تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 10 من 11 الأولىالأولى 1234567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 181 إلى 200 من 210

الموضوع: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

  1. #181
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (181)
    صـ71 إلى صـ 80





    وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا ، بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم ، ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون ، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها ، وأن الزائغين هم المخطئون; فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ، ولا ثلاثة ، فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ، ولا أصلا فيه .

    وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ ، بل كان يكون الجميع مصيبين; لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة; لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة قصد الشارع ، وأن الخطأ بمخالفته ، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا .

    وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه; لأنها دائرة بين [ ص: 72 ] طرفي نفي وإثبات شرعيين; فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ .

    وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحد; فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ، ولا هو حجة من حجج الاختلاف ، بل هو مجال استفراغ الوسع ، وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد; فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا ، وإن قيل : إن الكل مصيبون; فليس على الإطلاق ، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ، ولا الفتوى إلا به; لأن الإصابة [ ص: 73 ] عندهم إضافية لا حقيقية ، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق; لكان فيه حجة ، وليس كذلك .

    فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد ، غير أنه إضافي; فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال ، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد ، لا قولان مقرران; فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف ، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا ، وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه .

    وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة .

    وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان; فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر ، وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة ، وإن أرادوا تجويز [ ص: 74 ] ذلك في نفس الأمر; فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه ، ولا أظن أن أحدا منهم يقوله .

    وأما مسألة قول الصحابي ، فلا دليل فيه لأمرين :

    أحدهما : أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث ، على أنه مطعون في سنده ، ومسألتنا قطعية ، ولا يعارض الظن القطع .

    والثاني على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم; فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين ، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد; [ ص: 75 ] فإن هذا مناقض لما تقدم .

    وأما قول من قال : إن اختلافهم رحمة وسعة; فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال : ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة ، وإنما الحق في واحد ، قيل له : فمن يقول إن كل مجتهد مصيب ؟ فقال : هذا لا يكون ( هكذا لا يكون ) قولان مختلفين صوابين .

    ولو سلم; فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد ، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك ، قال القاضي إسماعيل : إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا ، قال ابن عبد البر : كلام إسماعيل هذا حسن جدا .

    وأيضا; فإن قول من قال : إن اختلافهم رحمة ، يوافق ما تقدم ، وذلك [ ص: 76 ] لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها ، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين ، وقد ذمت المختلفين فيها ، وفي غيرها من متعلقات الدين; فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع ، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة ، فلما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ آل عمران : 7 ] ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال; لأن الشريعة قد كملت ، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي ، والفطر والأنظار تختلف; فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع ، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها - وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها - لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف ، وأن الشريعة لا اختلاف فيها ، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها; فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة; فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق; فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز : وما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم . وقال : ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا .

    وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضا لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ، ومصادفة العامي المفتي; فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد ، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ، ولا ترجيح ، كذلك لا يجوز [ ص: 77 ] للعامي اتباع المفتيين معا ، ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح .

    وقول من قال : إذا تعارضا عليه تخير ، غير صحيح من وجهين :

    أحدهما : أن هذا قول بجواز تعارض الدليل في نفس الأمر ، وقد مر ما فيه آنفا .

    والثاني : ما تقدم من الأصل الشرعي ، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل ، وهو غير جائز; فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة ، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته [ ص: 78 ] وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته; اعتقادا ، وقولا ، وعملا; فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع ، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار ، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة ، فلا يصح القول بالتخيير على حال ، وانظر في الكتاب " المستظهري " للغزالي; فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة ، ولا هي موضوعة على كون وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودا من الشارع ، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين ، وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء ، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة ، وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها; إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف; لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق; لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف ، وذلك معلوم البطلان; فما أدى إليه مثله .

    [ ص: 79 ] فصل

    وعلى هذا الأصل ينبني قواعد ، منها أنه ليس للمقلد أن يتخير في [ ص: 80 ]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #182
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (182)
    صـ81 إلى صـ 90





    [ ص: 81 ] الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين; فوردت كذلك على المقلد; فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة; فيتبع هواه ، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه ، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين ، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام : " أصحابي كالنجوم " وقد مر الجواب عنه ، وإن صح; فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه ، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين; فالحق أن يقال : ليس بداخل تحت ظاهر الحديث; لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه; فهما صاحبا دليلين متضادين ، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ، وقد مر ما فيه; فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها .

    وأيضا; فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد ، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا; لجاز للحاكم ، وهو باطل بالإجماع .

    وأيضا; فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة ، [ ص: 82 ] وهو قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان; فوجب ردها إلى الله والرسول ، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة; فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ، ولذلك أعقبها بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية [ النساء : 60 ] .

    وبهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله : " أصحابي كالنجوم " .

    وأيضا; فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي ، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل .

    [ ص: 83 ] وأيضا; فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها; لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء ، وهو عين إسقاط التكليف ، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل; فلا يكون متبعا للهوى ، ولا مسقطا للتكليف .

    لا يقال : إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز; فكذلك بعد لقائه ، والاجتماع طردي; لأنا نقول : كلا ، بل للاجتماع أثر ; لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليلا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل ، أما إذا اجتمعا واختلفا عليه; فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب ، واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق ، فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور ، لا قاصدا لاتباع هواه فيه ، ولا لمقتضى التخيير على الجملة; فإن التخيير الذي هو معنى الإباحة مفقود هاهنا ، واتباع الهوى ممنوع; فلا بد من هذا القصد .

    وفي هذا الاعتذار ما فيه ، وهو تناقض; لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال ، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح ، فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه .
    [ ص: 84 ] فصل

    وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال; اتباعا لغرضه وشهوته ، أو لغرض ذلك القريب ، وذلك الصديق .

    ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة ، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية ، وفيما يتعلق به ذلك .

    فأما ما لا يتعلق به فصل قضية ، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته; ففيه من المعايب ما تقدم ، وحكى عياض في " المدارك " : قال موسى بن معاوية : كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان ; فقال له بهلول : ما أقدمك ؟ قال : نازلة ، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق [ ص: 85 ] ثلاثا ما أخفيته ، قال له البهلول : مالك يقول : إنه يحنث في زوجته ، فقال السائل : وأنا قد سمعته يقول ، وإنما أردت غير هذا ، فقال : ما عندي غير ما تسمع ، قال : فتردد إليه ثلاثا ، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول ، فلما كان في الثالثة أو الرابعة; قال : يا ابن فلان ! ما أنصفتم الناس ، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم : قال مالك ، قال مالك; فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص ، الحسن يقول : لا حنث عليه في يمينه ، فقال السائل : الله أكبر ، قلدها الحسن ، أو كما قال .

    وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين; فالأمر أشد ، وفي " الموازية " كتب عمر بن الخطاب : لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك ، قال ابن المواز : لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل ، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد ، وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من [ ص: 86 ] مضى ، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه ، وهو أيضا من قول من مضى ، وهو في أمر واحد ، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ، ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل; فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا .

    وما قاله صواب; فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر ، مع عدم تطرق التهمة للحاكم ، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله .

    وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى ، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء ، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى; فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم ، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى; فصرف يحيى رسوله وقال له : لا أشير عليه بشيء; إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه; فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه ، وركب من فوره إلى يحيى ، وقال له : لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع ، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله ، فقال له يحيى : وتفعل ذلك صدقا ؟ قال : نعم ، قال له : فالآن هيجت غيظي; فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله ، متخيرا في الأقوال; فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف; فلا خير فيما تجيء به ، ولا في إن رضيته منك; فاستعف من ذلك فإنه أستر لك ، وإلا رفعت في عزلك; فرفع يستعفي فعزل .

    وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها [ ص: 87 ] عياض ، وكانت مما غض من منصبه ، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وألا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر; فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه ، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس ، فقال له : فتكلم مع الفقهاء فيه ، وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه; فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة; فتكلم ابن بقي معهم; فلم يجعلوا إليه سبيلا; فغضب الناصر عليهم ، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم; فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصلالناصر معهم إلى مقصوده ، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر; فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها; فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة; فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم ، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها ، [ ص: 88 ] فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ، وابن لبابة ساكت; فقال القاضي له : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء; وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة ، وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا ، فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال له محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم; ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك; فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء; فكلهم قدوة فسكتوا ، فقال للقاضي : أنه إلى أمير [ ص: 89 ] المؤمنين فتياي; فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر** ، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة; فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه ، وأشهد عليه وانصرفوا; فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة .

    قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر; فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة; فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ، أو كما قال .

    وذكر الباجي في كتاب " التبيين لسنن المهتدين " حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة; قال : وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال [ ص: 90 ] الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء ، دون أن يخرج عنها ، ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك; فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول ، لا لرأي تجدد له ، وإنما ذلك بحسب اختياره .

    قال : ولقد حدثني من أثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض; فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد; فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك ألا شفعة في الإجارات ، قال لي : فوردت من سفري; فسألت أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين - عن مسألتي; فقالوا : ما علمنا أنها لك; إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها; فأفتاني جميعهم بالشفعة; فقضي لي بها .

    قال : وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه .

    قال الباجي : ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ، ولو استجازه لم يعلن به ، ولا أخبر به عن نفسه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #183
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (183)
    صـ81 إلى صـ 100




    قال : وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية ، أو لعل فيها رخصة ، وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ، ولو [ ص: 91 ] كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ، ولا من سواي ، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ، ولا يسوغ ، ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه; فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه ، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية [ المائدة : 49 ] فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض ؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه ، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه ، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته ؟ ! .

    هذا ما ذكره ، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ، ولا أن يفتي به أحدا [ ص: 92 ] والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر ; فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى ، وأما المجتهد; فهو أحرى بهذا الأمر .
    فصل

    وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية; حتى صار الخلاف في المسائل [ ص: 93 ] معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف; فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع; فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها; فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة .

    حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال : إن الناس لما اختلفوا في الأشربة ، وأجمعوا على تحريم خمر العنب ، واختلفوا فيما سواه; حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه ، قال : وهذا خطأ فاحش ، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السنة حجة على المختلفين من [ ص: 94 ] الأولين والآخرين ، هذا مختصر ما قال .

    والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه; فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه .

    ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال ، وعدم التحجير على رأي واحد ، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ، ويقول إن الاختلاف رحمة ، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك ، وهذا القول خطأ كله ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله .

    وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ، ولكن نقرر منه هاهنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله ، وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض; إما أن يكون حاكما به ، أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي .

    [ ص: 95 ] أما الأول; فلا يصح على الإطلاق; لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين; فكذلك ( أو بالنسبة إلى الأول فكذلك ) أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة ، وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ، ومن هاهنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد ، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان ; فانضبطت الأحكام بذلك ، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط ، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه .

    وأما الثاني; فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز له [ ص: 96 ] إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول .

    وأيضا; فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا .

    وأما إن كان عاميا; فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب; فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين : لمة ملك ، ولمة شيطان; فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] [ ص: 97 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ الإنسان : 3 ] وهديناه النجدين [ البلد : 10 ] .

    وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات ، والهوى لا يعدوهما ، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي; فهو قائل له : أخرجني عن هواي ، ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ؟ فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ، ولا ينجيه من هذا أن يقول : ما فعلت إلا بقول عالم; لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل ، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية ، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية ، وجهل بالشريعة ، وغش في النصيحة ، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره ، والتوفيق بيد الله تعالى .
    فصل

    واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب ، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله; فقال : إن أراد المانع ما هو على خلاف [ ص: 98 ] الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي; فمسلم ، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف; فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك ، بل قوله عليه الصلاة [ ص: 99 ] والسلام : بعثت بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك; لأنه نوع من اللطف بالعبد ، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد ، بل بتحصيل المصالح ، وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام; لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها ، وليس تتبع الرخص ، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها; فما قاله عين الدعوى .

    ثم نقول : تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس ، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى; فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ، ومضاد أيضا لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] وموضع الخلاف موضع تنازع ، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس ، وإنما يرد إلى الشريعة ، وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض .
    فصل

    وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة ، وإلجاء الحاجة ، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب; فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم; فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة; فإن كانت هذه المسألة [ ص: 100 ] منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع; فلا حاجة إلى الانتقال عنها ، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ، ودعوى غير مقبولة .

    وقد وقع في " نوازل ابن رشد " من هذا مسألة نكاح المتعة .

    ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل : ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب; إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم : ما عندنا إلا الطعام; فربما صدقوا في ذلك; فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ، ولا حكام بالبادية أيضا ، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة ، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع .

    [ ص: 101 ] فأجاب : إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى; فهذا ممنوع في المذهب ، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت .

    قال : ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه; لأن الورع قل ، بل كاد يعدم ، والتحفظ على الديانات كذلك ، وكثرت الشهوات ، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه ، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب; لاتسع الخرق على الراقع ، وهتكوا حجاب هيبة المذهب ، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها ، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما; فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ، ويقبض البائع الثمن ، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #184
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (184)
    صـ101 إلى صـ 110




    فانظر كيف لم يستجز - وهو المتفق على إمامته - الفتوى بغير مشهور المذهب ، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية; إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله ، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب ، بل جميع المذاهب; لأن ما وجب [ ص: 102 ] للشيء وجب لمثله ، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة .
    فصل

    وقد أذكر هذا المعنى جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة; كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف ، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط ، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم; لأن المذاهب [ ص: 103 ] الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة ، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف ، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم ، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها ، ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ، ولكن فيما تقدم منه كاف ، والحمد لله .
    [ ص: 104 ] فصل

    وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى ، وهي : هل يجب الأخذ بأخف القولين ، أم بأثقلهما ؟ واستدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر الآية [ البقرة : 185 ] وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : لا ضرر ، ولا ضرار وقوله : بعثت بالحنيفية السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل ، ومن جهة القياس أن الله غني [ ص: 105 ] كريم ، والعبد محتاج فقير ، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى .

    والجواب عن هذا ما تقدم ، وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة; فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ، ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهي المشقة ، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل; لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف ، وهذا محال فما أدى إليه مثله; فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال ، ثم قال المنتصر لهذا الرأي : إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الإذن ، وفي المضار الحرمة ، وهو أصل قرره في موضع آخر ، وقد تقدم التنبيه على ما فيه في كتاب المقاصد .
    وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف ، وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم .
    [ ص: 106 ] فصل

    فإن قيل : فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي ؟ فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف; فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها; فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف ، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ، ألا تراهم يقولون : كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق ، وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبيرة الإحرام; فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول [ ص: 107 ] من قال : إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام ، وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها; فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها ، ومثله جار في عقود البيع وغيرها ، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده ، ويعللون التفرقة بالخلاف; فأنت تراهم يعتبرون الخلاف ، وهو مضاد لما تقرر في المسألة .

    فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة ، منهم ابن عبد البر فإنه قال : الخلاف لا يكون حجة في الشريعة ، وما قاله ظاهر; فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين ، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف ، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم .

    وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم; فمنهم من تأول [ ص: 108 ] العبارة ولم يحملها على ظاهرها ، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها ، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ، ويكون هو الراجح ، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف; فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر; فالأول فيما بعد الوقوع; والآخر فيما قبله ، وهما مسألتان مختلفتان; فليس جمعا بين متنافيين ، ولا قولا بهما معا ، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس ، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي ، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف ، وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله .

    [ ص: 109 ] على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام ، وذكر اعتباره عن الشيرازي ، واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ولو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده يطهر بالدباغ ، لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط .

    وما قاله غير ظاهر لأمرين :

    أحدهما : أن هذا الدليل مشترك الإلزام ، ومنقلب على المستدل به; إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ، ثم يقول : لو قال الشارع : إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله; فإن جلده لا يطهر بالدباغ; لكان ذلك صحيحا ، فكذلك إذا علق [ ص: 110 ] الحكم عليه بالاستنباط ، ويكون هذا القلب أرجح; لأنه مائل إلى جانب الاحتياط ، وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه .

    والثاني : أنه ليس كل جائز واقعا ، بل الوقوع محتاج إلى دليل ، ألا ترى أنا نقول : يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء ، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج ، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين ، وما أشبه ذلك ، ولا يكون هذا التجويز سببا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط; فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال .

    فإن قال : إنما أعني ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه ، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #185
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (185)
    صـ111 إلى صـ 120



    قيل : لم تفصل أنت هذا التفصيل ، وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه ، كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون [ ص: 111 ] الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم ، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى .

    واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم ، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته ، قال الباجي : ذلك غير ممتنع كالإجماع; فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا .

    [ ص: 112 ] وأيضا فمعنى قولنا : إنه مختلف فيه ، أنه يسوغ فيه الاجتهاد ، وهذا كان حاله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم على علته .

    والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم ، بل هو أصل الحكم ، وقوله : إن معنى قولنا مختلف فيه كذا ، هي عين الدعوى .
    فصل

    ومن القواعد المبنية على هذه المسألة أن يقال : هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع ، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون في التروك ، أم لا ؟ أما في ترك العمل بهما [ ص: 113 ] معا مجتمعين أو متفرقين; فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما ، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح ، وأما في العمل; فإن أمكن الجمع بدليله; فلا تعارض ، وإن فرض التعارض; فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين ، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة ، وقد مر إبطاله ، وهكذا يجري الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه ، ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله .
    [ ص: 114 ] المسألة الرابعة

    محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر; فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ، ولا إلى طرف الإثبات .

    وبيانه أن نقول : لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا; فإن لم يأت فيها خطاب; فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود ، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة [ ص: 115 ] إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره ، وإن أتى فيها خطاب; فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا ; فإن لم يظهر له قصد البتة ، فهو قسم المتشابهات ، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا ، وتارة يكون غير قطعي; فأما القطعي ، فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات ، وليس محلا للاجتهاد ، وهو قسم الواضحات; لأنه واضح الحكم حقيقة ، والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي ، فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا; فليس من الواضحات بإطلاق ، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه ، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه; لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك ، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين ، وتارة لا يقوى; فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات ، والمقدم [ ص: 116 ] عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإن قوي في إحدى الجهتين; فهو قسم المجتهدات ، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه ، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين; فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، وأما على قول المخطئة; فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح ، وإلا فمعذور .

    وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات; إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات ، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات ، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا ، وأن الإضافي إنما صار إضافيا; لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين; فيقرب عند بعض من أحد الطرفين ، وعند بعض من الطرف الآخر ، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات ، فهو غير مستقر في نفسه; فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف ، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه; فثبوت العلم مع نفيه نقيضان; كوقوع التكليف وعدمه ، [ ص: 117 ] وكالوجوب وعدمه ، وما أشبه ذلك ، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان ، كالوجوب مع الندب ، أو الإباحة ، أو التحريم ، وما أشبه ذلك .

    وهذا الأصل واضح في نفسه ، غير محتاج إلى إثباته بدليل ، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله .

    فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء ، والسمك في الماء ، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار ، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع ، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين ، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث ، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري; فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره; لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في [ ص: 118 ] الثاني; فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين ، آخذة بشبه من كل واحد منهما; فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ، ومن منع مال إلى الجانب الآخر .

    ومن ذلك مسألة زكاة الحلي ، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين ، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين; فلذلك وقع الخلاف فيها .

    واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته ، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق ، وصار المجهول الحال دائرا بينهما; فوقع الخلاف فيه .

    واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه : هل يملك ، أم لا ؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين .

    [ ص: 119 ] واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه ، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة ، وما بين ذلك دائر بين الطرفين; فاختلفوا فيه .

    واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع ، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت ، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة ، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع ، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق ، أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق; فإن سكتوا من غير ظهور إنكار; فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه ، والمبتدع بما يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين; فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة ، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس [ ص: 120 ] من الأمة; فالوسط مختلف فيه : هل هو من الأمة ، أم لا ؟

    وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق ، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق ، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال ، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص ، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال ، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال ، وكذلك ما أشبهها .

    فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها; لأنها دائرة بين طرفين واضحين; فحصل الإشكال والتردد ، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات ، لا مبنيا على الظن ، ولا على القطع; إلا دائرا بين طرفين ولا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما فاعتبره تجد كذلك - إن شاء الله - .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #186
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (186)
    صـ121 إلى صـ 130







    [ ص: 121 ] فصل

    وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد; لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف ، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : أتدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على إسته فهذا تنبيه على [ ص: 122 ] المعرفة بمواقع الخلاف .

    ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف .

    فعن قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه .

    وعن هشام بن عبيد الله الرازي : من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه .

    وعن عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس; فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه .

    [ ص: 123 ] وعن أيوب السختياني وابن عيينة : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء ، زاد أيوب : وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء .

    وعن مالك : لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه ، قيل له : اختلاف أهل الرأي ؟ قال : لا ، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .

    وقال يحيى بن سلام : لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي .

    وعن سعيد بن أبي عروبة : من لم يسمع الاختلاف; فلا تعده عالما .
    وعن قبيصة بن عقبة : لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس .
    وكلام الناس هنا كثير ، وحاصله معرفة مواقع الخلاف ، لا حفظ مجرد الخلاف ، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر; فلا بد منه لكل مجتهد ، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره .
    [ ص: 124 ] المسألة الخامسة

    الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص; فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة .

    والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية ، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية ، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا [ ص: 125 ] يمكن التفاهم فيما بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه .

    وأما المعاني مجردة; فالعقلاء مشتركون في فهمها ، فلا يختص بذلك لسان دون غيره ، فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام ، وبلغ فيها رتبة العلم بها ، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي; فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية ويعتبرون المعاني ولا يعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل .

    وأيضا; فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا [ ص: 126 ] فيما يتعلق بالمقيس عليه ، وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما ، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي .

    وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين; كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك ، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي في مذهب الشافعي فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم ، وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة ، ويفرعون المسائل ، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك .

    وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم ، وعملوا على مقتضاها ، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته ، وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع [ ص: 127 ] الأحكام ولولا ذلك; لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص ، فلما لم يكن شيء من ذلك; دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه ، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه ، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين ، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق ، والله أعلم .
    [ ص: 128 ] المسألة السادسة

    قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط ، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع ، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية; لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه ، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به ، من حيث قصدت المعرفة به; فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى ، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها ، وصحيحها من سقيمها ، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به; فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به ، كان عالما بالعربية أم لا ، وعارفا بمقاصد الشارع أم لا ، وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات ، والصانع في معرفة عيوب [ ص: 129 ] الصناعات ، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب ، وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها ، والعاد في صحة القسمة ، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها ، كل هذا ، وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ، ولا العلم بمقاصد الشريعة ، وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد .

    والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ، بل هو محال عادة ، وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة ، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ، ولا كلام فيه .

    وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل [ ص: 130 ] علم وصناعة ألا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك; إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع ، وذلك باطل; فما أدى إليه مثله; فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ، ومن الكفار المنكرين للشريعة .

    ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء ، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة ، وهو التقليد في تحقيق المناط .

    فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه ، كما أنه في الأولين كذلك; فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد العربية ، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة ، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره ، وهو ظاهر .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #187
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (187)
    صـ131 إلى صـ 140



    [ ص: 131 ] المسألة السابعة

    الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان :

    أحدهما : الاجتهاد المعتبر شرعا ، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد ، وهذا هو الذي تقدم الكلام فيه .

    والثاني : غير المعتبر ، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه ; لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض ، وخبط في عماية ، واتباع للهوى فكل رأي صدر على هذا الوجه ، فلا مرية في عدم اعتباره; لأنه ضد الحق الذي أنزل الله كما قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم [ المائدة : 49 ] وقال تعالى : يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .

    وهذا على الجملة لا إشكال فيه ، ولكن قد ينشأ في كل واحد من القسمين قسم آخر; فأما القسم الأول وهي :
    [ ص: 132 ] المسألة الثامنة

    فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد; إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه ، وإما بعدم الاطلاع عليه جملة .

    وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان في أمر جزئي ، وأما إن كان الخطأ في أمر كلي; فهو أشد ، وفي هذا الموطن حذر من زلة العالم ، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها; فروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع .

    [ ص: 133 ] وعن عمر : " ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .

    وعن أبي الدرداء : " إن مما أخشى عليكم زلة العالم ، أو جدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق ، وعلى القرآن منار كمنار الطريق " .

    وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا : وإياكم وزيغة الحكيم; فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وقد يقول المنافق الحق; فتلقوا الحق عمن جاء به; فإن على الحق نورا ، قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي كلمة تروعكم وتنكرونها ، وتقولون ما هذه ؟ فاحذروا زيغته ، ولا تصدنكم عنه; فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق .

    [ ص: 134 ] وقال سلمان الفارسي : كيف أنتم عند ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم ، فأما زلة العالم; فإن اهتدى ، فلا تقلدوه دينكم ، تقولون : نصنع مثل ما يصنع فلان ، وننتهي عما ينتهي عنه فلان ، وإن أخطأ; فلا تقطعوا إياسكم منه ، فتعينوا عليه الشيطان ، الحديث .

    وعن ابن عباس : " ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه; فيترك قوله ثم يمضي الأتباع .

    وعن ابن المبارك : " أخبرني المعتمر بن سليمان ، قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر ، فقال لي : يا بني لا تنشد الشعر ، فقلت له : يا أبت كان الحسن ينشد ، وكان ابن سيرين ينشد ، فقال لي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله " .

    وقال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك : " ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " .

    [ ص: 135 ] وقال سليمان التيمي : إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله .

    قال ابن عبد البر : هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا .

    وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، [ ص: 136 ] والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، وهو وإن كان على غير قصد ، ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، وقد قال الغزالي : " إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة " وذكر منها أمثلة ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها; فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم آمادا متطاولة; فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى; فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته; فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد ، وقولا يعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه وتبين له الحق; فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ، ويضل عنه تلافيه; فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل .
    فصل

    إذا ثبت هذا; فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل :

    - منها أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، ولا الأخذ بها تقليدا له ، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، ولذلك عدت زلة ، وإلا فلو كانت معتدا بها; لم يجعل لها هذه الرتبة ، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ، ولا أن يشنع عليه بها ، ولا ينتقص [ ص: 137 ] من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا; فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين ، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى .

    وقد روي عن ابن المبارك أنه قال : كنا في الكوفة فناظروني في ذلك - يعني في النبيذ المختلف فيه - فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة; فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة ، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود ، وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه ، قال ابن المبارك : فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسا ، فقال هو لك [ ص: 138 ] حلال ، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة ، كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى ، فقال قائلهم : يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام ؟ فقلت لهم : دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال; فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا ، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها ؟ فإن أبيتم; فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة ؟ قالوا : كانوا خيارا ، قال : فقلت : فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد ؟ فقالوا : حرام ، فقال ابن المبارك : إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام ، فبقوا وانقطعت حجتهم . هذا ما حكي .

    والحق ما قال ابن المبارك; فإن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

    فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة; لم يصح الاعتداد به ، ولا البناء عليه ، ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع ، مع أن حكمه مبني على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ، ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين; لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ، ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة; لأنه حكم بغير ما أنزل الله .
    فصل

    - ومنها : أنه لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية ; لأنها لم [ ص: 139 ] تصدر في الحقيقة عن اجتهاده ، ولا هي من مسائل الاجتهاد ، وإن حصل من صاحبها اجتهاد; فهو لم يصادف فيها محلا ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد ، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا; فلذلك قيل : إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل والمتعة ، ومحاشي النساء ، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها .

    فإن قيل : فبماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك ؟

    فالجواب : أنه من وظائف المجتهدين; فهم العارفون بما وافق أو خالف ، وأما غيرهم فلا تتميز لهم في هذا المقام ، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب; فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني ، والأدلة الظنية متفاوتة كأخبار الآحاد والقياس الجزئية ، فأما المخالف للقطعي ، فلا إشكال في اطراحه ، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه ، لا للاعتداد [ ص: 140 ] به ، وأما المخالف للظني; ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره .

    فإن قيل : فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا ؟ فالجواب : إن له ضابطا تقريبيا ، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة ، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها ، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر ، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة; فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #188
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (188)
    صـ141 إلى صـ 150




    فصل

    وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف ، حين عد جهة [ ص: 141 ] الرواية وأن لها ثماني علل : فساد الإسناد ، ونقل الحديث على المعنى ، أو من المصحف ، والجهل بالإعراب ، والتصحيف ، وإسقاط جزء الحديث ، أو سببه ، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه ، وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة; فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف ، وإذا كان على هذا الوجه; فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول .

    وأما القسم الثاني ، وهي :
    [ ص: 142 ] المسألة التاسعة

    فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به ، وتكون مخالفته تارة في جزئي ، وهو أخف ، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة ، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال; فتراه آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ، ولا راجع رجوع الافتقار إليها ، ولا [ ص: 143 ] مسلم لما روي عنهم في فهمها ، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

    ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس ، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح ، واطراح النصفة ، والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب; فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر .

    وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية [ آل عمران : 7 ] .

    وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، ثم قال : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه; فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

    والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية [ ص: 144 ] الموهمة للتشبيه ، ولا العبارات المجملة ، ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ، ولا غير ذلك مما يذكرون ، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر ، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية; فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد; فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها; لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة ، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها ، فلا ضرر على المكلف المجتهد ، ولا تعارض في حقه .

    [ ص: 145 ] ودل على ذلك قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فجعل المحكم - وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ، ولا اشتباه - هو الأم والأصل المرجوع إليه ، ثم قال : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] يريد : وليست بأم ، ولا معظم; فهي إذا قلائل ، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة ، وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك ، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه .

    وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ، ولا السنة ، بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة [ ص: 146 ] وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة; فقال في حديثه : وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .

    والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة ، لم يخص من ذلك شيء دون شيء .

    وفي أبي داود : وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة وهي بمعنى الرواية [ ص: 147 ] التي قبلها .

    وقد روي ما يبين هذا المعنى ، ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه ، وإن كان غيره قد هون الأمر فيه ، أنه قال : ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله : " ما أنا عليه وأصحابي " وهو [ ص: 148 ] ظاهر; فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية .
    فصل

    وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التي يظن أن الحديث شامل لها ، وأنها مقصودة الدخول تحته; فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها; فهو آخذ في بدعة ، خارج عن مقتضى الشريعة ، وكذلك في الأحاديث الصحيحة ، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها ، وربما ورد التعيين في بعضها ، كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج : إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .

    وفي رواية : دعه - يعني ذا الخويصرة - ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، [ ص: 149 ] يمرقون من الإسلام . . . الحديث إلى أن قال : " آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر . . . إلخ " .

    فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء ، وذكر لهم علامة في صاحبهم ، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين :

    أحدهما : اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ، ولا نظر في مقاصده ، ومعاقده ، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول ، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث ، " يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ، ويضاد المشي على الصراط المستقيم ، ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري ، وقال : إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ، ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه السور والآيات ، وتعارضت في [ ص: 150 ] يديه الأدلة على الإطلاق والعموم .

    وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في " مشكل القرآن " وكتابه في " مشكل الحديث " يبين لك صحة هذا الإلزام; فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر .

    والثاني : قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها; فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون ، وأن أهل الأوثان هالكون ، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم ، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد; صار صاحبه هادما لقواعدها ، وصادا عن سبيلها ، ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفي غيرها ظهر له خروجهم عن القصد ، وعدولهم عن الصواب ، وهدمهم للقواعد ، وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك .

    فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #189
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (189)
    صـ151 إلى صـ 160



    وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه; كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن ، وألا حرام إلا ما في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ الأنعام : 145 ] [ ص: 151 ] وما سوى ذلك فحلال ، وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم ، وأن التقية لا تجوز في قول ، ولا فعل على الإطلاق والعموم ، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق ، والقاذف للرجال لا يحد ، وإنما يحد قاذف النساء خاصة ، وأن الجاهل معذور في أحكام الفروع بإطلاق ، وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد ، وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله ، وإنكارهم سورة يوسف من القرآن ، وأشباه ذلك ، وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية .

    ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ، ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة ، كما سترت عليهم قبائحهم; فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام ، وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب [ ص: 152 ] أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة ، وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول ، وفي ذلك افتضاح المذنب ، إلى ما أشبه ذلك; فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة ، وقد قالت طائفة : إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم ، فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف .

    وللستر حكمة أيضا وهي أنها لو أظهرت - مع أن أصحابها من الأمة - لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة ، وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ آل عمران : 103 ] وقال : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ الأنفال : 1 ] وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [ آل عمران : 105 ] وقال : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الروم : 31 - 32 ] وفي الحديث : لا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا [ ص: 153 ] وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة ، وأنها تحلق الدين .

    [ ص: 154 ] والشريعة طافحة بهذا المعنى ، ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب " البر والصلة " وقد جاء في قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء الآية [ الأنعام : 159 ] أنه روي عن عائشة وأبي هريرة - وهذا حديث عائشة - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ، وأنا منهم بريء ، وهم مني برآء .

    [ ص: 155 ] فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة; لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه; إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها ، كما عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم; حتى يعرفون ويحذر منهم . ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى .

    [ ص: 156 ] وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة ; قال : كان حذيفة بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة; فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول; فيرجعون إلى حذيفة; فيقولون له : قد ذكرنا قولك لسلمان; فما صدقك ولا كذبك ، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة ، فقال : يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه ، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه ، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ، ورجالا بغض رجال ، وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ، فقال : أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي; فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر .

    [ ص: 157 ] فهذا من سلمان حسن من النظر; فهو جار في مسألتنا .

    فإن قيل : فالبدع مأمور باجتنابها ، واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشريد بهم ، وتقبيح ما هم عليه; فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز ؟

    فالجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ، ونبه على البدع من غير تفصيل ، وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة ، وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ، ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ، ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس; فنحن أولى بذلك معشر الأمة .

    وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع ، وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم ، مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد; فهو [ ص: 158 ] ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه ، فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد ، والأصل ما تقدم من الستر; حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ، ويبقى النظر : هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث ، أم لا ؟ فهو موضع اجتهاد .

    وأيضا; فإن البدع المحدثة تختلف; فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال ، ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة ، التي قال فيها مالك : التثويب ضلال .

    وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه ، وإلى ما هو محرم ، ولو كانت عندهم على سواء; لكانت قسما واحدا ، وإذا كان كذلك; فالبدع التي [ ص: 159 ] تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح ، وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا ، وما في الحديث محصور; فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث ، أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها ، أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه; فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه ، فلا يقدم على **ذلك إلا ببرهان قاطع ، وهذا كالمعدوم فيها; فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها .

    فإن قيل : فالعلماء يقولون خلاف هذا ، وإن الواجب هو التشريد بهم والزجر لهم ، والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين .

    فالجواب : أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة ، وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك ، وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث; فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر .
    فصل

    ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة ، وعلامات أيضا في التفصيل .

    [ ص: 160 ] فأما علامات الجملة; فثلاث :

    إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [ آل عمران : 105 ] وغير ذلك من الأدلة .

    قال بعض المفسرين : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم ، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الأنعام : 159 ] ثم برأه الله منهم بقوله : لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات والكلام فيما لم يأذن الله فيه ، ولا رسوله .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #190
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (190)
    صـ161 إلى صـ 170





    قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ، ولم يفترقوا ، ولم يصيروا شيعا; لأنهم لم يفارقوا الدين ، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي ، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا ، واختلفت في ذلك أقوالهم; فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به; كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم ، وقول عمر [ ص: 161 ] [ ص: 162 ] وعلي في أمهات الأولاد ، وخلافهم في الفريضة المشتركة ، وخلافهم في [ ص: 163 ] الطلاق قبل النكاح ، وفي البيوع . . وغير ذلك مما اختلفوا فيه ، وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة ، فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت العداوات ، وتحزب أهلها فصاروا شيعا; دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه .

    قال : فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ، ولا بغضاء ، ولا فرقة; علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست [ ص: 164 ] من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية ، وهي قوله : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الأنعام : 159 ] وقد تقدمت; فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ آل عمران : 103 ] فإذا اختلفوا وتقاطعوا; كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .

    هذا ما قاله ، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف; فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين .

    وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله : يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من [ ص: 165 ] الفرق أو من ادعى ذلك فيهم .

    والخاصية الثانية : هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية [ آل عمران : 7 ] ; فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم اتباع المتشابهات وقد تبين معناه .

    وقال عليه الصلاة والسلام : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه; فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

    والخاصية الثالثة : اتباع الهوى ، وهي التي نبه عليها قوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ [ آل عمران : 7 ] وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى .

    وقوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ [ القصص : 50 ] وقوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية [ الجاثية : 23 ] إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أحد في خاصة نفسه; لأنها أمر باطن ، فلا يعرفها غير صاحبها; إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر ، والتي قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم; لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم ، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها ، والتي قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام; لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم ، وبمعرفته يعرف أهله .

    [ ص: 166 ] وأما العلامات التفصيلية في كل فرقة; فقد نبه عليها وأشير إليها كما في قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . . . إلى قوله : ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ النساء : 59 ، 60 ] وقوله تعالى : إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله [ الأنعام : 116 ، 117 ] .

    وقوله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] إلى آخرها وقوله : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية [ التوبة : 37 ] .

    وقوله : وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه الآية [ يس : 47 ] .

    وقوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] إلى آخر الآيتين .

    وقوله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء . . . إلى قوله : لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ المائدة : 101 - 105 ]

    وقوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها الآية [ الأنعام : 140 ] .

    [ ص: 167 ] وقوله ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى قوله : إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ الأنعام : 143 - 144 ] .

    إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم .

    وكذلك في الحديث كقوله : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم; فضلوا وأضلوا .

    وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى ، وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ، ولم يصرح بها على الإطلاق لما تقدم ذكره ، فمن تهدى إليها فذاك ، وإلا فلا عليه ألا يعلمها ، والله الموفق للصواب .
    فصل

    ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره ، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم; فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص .

    ومن ذلك تعيين هذه الفرق; فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره; فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه .

    ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها; فإن الله ذم من اتبعها ، فإذا [ ص: 168 ] ذكرت وعرضت للكلام فيها; فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه ، وقد جاء في الحديث عن علي : حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .

    وفي الصحيح عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال : يا معاذ تدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله . . الحديث إلى أن قال : قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس ، قال : لا تبشرهم فيتكلوا .

    وفي حديث آخر عن معاذ في مثله قال : يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا ؟ فقال : إذا يتكلوا ، قال أنس : فأخبر بها معاذ عند موته تأثما .

    [ ص: 169 ] ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبي هريرة ، انظره في كتاب مسلم والبخاري; فإنه قال فيه عمر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل; فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فخلهم .

    وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل ، فقال : إن فلانا يقول : لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا ، فقال عمر : لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم ، [ ص: 170 ] قلت : لا تفعل; فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك; فأخاف ألا ينزلوها على وجهها; فيطيروا بها كل مطير ، وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة ، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها ، فقال : والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة . الحديث .
    ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #191
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (191)
    صـ171 إلى صـ 180




    ومنه ألا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي ، بل يربي بصغار [ ص: 171 ] العلم قبل كباره ، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه ، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق ، وهو مفسدة .

    من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل ، وربما أوقع خبالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فقال هذه الفاكهة فما الأب ؟ ثم قال : ما أمرنا بهذا .

    إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر ، وإن كان حقا ، وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ، ولا حدث بها ، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون [ ص: 172 ] ذلك فتنبه لهذا المعنى .

    وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة; فإن صحت في ميزانها; فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله; فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول; فإن قبلتها; فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ; فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية .
    فصل .

    هذه الفرق ، وإن كانت على ما هي عليه من الضلال; فلم تخرج من الأمة ، ودل على ذلك قوله : " تفترق أمتي " فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها .

    وقد جاء في الخوارج : " في هذه الأمة كذا " فأتى ب " في " المقتضية [ ص: 173 ] أنها فيها وفي جملتها .

    وقال في الحديث : " وتتمارى في الفوق " ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار في كفرهم ، ولقال : إنهم كفروا بعد إسلامهم .

    [ ص: 174 ] فإن قيل : فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع ; كالخوارج والقدرية وغيرهما .

    [ ص: 175 ] فالجواب : أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام ، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه ، وإذا قلنا بتكفيرهم; فليسوا إذا من تلك الفرق ، بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى [ ص: 176 ] الكفر ، وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله ، والأمر بالقتل في حديث الخوارج لا يدل على الكفر ; إذ للقتل أسباب غير الكفر ، كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل ، وما أشبه ذلك; فالحق ألا يحكم بكفر من هذا سبيله ، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب ، وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه; إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر ، وما أعز وجود مثله .
    [ ص: 177 ] المسألة العاشرة

    النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية; فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها; فيكون [ ص: 178 ] هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة .

    والدليل على صحته أمور :

    أحدها : أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد ، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية ، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم ، وأما الدنيوية; فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح; فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع ، والمسببات هي مآلات الأسباب; فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب ، وهو معنى النظر في المآلات .

    لا يقال : إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب ، لأنا نقول - وتقدم أيضا - : أنه لا بد من اعتبار المسببات [ ص: 179 ] في الأسباب ، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ، ومسألتنا من الثاني لا من الأول; لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ; فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين ، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب ، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب ، وهو مآل السبب .

    والثاني : أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة; فإن اعتبرت فهو المطلوب ، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال ، وذلك غير صحيح; لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ، ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد .

    وأيضا; فإن ذلك يؤدي إلى ألا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع ، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق .

    والثالث : الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية; كقوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .

    [ ص: 180 ] وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] .

    وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية [ البقرة : 188 ] .

    وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] .

    وقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ النساء : 165 ] .

    وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] .

    وقوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية [ البقرة : 216 ] .

    وقوله : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .

    وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #192
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (192)
    صـ181 إلى صـ 190





    وأما في المسألة على الخصوص; فكثير ، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه : أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل [ ص: 181 ] أصحابه .

    وقوله : لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم ، فقال له : لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله ، هذا معنى الكلام دون لفظه .

    وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال : لا تزرموه .

    وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الانقطاع .

    وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا ، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا ، [ ص: 182 ] لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة ، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها; فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز ، فالأصل على المشروعية ، لكن مآله غير مشروع ، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها; فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها .

    قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة : اختلف الناس بزعمهم فيها ، وهي متفق عليها بين العلماء; فافهموها وادخروها .

    فصل

    وهذا الأصل ينبني عليه قواعد :

    - منها قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه; لأن [ ص: 183 ] حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة; فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة ، فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل; بأن يشتري البائع سلعته من مشتريها منه بخمسة نقدا; فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل ، والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل; لأن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء ، ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس [ ص: 184 ] بمقتضى العادة .

    ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي; فإنه اعتبر المآل أيضا; لأن [ ص: 185 ] البيع إذا كان مصلحة جاز ، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى; فكل عقدة منهما لها مآلها ، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة ، فلا مانع على هذا; إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ، ولكن هذا بشرط ألا يظهر قصد إلى المآل الممنوع .

    ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله ، عملا بمقتضى قوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وأشباه ذلك من المسائل التي اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها .

    وأيضا ، فلا يصح أن يقول الشافعي : إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال; إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو ، وهو دال على القصد إلى الممنوع; فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة ، وإنما الخلاف في أمر آخر .

    [ ص: 186 ] [ ص: 187 ] - ومنها : قاعدة الحيل; فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر ، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع; كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من [ ص: 188 ] الزكاة; فإن أصل الهبة على الجواز ، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا; فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة ، فإذا جمع بينهما على هذا القصد; صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ، وهو مفسدة ، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية .

    ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة; فإنه اعتبر المآل أيضا ، لكن على حكم الانفراد; فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة; كإنفاق المال عند رأس الحول ، وأداء الدين منه ، وشراء العروض به ، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة ، وهذا الإبطال صحيح جائز; لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق ، لكن هذا بشرط ألا يقصد إبطال الحكم ; فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع; لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة ، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع ، وأما إبطالها ضمنا ، فلا ، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ، ولا يقول بهذا واحد منهم .

    ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال; كالمنافقين والمرائين ، وما أشبه ذلك; وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل ، والخلاف إنما وقع في أمر آخر .

    - ومنها : قاعدة مراعاة الخلاف ، وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا [ ص: 189 ] وقعت; فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها ، كالغصب مثلا إذا وقع; فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه ، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف ، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله ، وكان ذلك من غير زيادة صح ، فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم; لأن العدل هو [ ص: 190 ] المطلوب ، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة ، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته; لأنه ظلم له ، وكونه جانيا لا يجنى عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته ، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي على المتعدي أخذا من قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] وقوله : والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] ونحو ذلك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #193
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (193)
    صـ191 إلى صـ 200





    وإذا ثبت هذا; فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة ، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي; فيترك وما فعل من ذلك ، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل ، نظرا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلا على [ ص: 191 ] الجملة ، وإن كان مرجوحا; فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه; لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي; فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع; لما اقترن به من القرائن المرجحة ، كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم ، وحديث ترك قتل المنافقين ، وحديث البائل في المسجد; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله; لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر ، وبأنه ينجس موضعين ، وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد .

    وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ثم قال : فإن دخل بها; فلها المهر بما استحل منها وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد ، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام ، وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة ، وإلا كان في حكم الزنى ، وليس في حكمه باتفاق; فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح [ ص: 192 ] جانب التصحيح .

    وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة مقتضى النهي أو تزيد .

    ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد ، وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران :

    نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي ، وهذا يقتضي الإبطال .

    ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة; لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام ، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله ، وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام; لأنه مسلم لم يعاند الشارع ، بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ، ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية [ النساء : 17 ] .

    وقالوا : إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل; فجرى عليه حكم الجاهل; إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح; فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد ، فإذ ذاك لا نظر في المسألة ، مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل ، وهو المطلوب .

    [ ص: 193 ] ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان ، وهو - في مذهب [ ص: 194 ] مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس; فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة; كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا; إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى ، أو جلب مفسدة كذلك ، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي ، والحاجي مع التكميلي; فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده; فيستثنى موضع الحرج ، وكذلك في الحاجي مع التكميلي ، أو الضروري مع التكميلي ، وهو ظاهر .

    وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا; فإنه ربا في الأصل; لأنه الدرهم [ ص: 195 ] بالدرهم إلى أجل ، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين ، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ، ومثله بيع العرية بخرصها تمرا ; فإنه بيع الرطب باليابس ، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ، ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء ، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه .

    ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر ، وجمع المسافر ، وقصر الصلاة ، والفطر في السفر الطويل ، وصلاة الخوف ، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل; فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص ، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك; لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة; فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه ، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي ، والقراض ، والمساقاة ، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع ، وأشياء من هذا القبيل كثيرة .

    هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة ، وعليها بنى [ ص: 196 ] مالك وأصحابه .

    وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص; لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ، ثم جعله أقساما; فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف ، وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك ، أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي ، وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة على الخلق; كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة ، وإجازة بيع وصرف في اليسير .

    وقال في أحكام القرآن : الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل [ ص: 197 ] بأقوى الدليلين; فالعموم إذا استمر ، والقياس إذا اطرد; فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان ، من ظاهر أو معنى ، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد [ ص: 198 ] بخلاف القياس ، ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا ، وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام .

    وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدا .

    وفي العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد; فينكر أحدهما الولد دون الآخر ; أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به; فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال; لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به ، فقال أصبغ : إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء; فلعله غلب ولا يدري ، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد يتفلت .

    قال : والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس ، قال : وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال : تسعة أعشار العلم الاستحسان .

    فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة; إلا أنه [ ص: 199 ] نظر إلى لوازم الأدلة ، ومآلاتها; إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان; لأن العزل لا حكم له إذ أقر بالوطء ، ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد ، لكن الاستحسان ما قال; لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ، ولا يكون مع العزل إلا نادرا; فأجرى الحكم على الغالب ، وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال ، وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال : إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة ، وإن الاستحسان عماد العلم ، والأدلة المذكورة تعضد ما قال .

    ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى ، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا; فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج; كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال ، [ ص: 200 ] واتساع أوجه الحرام والشبهات ، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ، ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا; لأدى إلى إبطال أصله ، وذلك غير صحيح .

    وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها ، وشهود الجنائز ، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى ، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها; لأنها أصول الدين ، وقواعد المصالح ، وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم; فإنها مثار اختلاف وتنازع ، وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله ، والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال; فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق ، والله أعلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #194
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (194)
    صـ201 إلى صـ 215




    [ ص: 201 ] المسألة الحادية عشرة

    تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة ، ولم يقع هنالك تفصيل ، وقد ألف ابن السيد كتابا في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة ، وحصرها في ثمانية أسباب :

    أحدها : الاشتراك الواقع في الألفاظ ، واحتمالها للتأويلات ، وجعله ثلاثة أقسام :

    اشتراك في موضوع اللفظ المفرد; كالقرء ، وأو في آية الحرابة .

    واشتراك في أحواله العارضة في التصرف نحو : ولا يضار كاتب ولا شهيد [ البقرة : 282 ] .

    [ ص: 202 ] واشتراك من قبل التركيب ، نحو : والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] ، وما قتلوه يقينا [ النساء : 157 ] .

    والثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، وجعله ثلاثة أقسام :

    ما يرجع إلى اللفظ المفرد ، نحو حديث النزول ، [ ص: 203 ] و الله نور السماوات والأرض [ النور : 35 ] .

    [ ص: 204 ] وما يرجع إلى أحواله نحو : بل مكر الليل والنهار [ سبأ : 33 ] ولم يبين وجه **الخلاف .

    [ ص: 205 ] وما يرجع إلى جهة التركيب; كإيراد الممتنع بصورة الممكن ، ومنه [ ص: 206 ] " لئن قدر الله علي " الحديث ، وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره; كالأمر بصورة الخبر ، والمدح بصورة الذم ، والتكثير بصورة التقليل ، وعكسها .

    والثالث : دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط ، [ ص: 207 ] وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب .

    والرابع : دورانه بين العموم والخصوص ، نحو : لا إكراه في الدين [ البقرة : 256 ] [ ص: 208 ] وعلم آدم الأسماء كلها [ البقرة : 31 ] .

    والخامس : اختلاف الرواية ، وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها .

    والسادس : جهات الاجتهاد والقياس .

    والسابع : دعوى النسخ وعدمه .

    [ ص: 209 ] والثامن : ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها ، كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات .

    هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه ، ومن أراد التفصيل فعليه به ، ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها ، وبالله التوفيق .
    [ ص: 210 ] المسألة الثانية عشرة

    من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف ، وهو ضربان :

    أحدهما : ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة ، وقد تقدم التنبيه عليه .

    والثاني : ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك ، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة; فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر ، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد ، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل; فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ، وهكذا يتفق في شرح السنة ، وكذلك في فتاوى الأئمة ، وكلامهم في مسائل العلم ، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه; فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح .

    فإذا ثبت هذا; فلنقل الخلاف هنا أسباب :

    [ ص: 211 ] أحدها : أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا; فينصهما المفسرون على نصهما ، فيظن أنه خلاف ، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق ، وقيل : زنجبيل ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : شراب مزجوه بالماء; فهذا كله يشمله اللفظ; لأن الله من به عليهم ، ولذلك جاء في الحديث : الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ، ذكر الناس منها آحادا .

    والثاني : أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد; فيكون التفسير فيها على قول واحد ، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق ، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني ، وقيل : طير أحمر صفته كذا ، وقيل : طير بالهند أكبر من العصفور ، وكذلك قالوا في المن : شيء يسقط على الشجر فيؤكل ، وقيل : صمغة حلوة ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : مثل رب غليظ ، وقيل : عسل جامد; فمثل هذا يصح حمله على الموافقة ، وهو الظاهر فيها .

    [ ص: 212 ] والثالث : أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي ، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى ، وهما معا يرجعان إلى حكم واحد ; لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع ، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال ، كما قالوا في قوله تعالى : ومتاعا للمقوين [ الواقعة : 73 ] أي : المسافرين ، وقيل : النازلين بالأرض القواء وهي القفر ، وكذلك قوله : تصيبهم بما صنعوا قارعة [ الرعد : 31 ] أي : داهية تفجؤهم ، وقيل : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 213 ] والرابع : ألا يتوارد الخلاف على محل واحد ; كاختلافهم في أن المفهوم له عموم أو لا ، وذلك أنهم قالوا : لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به ، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به ، وهو مما لا يختلفون فيه أيضا ، وكثير من المسائل على هذا السبيل ، فلا يكون في المسألة خلاف ، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف .

    والخامس : يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم; كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد ، بناء على تغير الاجتهاد ، والرجوع عما أفتى به إلى خلافه; [ ص: 214 ] فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة; لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ، ونسخ له بالثاني ، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع ، والحق فيه ما ذكر أولا ، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ، ولا يصح فيها غير ذلك ، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر ، كما ذكر عن ابن عباس في المتعة ، وربا الفضل ، وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين ، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف .

    والسادس : أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ; كاختلاف القراء في وجوه القراءات ، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على [ ص: 215 ] إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات ، وليس في الحقيقة باختلاف; فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها .

    والسابع : أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح ، بل على توسيع المعاني خاصة; فهذا ليس بمستقر خلافا; إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه دون غيره ، وليس الكلام في مثل هذا .

    والثامن : أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد; فيحمله قوم على المجاز مثلا ، وقوم على الحقيقة ، والمطلوب أمر واحد ; كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما ، ومنهم من يحملهما على المجاز ، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ، ونظير هذا قول ذي الرمة :


    وظاهر لها من يابس الشخت


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #195
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (195)
    صـ216 إلى صـ 230




    وبائس الشخث وقد مر بيانه ، وقول ذي الرمة فيه : إن " بائس " و " يابس " واحد ، ومثل ذلك قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 20 ] 4 [ ص: 216 ] فقيل : كالنهار بيضاء لا شيء فيها ، وقيل : كالليل سوداء لا شيء فيها ، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان .

    والتاسع : أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه ، وتقع في غيرها كثيرا أيضا ، كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 217 ] والعاشر : الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد ، كما اختلفوا في الخبر ، هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة ، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب ؟ فهذا خلاف في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما .

    قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر ، أواجب هو ؟ إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به ، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة ، وإن لم يريدوا ذلك وقالوا : لا يحرم تركه ، ولا يجرح فاعله ، فوصفه [ ص: 218 ] بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه ، وما قاله حق ، فإن العبارات لا مشاحة فيها ، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم ، فلا اعتبار بالخلاف فيها .

    هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف ، يجب أن تكون على بال من المجتهد ، ليقيس عليها ما سواها ، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع .
    فصل

    وقد يقال : إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضا .

    وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا ، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين ، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه .

    [ ص: 219 ] أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا ؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله ، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي .

    أما الأول : فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين ، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده ، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ، ولوافق صاحبه فيه ، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني ، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد ، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا ، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أو قلنا بالتصويب ، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على [ ص: 220 ] قول غيره وإن كان مصيبا أيضا ، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا ، فالإصابة على قول المصوبة إضافية ، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار ، فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون .

    ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ، حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا ؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع ، فاختلاف الطرق غير مؤثر ، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة ، كرجل تقربه الصلاة ، وآخر تقربه الصيام ، وآخر تقربه الصدقة ، إلى غير ذلك من العبادات ، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود ، وإن اختلفوا في أصناف التوجه ، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ؛ ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم ؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى ، لا إلى تحري مقصد الشارع ، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها ، بل ليتعرف منها المقصد المتحد ، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح ، والله أعلم .
    [ ص: 221 ] فصل

    وبهذا يظهر أن الخلاف - الذي هو في الحقيقة خلاف - ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل ، وهو الصادر عن أهل الأهواء ، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها ، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق ، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى ، وذلك مخالفة الشرع ، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء ، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ، ولذلك سميت البدع ضلالات ، وجاء " إن كل بدعة ضلالة " ؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ، ودخول الأهواء في الأعمال خفي ، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع ، فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة .

    فإن قيل : هذا مشكل ، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول ، وفرعوا عليها الفروع ، واعتبروهم في [ ص: 222 ] الإجماع والاختلاف ، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم .

    فالجواب من وجهين :

    أحدهما : أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها ، بل إنما أتوا بها ليردوها ، ويبينوا فسادها ، كما أتوا بأقوالاليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها ، وذلك في علمي الأصول معا بين ، وما يتفرع عنها مبني عليها .

    والثاني : إذا سلم اعتدادهم بها ، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق ، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا ، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره ، فمثله لا يقال فيه : إنه متبع للهوى مطلقا ، بل هو متبع للشرع ، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة .

    وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد ، وهو اتباع الشريعة ، وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات ، حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية .

    وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ؛ ولهذا [ ص: 223 ] لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم .

    وأيضا ، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين ، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال ، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ، ومدارك الاجتهاد تختلف - لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم ، والاعتداد بتسطيرها ، والنظر فيها ، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه ، وإلا أدى إلى عدم الضبط ، ولهذا تقرير في كتاب الإجماع ، فلما اجتمعت هذه الأمور ، نقل خلافهم .

    وفي الحقيقة ، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة ، وإذا كان كذلك ، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة ، لصحتها واتحاد حكمها ، وجهة الاختلاف هم مخطئون فيها قطعا ، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف ، فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير .

    فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ، ولكن ما ذكر فيها كاف ، والله الموفق للصواب .
    [ ص: 224 ] المسألة الثالثة عشرة

    مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم ، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق .

    وبقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله ، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة :

    أحدها : أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ، والبحث عن أسبابه ، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل ، لكنه مجمل بعد ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا ، وربما لم يظهر بعد ، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة ، ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه ، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه ، مثبتا قدمه ، ورافعا وحشته ، ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم .

    فهذا الطالب حين بقائه هنا ، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ، ويعارضها وتعارضه ، طمعا في إدراك أصولها ، والاتصال بحكمها ومقاصدها ، ولم تتلخص له بعد - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه ؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه ، فاللازم له الكف والتقليد .

    [ ص: 225 ] والثاني : أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي ، بحيث يحصل له اليقين ، ولا يعارضه شك ، بل تصير الشكوك - إذا أوردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه ، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار ، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما ، وإن كان موجودا عنده ، فلا يبالي في القطع على المسائل ، أنص عليها أو على خلافها أم لا .

    فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة ، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا ؟ هذا محل نظر والتباس ، ومما يقع فيه الخلاف .

    [ ص: 226 ] وللمحتج للجواز أن يقول : إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس ، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت ، وصار بعضها عاضدا للبعض ، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب ، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة ، وعمدة النحلة ، ومنبع التكليف ، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا ، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة ، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة ، وقد فرضناه واصلا ، هذا خلف .

    ووجه ثان ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي ، حتى يبني عليه فتياه ، ويرد إليه حكم اجتهاده ، فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل ، وهو محال .

    ووجه ثالث ، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه ، فإن تكن في الحال [ ص: 227 ] غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي ، فهي حاكمة في الحقيقة ؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم ، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته ، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ، وهو المطلوب .

    وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه :

    - منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها ، وتعاضدت مراميها ، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ، ومسلكا منتظما ، لا يزل عنه من مواردها فرد ، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره ؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ، وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله .

    ومنها : أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل [ ص: 228 ] آخر كما في النكاح مثلا ، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه ، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه ، وكما في مال العبد ، وثمرة الشجرة ، والقرض ، والعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ، والمساقاة ، بل لكل باب ما يليق به ، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره ، وكما في الترخصات في العبادات ، والعادات ، وسائر الأحكام .

    وإذا كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات ، والحاجيات ، والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن ، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب ، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي ، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة ، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي ، وأنه هو مقصود الشارع ؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع .

    - ومنها : أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها ، وهي أفعال المكلفين ، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على [ ص: 229 ] الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم ، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع ، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة ، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد ، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد .

    وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال .

    ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة ، وأخذ بالنصوص على الإطلاق ، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة ، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير ، بل على مقتضى قوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] .

    [ ص: 230 ] فصاحب الرأي يقول : الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم ، وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا ، دل على ذلك الاستقراء ، فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا ؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر ، لكن على وجه كلي عام ، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام ؛ لأن دليله قطعي ، ودليل الخاص ظني ، فلا يتعارضان .

    والظاهري يقول : الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع ، لا على حسب أنظارهم ، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة ، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك ، واتباع المعاني رأي ، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر ؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة ، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي .

    فأصحاب الرأي جردوا المعاني ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات الألفاظ ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #196
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (196)
    صـ231 إلى صـ 240





    [ ص: 231 ] ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : وجدت في كتاب جدي : أتيت مكة ، فأصبت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فأتيت أبا حنيفة فقلت له : ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا ؟ قال : البيع باطل ، والشرط باطل ، وأتيت ابن أبي ليلى ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، وأتيت ابن شبرمة ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشتري بريرة ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما ، فقال : ما أدري ما قالاه ، حدثني مسعود بن حكيم ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : " اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فشرطت حملاني " فأجاز البيع والشرط . اهـ .

    [ ص: 232 ] فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ، ولم ير غيره من الجزئيات معارضا ، فاطرح الاعتماد عليه ، والله أعلم .

    والحال الثالث : أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية ، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر ، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين ، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها ، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا .

    وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها ، وحاصله أنه متمكن فيها ، حاكم لها ، غير مقهور فيها ، بخلاف ما قبلها ، فإن صاحبها محكوم عليه فيها ، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات ، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها ، وإن كانت محكوما [ ص: 233 ] عليها تحت نظره وقهره ، فهو صاحب التمكين والرسوخ ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد ، والتعرض للاستنباط ، وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة ، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه ، والله أعلم .

    ويسمى صاحب هذه المرتبة : الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ، والعالم ، والفقيه ، والعاقل ؛ لأنه يربى بصغار العلم قبل كباره ، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به ، وقد تحقق بالعلم ، وصار له كالوصف المجبول عليه ، وفهم عن الله مراده من شريعته .

    ومن خاصيته أمران :

    أحدهما : أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص ، بخلاف صاحب الرتبة الثانية ، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص .

    والثاني : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما ، وكان في مساقه كليا ، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل ، وفي مذهب مالك من ذلك كثير .
    [ ص: 234 ] المسألة الرابعة عشرة

    تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء ، والعام لجميع المكلفين ، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين ، ويبين جهة المأخذ في الطريقين .

    وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة ، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول ، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس بكل ما هو معروف في محاسن العادات ، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات ، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها ، فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ، ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به ، وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات ، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود ، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة ، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ، ومواساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة ، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ، ومراعاة حقوق الجوار ، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب ، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق ، والدفع بالتي هي أحسن ، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد .

    [ ص: 235 ] وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح ، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن .

    فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم ، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم ، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وبعد وفاته ، وفي زمان التابعين ، إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق ، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات تقتضي أحكاما خاصة ، أو بدرت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات ، وارتكاب الممنوعات ، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات ، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ؛ إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة ، فضلا عن غيرها ، كما لم تستقل بأصول العبادات ، وتفاصيل التقربات ، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره ، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ، ومال إليها طبعه ، وهي في نفسها على غير ذلك ، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها ، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر ، هذا إلى ما أمر الله به [ ص: 236 ] [ ص: 237 ] من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم ، وطولبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان : تارة بالقرآن ، وتارة بالسنة ، فتفصلت تلك المجملات المكية ، وتبينت تلك المحتملات ، وقيدت تلك المطلقات ، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا ، وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وليكون ذلك تماما [ ص: 238 ] لتلك الكليات المقدمة ، وبناء على تلك الأصول المحكمة ، فضلا من الله ونعمة .

    فالأصول الأول باقية ، لم تتبدل ولم تنسخ ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات ، وما لحق بها ، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات .

    وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية ، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس ، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين .

    وأما الأحكام المدنية ، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ، والرخص ، والتخفيفات ، وتقرير العقوبات - في الجزئيات لا الكليات ، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة - وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها ، ولذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا ، وتأكيدا فكملت جملة الشريعة - والحمد لله - بالأمرين ، وتمت واسطتها بالطرفين ، فقال الله تعالى عند ذلك : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .

    وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان [ ص: 239 ] التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة ، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم ، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم ، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة ، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل ، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى ، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة ، وتارة باللين ، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء ، وإياه تحروا .

    وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا ، فلم يفصلوا القول فيه ؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل ، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه ، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده ؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه ، وقد تشتبه فيه أمور ، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل ، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول ، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر .

    وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين ، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم [ ص: 240 ] بمقتضى تلك الأصول ، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف ، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات ، فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا ، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك ، فعاملوا ربهم في الجميع ، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير .

    ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها ، حتى صارت كالنسي المنسي ، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله ، وهو داخل تحت معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : بدأ هذا الدين غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #197
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (197)
    صـ241 إلى صـ 255




    [ ص: 241 ] فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة ، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء ، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه .
    فصل

    كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم ، فسبقوا غاية السبق حتى سموا " السابقين " بإطلاق ، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار ، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق ، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم ، فكانت المتممات أسهل عليهم ، فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقدارهم ، وجعلهم في الدين أئمة ، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه ، بل زادوا في الاجتهاد ، وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا .

    لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم ، وهم منها في سعة : والله يختص برحمته من يشاء [ البقرة : 105 ] .

    فعلى تقرير هذا الأصل ، من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت ، وعلى الأول جرى [ ص: 242 ] الصوفية الأول ، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ، ومن هاهنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة ، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ، ولا هي مما يلزمهم شرعا ، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم ، وتكلفوا ما لم يكلفوا ، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة .

    وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك ، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة ، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة ، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ، ونصوص التنزيل المكي المحكم الذي لم ينسخ ، وتنزيل أعمالهم عليه - تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء ، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر .

    فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم ، فقال : أما على مذهبنا فالكل لله ، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم ، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم ، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ، ولم يبين فيه الواجب من غيره ، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ، ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب ، والاحتياط في مثل هذا المبالغة في الإنفاق في سد الخلات ، وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق ، فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه [ ص: 243 ] مذهبا في تعبده ، وفاء بحق الخدمة ، وشكر النعمة ، وإسقاطا لحظوظ نفسه ، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض ، وأنه قال : لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] وقال : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 57 ] وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ونحو ذلك ، فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ، ومثله لا يقال في ملتزمه : إنه خارج عن الطريقة ، ولا متكلف في التعبد ، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات ، فصارت هي الواجبة انحتاما ، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها ، وبقي ما سواها على حكم الخيرة ، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا ، والإنفاق ندبا ، فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر ، والجميع محمودون ؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله ، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله .

    ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع ، بل يبقي بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه ، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا ، علما بـ " أن في المال حقا سوى الزكاة " وهو لا يتعين تحقيقا ، وإنما فيه الاجتهاد ، فلا يزال ناظرا في ذلك ، مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء ، [ ص: 244 ] متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه ، أو كالوكيل فيه لخلق الله ، سواء عليه أعد نفسه منهم أم لا .

    وهذا كان غالب أحوال الصحابة ، ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا الرأي أجري على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات ، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد .

    وأما من أبقى لنفسه حظا ، فلا حرج عليه ، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات ، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر ، فالصواب - والله أعلم - أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ، فيجوز لهم ذلك ، بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ، ولكن على نسبة القسمة ونحوها .

    فإن قيل : فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء ؟

    فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام ، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها ، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه ، فسقط له طلب الحظ لنفسه ، فساغ أن يفتي على حسب حاله ؛ لأنه يقول : هذه حالتي فاحملني على مقتضاها ، فلا بد أن يحمله على ما تقتضيه ، كما لو قال أحد للمفتي : إني عاهدت الله على ألا أمس فرجي بيميني ، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا ، وألا تمس يدي يد مشرك ، وما أشبه هذا ، فإنه عقد عقدا [ ص: 245 ] لله على فعل فضل ، وقد قال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

    ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله ، فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع .

    وفي الحديث : " إن خيرا لأحدكم ألا يسأل من أحد شيئا " فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه .

    وقال عثمان : ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى ؛ إذ عاهد الله ألا يمس مشركا ، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك ، الحديث كما وقع .

    [ ص: 246 ] غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية ، لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال ، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع ، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه ، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه ، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم ، لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ، ولا يقال : إن هذا خلاف ما صرح به الشارع ؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع ، لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ولم يلزمها أحدا ؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة ، فإنها لازمة ، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه .

    فإن قيل : فإذا كانت غير لازمة ، فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم ؟

    قيل : لم يفت بها على مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك ، وإنما يفتي بها ، وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله ، وأصل الإلزام معمول به شرعا ، وأصله النذر والوفاء بالوعد في [ ص: 247 ] التبرعات ، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم ، كالمتعة في الطلاق ، وحديث : لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره .

    وكان - عليه الصلاة والسلام - يعامل أصحابه بتلك الطريقة ، ويميل بهم إليها ، كحديث الأشعريين إذا أرملوا .

    وقوله : من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله .

    وقوله : من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير .

    [ ص: 248 ] وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه .

    وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى ألا ينفق على مسطح : ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية [ النور : 22 ] ، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه ، وقال : والله ليمرن به ولو على بطنك .

    [ ص: 249 ] إلى كثير من هذا الباب .

    وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه ، فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : أخت بشر الحافي ، فأجابها بترك الغزل بضوئها ، هذا معنى الحكاية دون لفظها .

    وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال : كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس - يعني العوام - ويقول : لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك ، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم ، هذا كلامه .

    وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير ، والله أعلم .
    [ ص: 250 ] [ ص: 251 ] الطرف الثاني

    فيما يتعلق بالمجتهد من الأحكام من جهة فتواه .

    والنظر فيه في مسائل :

    [ ص: 252 ] [ ص: 253 ] المسألة الأولى

    المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم .

    والدليل على ذلك أمور :

    أحدها : النقل الشرعي في الحديث : إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم .

    وفي الصحيح : بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ، وهو في معنى الميراث .

    [ ص: 254 ] وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نذيرا لقوله : إنما أنت نذير [ هود : 12 ] وقال في العلماء : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية [ التوبة : 122 ] ، وأشباه ذلك .

    والثاني : أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام ، لقوله : ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب .

    وقال : بلغوا عني ولو آية .

    وقال : " تسمعون ويسمع منكم ، ويسمع ممن يسمع منكم " .

    [ ص: 255 ] وإذا كان كذلك ، فهو معنى كونه قائما مقام النبي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #198
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (198)
    صـ256 إلى صـ 270


    والثالث : أن المفتي شارع من وجه ؛ لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها ، وإما مستنبط من المنقول ، فالأول يكون فيه مبلغا ، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام ، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع ، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع ، واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله ، وهذه هي الخلافة على [ ص: 256 ] التحقيق ، بل القسم الذي هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام ، وكلا الأمرين راجع إليه فيها ، فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : " أن من قرأ القرآن ، فقد أدرجت النبوة بين جنبيه " .

    [ ص: 257 ] وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر ، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

    فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر ، وهي :
    [ ص: 258 ] المسألة الثانية

    وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول ، والفعل والإقرار .

    فأما الفتوى بالقول فهو الأمر المشهور ، ولا كلام فيه .

    وأما بالفعل فمن وجهين :

    أحدهما : ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال ، فهو قائم مقام القول المصرح به ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا " وأشار بيديه .

    وسئل - عليه الصلاة والسلام - في حجته ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، فأومأ بيده ، قال : ولا حرج .

    [ ص: 259 ] وقال : يقبض العلم ، ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج . قيل : يا رسول الله : وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل .

    وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء ، قلت : آية ؟ فأشارت برأسها ، أي نعم .

    وحين سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أوقات الصلوات ، قال للسائل : صل معنا هذين اليومين . ثم صلى ، ثم قال له : الوقت ما بين هذين . [ ص: 260 ] أو كما قال ، وهو كثير جدا .

    والثاني : ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به ، ومبعوثا لذلك قصدا ، وأصله قول الله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] .

    وقال قبل ذلك : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ الأحزاب : 21 ] .

    وقال في إبراهيم : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم [ الممتحنة : 4 ] إلى آخر القصة .

    [ ص: 261 ] والتأسي : إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وشرع من قبلنا شرع لنا .

    وقال - عليه الصلاة والسلام - لأم سلمة : ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم .

    وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي و : خذوا عني مناسككم .

    وحديث ابن عمر وغيره في الاقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ، ولذلك [ ص: 262 ] جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله .

    وإذا كان كذلك ، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه ، لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا ، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر ، وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين :

    أحدهما : أنه وارث ، وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا ، فكذلك الوارث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله .

    والثاني : أن التأسي بالأفعال - بالنسبة إلى من يعظم في الناس - سر مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ، لا سيما عند الاعتياد والتكرار ، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به ، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس ، فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر ، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محلين :

    أحدهما : حين دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الخروج من الكفر إلى الإيمان ، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله ، فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء ، كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا [ لقمان : 21 ] [ ص: 263 ] وما أشبهه من الآيات .

    وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] .

    ثم كرر عليهم التحذير من ذلك ، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب ، وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم ، وأضيفت الملة المحمدية إليه ، فقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم ، وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها ، وتعمل بكثير منها ، فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي ، وهو من أبلغ ما دعوا به من جهة التلطف بالرفق ، ومقتضى الحكمة ، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] .

    وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] .

    فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان - عليه الصلاة والسلام - يدعو بها .

    وأيضا ، فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم ، فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي [ ص: 264 ] به ، فانقادوا ورجعوا إلى الحق .

    والمحل الثاني : حين دخلوا في الإسلام ، وعرفوا الحق ، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي - عليه الصلاة والسلام - ونواهيه ، فربما أمرهم بالأمر ، وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول ، وقضيته - عليه الصلاة والسلام - معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال لأم سلمة : أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون ؟ فقالت : اذبح واحلق ، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه .

    ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا ، واحتجوا بأنه يواصل ، فقال : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا ، وقال : لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم .

    وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما ، فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا .

    [ ص: 265 ] وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله ، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب ، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر ، والمعنى في الموضعين واحد .

    ولعل قائلا يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما ، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره ، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان ، فأفعاله لا يوثق بها ، فلا تكون مقتدى بها .

    فالجواب : أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي ، فليعتبر مثله في نصب أقواله ، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا ؛ لأنه ليس بمعصوم ، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال ، لم يكن معتبرا في الأفعال ، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان ، فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله ، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة .

    وأما الإقرار فراجع في المعنى إلى الفعل ؛ لأن الكف فعل ، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه ، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 266 ] المنتصب بالفتوى ، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ، ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه ، واستخفى بنفسه ، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار ، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما ، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه .
    [ ص: 267 ] المسألة الثالثة

    تنبني على ما قبلها ، وهي أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم ، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه ، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا .

    فأما فتياه بالقول ، فإذا جرت أقواله على غير المشروع فلا يوثق بما يفتي به ، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع ، وهذا من جملة أقواله ، فيمكن جريانها على غير المشروع ، فلا يوثق بها .

    وأما أفعاله ، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم ، لم يصح الاقتداء بها ، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح .

    وكذلك إقراره ؛ لأنه من جملة أفعاله .

    وأيضا ، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير ، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله ، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه ؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي .

    هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة .

    [ ص: 268 ] وأما على التفصيل ، فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني ، فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة ، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة ، وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه ، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة ، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه ، وإلا فلا .

    وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ، ومثلها النواهي ، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء ، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه ، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان ، أو عن الزنى وهو لا يزني ، أو عن التفحش وهو لا يتفحش ، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم ، وما أشبه ذلك ، فهو الصادق الفتيا ، والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله ، وإلا فلا ؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل ، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ، ولذلك قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

    وقال في ضده : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ، إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 - 77 ] .

    فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل ، وفي الكذب مخالفته .

    وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] .

    [ ص: 269 ] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة ، فإن وافق صدق ، وإن خالف كذب ، فالفتيا لا تصح مع المخالفة ، وإنما تصح مع الموافقة .

    وحسب الناظر من ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام ، حتى أنكر على من قال : يحل الله لرسوله ما شاء .

    وحين سأله الرجل عن أمر ، فقال : إني أفعله ، فقال له : إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، غضب - صلى الله عليه وسلم - وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

    وفي القرآن عن شعيب عليه السلام : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] .

    وقوله : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] .

    [ ص: 270 ] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول ، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا ، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله ، وعبادة غير الله : إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها ، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه ، وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر ، وأقرب صاد عن الاتباع ، فمن كان في رتبة الوراثة لهم ، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول .

    ولما نهى عن الربا قال : وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب .

    وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال : وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #199
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (199)
    صـ271 إلى صـ 285


    [ ص: 271 ] وقال حين شفع له في حد السرقة : والذي نفسي بيده ، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها .

    وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته ، وأن الناس في أحكام الله سواء .

    والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .

    وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول ، فقال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] .

    وقال : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف : 2 - 3 ] .

    [ ص: 272 ] عن جعفر بن برقان قال : سمعت ميمون بن مهران يقول : إن القاص المتكلم ينتظر المقت ، والمستمع ينتظر الرحمة ، قلت : أرأيت قول الله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] هو الرجل يقرظ نفسه ، فيقول : فعلت كذا وكذا من الخير ؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وإن كان فيه تقصير ؟ فقال : كلاهما .

    فإن قيل : إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقد قال العلماء : إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا ، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل ، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة ، فكذلك هنا ، ومثله الانتصاب للفتوى ، ومن الذي يوجد لا يزل ، ولا يضل ، ولا يخالف قوله فعله ، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة ؟

    نعم ، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب ، وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا .

    [ ص: 273 ] فالجواب : أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر ؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي ، فنحن نقول : واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق ، طابق قوله فعله أم لا ، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل ، وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا ، أو كان مظنة للحصول ؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ، وإن خالف فعله قوله ، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء ، وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله ، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم ، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف ، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات ، وهو في فعله على حسب فتواه لك - حصل تصديق قوله بفعله ، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ، ويخالط من نهاك عن مخالطتهم - فلم يصدق القول الفعل .

    هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله ، فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله ؛ لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة ، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال .

    [ ص: 274 ] فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ، ولا الفتوى على كمالها في الصحة ، إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق ، وقد قال أبو الأسود الدؤلي :


    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
    بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
    عار عليك إذا فعلت عظيم
    وهو معنى موافق للنقل والعقل ، لا خلاف فيه بين العقلاء .
    فصل

    فإن قيل : فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله ، هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا ؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ، ويعمل عليه أو لا .

    فالجواب : أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم ، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح ؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي ، هذا هو المطرد والغالب ، وما سواه كالمحفوظ النادر الذي لا يقوم منه أصل كلي بحال ، وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي ، فالفقه فيها ظاهر ، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته ، فلا يصح إلزامه ، [ ص: 275 ] إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه ، وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر ، إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته ، وجهته غير موثوق بها ، فيسقط الإلزام عن المستفتي ، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا ؟ يجري ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي : هل هو شرط في التكليف أم لا ؟ وذلك مقرر في كتب الأصول ، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح ، والعمل عليه مبرئ للذمة ، والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا .
    [ ص: 276 ] المسألة الرابعة

    المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .

    والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين .

    وأيضا ، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين ، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل .

    وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة : أفتان أنت يا معاذ ؟ .

    [ ص: 277 ] وقال : إن منكم منفرين .

    وقال : سددوا ، وقاربوا ، واغدوا ، وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا .

    وقال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

    وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه ، وإن قل .

    ورد عليهم الوصال ، وكثير من هذا .

    وأيضا ، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة ، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا ؛ لأن المستفتي إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذهب به مذهب [ ص: 278 ] الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى ، واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة .

    فصل

    فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط ، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا .

    وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد ، فلا يجعل بينهما وسطا ، وهذا غلط ، والوسط هو معظم الشريعة ، وأم الكتاب ، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك ، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي ، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه ، وحرج في حقه ، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى ، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة ، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة ، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها ، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى ، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف ، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ، ومخالف للهوى ، ولا على مطلق التشديد ، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره ، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه .
    [ ص: 279 ] فصل

    قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه ، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع ، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا ، وكان - عليه الصلاة والسلام - قدوة ، فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع ، كنهيه عن الوصال ، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم .

    وقد قال تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .

    وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين .

    [ ص: 280 ] وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل .

    وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

    ولهذا - والله أعلم - أخفى السلف الصالح أعمالهم ؛ لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره ، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه .
    فصل

    إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع ، وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع ، وأولى بالاعتبار ، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ، ولكن الترجيح فيها لا بد منه ؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم ، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد ، فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا : إنه بدعة حدثت بعد المائتين ، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي : لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة ، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع ، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله ، والله أعلم .
    [ ص: 281 ] الطرف الثالث

    فيما يتعلق بإعمال قول المجتهد المقتدى به ، وحكم الاقتداء به .

    ويحتوي على مسائل .

    [ ص: 282 ] [ ص: 283 ] المسألة الأولى

    إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة ، لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل ، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه : واتقوا الله ويعلمكم الله [ البقرة : 282 ] لا على ما يفهمه كثير من الناس ، بل على ما قرره الأئمة في صناعة النحو أي : إن الله يعلمكم [ ص: 284 ] على كل حال فاتقوه ، فكأن الثاني سبب في الأول ، فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا ، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، وهي قضية لا نزاع فيها ، فلا فائدة في التطويل فيها ، لكنها كالمقدمة لمعنى آخر ، وهي :
    [ ص: 285 ] المسألة الثانية

    وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه ، لأنه إسناد أمر إلى غير أهله ، والإجماع على عدم صحة مثل هذا ، بل لا يمكن في الواقع ؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه : أخبرني عما لا تدري ، وأنا أسند أمري لك فيما نحن في الجهل به على سواء ، مثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء ؛ إذ لو قال له : دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني ، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء - لعد من زمرة المجانين ، فالطريق الشرعي أولى ؛ لأنه هلاك أخروي ، وذلك هلاك دنيوي خاصة ، والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه ، غير أنا نقول بعده :

    إذا تعين عليه السؤال فحق عليه ألا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه ، فلا يخلو أن يتحد في ذلك النظر أو يتعدد ، فإن اتحد فلا إشكال ، وإن تعدد فالنظر في التخيير وفي الترجيح قد تكفل به أهل الأصول ، وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال ، أما إذا كان قد اطلع على فتاويهم قبل ذلك ، وأراد أن يأخذ بأحدها ، فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح ؛ لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى ، فلا سبيل إليه البتة ، وقد مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب ، فلا نعيده .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #200
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,973

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الخامس
    الحلقة (200)
    صـ286 إلى صـ 300



    [ ص: 286 ] المسألة الثالثة

    حيث يتعين الترجيح ، فله طريقان : أحدهما عام ، والآخر خاص .

    فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول ، إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ، ويحترز منه ، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم ، أو على أهلها القائلين بها ، مع أنهم يثبتون مذاهبهم ، ويعتدون بها ، ويراعونها ، ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى ، وهو غير لائق بمناصب المرجحين ، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة ، وما يليها من مذهب داود ونحوه ، فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها :

    أحدها : أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذي تفاوتا فيه ، وإلا فهو إبطال لأحدهما ، وإهمال لجانبه رأسا ، ومثل هذا لا يسمى ترجيحا ، وإذا كان كذلك ، فالخروج في ترجيح بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين - خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له ، وهذا ليس من شأن العلماء ، وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله ، والأئمة المذكورون برآء من ذلك فهذا النمط لا يليق بهم .

    [ ص: 287 ] والثاني : أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه ؛ لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ، ويظهر محاسنه ، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام المذهب ، وإن كان مرجوحا ، فكأن الترجيح لم يحصل .

    والثالث : أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا ، فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح من الجانبين ، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ، ومذاهبها ، وسائر ما يتعلق بها ، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه ، فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه ، فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث : إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فهذا من ذلك .

    وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع ، كقوله : لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .

    وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 288 ] والرابع : أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب ، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية [ آل عمران : 105 ] .

    وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقد مر تقرير هذا المعنى قبل ، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع ، فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع .

    ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب - وإن لم يصحح سنده - أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال له : إياك والشعر ، قال : لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه ، مأكلة عيالي ، ونملة على لساني ، قال : فشبب بأهلك ، وإياك وكل مدحة مجحفة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان ، امدح ولا تفضل ، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني .

    فإن صح هذا الخبر ، وإلا فمعناه صحيح ، فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا ، والعوائد شاهدة بذلك .

    والخامس : أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى [ ص: 289 ] التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم ، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة .

    قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل ، هذا ما قال ، وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية .

    [ ص: 290 ] وقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل : والذي اصطفى موسى على البشر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وقال : لا تفضلوا بين الأنبياء أو : " لا تفضلوني على موسى " مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالتفضيل أيضا ، فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد : لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم ، قال : وقد خرج الحديث على سبب ، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي ، فقد يكون - عليه الصلاة والسلام - خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حق موسى عليه السلام ، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق ، قال عياض : وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته ، لكن نهاه عن الخوض فيه ، والمجادلة به ؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى [ ص: 291 ] ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال ، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء ، فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك . هذا ما قال ، وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء ، فإنهم ورثة الأنبياء .
    فصل

    وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة ، فلا حرج فيه ، بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن ، أعني : عند الحاجة إليه ، وأصله من الكتاب قول الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية [ البقرة : 253 ] ، فبين أصل التفضيل ، ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل .

    وقال تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ الإسراء : 55 ] وفي الحديث من هذا كثير ، كقوله لما سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : أتقاهم ، فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فيوسف نبي الله ابن نبي الله [ ص: 292 ] ابن نبي الله ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .

    وقال - عليه الصلاة والسلام - : بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل ، فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه : بلى ، عبدنا خضر .

    وفي رواية : أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، قال له : بلى ، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث .

    [ ص: 293 ] واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين ، في قسم يقسم به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين . . إلى أن قال - عليه الصلاة والسلام - : لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق ، أو كان ممن استثنى الله وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء ، فإنه ينفخ في الصور " الحديث .

    فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل ، وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح ، وقال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [ ص: 294 ] وقال للذي قال له : يا خير البرية : " ذاك إبراهيم " .

    وقال في الحديث الآخر : " أنا سيد ولد آدم " .

    وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق ، وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين ، وإنما النظر في صحة التفضيل ، ومساغ الترجيح على الجملة ، وهو ثابت من الحديثين ، وقال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .

    وقال ابن عمر : " كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان " .

    [ ص: 295 ] وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة ، وهم عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك .

    وقال - صلى الله عليه وسلم - : خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، وفي كل دور الأنصار خير .

    وقال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح .

    [ ص: 296 ] وقال عبد الرحمن بن يزيد : سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأخذ عنه ، فقال : ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد .

    [ ص: 297 ] ولما حضر معاذا الوفاة ، قيل له : يا أبا عبد الرحمن أوصنا ، قال : أجلسوني ، قال : إن العلم والإيمان مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما - يقول ذلك ثلاث مرات - والتمسوا العلم عند أربعة رهط ، عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام . . الحديث .

    وقال - عليه الصلاة والسلام - : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر .

    [ ص: 298 ] وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير ؛ لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين ، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح ، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم ، والحكم المنبرم الذي لا يتعدى إلى سواه ، وكذلك فعل السلف الصالح .
    فصل

    وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم ، وعمروا بذلك دواوينهم ، وسودوا به قراطيسهم ، حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة ، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه ، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم ، فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا ، وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده ، بل أتى الوادي فطم على القرى ، فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء ، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال ، فنظموا فيه ونثروا ، وأخذوا في ترفيع محمد - عليه الصلاة والسلام - وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء ، ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها ، وهو خروج عن الحق ، وقد علمت السبب في قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تفضلوا بين الأنبياء وما قال الناس فيه ، فإياك والدخول في هذه المضايق ، ففيها الخروج عن الصراط المستقيم .

    وأما الترجيح الخاص ، فلنفرد له مسألة على حدة ، وهي :
    [ ص: 299 ] المسألة الرابعة

    وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين :

    أحدهما : من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند مقتضى فتواه ، فهو متصف بأوصاف العلم ، قائم معه مقام الامتثال التام ، حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال ، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ العلم من قوله ، وفعله ، وإقراره .

    فهذا القسم إذا وجد ، فهو أولى ممن ليس كذلك ، وهو القسم الثاني ، وإن كان في أهل العدالة مبرزا ، لوجهين :

    أحدهما : ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله ، فوعظه أبلغ ، وقوله أنفع ، وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ؛ لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه ، واستنارت كليته به ، وصار كلامه خارجا من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ، ومن كان بهذه الصفة ، فهو من الذين قال الله فيهم : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28 ] بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ ، حسبما حققته التجربة العادية .

    والثاني : أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول ، كما تقدم بيانه أيضا ، فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب ، وانقادت له بالطواعية النفوس ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام ، وإن كان فضله ودينه معلوما ، ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها ، فمن زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة ، وهو زاهد فيها ، وتارك لطلبها - فتزهيده أنفع [ ص: 300 ] من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها ، فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة ، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله .

    فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة ، فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله .

    والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي ، فإذا طابق فيهما فهو الكمال ، فإن تفاوت الأمر فيهما - أعني فيما عدا شروط العدالة - فالأرجح المطابقة في النواهي ، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على ألا يرتكب منهيا عنه ، لكنه في الأوامر ليس كذلك ، والآخر مثابر على ألا يخالف مأمورا به ، لكنه في النواهي على غير ذلك - فالأول أرجح في الاتباع من الثاني ؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات ، واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه :

    أحدها : أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •