جواب الأول : أن كلام شيخ الإسلام ليس فيه إشارة إلى أن النزاع لفظي . بل فيه إشارة إلى أن مراد الآية متفق عليه ، لكن شيخ الإسلام يقول : في الآية محذوف ، وأرباب المجاز يقول : استعمل (الحج) الذي هو "الفعل" للدلالة على "زمن الفعل" من غير حذف ولا إضمار ، بل بإطلاق الفعل مرادًا به زمنه .
وجواب الثاني : كون بعض الكلام بحاجة إلى تقدير إنما يدل على تقسيم الكلام إلى (مذكور كله) وإلى (محذوف بعضه) ، لا يدل بحال على تقسيمه إلى (الحقيقة) التي هي (الاستعمال في الموضوع) وإلى (المجاز) الذي هو (استعمال في غير الموضوع) . ثم إن احتياج بعض الكلام إلى تقدير واستغناء بعضها عنه إنما هو في "توضيح الكلام أكثر" . وإلا ، والكلام فصيح بليغ مفهوم المراد بنفسه . كيف ، وقد قال الشيخ : "لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ" ؟
وجواب الثالث : بل ذلك المدلول يطابق التقدير على كل حال ، فإن (التقدير) فرع لـ(فهم المدلول) ، فكيف لا يطابقه ؟
وجواب الرابع : أن شيخ الإسلام إنما يقارن بين قول القائل (نفس الحج ليس بأشهر) وبين لفظ الآية (الحج أشهر) الذي مدلوله : (أوقات الحج أشهر) . وفرق واضح بين قول القائل : (الحج أشهر معلومات) وبين قول الآخر : (نفس الحج أشهر معلومات) . وهذا يعكر على التقسيم إلى (الاستعمال في الموضوع) وإلى (الاستعمال في غير الموضوع) لا يساعده . لأن في جميع الموضوع لا يستعمل لفظ (الحج) إلا للدلالة على "الفعل" - ولذلك يمتنع تأكيده بقولنا : "نفس" . فلا يقال : (نفس الحج أشهر معلومات) ، بل يقال : (الحج أشهر معلومات) - لأن ثم محذوفا ، مضافا إلى الحج في التقدير .
وجواب هذا الاستشكال : أن أرباب المجاز يجوزون إطلاق نفي "المعنى المجازي" عندهم بغير قيد وجودي من الكلام . فقالوا مثلا : (أنت أسد ولست أسدا) هكذا بإطلاق ، لم يقولوا : (أنت أسد ولست حيوانا مفترسا ذا أربع) . في حين أنهم منعوا مثل هذا الإطلاق في حق "المعنى الحقيقي" عندهم . فلا يقولون : (هذا الكلب افترسه الأسد في الغابة فتأكله وليس الآكل أسدا) . وهذا خلل واضح في المنهج .
ليس ثمّة استشكال
وإنما هو دعوة لمناقشة ذلك كما ناقشنا قوله في قوله تعالى: واسأل القرية ومثلها مما سُمي: مجاز الحذف، فأكثر المشاركات كانت حوله ولم يتم مناقشة مثال الأسد والحمار وشبههما بتوسع، وهو نوع آخر من المجاز عند القائلين به ألصق بمسألة المجاز من الأول إذ يرى البعض أن مجاز الحذف ليس مجازا أصلا
والله الموفق
ليس بينهما فرق . إلا أن شيخ الإسلام يرى أن لفظ (القرية) في لغة العرب اسم للحال والمحل على السواء ، وهؤلاء يرون أن هذا اللفظ في لغة العرب اسم للمحل دون الحال ، فاحتاجوا إلى تقدير المحذوف .
وأما قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) ، فشيخ الإسلام وهؤلاء متفقون على أن لفظ (الحج) في لغة العرب اسم للفعل دون الزمن ، فاحتاج كل من شيخ الإسلام وهؤلاء إلى تقدير المضاف .
الذي يظهر لي أن مراد ابن قتيبة بذلك الكلام أن لفظ (القول) مستعمل في لغة العرب للدلالة أيضا على غير الكلام اللفظي ، لا أنه أراد إثبات التقسيم الثنائي الاصطلاحي إلى ما عند المتكلمين .
يعنى أن ابن قتيبة لا يعرف عالما معتبرا ينكر قول القائل : (قالت الشجرة ومالت) .
المسلَّم عند أبي إسحاق - فيما يظهر لي - هو الوضع الأول بمعنى وضع الله وحده - مع التوقيف .
والمنكر عنده هو الوضع الأول بمعنى المواضعة بين بني آدم قبل الاستعمال - كما هو مذهب الجبائي .
وأما شيخ الإسلام ، فليس ينكر (الوضع) بذلك المعنى الأول - وسماه إلهامًا ، وإنما أنكر الثاني .
بارك الله فيكم .
لم أصفه بذلك ، وإنما أصفه بقلة الانضباط بالنسبة إلى كلامه الأول .
كيف لا ، والشيخ نفسه قد قال في ذلك الموضع - وهو رده على الآمدي - قبل ذلك الحرف بقليل : وَتَمَامُ هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ قَالَ : يُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ . فَيُقَالُ : النَّهْرُ كَالْقَرْيَةِ وَالْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُّ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَلُّ فَإِذَا قِيلَ : حَفَرَ النَّهْرَ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْمَحَلُّ وَإِذَا قِيلَ : جَرَى النَّهْرُ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُّ .
فإما أن مذهب الشيخ المنضبط أن (الميزاب) اسم للحال والمحل ابتداءً ، وهو الذي أراه .
وإما أن مذهبه أن (الميزاب) في البداية اسم للمحل ، ثم ضم إليه الحال ، فكان اسما لهما .
عموما ، قد قال الشيخ : وَاسْمُ النُّورِ إذَا تَضَمَّنَ صِفَتَهُ وَفِعْلَهُ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى النُّورِ .
تفضلوا يا شيخنا :
============================== =========
تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة - رحمه الله-
تحقيق : السيد أحمد صقر - رحمه الله-
الغلاف و المقدمة من هذا الرابط بارك الله فيكم:
http://www.kabah.info/uploaders/taauel00.rar
باقي الكتاب من هذا الرابط بارك الله فيكم:
http://www.kabah.info/uploaders/taauel01.rar
============================== =========
فيصل المسألة - فيما يظهر لي من كلام شيخ الإسلام : أن في لغة العرب إلى حين نزول القرآن لم يُستعمل لفظ (الغائط) إلا للدلالة على (الموضع المنخفض) . ثم استعمله الناس بعد ذلك في عرفهم هذا اللفظ ذاته للدلالة على ما يحل هذا الموضع ، وهو فضلة الإنسان .
والدليل : أن استعمال القرآن إنما يرد على هذا المعنى . ثم وجدنا في كلام الناس بعده استعماله في الخارج من الإنسان ، كقول عائشة رضي الله عنها : مُرْنَ أَزْوَاجَكُمْ يَغْسِلْنَ عَنْهُنَّ أَثَرَ الْغَائِطِ .
وهذا غاية ما يمكن تصوره في الاستعمالات . وإلا فلا مانع من أن العرب كانت قد استعملته للمعنيين معا أو لأحدهما دون الآخر .
لا يا شيخنا الفاضل!
الإلهام عند شيخ الإسلام يختلف تماما عن الوضع، فالإلهام عند شيخ الإسلام إلهام بالاستعمال مباشرة ، وهذا فيه إشكال في كلام شيخ الإسلام نحتاج أن نناقشه .
أبو إسحاق لا ينكر وجود وضع سابق للاستعمال، ولكنه ينكر أن يكون فيه شيء (اسمه الحقيقة) سابق على شيء (اسمه المجاز)، فكلاهما وضع معا في وقت واحد.
أحسن الله إليك
أولا: بغض النظر عن معنى كلام ابن قتيبة، هل تسلم أن ظاهر كلامه أنه لا يعلم مخالفا فيما يقول؟
ثانيا: هل تسلم أن ابن قتيبة يسمي استعمال (قال) في الكلام حقيقة، ويسمي استعمالها في غير ذلك (مجازا) بغض النظر عن معنى كلمة (مجاز) عنده؟
ثالثا: هل تسلم أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز موجود عند ابن قتيبة، بغض النظر عن معنى المجاز عنده؟
أحسن الله إليك شيخنا الفاضل
قد ذكرت موضع الإشكال في المشاركة ( 206 )
أحسن الله إليكم شيخنا الفاضل . . بل علاقة هذا الكلام من شيخ الإسلام بمسألة (الاصطلاح) واضح جدا . لأنه في صدد الرد على من قال : (إنْ لَمْ يَكُنْ اصْطِلَاحٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِعْمَالُ ) . فأبطل هذا الزعم بإبطال اللزوم . فبرهن عقلا ونقلا وعرفا أن الاستعمال ليس بحاجة إلى اصطلاح متقدم عليه . أما عقلا ، فإن الله "يُلْهِمُ الْحَيَوَانَ مِنْ الْأَصْوَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ" ، ومعلوم أن الحيوانات لا يقع بينهم اصطلاح أو مواضعة . وأما نقلا ، فإن الله قال على لسان سليمان : عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، ومعلوم أن هذا التعليم وحي أو إلهام لا اصطلاح بين سليمان وبين الطيور .
وأما عرفا ، فقد قال الشيخ : وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ ؛ فَالْمَوْلُودُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ يَفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ : أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ . وبما أن هكذا عادة جميع الناس في تعلمهم اللغة ، فليس من الممكن أن نقول إن ثم جماعة من العقلاء اصطلحوا على جميع اللغة أو جمهورها قبل أن يستعملوها فيما بينهم . وأظنه واضح . والله أعلم .