قال : فمن أصحابك من قال يجوز نكاح الإماء المسلمات بكل حال قلت فالحجة على من أجاز نكاح إماء المؤمنين بغير ضرورة الحجة عليك والقرآن يدل على أن لا يجوز نكاحهن إلا بمعنى الضرورة إلا أن لا يجد الناكح طولا لحرة ويخاف العنت فمن [ ص: 170 ] وافق قوله كتاب الله عز وجل كان معه الحق .
باب التعريض في خطبة النكاح ( أخبرنا الربيع ) قال ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : قال الله عز وجل { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم } الآية ( قال الشافعي ) أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول في قول الله عز وجل { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } أنه يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها إنك علي لكريمة وأني فيك لراغب فإن الله لسائق إليك خيرا ورزقا ونحو هذا من القول .
( قال الشافعي ) كتاب الله يدل على أن التعريض في العدة جائز لما وقع عليه اسم التعريض إلا ما نهى الله عز وجل عنه من السر وقد ذكر القاسم بعضه والتعريض كثير واسع جائز كله وهو خلاف التصريح وهو ما يعرض به الرجل للمرأة مما يدلها على أنه أراد به خطبتها بغير تصريح والسر الذي نهى الله عنه - والله أعلم - يجمع بين أمرين أنه تصريح والتصريح خلاف التعريض وتصريح بجماع وهذا كأقبح التصريح فإن قال قائل : ما دل على أن السر الجماع ؟ قيل فالقرآن كالدليل عليه إذا أباح التعريض والتعريض عند أهل العلم جائز سرا وعلانية فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السر سر التعريض ولا بد من معنى غيره وذلك المعنى الجماع وقال امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي كذبت لقد أصبى على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
وقال جرير يرثي امرأته :
كانت إذا هجر الخليل فراشها خزن الحديث وعفت الأسرار
( قال الشافعي ) فإذا علم أن حديثها مخزون فخزن الحديث أن لا يباح به سرا ولا علانية فإذا وصفها فلا معنى للعفاف غير الإسرار والإسرار الجماع .
ما جاء في الصداق ( قال الشافعي ) قال الله تبارك وتعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقال عز وجل { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } وقال { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وقال { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم } الآية وقال { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } وقال { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } فأمر الله الأزواج أن يؤتوا النساء أجورهن وصدقاتهن والأجر هو الصداق والصداق هو الأجر والمهر وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء فيحتمل هذا أن يكون مأمورا بالصداق من فرضه دون من لم يفرضه دخل أو لم يدخل لأنه حق ألزمه نفسه ولا يكون له حبس لشيء منه إلا بالمعنى الذي جعله الله له وهو أن يطلق قبل الدخول قال الله عز وجل { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن [ ص: 171 ] يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ويحتمل أن يكون يجب بالعقدة وإن لم يسم مهرا ولم يدخل ، ويحتمل أن يكون المهر لا يلزم إلا بأن يلزمه المرء نفسه أو يدخل بالمرأة وإن لم يسم لها مهرا فلما احتمل المعاني الثلاث كان أولاها أن يقال به ما كانت عليه الدلالة من كتاب الله أو سنة أو إجماع فاستدللنا بقول الله عز وجل { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن } على أن عقدة النكاح تصح بغير فريضة صداق .
وذلك أن الطلاق لا يقع إلا على من تصح عقدة نكاحه ، وإذا جاز أن يعقد النكاح بغير مهر فيثبت بهذا دليل على أن الخلاف بين النكاح والبيوع ، البيوع لا تنعقد إلا بثمن معلوم والنكاح ينعقد بغير مهر وإذا جاز أن ينعقد بغير مهر فيثبت استدلالنا على أن العقدة تصح بالكلام وأن الصداق لا يفسد عقدة النكاح أبدا وإذا كان هكذا فلو عقد النكاح بمهر مجهول أو حرام ثبتت العقدة بالكلام وكان للمرأة مهر مثلها إذا أصيبت على أنه لا صداق على من طلق إذا لم يسم مهرا ولم يدخل وذلك أنه يجب بالعقدة والمسيس وإن لم يسم مهرا بالآية وبقول الله عز وجل { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } يريد - والله تعالى أعلم - بالنكاح والمسيس بغير مهر على أنه ليس لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكح فيمس إلا لزمه مهر مع دلالة الآي قبله .
ودل قول الله تبارك وتعالى { وآتيتم إحداهن قنطارا } على أن لا وقت في الصداق كثر أو قل لتركه النهي عن القنطار وهو كثير وتركه حدا للقليل ودلت عليه السنة والقياس على الإجماع فنقول أقل ما يجوز في المهر أقل ما يتمول الناس مما لو استهلكه رجل لرجل كانت له قيمة وما يتبايعه الناس بينهم فإن قال قائل وما دل على ذلك ؟ قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أدوا العلائق قيل وما العلائق يا رسول الله ؟ قال ما تراضى عليه الأهلون } ولا يقع اسم علق إلا على ما يتمول وإن قل ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها وإن قلت وما لا يطرحه الناس من أموالهم مثل الفلس وما أشبه ذلك الذي يطرحونه .
( قال الشافعي ) والقصد في المهر أحب إلينا وأستحب أن لا يزيد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته وذلك خمسمائة درهم . طلب البركة في كل أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخبرنا الربيع ) قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال سألت عائشة رضي الله عنها : كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونش قالت أتدري ما النش ؟ قلت : لا قالت نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم فذاك صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه ( أخبرنا الربيع ) قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت إني وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك شيء تصدقها إياه ؟ فقال ما عندي إلا إزاري هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك قال فالتمس شيئا قال ما أجد شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمس ولو خاتما من حديد } .
( قال الشافعي ) فالخاتم من الحديد لا يسوى درهما ولا قريبا منه ولكن له ثمن قدر ما يتبايع به الناس على ما وصفنا في الذي قبل هذا ( قال الشافعي ) أخبرنا سفيان عن حميد عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة .
[ ص: 172 ] باب الخلاف في الصداق ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ولما ذكر الله عز وجل الصداق غير موقت واختلف الصداق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفع وانخفض وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما وصفنا من خاتم الحديد وقال ما تراضى به الأهلون ، ورأينا المسلمين قالوا في التي لا يفرض لها إذا أصيبت لها مهر مثلها استدللنا على أن الصداق ثمن من الأثمان والثمن ما تراضى به من يجب له ومن يجب عليه من ماله من قل أو كثر فعلمنا أن كل ما كانت له قيمة قلت أو كثرت فتراضى به الزوجان كان صداقا وخالفنا بعض الناس في هذا فقال لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم وسألنا عن حجتنا بما قلنا فذكرنا له ما قلنا من هذا القول فيما كتبنا وقلنا بأي شيء خالفتنا ؟ قال روينا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم وذلك ما تقطع فيه اليد قلت قد حدثناك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ثابتا وليس في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة وحديثك عمن حدثت عنه لو كان ثابتا لم يكن فيه حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف وليس بثابت ؟ قال فيقبح أن نبيح فرجا بشيء تافه ؟ قلنا أرأيت رجلا لو اشترى جارية بدرهم أيحل له فرجها ؟ قال نعم قلت فقد أحللت الفرج بشيء تافه وزدت مع الفرج رقبة وكذلك تبيح عشر جوار بدرهم في البيع وقلت له أرأيت شريفا ينكح امرأة دنية سيئة الحال بدرهم أدرهم أكثر لها على قدرها وقدره أو عشرة دراهم لامرأة شريفة جميلة فاضلة من رجل دنيء صغير القدر ؟ قال بل عشرة لهذه لقدرها أقل قلت : فلم تجيز لها التافه في قدرها ؟ وأنت لو فرضت لها مهرا فرضته الأقل ولو فرضت لأخرى لم تجاوز بها عشرة دراهم لأن ذلك كثير لها ولا يجاوز به مهر مثلها قال رضيت به قلت فلو كان أقل من مهر مثلها مائة مرة أجزته لها وعليها ؟ قال نعم قلت أليس لأنها رضيت به ؟ قال بلى قلت قد رضيت الدنيئة بدرهم وهو لها بقدرها أكثر فزدتها عليه تسعة دراهم قلت أرأيت لو قال لك قائل : لو أن امرأة كان مهر مثلها ألفا فرضيت بمائة ألحقتها بمهر مثلها ، ولو أن امرأة كان مهر مثلها ألفا فأصدقها رجل عشرة آلاف رددتها إلى ألف حتى يكون الصداق مؤقتا على ألف قدر مهر مثلها ؟ قال ليس ذلك له قلت وتجعله ههنا كالبيوع تجيز فيه التغابن لأن الناكح رضي بالزيادة والمنكوحة رضيت بالنقصان وأجزت على كل ما رضي به ؟ قال نعم .
قلت : فكذلك لو نكحت بغير مهر فأصابها جعلت لها مهر مثلها عشرة كان أو ألفا ؟ قال نعم قلت فأسمعك تشبه المهر بالبيع في كل شيء بلغ عشرة دراهم وتجيز فيه ما تراضيا عليه ثم ترده إلى مهر مثلها إذا لم يكن بصداق وتفرق بينه وبين البيوع في أقل من عشرة دراهم فتقول إذا رضيت بأقل من عشرة دراهم رددتها حتى أبلغ بها عشرة والبيع عندك إذا رضي فيه بأقل من درهم أجزته قلت أرأيت لو قال لك قائل : لا أراك قمت من الصداق على شيء يعتدل فيه قولك فأرجع بك في الصداق إلى أن الله عز وجل قال : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا } وذكر الصداق في غير موضع من القرآن سواء فلم يجد فيه حدا فتجعل الصداق قنطارا لا أنقص منه ولا أزيد عليه .
قال ليس ذلك له لأن الله عز وجل لم يفرضه على الناس وأن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق أقل منه وأصدق في زمانه وأجاز أقل منه فقلنا قد أوجدناك رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز في الصداق أقل من عشرة دراهم فتركته وقلت بخلافه وقلت ما تقطع فيه اليد وما لليد والمهر وقلت أرأيت لو قال قائل أحد الصداق ولا أجيز أن يكون أقل من مهر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 173 ] خمسمائة درهم أو قال هو ثمن للمرأة لا يكون أقل من خمسمائة درهم أو قال في البكر كالجناية ففيه أرش جائفة أو قال لا يكون أقل مما تجب فيه الزكاة وهو مائتا درهم أو عشرون دينارا ما الحجة عليه ؟ قال ليس المهر من هذا بسبيل قلت أجل ولا مما تقطع فيه اليد بل بعض هذا أولى أن يقاس عليه مما تقطع فيه اليد إن كان هذا منه بعيدا .
باب ما جاء في النكاح على الإجارة ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : الصداق ثمن من الأثمان فكل ما يصلح أن يكون ثمنا صلح أن يكون صداقا وذلك مثل أن تنكح المرأة إلى الرجل على أن يخيط لها الثوب ويبني لها البيت ويذهب بها البلد ويعمل لها العمل فإن قال قائل ما دل على هذا ؟ قيل إذا كان المهر ثمنا كان في معنى هذا وقد أجازه الله عز وجل في الإجارة في كتابه وأجازه المسلمون وقال الله عز وجل { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال عز وجل { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وذكر قصة شعيب وموسى صلى الله عليهما وسلم في النكاح فقال { قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } الآية وقال { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا } قال ولا أحفظ من أحد خلافا في أن ما جازت عليه الإجارة جاز أن يكون مهرا فمن نكح بأن يعمل عملا فعمله كله ثم طلق قبل الدخول رجع بنصف قيمة العمل ومن لم يعمله ثم طلق قبل الدخول عمل نصفه فإن فات المعمول بأن يكون ثوبا فهلك كان للمرأة مثل نصف أجر خياطة الثوب أو عمله ما كان ( قال الربيع ) رجع الشافعي رحمه الله فقال يكون لها نصف مهر مثلها غير أن بعض الناس قال يجوز هذا في كل شيء غير تعليم الخير فإنه لا أجر على تعليم الخير ، ولو نكح رجل امرأة على أن يعلمها خيرا كان لها مهر مثلها لأنه لا يصلح أن يستأجر رجل رجلا على أن يعلمه خيرا قرآنا ولا غيره ، ولو صلح هذا كان تعليم الخير كخياطة الثوب يجوز النكاح عليه ويكون القول فيه كالقول في خياطة الثوب إذا علمها الخير وطلقها رجع عليها بنصف أجر تعليم ذلك الخير وإن طلقها قبل أن يعلمها رجعت عليه بنصف أجر تعليم ذلك الخير لأنه ليس له أن يخلو بها ويعلمها وهذا قول صحيح على السنة والقياس معا لو تابعنا في تجويز الأجر على تعليم الخير ( رجع الشافعي فقال لها مهر مثلها ) قال الربيع للشافعي قول آخر : إذا تزوجها على أن يخيط لها ثوبا بعينه أو يعطيها شيئا بعينه فطلقها قبل أن يدخل بها فهلك الثوب قبل أن يخيطه أو هلك الشيء الذي بعينه رجعت عليه بنصف صداق مثلها .
واحتج بأن من اشترى شيئا بدينار فهلك الشيء قبل أن يقبضه رجع بديناره فأخذه فهذه المرأة إنما ملكت خياطة الثوب ببضعها فلما هلك الثوب قبل أن تقبضه فلم يقدر على خياطته رجعت عليه بما ملكت به الخياطة وهو بضعها وهو الثمن الذي اشترت به الخياطة ( قال الربيع ) وهذا أصح القولين وهو آخر قولي الشافعي رحمه الله تعالى .
باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي : قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم أن [ ص: 174 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه } أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد ومحمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه } .
( قال الشافعي ) وهذان الحديثان يحتملان أن يكون الرجل منهما إذا خطب غيره امرأة أن لا يخطبها حتى تأذن أو يترك رضيت المرأة الخاطب أو سخطته ويحتمل أن يكون النهي عنه إنما هو عند رضا المخطوبة وذلك أنه إذا كان الخاطب الآخر أرجح عندها من الخاطب الأول الذي رضيته تركت ما رضيت به الأول فكان هذا فسادا عليه وفي الفساد ما يشبه الإضرار به والله تعالى أعلم فلما احتمل المعنيين وغيرهما كان أولاهما أن يقال به ما وجدنا الدلالة توافقه فوجدنا الدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا كانت المرأة راضية ( قال ) ورضاها إن كانت ثيبا أن تأذن بالنكاح بنعم وإن كانت بكرا أن تسكت فيكون ذلك إذنها وقال لي قائل أنت تقول : الحديث على عمومه وظهوره وإن احتمل معنى غير العام والظاهر حتى تأتي دلالة على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر قلت : فكذلك أقول قال فما منعك أن تقول في هذا الحديث { لا يخطب الرجل على خطبة أخيه } وإن لم تظهر المرأة رضا أنه لا يخطب حتى يترك الخطبة فكيف صرت فيه إلى ما لا يحتمله الحديث باطنا خاصا دون ظاهر عام ؟ قلت بالدلالة قال وما الدلالة ؟ قلت أخبرنا مالك عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن { عن فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباني فقال أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه انكحي أسامة فكرهته فقال انكحي أسامة فنكحته فجعل الله لي فيه خيرا واغتبطت به } ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى فقلت له قد أخبرته فاطمة أن رجلين خطباها ولا أحسبهما يخطبانها إلا وقد تقدمت خطبة أحدهما خطبة الآخر لأنه قل ما يخطب اثنان معا في وقت فلم تعلمه قال لها ما كان ينبغي لك أن يخطبك واحد حتى يدع الآخر خطبتك ولا قال ذلك لها وخطبها هو صلى الله عليه وسلم على غيرهما ولم يكن في حديثها أنها رضيت واحدا منهما ولا سخطته وحديثها يدل على أنها مرتادة ولا راضية بهما ولا بواحد منهما ومنتظرة غيرهما أو مميلة بينهما فلما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة ونكحته دل على ما وصفت من أن الخطبة واسعة للخاطبين ما لم ترض المرأة ( قال الشافعي ) وقال أرأيت إن قلت هذا مخالف حديث { لا يخطب المرء على خطبة أخيه } وهو ناسخ له ؟ فقلت له أويكون ناسخ أبدا إلا ما يخالفه الخلاف الذي لا يمكن استعمال الحديثين معا ؟ قال لا قلت أفيمكن استعمال الحديثين معا على ما وصفت من أن الحال التي يخطب المرء على خطبة أخيه بعد الرضا مكروهة وقبل الرضا غير مكروهة لاختلاف حال المرأة قبل الرضا وبعده ؟ قال نعم .
قلت له فكيف يجوز أن يطرح حديث وقد يمكن أن لا يخالفه ولا يدري أيهما الناسخ أرأيت إن قال قائل : حديث فاطمة الناسخ ولا بأس أن يخطب الرجل المرأة بكل حال ما حجتك عليه إلا مثل حجتك على من خالفك فقال أنت ونحن نقول إذا احتمل الحديثان أن يستعملا لم يطرح أحدهما بالآخر فأبن لي ذلك قلت له { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده وأرخص في أن يسلف في الكيل المعلوم إلى أجل معلوم } وهذا بيع ما ليس عند البائع فقلت النهي عن بيع ما ليس عندك بعينه غير مضمون عليك فأما المضمون فهو بيع صفة فاستعملنا الحديثين معا قال هكذا نقول قلت هذه حجة عليك قال فإن صاحبنا قال لا يخطب رضيت [ ص: 175 ] أو لم ترض حتى يترك الخاطب .
قلت : فهذا خلاف الحديث ضرر على المرأة في أن يكف عن خطبتها حتى يتركها من لعله يضارها ولا يترك خطبتها أبدا قال هذا أحسن مما قال أصحابنا وأنا أرجع إليه ولكن قد قال غيرك لا يخطبها إذا ركنت وجاءت الدلالة على الرضا بأن تشترط لنفسها فكيف زعمت بأن الخاطب لا يدع الخطبة في هذه الحال ولا يدعها حتى تنطق الثيب بالرضا وتسكت البكر ؟ فقلت له لما وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد خطبة أبي جهيم ومعاوية فاطمة ويخطبها على أسامة على خطبتهما لم يكن للحديث مخرج إلا ما وصفت من أنها لم تذكر رضا ولم يكن بين النطق بالرضا والسكوت عنه عند الخطبة منزلة مباينة لحالها الأولى عند الخطبة فإن قلت الركون والاشتراط ؟ قلت له أويجوز للولي أن يزوجها عند الركون والاشتراط ؟ قال : لا حتى تنطق بالرضا إن كانت ثيبا وتسكت إن كانت بكرا ، فقلت له أرى حالها عند الركون وبعد غير الركون بعد الخطبة سواء لا يزوجها الولي في واحدة منهما قال أجل ولكنها راكنة مخالفة حالها غير راكنة ، قلت أرأيت إذا خطبها فشتمته وقالت لست لذلك بأهل وحلفت لا تنكحه ثم عاود الخطبة فلم تقل : لا ولا نعم أحال الأخرى مخالفة لحالها الأولى ؟ قال : نعم قلت أفتحرم خطبتها على المعنى الذي ذكرت لاختلاف حالها ؟ قال : لا لأن الحكم لا يتغير في جواز تزويجها إنما تستبين في قولك إذا كشف ما يدل على أن الحالة التي تكف فيها عن الرضا غير الحال التي تنطق فيها بالرضا حتى يجوز للولي تزويجها فيها قال هذا أظهر معانيها ، قلت فأظهرها أولاها بنا وبك .
ما جاء في نكاح المشرك ( قال الشافعي ) قال الله جل وعز { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } فانتهى عدد ما رخص فيه للمسلمين إلى أربع لا يحل لمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع إلا ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم دون المسلمين من نكاح أكثر من أربع يجمعهن ومن النكاح بغير مهر فقال عز وعلا { خالصة لك من دون المؤمنين } ( قال الشافعي ) أخبرنا الثقة أحسبه إسماعيل بن إبراهيم " شك الشافعي " عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه { أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن } ( قال الشافعي ) أخبرنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عن عوف بن الحارث عن { نوفل بن معاوية الديلمي : قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال فارق واحدة وأمسك أربعا فعمدت إلى أقدمهن عندي عجوزا عاقرا منذ ستين سنة ففارقتها } ، أخبرنا الشافعي قال أخبرني ابن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش { عن الديلمي أو ابن الديلمي قال أسلمت وتحتي أختان فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسك أيتهما شئت وأفارق الأخرى } ( قال الشافعي ) فبهذا نقول إذا أسلم المشرك وعنده أكثر من أربع نسوة أمسك منهن أربعا أيتهن شاء وفارق سائرهن لأنه لا يحل له غير ذلك لقول الله عز وجل وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجمع بين أكثر من أربع نسوة في الإسلام .
( قال الشافعي ) ولا أبالي كن في عقدة واحدة أو عقد متفرقة أو أيتهن فارق الأولى ممن نكح أم الآخرة إذا كان من يمسك منهن غير ذات محرم يحرم عليه في الإسلام أن يبتدئ نكاحها بكل وجه وذلك مثل أن يسلم وعنده أختان فلا بد أن يفارق [ ص: 176 ] أيتهما شاء لأن محرما بكل وجه أن يجمع بينهما في الإسلام ومثله أن يكون نكح امرأة وابنتها فأصابهما فيحرم أن يبتدئ نكاح واحدة منهما في الإسلام وقد أصابهما بالنكاح الذي قد يجوز مثله .
ولو نكح أختين معا ولم يدخل بواحدة منهما قلت له فارق أيتهما شئت وأمسك الأخرى ولا أنظر في ذلك إلى أيتهما نكح أولا وهذا القول كله موافق لمعنى السنة والله أعلم ولو أسلم رجل وعنده يهودية أو نصرانية كانا على النكاح لأنه يحل له نكاح واحدة منهما وهو مسلم ولو أسلم وعنده وثنية أو مجوسية لم يكن له إصابتها إلا أن تسلم قبل أن تنقضي العدة وله وطء اليهودية والنصرانية بالملك ، وليس له وطء وثنية ولا مجوسية بملك إذا لم يحل له نكاحها لم يحل له وطؤها وذلك للدين فيهما ولا أعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وطئ سبية عربية حتى أسلمت وإذ { حرم النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم أن يطأ امرأة وثنية حتى تسلم في العدة } دل ذلك على أن لا توطأ من كانت على دينها حتى تسلم من حرة أو أمة .