تحمل الرجل على أَكثر من هَذَا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا وَقد جوز بعض الْأَئِمَّة أَن تكون الْقِصَّة لكل من ذِي الشمالين وَذي الْيَدَيْنِ وَأَن أَبَا هُرَيْرَة روى الْحَدِيثين فَأرْسل أَحدهمَا وَهُوَ قصَّة ذِي الشمالين وَشَاهد الآخر وَهُوَ قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ وَهَذَا يحْتَمل فِي طَرِيق الْجمع (قلت) هَذَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل صَحِيح وَجعل الْوَاحِد اثْنَيْنِ خلاف الأَصْل وَقد يلقب الرجل بلقبين وَأكْثر وَقَالَ أَيْضا وَيدْفَع الْمجَاز الَّذِي ارْتَكَبهُ الطَّحَاوِيّ مَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد وَغَيرهمَا من طَرِيق يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ " بَيْنَمَا أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاة الظّهْر سلم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ رجل من بني سليم واقتص " الحَدِيث
    .............
    (7/309)
    لَيْسَ فِي سَجْدَتي السَّهْو تشهد وَلَا سَلام وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَقَتَادَة وَالْحكم وَاللَّيْث وَحَمَّاد يتَشَهَّد وَيسلم وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَق وَفِي التَّوْضِيح وَالأَصَح عندنَا لَا يتَشَهَّد وَهُوَ مَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن الشَّافِعِي وَالْأَوْزَاعِي ّ. وَهنا قَول رَابِع إِن سجد قبل السَّلَام لَا يتَشَهَّد وَإِن سجد بعده يتَشَهَّد رَوَاهُ أَشهب عَن مَالك وَهُوَ قَول ابْن الْمَاجشون وَأحمد (وَسلم أنس وَالْحسن وَلم يتشهدا) أَي سلم أنس بن مَالك وَالْحسن الْبَصْرِيّ عقيب سَجْدَتي السَّهْو وَلم يتشهدا وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة وَقَالَ حَدثنَا ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب أَن أنس بن مَالك قعد فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَسَبحُوا بِهِ فَقَامَ وأتمهن أَرْبعا فَلَمَّا سلم سجد سَجْدَتَيْنِ ثمَّ أقبل على الْقَوْم بِوَجْهِهِ وَقَالَ افعلوا هَكَذَا وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن ابْن مهْدي عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن وَأنس أَنَّهُمَا سجدا للسَّهْو بعد السَّلَام ثمَّ قاما وَلم يسلما
    ..........
    (7/310)
    طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن هَاشم بن حسان عَن ابْن سِيرِين فِي حَدِيث الْبَاب " ثمَّ رفع وَكبر ثمَّ كبر وَسجد للسَّهْو " وَهَذَا يدل على تكبيرتين إِحْدَاهمَا تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْأُخْرَى تَكْبِيرَة السَّجْدَة وَلَكِن أَشَارَ أَبُو دَاوُد إِلَى شذوذ هَذِه الرِّوَايَة حَيْثُ قَالَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَلم يقل أحد فَكبر ثمَّ كبر إِلَّا حَمَّاد بن زيد
    .......
    (7/312)
    حَدِيث ثَوْبَان لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يسلم من غير فصل بَين الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان سالما من الْمعَارض فَيعْمل بِهِ لسلامته عَن الْمعَارض. ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَطَائِفَة من السّلف بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا إِذا شكّ الْمُصَلِّي فَلم يدر زَاد أَو نقص فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا سَجْدَتَانِ وَهُوَ جَالس عملا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَجَمَاعَة كَثِيرَة من السّلف إِذا لم يدر كم صلى لزمَه أَن يُعِيد الصَّلَاة مرّة بعد أُخْرَى أبدا حَتَّى يستيقن وَقَالَ بَعضهم يُعِيد ثَلَاث مَرَّات فَإِذا شكّ فِي الرَّابِعَة فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ مَتى شكّ فِي صلَاته هَل
    صلى ثَلَاثًا أَو أَرْبعا لزمَه الْبناء على الْيَقِين فَيجب أَن يَأْتِي برابعة وَيسْجد للسَّهْو عملا بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. فَلفظ مُسلم قَالَ أَبُو سعيد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلم يدر كم صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا فليطرح الشَّك وليبن على مَا استيقن ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم
    .........
    (7/314)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِن حصل لَهُ الشَّك أول مرّة بطلت صلَاته وَإِن صَار عَادَة لَهُ اجْتهد وَعمل بغالب ظَنّه وَإِن لم يظنّ شَيْئا عمل بِالْأَقَلِّ ثمَّ قَالَ قَالَ أَبُو حَامِد قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم مَا رَأَيْت قولا أقبح من قَول أبي حنيفَة هَذَا وَلَا أبعد من السّنة (قلت) النَّقْل عَن إِمَام بِمَا لَيْسَ قَوْله والتشنيع عَلَيْهِ بِغَيْر وَجه أقبح من هَذَا فَكيف رأى النووى نقل هَذَا التشنيع الْبَاطِل عَمَّن فِيهِ ميل إِلَى التعصب الْفَاحِش عَن مثل الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّذِي شهد لأبي حنيفَة بِأَن النَّاس عِيَال لَهُ فِي الْفِقْه وَهَذَا الَّذِي نَقله عَن أبي حنيفَة وَنَقله أَيْضا ابْن قدامَة وَغَيره من الْمُخَالفين لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا هُوَ بموجود فِي أُمَّهَات كتب أَصْحَابنَا الْمَشْهُورَة بل الْمَشْهُور فِيهَا أَنهم قَالُوا يسْتَقْبل لتقع صلَاته على وصف الصِّحَّة بِيَقِين حَتَّى قَالَ أَبُو نصر الْبَغْدَادِيّ الْمَشْهُور بالأقطع الِاسْتِئْنَاف أولى لِأَنَّهُ يسْقط بِهِ الشَّك بِيَقِين وَمَعَ هَذَا فَأَبُو حنيفَة عمل فِي كل وَاحِدَة من الْأَحْوَال الثَّلَاث بِحَدِيث مَعَ كَون قَول ابْن عمر مثله وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه من حَدِيث ابْن سِيرِين عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه قَالَ أما أَنا فَإِذا لم أدر كم صليت فَإِنِّي أُعِيد
    ............

    ختم المجلد السابع "
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ويليه المجلد الثامن "
    كتاب الجنائز "

  19. #239
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    المجلد الثامن "
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    الموافق : 14/ محرم /1442 هجري
    الموافق : 2/ سبتمبر /2020 ميلادي

    المجلد الثامن
    كتاب الجنائز
    (8/8 )
    وَقد جَاءَ هَذَا اللَّفْظ صَرِيحًا فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (الْجِنَازَة متبوعة وَلَا تتبع، وَلَيْسَ مَعهَا من تقدمها) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو يعلى وَابْن أبي شيبَة. وَأما أثر طَاوُوس فَإِنَّهُ، وَإِن كَانَ مُرْسلا فَهُوَ حجَّة عندنَا، وحديثهم الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، وَهُوَ حَدِيث ابْن عمر، قد اخْتلف فِيهِ أَئِمَّة الحَدِيث بِحَسب الصِّحَّة والضعف، وَقد رُوِيَ مُتَّصِلا ومرسلاً، فَذهب ابْن الْمُبَارك إِلَى تَرْجِيح الرِّوَايَة الْمُرْسلَة على الْمُتَّصِلَة مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَنهُ،وَقَالَ النَّسَائِيّ بعد تَخْرِيجه للرواية الْمُتَّصِلَة: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب مُرْسل. وَقد طول شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، فِي هَذَا الْموضع نصْرَة لمذهبه،وَمَعَ هَذَا كُله فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَأهل الحَدِيث كلهم يرَوْنَ أَن الحَدِيث الْمُرْسل فِي ذَلِك أصح
    .........
    (8/10)
    لتَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يجوز لما رُوِيَ (عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخذ خَاتمًا من فضَّة لَهُ فص حبشِي وَنقش عَلَيْهِ: مُحَمَّد رَسُول الله) ، رَوَاهُ الْجَمَاعَة، وَالسّنة أَن يكون قدر مِثْقَال فَمَا دونه، والتختم سنة لمن يحْتَاج إِلَيْهِ كالسلطان وَالْقَاضِي وَمن فِي مَعْنَاهُمَا، وَمن لَا حَاجَة لَهُ إِلَيْهِ فَتَركه أفضل
    .........
    (8/19)
    فِي (سيرة ابْن إِسْحَاق) . اسْمه: أَصْحَمَة، وَمَعْنَاهُ، عَطِيَّة. وَقَالَ أَبُو الْفرج: أَصْحَمَة بن أبجري، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد وَفتح الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْ نِ،قَالَ: وَقع فِي (مُسْند ابْن أبي شيبَة) فِي هَذَا الحَدِيث تَسْمِيَته: صحمة، بِفَتْح الصَّاد وَإِسْكَان الْحَاء. قَالَ: هَكَذَا قَالَ لنا يزِيد بن هَارُون، وَإِنَّمَا هُوَ صمحة،
    وَذكر السُّهيْلي أَن اسْم أَبِيه: يجْرِي، بِغَيْر همزَة، وَذكر مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي كِتَابه (نَوَادِر التَّفْسِير) : إسمه مَكْحُول بن صصه، وَفِي كتاب (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد: لما رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ أرسل النَّجَاشِيّ سنة سبع فِي الْمحرم عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فَأخذ كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضعه على عَيْنَيْهِ، وَنزل عَن سَرِيره فَجَلَسَ على الأَرْض تواضعا، ثمَّ أسلم، وَكتب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وَأَنه أسلم على يَدي جَعْفَر ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَتُوفِّي فِي رَجَب سنة تسع منصرفة من تَبُوك
    .......
    (8/20)
    قع فِي (صَحِيح مُسلم) : كتب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّجَاشِيّ، وَهُوَ غير النَّجَاشِيّ الَّذِي صلى عَلَيْهِ؟قلت: قيل: كَأَنَّهُ وهم من بعض الروَاة، أَو أَنه عبر بِبَعْض مُلُوك الْحَبَشَة عَن الْملك الْكَبِير، أَو يحمل على أَنه لما توفّي قَامَ مقَامه آخر فَكتب إِلَيْهِ. قَوْله: (خرج إِلَى الْمصلى) ، ذكر السُّهيْلي من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى عَلَيْهِ بِالبَقِيعِ
    ........
    (8/20)
    قَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا نعي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّجَاشِيّ وَصلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْد بعض النَّاس على غير الْإِسْلَام فَأَرَادَ إعلامهم بِصِحَّة إِسْلَامه (قلت) نعيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعفراً وَأَصْحَابه يرد ذَلِك، وَحمل بَعضهم النَّهْي على نعي الْجَاهِلِيَّة الْمُشْتَمل على ذكر المفاخر وَشبههَا.
    .........
    (8/21)
    لَا يُصَلِّي على الْجِنَازَة فِي الْمَسْجِد، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِمَوْتِهِ فِي الْمَسْجِد ثمَّ خرج بِالْمُسْلِمين إِلَى الْمصلى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، أَنه لَا يصلى على ميت فِي مَسْجِد جمَاعَة، وَبِه قَالَ مَالك وَابْن أبي ذِئْب،وَعند الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر: لَا بَأْس بهَا إِذا لم يخف تلويثه، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ (أَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما توفّي أمرت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِدْخَال جنَازَته الْمَسْجِد حَتَّى صلى عَلَيْهَا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،ثمَّ قَالَت: هَل عَابَ النَّاس علينا مَا فعلنَا؟فَقيل لَهَا: نعم،فَقَالَت: مَا أسْرع مَا نسوا، مَا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة سُهَيْل بن الْبَيْضَاء إلاَّ فِي الْمَسْجِد) . رَوَاهُ مُسلم،
    وَاحْتج أَصْحَابنَا من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن صَالح مولى التومة عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على ميت فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظ،وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَلَفظه: (فَلَيْسَ لَهُ شَيْء) ،وَقَالَ الْخَطِيب الْمَحْفُوظ: (فَلَا شَيْء لَهُ، وَرُوِيَ (فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) ،وَرُوِيَ: (فَلَا أجر لَهُ) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة: فَلَا أجر لَهُ، خطأ فَاحش،وَالصَّحِيح: فَلَا شَيْء لَهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِلَفْظ: (فَلَا صَلَاة لَهُ) . فَإِن قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) هَذَا الحَدِيث وعده من مُنكرَات صَالح، ثمَّ أسْند إِلَى شُعْبَة أَنه كَانَ لَا يروي عَنهُ وَينْهى عَنهُ،وَإِلَى مَالك: لَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَة،وَإِلَى النَّسَائِيّ أَنه قَالَ فِيهِ: ضَعِيف
    ...........
    (8/21)
    مَا قَالَه الجهبذ النقاد الإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، مُلَخصا، وَهِي أَن الرِّوَايَات لما اخْتلفت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب يحْتَاج إِلَى الْكَشْف ليعلم الْمُتَأَخر مِنْهَا، فَيجْعَل نَاسِخا لما تقدم، فَحَدِيث عَائِشَة إِخْبَار عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال الْإِبَاحَة الَّتِي لم يتقدمها شَيْء، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة إِخْبَار عَن نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي تقدمه الْإِبَاحَة، فَصَارَ نَاسِخا لحَدِيث عَائِشَة، وإنكار الصَّحَابَة عَلَيْهَا مِمَّا يُؤَكد ذَلِك. فَإِن قلت: من أَي قبيل يكون هَذَا النّسخ؟قلت: من قبيل النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة، فَفِي مثل هَذَا يتَعَيَّن الْمصير إِلَى النَّص الْمُوجب للحظر، لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، والحظر طَار عَلَيْهَا، فَيكون مُتَأَخِّرًا.
    .........
    (8/23)
    وَلم أجد لأحد من الْعلمَاء إجَازَة الصَّلَاة على الْغَائِب إلاَّ مَا ذكره ابْن زيد عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا استؤذن أَنه غرق أَو قتل أَو أكله السبَاع وَلم يُوجد مِنْهُ شَيْء صلى عَلَيْهِ، كَمَا فعل بالنجاشي، وَبِه قَالَ ابْن حبيب،وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَكثر أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن ذَلِك مَخْصُوص بِهِ، وَأَجَازَهُ بَعضهم إِذا كَانَ فِي يَوْم الْمَوْت أَو قريب مِنْهُ، وَفِي (المُصَنّف) عَن الْحسن إِنَّمَا دَعَا لَهُ وَلم يصل.
    .........
    (8/23)
    وَاسْتَغْرَبَهُ ابْن عبد الْبر،قَالَ: إِلَّا أَنه لَا خلاف عَلمته بَين الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ من الْفُقَهَاء فِي السَّلَام،وَإِنَّمَا اخْتلفُوا: هَل هِيَ وَاحِدَة أَو اثْنَتَانِ؟ فالجمهور على تَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي،وَقَالَت طَائِفَة: تسليمتان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ، وَرِوَايَة عَن إِبْرَاهِيم،وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ وَاحِدَة: عمر وَابْنه عبد الله وَعلي وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَأنس وَابْن أبي أوفى وواثلة وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَجَابِر بن زيد وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة. وَقَالَ الْحَاكِم: صحت الرِّوَايَة فِي الْوَاحِدَة عَن عَليّ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن أبي أوفى أَنهم كَانُوا يسلمُونَ تَسْلِيمَة وَاحِدَة،وَقَالَ ابْن التِّين: وَسَأَلَ أَشهب مَالِكًا: أتكره السَّلَام فِي صَلَاة الْجَنَائِز؟قَالَ: لَا، وَقد كَانَ ابْن عمر يسلم.
    ..........
    (8/24)
    وَعَن خَالِد: لقد انْقَطَعت فِي يَدي يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياف فَمَا بَقِي فِي يديّ إلاَّ صفيحة يَمَانِية، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَزيد هُوَ ابْن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْتقهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتبناه، وَلم يذكر الله تَعَالَى أحدا من الصَّحَابَة فِي الْقُرْآن باسمه الْخَاص إلاَّ زيدا،قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} (الْأَحْزَاب: 73) . وجعفر ابْن أبي طَالب الْهَاشِمِي الطيار ذُو الجناحين، وَهُوَ صَاحب الهجرتين، الْجواد ابْن الْجواد، وَكَانَ أَمِير الْمُهَاجِرين إِلَى الْحَبَشَة. وَعبد الله بن رَوَاحَة،بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الخزرجي الْمدنِي، أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة.
    وَقَالَ الْخطابِيّ: لما نظر خَالِد بعد مَوْتهمْ وَهُوَ فِي ثغر مخوف وبإزاء عَدو عَددهمْ جم وبأسهم شَدِيد خَافَ ضيَاع الْأَمر وهلاك من مَعَه من الْمُسلمين، فتصدى للإمارة عَلَيْهِم وَأخذ الرَّايَة من غير تأمير وَقَاتل إِلَى أَن فتح الله على الْمُسلمين، فَرضِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، إِذْ وَافق الْحق، وَإِن لم يكن من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذن وَلَا من الْقَوْم الَّذين مَعَه بيعَة وتأمير، فَصَارَ هَذَا أصلا فِي الضرورات إِذا وَقعت من معاظم أَمر الدّين فِي أَنَّهَا لَا تراعى فِيهَا شَرَائِط أَحْكَامهَا عِنْد عدم الضَّرُورَة، وَكَذَا فِي حُقُوق آحَاد أَعْيَان النَّاس، مثل أَن يَمُوت رجل بفلاة وَقد خلف تَرِكَة، فَإِن على من شهده حفظ مَاله وإيصاله إِلَى أَهله وَإِن لم يوص المتوفي بذلك فَإِن النَّصِيحَة وَاجِبَة للْمُسلمين
    .........
    (8/30)
    ن أَطْفَال الْمُسلمين فِي الْجنَّة. قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ إِجْمَاع، وَلَا عِبْرَة للمجبرة حَيْثُ جعلوهم تَحت الْمَشِيئَة، فَلَا يعْتد بخلافهم وَلَا بوفاقهم. وَفِي أَطْفَال الْمُشْركين اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء، فَذهب جمَاعَة إِلَى التَّوَقُّف فِي أَطْفَال الْمُشْركين أَن يَكُونُوا فِي جنَّة أَو نَار،مِنْهُم ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد وَإِسْحَاق لحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَطْفَال؟فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) . كَذَا قَالَ: الْأَطْفَال، وَلم يخص طفْلا من طِفْل. قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) : رُوِيَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ لعَائِشَة فِي أَطْفَال الْمُشْركين: (إِن شِئْت دَعَوْت الله تَعَالَى أَن يسمعك تضاغيهم فِي النَّار؟) وَقَالَ سَمُرَة بن جُنْدُب: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَوْلَاد الْمُشْركين هم خدم أهل الْجنَّة) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه سُئِلَ عَنْهُم فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين،فَرجع الْأَمر إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين
    .......
    (8/33)
    فِي الحَدِيث: (إلاَّ تَحِلَّة الْقسم) أَي: قدر مَا يبر الله قسمه فِيهِ بقوله: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف فِي المُرَاد بِهَذَا الْقسم،فَقيل: هُوَ معِين،وَقيل: غير معِين، فالجمهور على الأول. وَقيل: لم يعن بِهِ قسم بِعَيْنِه. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: التقليل لأمر وُرُودهَا، وَهَذَا اللَّفْظ يسْتَعْمل فِي هَذَا،يُقَال: مَا ينَام فلَان إلاَّ كتحليل الألية،وَيُقَال: مَا ضربه إلاَّ تحليلاً إِذا لم يُبَالغ فِي الضَّرْب،أَي: قدرا يُصِيبهُ مِنْهُ مَكْرُوه. وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: المُرَاد بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . وَلَيْسَ المُرَاد دُخُولهَا للعقاب، وَلَكِن للْجُوَاز. كَمَا قَالَه
    الخطابي
    وَمَعَ هَذَا اخْتلف السّلف فِي المُرَاد بالورود فِي الْآيَة،فَقيل: هُوَ الدُّخُول، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا (الْوُرُود: الدُّخُول، لَا يبْقى بر وَلَا فَاجر إلاَّ دَخلهَا، فَيكون على الْمُؤمنِينَ بردا وَسلَامًا) وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا وَزَاد: (كَمَا كَانَت على إِبْرَاهِيم حَتَّى إِن للنار أَو لِجَهَنَّم ضجيج من بردهمْ، ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا ويذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا) . وروى التِّرْمِذِيّ،وَقَالَ: حَدثنَا عبد بن حميد،قَالَ: أخبرنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل (عَن السّديّ قَالَ: سَأَلت مرّة الْهَمدَانِي عَن قَول الله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . فَحَدثني أَن عبد الله بن مَسْعُود حَدثهمْ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يرد النَّاس النَّار ثمَّ يصدرون عَنْهَا بأعمالهم، فأولهم كلمح الْبَرْق ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس ثمَّ كالراكب فِي رَحْله ثمَّ كشد الرجل ثمَّ كمشيه) ، هَذَا حَدِيث حسن،
    ..........
    (8/35)
    ي سَبَب وجوب غسل الْمَيِّت،فَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْحَدث، فَإِن الْمَوْت سَبَب لاسترخاء مفاصله، وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الْجِرْجَانِيّ وَغَيره من مَشَايِخ الْعرَاق، إِنَّمَا أوجب النَّجَاسَة الْمَوْت إِذْ الْآدَمِيّ لَهُ دم مسفوح كَسَائِر الْحَيَوَانَات، وَلِهَذَا يَتَنَجَّس الْبِئْر بِمَوْتِهِ فِيهَا، وَفِي (الْبَدَائِع) : عَن مُحَمَّد بن الشجاع البَجلِيّ أَن الْآدَمِيّ لَا ينجس بِالْمَوْتِ كَرَامَة لَهُ، لِأَنَّهُ لَو تنجس لما حكم بِطَهَارَتِهِ بِالْغسْلِ كَسَائِر الْحَيَوَانَات الَّتِي حكم بنجاستها بِالْمَوْتِ،
    ........
    (8/37)
    قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الَّذِي يغسل الْمَيِّت،فَقَالَ بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم: إِذا غسل مَيتا فَعَلَيهِ الْغسْل،وَقَالَ بَعضهم: عَلَيْهِ الْوضُوء،وَقَالَ مَالك بن أنس: اسْتحبَّ الْغسْل من غسل الْمَيِّت وَلَا أرى ذَلِك وَاجِبا، وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي،وَقَالَ أَحْمد: من غسل مَيتا أَرْجُو أَن لَا يجب عَلَيْهِ الْغسْل، فَأَما الْوضُوء فَأَقل مَا فِيهِ. وَقَالَ إِسْحَاق: لَا بُد من الْوضُوء،وَقد رُوِيَ عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه قَالَ: لَا يغْتَسل وَلَا يتَوَضَّأ من غسل الْمَيِّت،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَعَائِشَة. قلت: كِلَاهُمَا عِنْد أبي دَاوُد، وَفِي الْبَاب عَن حُذَيْفَة عِنْد الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد سَاقِط، وَقَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) : أدْركْت النَّاس على أَن غاسل الْمَيِّت يغْتَسل، وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب،وَقَالَ ابْن حبيب: لَا غسل عَلَيْهِ وَلَا وضوء، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: الْجَدِيد هَذَا،وَالْقَدِيم: الْوُجُوب، وبالغسل قَالَ ابْن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ، قَالَه ابْن الْمُنْذر،وَقَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا قَالَ بِوُجُوب الْغسْل مِنْهُ، وَأوجب أَحْمد وَإِسْحَاق الْوضُوء مِنْهُ.
    ........
    (8/39)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي أَحَادِيث غسل الْمَيِّت أَعلَى من حَدِيث أم عَطِيَّة، وَعَلِيهِ عول الْأَئِمَّة.
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا قَالَ بمجاوزة السَّبع، وسَاق من طَرِيق قَتَادَة أَن ابْن سِيرِين كَانَ يَأْخُذ الْغسْل عَن أم عَطِيَّة ثَلَاثًا وإلاَّ فخمسا وإلاَّ فسبعا. قَالَ: فَرَأَيْنَا أَن الْأَكْثَر من ذَلِك سبع. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الزِّيَادَة على السَّبع سرف،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي أَن جَسَد الْمَيِّت يسترخي بِالْمَاءِ، فَلَا أحب الزِّيَادَة على ذَلِك.
    .........
    (8/60)
    أَن الصَّبْر على مكابدة الْفقر وصعوبته من منَازِل الْأَبْرَار ودرجات الأخيار.
    ......
    (8/62)
    قَالَ الضميري لَا يسْتَحبّ الْإِنْسَان أَن يعد لنَفسِهِ كفنا لِئَلَّا يُحَاسب عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيح إلاَّ إِذا كَانَ من جِهَة يقطع بحلها أَو من أثر أهل الْخَيْر والصلحاء، فَإِنَّهُ حسن، وَهل يلْحق بذلك حفر الْقَبْر فِي حَيَاته؟فَقَالَ ابْن بطال: قد حفر جمَاعَة من الصَّالِحين قُبُورهم قبل الْمَوْت بِأَيْدِيهِم ليتمثلوا حُلُول الْمَوْت فِيهِ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن ذَلِك لم يَقع من أحد من الصَّحَابَة، وَلَو كَانَ مُسْتَحبا لكثر فيهم. قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه من أحد من الصَّحَابَة عدم جَوَازه، لِأَن مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَلَا سِيمَا إِذا فعله قوم من الصلحاء الأخيار.
    .........
    (8/65)
    وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن من مَاتَ أَبوهَا أَو ابْنهَا وَكَانَت ذَات زوج وطالبها زَوجهَا بِالْجِمَاعِ فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي أُبِيح لَهَا الْإِحْدَاد فِيهَا أَنه يقْضِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْجِمَاعِ فِيهَا،
    ........
    (8/66)
    وَعَن الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة لذهب علم الْحجاز
    ........
    (8/67)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الصَّبْر الَّذِي يحمد عَلَيْهِ صَاحبه مَا كَانَ عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة، بِخِلَاف مَا بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ على الْأَيَّام يسلو. وَقيل: إِن الْمَرْء لَا يُؤجر على الْمُصِيبَة لِأَنَّهَا لَيست من صنعه، وَإِنَّمَا يُؤجر على حسن نِيَّته وَجَمِيل صبره،وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ أَن لَا يجْتَمع عَلَيْهَا مُصِيبَة الْهَلَاك وفقد الْأجر.

    .........
    (8/69)
    جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الزائر رجلا أَو امْرَأَة، وَسَوَاء كَانَ المزور مُسلما أَو كَافِرًا لعدم الْفَصْل فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وبالجواز قطع الْجُمْهُور،وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يجوز زِيَارَة قبر الْكَافِر،مستدلاً بقوله تَعَالَى: وَلَا تقم على قَبره} (التَّوْبَة: 48) . وَهَذَا غلط.
    وَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي زِيَارَة الْقُبُور،فَقَالَ الْحَازِمِي: أهل الْعلم قاطبة على الْإِذْن فِي ذَلِك للرِّجَال. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور إِبَاحَة عُمُوم، كَمَا كَانَ النَّهْي عَن زيارتها نهي عُمُوم، ثمَّ ورد النّسخ فِي الْإِبَاحَة على الْعُمُوم، فَجَائِز للرِّجَال وَالنِّسَاء زِيَارَة الْقُبُور، وروى فِي الْإِبَاحَة أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها. .) الحَدِيث،وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه: (قد كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها فَإِنَّهَا تذكر بِالآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروا الْقُبُور، فَإِنَّهَا تذكر فِي الدُّنْيَا وتذكر الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ،قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن زِيَارَة الْقُبُور،ثمَّ قَالَ: زوروها وَلَا تَقولُوا هجرا) يَعْنِي سوأً. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ،قَالَ: (زار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبر أمه فَبكى وأبكى من حوله،فَقَالَ: اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي أَن اسْتغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي واستأذنته فِي أَن أزورها فَأذن لي، فزوروا الْقُبُور فَإِنَّهَا تذكر الْمَوْت) .
    ..........
    (8/70)
    وَقَالَ ابْن حبيب: لَا بَأْس بزيارة الْقُبُور وَالْجُلُوس إِلَيْهَا وَالسَّلَام عَلَيْهَا عِنْد الْمُرُور بهَا، وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسُئِلَ مَالك عَن زِيَارَة الْقُبُور؟فَقَالَ: قد كَانَ نهى عَنهُ ثمَّ أذن فِيهِ، فَلَو فعل ذَلِك إِنْسَان وَلم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بَأْسا. وَفِي (التَّوْضِيح) أَيْضا: وَالْأمة مجمعة على زِيَارَة قبر نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَكَانَ ابْن عمر إِذا قدم من سفر أُتِي قَبره المكرم فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه. وَمعنى النَّهْي عَن زِيَارَة الْقُبُور إِنَّمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام عِنْد قربهم بِعبَادة الْأَوْثَان واتخاذ الْقُبُور مَسَاجِد،فَلَمَّا استحكم الْإِسْلَام وَقَوي فِي قُلُوب النَّاس وَأمنت عبَادَة الْقُبُور وَالصَّلَاة إِلَيْهَا نسخ النَّهْي عَن زيارتها لِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة وتزهد فِي الدُّنْيَا وَعَن طَاوُوس: كَانُوا يستحبون أَن لَا يتفرقوا عَن الْمَيِّت سَبْعَة أَيَّام لأَنهم يفتنون ويحاسبون فِي قُبُورهم سَبْعَة أَيَّام، وَحَاصِل الْكَلَام من هَذَا كُله أَن زِيَارَة الْقُبُور مَكْرُوهَة للنِّسَاء، بل حرَام فِي هَذَا الزَّمَان، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر لِأَن خروجهن على وَجه فِيهِ الْفساد والفتنة، وَإِنَّمَا رخصت الزِّيَارَة لتذكر أَمر الْآخِرَة وللاعتبار بِمن مضى وللتزهد فِي الدُّنْيَا.
    ......
    (8/79)
    أَن الْعلمَاء ذكرُوا فِي قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) ثَمَانِيَة أَقْوَال، أَصَحهَا وَهُوَ تَأْوِيل الْجُمْهُور على أَنه مَحْمُول على من أوصى بِهِ،وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز التعذيب فِي الدُّنْيَا
    بِفعل الْغَيْر لقَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} (الْأَنْفَال: 52) . وَكَذَا فِي البرزخ، وَأما آيَة الوازرة فَإِنَّمَا هِيَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَط، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أحسن الْوُجُوه الثَّمَانِية فِي تَوْجِيهه،إِذْ فِي الْبَوَاقِي تكلّف: إِمَّا فِي لفظ الْمَيِّت بِأَن يخصص بِمن كَانَت النِّيَاحَة من سنَنه، أَو بالموصي، أَو بالراضي بهَا،
    ......
    (8/91)
    وَقَالَ زيد بن ثَابت: لَا يجوز لأحد إِن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا كَانَ لَهُ بنُون أَو وَرَثَة كَلَالَة أَو ورث جمَاعَة الْمُسلمين، لِأَن بَيت مَا لَهُم عصبَة من لَا عصبَة لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة. وَأجْمع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث إِذا أجازها الْوَرَثَة جَازَت، وَإِن لم تجزها الْوَرَثَة لم يجز مِنْهَا إلاَّ الثُّلُث. وأبى ذَلِك أهل الظَّاهِر فمنعوها وَإِن أجازتها الْوَرَثَة، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن كيسَان،وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز،وَإِن أجازها الْوَرَثَة لحَدِيث: (لَا وَصِيَّة لوَارث) ، وَسَائِر الْفُقَهَاء يجيزون ذَلِك إِذا أجازها الْوَرَثَة، ويجعلونها هبة. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الثُّلُث هُوَ الْغَايَة تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْوَصِيَّة، وَإِن التَّقْصِير عَنهُ أفضل.
    وَكره جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيَّة بِجَمِيعِ الثُّلُث. قَالَ طَاوُوس: إِذا كَانَت ورثته قَلِيلا وَمَاله كثيرا فَلَا بَأْس إِن يبلغ الثُّلُث، وَاسْتحبَّ طَائِفَة الْوَصِيَّة بِالربعِ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ إِسْحَاق: السّنة الرّبع،لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الثُّلُث كثير) إلاَّ أَن يكون رجل يعرف فِي مَاله شُبْهَة، فَيجوز لَهُ الثُّلُث. قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم لإسحاق حجَّة فِي قَوْله: السّنة الرّبع،وَقَالَ ابْن بطال: أوصى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالربعِ.
    .........
    (8/94)
    يد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعزي بن امرىء الْقَيْس الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي، مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ أَن أمه ذهبت تزور أَهلهَا فَأَغَارَ عَلَيْهِم خيل من بني الْقَيْس، فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة بنت خويلد فَوَهَبته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،ثمَّ وُجد أَبوهُ فَاخْتَارَ الْمقَام عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهُ وتبناه فَكَانَ يُقَال: زيد بن مُحَمَّد، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبهُ حبا شَدِيدا. وَقَالَ السُّهيْلي: باعوا زيدا بسوق حُبَاشَة، وَهُوَ من أسواق الْعَرَب، وَزيد يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِيَة أَعْوَام وَأعْتقهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزوجه مولاته أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة بن زيد،وَعَن عَائِشَة كَانَت تَقول: مَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيد بن حَارِثَة فِي سَرِيَّة إلاَّ أمره عَلَيْهِم، وَلَو بَقِي بعده لاستخلفه. رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ،وَابْن أبي شيبَة: جيد قوي على شَرط الصَّحِيح وَهُوَ غَرِيب جدا
    .......
    (8/96)
    وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِن قَالَ الْقَائِل: إِن أَحْوَال النَّاس فِي الصَّبْر مُتَفَاوِتَة فَمنهمْ من يظْهر حزنه على الْمُصِيبَة فِي وَجهه بالتغيير لَهُ، وَفِي عَيْنَيْهِ بانحدار الدُّمُوع وَلَا ينْطق بِشَيْء من القَوْل، وَمِنْهُم من يجمع ذَلِك كُله، وَيزِيد عَلَيْهِ إِظْهَاره فِي مطعمه وملبسه، وَمِنْهُم من يكون حَاله فِي الْمُصِيبَة وَقبلهَا سَوَاء فَأَيهمْ الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر،قد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بَعضهم: الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر هُوَ الَّذِي يكون فِي حَاله مثلهَا قبلهَا، وَلَا يظْهر عَلَيْهِ حزن فِي جارحة وَلَا لِسَان، كَمَا زعمت الصُّوفِيَّة، أَن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِالْقدرِ، وَلَا يحزن على شَيْء، وَالنَّاس فِي هَذَا الْحَال مُخْتَلفُونَ، فَمنهمْ من فِي قلبه الْجلد وَقلة المبالاة بالمصائب، وَمِنْهُم من هُوَ بِخِلَاف ذَلِك، فَالَّذِي يكون طبعه الْجزع وَيملك نَفسه ويستشعر الصَّبْر أعظم أجرا من الَّذِي يتجلد طباعه. قَالَ الطَّبَرِيّ: كَمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه نعى أَخُوهُ عتبَة. قَالَ: لقد كَانَ من أعز النَّاس عَليّ وَمَا يسرني أَنه بَين أظْهركُم الْيَوْم حَيا. قَالُوا: وَكَيف هُوَ من أعز النَّاس عَلَيْك؟قَالَ: إِنِّي لأوجر فِيهِ أحب إِلَيّ من أَن يُؤجر فِي. وَقَالَ ثَابت: إِن الصَّلْت بن أَشْيَم مَاتَ أَخُوهُ، فجَاء رجل وَهُوَ يطعم،فَقَالَ: يَا أَبَا الصَّهْبَاء إِن أَخَاك مَاتَ} قَالَ: هَلُمَّ فَكل قد نعي إِلَيْنَا، فَكل. قَالَ: وَالله مَا سبقني إِلَيْك أحد مِمَّن نعاه،قَالَ: يَقُول الله عز وَجل: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} (الزمر: 03) . وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ شُرَيْح، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدْفن جنائزه لَيْلًا، فيغتنم ذَلِك فيأتيه الرجل حِين يصبح فيسأله عَن الْمَرِيض،فَيَقُول: هَذَا لله الشُّكْر وَأَرْجُو أَن يكون مستريحا. وَكَانَ ابْن سِيرِين يكون عِنْد الْمُصِيبَة كَمَا هُوَ قبلهَا يتحدث ويضحك إلاَّ يَوْم مَاتَت حَفْصَة فَإِنَّهُ جعل يكشر، وإنت تعرف فِي وَجهه،وَسُئِلَ ربيعَة: مَا مُنْتَهى الصَّبْر؟قَالَ: أَن تكون يَوْم تصيبه الْمُصِيبَة مثله قبل أَن تصيبه وَأما جزع الْقلب وحزن النَّفس ودمع الْعين فَإِن ذَلِك لَا يخرج العَبْد من مَعَاني الصابرين إِذا لم يتجاوزه إِلَى مَا لَا يجوز لَهُ فعل، لِأَن نفوس بني آدم مجبولة على الْجزع من المصائب، وَقد مدح الله تَعَالَى الصابرين وَوَعدهمْ جزيل الثَّوَاب عَلَيْهِ، وتغيير الأجساد عَن هيآتها ونقلها عَن طبعها الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الَّذِي أَنْشَأَهَا. وروى المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا،قَالَ: (قَالَ الله تَعَالَى: إِذا ابْتليت عَبدِي الْمُؤمن فَلم يشكني إِلَى عواده أنشطه من عقاله وبدلته لَحْمًا خيرا من لَحْمه ودما خيرا من دَمه، ويستأنف الْعَمَل)
    (8/103)
    وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو عَاشَ إِبْرَاهِيم لوضعت الْجِزْيَة على كل قبْطِي) ،وَعَن مَكْحُول أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي إِبْرَاهِيم: (لَو عَاشَ مَا رق لَهُ خَال) ، وَاتَّفَقُوا على أَن مولده كَانَ فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان، وَاخْتلفُوا فِي وَقت وَفَاته، فالواقدي جزم بِأَنَّهُ مَاتَ يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر لَيَال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر،وَقَالَ ابْن حزم: مَاتَ قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثَلَاثَة،وَقيل: بلغ سِتَّة عشر شهرا وَثَمَانِية أَيَّام،وَقيل: سَبْعَة عشر شهرا،وَقيل: سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : توفّي وَله سَبْعُونَ يَوْمًا. وَعَن مَحْمُود بن لبيد: توفّي وَله ثَمَانِيَة عشر شهرا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) : قَالَ عَمْرو: فَلَمَّا توفّي إِبْرَاهِيم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم ابْني وَإنَّهُ مَاتَ فِي الثدي وَإِن لَهُ لظئرين يكملان إرضاعه فِي الْجنَّة) .
    وَعَن مُحَمَّد ابْن عمر بن عَليّ بن أبي طَالب: أول من دفن بِالبَقِيعِ ابْن مَظْعُون، ثمَّ اتبعهُ إِبْرَاهِيم،وَعَن رجل من آل عَليّ بن أبي طَالب: لما دفن إِبْرَاهِيم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل من أحد يَأْتِي بقربة؟ فَأتى رجل من الْأَنْصَار بقربة مَاء،فَقَالَ: رشها على قبر إِبْرَاهِيم.
    وَاخْتلف فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فصححه ابْن حزم،وَقَالَ أَحْمد: مُنكر جدا. وَقَالَ السّديّ: سَأَلت أنسا: أصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْنه إِبْرَاهِيم؟قَالَ: لَا أَدْرِي، وروى عَطاء عَن ابْن عجلَان عَن أنس أَنه كبر عَلَيْهِ أَرْبعا، وَهُوَ أفقه،أَعنِي: عَطاء. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَنه: مَا صلى، وَهِي مُرْسلَة، فَيجوز أَن يكون اشْتغل بالكسوف عَن الصَّلَاة. وَحكى الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس الْعِرَاقِيّ السبتي: أَن مَعْنَاهُ: لم يصل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ، وَصلى عَلَيْهِ غَيره. وَقيل: لِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي على نَبِي، وَقد جَاءَ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لَو عَاشَ كَانَ نَبيا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: كل هَذِه ضَعِيفَة، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ أثبت.
    ...........

  20. #240
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,618

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تابع / المجلد الثامن "
    الموافق : الأثنين
    التاريخ : 19/ محرم /1442 هجري
    الموافق : 7/ سبتمبر /2020 ميلادي


    ...........
    (2 )
    (8/110)
    ورد فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ التَّصْرِيح بذلك فِيمَا رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي (زياداته على الْمسند) والطَّحَاوِي من رِوَايَة لَيْث عَن أبي بردة بن أبي مُوسَى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا مرت بكم جَنَازَة فَإِن كَانَ مُسلما أَو يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا فَقومُوا لَهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ يقوم لَهَا وَلَكِن يقوم لمن مَعهَا من الْمَلَائِكَة) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله: فِي حَدِيث أبي مُوسَى هَذَا التَّخْصِيص بِجنَازَة الْمُسلم وَأهل الْكتاب، وَالْعلَّة الْمَذْكُورَة فِيهِ تَقْتَضِي عدم تَخْصِيصه بهم، بل بِجَمِيعِ بني آدم، وَإِن كَانُوا كفَّارًا غير أهل كتاب، لِأَن الْمَلَائِكَة مَعَ كل نفس.
    وَاخْتلفت الْأَحَادِيث فِي تَعْلِيل الْقيام بِجنَازَة الْيَهُودِيّ أَو الْيَهُودِيَّة،فَفِي حَدِيث جَابر: التَّعْلِيل،بقوله: (إِن الْمَوْت فزع) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَفِي حَدِيث سهل بن حنيف وَقيس التَّعْلِيل بِكَوْنِهَا نفسا، وحديثهما أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ على مَا يَأْتِي. وَفِي حَدِيث أنس: (إِنَّمَا قمنا للْمَلَائكَة) ، أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن جَنَازَة مرت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ،فَقيل: إِنَّهَا جَنَازَة يَهُودِيّ ... فَقَالَ: إِنَّمَا قمنا للْمَلَائكَة) ، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح.
    ......
    (8/115)
    وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يَنْبَغِي لأهل الْمَيِّت إِذا لم يخشوا عَلَيْهِ التَّغَيُّر أَن ينتظروا بِهِ اجْتِمَاع قوم حَتَّى يقوم مِنْهُم ثَلَاثَة صُفُوف لهَذَا الحَدِيث. قلت: لأجل ذَلِك ذكر البُخَارِيّ: بَاب الصُّفُوف، بِصِيغَة الْجمع،وَجعل الصُّفُوف ثَلَاثًا مُسْتَحبّ لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث مَالك بن هُبَيْرَة مَرْفُوعا: (من صلى عَلَيْهِ ثَلَاث صُفُوف
    فقد أوجب) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه، وَصَححهُ الْحَاكِم،وَفِي رِوَايَة: (إلاَّ غفر لَهُ) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَمُوت أحد من الْمُسلمين فَيصَلي عَلَيْهِ أمة من الْمُسلمين يبلغُوا أَن يَكُونُوا مائَة يشفعوا لَهُ إلاَّ شفعوا فِيهِ) . وَرَوَاهُ أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ. وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صلى عَلَيْهِ مائَة من الْمُسلمين غفر لَهُ
    (8/ 116)
    التَّكْبِير على الْجِنَازَة بِأَكْثَرَ من أَربع: أَنَّهَا مَنْسُوخَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن إِبْرَاهِيم،قَالَ: قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي التَّكْبِير على الْجِنَازَة،لَا تشَاء أَن تسمع رجلا يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر سبعا،وَآخر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر خمْسا،وَآخر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله،
    صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر أَرْبعا إِلَّا سمعته، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك، فَكَانُوا على ذَلِك حَتَّى قبض أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَأى اخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك شقّ عَلَيْهِ جدا،فَأرْسل إِلَى رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّكُم معاشر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَتى تختلفون على النَّاس يَخْتَلِفُونَ من بعدكم، وَمَتى تجتمعون على أَمر يجْتَمع النَّاس عَلَيْهِ، فانظروا أمرا تجتمعون عَلَيْهِ، فَكَأَنَّمَا أيقظهم،فَقَالُوا: نعم مَا رَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأشر علينا، فَقَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: بل أَشِيرُوا عَليّ، فَإِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ، فتراجعوا الْأَمر بَينهم فَأَجْمعُوا أَمرهم على أَن يجْعَلُوا التَّكْبِير على الْجَنَائِز مثل التَّكْبِير فِي الْأَضْحَى، وَالْفطر أَربع تَكْبِيرَات، فأجمع أَمرهم على ذَلِك، فَهَذَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رد الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَربع تَكْبِيرَات بمشورة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وهم حَضَرُوا من فعل رَسُول الله. مَا رَوَاهُ حُذَيْفَة وَزيد بن أَرقم، فَكَانُوا مَا فعلوا، فَمن ذَلِك عِنْدهم هُوَ أولى مِمَّا قد كَانُوا فَذَلِك نسخ لما كَانُوا قد عمِلُوا لأَنهم مأمونون على مَا قد فعلوا، كَمَا كَانُوا مأمونين على مَا قد رووا.
    ...........
    (8/119)
    الَ شَيخنَا زين الدّين: وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي. أما من لم يحصل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي بلد وفاه، كَالْمُسلمِ يَمُوت فِي بلد الْمُشْركين وَلَيْسَ فِيهِ مُسلم، فَإِنَّهُ يجب على أهل الْإِسْلَام الصَّلَاة عَلَيْهِ كَمَا فِي قصَّة النَّجَاشِيّ،وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على نبوته إلاَّ أَنه كَانَ يكتم إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ يجب على الْمُسلمين أَن يصلوا عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه كَانَ بَين ظهراني أهل الْكفْر، وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم بِحقِّهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل ذَلِك إِذْ هُوَ نبيه ووليه وأحق النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر الْغَيْب فَإِذا صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم يتوجهوا إِلَى بلد الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة الْقبْلَة،
    ..........
    (8/120)
    قَالَ الْخطابِيّ: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما روى فِي بعض الْأَخْبَار أَنه قد سويت لَهُ الأَرْض حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فعل شَيْئا من أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا الْمُتَابَعَة والاتساء بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلاَّ بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ إِلَى الصَّلَاة فَصف بهم وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا التَّأْوِيل فَاسد. قلت: هَذَا التَّشَيُّع كُله على الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول، مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع لَهُ سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ الْمَأْمُوم. فَإِن قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل بَيِّنَة وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّد الاجتمال. قلت: ورد مَا يدل على ذَلِك، فروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عمرَان بن الْحصين أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أَخَاكُم النَّجَاشِيّ توفّي فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفوا خَلفه، فَكبر أَرْبعا وهم لَا يظنون إلاَّ أَن جنَازَته بَين يَدَيْهِ) .
    ........
    (8/121)
    يصف من يحضر الصَّلَاة على الْجِنَازَة ثَلَاثَة صُفُوف، سَوَاء قلوا أَو كَثُرُوا، وَلَكِن الْكَلَام فِيمَا إِذا تعدّدت الصُّفُوف وَالْعدَد قَلِيل، أَو كَانَ الصَّفّ وَاحِدًا. وَالْعدَد كثيرا أَيهمَا أفضل؟وَعِنْدِي: الصُّفُوف أفضل، وَالله أعلم.

    ...........
    (8/121)
    الصَّحَابَة كَانُوا يصلونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام.
    روى البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان سِنِين؟قلت: حمل ذَلِك على الدُّعَاء،قَالَه بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت. قلت: الْجَواب السديد أَن أَجْسَادهم لم تبل
    .......
    (8/123)
    قَالَ ابْن بطال: كَانَ غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الشّعبِيّ، فَإِنَّهُ أجَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة بِغَيْر طَهَارَة،قَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاء لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود. قَالَ: وَالْفُقَهَاء مجمعون من السّلف وَالْخلف على خلاف قَوْله. انْتهى
    ...........
    (8/ 128)
    قد ورد لفظ القيراط فِي عدَّة أَحَادِيث: فَمِنْهَا: مَا يحمل على القيراط الْمُتَعَارف. وَمِنْهَا: مَا يحمل على الْجُزْء وَإِن لم تعرف النِّسْبَة،فَمن الأول: حَدِيث كَعْب بن مَالك: (إِنَّكُم ستفتحون بَلَدا يذكر فِيهَا القيراط) ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (كنت أرى الْغنم لأهل مَكَّة بالقراريط) . قَالَ ابْن مَاجَه عَن بعض شُيُوخه،يَعْنِي: كل شَاة بقيراط،وَقَالَ غَيره: قراريط جبل بِمَكَّة، وَمن الْمُحْتَمل حَدِيث ابْن عمر الَّذين أعْطوا الْكتاب أعْطوا قيراطا قيراطا، وَحَدِيث الْبَاب. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (من اقتنى كَلْبا نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وَقد جَاءَ فِي حَدِيث مُسلم،وَغَيره: (القيراط مثل أحد) ،
    (8/130)
    قَالَ شَيخنَا زين الدّين: الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن ذَلِك يتَوَقَّف على كَمَال الدّفن لَا على وَضعه فِي اللَّحْد، وَذهب بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يحصل بِمُجَرَّد الْوَضع فِي اللَّحْد.
    ..........
    (8/137)
    إِلَى تَضْعِيف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي غَالب عَن أنس بن مَالك: (أَنه صلى على رجل فَقَامَ عِنْد رَأسه، وَصلى على امْرَأَة فَقَامَ عِنْد عجيزتها،فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: أهكذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل؟قَالَ: نعم. انْتهى. قلت: روى أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث مطولا وَسكت عَلَيْهِ، وسكوته دَلِيل رِضَاهُ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا،فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُنِير عَن سعيد بن عَامر عَن همام (عَن أبي غَالب،قَالَ: صليت مَعَ أنس بن مَالك على جَنَازَة رجل فَقَامَ حِيَال رَأسه،ثمَّ جاؤوا بِجنَازَة امْرَأَة من قُرَيْش فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة صل عَلَيْهَا، فَقَامَ حِيَال وسط السرير،فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ على الْجِنَازَة مقامك مِنْهَا وَمن الرجل مقامك مِنْهُ؟قَالَ: نعم،فَلَمَّا فرغ قَالَ: إحفظوه) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث أنس حَدِيث حسن،وَاسم أبي غَالب: نَافِع،وَقيل: رَافع، وَكَيف يضعف هَذَا وَقد رَضِي بِهِ أَبُو دَاوُد وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَلَكِن لما كَانَ هَذَا الحَدِيث مُسْتَند الْحَنَفِيَّة طعنوا فِيهِ بِمَا لَا يفيدهم، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم وقُوف البُخَارِيّ عَلَيْهِ، والتضعيف وَعَدَمه مبنيان عَلَيْهِ، وَذكر البُخَارِيّ الرجل فِي التَّرْجَمَة لَا يدل على عدم التَّفْرِقَة بَينهمَا عِنْده لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون مذْهبه غير هَذَا، وَذكر الرجل وَقع اتِّفَاقًا لَا قصدا.
    .......
    (8/138)
    قَالَ ابْن حبيب: إِذا ترك بعض التَّكْبِير جهلا أَو نِسْيَانا أتم مَا بَقِي من التَّكْبِير، وَإِن رفعت إِذا كَانَ بِقرب ذَلِك فَإِن طَال وَلم تدفن أُعِيدَت الصَّلَاة عَلَيْهَا. وَإِن دفنت تركت، وَفِي (العتيبية) نَحوه عَن مَالك، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا خلاف فِي الْبطلَان إِذا رفعت فِي أثْنَاء الصَّلَاة، وَالأَصَح الصِّحَّة، وَإِن صلى عَلَيْهَا قبل وَضعهَا فَفِي الصِّحَّة وَجْهَان، وَعِنْدنَا كل تَكْبِيرَة قَائِمَة مقَام رَكْعَة حَتَّى لَو ترك تَكْبِيرَة مِنْهَا لَا تجوز صلَاته. كَمَا لَو ترك رَكْعَة، وَلِهَذَا قيل أَربع كأربع الظّهْر، والمسبوق بتكبيرة أَو أَكثر يَقْضِيهَا بعد السَّلَام، مَا لم ترفع الْجِنَازَة، وَلَو رفعت بِالْأَيْدِي وَلم تُوضَع على الأكتاف يكبر فِي ظَاهر الرِّوَايَة،وَعَن مُحَمَّد: إِن كَانَت إِلَى الأَرْض أقرب يكبر، وَإِن كَانَت إِلَى الأكتاف أقرب لَا يكبر. وَقيل: لَا يقطع حَتَّى يتباعد. وَفِي (الْأَشْرَاف) : قَالَ ابْن الْمسيب وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَقَتَادَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ: الْمَسْبُوق يقْضِي مَا فَاتَهُ مُتَتَابِعًا قبل أَن ترفع الْجِنَازَة، فَإِذا رفعت سلم وَانْصَرف، كَقَوْل أَصْحَابنَا،قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول: وَقَالَ ابْن عمر: لَا يقْضِي مَا فَاتَهُ من التَّكْبِير، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ والسختياني وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَلَو جَاءَ وَكبر الإِمَام أَرْبعا وَلم يسلم لم يدْخل مَعَه وفاتته الصَّلَاة،وَعند أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: يدْخل مَعَه وَيَأْتِي بالتكبيرات نسقا إِن خَافَ رفع الْجِنَازَة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَعَلِيهِ الْفَتْوَى.
    ...........
    (8/140)
    حكى الرَّوْيَانِيّ وَغَيره عَن نَص الشَّافِعِي أَنه: لَو أخر قِرَاءَة الْفَاتِحَة إِلَى التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة جَازَ، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد الِاسْتِحْبَاب دون الْوُجُوب، وَحكى ابْن الرّفْعَة والبندنيجي وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ تعين الْقِرَاءَة عقيب التَّكْبِيرَة الأولى، وَاخْتلف فِي الْمَسْأَلَة كَلَام النَّوَوِيّ، فَجزم فِي (الْبَيَان) بِوُجُوب قرَاءَتهَا فِي التَّكْبِيرَة الأولى، وَخَالف ذَلِك فِي (الرَّوْضَة) : فَقَالَ: إِنَّه يجوز تَأْخِيرهَا إِلَى التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة. وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) فَإِن قَرَأَ الْفَاتِحَة بعد تَكْبِيرَة أُخْرَى غير الأولى جَازَ، وَكَذَا قَالَ فِي (الْمِنْهَاج) .

    .......
    (8/145)
    أنكر الجبائي وَابْنه الْبَلْخِي تَسْمِيَة الْملكَيْنِ بالمنكر والنكير وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُنكر مَا يصدر من الْكَافِر عِنْد تلجلجه إِذا شئل والنكير إِنَّمَا هُوَ تقريع الْملكَيْنِ وَيرد عَلَيْهِم بِالْحَدِيثِ الَّذِي فسر فِيهِ الْملكَانِ بهما كَمَا ذَكرْنَاهُ
    .....
    (8/150)
    فِي (الْمرْآة) اخْتلفُوا فِي مَوضِع قبر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أَقْوَال.
    أَحدهَا: أَنه بِأَرْض التيه، هُوَ وَهَارُون، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يذخل الأَرْض المقدسة إلاَّ رمية حجر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،وَقَالَ: لَا يعرف قَبره، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أبهم ذَلِك
    قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو علمت الْيَهُود قبر مُوسَى وَهَارُون لاتخذوهما ال هَين من دون الله تَعَالَى،وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يطلع على قبر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا الرخمة، وَهِي الَّتِي أطلعت على قبر هَارُون لما دفن فِي التيه، فَنزع الله تَعَالَى عقلهَا لِئَلَّا تدل عَلَيْهِ،وَمعنى عقلهَا: إلهامها.
    الثَّانِي: أَنه بِبَاب لد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس،وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ الصَّحِيح. قلت: كَيفَ يكون هُوَ الصَّحِيح،وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس ووهب وَعَامة الْعلمَاء: إِنَّه بِأَرْض التيه.
    الثَّالِث: أَن قَبره مَا بَين عالية وعويلة، ذكره الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي (تَارِيخ دمشق) فَقَالَ،وَرُوِيَ: أَن قبر مُوسَى بَين عالية وعويلة وهما محلتان عِنْد مَسْجِد الْقدَم،وَيُقَال: إِن قَبره رئي فِي الْمَنَام فِيهَا. قَالَ: وَالأَصَح أَنه بتيه بني إِسْرَائِيل.
    الرَّابِع: أَن قَبره بواد فِي أَرض مآب بَين بصرى والبلقاء.
    الْخَامِس: أَن قَبره بِدِمَشْق، ذكره الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم عَن كَعْب الْأَحْبَار،
    ........
    (8/151)
    وَذكر فِيهِ وَجها آخر،وَهُوَ مَا ذكره عَن الْحسن: أَن قوما كَانُوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم لَيْلًا، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك،وَقَالَ أَيْضا: وَقد فعل ذَلِك برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدفن بِاللَّيْلِ، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،أَنَّهَا قَالَت: دفن عَليّ بن أبي طَالب فَاطِمَة لَيْلًا،وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: دفن أَبُو بكر لَيْلًا.
    وَدُفِنَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَيْلاً
    ............
    (8/157)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أجمع الْعلمَاء على أَن اللَّحْد والشق جائزان، لَكِن إِن كَانَت الأَرْض صلبة لَا ينهار ترابها، فاللحد أفضل، وَإِن كَانَت رخوة ينهار، فالشق أفضل. قلت: فِيهِ نظر من وَجْهَيْن: الأول: أَن الأَرْض إِذا كَانَت رخوة يتَعَيَّن الشق فَلَا يُقَال أفضل. وَالثَّانِي: أَنه يصادم الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّحْد لنا والشق لغيرنا) ، وَمعنى (اللَّحْد لنا) أَي: لأجل أموات الْمُسلمين، والشق لأجل أموات الْكفَّار،وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: المُرَاد بقوله: (لغيرنا) أهل الْكتاب كَمَا ورد مُصَرحًا بِهِ فِي بعض طرق حَدِيث جرير فِي (مُسْند الإِمَام أَحْمد) : (والشق لأهل الْكتاب) فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل اللَّحْد للْمُسلمين والشق لأهل الْكتاب، فَكيف يكونَانِ سَوَاء؟
    على أَنه روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّحْد أَحَادِيث. مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن وَكِيع عَن الْعمريّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَعَن الْعمريّ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصى أَن يلْحد لَهُ) . وروى ابْن مَاجَه (عَن عَائِشَة،قَالَت: لما مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتلفُوا فِي اللَّحْد والشق حَتَّى تكلمُوا فِي ذَلِك وَارْتَفَعت أَصْوَاتهم، فَقَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تصخبوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيا وَلَا مَيتا، أَو كلمة نَحْوهَا، فأرسلوا إِلَى الشقاق واللاحد جَمِيعًا، فجَاء اللاحد يلْحد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ دفن) . وَفِي (طَبَقَات ابْن سعد) من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة،قَالَت: كَانَ بِالْمَدِينَةِ حفاران) وَفِي رِوَايَة (قباران أَحدهمَا يلْحد وَالْآخر يشق) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سعد،رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَامر بن سعد بن أبي وَقاص: أَن سعد بن وَقاص قَالَ فِي مَرضه الَّذِي هلك فِيهِ: ألحدوا لي لحدا وانصبوا عَليّ اللَّبن نصبا، كَمَا فعل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: (لما توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يلْحد وَالْآخر يضرح، فَقَالُوا نستخير رَبنَا
    الحديث ..
    ......
    (8/160)
    يتَبَادَر الذِّهْن إِلَيْهِ أَنه عَم جَابر، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ عَمْرو بن الجموح بن زيد بن حرَام، وَعبد الله أَبُو جَابر هُوَ ابْن عَمْرو بن حرَام فَهُوَ ابْن عَمه وَزوج أُخْته هِنْد بنت عَمْرو،فَسَماهُ: عَمَّا تَعْظِيمًا لَهُ، وتكريما، ذكره أَبُو عمر وَغَيره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: عمي،قيل: هَذَا تَصْحِيف أَو وهم لِأَن المدفون مَعَ أَبِيه هُوَ: عَمْرو بن الجموح الْأنْصَارِيّ الخزرجي السّلمِيّ، وَيحْتَمل أَن يُجَاب عَنهُ أَنه أطلق الْعم عَلَيْهِ مجَازًا، كَمَا هُوَ عَادَتهم فِيهِ، لَا سِيمَا وَكَانَ بَينهمَا قرَابَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن عبد الله وعمرا كَانَا صهرين
    ........
    )8/162)
    حكى الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي ابْتِدَاء تَحْرِيم مَكَّة، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَا زَالَت مُحرمَة وَأَنه خَفِي تَحْرِيمهَا فأظهره إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأشاعه، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن ابْتِدَاء تَحْرِيمهَا من زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك غير مُحرمَة كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد،وَإِن معنى: حرمهَا الله يَوْم خلق السَّمَوَات، أَنه قدر ذَلِك فِي الْأَزَل أَنه سيحرمها على لِسَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سيحرم مَكَّة بِأَمْر الله تَعَالَى.

    ........
    (8/163)
    قَالَ الْمَازرِيّ: ظَاهر مَذْهَبنَا جَوَاز نقل الْمَيِّت من بلد إِلَى بلد، وَقد مَاتَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بالعقيق، وَدفن بِالْمَدِينَةِ. وَكَذَلِكَ سعيد بن زيد، وَفِي (الْحَاوِي) : قَالَ الشَّافِعِي: لَا أحب نَقله إلاَّ أَن يكون بِقرب مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو
    بَيت الْمُقَدّس، فَاخْتَارَ أَن ينْقل إِلَيْهَا لفضل الدّفن فِيهَا،وَقَالَ الْبَغَوِيّ والبندنيجي: يكره نَقله،وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن والدارمي: يحرم نَقله: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الْأَصَح، وَلم ير أحد بَأْسا أَن يحول الْمَيِّت من قَبره إِلَى غَيره،وَقَالَ: قد نبش معَاذ امْرَأَته وحول طَلْحَة
    ............
    (8/164)
    فَالله أعلم بِسَبَب إلباس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه قَمِيصه. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: عبد الله كسا عباسا قَمِيصًا، وعباس هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَسَاه مُكَافَأَة لما كَانَ كسا الْعَبَّاس قَمِيصه حِين قدم الْمَدِينَة، وَذَلِكَ أَنهم لم يَجدوا قَمِيصًا يصلح للْعَبَّاس إلاَّ قَمِيص عبد الله بن أبي، لِأَن الْعَبَّاس كَانَ طَويلا جدا، وَكَذَلِكَ عبد الله بن أبي. قَالَ أنس: شهِدت رجلَيْهِ وَقد فضلتا السرير من طوله.
    الَ ابْن عُيَيْنَة: كَانَت لَهُ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدٌ فَأحب أَن يُكَافِئهُ
    ........
    (8/165)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف الْعلمَاء فِي نبش من دفن وَلم يغسل فأكثرهم يُجِيز إِخْرَاجه وغسله، هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: مَا لم يتَغَيَّر، وَكَذَا عندنَا: مَا لم يتَغَيَّر بالنتن. وَقيل: ينبش مَا دَامَ فِيهِ جُزْء من عظم وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِذا وضع فِي اللَّحْد وَلم يغسل لَا يَنْبَغِي أَن ينبشوه، وَبِه قَالَ أَشهب، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِيمَن دفن بِغَيْر صَلَاة، قَالَ ابْن الْمُنْذر: فعندنا لَا ينبش بل يصلى على الْقَبْر، أللهم إلاَّ أَن لَا يهال عَلَيْهِ التُّرَاب فَإِنَّهُ يخرج وَيصلى عَلَيْهِ، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي لعِلَّة الْمَشَقَّة، وَأَنه لَا يُسمى نبشا، وَقيل: ترفع لبنته وَهُوَ فِي لحده مِمَّا يُقَابل وَجهه لينْظر بعضه فيصلى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يخرج مَا لم يتَغَيَّر، وَهُوَ قَول سَحْنُون. وَقَالَ أَشهب: إِن ذكرُوا ذَلِك قبل أَن يهال عَلَيْهِ التُّرَاب أخرج وَصلي عَلَيْهِ، وَإِن أهالوا فليترك، وَإِن لم يصل عَلَيْهِ. وَعَن مَالك: إِذا نسيت الصَّلَاة على الْمَيِّت حَتَّى فرغ من دَفنه لَا أرى أَن ينبشوه لذَلِك، وَلَا يصلى على قَبره، وَلَكِن يدعونَ لَهُ، وروى سعد بن مَنْصُور عَن شُرَيْح بن عبيد: أَن رجَالًا قبروا صاحبا لَهُم لم يغسلوه وَلم يَجدوا لَهُ كفنا، فوجدوا معَاذ بن جبل فأخبروه فَأَمرهمْ أَن يخرجوه ثمَّ غسل وكفن وحنط وَصلى عَلَيْهِ
    .........
    (8/166)
    قع فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة لَهُ: بلغه أَن عَمْرو بن الجموح وَعبد الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ كَانَا قد حفر السَّيْل قبرهما، وَكَانَا فِي قبر وَاحِد، فحفر عَنْهُمَا ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بالْأَمْس، وَكَانَ بَين أحد وَيَوْم حفر عَنْهُمَا سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة. انْتهى. وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره جَابر. قلت: أجَاب ابْن عبد الْبر بِتَعَدُّد الْقِصَّة، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: لِأَن الَّذِي فِي حَدِيث جَابر أَنه دفن أَبَاهُ فِي قبر وَاحِد بعد سِتَّة أشهر، وَفِي حَدِيث (الْمُوَطَّأ) أَنَّهُمَا وجدا فِي قبر وَاحِد بعد سِتَّة وَأَرْبَعين سنة، فإمَّا أَن المُرَاد بكونهما فِي قبر وَاحِد قرب الْمُجَاورَة، أَو أَن السَّيْل غرق أحد القبرين فصارا كقبر وَاحِد
    ........
    (8/166)
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن الصياد يُقَال لَهُ ابْن الصَّائِد وَابْن صائد واسْمه صافي كقاضي وَقيل عبد الله وَقَالَ الْوَاقِدِيّ هُوَ من بني النجار وَقيل من الْيَهُود وَكَانُوا حلفاء بني النجار وَابْنه عمَارَة شيخ مَالك من خِيَار الْمُسلمين وَلما دَفعه بَنو النجار عَن نسبهم خلف مِنْهُم تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ رجلا وَرجل من بني سَاعِدَة على دَفعه والصياد
    .......
    (8/167)
    ذكر الزبير بن أبي بكر أَن كل مَا كَانَ عَن يَمِينك إِذا وَقعت آخر البلاط مُسْتَقْبل مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ لبني مغالة ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بني مغالة وَمَا كَانَ على يسارك فلبني جديلة وَهِي امْرَأَة نسبوا إِلَيْهَا وَهِي امْرَأَة عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار
    .........
    (8/171)
    خْتلفُوا فِي أَن الدَّجَّال هُوَ ابْن صياد أَو غَيره فَذهب قوم إِلَى أَن الدَّجَّال هُوَ ابْن صياد قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه بَاب فِي قصَّة ابْن صياد وَأَنه الدَّجَّال حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة واسحق بن إِبْرَاهِيم وَاللَّفْظ لعُثْمَان قَالَ عُثْمَان حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل " عَن عبد الله قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمررنا بصبيان فيهم ابْن صياد ففر الصّبيان وَجلسَ ابْن صياد فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كره ذَلِك فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تربت يداك تشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ لَا بل تشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ عمر بن الْخطاب ذَرْنِي يَا رَسُول الله حَتَّى أَقتلهُ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن يكن الَّذِي ترى فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتله "
    .......
    (8/172)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ الْعلمَاء قصَّة ابْن الصياد مشكلة وَأمره مشتبه فِي أَنه هَل هُوَ الْمَسِيح الدَّجَّال الْمَشْهُور أم غَيره وَلَا شكّ أَنه دجال من الدجاجلة قَالَ الْعلمَاء ظَاهر الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يُوح إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَسِيح الدَّجَّال وَلَا غَيره وَإِنَّمَا أوحى إِلَيْهِ بعلامات الدَّجَّال وَكَانَ فِي ابْن صياد قَرَائِن مُحْتَملَة فَلذَلِك كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يقطع بِأَنَّهُ الدَّجَّال وَلَا غَيره وَلِهَذَا قَالَ لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِن يكن هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتله وَفِي سنَن أبي دَاوُد فِي خبر الْجَسَّاسَة من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَقَالَ شهد جَابر أَنه هُوَ ابْن صياد قلت فَإِنَّهُ قد مَاتَ قَالَ وَإِن مَاتَ قلت فَإِنَّهُ قد أسلم فَقَالَ وَإِن أسلم قلت فَإِنَّهُ قد دخل الْمَدِينَة قَالَ وَإِن دخل الْمَدِينَة وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث نَافِع قَالَ كَانَ ابْن عمر يَقُول وَالله مَا أَشك أَن الْمَسِيح الدَّجَّال ابْن صياد وَإِسْنَاده صَحِيح وَقَالَ الْخطابِيّ اخْتلف السّلف فِي أمره بعد كبره فروى عَنهُ أَنه تَابَ من ذَلِك القَوْل وَمَات بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُمْ لما أَرَادوا الصَّلَاة عَلَيْهِ كشفوا عَن وَجهه حَتَّى رَآهُ النَّاس وَقيل لَهُم اشْهَدُوا وَاعْترض عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر قَالَ فَقدنَا ابْن صياد يَوْم الْحرَّة وَيرد بِهَذَا قَول من قَالَ أَنه مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وصلوا عَلَيْهِ وَفِيه كتاب الْفتُوح لسيف لما نزل النُّعْمَان على السوس أعياهم حصارها فَقَالَ لَهُم القسيسون يَا معشر الْعَرَب إِن مِمَّا عهد عُلَمَاؤُنَا وأوائلنا أَن لَا يفتح السوس إِلَّا الدَّجَّال فَإِن كَانَ فِيكُم تستفتحونها فَإِن لم يكن فِيكُم فَلَا قَالَ وصاف ابْن صياد فِي جند النُّعْمَان وأتى بَاب السوس غضبانا فدقه بِرجلِهِ وَقَالَ انْفَتح فتقطعت السلَاسِل وتكسرت الأغلاق وَانْفَتح الْبَاب فَدخل الْمُسلمُونَ وَقَالَ ابْن التِّين وَالأَصَح أَنه لَيْسَ هُوَ لِأَن عينه لم تكن ممسوحة وَلَا عينه طافية وَلَا وجدت فِيهِ عَلامَة وروى ابْن أبي شيبَة عَن الغلتان ابْن عَاصِم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ أما مسيح الضَّلَالَة فَرجل أجلى الْجَبْهَة مَمْسُوح الْعين الْيُسْرَى عريض النَّحْر فِيهِ دفاء أَي انحناء وروى مُسلم عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الدَّجَّال أَعور عين الْيُسْرَى جفال الشّعْر مَعَه جنَّة ونار فناره جنَّة وجنته نَار
    .......
    (8/174)
    مَذْهَب أهل الْحق فِي صِحَة وجوده وَأَنه شخص بِعَيْنِه ابتلى الله تَعَالَى عباده بِهِ وأقدره على أَشْيَاء من مقدورات الله تَعَالَى من إحْيَاء الْمَيِّت الَّذِي يقْتله ظُهُور زهرَة الدُّنْيَا وَالْخصب مَعَه وَاتِّبَاع كنوز الأَرْض لَهُ وَأمر السَّمَاء أَن تمطر فتمطر وَالْأَرْض أَن تنْبت فتنبت فَيَقَع كل ذَلِك بقدرة الله تَعَالَى ومشيئته ثمَّ يعجزه الله تَعَالَى بعد ذَلِك فَلَا يقدر على شَيْء من ذَلِك ثمَّ يقْتله عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وأبطل أمره الْخَوَارِج والجهمية وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَزعم الجبائي وَمن وَافقه أَنه صحّح الْوُجُود لَكِن مَا مَعَه مُخَارق وخيالات لَا حَقِيقَة لَهَا ليفرق بَينه وَبَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يَدعِي النُّبُوَّة فَيحْتَاج إِلَى فَارق وَإِنَّمَا يَدعِي الألوهية وَهُوَ مكذب فِي ذَلِك لسمات الْحُدُوث فِيهِ وَنقص صورته وعورة وتكفيره الْمَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ ولهذه الدَّلَائِل وَغَيرهَا لَا يغتر بِهِ إِلَّا رعاع النَّاس لشدَّة الْحَاجة والفاقة وسد الرمق أَو خوفًا من أَذَاهُ
    ........
    (8/177)
    وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : إِذا اسْتهلّ السقط صلي عَلَيْهِ لحَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (إِذا اسْتهلّ السقط صلي عَلَيْهِ وَورث) . وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوف من رِوَايَة جَابر، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: كَانَ الْمَوْقُوف أصح. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على وجوب الصَّلَاة على السقط، وَعَن مَالك: لَا يصلى على الطِّفْل إلاَّ أَن يختلج ويتحرك، وَعَن ابْن عمر: أَنه يصلى عَلَيْهِ وَإِن لم يستهل، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْعَبدَرِي: إِن كَانَ لَهُ دون أَرْبَعَة أشهر لم يصل عَلَيْهِ بِلَا خلاف، يَعْنِي: بِالْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أشهر وَلم يَتَحَرَّك لم يصل عَلَيْهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَقَالَ أَحْمد وَدَاوُد: يصلى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: السقط الْوَلَد تضعه الْمَرْأَة مَيتا أَو لغير تَمام، فَأَما إِن خرج حَيا واستهل فَإِنَّهُ يصلى عَلَيْهِ بعد غسله بِلَا خلاف، وَصلى ابْن عمر على ابْن ابْنه ولد مَيتا، وَقَالَ الْحسن وَإِبْرَاهِيم وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأَصْحَاب الرَّأْي: لَا يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يستهل، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، وَحكى عَن سعيد بن جُبَير أَنه: لَا يصلى عَلَيْهِ مَا لم يبلغ.
    ........
    (8/181)
    أَن نصب الْخيام على الْقَبْر مَكْرُوه، وَلَا ينفع الْمَيِّت ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ إلاَّ عمله الصَّالح الَّذِي قدمه
    .....
    (8/184)
    مَا أورد هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح، وَأورد الحَدِيث الَّذِي هُوَ مُحَمَّد بن أبي حميد الْمُتَكَلّم فِيهِ، مَعَ أَنه ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا اسْتِشْهَادًا وتقوية، وَلَكِن إِنَّمَا ذكره هَذَا الْقَائِل حَتَّى يفهم أَن الطَّحَاوِيّ الَّذِي ينصر مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يروي فِي هَذَا الْبَاب الْأَحَادِيث الضعيفة، وَمن شدَّة تعصبه ذكر الحَدِيث فنسبه إِلَى أبي هُرَيْرَة، ولِمَ لَم يذكر فِيهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأبرزه فِي صُورَة الْمَوْقُوف، والْحَدِيث مَرْفُوع، وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: بَاب الْجُلُوس على الْقُبُور: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان، قَالَ: حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن بسر بن عبيد الله عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن أبي مرْثَد الغنوي، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا تصلوا إِلَى الْقُبُور وَلَا تجلسوا إِلَيْهَا) . وَأخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ ، وَاسم أبي مرْثَد: كناز بن الْحصين، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن جزم قَالَ: (رأني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر فَقَالَ: إنزل عَن الْقَبْر فَلَا تؤذ صَاحب الْقَبْر وَلَا يُؤْذِيك) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث جَابر قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تجصيص الْقُبُور وَالْكِتَابَة عَلَيْهَا وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَالْبناء عَلَيْهَا) .
    ثَبت بذلك أَن الْجُلُوس الْمنْهِي عَنهُ فِي الْآثَار الأول هُوَ هَذَا الْجُلُوس، يَعْنِي: للغائط وَالْبَوْل، فَأَما الْجُلُوس بِغَيْر ذَلِك فَلم يدْخل فِي ذَلِك النَّهْي، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله تَعَالَى. قلت: فعلى هَذَا مَا ذكره أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ من أَن وطأ الْقُبُور حرَام، وَكَذَا النّوم عَلَيْهَا، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. فَإِن الطَّحَاوِيّ هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْعلمَاء، وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة.
    ........
    (8/185)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ مَالك: المُرَاد بالقعود الْحَدث وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف أَو بَاطِل قلت: شدَّة التعصب يحمل صَاحبه على أَكثر من هَذَا، وَكَيف يَقُول النَّوَوِيّ: إِن تَأْوِيل مَالك بَاطِل وَهُوَ أعلم من النَّوَوِيّ؟ وَمثله بموارد الْأَحَادِيث والْآثَار؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا، بعد نَقله عَن النَّوَوِيّ: وَهُوَ يُوهم بانفراد مَالك بذلك، وَكَذَا أَوْهَمهُ كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ، حَيْثُ قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء على الْكَرَاهَة خلافًا لمَالِك، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَن مَذْهَب أبي حنيفَة كالجمهور، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك لما نَقله عَنْهُم الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بأثر ابْن عمر الْمَذْكُور. وَأخرج عَن عَليّ نَحوه. قلت: الدَّعْوَى بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة غير مسلمة، لِأَن الْمُخَالف لَهُم: مَالك وَعبد الله بن وهب وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد والطَّحَاوِي، وَمن الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب، فَكيف يُقَال بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة وَنحن أَيْضا نقُول الْجُمْهُور على عدم الْكَرَاهَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُؤَيّد قَول الْجُمْهُور مَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث عمر بن حزم الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: (لَا تقعدوا على الْقُبُور)
    .......
    (8/190)
    وَاخْتلف أهل يعلم فِي الدُّنْيَا الشقي من السعيد؟ فَقَالَ قوم: نعم، محتجين بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة، والْحَدِيث لِأَن كل عمل أَمارَة على جَزَائِهِ. وَقَالَ قوم: لَا، وَالْحق فِي ذَلِك أَنه يدْرك ظنا لَا جزما. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية: من اشْتهر لَهُ لِسَان صدق فِي النَّاس من صالحي هَذِه الْأمة هَل يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء رَحِمهم الله.

    .....
    (8/190)
    جمع الْفُقَهَاء وَأهل السّنة على أَنه من قتل نَفسه أَنه لَا يخرج بذلك من الْإِسْلَام، وَأَنه يصلى عَلَيْهِ وإثمه عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مَالك، وَلم يكره الصَّلَاة عَلَيْهِ إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِي ّ، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنّ الصَّلَاة على الْمُسلمين وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا فيصلى على جَمِيعهم. قلت: قَالَ أَبُو يُوسُف: لَا يصلى على قَاتل نَفسه لِأَنَّهُ ظَالِم لنَفسِهِ فَيلْحق بالباغي وقاطع الطَّرِيق، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: يصلى عَلَيْهِ لِأَن دَمه هذر كَمَا لَو مَاتَ حتفه.
    .........
    (8/193)
    (فَهُوَ فِي نَار جَهَنَّم خَالِدا مخلدا فِيهَا أبدا) ، وَقد تمسك بِهِ الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم مِمَّن قَالَ بتخليد أَصْحَاب الْمعاصِي فِي النَّار، وَأجَاب أهل السّنة بأجوبة، مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: هَذِه لزِيَادَة وهم، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه، رَوَاهُ مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، فَلم يذكر: (خَالِدا مخلدا) ، قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن الرِّوَايَات قد صحت أَن أهل التَّوْحِيد يُعَذبُونَ ثمَّ يخرجُون مِنْهَا،
    ...........

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •