تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(204)
الحلقة (218)
صــ 224إلى صــ 231
وقوله : "ورحمة " ، يعني : ولهم مع المغفرة ، التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها ، رحمة من الله ورأفة . [ ص: 223 ]
ثم أخبر تعالى ذكره - مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه ، تسليما منهم لقضائه ، من المغفرة والرحمة - أنهم هم المهتدون ، المصيبون طريق الحق ، والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب .
وقد بينا معنى "الاهتداء " ، فيما مضى ، فإنه بمعنى الرشد للصواب .
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2329 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " قال : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ، ورجع واسترجع عند المصيبة ، كتب له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه .
2330 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 224 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، يقول : الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا .
2331 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير قال : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ، ألم تسمع إلى قوله : ( يا أسفى على يوسف ) [ سورة يوسف : 84 ] .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله )
قال أبو جعفر : "والصفا " جمع "صفاة " ، وهي الصخرة الملساء ، ومنه قول الطرماح :
أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
[ ص: 225 ]
وقد قالوا إن "الصفا " واحد ، وأنه يثنى "صفوان " ، ويجمع "أصفاء " و"صفيا ، وصفيا " ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز
كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي
وقالوا : هو نظير "عصا وعصي [ وعصي ، وأعصاء ] ، ورحا ورحي [ ورحي ] وأرحاء " .
وأما "المروة " ، فإنها الحصاة الصغيرة ، يجمع قليلها "مروات " ، وكثيرها "المرو " ، مثل "تمرة وتمرات وتمر " ، قال الأعشى ميمون بن قيس : [ ص: 226 ]
وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح
يعني ب "المرو " : الصخر الصغار ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع
ويقال " المشقر " .
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : "إن الصفا والمروة " ، في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه ، دون سائر الصفا والمرو . ولذلك أدخل فيهما "الألف واللام " ، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين ، دون سائر الأصفاء والمرو .
وأما قوله : "من شعائر الله " ، فإنه يعني : من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها ، إما بالدعاء ، وإما بالذكر ، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها . ومنه قول الكميت :
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
[ ص: 227 ]
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما : -
2332 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : من الخبر الذي أخبركم عنه .
2333 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر ، إنما هو جمع "شعيرة " ، من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة ، وما عليهم في الطواف بهما . فمعناه : إعلامهم ذلك .
وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم ، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، فإنه مراد به الأمر . لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، فقال له : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ سورة النحل : 123 ] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده . فإذ كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج ، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله [ ص: 228 ] عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده ، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه ، فعليهم العمل بذلك ، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فمن حج البيت أو اعتمر )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "فمن حج البيت " ، فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء . وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو "حاج إليه " ، ومنه قول الشاعر :
لأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
[ ص: 229 ]
يعني بقوله : "يحجون " ، يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته . وإنما قيل للحاج "حاج " ، لأنه يأتي البيت قبل التعريف ، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف ، ثم ينصرف عنه إلى منى ، ثم يعود إليه لطواف الصدر . فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له : "حاج " .
وأما "المعتمر " ، فإنما قيل له : "معتمر " ، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه . وإنما يعني تعالى ذكره بقوله : "أو اعتمر " ، أو اعتمر البيت ، ويعني ب "الاعتمار " الزيارة . فكل قاصد لشيء فهو له "معتمر " ، ومنه قول العجاج :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر
يعني بقوله : "حين اعتمر " ، حين قصده وأمه .
[ ص: 230 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما .
فإن قال قائل : وما وجه هذا الكلام ، وقد قلت لنا ، إن قوله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما ؟ فكيف يكون أمرا بالطواف ، ثم يقال : لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما ؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج ؟ والأمر بالطواف بهما ، والترخيص في الطواف بهما ، غير جائز اجتماعهما في حال واحدة ؟
قيل : إن ذلك بخلاف ما إليه ذهبت . وإنما معنى ذلك عند أقوام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية ، تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما ، فقالوا : وكيف نطوف بهما ، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله ، شرك ؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحرج ذلك ، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما ، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!