تأطير الخيال

ماهر غازي القسي


رُزِق الإنسان خيالًا واسعًا خصبًا، ففي الحياة قواعد وأسس وحدود، وأما الخيال فلا قواعد ولا أسس ولا حدود، وكلما كان عمر الإنسان صغيرًا كان خياله أوسع؛ لأنه قليل العلم، ضعيف الخبرة في الحياة، وبالضد كلما كبر الإنسان في عمره، زاد علمه واتسعت الأسس في عقله وفكره، ونضج عقله وزادت محدودية خياله.

ولكن لو تأملنا نعمة الخيال على الإنسان لرأينا العجب العجاب، ففي الخيال تنتج الصور البديعة، وتحل العقد المنيعة، ويطير الإنسان بلا أجنحة، يزور أحبابه، ويرسل أشواقه، بل وينتقم ممن ظلمه، ويجلس على عرش الدنيا مزدهيًا بملكه وحكمه وسلطانه.

ومن عجائب الخيال عند الأطفال تسمع الأسئلة المحيرة، وترى الأفكار النيرة، ونشاهد الحلول المبتكرة لمشاكلهم اليومية، فهم يربطون الأشياء بعضها ببعض بحيث لم يخطر على بالك من قبل، فليست كل فكرة من خيالهم باطلة، وليس كل خيال يُستهزأ به.

لذلك عندما سمعت من يقول إن أحاديث وحكايا جداتنا في الماضي كانت ترسم في مخيلاتنا عجائب الصور، ويسمع الطفل القصة فيرسم في مخيلته أشخاصها وأحداثها ومشاعرها، فهو المنتج والمخرج والممثل أيضًا لهذه القصة، وهذا ما يتيح للطفل أن يرسم صورًا بديعة يضعها في عقله وقلبه، ولك أن تتخيل ما هي الصور التي رسمت في عقول وأرواح أبنائنا عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إني سمعت أحدهم يقول من كثرة ما قرأت عن سيرة سيدنا عمر رسمت في مخيلتي عظمة ومكانة وقوة سيدنا عمر، فلما رأيت مسلسل عمر انهارت في مخيلتي العظمة التي رسمتها من قبل!

من هذا الخيال الخلاق تنبت الأفكار الجديدة، ويتم ربط الأفكار البعيدة برابط جديد، وتبتكر الطرق الحديثة في علاج أمور كانت عصية على الحل، أو كان لها حلول مكلفة، فيأتي الإنسان بخياله وأفكاره ليحل ما كان معقودًا ويفك ما كان مقيدًا.

ومن هنا درس الشعراء الصور البديعة في شعر بشار بن برد؛ لأنه وُلِد أعمى لا يرى، ودرسوا شعر غيره من الشعراء الذين وُلِدوا لا يبصرون، كيف لهم أن يرسموا في شعره صورًا بديعة وهم لم يروا ما يصفون، فانظر مثلًا إلى قول بشار بن برد وهو يصف الحرب وشدتها

كأن مثار النَّقْع فوق رؤوسنا
وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه




فهذا الوصف لا يتأتَّى إلا ممن عاين الحروب وخاض غمار المعارك حتى يستطيع أن يصف حال السيوف التي تلمع وهي تهوي في ساحة المعركة وسط الغبار المتراكم فوق الرؤوس بليل مظلم تتساقط كواكبه المنيرة.

فكان بشار بن برد مبدعًا بالوصف على الرغم من عَمَاه، وكان الوصف العامل الأساسي في شعره، من حيث التشكيل القائم على الصورة المنبعثة من الخيال، وهذا سر إبداع بشار بن برد في رسم الصورة الشعرية فتألقت بتراسُل الحواسِّ عنده[1].

وفي تعاضد الحواسِّ لرسم الصورة في شعر بشار، "حيث قام الخيال مقام البصر لما أدركه الشاعر من علاقات بين الأشياء، ثم يبدع بشار في صوغ الفكرة المتخيلة بأرق الألفاظ"[2]، يقول في ذلك:
يا قوم أُذُني لبعض الحيِّ عاشقةٌ
والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا


ونحن إذ نتكلم عن الشعر فالخيال عند الشاعر هو قدرته على تكوين صور ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحس، وفي بشار يقول الأصفهاني في الأغاني: يشبه الأشياء بعضها ببعض فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله"[3].

وفي محدودية الخيال للبصراء وسببها أن "العين وحركتها الغريزية تجعلها تركز كل انطباع حسي على الجزء المركزي من الشبكية، فتتشكل الصور البصرية التي يفسرها الدماغ، وهذا هو شأن عين الإنسان المبصر، ولكن بشارًا فاقد لهذه الحاسة فكيف استطاع أن يُكوِّن صورة بصرية تفوَّق بها على المبصرين؟ ذلك لأنه يتمتع بخيال إبداعي وذكاء قادرين على ربط العناصر المشتقة التي جمعها في حافظته من خلال ثقافته"[4].

فإذا تأملنا تأطير خيال أبنائنا بقصص مصورة، وملايين الصور والفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة علمنا وأدركنا حجم الكارثة التي نوقع أبناءنا فيها من خلال تحجيم خيالهم؛ لذلك إننا نشاهد يوميًّا من طلابنا وأبنائنا أفعالًا، وتأملات، وأماني تافهة، وساذجة.

من كل ما ذكرنا ما يدعوك إلى التأمل ومراجعة تربيتك لنفسك وأبنائك وطلابك، هل أنت على الطريق الصحيح، أما زلت تعتقد أنك على صواب كيف تترك أبناءك مع الهاتف والإنترنت حيث تكون الجريمة الأخلاقية والبنية الفكرية المشوهة، أضف إلى ذلك كله ما يلي:
أولًا: السجن اللغوي:
وهو ما يعبر عنه بكمية الكلمات التي نُعلِّمها لأبنائنا والتي يحفظونها في حياتهم اليومية، فإذا علمت أن اللهجة العامية التي نتكلم بها تحوي- على أحسن تقدير- عدد 3000 كلمة، وإذا أمعنت النظر في ندرة ما يحفظونه من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والأبيات الشعرية، علمت حينها معنى السجن اللغوي الذي نضع فيه أبناءنا.

ورُبَّ سائلٍ يسأل: وما أهمية اللغة وأهمية مفرداتها على التفكير والخيال؟ قلت لك: إن اللغة والمفردات اللغوية هي المادة الأساسية للتفكير، والخيال يعتمد على أمور كثيرة وأهمها المفردات اللغوية، فاللغة هي التي تزود العقل بالرموز والقوانين والمفردات التي تساعد في عملية التفكير، وتوجد الحلول للمشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته، ومن خلال اللغة يتطور الإنسان وينقل معلوماته إلى الأجيال التي تليه، ومن خلال اللغة يتحدث الإنسان عن مشاعره وأحاسيسه، وقد شاهدت سابقًا فيديو لدكتورة في إحدى الجامعات الأمريكية وهي تتحدث عن الطفل العربي وكيف يُتَّهم بأنه أقل ذكاء من الطفل الغربي، حيث قالت – ما معناه -: لو نظرنا إلى كمية المفردات التي يحفظها الطفل العربي في مقابل المفردات التي يحفظها الطفل الغربي لوجدنا البون شاسعًا - اللغة هي أساس التفكير - ولكن لو عدنا إلى الأطفال المسلمين في القرون السابقة حيث كان المسلمون حريصين على دينهم، فيبدأ الطفل بحفظ القرآن الكريم وأنت تعلم عدد المفردات الكثير التي يحفظها الطفل من خلال القرآن، ثم يبدأ بحفظ بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرِّج بعدها على الشعر وأنواعه فيحفظ منه ويقرأ كثيرًا منه، ويسمع في مجتمعه الكثير من المفردات ويعيش واقع المفردات في حياته فيفهمها وتغرس في مشاعره وأحاسيسه وفكره، كل هذا يكون المادة الأساسية في فكره، أما الطفل المسلم في واقعنا المعاصر فإنه بعيد عن القرآن وعن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يسمع الشعر، بل ويكرهه، ولا يتكلم العربية في حياته، بل يتكلم لهجته العامية البخيلة بمفرداتها؛ مما جعل فكره ضيقًا وخياله محدودًا.

ثانيًا: القصف الإلكتروني:
إننا نضع أبناءنا- ونزعم أننا مرغمون- أمام مختلف مواقع التواصل الاجتماعي التي تمارس القصف الإلكتروني اللحظي بمئات، بل بآلاف الصور والفيديوهات التي ساهمت في تحويل أبنائنا إلى أدوات للتلقي وليس عاملًا متفاعلًا بما يسمعه ويشاهده، وهذه الصور والفيديوهات تسجن المتلقي وتحبس أفكاره فلا تتيح له الأريحية في التفاعل مع الأفكار ورسم الصور التعبيرية في خياله.

ثالثًا: الزهد العلمي:
إن أبناءنا اليوم لديهم زهد واضح في طلب العلم، وهذا الأعم على حال أبنائنا، فنظرة واحدة إلى حال المدارس اليوم ترسم لك الصورة الواضحة عن الواقع العلمي لأبنائنا، وذلك بسبب امتلاء روحهم ونفوسهم بالتفاهات والسخافات، ولعدم جدوى العلم بنظرهم فهم يرون الفنانين واللاعبين والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرهم يستحوذون على الأموال والشهرة والإعلام، مما كان له الأثر الخطير في اعتقاداتهم بعدم جدوى العلم مع صعوبة ووعورة طريقه، سبَّب ذلك كله زهدًا في العلم.

رابعًا: القصص والبرامج الخيالية:
بل والأدهى من ذلك أننا نحشو خيالهم بقصص باطلة وصور خرافية وحقائق لا بل خرافات وأوهام وتشكيلات كلها لا تمتُّ للحقيقة والواقع بصلة، فالبرامج التي يشاهدها أبناؤنا تحتوي على شخصيات خرافية مثل (سبايدر مان وبات مان والرجل الأخضر) والأدهى والأنكى شخصيات الإنمي التي تبث الإلحاد والشذوذ وغير ذلك مما بات مشهورًا عند العامة والخاصة[5].

خامسًا: ضعف التركيز:
وهو نتيجة منطقية حتمية لمن انشغل قلبه وفكره بالضجة الصاخبة في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الفيديوهات، وهو أيضًا بسبب الهشاشة النفسية التي تتربى عليها أجيالنا، فليس لديهم طاقة تدفعهم للصبر الذي هو أساس عملية التركيز.

كل ما ذكرنا من عوامل ساهمت بشدة في تأطير خيال أبنائنا وجعلته محدودًا ضيقًا، مما كان له أثر بالغ في تفكيرهم وأهدافهم ونفوسهم، فلنتقِ الله في أبنائنا ولنعمل جاهدين على إخراجهم من قوقعتهم التي ساهمنا بوضعهم فيها من حيث لا نشعر أو من حيث أدركنا أننا ضعفاء أمام هذه الموجة، أو من حيث إنها تفيدهم ولو بوجه من الوجوه لكنها تضرهم بوجوه كثيرة حتى صرنا نخاف على دينهم، وأصبحنا نسمع كثيرًا عن إلحاد بعض الأبناء، أو إرادة انتحار بعضهم، أو ضعف رغبتهم في مواصلة الحياة؛ لأنهم يرونها صعبة وغير ممتعة، كل ذلك من نتائج ما ذكرنا وعوائده المنطقية.

نسأل الله السلامة والعافية لأبنائنا وأجيالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله.
============================== =====
[1] تشكيلات الصورة الشعرية عند بشار بن برد 53.

[2] تشكيلات الصورة الشعرية عند بشار بن برد 53

[3] الأغاني 3/142.

[4] تشكيلات الصورة الشعرية عند بشار بن برد 61

[5] راجع صفحات المواقع العلمية لتدرك خطورة برامج الإنمي على عقائد أبنائنا وقيمهم ومشاعرهم.