تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1071 الى صـ 1077
الحلقة (193)
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 194 ] ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك أي : على تصديق رسلك والإيمان بهم . أو على ألسنة رسلك . وهو الثواب ، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم ، معطوف على ما قبله . وتكرير [ ص: 1071 ] النداء لما مر : ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه بإظهار أنهم ممن آمن معه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 195 ] فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب .
فاستجاب لهم ربهم أني أي : بأني : لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بيان لـ (عامل ) وتأكيد لعمومه : بعضكم من بعض أي : الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم . وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال ، فيما وعد الله عباده العاملين . وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : فاستجاب لهم ربهم الآية - وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا - ورواه الترمذي ، [ ص: 1072 ] والحاكم في ( مستدركه ) وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت : فاستجاب لهم ربهم إلى آخرها . وعن جعفر الصادق - رضي الله عنه - : من حزبه أمر ، فقال : خمس مرات ( ربنا ) - أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد . وقرأ الآيات .
فالذين هاجروا مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم، كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم من دار الفتنة : وأخرجوا من ديارهم أي : التي ولدوا فيها ونشأوا : وأوذوا في سبيلي أي : من أجله وبسببه، يريد سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين : وقاتلوا وقتلوا أي : غزوا المشركين واسـتشهدوا : لأكفرن عنهم سيئاتهم جملة قسمية، خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه، بعد ما وعد ذلك عموما : ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت قصورها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر : ثوابا من عند الله في موضع المصدر المؤكد لما قبله، فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة ، في معنى الإثابة . وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا . كما قيل :
إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ طـ جزيلا فإنه لا يبالي
والله عنده حسن الثواب أي : حسن الجزاء لمن عمل صالحا .
ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها، إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، بقوله :
[ ص: 1073 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[ 196 ] لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد أي : تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 197 ] متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد
متاع قليل أي : هو متاع قليل، لقصر مدته، وكونه بلغة فانية، ونعمة زائلة، فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين .
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « والله ! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع » .
ثم مأواهم جهنم أي : مصيرهم الذي إليه يأوون : وبئس المهاد أي : الفراش هي .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 198 ] لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نـزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نـزلا من عند الله بيان لكمال حسن حال المؤمنين، غب بيان وتكرير له، إثر تقرير ، مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم، ويزداد تبجحهم، ويتكامل به سوء حال الكفرة . والنزل ( بضمتين، وضم فسكون ) : المنزل، وما هيئ للنزيل أن ينزل عليه : وما [ ص: 1074 ] عند الله خير للأبرار أي : مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل . والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر، كما أنها من قبيل التقوى .
روى الشيخان - واللفظ للبخاري - عن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه [ ص: 1075 ] فبكيت ، فقال : « ما يبكيك » ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله ! فقال : « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة » ؟
وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من نفس برة ولا فاجرة، إلا الموت خير لها ، لئن كان برا، لقد قال الله تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ ص: 1076 ] وقرأ : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين
وروى ابن جرير عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : وما عند الله خير للأبرار ويقول : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم الآية . وأخرج نحوه رزين عن ابن عباس .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 199 ] وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق، وتحريف الكتاب وغير ذلك . بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي : مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي : لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودا أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا [ ص: 1077 ] من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا الآية، وقال تعالى : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال تعالى : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس . وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين
وهكذا قال هنا : أولئك لهم أجرهم عند ربهم