تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 38

الموضوع: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر



    الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات وأجلّ القُربات، شَرَعه سبحانه إتماماً لدينه وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوبه على المستطيع في العمر مرّة واحدة

    الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات، وأجلّ القُربات، شَرَعه -سبحانه- إتماماً لدينه، وشرع معه العُمرة، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إلى جانب فريضة الحَج، في قوله -تعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوب الحج على المستطيع في العمر مرّة واحدة.
    فأما الكتاب: فقوله -سبحانه-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران:97)، وأما السُّنة: فقد ثبتَ ذلك في أحاديث كثيرة منها: حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنْ مُحمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصَوم رمضان، وحَج البيت مَنْ اسْتطاع إليه سبيلاً». متفق عليه. ونقل الإجْماع على الوجوب: الإمام ابن المنذر وابن قدامة وغيرهم. وأما العُمرة: فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حُكمها، والصحيح: أنّها واجبة على مَنْ يجبُ عليه الحَج، لعدد مِنَ الأدلة، منْها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: «قلتُ يا رسول الله: على النّساء جِهاد؟ قال: «نعم، عليهنّ جهادٌ لا قتالَ فيه، الحجُّ والعُمرة». رواه أحمد. كما وقع الخَلاف أيضاً بينهم: في وجُوب الحجّ على المُسْتطيع فوراً أم على التّراخي؟ والأكثر على أنّه يجبُ على الفَور، فلا يَجوز للعبد تأخيره إذا كان مُستطيعاً؛ لأمر الله -تعالى- به في قوله: {وأتمّوا الحجَّ والعُمْرة لله} (البقرة 196)، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97)، والأصْل في الأوامر أنْ يقوم بها المكلف فوراً.
    شُروط وجُوب الحج
    الحج لا يكون واجبًا على المُكَلَّف إلا إذا توافرت فيه شُروط معينه، وتُسمى هذه الشّروط «شُروط الوجُوب» فإذا توفرت هذه الشّروط كان الحج واجبًا على المُكَلَّف، وإلا فلا يجب عليه، وهذه الشروط هي:
    أولا: الإسْلام
    فغير المُسْلم لا يصحّ منه الحجّ ولو أتى به، لقوله -تعالى-: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} (التوبة:54)؛ فالإسلام شرطٌ لصحة كل عبادة، وشرط لوجوبها.
    ثانيا: التكليف
    وهو أنّ يكون المُسلم بالغاً عاقلاً، فالصّغير لا يجبُ عليه الحج؛ لأنّه غير مكلّف، لكن لو حج صحّ منه، ولا يجزئه ذلك عن حجّة الإسْلام، فيلزمه أن يحج مرة أخرى بعد بلوغه، أما المجنون فلا يجب عليه الحج ولا يصح منه؛ لأن الحج لا بد فيه من نيةٍ وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.
    ثالثاً: الحُرّية
    فلا يجبُ الحجّ على العبد المملوك؛ لأنّه غير مستطيع، لكن لو حج صحّ منه، ويلزمه أنْ يحجّ حجّة الإسلام إذا أُعْتق.
    رابعاً: الاسْتطاعة
    والاستطاعة تكون في المال والبدن، بأن يكونَ عنده مالٌ يتمكن به منَ الحَجّ، ويكون أيضاً صحيح البدن، غير عاجز عن أداء المناسك، فإنْ كان المكلف غير قادرٍ لا ببدنه ولا بماله، ففي هذه الحال لا يجب الحج عليه، لعدم تحقق شرط الاستطاعة، وإنْ كان قادراً بماله غير قادر ببدنه، فيلزمه أنْ ينيب مَنْ يحجّ عنه، ولا يلزم المُكَلَّف الاسْتدانة لأجلِ الحج، كما لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يَصير مستطيعاً بذلك.
    خامساً: وجُود المحرم للمرأة
    فمن الاستطاعة أنْ يكون للمرأة مَحْرَم يسافر معها، فمَن لمْ تَجد المَحْرم فالحجّ غير واجبٍ عليها، وذلك لمنع الشّرع لها منَ السّفر مِنْ غير مَحْرم، وسيأتي مزيد من التفصيل لهذه الأحْكام، خلال شرحنا لأحاديث: كتاب الحجّ، من (مُختَصَر صَحيح مُسْلم) للحافظ المنذري -رحمهما الله تعالى.
    باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، واخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». الحديث الأول: رواه مسلم في كتاب الحج (2/975) باب: فرض الحجّ مرّة في العُمر. في هذا الحَديثِ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ - -: «خطَب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ»، أي: قامَ فيهم خَطيباً، فقال: «إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قد فرَض عليكم الحَجَّ»، أي: أوجَب عليكم الحجَّ، والتَّوجُّهَ إلى بَيتِه الحرامِ، والطَّوافَ حولَه، والإتيانِ بكلِّ الأركانِ بحسَبِ ما أوضَحه الشَّارعُ.
    قوله: «فقال رجُلٌ: في كلِّ عامٍ؟»
    أي: هل فرَض اللهُ الحجَّ علينا في كلِّ عامٍ؟ «فسَكَت عنه»، أي: لم يَرُدَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسكَتَ إعْراضاً عن هذا السُّؤالِ الَّذي فيه تَشديدٌ، «حتَّى أعادَه ثلاثًا»، أي: حتَّى أعادَ الرَّجلُ سُؤالَه ثلاثَ مرَّاتٍ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعَمْ، لوَجَبَت، ولو وجبَت ما قُمتُمْ بها»، أي: لو أجَبْتُك بقولِ: «نعَمْ» لأصبَح الأمرُ فَرضاً واجباً لازماً أنْ يَحُجَّ المُسلِمُ كلَّ عامٍ، وهذا فيه مِن المشقَّةِ والتَّعسيرِ، ما يُخالِفُ نهْجَ الإسْلامِ في التَّيسيرِ.
    ظاهرُ الحديثِ
    وظاهرُ هذا الحديثِ: يَقتَضي أنَّ أمْرَ افتِراضِ الحجِّ كلَّ عامٍ كان مُفوَّضًا إليه حتَّى لو قال: نعَمْ لحصَل، وليس بمُستبعَدٍ أن يَأمُرَ اللهُ -تعالى- بالإطلاقِ ويُفوِّضَ أمْرَ التَّقييدِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك قال النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- للرَّجُلِ: «ذَروني ما تَرَكتُكم»، أي: اترُكوني واترُكوا سُؤالي إذا تُرِكتُم وتَرَكتُ الرَّدَّ علَيكم، وهذا كان إشارةً إلى كَراهةِ السُّؤالِ في النُّصوصِ المطلَقةِ والتَّفتيشِ عن قُيودِها، بل يَنبَغي العمَلُ بإطلاقِها قدْرَ الاستطاعةِ حتَّى يَظهَرَ فيها قَيدٌ؛ «فإنَّما هلَك مَن كان قَبْلَكم بكثرةِ سُؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم»، أي: هلَكوا بكثرةِ الأسئلةِ فيما لا يُفيدُ ممَّا تتَرتَّب عليه فرْضُ أمورٍ شاقَّةٍ وصعبةٍ عليهم، ولم يَستَطيعوا أداءَها فهلَكوا بالعِصيانِ.
    لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها
    قوله: «فإذا أمَرتُكم بالشَّيءِ فخُذوا به ما استَطَعتُم»، أي: افعَلوا مِن الأوامرِ ما تَستَطيعونه دُونَ مشَقَّةٍ ولا تَفريطٍ، فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها، «وإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه»، أي: إنَّ النَّواهيَ الَّتي أنهاكم عنها وأُبلِّغُكم عن اللهِ بها فابتَعِدوا عنها تمامًا ولا تَقْرَبوها، وهذا بمعنى ما في قولِه -تعالى-: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، وهذا تَوجيهٌ وتَربيةٌ نبويَّةٌ للمُسلمين على طاعةِ اللهِ ورسولِه قدْرَ الاستطاعةِ، والانتهاءِ عمَّا نَهى اللهُ عنه، مع عدَمِ التَّنطُّعِ في الدِّينِ، وكثرةِ التَّشدُّقِ مع تَشقيقِ الكلامِ فيما لا يُفيدُ، والنَّهي عن كَثرةِ السُّؤالِ عمَّا لم يقَعْ، وقد ورَد في الصَّحيحَيْن عن عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ عن أبيه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أعظَمَ المسْلِمينَ في المسْلِمين جُرْماً، مَنْ سَأل عَن شَيءٍ لم يُحرَّمْ على المسْلِمين، فحُرِّم عَليهِم مِن أَجْلِ مَسْأَلتِه». وكذلك مَن سأَل عن أمرٍ فنزَل التَّشديدُ فيه مِن أجْلِ مَسألتِه، وليس في هذا مَنعٌ للسُّؤالِ، وإنَّما هو تَوجيهٌ للتَّوقُّفِ عندَ أوامرِ اللهِ ونَواهيه. قال النووي -رحمه الله- في قوله: «... وإذا نَهيتكم عن شيءٍ فدَعوه» هذا الرجل السائل هو «الأقرع بن حابس» كذا جاء مُبيناً في غير هذه الرواية، واختلف الأصوليون في أنّ الأمر: هل يقتضي التّكرار؟ والصّحيح عند أصحابنا لا يقتضيه. والثاني: يقتضيه. والثالث: يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدلُّ به مَنْ يقول بالتوقف؛ لأنّه سأل فقال: أكلّ عام؟ ولو كان مُطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لمْ يَسْأل، ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة إلى السّؤال، بل مطلقه محمول على كذا، وقد يجيب الآخرون عنه: بأنه سأل استظهاراً واحتياطاً.
    قوله: «ذَرُوني ما تركتكم»
    وقوله: «ذَرُوني ما تركتكم» ظاهر في أنّه لا يقتضي التكرار، قال الماوردي: ويحتمل أنه إنّما احتمل التّكرار عنده منْ وجْه آخر؛ لأنّ الحج في اللغة: قصد فيه تكرّر، فاحتمل عنده التّكرار منْ جِهة الاشتقاق، لا منْ مُطلق الأمر، قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ههنا مَنْ قال بإيجاب العمرة، وقال: لمّا كان قوله -تعالى-: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 97) يقتضي تكرار قصد البيت بحُكم اللغة والاشْتقاق، وقد أجْمعوا على أنّ الحج لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخْرى إلى البيت تقتضي كونها عُمرة؛ لأنّه لا يجب قصده لغير حجٍ وعمرة بأصل الشرع. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعم لوجبت». ففيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أنْ يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعلّه أوْحي إليه ذلك. والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذرُوني ما تَركتكم» دليل على أنّ الأصل عدم الوجوب، وأنّه لا حُكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين، لقوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء).
    من قواعد الإسلام المهمة
    قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما اسْتطعتم» هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ؛ وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك، وهذا الحديث موافق لقول الله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}، وأما قوله -تعالى-: {اتقوا الله حق تقاته} ففيها مذهبان أحدهما: أنها منسوخة بقوله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}. والثاني: وهو الصحيح أو الصواب، وبه جزم المحققون أنها: ليست منسوخة، بل قوله -تعالى-: {فاتقوا الله ما استطعتم} مفسرة لها ومبينة للمراد بها، قالوا: {وحق تقاته} هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر -سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع، قال الله -تعالى-: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وقال -تعالى-: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والله أعلم. «شرح النووي». وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهيتكم عن شيء فَدَعُوه» فهو على إطْلاقه، فإنْ وُجِد عذرٌ يُبيحه كأكلِ المَيتة عند الضَّرُورة، أو شرب الخَمْر عند الإكْراه، أو التلفّظ بكلمة الكُفْر إذا أكْره، ونحو ذلك، فهذا ليسَ مَنْهياً عنه في هذا الحال. والله أعلم.
    فوائد الحديث
    - الحجّ فريضة منْ فرائض الإسْلام، وأنّه لا يجبُ في العُمر إلا مرةً واحدة بأصل الشّرع، وقد يجب زيادة ذلك بالنذر، وقد أجْمعت الأمّة على ذلك. - أمَر الشَّرعُ بفِعلِ ما في الاسْتطاعةِ، والاجتنابِ التَّامِّ للنواهي الشرعيَّةِ، وأمَرَ بالوقوفِ عندَ توجيهاتِ اللهِ ورَسولِه، وعدَمِ تَخطِّيها بالتكلف والزّيادة.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ثوابُ الحَجّ والعُمْرة



    جعَلَ اللهُ عزَّوجلَّ الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ
    فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ
    الحجّ المُستوفي لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، والْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». في الباب حديثان: رواهما مسلم في الحج (2/983) باب: في فَضْل الحَجّ والعُمرة ويوم عرفة.
    في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفضْلِ عِبادةِ العُمْرةِ والحجِّ، أمَّا العُمرةُ فقالَ فيها - صلى الله عليه وسلم -: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كَفَّارةٌ لِما بيْنَهما» أي: مَن اعتَمَر عُمَرتَينِ، كانَتِ العُمرتانِ سَببًا في تَكفيرِ ما بيْنَهما مِن الصَّغائرِ، وعدَمِ المُؤاخَذةِ بها يومَ القِيامةِ. والعُمرةُ هي: التعبُّدُ للهِ -تعالى- بالإحْرامِ مِن الميقاتِ والطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بيْن الصَّفا والمَرْوةِ، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ، أمَّا الحجُّ فإنَّه قَصْدُ المشاعِرِ المقدَّسةِ بمكة وما حولها، لأداءِ المناسكِ وقْتٍ مَخصوصٍ، تَعبُّدًا للهِ -عزَّ وجلَّ.
    الحج المبرور ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ
    ثمَّ أخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحجَّ المبرورَ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ، قال العُلماء: والحج المبرور له خمسة أوصاف: الأول: أن يكون خالصاً لله -تعالى-، لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ففي صحيح مسلم: من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال الله -تعالى-: «أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَنْ عمِلَ عملًا أشْركَ فيه معي غيري، تَركتُه وشِرْكه».
    والثاني: أنْ تكونَ نفقته منْ حلال، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً». رواه مسلم.
    والثالث: البُعد عن المعاصي والآثام، كالجِماع ودواعيه، والفُسُوق والجدال المذموم، والبدع والخرافات وغيرها، قال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197).
    والرابع: حُسْنُ الخُلق ولين الجانب مع الرّفقة، وعلى هذا كان حجّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع الجَمع الغفير، وكذلك كان الصّحابة والسلف.
    والخامس: تعظيمُ شعائر الله -تعالى-، وهي المناسك كلّها، كالطّواف بالبيت، والصّفا والمروة، وعرفة ومِنى وغيرها، قال -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)، فيُعظِّم المشاعر، ويملؤها بذكر الله -تعالى- والخُضوع والتذلل له.
    الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم
    وكذا الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج كلها، قال ابن عبد البر -رحمه الله- في صفة الحج المبرور-: «هو الذي لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ولا رَفث، ولا فُسُوق، ويكون بمَالٍ حلال». انظر «التمهيد» {22/ 39}.
    من فوائد الحديث
    1- الحديث دليلٌ على فضل الإكثار منَ العمرة؛ لِما في ذلك من تكفير للذنوب، وجمهور العلماء على أن التكفير يقع على الصّغائر دون الكبائر، وأن الكبائر لا بد لها من توبة. 2- الحديث دليلٌ على جواز تكْرار العُمرة في السّنَة مرّتين أو أكثر، خلافًا لمن كره ذلك كالإمام مالك، وبعض السلف كإبراهيم النخعي والحسن البصري، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وذلك أنّ حديث الباب يقتضي الفرق بين العمرة والحج؛ إذْ لو كانت العمرة لا تفعل إلا مرةً واحدة في السّنة، لكانت كالحج، ولقيل: «الحجّ إلى الحج»، فلما قال: «العُمْرة إلى العُمْرة»، دلَّ على ذلك على تكرارها، وأنّها ليستْ كالحج. وأيضاً: العُمرة وقتها مطلق في جميع العام، وليست كالحجّ مقيد بوقتٍ لا يكون إلا مرّةً بالسّنة، وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، في مجموع فتاوى ابن تيمية (26 / 268 - 269)، وانظر: (بداية المجتهد2 / 231 ). 3- الحديث دليل على فضل الحج المبرور وأنّ جزاءه الجنة. 4- الترغيبُ في الاستِكثارِ مِن الاعتِمارِ. 5- جعَلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ، ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ، ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ.
    الحديث الثاني
    يُبيِّنُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثاني أنَّ مَن حَجَّ للهِ مُبتغيًا وجْهَه بلا رِياءٍ ولا سُمعةٍ، فلَم يَرفُث، بمعنى: فلم يَفعَلْ شَيئًا مِن الجِماعِ أو مُقدِّماتِه، وقيل: الرَّفَثُ اسمٌ للفُحشِ مِنَ القولِ، ولَم يَفسُقْ، أي: ولَم يَرتكِبْ إثماً أو مُخالَفةً شَرعيَّةً -صَغيرةً أو كَبيرةً- تُخرِجُه عَن طاعةِ اللهِ -تعالى-، وإنَّما صرَّحَ بنَفْيِ الفِسقِ في الحجِّ، مع كَونِه مَمنوعًا في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ حِينٍ، لزِيادةِ التَّقبيحِ والتَّشنيعِ، ولزِيادةِ تَأكيدِ النَّهيِ عنه في الحجِّ، وللتَّنبيهِ على أنَّ الحجَّ أبعَدُ الأعمالِ عن الفِسقِ.
    فمَن فَعَلَ ذلك، عادَ بعدَ حَجِّه نَقيًّا مِن خَطاياهُ، كما يَخرُجُ المولودُ مِن بطْنِ أُمِّه، أو كأنَّه خَرَجَ حِيَنئذٍ مِن بَطْنِ أُمِّه، ليس عليه خَطيئةٌ ولا ذَنْبٌ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه: أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب، وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر. قاله الحافظ، وإليه ذهب القرطبي والقاضي عياض، وقال الترمذي: هو مخصوصٌ بالمعاصي المتعلقة بحقّ اللّه لا العباد، قاله المناوي في (فيض القدير). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ حجَّ فلمْ يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»: أنّ الإنسان إذا حجّ واجتنب ما حرّم الله عليه من الرفث، وهو إتيان النساء، والفُسُوق وهو مخالفة الطّاعة، فلا يترك ما أوجب الله عليه، ولا يفعل أيضاً ما حرّم الله عليه، فإن خالف فهذا هو الفُسوق؛ فإذا حجّ الإنسانُ ولمْ يَفْسق ولمْ يرفث، فإنّه يَخْرج منْ ذلك نقيا منَ الذُّنوب، كما أنّ الإنسان إذا خَرَج منْ بطن أمّه، فإنّه لا ذَنْب عليه، فكذلك هذا الرجل إذا حجّ بهذا الشرط، فإنّه يكون نقيا مِنْ ذُنُوبه». (فتاوى ابن عثيمين 21/20).
    من فوائد الحديث
    1- بَيانُ فضْلِ الحجِّ، وأنَّ الحجَّ المُستوفيَ لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ، إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ. 2- فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ، وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وقد وَعَدَ اللهُ -تعالى- مَن أدَّاها بحقِّها بأعظَمِ الجَزاءِ.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب : في يوم الحجّ الأكبر



    الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر في الحج والمساجد والأسواق وغيرها
    في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما ثمّ لأبي هريرة رضي الله عنه
    مَوسِم الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم- قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. رواه مسلم في الحج (2/982) باب: لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، وبيان يوم الحجّ الأكبر.
    يُخبر أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنّ أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - بعثه فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيها رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم-، أي: الحجة التي جعله فيها أميراً ليحجّ بالناس، وذلك سنة تسع من الهجرة، وهي قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ التي حجّها رسول الله - صلى الله عله وسلم-، «فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ» الرهط من الرّجال: ما دون العشرة، لا يكون فيهم امرأة، والرّهط لا واحد له من لفظه، «يؤذنون» أي: يُعلمون الناس، فالمراد هنا الأذان اللغوي وهو الإعلام. وجاء أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عله وسلم- بعث عليَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - بعْدَ أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - يَقرَأُ على النَّاسِ سُورةَ بَراءةَ، لِيَنْقُضَ عهْدَ المشركينَ، و(بَراءة) هي سُورةُ التَّوبةِ، وأنْ يُناديَ أيضًا بمِثلِ ما بُعِثَ به أبو بَكرٍ - رضي الله عنه -، فأذَّن عليٌّ - رضي الله عنه - معهم يومَ النحرِ بسُورةِ براءة، وبمِثْلِ ما أذَّنَ أبو هُرَيرةَ وأصحابُه بأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ. و«يوم النّحر» هو اليوم العاشر من ذي الحجّة.
    فوائد الحديث
    في الحديث فوائد عدة نذكر منها ما يلي:
    الفائدة الأولى
    كان المُشْركون يَحُجُّونَ كلَّ سَنةٍ، وكان بعضُهم يَطوفُ بِالبيتِ عُريانًا، فلمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ أمَرَ نَبِيَّه أنْ يَمْنَعَ كُلَّ أفْعالِ الجاهِلِيَّةِ حَوْلَ البَيْتِ، وأنْ يُعْلِنَ البَراءَةَ مِنَ الشِّرْكِ والمُشرِكينَ، وقد أمَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عله وسلم- أبا بكرٍ - رضي الله عنه - على الحجَّاجِ في العامِ التاسِعِ من الهِجرةِ، وهي الحجَّةُ الَّتي قبْلَ حجَّتِه - صلى الله عله وسلم-، وأمره أن يُعلِنَ في النَّاسِ هذه المبادئَ الإسلاميّة.
    الفائدة الثانية
    الحديثُ فيه دلالة على النّهي عن الطّواف بالبيت عُريانًا، وإبْطال ما كان عليه أهلُ الجاهلية مِنَ الطّواف عراةً، قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، فأنزلَ الله -تعالى-: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، (الأعراف: 28). قال الحافظ ابن كثير: كانت العرب- ما عدا قُريشاً- لا يطُوفُون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنّهم: لا يَطُوفُون في ثيابٍ عَصَوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحُمس- يطوفون في ثيابهم، ومَنْ أعَاره أحْمسي ثوباً، طافَ فيه، ومَنْ معه ثوبٌ جديد، طافَ فيه ثمّ يُلقيه فلا يتملّكه أحَد، فمَنْ لمْ يجدْ ثوباً جديداً ولا أعَاره أحْمسي ثوباً، طاف عرياناً. قال: وأكثر ما كانَ النساءُ يَطفن عُراةً بالليل. وكان هذا شيئًا قد ابْتدعوه مِنْ تلقاء أنفسِهم، واتّبعوا فيه آباءهم، ويَعتقدُون أنّ فعل آبائهم مُسْتندٌ إلى أمرٍ مِنَ الله وشَرْع؛ فأنكرَ اللهُ -تعالى- عليهم ذلك، فقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فقال -تعالى- ردّاً عليهم: {قلْ} أي: قلْ يا محمد، لمَن ادّعى ذلك: {إنّ الله لا يأمرُ بالفَحْشاء} أي: هذا الذي تَصْنعُونه فاحشةٌ مُنْكرة، واللهُ لا يأمرُ بمثلِ ذلك؟ {أتقُولُون على اللهِ ما لا تعلمون} أي: أتُسْندُون إلى الله مِنَ الأقوال، ما لا تعلمون صحته؟! انتهى. واستدلّ بالآية والحديث، مَنْ قال: إنّ الطواف يُشْترط له سَتْر العَورة، وبه قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله وغيرهم، وهو القولُ الصّحيح. ولأنّ الطواف بالبيت صلاة، كما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عله وسلم- قال: «الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ». أخرجه الترمذي (960) واللفظ له، والدارمي (1847)، وابن حبان (3836). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)(960)، فلا شكّ أنّ الطّواف عُرياناً لا يجوز شَرعاً، بل ولا مُروءة وخُلُقاً وأدَباً مع أعظم المساجد في الأرْض، وأبلغها حُرمة عند الله -تعالى.
    الفائدة الثالثة
    الحديثُ فيه دليل على أنّه يجبُ تَطهير الحَرم من كلّ شِرْكٍ ومُشرك، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28)، فيَحرُم إدخالُ المُشْرك الحَرمَ. قال النووي -رحمه الله-: «فلا يُمكَّن مُشركٌ من دُخُول الحَرَم بحال، حتى لو جَاء في رسالةٍ أو أمْرٍ مُهم، لا يُمكَّن مِنْ الدُّخُول، بل يَخرُج إليه مَن يَقْضي الأمر المُتعلّق به، ولو دَخل خُفيةً ومرِضَ ومات، نُبشَ وأُخْرج مِنَ الحَرم». (شرح النووي لمسلم) حديث ( 1347). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «لا يَحجُّ بعد العام مُشْرك» ويدخل في ذلك غير المُشْرك أيضاً، فإذا كان هناك إنْسانٌ كافر، فإنّه لا يحلّ له الحج، وبناءً على ذلك، فإنّ مَنْ لا يُصلّي لا يحلّ له أنْ يحج، ولو حجَّ لم يُقبل منه، فيكون آثِماً، ولعلّ هذا يكون تذكرة لأولئك الذين ابتُلوا بترك الصلاة، حتى يُصلُّوا، ليَتَمكّنُوا مِنَ الحَج». انظر شرحه للبخاري (5/332).
    الفائدة الرابعة
    الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر، في الحج والمساجد والأسواق وغيرها؛ ففي هذا الحَديثِ، يُخبِرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قد أرسل جماعةً -منهم أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يومَ النَّحرِ -ويومُ النَّحرِ هو يومُ عيدِ الأضْحى، وهو اليومُ العاشِرُ من ذي الحجة- يُعلِمونَ النَّاسَ، ويُنادونَ فيهم: ألَّا يَقرَبَ البيتَ الحرامَ بعْدَ هذا اليومِ مُشرِكٌ، وألَّا يَطوفَ بِالبيتِ عُريانٌ. وكان صَدْرُ سُورةِ التوبةِ قد أُنزِلَ على النَّبيِّ - صلى الله عله وسلم- بعد خروجِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - بالحُجَّاجِ إلى مكَّةَ، فبعث رسولُ الله - صلى الله عله وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - نائباً عنه يتلوها على النَّاسِ، وقيل: كان مِن عَادةِ العربِ أنْ يقومَ بإبْرامِ العُهودِ أو نقْضِها سيِّدُ القَوْمِ، أو مَن ينُوبُ عنه مِن قَرابَتِه.
    الفائدة الخامسة
    في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنهما-، ثمّ لأبي هريرة - رضي الله عنه .
    الفائدة السادسة
    أنَّ مَوسِمَ الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ، ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَضلُ يوم عَرَفة



    الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي بل هو في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة

    الأيَّامُ الفاضِلةُ مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ وعَطاياهُ لعِبادِه يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ
    عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنْ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ». الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/982-983) باب: في فضل الحجّ والعمرة، ويوم عرفة.
    في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ما يكونُ في يَومِ عَرفةَ مِنَ الخَلاصِ عنِ العَذابِ، والعِتقِ منَ النَّارِ، أَكثرَ ممَّا يَكونُ في سائرِ الأيَّامِ، و(عَرَفةُ) موضع على الطَّريقِ بيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، تبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدَلِفةَ، يقِفُ عليها الحجَّاجُ يومَ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ يَدْعونَ اللهَ ويَستَغفرونَه.
    اقتراب الله من عباده الحجيج
    قوله: «وإنَّه» -سُبحانَه وتعالى- «لَيدْنو» أي: يَقْتربُ مِنْ عباده الحَجيج، ويدنو دُنُوًّا حقيقياً يَليقُ بجَلالِهِ وعَظمَتِه، كما أثْبَتَه -سُبحانَه- لِنَفسِه، دُونَ تَشبيهٍ أوْ تَمثيلٍ، كما هو قول أهل السنّة والجَماعة في سائر الأسْماء والصّفات الإلهية، وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي: عن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند اللهِ منْ يومِ عَرفة، ينزلُ الله -تعالى- إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بأهْلِ الأرْض أهلَ السّماء،...».
    قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ»
    قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ» بمَن بعَرَفةَ منَ المسلِمينَ الواقِفينَ، فيُظهِرُ فَضْلَهم للملائكة، ويُرِيهِم حُسنَ عَملِهم، ويُثْني عَليهم عِندَهم، والمباهاة أَصلُها من البَهاءِ: وهو الحُسنُ والجَمالُ، فيُفاخِرُ بهم ويُعظِّمُهم بحَضرةِ الملائكةِ. قوله: «فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤلاءِ؟» أي: أيُّ شَيءٍ أَرادَ هَؤلاءِ، حيثُ تَركوا أهْلَهم وأَوْطانَهم، وصَرَفوا أَموالَهم، وأَتعَبوا أَبْدانَهم؟ والجوابُ محذوفٌ، تَقديرُه: ما أرادُوا إلَّا المَغفرةَ والرِّضا من ربّهم، وهذا يَدُلُّ عَلى أَنَّهم مَغفورٌ لَهم، لأنَّه لا يُباهى بأهْلِ الخَطايا والذُّنوبِ، إلَّا مِن بَعدِ التَّوبةِ والغُفرانِ. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إنّ الله يُباهي بأهلِ عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْثاً غُبْراً». رواه أحمد في «مسنده» وابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه».
    فضل يوم عرفة
    وعن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً أيضًا: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند الله منْ يومِ عرفة، ينزل الله -تعالى- إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجِّين، جاؤوا من كلّ فجٍّ عميق، يرجُون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، مِنْ يومِ عرفة». رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي. وفي مصنف عبد الرزاق: من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: في حديث الرجلين اللَّذين جاءَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يسألانه عن أمْر دينهم، وكان منْ جوابه لهما: «وأمّا وقوفك بعَرفة، فإنّ الله -تبارك وتعالى- ينزلُ إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوا شُعثاً غبراً منْ كلّ فجٍ عَميق، يَرجُون رحمتي، ويَخافُون عَذابي، ولمْ يَروني، فكيفَ لو رَأوني؟ فلو كانَ عليك مثل رَمْل عَالج، أو مثل أيامِ الدُّنيا، أو مثل قَطْر السماء ذُنُوبًا، غَسَلها اللهُ عنك». ونحوه عند ابن عبد البر في (تمهيده) بسندٍ صحيح: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسجد الخَيف قاعداً، فأتاه رجلٌ مِنَ الأنْصار، ورجلٌ مِنْ ثقيف، فذكر حَديثاً فيه طول، وفيه: «... وأمّا وقُوفك عشية عرفة، فإنّ الله يهبطُ إلى سماء الدنيا، ثمّ يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانتْ ذُنُوبكم كعَدَد الرّمل، وكعَدد القَطْر، وكزَبَد البَحر، لغفرتُها، أفيضُوا عبادي مَغْفوراً لكم، ولمَنْ شَفَعتم له».
    «يا بِلال، أنْصت لي الناس»
    وروى ابنُ عبد البر أيضاً: بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «وقَفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَفات، وكادت الشّمس أنْ تؤوب، فقال: «يا بِلال! أنْصت لي الناس»، فقامَ بلال، فقال: أنْصتوا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَصَت الناس، فقال: «مَعَاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقْرأني منْ ربّي السلام، وقال: إنّ اللهَ غَفَر لأهل عرفاتٍ، وأهلِ المَشْعر، وضَمِنَ عنْهم التَّبِعات». فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ الله، هذا لنا خاصٌّ، فقال: «هذا لكم، ولمَنْ أتَى بَعْدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر - رضي الله عنه -: كثُر خيرُ اللهِ وطَاب. ورمل عالج: هو ما تَراكَمَ مِنَ الرّمل، ودَخل بعضُه في بعض. وعالِج: موضِعُ معروف بالبادية، بها رَمْل. وشعثًا: منْ تَلَبَّدَ شعره واغْبَرَّ، والشَّعِث: المُغْبَرُّ الرأْس، الجافُّ الذي لم يَدَّهِن. والتَّشَعُّث: التَّفرُّق والتنكُّث. سُفْعاً: السَّفْع السَّواد والشُّحوب، ومنه قيل للأَثافي: سُفْعٌ، وهي التي أُوقد بينها النار، فسَوَّدَت صِفاحَها التي تلي النار. غُبراً: الغُبْرة: اغبِرار اللَّون، يغْبَرُّ للهمِّ ونحوه، والغُبْرة لون الأغبر، وهو شبيه بالغبار. قال الحافظ النّووي: «هذا الحديث ظاهر الدلالة في فَضل يومِ عرفة، وهو كذلك»، وقد وفَّق النووي بين الأحاديث الدالة على فَضْل يوم عَرَفة، والأحاديث الدالّة على فضل يوم الجُمعة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ يومٍ طَلعتْ فيه الشمس، يوم الجُمعة». رواه مسلم، بأنّ الأحاديث الواردة في فضل يوم عرفة، تفيد أنّ يومَ عَرَفة أفضل أيام السَنة، أمّا الأحاديثُ الواردة في أفضليّة يوم الجُمعة، فمحمولة على أنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. انظر شرحه على «صحيح مسلم».
    الإكثار منْ ذكر الله -تعالى
    وقال ابن قدامة في المغني: يستحب الإكثار منْ ذكر الله -تعالى-، والدُّعاء يوم عرفة؛ فإنّه يومٌ تُرْجى فيه الإجابة، ولذلك أحببنا له الفِطْر يومئذ، ليتقَوّى على الدُّعاء، مع أنّ صومه بغيرِ عرفة يعدل سنتين. انتهى، وقد رُوي عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنّه رأى سائلاً يسألُ يومَ عرفة، فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تَسْأل غير الله؟! وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن هذا الفَضل خاصٌّ بالحَاج. قال الباجي المالكي: ويَحتمل أنْ يُريدَ به الحاج خاصّة، لأنّ معنى دُعاء يوم عَرَفة في حقّه يَصح، وبه يختص، وإنْ وُصِف اليوم في الجُمْلة بيوم عرفة، فإنّه يُوصفُ بِفعل الحاج فيه، والله أعْلم. انتهى. (المنتقى شرح الموطأ). فمن رأى تعلّقَ الفضل في الحديث بالمكان مع الزمان، قَصَرَ ذلك على الحاج في عرفة، ومَنْ رأى تعلق الفضل بالزّمان، جَعله عامًا يشمل الحاج وغيره، وإنْ كان هو للحاج آكدَ، والإجابة في حقّه أقربَ، لاجتماع فضل المَكان مع الزمان. وحديثنا في الباب هنا: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِنْ يومٍ أكثر مِنْ أنْ يُعْتقَ اللهُ فيه عبداً مِنَ النار، مِنْ يوم عرفة..». قد ذكر فَضل اليوم والزّمان.
    فوائد الحديث
    أنّ الله فَضَّلَ بعضَ الأيَّامِ عَلى بعضٍ، والأيَّامُ الفاضِلةُ هي مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ، وعَطاياهُ لعِبادِه، يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ، ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ، وَمِن تِلكَ الأيَّامِ الفاضلةِ: يَومُ عَرَفةَ، وهو الرّكن الأعظم في الحج.
    إِثباتُ صِفةِ الدُّنوِّ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، والقُرْب مِنْ عباده، كَما تَليقُ بجَلالِه وعَظمتِه، كما ثبت ذلك في الثُلث الأخير مِنَ الليل.
    وفيه: إِثْباتُ صِفةِ المُباهاةِ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، كَما تَليقُ بِجلالِه وعَظمتِه.
    أعظمُ الجوائز في يومِ عَرَفة: غُفْرانُ الذّنُوب.
    خطبَ عمرُ بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بعَرفة، فقال: «إنّكم قد جِئتُم مِنَ القريب والبَعيد، وأنْضَيتُم الظّهر- أي: أتْعبتم رَواحلكم-، وأخْلَقْتُم الثياب - أي: أبليتُم ثيابكم، وليس السّابق اليوم مَنْ سَبقت دابّته وراحلته، وإنّما السّابق اليوم مَنْ غُفر له. وننبّه على أنّ الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي، بل هو أولاً في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه الطاعة للدّاعي فيَحصل مطلوبُه، وقد تكون سببًا لحصول نِعَمٍ أُخَرَ، أو اندفاع مَصائب، وقد يُؤخّر الله ثمرته إلى الآخرة، فيكفّر به السيّئات، ويَرفع به الدّرجات.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقولُ إذا رَكِبَ إلى سَفَرِ الحَجِّ وغيرِه



    الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر والدُّعاء الوارد فيه يشتمل على طلب مصالح الدين التي هي أهمّ الأمُور وعلى مَصَالح الدنيا وعلى حُصول المَحاب ودفع المكاره والمَضار
    السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ ومِن رَحمةِ اللهِ سُبحانَه أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ
    عن عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَلَّمَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ والتَّقْوَى، ومِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ والْأَهْلِ». وإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ». الحديث رواه في الحج (2/978) وبوب عليه بمثل تبويب المنذري.
    في هَذا الحَديثِ يُعلِّمُ الصحابي عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- بعضَ أَصْحابِه دُعاءَ السَّفرِ، فأخبَرَهم أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَكِبَ واستَقرَّ عَلى ظَهرِ بَعيرِه، ويدخُلُ فيه كلُّ أنْواعِ الدوابِّ الَّتي تُركَبُ، وكذا الوَسائلُ الحَديثةُ، «خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ» خارجًا مِنَ المَدينةِ إِلى سَفرٍ من الأسفار.
    كان -صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ
    كان يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ، أي: يذكُرُ اللهَ -تعالى- بالتكبير، وتَكبيرُه - صلى الله عليه وسلم - عندَ الاسْتِواءِ والارْتفاعِ فوقَ الدابَّةِ، هو استِشْعارٌ لكِبرياءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وأنَّه أكبَرُ منْ كلِّ شيءٍ، فيُكبِّرُه ليَحمد له ذلك، فيَزيدَه من فَضلِه، وهو افتتاحٌ لسفره بتكبيرِ الله -عزَّ وجلَّ-، والثناء عليه، كما كان يختمه بذلك. ثُمَّ يَقولُ: «سُبحانَ الَّذي سخَّر لَنا هَذا» فَجَعلَه مُنقادًا لَنا، والإشارةُ إلى المَركوبِ، «وَما كنَّا له مُقْرِنينَ» فأي: ما كنَّا نُطيقُ قَهرَه واستِعمالَه للرّكوب، لوْلا تَسخيرُ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- إيَّاه لَنا، ففيه الثّناء على الله بتَسخِيره للمَرْكوبُات التي تَحْمل الأثقال والنُّفوس إلى البلاد النائية، والأقطار الشّاسعة، واعْترافٌ بنعمة الله بالمَركوبات، وهذا يدخل فيه المَركوبات منَ الإبل والخَيل، وكذا المراكب البحريّة والبريّة والجوّية الحديثة، فكلّها تدخل في هذا، وبهذا ذكّر نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - الرّاكبين معه في السّفينة فقال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41)، وقال -تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (إبراهيم: 32). فهذه المراكب كلّها، وأسبابها، وما به تتمّ وتكتمل، كلّها منْ نِعم الله وتسخيره، يجبُ على العباد الاعتراف لله -تعالى- بنعمته فيها، وخُصُوصاً وقت مباشرته -يعني الرُّكوب- ففيه تذكّر النّعمة التي لولا الباري لما حَصَلت، ولكنّ أكثر الخلق في غفلة عن شُكره، بل في عُتوٍّ واسْتكبار عن الله، وتَجبّر بهذه النّعم على العباد.
    قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ}
    قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ} أي: وإنَّا إلى رَبِّنا من بعدِ مماتِنا لصائرونَ إلى الله -تعالى-، وراجِعونَ إليه؛ فإنَّ الإنْسانَ لَمَّا رَكِبَ مُسافراً عَلى ما ذَلَّل اللهُ له، كأنَّه يَتذكَّرُ السَّفرَ الأَخيرَ مِن هَذه الدُّنيا، وهوَ سَفرُ الإنْسانِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- إذا ماتَ، وحَمَله النَّاسُ على أَعْناقِهم، فكما أنّ الإنسان يُسَافر في الدنيا، فهناك سفرٌ آخر إلى الآخرة، فكما بدأ الخَلْق فهو يعيدهم، قال -سبحانه-: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق: 8). أي: إلى الله المصير والمرجع، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم:31). ثُمَّ بَعدَ ذَلك أَثنَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى اللهِ ودَعاهُ، فقالَ: «اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ في سَفرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العمل ما تَرْضى» والبِرُّ: هو الْتِزامُ الطَّاعةِ، والتَّقْوى: البُعدُ عنِ المَعصيةِ، أي: يَمْتثِلُ الأَوامرَ والواجبات، ويَجتنِبُ النَّواهيَ والمُحرّمات، ثمّ سَألَ ربَّه أنْ يَرزُقَه مِنَ العَملِ ما يَرضَى بِه عنْهُ. فسأل اللهَ -تعالى- أنْ يكون السّفر مَوصُوفًا بهذه الوَصْف الجليل، محتويًا على أعمال البر كلّها، سواءً المُتعلّقة بحقّ الله، والمتعلّقة بحُقُوق الخَلْق، وعلى التقوى التي هي اتّقاء سَخط الله، بتركِ جميع ما يكرهه الله مِنَ الأعمال والأقوال، الظّاهرة والباطنة، كما سَأله العمل بما يَرْضاه الله، وهذا يَشْمل جميعَ الطّاعات والقُرُبات، ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السّفر الرابح، وهو السّفر المبارك.
    قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا»
    قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ» سأَلَه تَهوينَ السَّفرِ وهوَ تَيسيرُه، وأنْ يُقرِّبَ لَه مَسافةَ ذَلك السَّفرِ، فكم مِنْ سَفرٍ امتدّ أياماً كثيرة، لكنّ الله هوّنه ويسّره على أهله! وكم مِنْ سَفرٍ قصير، صار أصعب مِنْ كل صعب! فلا سهل إلا ما جعله الله سهلاً، بلطفه ومعونته. ثُمَّ أتْبَعَ دُعاءَه بقولِه: «اللَّهُمَّ أَنتَ الصَّاحبُ في السَّفرِ» يَعني: تَصحَبُني في سَفَري، فتُيسِّرُه وتُسهِّلُه عليَّ، «والخَليفةُ في الأَهلِ» أي: مِن بَعْدي، فتَحوطُهم بِرعايتِكَ وعِنايتِكَ، فهوَ -جلَّ وعَلا- معَ الإِنسانِ في سَفرِه، وخَليفتُه في أَهلِه؛ لأنَّه -جلَّ وعَلا- بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وعلمه وقُدْرته في كلّ مكان.
    الاستعاذة من وعثاء السفر
    ثُمَّ استَعاذَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بعضِ ما يُصيبُ الإِنسانَ في السَّفرِ، ومِنها «وَعْثاءُ السَّفرِ» وهيَ شِدَّتُه ومَشقَّتُه وتَعَبُه، «وكآبةُ المَنظَرِ» وهيَ تَغيُّرُ الوجهِ كأنَّه مَرضٌ، والنَّفسِ بالانْكسارِ ممَّا يَعرِضُ لها فيما يُحِبُّه ممَّا يُورِثُ الهَمَّ والحُزنَ، وقيلَ: المُرادُ مِنه الاستِعاذةُ مِنْ كلِّ مَنظرٍ يَعقُبُ الكآبةَ عندَ النَّظرِ إِليهِ، «وسُوءُ المُنقلَبِ» وَذلكَ أنْ يَرجِعَ فَيَرى في أَهلِه وَمالِه ما يَسوؤُه. قوله: «وكان إذا رجَعَ قالَهنّ» أي: تلكَ الجُمَلَ المَذكورةَ، وقالَ بعدَهنَّ: «آيِبونَ» أي: نحنُ راجِعونَ مِنَ السَّفرِ بالسَّلامةِ، «تائِبونَ» مِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، «عابِدونَ، لربِّنا حامِدونَ» أي: مُثْنونَ عليه -تعالى- بصِفاتِ كَمالِه وجَلالِه، وشاكِرونَ له على نِعَمِه وأفْضالِه. والمَعْنى: أنَّنا في طَريقِ عَودَتِنا إلى بَلَدِنا ومَوْطِنِنا وأهْلِنا، قدْ عَقَدْنا العَزْمَ على العَوْدةِ إلى اللهِ -تعالى-، والتَّوْبةِ الصَّادِقةِ له، المُقْتَرِنةِ بالأعْمالِ الصَّالحةِ، مِنَ الشُّكرِ للهِ، والمواظَبةِ على عِبادتِه، والتَّقرُّبِ إليه بالصَّلاةِ، وغيرها من الأعمال الصالحة. كان - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ فهوَ - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ، وأنَّه عبْدٌ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، فيسأل الله -تعالى- في رجُوعه وعَوده مِنْ سفره، فيقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون»، أي: نسألك اللهمّ أنْ تجعلنا في إيابنا ورجُوعنا، مُلازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأنْ تَخْتم سفرنا هذا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها، وهذا يُشبه قوله -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (الإسراء:80). ومدخل الصِّدْق ومَخْرجه: أنْ تكونَ أسْفار العبد، ومداخله ومخارجه، كلّها تحوي الصّدْق والحَقّ، والاشتغال بما يُحبه الله ويرضاه، مقْرونة بالتّوكل على الله، ومصحوبة بمَعونَته، وقد كانت أسفاره - صلى الله عليه وسلم - كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة، وكلّها في طاعة الله -تعالى- وطلب مرضاته.
    قوله: «لربّنا حامدُون»
    قوله: «لربّنا حامدُون» فيه: الاعتراف بنعمتِه آخِراً، كما اعْترفَ بها أولاً في تسخير الدّابة، فكما أنّ على العَبد أنْ يَحْمد الله على التوفيق لفعل العبادة، والشُّروع في الحاجة، فعليه أنْ يَحمدَ الله على تكميلها وتَمَامها، والفَراغ منها، فإنّ الفَضَل فضله، والخير خيره، والأسْباب أسبابه، والله ذو الفَضل العظيم. وفي حَديثِ عبداللهِ بنِ سَرجِسَ - رضي الله عنه -في صَحيحِ مُسلمٍ (2/979) ومُسنَدِ أحمَدَ- أنَّه كان يَبدأُ بالأهْلِ إذا رجَعَ، وفيه يقولُ: «كان رسولُ الله إذا سافر، يَتعوّذ مِنْ وعثاء السفر، وكآبة المُنقلب، والحور بعد الكون، ودَعوة المظلُوم، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ». وفيه أيضا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعاذَ مِنَ الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، يَعني: مِنَ النُّقصانِ بعدَ الزِّيادةِ، وتَغيُّرِ الحالِ مِنَ الطَّاعةِ إلى المَعصيةِ، وتَعوَّذَ أيضًا مِن دَعوةِ المَظلومِ، أي: أَعوذُ بكَ مِنَ الظُّلمِ، فإنَّه يَترتَّبُ عَليه دُعاءُ المَظلومِ، فإنَّه ليس بينَه وبينَ اللهِ حِجابٌ، كما في الصَّحيحَينِ. ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر اللهم: إني أعوذ بك من وعثاء السفر أي: مشقته وصعوبته وكآبة المنظر أي: الحزن الملازم، والهم الدائم وسوء المنقلب في المال والأهل والولد أي: يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا، من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتوافرة علينا وعليهم، فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور.
    فوائد الحديث
    الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر، والدُّعاء الوارد فيه، يشتمل على طلب مصالح الدين، التي هي أهمّ الأمُور، ومَصَالح الدنيا، وعلى حُصول المَحاب، ودفع المكاره والمَضار، وعلى شُكر نعم الله، والتذكّر لآلائه وكرمه، واشْتمال السّفر على طاعة الله، وما يقرب إليه.
    التَّرغيبُ في ذِكرِ اللهِ -تعالى- عندَ السَّفرِ والرُّجوعِ منه.
    تَذكَّر نِعمةَ اللهِ -تعالى- عليهم بتَيسيرِه وتَذليلِه لهم تلك المراكِبَ.
    السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ، ومِن رَحمةِ اللهِ -سُبحانَه- أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه في البَحرِ مِنَ السُّفُنِ، وفي البَرِّ مِنَ الإبلِ والخيلِ والسَّيَّاراتِ، وفي الجَوِّ مِنَ الطَّائراتِ، فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: سَفَرُ المرأة إلى الحَجّ مع ذِي مَحْرم


    لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها
    وُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ مع المرأة ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها ونحْوِ ذلك
    النّهي عن سفر المرأة من غير ذي محرم يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ
    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِداً، إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، ولَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». هذه الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/975- 978) باب: سَفر المَرأة مع محرم إلى حجٍّ وغيره.
    في هذه الأحاديث نهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وزَجَرَ عنْ أنْ تُسافِرَ المرأةُ بغَيرِ مَحرَمٍ، وأخبَر بحُرْمةِ ذلك، وأنَّه لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ، الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ، أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ، إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها؛ لأنَّ مَنْ كانتْ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ لا تَأتي المَناهيَ، ولا تُخالِفُ الأوامِرَ، وكأنَّه تَلميحٌ بالعِقابِ مِنَ اللهِ لمَن خالفَتْ هذا الأمرَ.
    سفَر المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ
    وقد جاء في الصَّحيحَينِ: مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: النَّهيُ عن سفَرِ المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ ولَياليها، إلَّا أنْ يكونَ معَها مَحرَمٌ، فقيل: إنَّ اختِلافَ المدَّةِ هو لاختلافِ السَّائِلينَ، واختلافِ مَواطنِهم، وليس في النَّهيِ عن الثَّلاثةِ تَصريحٌ بإباحةِ اليومِ واللَّيلةِ، وليس في هذا كلِّه تَحديدٌ لأقلِّ ما يقَعُ عليه اسمُ السَّفرِ، ولم يَرِدْ عنه - صلى الله عليه وسلم - تَحديدُ أقلِّ ما يُسمَّى سَفراً، فالحاصلُ: أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سَفراً تُنهَى عنه المرأةُ بغَيرِ زوجٍ، أو مَحْرمٍ، سواءٌ كان ثَلاثةَ أيَّامٍ، أو يومَينِ، أو يَوماً، أو نِصفَ يومٍ، أو غيرَ ذلك. قوله: «لا يَحلّ لامْرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر» خصّ المُؤمنة بالذّكر؛ لأنّ صاحبَ الإيمان، هو الذي يَنتفع بخطابِ الشّارع، وينقاد له.
    قوله: «مَسْيرة يوم وليلة»
    وقوله: «مَسْيرة يوم وليلة» وفي حديث ابن عمر: «لا تُسافر المَرأة ثلاثة أيام، إلا مع ذي محْرم»، وفي حديث أبي سعيد: «لا تُسافر امرأة مسيرة يومين ليسَ معها زوجها أو ذو محرم»، وفي حديث ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلا ومعها مَحرم»، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريدُ أنْ أخْرج في جيشِ كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: «اخرُج معها»، قال الحافظ ابن حجر: «وقد عَمِل أكثر العلماء في هذا الباب بالمُطلق، لاخْتلاف التقييدات. قال ابنُ المنير: وقع الاخْتلاف في مَواطن بحسب السائلين، ويُحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذِكْر ما دونها، فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقّف امتناع سير المرأة على مسافة القصر». «فتح الباري» (4/ 75).
    قوله: «إلا ومعها ذُو محْرم»
    فسّره في حديث أبي سعيد بقوله: «إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا». فمَحرَمُ المرأةِ هو زَوجُها ومَن يَحرُمُ علَيها بالتَّأبيدِ، بسَببِ قَرابةٍ، أو رَضاعٍ، أو صِهْريةٍ، كأبيها، وابنها، وأخيها، فلا يَدخُلُ في المحرَمِ ابنُ العَمِّ ولا ابنُ الخالِ، ولا زوجُ الأختِ، ولا زوجُ العمَّةِ، ولا زوجُ الخالةِ، وما شابَههم، ممَّن يَحِلُّ لهم الزَّواجُ منها لو فارَقَ زَوجتَه. ووُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ معها ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ، وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها، ونحْوِ ذلك، قال الحافظ: «واسْتدلّ به على عدم جواز السّفر للمرأة بلا مَحرم، وهو إجماعٌ في غير الحج والعمرة، والخُروج من دار الشرك، ومنْهم من جعل ذلك من شرائط الحج.
    منع الخلوة بالأجنبية
    قوله: «ولا يَدْخل عليها رجلٌ إلا ومعها محرم»، فيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا: هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات، والصحيح الجواز، لضَعف التهمة به، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا. (فتح الباري) (2/ 568).
    حج المرأة مع ذي محرم
    قال شيخ الإسْلام ابن تيمية: «وليس للزّوج منع زوجته من الحجّ الواجب مع ذي مَحْرم، بل عليها أنْ تحج وإنْ لمْ يأذن في ذلك، حتى إنّ كثيراً منَ العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النّفقة عليه مدّة الحج..»، وقال في «الفتاوى المصرية»: إنّ المرأة لا تسافر للحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم، والمحرم زوج المرأة، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ، وهو قول أكثر العلماء، واختاره ابن عقيل، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين في التحريم لا المحرمية اتفاقًا، والله أعلم». الاختيارات الفقهية (1/ 465).
    من فقه الحديث
    قال الحافظ أبو عمر ابن عبدالبر: «في هذا الحديث من الفقه: أنّ المرأة لا يجوز لها أن تسافر هذه المسافة فما فوقها، إلا مع ذي محرم، أو زوج، وقد اختلفت ألفاظ أحاديث هذا الباب في مقدار المسافة، وسنذكر ذلك والمعنى فيه في آخر هذا الباب إن شاء الله. واختلف الفقهاء في معنى ذي محرم للمرأة، هل هو من السبيل الذي ذكر الله في الحج أم لا؟ فقالت طائفة: المحرم من السبيل الذي قال الله -عزوجل-: {من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 97). فمَن لم يكن لديها ذو محرم فتخرج معه، فليست ممن استطاع إلى الحج سبيلاً، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم منها. وممّن ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل، هل يكون محرَمًا لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو؛ لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، وكأنه ذهب إلى أنّه لم يذكر في القرآن، قال أبو عمر: يعني في قول الله -عزوجل-: {ولا يُبْدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية. قال الأثرم: قيل لأحمد: فيَحجُّ الرجلُ بأخت امرأته؟ قال: لا؛ لأنّها ليستْ منه بمحرم، لأنّها قد تحلّ له، قيل له: فالأخ من الرّضاعة يكون محرماً؟ قال: نعم، قيل له: فيكون الصّبي مَحْرماً، قال لا، حتّى يحتلم؛ لأنّه لا يقومُ بنفسه، فكيف تخرج معه امرأة في سفر؟ لا حتى يحتلم، وتجبُ عليه الحدود، أو يبلغ خمس عشرة سنة.
    مقدار السفر
    ثم ساق الروايات في الباب في مقدار السفر، ثم قال: وقد اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب، كما ترى في ألفاظها، ومحملها عندي - والله أعلم - أنّها خرجت على أجوبة السائلين، فحدّث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنّه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في وقتٍ ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا مَحْرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم؟ فقال: لا. وكذلك معنى الليلة والبريد ونحو ذلك، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم. ويجمع معاني الآثار في هذا الباب- وإن اختلفت ظواهرها- الحَظْر على المرأة أنْ تُسافرَ سفراً يخاف عليها الفتنة بغير محرم، قصيراً كان أو طويلاً، والله أعلم. انتهى.
    الأحاديث متنوعة في هذا
    وقال الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله-: «الأحاديث متنوعة في هذا، فيها يومان، وفيها يوم وليلة، وفيها يوم، وفيها ليلة، وفيها ثلاثة أيام، وفيها مطلق، هذا على اختلاف الأسْئلة يجيبهم على قدر سؤالهم -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الجامع ما رواه الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرم، ولا تُسَافر المرأة إلا مع ذي محرم؛ فقال رجل: يا رسول الله، إنّ امْرأتي خرجتْ حاجّة، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انطلق فحجّ مع امرأتك». أخرجه البخاري.
    حديث جامع
    والحديث الجامع: «لا تُسَافر إلا مع ذي محْرَم». أي: سفر، يوم أو ليلة، أو يومين، أو ثلاث، أو أكثر، أو أقلّ؛ لأنّها عَورة وفتنة، وإذا لمْ يكنْ معها محرمٌ يَصُونها ويلاحظها عن الخطر العظيم عليها، فالشيء الجامع هو السّفر وما يُعدُّ سفرًا هو الممنوع قد يكون يوماً، قد يكون يومين، قد يكون ثلاثة، وقد يكون أكثر من ذلك. قال: ولا فرق بين الطائرة وبين القطار والسيارة وبين الجمل، فإن الذي أخبر عن هذا يعلم -سبحانه- ما في السماء والأرض، وما يكون في آخر الزمان، والرسول -[- إنّما يخبر عن مشروعية ذلك، لقوله -سبحانه-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4)، فهو يعلم عن شرع الله، ويُخبر عن شرع الله في الحاضر والمستقبل، والله -سبحانه- يعلم ما يكون في آخر الزمان في القرن الرابع عشر، والخامس عشر من الطائرات والسيارات والقطارات، والبواخر العظيمة السريعة وغير ذلك، فحُكْمه واحدٌ بيَّنه لعباده، ولمْ يَقل: إلا إذا كان في آخر الزمان، وجاءت مراكب سريعة فلا بأس، قد جعل الحكم واحداً». انتهى (مجموع فتاويه).
    فوائد الحديث
    من فوائد الحديث النَّهيُ عن سَفرِ المرأةِ بغَيرِ مَحرمٍ معَها، سواء يوماً وليلةً أو أكثرَ أو أقل، وهذا النّهي يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ، وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها، وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ، في الحَضرِ والسَّفرِ، ومِن أَوْجُهِ المحافَظةِ عليها ما جاء في هذا الحديثِ.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي






  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: حجّ الصّبي وأجْر مَنْ حَجَّ به


    الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ الحُرِّ المُستطيعِ
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ». يَرْوي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - «لقي ركباً بالرّوحاء فقال: من القوم؟» الرّكب: هم الجماعةُ المُسافِرون، وهم أصْحاب الإبل خاصّة، وأصله أنْ يُسْتعمل في عشرةٍ فما دونها، و«الروحاء» مكان على ستةٍ وثلاثين ميلاً من المدينة. وكان ذلك في طَريقِ الرُّجوعِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ، كما بيَّنَت رِوايةُ النَّسائيِّ.
    قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»
    قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟» فأجابوه بأنَّهم مِن جَماعةِ المسلمين، وقوله: «فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟» قال القاضي عياض: يحتمل أنّ هذا اللقاء كان ليلاً فلمْ يعْرفوه - صلى الله عليه وسلم -، ويَحتمل كونه نَهاراً، لكنّهم لمْ يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هِجرتهم، فأسْلموا في بلدانهم ولمْ يهاجروا قبل ذلك.
    ألهَذا حَجّ؟
    قوله: «فرفعتْ امرأةٌ صَبيا لها فقالت: ألهَذا حَجّ؟ الصَبيّ هو الصغير هو الَّذي لمْ يصل سِنَّ البلوغِ. قال: «نعم، ولك أجْر». قال النووي: فيه حجّة للشّافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء: أنّ حَج الصّبي مُنعقدٌ صحيح، يُثاب عليه، وإنْ كان لا يُجْزيه عن حجّة الإسْلام، بل يقع تطوعاً، وهذا الحديث صَريحٌ فيه، وقال أبو حنيفة: لا يصحّ حجّه؟ قال أصْحابه: وإنّما فعلوه تمريناً له ليعتاده، فيقع إذا بلغ، وهذا الحديث يردّ عليهم، قال القاضي: لا خلافَ بين العلماء في جواز الحجّ بالصّبيان، وإنّما مَنَعه طائفة مِنْ أهل البدع، ولا يُلتفت إلى قولهم، بل هو مَردُود بفعل النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابه، وإجماع الأمة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه وتجري عليه أحْكام الحج، وتجبُ فيه الفدية، ودم الجُبران، وسائر أحْكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله، ويقول: إنّما يجبُ ذلك تمريناً على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحْكام الحج في ذلك، ويقولون: حجّه منعقدٌ يقع نفلاً؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل له حجّاً. قال القاضي: وأجْمعوا على أنه لا يُجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسْلام، إلا فرقة شذّت فقالت: يُجزئه؟ ولمْ تلتفت العلماء إلى قولها. انتهى. فلمَّا عَلِموا أنَّه رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَفَعَت إليه امرأةٌ منْهم وسَأَلت: «أَلِهذا حَجٌّ؟» أي: يَحصُلُ لِهذا الصَّغيرِ ثوابُ حَجٍّ، فأجابَها - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ» لَه حجُّ النَّفلِ، «ولَكِ أَجرٌ» أي: بسَببِ تَجنيبِها إيَّاه ما يَجتنِبُه المُحرِمُ، وفِعلِ ما يَفعَلُه المُحرِمُ، وتَعليمِه إنْ كان مُميِّزاً، أو أجْرُ النِّيابةِ في الإحرامِ، والرِّميِ، والإيقافِ، والحملِ في الطَّوافِ والسِّعيِ، إنْ لم يكُنْ مُميِّزًا، وفي قولِه: «ولكِ أجْرٌ» تَرغيبٌ لها. فالحَجُّ يَصِحُّ مِن الصَّبيِّ، ويُثابُ عليه، ولكنْ لا يَكفِيه عن الفريضةِ، وعليه حَجُّ الفريضةِ بعْدَ البلوغِ.
    فوائد الحديث
    الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ، ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ، الحُرِّ المُستطيعِ.
    مشروعية الحج بالصغير مُطلقاً، سواء كان مُميّزاً أم لا.
    وفيه: أنَّ الصَّبيَّ يُثابُ على طاعتِه، ويكُتَبُ له حَسناتُه.
    وثُبوتُ الأجرِ لوليِّ الصَّبيِّ إذا حجَّ به.
    وفيه: أنَّ مَن جَهِل شيئًا فعليه أنْ يَسألَ أهلَ العلمِ عمَّا يَجهَلُه مِن الأحكام، قال الله -تعالى-: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).
    وفيه: أنَّ مَن أعان شخصًا على طاعةٍ فله أجرٌ.
    ومشروعية الزّيادة في الجواب عن السُّؤال زيادة في الفائدة، وهو مِنْ عادة الشّرع، والبلغاء والعُلماء.
    وفيه: أنّ على النّساء أنْ يسألن عمّا يَجهلنه منَ الأحْكام كالرجال، وأنْ يتفقّهن في الدّين.




    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحجُّ عمَّنْ لا يَسْتَطيعُ الرُّكوب



    من فوائد الحديث منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ وغَضُّ البَصَرِ وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء

    العالِم يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: «نَعَمْ». وذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/973) باب: الحَجّ عن العَاجز لزَمانةٍ وهَرَم ونحوهما، أو للمَوت، وقد ذكره البخاري في باب الحج عمّن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.
    في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ الفَضلَ بنَ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- كانَ راكبًا خَلْفَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الدَّابَّةِ؛ والفضل: هو ابن العباس بن عبدالمطلب، وهو أكبر أبناء العباس وبه كان يُكنى، وكان جميلًا، وقد مات بالشام في طاعون عمواس، وليس له عقب.
    معنى رديفه
    ومعنى رديفه: أي رَكب خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على عَجز راحلته -صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد أردف أسامة بن زيد، منْ عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وذلك في حجّة الوداع، قبيل رمي جمرة العقبة أو بعدها يوم النحر.
    قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ»
    قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ» وهي قَبيلةٌ يَمنيَّةٌ معروفة، مساكنها تقع جنوبي مساكن غامد وزهران. «تستفتيه» أي: تَسأَلُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الحَجِّ، فكان الفَضلُ - رضي الله عنه - يَنظُرُ إليها، وكانَتْ هي أيضًا تَنظُرُ إليه، وقوله: «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» أي: أخذَ يصرف وجْه الفضل، أي: يلويه حتى لا يتمكّن من النظر إليها. الشق الآخر: أي إلى الجانب الآخر الذي لا تقع عينه فيه على الخثعمية، فلمَّا رآهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنظُر إليها صَرَفَ وَجْهَ الفَضْلِ - رضي الله عنه - إلى الشِّقِّ الآخَرِ؛ ليَكُفَّ بَصَرَه عن النَّظرِ إليها، ولِتُقلِعَ هي أيضاً عن النَّظَرِ إليه، ولم يَأمُرْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَرْفِ وَجْهِها إلى الشِّقِّ الآخَرِ، وإنْ كانتِ المرأةُ مَمنوعةً مِن النَّظَرِ إلى الرجُلِ أيضاً، مِثلَما يُمنَعُ الرجُلُ لقولِه -تعالَى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30).
    وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
    وقولِه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور: 31، وقيل: يحْتَملِ أنْ يكونَ نظَرُها للفضْلِ كان عن غَيرِ قصْدٍ؛ لأنَّها إنَّما كانتْ تَنظُرُ جِهةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَسألتِها. ويَحتمِلُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَفَى بصَرْفِ وَجْهِ الفضْلِ؛ لأنَّ ذلك يَمنَعُ نَظَرَ المرأةِ إلى شَيءٍ مِن وَجْهِ الفضْلِ، فكان في ذلك مَنْعٌ للفضْلِ مِن النَّظَرِ إليها ومَنْعٌ لها مِن النَّظَرِ إليه، ولعلَّها لمَّا صَرَفَ وَجْهَ الفضْلِ فَهِمَت ذلك، فصَرَفَت وَجْهَها أو بَصَرَها عن النَّظَرِ إليه.
    أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟
    قوله: «قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟» فسَأَلتِ المرأةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن مَشروعيَّةِ الحَجِّ نِيابةً عن أبِيها، وأبوها قِيل: هو حُصينُ بنُ عَوفٍ الخَثْعميُّ، الذي أدركته فَريضةُ الحجّ وهو شَيخٌ كَبيرٌ، لا يَستقِرُّ جِسمُه على الرَّاحِلةِ، أو لم تَتَوافَرْ فيه شُروطُ الحَجِّ؛ إلَّا في هَذه السِّنِّ المتأخِّرةِ، حتَّى أصبَحَ عاجِزاً، ضَعيفَ الجِسمِ، مُنهَكَ القُوى، فأجابَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ تَحُجَّ عنه.
    ما يشترط للنائب في الحج
    ويُشتَرَط في النَّائِبِ في الحجّ والعمرة: أنْ يكونَ قد حَجَّ حَجَّةَ الإسْلامِ عن نفْسِه أوَّلًا واعتمر، وإلَّا كانتِ الحجَّةُ أو العُمرة عن نفْسِه، ولم تُجْزِئْ عن المَنوبِ عنه؛ لحَديثِ أبي داودَ: عن ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لَبَّيكَ عن شُبْرُمةَ، قال: مَن شُبرمةَ؟ قال: أخٌ لي -أو قريبٌ لي- قال: «حَجَجتَ عن نفْسَك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نفْسِك، ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ».
    فوائد الحديث
    1- الحَجُّ هو الرُّكنُ الخامِسُ مِنْ أرْكانِ الإسْلامِ، وهو الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ الأهل والوطن كالجهاد في سبيل الله، استِجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وليس لمَن أدَّاهُ على وَجْهِه وبحَقِّه مِنْ ثَوابٍ إلَّا الجنَّةُ.
    2- وفيه: جواز الاستِنابة في حَجِّ الفَريضةِ؛ عن عَاجِزٍ عجزاً مَيؤوسٍاً مِن زَوالِه.
    3- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ، والاعتِناءُ بأمرِهِما، والقِيامُ بمِصالِحِهما؛ مِن قَضاءِ دَينٍ ديني كزكاة أو حجٍّ أو نذرٍ أو كفارة، وكذا خِدمةٍ، ونَفَقةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وأن الحجّ عن الوالد من برّه. 4- وفيه: أنَّ الاستِطاعةَ تكونُ بالآخرين كما تكونُ بالنَّفْسِ.
    5- وفيه: تَواضُعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
    6- وفيه: مَنزِلةُ الفَضْلِ بنِ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ أرْدفه خلفه على الراحلة.
    7- وفيه: منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ، وغَضُّ البَصَرِ، وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء، والعمل على عدمِ اختلاط النساء بالرجال.
    8- أنّه يجوزُ للمرأة الاستفتاء في العلم والترافع في الحُكم، والمعاملة وإظْهار صوتها في ذلك، إذا لمْ تحدث فتنة من ذلك.
    9- وفيه: أنَّ العالِمَ يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه، وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب.
    مسألة مهمة
    مسألة: لا يصحّ الاستدلال بحديث الفضل بن العباس - رضي الله عنه -؛ على جواز كشف الوجْه للنساء، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين: الوجه الأول: أنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عنه، وأقرّها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت «وضيئة»، وفي بعض روايات الحديث: «أنّها حسناء»، ومعرفة كونها وضيئة، أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها...». «أضواء البيان» (6 / 254 - 256).
    وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «وأما حديث الخثعمية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عند مرجعه من مزدلفة إلى منى في حجة الوداع قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، أدركته فريضة الله، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجّي عن أبيك، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فصرف وجه الفضل عنها، صرفه إلى الجهة الأخرى، قالوا هذا يدل على أنها كانت متكشفة، وهذا غلط، فإنه ليس بدليلٍ على أنّها متكشفة، قد ينظر إليها وتنظر إليه وليستْ متكشفة، قد تميل الوجه إليه وهي متخمرة، وينظر إليها إلى حُسن كلامها إلى صوتها إلى خدها القائم مع السّتر، ليس بضروري أن تكون متكشفة، ...». «التعليقات على ندوات الجامع الكبير». وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: «وقد استَدلّ بهذا - أي: حديث الخثعمية-: مَن يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه، وهذا الحديث- بلا شك- من الأحاديث المتشابهة، التي فيها احتمال الجواز، وفيها احتمال عدم الجواز، أما احتمال الجواز: فظاهر، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول: هذه المرأة محرمة، والمشروع في حق المحرِمة أن يكون وجهها مكشوفاً، ولا نعلم أن أحداً من الناس ينظر إليها سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفضل بن العباس، فأما الفضل بن العباس: فلم يقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل صَرف وجهه، وأمّا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله- ذكَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له من النظر إلى المرأة، أو الخلوة بها، ما لا يجوز لغيره، كما جاز له أنْ يتزوج المرأة دون مهر، ودون ولي، وأن يتزوج أكثر من أربع، والله -عز وجل- قد فسح له بعض الشيء في هذه الأمور؛ لأنه أكمل الناس عفةً، ولا يمكن أن يرِد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرِد على غيره من الناس، من احتمال ما لا ينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة.
    القاعدة عند أهل العلم
    وعلى هذا: فإنّ القاعدة عند أهل العلم: أنه إذا وُجد الاحتمال، بَطَل الاستدلال، فيكون هذا الحديث من المتشابه، والواجب علينا في النصوص المتشابهة: أنْ نردّها إلى النصوص المحكمة، الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أنْ تكشف وجهها، وأنْ كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة، والشر» انتهى. «دروس وفتاوى الحرم المكي» (1408 هـ، شريط رقم 16).

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الحَائض والنُّفَساء إذا أرَادَتَا الإحْرَام



    من أحكام الحديث مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ ولو على غير طهارة وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ
    الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ
    عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ يَأْمُرُهَا: أَنْ تَغْتَسِلَ وتُهِلَّ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/869) باب: إحْرام النُّفَساء، واسْتِحباب اغْتِسالها للإحْرام، وكذا الحائض.
    تَرْوي عائشةُ أمُّ المؤمِنينَ -رضي الله عنها- أنَّ أَسْماءَ بنتَ عُمَيسٍ «نُفِسَتْ» بكسر الفاء، وأمّا النُّون ففيها الوجهان: الضّم والفتح، ونُفِسَتْ أي: وَلَدتْ، وسُمِّيَ نِفاساً لخُرُوجِ النَّفَسِ، وهوَ المَولودُ، أوِ خُروج الدَّمُ مِنَ الرّحم. والمعنى: أنّها ولدت، ويقال لمن حاضت: نُفِست أيضاً، إلا أنّ المَشهور قول لمَن ولدت: «نفست»، وأَسْماءُ بنتُ عُمَيسٍ هيَ الخَثْعمية صحابيّة، كانت زوجةً لجَعفر بن أبي طالب، ثمّ زوجةً لأبي بكر الصديق، ثمّ لعليّ بن أبي طالب. هاجرت أسماءُ للحبشة، ثمّ إلى المدينة، لذا فتُكنّى «صاحبة الهجرتين». لمَّا وَلَدتِ ابنَها مُحمَّدَ بنَ أَبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- في طَريقِ الذَّهابِ لحَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ منَ الهِجرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوجَها أَبا بكرٍ أنْ يَأمُرَها أنْ تَغتسِلَ مِن نِفاسِها ودَمِها، وأنْ تُهِلَّ بالحجِّ، وهذا الاغتِسالُ للنَّظافةِ، لا للطَّهارةِ ورفع الحَدث، لأنَّ النُّفَساءَ كالحائضِ لا تَطهُرُ إلَّا بانْقِطاعِ الدَّمِ عنها. وَتُهِل: أي: تُلبي، وتقدَّم أن الإهلال أصْله: رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية، إلا أنّ المرأة تَخْفضُ صوتها بحضرة الأجانب.
    الحائض والنفساء وأعمال الحج
    وفيه: أنّ الحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنْهما جَميعُ أَفْعالِ الحجِّ، إلَّا الطَّوافَ بالبيت. ولمَا رَواه أيضاً النَّسائيُّ وابنُ ماجة: عن أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: عن رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وتَصنَعَ ما يَصنَعُ النَّاسُ» أي: منَ الذِّكرِ والتَّلْبيةِ، وتقِفُ بمِنًى وعَرفاتٍ والمُزدَلِفةِ، «إلَّا أنَّها لا تَطوفُ بالبيتِ» أي: لا تَطوفُ بالكَعبةِ المُشرَّفةِ، طوافَ الرُكنِ وهو الإفاضة، إلَّا بعدَ أنْ تطهُرَ منَ النِّفاسِ، ثمَّ تطوفَ. وقَولُه: «بالشَّجرةِ» هي الشَّجرةُ الَّتي كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنزِلُ تحتَها عندَ خُروجِه منَ المدينةِ إلى مكَّةَ للعُمرةِ أوِ الحجِّ، فكان يَنزِلُ تحتَ ظِلِّ هذه الشَّجرةِ ويُصلِّي، ثُمَّ يُهِلُّ مُحْرِماً يُريدُ العُمرةَ أوِ الحجَّ. وفي رِوايةِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ عندَ مُسلمٍ أنَّها نُفِسَتْ بِذي الحُلَيفةِ، وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: «بالبَيداءِ» هَذه المَواضعُ الثَّلاثةُ مُتقاربةٌ، فالشَّجرةُ بِذي الحُلَيفةِ، وأمَّا البَيداءُ فهيَ بطَرفِ ذي الحُلَيفةِ. يُؤخذ من الحَديث الأحْكام التالية:
    الحُكمُ الأول
    مَشْروعية الاغْتسال عند الإحْرَام، بل هو سُنّة مؤكّدة، ووجه ذلك: أنّ أسْماء بنتَ عُميس -رضي الله عنها- نُفَسَاء، وهي وإنْ اغْتَسلت لنْ تستحلَّ بغُسْلها صلاةً ولا غيرها، ومع ذلك أمَرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ تَغْتسل، والاغْتسال للإحْرام مُسْتحبٌ بالإجْماع، ونقل ابن المنذر -رحمه الله- الإجْماع على أنّ الإحْرام بغير اغتسالٍ جائز. انظر الإجماع (ص: 55). فجمهور العُلَماء أنّ الاغتسال عند الإحْرام مُسْتحب، حتى للحائضِ والنّفساء لحديث الباب، انظر المغني (5/75)، وخالف ابنُ حزم -رحمه الله-، فقال بوجُوبه على النُّفَساء دون الحائض، أخذاً بظاهر حديث الباب، انظر المحلى (7/82)، وأيضا: فإنّ الاغتسالَ للإحْرام لا يجبُ، وأنّ الإجْماع على جَواز الإحْرام بدُونه.
    الحكم الثاني
    صحّة التعبد بالاغْتِسال عند الإحْرَام مِنَ الحَائض والنُّفَساء، وكذا في جميع أفعال الحج يصحُّ منْهما، إلا الطّواف بالبيتِ وركعتيه، لقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلي ما يفعلُ الحاج، غيرَ ألا تَطُوفي بالبيتِ حتّى تَطْهُري».
    الحكم الثالث
    صِحَّةُ إحْرامِ النُّفَساءِ والحَائضِ، معَ اغتِسالِهما للإِحْرامِ، فالحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ، ومِن ذلكَ: أنَّ المَرأةَ المُحرِمةَ إذا وَلَدتْ في أَثناءِ إحْرامِها، وقَبلَ البَدءِ في أَعْمالِ الحجِّ، فلَها أنْ تَغتَسلَ وتَتطهَّرَ، وتُهِلَّ بالحجِّ، غيرَ أنَّها لا تَطوفُ إلَّا بعدَ طَهارتِها الكاملةِ. وَفي هذا تَيسيرٌ عَليها حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ في أيَّامِه المَعلومةِ.
    الحُكم الرابع
    ما في الإسْلامِ مِنْ يُسرٍ ورفع حرَجٍ عن المُكلفين وتخفيف على أصحاب الأعذار، ومن ذلك: رِعايتُه للمَرأةِ النُّفَساءِ والحَائض عند الإحرام، حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ، وتُضْطرَّ للعَودةِ إليه في سَنةٍ قادمةٍ، وربّما أصابها ما أصابها في العام الأول.
    الحكم الخامس
    مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ، ولو على غير طهارة، وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ.
    من شروط الدعوة إلى الله -تعالى
    الدعوة إلى الله -تعالى- وتربية النفوس وتزكيتها وتعريف الخلق بخالقهم من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينََ } (فصلت:٣٣)، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ويشترط في الدعوة إلى الله -تعالى- أن تكون لله وحده لا شريك له؛ فيجب أن يكون الداعية متعبدا لله بالدعوة إليه مخلصًا له، ولا يجوز أن يكون قصده أغراضًا دنيويةً كحب الشهرة أو استمالة الناس إلى أهدافٍ دنيويةٍ كالجماعات والأحزاب، بل الواجب على الداعية أن يكون قصده من الدعوة إلى الله هداية الناس وتعريفهم بربهم وبما يقربهم إليه، وتحذيرهم مما يبعدهم عن الله ويسخطه عليهم، وأساس الدعوة العلم؛ فيشترط على الداعية أن يكون عالمًا بما يدعو إليه مما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يأمر إلاّ بالمعروف ولا ينهى إلاّ عن المنكر، ويبدأ بالمتفق عليه ولا يشدد في المختلف فيه. ومما يشترط في صحة الدعوة وسلامتها عن الأغراض الدنيوية، أن يكون الباعث عليها الشفقة على المدعوين ورحمتهم، وهذا مدخل أساسي في دعوة العامة والأبرياء، ولاسيما وأنّ الأكثرية من الدعاة اليوم يمارسون الدعوة في أوساط المجتمع المسلم؛ فدعوتهم تعليم وتذكير وتزكيةٌ وتصويب وتصحيح لما يختل من مفاهيم الإسلام في أذهان أو سلوكيات المسلمين، سواء في القضايا العقدية أم العملية؛ ولهذا لابد أن يصدر الخطاب الدعوي من قلب رحيم مشفق ولسانٍ مسدد عفيف. قال -تعالى في وصف صاحب الدعوة وإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة ١٢٨) فيجب أن يكون قدوة الدعاة هو صاحب الدعوة وحامل لوائها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في المَوَاقِيت في الحَجِّ والعُمْرة



    أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت فإنّه يُحْرم مِنْ بيته
    المواقيتُ حدّدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأهل الآفاق فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة أنْ يتجاوزها دُون إحْرام وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة فأبعدها ذُو الحُليفة
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ. قَالَ: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا»، وعن أَبي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: يُسْأَلُ عَنْ المُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ- أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، والطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ».
    المواقيت: هي جَمع ميقات، وأصل التوقيت أنْ يُجْعل للشيء وقتٌ يَختصّ به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضاً، ومواقيتُ الحَجّ: المُراد بها هنا: ما حدّدته الشّريعة مِنَ الأماكن التي لا يجوزُ أنْ يتجاوزها مَنْ أرادَ الحَجّ أو العُمرة إلا مُحْرماً، فهي الأماكن التي وقْتَتها وحدّدتها الشريعة للإحْرام منْها.
    قوله: «وقّتَ لأهْلِ المَدينة ذا الحُليفة»
    أي: جَعَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض لهم ذلك الموضع ميقاتاً للإحرام. وذو الحليفة: قريةٌ بينها وبين المَدينة نحو أربعة أميال، وتسمى الآن (آبار عليّ) وبها مسجد كان يعرف بمسجد الشجرة، وقد جُدّد بناؤه، وقد أحْرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من عنده.
    قوله: «وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ»
    والجحفة: هي قريةٌ كانت جنوبي شرق رابغ، على نحو ميلين، وتسمى مهيعة، فأجْحف السيل بها فسُمّيت الجُحفة، ولمَّا خَربت ونضب ماؤها، اتفقّ المسلمون على أنْ يكون الإحْرام مِنْ «رابغ» بدلاً منها، لأنّها قبلها بقليل، وبها ماء للاغتسال. وبين رابغ والمدينة نحو (275 كيلو مترا). وقوله: «ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ» ونَجد: هي ما ارتفع من بلاد العرب، ومنه قول الأعشى:
    نَبيٌّ يَرَى ما لا يَرَونَ وذِكْره
    أغَارَ لعَمْرِي في البِلاد وأنْجَدَا
    والمصطلح عليه عند عامة العرب، أنّ نَجداً ما وَقع من بلاد العرب شَرقي جبل حضن، ولذلك قيل: من رأى حضنًا فقد أنْجد، يعني دَخل أرض نجد، وحضن: شرقي الطائف، ونجْدٌ الآنَ تُمثِّلُ قلْبَ الجَزيرةِ العربيَّةِ، تَتوسَّطُها مَدينةُ الرِّياضِ عاصمةُ المَملكةِ العَربيَّةِ السُّعوديةِ، وتَشمَلُ أقاليمَ كثيرةً، منها: القَصيمُ، وسديرُ، والأفلاجُ، واليَمامةُ، والوشمُ، وغيرُها.
    قرن المنازل
    وقرن المنازل: هو المعروف الآن بالسيل الكبير، وهي قرية بها ماء على مرحلتين من مكة شرقيها وتوازي (وادي مَحْرم) الواقع على طريق الطائف (الهدا) وعنده مسجدٌ يُحْرم منه القادمون من الطائف، ونجد إلى مكة عن طريق الهدا. ويَبعُدُ عن مكَّةَ المُكرَّمةِ (75 كم).
    قوله: «ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ»
    ويلمْلم: ويقال فيه ألَمْلم ويرموم، وهو بتهامة على مرحلتين من مكة جنوباً، وبالقرب منها الآن قرية (السّعديّة) يُحْرم الناس القادمون مِنَ اليمن، وتَبعد عن مكة بحوالي (105) كيلو متراً جنوباً، وفي حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: «ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» وذات عرق اخْتُلِف فيها، هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ يعني: هل جاء النص فيها عن النبي -[- أو وقّتها الصّحابة عندما فُتِحت العراق؟ قال الشافعي -رحمه الله في الأم-: «هو غير منصوص عليه». وروى البخاري: من طريق نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فُتِحَ هذان الْمِصْرَان، أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَدّ لأهلِ نَجدٍ قَرْناً، وهو جَور عن طريقنا، وإنّا إنْ أرَدْنا قرناً، شقّ علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فَحَدّ لهم ذات عرق. وما رواه مسلم: في الباب من طريق أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- يُسأل عن المهل، فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق... الحديث. فقال الحافظ النووي في «المجموع»: «وأمّا حديث جابر في ذات عرق فضعيف، رواه مسلم في صحيحه، لكنّه قال في روايته عن أبي الزبير أنّه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ومهل أهل العراق من ذات عرق، فهذا إسناد صحيح، لكنّه لم يجزم بِرَفْعِه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت رفعه بمجرد هذا. انتهى. وقال الإمام ابن عبدالبر: أجْمع أهل العلم بالحجاز والعراق والشام وسائر أمصار المسلمين- فيما علمت- على القول بهذه الأحاديث واستعمالها، لا يخالفون شيئا منها، واختلفوا في ميقات أهل العراق، وفيمن وقَّتَه. وقال القرطبي في التفسير: «وأجمعَ أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه، واختلفوا في ميقات أهل العراق».
    قوله: «هنَّ لهنّ»
    أي: هذه المَواقيت للبلاد المَذْكورة. «ولمَنْ أتَى عَلْيهنّ» أي: ولمَنْ مَرّ على المواقيت المذكورة من غير أهل البلاد المذكورة. «مِنْ غيرِ أهلهن» أي: من غير البلاد التي وقتتْ لها هذه المواقيت. وهو دليلٌ واضح على أنّ مَن مَرّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة، وجبَ عليه الإحْرام منها، سواءً كان مِنْ أهلِ المواقيت الأخْرى أو لمْ يكنْ منْها، فلو مرّ الشّامي أو اليمني أو النجدي بذي الحليفة فهي ميقاتُه، وإنّما يكون الميقات المحدّد لأهل بلده هو إذا مرّ به، ولم يمر بميقاتٍ قَبله. قوله: «ممّن أرادَ الحجّ والعُمرة» أي: ممّن قَصَد بمُرُوره على هذه الأماكن: نُسك الحجّ والعُمرة. قوله: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» أي: ومَنْ كان مسكنه، أو كان عزمه على الحجّ أو العمرة أدنى لمكة من هذه المواقيت. «فَمِنْ أَهْلِهِ» وفي رواية: «فمن حيثُ أنشأ» أي: فإحرامه مِنَ المكان الذي عَزَم فيه على النُّسُك، كأهل جدة وبحرة ونحوها من الأماكن التي تقع داخل المواقيت، فيكون إحْرام الشخص من المكان نفسه الذي يَعزم فيه على أداء النسك، وهو معنى: «وكَذَا فَكَذَلِكَ»، «حتى أهل مكة يُهلّون منها» أي: حتى أهل مكة يُحْرمُون لنُسُكهم من بُيوتهم بمكة.
    فوائد الحديث
    1- هذه المواقيتُ حدّدها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الآفاق، فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة، أنْ يتجاوزها دُون إحْرام، وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة، فأبعدها ذُو الحُليفة. 2- الإحْرام مِنَ هذه المواقيت هو تعظيمٌ لحُرْمة البيتِ العتيق. 3- مَنْ مرّ بميقاتٍ من هذه المواقيت، وهو لا يُريد الحج أو العُمرة، فإنّه لا يجبُ عليه الإحْرام منه. 4- إن أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة، ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه، وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت، فإنّه يُحْرم مِنْ بيته.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطِّيبُ للمُحْرم قبلَ أنْ يُحْرِم




    كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا
    الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ
    عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ المِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ. في هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُطيِّبُ بيَدَيْها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِإحْرامِه قبْلَ أنْ يُحرِمَ للحجِّ أو العُمرةِ، ولحِلِّه بعْدَ أنْ يَتحلَّلَ التَّحلُّلَ الأوَّلَ في الحجِّ، وهو بَعدَ رَميِ جَمرةِ العَقَبةِ والحَلْقِ، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، والتَّحلُّلُ الأولُ يَحِلُّ بَعده كُلُّ شَيءٍ إلَّا الاستِمتاعَ بالنِّساءِ، وذلك كما في رِوايةٍ لِلنَّسائيِّ: «ولِحِلِّه بَعدَما رَمى جَمرةَ العَقَبةِ، قَبلَ أنْ يَطوفَ بالبَيتِ».
    وقال رَاوي الحديثِ- واصفًا فِعْلَ عائِشةَ -رضي الله عنها-: «وبَسَطَتْ يَدَيْها» كأنَّها تُحاكي ما فَعَلَتْ مِن قبْلُ بالفِعلِ معَ القولِ، وقيل: فعلَتْ ذلِك مُبالَغةً في الوُقوعِ، ردًّا على مَن أنْكَرَ ذلك، فإنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُنكِرُ التَّطيُّبَ قبْلَ الإحرامِ، والصحيح: أنّ هذا لا إشْكالَ فيه، أنْ يتطيب في رأسه وبدنه، لا في ثوبه الذي يُحْرم فيه، والممنوع هو: أنْ يَمَسَّ الطِّيبَ حالَ الإحْرامِ.
    حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ
    وللحافظ أبي عُمر بن عبدالبر في (التمهيد) بحثٌ مطوّل في هذا، فقال: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، لا يختلف أهلُ العلم بالحديثِ في صِحّته وثُبوته، ولكن الفُقهاء اخْتلفوا في القَولِ به على حسَب ما ذكرناه في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا، وذكرنا اعتلال كل طائفةٍ لمذهبها في ذلك، مِنْ جِهة الأثر والنظر هناك، وسنذكر هاهنا فيه منْ جهة الأثر، ما لمْ يقع هناك إنْ شاء الله. وهذا الحديث رُوي عن عائشة من وجوه، فممن رواه عنها: القاسم، وسالم، وعروة، والأسود، ومسروق، وعمرة، وممن رواه عن القاسم ابنه عبدالرحمن، وأفلح بن حميد، ورواه عن عروة ابن شهاب وعثمان بن عروة وهشام بن عروة، ولم يسمعه هشام من أبيه، إنّما سمعه من أخْيه عثمان، عن أبيه، ثم روى بإسناده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: كنتُ أطيّبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما أجِدُ لحَرمه ولحِلّه، وحين يُريدُ أنْ يَزُورَ البيتَ. وعنه أيضاً: قالت عائشة: طيّبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ يُحْرِم، ويوم النّحر قبل أنْ يَطُوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْك. وروى: عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يَتطَيّب قبلَ أنْ يُحْرم، فتَرَى أثرَ الطّيب في مفْرقه بعد ثلاث.
    المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام
    قال أبو عمر: فذهبَ قومٌ إلى القول بهذه الآثار، وقالوا: لا بأسَ أنْ يَتطيّب المُحْرِم قبل إحْرامه بما شاءَ من الطيب ومِسْكا كان أو غيره ممّا يبقى عليه بعد إحْرامه، ولا يضرّه بقاؤه عليه بعد إحْرامه، إذا تطيّب قبل إحْرامه؛ لأنّ بقاءَ الطّيب عليه، ليسَ بابتداءٍ منه، وليسَ بمتطيّبٍ بعد الإحْرام، وإنّما المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام. قالوا: ولا بأس أنْ يَتطيّبَ أيضاً إذا رَمَى جَمرة العَقَبة، قبلَ أنْ يَطُوفَ بالبيت، وحُجّتهم فيما ذهبوا إليه من ذلك كله، حديث عائشة هذا، وهو حديثٌ ثابت، وقد عَمِلت به عائشة -رضي الله عنها-، وجماعة منَ الصحابة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن جعفر، وأبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وزُفَر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وكل هؤلاء يقول: لا بأسَ أنْ يَتطيّبَ قبلَ أنْ يُحْرم، وبعد رمي جمرة العقبة. ثمّ روى بسنده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: رأيتُ عائشةَ تَنْكتُ في مفارقها الطِّيبَ قبلَ أنْ تُحْرم، ثم تُحْرم. وعن الشعبي قال: كان سعد يتطيّب عند الإحْرام بالذّريرة، وعن ابن عباس، وابن الزبير: أنّهما كانا لا يَريان بالطِّيب عند الإحْرام بأسَا، وعن ابن الحنفية: أنّه كان يُغلّف رأسه بالغالية الجيّدة، إذا أراد أنْ يُحرم. ثمّ قال ابنُ عبدالبر: وقال آخرون، منهم مالك وأصحابه: لا يجوز أنْ يَتطيّب المُحْرم قبل إحْرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحْرم حَرُم عليه الطيب حتّى يطوف بالبيت، وهذا مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وبه قال عطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وهو اختيار الطحاوي.
    حُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب
    قال: وحُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب من جهة الأثر: حديث يعلى بن أمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه أمَرَ الرجل الذي أحْرَم بعُمْرةٍ وعليه طِيب خَلُوق أو غيره، وعليه جُبّة، أنْ يَنْزعَ عنه الجُبّة، ويغسلَ الطّيب، وادّعوا الخُصُوص في حديث عائشة؛ لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان أمْلَك الناس لأربه، ولأنّ ما يُخاف على غيره مِنْ تَذكّر الجِمَاع المَمنوع منه في الإحرام، مأمونٌ منه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان على عُمومه للناس عامة، ما خَفِي على عمر، وعثمان، وابن عمر، مع علمهم بالمَناسك وغيرها، وجلالتهم في الصّحابة، وموضع عطاء من عِلْم المناسك موضعه، وموضع الزهري من علم الأثر موضعه. قال ابن جريج: كان عطاء يَأخذ في الطّيب للمُحرم بهذا الحديث، قال ابن جريج: وكان عطاء يكره الطيب عند الإحْرام، ويقول: إنْ كان به شيءٌ منه فليغسله ولينقه، وكان يأخذ بشأن صاحب الجبة، قال ابن جريج: وكان شأن صاحبِ الجُبّة قبلَ حَجّة الوداع، والآخرُ فالآخر مِنْ أمْرِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أنْ يُتّبع.
    مذهب ابن جريج
    قال أبو عمر: مذهب ابن جريج في هذا الباب خلاف مذهب عطاء، وحُجّته أنّ الآخر ينسخ الأول، حُجةٌ صحيحة، ولا خلافَ بين جماعة أهلِ العلمِ بالسّير والأثر، أنّ قصة صاحب الجُبّة كانت عام حُنين بالجِعْرانة سنة ثمان، وحديث عائشة عام حَجّة الوداع، وذلك سنة عشر، فإذا لمْ يَصح الخُصُوص في حديث عائشة، فالأمر فيه واضح جدا. وروى بسنده: عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابن عمر عن الطّيب عند الإحْرام؟ فقال: لأنْ أطّلى بالقَطِران أحبّ إليّ مِن ذلك، فذكرت ذلك لعائشة فقالت: يَرْحمُ الله أبا عبدالرحمن، قد كنتُ أطيّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيَطُوف على نسائه، ثمّ يُصْبح يَنْضخ طِيبًا. قال أبو عمر: قد أجْمعوا على أنّه لا يجوزُ للمُحرم بعد أنْ يُحْرم، أنْ يَمسّ شيئاً مِنَ الطّيب، حتّى يَرْمي جمرة العَقَبة، واختلفوا في ذلك إذا رمى الجمرة قبل أنْ يطوف بالبيت على ما ذكرنا، وأجْمعوا أنه إذا طافَ بالبيت طواف الإفاضة يوم النّحر، بعد رمي جَمرة العقبة، أنه قد حَلّ له الطّيبُ، والنّساء، والصّيد، وكل شيء، وتمَّ حِلّه، وقضى حجه.
    إذا طافَ طوافَ الإفاضة فقد تمّ حَجّه
    قال أبو عمر: فإذا طافَ طوافَ الإفاضة، فقد تمّ حَجّه، وحلّ له كلَّ شيء بإجْماع، وإنّما رخّص الشافعي، ومن تابعه في الطّيب، لمَن رَمَى جَمْرة العقبة، لحديث عائشة: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أنْ يُحرم، ولحِلّه قبل أنْ يطوفَ بالبيت. تُريد بعد رَمْي جمرة العقبة، ورخص في الصيد منْ أجل قول عمر: إلا النّساء، والطّيب، ولم يقل: «والصيد». وقد قال الله -عز وجل-: {وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}. ومَنْ رَمَى جَمْرة العقبة فقد حلّ له الحلاق والتفث كلُّه بإجماع، فقد دخل تحت اسم الإحْلال، وفي هذه المسألة ضروب من الاعتلال تركتها، والله المستعان. (التمهيد).
    فوائد الحديث
    أنَّ الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ، حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ.
    وقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الطِّيبَ، ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ، وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا.
    بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- لأمته أحكامَ الحَجِّ والعُمرةِ، وسُننَهما، وآدابَهما بالقَولِ والفِعلِ، ونقَلَ الصَّحابةُ ما سَمِعوه وما رَأوْه مِنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
    وفيه: خِدمةُ المرأةِ لزَوْجِها وتَطييبُها له.



    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي



  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: المِسْكُ أطْيبُ الطِّيب



    فِتنةُ النِّساءُ أعظَمُ الفِتنِ وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ
    بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها
    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَشَتْ خَاتَمَهَا مِسْكًا، وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ. الحديث رواه مسلم (4/1765-1766) في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها. باب: استعمال المسك وأنّه أطيب الطيب، وكراهة ردّ الريحان والطيب، الحديث ذكره المنذري هنا مختصرًا، ونصه في مسلم: «كانَتِ امْرَأَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مع امْرَأَتَينِ طَوِيلَتَيْنِ، فاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِن خَشَبٍ، وخاتَمًا مِن ذَهَبٍ مُغْلَقٌ مُطْبَقٌ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا، وهو أطْيَبُ الطِّيبِ، فَمَرَّتْ بيْنَ المَرْأَتَيْنِ، فَلَمْ يَعْرِفُوها، فقالَتْ بيَدِها هَكَذا. ونَفَضَ شُعْبَةُ يَدَهُ.
    يَحكي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: أنَّ امْرأةً قَصيرةً مِن بني إسرائيلَ كانت تَمشي معَ امرأتَينِ طوِيلتَينِ، والمرادُ: أنَّها إذا مَشتْ معَ صاحبِتَيْها الطَّويلتينِ بانَ قِصرُها، فلَبِستْ في قدَمَيها رِجلَينِ مُزوَّرتينِ من خَشبٍ، أو اتَّخذتْ كعبَينِ طَويلينِ عاليَينِ لنَعلَيْها، فكأنَّهما لطُولِهما رِجْلانِ، وذلِك حتَّى تكونَ طويلةً مِثلَهما، فلا يَتفاضلانِ ولا يَتميَّزانِ ولا يَتباهيانِ عَلَيها. واتَّخَذت خاتمًا مِن ذَهبٍ، وجَعَلَت هذا الخاتمَ مُغلَقًا مُطْبَقًا، أي: جعَلَتْ له غَلَقًا، والمُطْبَقُ هو الَّذي دَاخلُه فارغٌ، ثمَّ وَضَعَتْ داخلَ الخاتمِ مِسْكًا وأحكَمتْهُ وأغلَقتْ عليهِ، والمسكُ أفضلُ الطِّيبِ وأطيبُه وأحسَنُه، وأصْل المِسكِ دمٌ يَجتمِعُ في سُرَّةِ الغَزالِ إلى وَقتٍ مَعلومٍ مِن السَّنةِ، وعندَ حُصولِه تَمرَض الظِّباءُ، فيَتساقطُ منها فيُؤخَذ ويُصنع من الطِيب. فمَرَّت تلكَ المرأةُ بيْن المرأتينِ الطَّويلتينِ وهي لابسةٌ للرِّجْلِ الخشبِ والخاتمِ، فلم يَعرِفاها، لأنَّها غيَّرتْ هيئتَها وطال جِسمُها بالرِّجلَينِ المزوَّرتَينِ، «فقالتْ بِيدِها هَكذا» أي: وعندَ مُرورِها عليهنَّ أشارتْ بيَدِها الَّتي فيها الخاتمُ المحشُوُّ مِسكًا وحرَّكتْها بعْدَ أنْ فَتَحَتْه، ففاحَ ريحُ المسكِ، وكأنَّها تَتفاضَلُ عليهِما. قال الرَّاوي -وهو أبو أُسامةَ حمَّادُ بنُ أُسامةَ-: «ونَفَضَ شُعبةُ يدَه»، أي: حَاكى شُعبةُ حرَكةَ اليدِ كما فعَلَت المرأةُ، وفي روايةٍ لأحمدَ: «فكانتْ إذا مرَّتْ بالمجلسِ حَرَّكتْه، فنَفَخَ رِيحُه»، أي: إذا مرّت بمجالِسِ النَّاسِ والرِّجالِ، تَعمَّدتْ تَحريكَ الخاتمِ ليَفوحَ رِيحُه، فيَشَمَّه الناسُ، فتَنجذِبَ الأنظارُ إليها، كأنَّها تَتفاخَرُ على قَرِينتَيها اللَّتين معها.
    التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ
    ورواه أحمدُ في مُسنَدِه، وفي أوَّلِه التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ خاصَّةً، قال النَّبيُّ -[-: «إنَّ الدُّنيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فاتَّقوها واتَّقوا النِّساءَ» أي: فاحْذُروا الدُّنيا وخافوا الوقوعَ في فِتنتِها، ومِن أشدِّ فِتنِها النِّساءُ، ثمَّ ذَكَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قِصَّةَ النِّسوةِ الثَّلاثِ، وكيف تَفنَّنتْ إحداهنَّ في إظهارِ مَفاتنِها وإغواءِ النَّاسِ.
    من فوائد الحديث
    فيه: بَيانُ فَضلِ المِسكِ على سائرِ الطِّيبِ.
    وأنّ فِتنة النِّساء أعظَمُ الفِتنِ، وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ، وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ، لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ.
    الحَثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بظَواهرِ الدُّنيا وزِينَتِها.
    باب: الْأَلُوَّة والكَافُور
    عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ، اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطَرَّاةٍ، وبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ -[-. الحديث رواه مسلم في الباب السابق. يَرْوي التَّابعيُّ نافعٌ مَولى ابنِ عُمرَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كان إذا اسْتَجْمَرَ، أي: إذا أرادَ أنْ يُطيِّبَ المكانَ، أو نفْسَه، أو الضِّيفانَ، استَعْمَل المِجمَرَ، وهو أنْ يُوضَعَ شَيءٌ مِن الطِّيبِ والبخور على تلكَ الأحْجارِ المُجمرة المُشْتعلة، فإذا احتَرَق نَفَذَ مع دُخَانِه رَوائحُ طَيِّبةٌ، فالاسْتِجمار هنا: استعمالُ الطّيب والتبخّر به، مأخوذٌ من المجمر، وهو البُخور، وأمّا «الألُوّة» فقال الأصمعي وأبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب: هي العود يتبخّر به. قال الأصمعي: أراها فارسية معربة، وهي بضم اللام وفتح الهمزة وضمها، لغتان مشهورتان. وقوله: «غيرَ مُطرّاة» أي غير مخلوطة بغيرها من الطّيب. لكنَّه كان في بعضِ الأوقاتِ يَستخدِمُ مع بَخورِ العُودِ كافُوراً، فإنَّه يَزِيدُه طِيبًا، والكافورُ نَبتٌ وشَجرٌ مَعروفٌ. وكان ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- يُخبِرُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَستجمِرُ ويَتبخَّرُ بمِثلِ فِعلِه هذا.
    فوائد الحديث
    أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ الرَّوائحَ الطَّيِّبةَ والعِطور والبُخُور، ويُقرِّبُها إليه، ويَحرِصُ على الأخذِ منها.
    اسْتحبابُ الطّيب للرجال كما هو مُستحب للنساء، لكنْ يستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأمّا المرأة فيستحبّ لها ما ظهر لونه، وخَفي ريحه، لا سيما إذا أرادت الخروج إلى المَسجد أو غيره، كُرِه لها كلّ طيبٍ له ريحٌ يظهر.
    ويتأكد اسْتحباب الطّيب للرّجال يوم الجُمعة، والعيد ونحوها، عند حُضور مجامع المسلمين، ومجالس الذّكر والعلم، وكذا عند إرادته معاشرة زوجته ونحو ذلك.
    وفيه: فَضلُ الصحابي عبدِ الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -، واعتِنائِه بالسُّنَّةِ، ومُلازمتُه لاتِّباعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به.
    باب: في الرّيْحان
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ، طَيِّبُ الرِّيحِ». الحديث رواه مسلم في الباب السابق. في هذا الحديثِ يُرشِدُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ «مَنْ عُرِض عليه» يعني مَنْ أُعْطِيَ رَيْحَانًا هَديَّةً، وهو كلُّ نَبْتٍ مَشمُومٍ طيِّبِ الرِّيحِ، فلا يَرُدَّ المُعْطيَ ولْيَأْخُذْه منه، والمرادُ به في هذا الحديثِ الطِّيبَ كلَّه، فعندَ أبي داودَ: «مَن عُرِض عليه طِيبٌ». وفي صَحيحِ البُخاريِّ: «كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيبَ». ويُعلِّلُ - صلى الله عليه وسلم - سَببَ النَّهيِ عن ردِّ الرَّيحانِ: بكَونِه «خَفِيفُ المَحْمِلِ» أي: خَفِيفَ الحَمْلِ، ورائحتُه جَميلة، فهو هَديَّةٌ نافعةٌ جميلة، ولا مُؤْنةَ فيها ولا مِنَّةَ، لِجرَيانِ عادةِ النَّاسِ بذلكَ، ولِسُهولتِه عليهم، ولقِلَّةِ ما يَتناوَلُ منه عندَ العَرْضِ، ولأنَّه ممَّا يَسْتطيبُه الإنسانُ مِن نَفسِه ويَسْتطيبُه مِن غَيرِه، فلا تُرَدُّ مِثلُ هذه الهديَّةُ، كيْ لا يَتأذَّى المُعطي بِرَدِّه، فرَدُّها لا وَجْهَ له إلَّا مِن عُذرٍ، والحديثُ فيه إشارةٌ إلى حِفظِ قُلوبِ النَّاسِ بقَبولِ هَداياهُم.
    من فوائد الحديث
    في الحديثِ: بَيانُ فضْلِ الرَّيْحانِ، والتَّرغيبُ للمسلم في اسْتعمالِ الطِّيبِ.
    استحباب قبول هدية الرّيحان، فإنّه لا منّةَ بأَخْذِه، وقد جرت العادة بالتسامح في بذله.
    بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ، وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ، وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها، ولا سيَّما إنْ كانتِ الهديَّةُ خَفيفةً سَهلةً لا تُكلِّفُ المانحَ ولا الآخِذَ كَثيرَ جَهدٍ وعَناءٍ، وهذا ما يَنطبِقُ على الطِّيبِ عمومًا.
    استحباب عرض المسلم الطيب على إخوانه، ولا سيما عند حضور الجُمع والجماعات.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الإحْرام مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ ذي الْحُلَيْفَةِ



    أخَذَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ كما أمَرَهم بذلك وبَلَّغوا مَن بَعدَهم فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً
    عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه - يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِيها، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/843) باب: أمْرُ أهلِ المَدينة بالإحْرام منْ عند مسجد ذي الحُلَيفة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ وهو الإمام الزاهد، الحافظ، مُفْتي المدينة، أبو عمر وأبو عبدالله، القرشي العَدَوي، المَدني، وأمّه أم ولد. مولده في خلافة عثمان. حدث عن أبيه فجوّد وأكثر، وعن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة وغيرهم.
    قال ابن عيينة: دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال: سَلْني حاجة. قال: إنّي أسْتحيي مِنَ الله أنْ أسأل في بيتِه غيره؟ فلما خَرجَا قال: الآن فَسْلنِي حاجة، فقال له سالم: منْ حَوائج الدنيا، أمْ مِنْ حَوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها، فكيفَ أسألها من لا يملكها. (السير) (4/458). توفي سنة ست ومائة.
    قوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه»
    قوله: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه -، وهو الصحابي عبدالله بن عُمر بن الخطاب، وقوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه» البيداء القَفْر الخَالي عن العِمْران والأثر، ويقال لها: مَفازة من باب التّفاؤل، وإلَّا فهي في الأصْل مَهْلكة، وكلّ مفازةٍ بيداء، وهي في الحديث: مفازة أمام ذي الحليفة بين مكة والمدينة، أولها شَرَف مرتفع قريب منْ مسجد ذي الحليفة، فيُخبِرُ سالمُ بنُ عبداللهِ بنِ عمرَ أنَّ أباه عبداللهِ - رضي الله عنه - كان إذا قِيلَ له: إنَّ رفعَ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ في الحَجِّ أو العُمرةِ يَبدأُ منَ البَيداءِ، يُنكِرُ ذلك.
    قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ»
    قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ» المَقصود هنا تُخْطئُون، والكذب: الإخْبار عن الشّيء على خلافِ ما هو عليه، فإنْ كان مع العَمْد فهو الكذبُ المَذموم، وإنْ كان منْ غير قصدٍ مع سَهْو وغلط، فهو الخطأ، وهو المَقصُود في حديث الباب، وهذا يُؤخَذ منه أنّ الإخْبار بخلافِ الواقع، يُسمَّى كذباً على كلّ حال، لكنه إذا وقع خَطأً مِنْ غير عَمْد، فلا يأثم، وإن كان من عمد، فهو الكذبُ الذي يأثمُ به صاحبه وهو المشهور اليوم». انظر: (المفهم) الحج، باب: بيان المَحلّ الذي أهلَّ منه رسُول الله». حديث (1056). قوله: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» يعني: مسجد ذي الحُليفة، لأنّ «ألْ» في قوله: «المسجد» ألْ العَهْدية، والمَعهُود هو مسجد ذي الحليفة، ومَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبْعةٌ (10 كم تقريبًا)، وهي مِيقاتُ أهْلِ المدينةِ، وكذا مَنْ مَرَّ بها مِنْ غيرِ أهْلِها، وفي الرواية الأخرى: «إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ»، والمراد: الشّجرة التي كانت عند المسجد، وقوله: «أَهَلَّ» منَ الإهْلال، وتقدَّم أنّ معناه رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية.
    سَببُ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ
    ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منْهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجّاً، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّتْ به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهمْ كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ اسْتَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مَضَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخِلافَ وقَعَ في ابتدَاءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ. ويُؤيد هذا: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قال: «وأيمُ اللهِ، لقدْ أوجَبَ في مُصلَّاه، وأهَلَّ حينَ اسْتقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيداءِ». وهذا واضح والحمدلله.
    فوائد الحديث
    1- بيان مَوضع إهْلال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه أهلَّ من المَسْجد. 2- ميقات ذي الحُليفة، إنّما هو مِنَ المَسْجد، لا مِنَ البَيداء التي بعده، قال النووي -رحمه الله-: «وفيه دلالةٌ على أنّ ميقاتَ أهلِ المدينة منْ عند مسجدِ ذي الحليفة، ولا يَجوزُ لهم تأخيرُ الإحْرام إلى البَيداء، وبهذا قال جميع العلماء». (شرح النووي). 3- فيه دلالة على أنّ الإخْبار بخِلافِ الواقع، يُسمَّى كذِباً وإنْ كان وَقَع سَهْواً، وهذا منْ حيثُ العُموم، وإلَّا فالكذبُ المَذموم في النُّصُوص هو الذي يقع عن عَمْد، فهو الذي يَحْرُم، ويأثم به صاحبُه. 4- أخَذَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، كما أمَرَهم بذلك، وبَلَّغوا مَن بَعدَهم، فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً.
    الإسلا م هو الدِّينُ الحق
    قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام} (آل عمران:19). وقال -تعالى-: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:84-85). وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102). وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64). وقال -تعالى-: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 125-126). وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78). وقال -تعالى-: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الزمر:22). وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33). والإسلام ناسخٌ لجميع الشرائع من قبل، وهو محفوظ من التبديل والتغيير أو النقص؛ وذلك لكونه الخاتم، فتكفَّل الله بحفظه.
    قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (المائدة:3). وقال -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ -عز وجل- إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ».
    وفي رواية: « يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، (رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه ).
    وفي رواية: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يَهُوديٌّ ولا نصرانِيٌّ ثم يموت ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار».


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الْإِهْلَالُ حين تَنْبَعِث الرَاحِلَة



    يوم التّروية: هو الثامن من ذي الحجة وسُمّي بذلك لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات ليَستعملوه في الشرب وغيره

    كان عبداللهِ بنُ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه
    عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْن ِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، ورَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، ورَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؟ فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْن ِ، وأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، ويَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وأَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ، حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/844) باب: الإهلال من حيثُ تنبعث الراحلة، ورواه البخاري.
    وعُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ هو التّيمي مولاهم، المَدَني، مكيٌّ، منْ ثِقات التابعين، وسألَ هذا التابعيُّ: عبداللهِ بنَ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- عَن أربعةٍ أُمورٍ، يقول: لم يَرَ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلونَها، فقال لابن عمر: رأيتُك تصنع أرْبعاً، لمْ أرَ أحداً منْ أصحابك يصنعها، إلى آخره. قال المازري: يحتمل أنّ مُراده لا يَصْنعُها غيرُك مُجْتمعة، وإنْ كان يصنع بعضها. قوله: «رأيتُك لا تمسّ مِنَ الأركان إلا اليَمانيين» قال له ابن عمر -في جوابه-: إنّه لمْ «يرَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إلا اليمانيين» وهما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفَصيحة المشهورة، قالوا: لأنّ نِسْبتها إلى اليَمن، فحقّه أنْ يقال: اليَمني، وهو جائز، فلما قالوا «اليماني» أبْدلوا من إحدى ياءي النّسب ألفاً، فلو قالوا: اليماني بالتّشديد، لزم منه الجَمع بين البدل والمُبدل. والمُراد بالرُّكنين اليَمانيين: الرُّكن اليماني، والرُّكن الذي فيه الحَجَر الأسْود، ويقال له: العراقي، لكونه إلى جِهة العراق، وقيل للذي قبله: اليماني، لأنّه إلى جِهة اليمن، ويُقال لهما: اليَمانيان تغليباً لأحَد الاسْمين، كما قالوا: الأبَوَان للأبِ والأم، والقَمَران للشّمس والقمر، والعُمَران لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونظائره مَشْهورة، فتارةً يُغلّبون بالفضيلة كالأبوين، وتارة بالخفّة كالعُمَرين، وتارةً بغير ذلك، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات. (النووي بتصرف).
    الركنان الشاميان لا يُسْتلمان
    قال العلماء: ويقال للرُّكنين الآخرين اللذين يليان الحِجر: الشّاميان، لكونهما بجِهة الشّام، قالوا: فاليمانيان باقيان على قواعد إبْراهيم - عليه السلام -، بخِلاف الشّاميين، فلهذا لمْ يُسْتلما، واسْتلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم - عليه السلام -، ثمّ إنّ العراقي مِنَ اليمانيين اختصّ بفضيلة أخرى، وهي الحَجَر الأسْود، فاختصّ لذلك مع الاسْتلام بتقبيله، ووضع الجبهة عليه، بخلاف اليماني. والله أعلم. (النووي). قال القاضي: وقد اتفق أئمّة الأمْصَار والفقهاء اليوم: على أن الركنين الشاميين لا يُسْتلمان، وإنّما كان الخِلافُ في ذلك العصر الأول من بعضِ الصحابة، وبعض التابعين، ثمّ ذهب.
    قوله: «ورأيتُك تلبسُ النِّعال السّبتية»
    قال ابنُ عمر في جوابه: «وأمّا النّعال السّبتية، فإنّي رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبس النّعال التي ليس فيها شَعر، ويتوضّأ فيها، وأنا أحبّ أنْ ألبسها»، و»السبتية» بكسر السين وإسكان الباء الموحدة، وقد فسّرها ابن عمر بقوله: «التي ليس فيها شعر»، وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب وأهل الحديث: إنّها التي لا شَعر فيها، قالوا: وهي مشتقة من «السَّبت» بفتح السين وهو الحَلْق والإزالة، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسه، أي: حَلَقه، قال الهروي: وقيل: سُمّيت بذلك، لأنّها انْسَبَتت بالدّباغ، أي: لانت، يقال: رطبةٌ مُنْسَبتة، أي: لينة. وقال أبو عمرو الشيباني: السّبت: كلُّ جِلْدٍ مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت: جلود البقر مدبوغة كانت، أو غير مدبوغة، وقيل: هو نوعٌ من الدباغ يقلع الشّعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سوداً لا شَعْر فيها، قال القاضي: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهلُ الرفاهية. وقوله: «ويتوضّأ فيها» معناه: يتوضّأ ويَلْبسها ورجلاه رَطْبتان.
    قوله: «ورأيتُك تَصبغ بالصُّفرة»
    وقال ابن عمر في جوابه: «وأمّا الصُّفرة، فإنّي رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ بها، فأنا أحبُّ أنْ أصبُغ بها» فقوله: «يصبغ وأصبغ» بضم الباء وفتحها، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهري وغيره. قال المازري: قيل: المراد في هذا الحديث: صبغ الشّعر، وقيل: صبغ الثوب، قال: والأشْبه أنْ يكونَ صَبغ الثياب، لأنّه أخْبر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم - صَبغ، ولمْ يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صبغ شعره. وقال القاضي عياض: هذا أظْهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر، بيّن فيها تَصْفير ابن عُمر لِحْيته، واحتجّ بأنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم - كان يصفّر لحيته بالوَرْس والزعفران. رواه أبو داود، وذكر أيضا في حديث آخر: احْتجاجه بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم لا- كان يصبغ بها ثيابه، حتى عمامته. فعن زيد بن أسلم عنِ ابنِ عمرَ: أنّه كان يصفِّرُ لحيتَه بالصُّفرةِ، حتى تمتلئَ ثيابُه من الصُّفرةِ، فقيل لهُ: لمَ تصبغْ بالصُّفرةِ؟ قال: إنّي رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ولمْ يكنْ شَيءٌ أحبَّ إليهِ منْها، وقد كان يصبغ بها ثيابَه كلَّها، حتى عمامَتَهُ. أخرجه أبو داود (4064)، والنسائي (5085) باختلافٍ يسير، وأحمد (5717) بنحوه فيُخبِرُ زيدُ بنُ أسلَمَ: أنَّ ابنَ عُمرَ كان يَصبُغُ لِحْيتَه» أي: يُغيِّرُ مِن لَونِها بالصُّفْرَةِ، أي: يَجعَلُ لونَ شَعرِ لِحيَتِه أصفَرَ، وذلك بنَباتِ الوَرْسِ. والوَرْسُ: نَباتٌ كالسِّمْسِمِ أصفَرُ، «حتَّى تَمتلِئَ ثِيابُه مِن الصُّفرةِ»، أي: مِن كَثرَةِ صَبغِه لِلحيَتِه، «فقيلَ لابنِ عُمرَ: لِم تَصبُغُ بالصُّفرَةِ؟ فقال» ابنُ عُمرَ: «إنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - يَصبُغُ بها»، أي: امتِثالًا مِنه لفِعْلٍ قد رآه مِن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فهو يَتَّبِعُه فيه، «ولم يَكُنْ شيءٌ أحَبَّ إليه»، أي: إلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - «مِنْها»، أي: مِن الصَّبْغِ بالصُّفْرَةِ، «وقد كان يَصبُغُ بها ثِيابَه كلَّها حتَّى عِمامَتَه»، أي: حتَّى إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِحُبِّه للصُّفرَةِ وإعجابِه بها كان يَستَعمِلُها لِجَميعِ ثيابِه بما في ذلك عِمامَتُه -صلى الله عليه وسلم . قوله: «ورأيتك إذا كنتَ بمكّة، أهلّ الناسُ إذا رَأوا الهِلال، ولمْ تُهل أنتَ، حتّى يكون يوم التروية». قال ابن عُمر في جوابه: «وأما الإهْلال، فإنّي لمْ أرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تَنْبعث به راحلته».
    يوم التروية
    ويوم التّروية: فبالتاء المثناة فوق، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمّي بذلك؛ لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات، ليَستعملوه في الشرب وغيره، فالحاج يُحْرِمَ يومَ التَّرويةِ ويُهِلَّ بالحَجِّ، ويفعَلَ كما فعل عند الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، مِنَ الاغتسالِ والتَّطَيُّب، ولُبْسِ الإزار وغير ذلك، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة، وابنِ حَزْمٍ مِنَ الظاهريَّة، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ.
    الأدِلَّة على ذلك مِنَ السُّنَّةِ
    عن جابِرِ بنِ عبداللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، قال: «فلمَّا كان يومُ التَّرويةِ، تَوَجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ». رواه مسل(1218)، وعنه -رضي الله عنه - قال: «أهلَلْنا مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فلمَّا قَدِمْنا مكَّةَ أَمَرَنا أن نَحِلَّ ونَجْعَلَها عُمْرةً، فكَبُرَ ذلك علينا وضاقَتْ به صُدُورُنا، فبَلَغَ ذلك النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فما ندْري أشيءٌ بلَغَه مِنَ السَّماءِ، أمْ شيءٌ مِن قِبَلِ النَّاس؟ فقال: أيُّها النَّاس أحِلُّوا، فلَولا الهَدْيُ الذي معي فعَلْتُ كما فعَلْتُم، قال: فأحْلَلْنا حتى وَطِئْنا النِّساءَ، وفَعَلْنَا ما يفعَلُ الحَلالُ، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ، وجَعَلْنا مكَّةَ بظَهْرٍ، أهْلَلْنا بالحَجِّ». رواه مسلم (1216).
    وقال المازري: أجابه ابنُ عُمر بضربٍ مِنَ القياس، حيثُ لمْ يتمكّن مِنَ الاستدلال بنفسِ فعل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على المَسألة بعينها، فاستدلّ بما في معناه، ووجه قياسه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما أحْرَم عند الشُّروع في أفْعال الحَج، والذهاب إليه، فأخّرَ ابنُ عمر الإحْرَام إلى حال شُروعه في الحَج، وتوجّهه إليه، وهو يومُ التّروية، فإنّهم حينئذ يَخرجون مِنْ مكة إلى مِنى، ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب مالك وغيرهم، فكان ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- متَّبِعًا لا مُبتدِعاً، -رضِي اللهُ عَن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - أجمعينَ.
    وقوله في هذا الباب: «فإنّي لمْ أرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته»، وقال في الحديث السابق: «ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي الحديث الذي قبله «كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي رواية: «حين قام به بعيره»، وفي رواية: «يُهلّ حتى تستوي به راحلته قائمة».
    الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته
    هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور: أنّ الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته، وقال أبو حنيفة: يُحرم عقبَ الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قولٌ ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.
    وفيه: أن التلبية لا تقدم على الإحرام.
    فأجابَه ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- هنا بِضرْبٍ مِنَ القِياسِ، حيثُ لم يَتمكَّنْ مِنَ الاستِدلالِ بِنفْسِ فِعلِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المسألةِ بعَينِها، فاستدلَّ بما في معناهُ، ووجْهُ قِياسِه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أحرَمَ عندَ الشُّروعِ في أفعالِ الحجِّ والذَّهابِ.
    فوائد الحديث
    فيه أنّ عبداللهِ بن عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ، في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه، ورُبَّما صنَعَ أموراً لم يَصْنَعْها غَيرُه، لشِدَّةِ تَحرِّيه لاتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
    بَيانُ مَشروعيَّةِ الوُضوءِ في النَّعلينِ.
    وفيه: بَيانُ أنَّ الخيرَ في اتِّباعِ السُّنةِ مع الاجْتهادِ والقياسِ عليها لِمَن كان أهْلاً لذلك.
    وفيه: سُؤالُ المُتعلِّمِ للعالمِ عمَّا رآهُ منه ولم يَعرِفْ أصْلَه أو لم يَفهَمْه، وتوضيحُ العالِم ذلِك للسائِلِ.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الإهْلال بالحَجّ مِنْ مَكّة



    الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ عزّوجلَّ بها عبادَهُ يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا بحسب استطاعته
    المُعتمِر إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ
    عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها- بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالكَعْبَةِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ. قَال فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَال: «مَا شَأْنُكِ؟» قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، والنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الْآنَ. فَقَال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ»، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ والصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَال: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ. قَال: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عبدالرَّحْمَنِ، فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ». وذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/881) باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحلّ القارن من نُسكه.
    في هذا الحَديثِ يَقول جَابِرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ»، قوله: «أقبلنا» أي: أغلبنا أقْبَلوا مُهِلِّينَ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، والإهْلالُ: هو رَفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، والمرادُ به هنا: عَقدُ نيَّةِ الإحْرامِ، والإفْرادُ: هو أنْ يُحرِمَ الحاجُّ بالحَجِّ فقطْ، وكانتْ أمُّ المؤمِنينَ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ممَّن أحرَمَ بِعُمْرةٍ.
    «حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ»
    أي: حتَّى إذا كانوا بِسَرِفَ، وهو اسمُ مكانٍ على بُعد عَشَرةِ أمْيَالٍ (16 كم تقريبًا) من مَكَّةَ، «عَرَكَتْ» أي: حاضَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها-، ثمّ إنهم لمَّا قَدِموا إلى مكَّةَ؛ طافوا بالكَعْبةِ، وسَعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ، وتلك أعْمالُ العُمرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه -رَضيَ اللهُ عنهمُ- الَّذين لمْ يَسوقوا الهَديَ أنْ يَحِلَّوا من إحْرامِهم، والهدي: اسمٌ لكلِّ ما يُهْدَى إلى الكَعبةِ، منَ الأنْعامِ: من الإبِلِ والبَقرِ والغَنمِ، قُربةً إلى اللهِ -تعالى-.
    فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟
    قَال: «فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟» أي: فسأَلوا: أيُّ نَوْعٍ منَ الحِلِّ الَّذي نَتحلَّلُ به؟ كأنَّهم كانوا مُتردِّدينَ في هذا الحِلِّ؛ لأنَّهم جاؤوا للحجِّ، والحاجُّ من شأنِه لا يحِلُّ حتَّى يَقضيَ جميعَ مَناسِكِه، فأجابَهُم - صلى الله عليه وسلم - فقال: «الحِلُّ كُلُّهُ» أي: إنَّ كُلَّ الأشياءِ الَّتي مُنِعَتْ بِسببِ الإحْرامِ؛ تَحِلُّ لكم، حتّى النساء. ويُسمَّى هذا النّسك: التَّمتُّعَ في الحجِّ، وهو مَن اعْتمرَ ثمّ حلّ، وانتظر الإحْرام مرةً أخرى يوم التّروية.
    {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
    وأمّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وبعضُ أصْحابِه ممَّن ساقوا الهَديَ، فلم يَحِلُّوا من إحْرامِهم، لقوله -تعالى-: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) البقرة: 196. والمعنى: وأدُّوا الحج والعمرة تامَّيْنِ، خالصين لوجه الله -تعالى-، فإنْ مَنَعكم عن الذهاب لإتمامهما بعد الإحْرام بهما مانع، كالعدو والمرض، فالواجب عليكم ذَبْحُ ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم، تقرباً إلى الله -تعالى-؛ لكي تَخْرُجوا منْ إحْرامكم بحلق شَعر الرّأس أو تقصيره، ولا تحلقوا رؤوسكم إذا كنتُم مُحصرين؛ حتى تَنْحرُوا هديكم في المَوضع الذي أُحْصرتم فيه، ثمّ تحلّوا مِنْ إحْرامكم، كما نَحَرَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في «الحديبية» ثمّ حَلَق رأسه. وغير المُحْصر: لا يَنحر الهدي إلا في الحَرَم، الذي هو مَحلّه في يوم العيد، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة وما بعده من أيام التشريق.
    قوله: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟
    ويدلّ عليه أيضًا: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في حجة الوداع: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟ قال: «إني قد سَقْتُ الهَدي؛ فلا أُحلّ حتّى أنحر». قوله: «فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ» أي: فأطاعَ الَّذين لم يَسوقوا الهَديَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أمَرَهم به، فخَلَعوا ثيابَ إحْرامِهم، ثُمَّ قَصَّروا شَعرَهم ولمْ يَحلِقوه، حتَّى يَتسَنَّى لهمُ الحَلقُ بعدَ الحجِّ، ومن ثَمَّ وَاقَعوا النِّساءَ، أي: جامَعوهُنَّ، وتَطَيَّبوا بالطِّيبِ، ولَبِسُوا الثِّيابَ المَمْنُوعَ لُبْسُها في الإحْرامِ، ولَيسَ بينَهم وبينَ الوُقوفِ بِعَرَفةَ -في اليومِ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ- إلَّا أربعُ ليالٍ.
    قوله: «ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ»
    أي: ثُمَّ أحرَمَ الَّذين كانوا مُتمتِّعينَ بالعُمرةِ بنُسكِ الحَجِّ يومَ التَّرْوِيةِ، وهو اليومُ الثَّامِنُ من ذِي الحِجَّةِ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الماءَ كان قَليلًا بِمِنًى، فكانوا يَرْتَوونَ منَ الماءِ ويَحْمِلونَه لِمَا بعدَ ذلك. وفيه دليل: على أنّ وقتَ الإحْرام بالحجّ يكونُ يوم التّروية، وهو اليومُ الثامن من ذي الحجّة.
    أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ
    ثُمَّ دخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عَائِشةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فوجَدَها تَبْكي، فسأَلَها عن سببِ بُكائِها، فأخبَرَتْه بحَيْضِها، وأنَّه منَعَها العُمرةَ؛ لأنَّها لم تطُفْ بالكَعبةِ، وهي ما زالَتْ في حَيضَتِها، والنَّاسُ يَتأهَّبونَ لأداءِ مَناسِكِ الحجِّ، فهي تَبْكي لفَواتِ كلِّ ذلك عليها، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مواسيًا لها: «إنَّ هذا» أي: إنّ الحَيْضَ أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ، ,وفي رواية: «أمْرٌ كتَبَه اللهُ -تعالى-» أي: قدَّره، «على بناتِ آدَمَ»، أي: إنَّك لستِ مُختصَّةً بذلك، بل كلُّ بناتِ آدَمَ يكونُ مِنهنَّ هذا، وهذا تَطْييبِ منه - صلى الله عليه وسلم - لخاطرِها، وتسلية وتأنيساً لها، وتخفيفاً لهمها، ومعناه: إنك لستِ مُختصّة به. وهذا دال على أنّ الحائض ومثلها النفساء، والجُنب، والمُحْدث؛ يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته؛ إلا الطواف، فإنه يُشْترط فيه الطهارة، وهذا مذهبُ الجمهور، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بالبيت صلاة». رواه الترمذي. والصلاة الطهارة شَرط فيها؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور». متفق عليه. قوله: «فاغْتَسِلي» أي: للنَّظافةِ، وإلا فغسلها هذا لا يرفع الحَدَث، «ثُمَّ أهِلِّي بالحَجِّ» أي: أحْرمي بإحْرامِكِ الَّذي أنتِ فيه، وَالحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنهما الإحْرام، وجَميعُ أَفعالِ الحجِّ إلَّا الطَّوافَ؛ لقَولِه - صلى الله عليه وسلم -: «اقْضي ما يَقْضي الحاجُّ؛ غيرَ أنْ لا تَطوفي». متَّفقٌ عليه.
    فعل عائشة -رضي الله عنها
    ففعَلَتْ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ما أمَرَها به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ووقَفتِ المَواقِفَ كلّها، وأتَتِ بالمناسكَ، فوقَفتْ بعَرَفةَ، وذهَبَتْ إلى مُزْدَلِفةَ ومِنًى، ورمت الجمرة، حتَّى إذا طَهُرَتْ من حَيْضِها، طافَتْ بالكَعْبةِ، وسَعَتْ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوةِ، وأخْبَرَها - صلى الله عليه وسلم - أنَّها قدْ حَلَّتْ من حَجَّتِها وعُمْرَتِها جمِيعًا، وذلك أنَّ أعْمالَ العُمرةِ دخلَتْ في الحجِّ؛ لأنَّها صارَتْ قارنةً، فحلَّتْ منهما جميعاً. فقالتْ عَائِشةُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أجِدُ في نَفْسي أنِّي لَمْ أطُفْ بالبَيْتِ حتَّى حَجَجْتُ» أي: حينَ أحرَمْتُ بالعُمرةِ في أوَّلِ أمرِها، لم أطفْ بالبيت، ومُرادُها أنَّها لم تَتمتَّعْ بالعُمرةِ مثلَ غيرِها، فأمرَ - صلى الله عليه وسلم - أخَاها عبدالرَّحمنِ بنَ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهم- أنْ يَذهَبَ بها لِتُحرِمَ بِعُمْرةٍ منَ التَّنْعيمِ، تَطْييباً لقَلبِها، و»التَّنعيمُ» مَوضِعٌ على ما يُقارِبُ مِن 5 إلى 6 كيلومتراتٍ مِن مَكَّةَ، أقْرَبُ أطرافِ الحِلِّ إلى البَيْتِ، وسُمِّيَ به لأنَّ على يَمِينِه جبَلَ نُعَيْمٍ، وعلى يَسارِهِ جبَلَ نَاعِمٍ، والواديَ اسمُه: نَعْمَانُ.
    قوله: «وكان ذلك ليلةَ الحَصْبةِ»
    أي: لَيلةَ المَبيتِ بِالمُحَصَّبِ بعدَ النَّفْرِ من مِنًى، والمُحصَّبُ مَوضِعٌ خارجَ مكَّةَ، وهو مَسيلٌ واسعٌ فيه دِقاقُ الحَصَى يقَعُ بينَ مِنًى ومَكَّةَ، وهو إلى مِنًى أقرَبُ، وقيلَ: هو موضِعُ رَمْيِ الجِمار بِمِنًى، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ نزَلَ به بعدَ انْتهاءِ أيَّامِ رَمْيِ الجَمَراتِ، وكان مَوْلاه أبو رافِعٍ قد نصَبَ له الخَيْمةَ، وَهذا النُّزولُ والمَبيتُ في هذا المكانِ كان قَبلَ طَوافِ الوَداعِ؛ فقدْ جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ والعَصرَ، والمغرِبَ والعِشاءَ، ثُمَّ رقَدَ رَقْدةً بالمُحصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيتِ فَطافَ بِه».
    فوائد الحديث
    متابعة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأقواله بالحج والعمرة وغيرهما، وحرصهم على ذلك، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حجَّ مرَّةً واحدةً، وكان ذلك في العامِ العاشِرِ منَ الهِجرةِ، وسُمِّيَت بحَجَّةِ الوَداعِ، فنقَلَ عنهُ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- تَفاصيلَ تلكَ الحَجَّةِ؛ كي نتعلَّمَ الأمّة كيفيَّةَ الحجِّ الَّذي أمَرَ بهِ اللهُ -عزَّ وجلَّ.
    فيه بيانُ تَيسيرِ الشَّرعِ على الحائضِ في أُمُورِ الحجِّ والعُمرةِ.
    مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
    المُعتمِرَ إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ، وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ، وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ.
    فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرةِ، لمَنْ لم يَسق الهدي.
    الطَّواف الواحِد والسَّعْي الواحِد يُجْزِئانِ القارِنَ عن حَجِّهِ وعُمرَتِه.
    الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بها عبادَهُ، يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا، بحسب استطاعته.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّلبية



    كان رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ ويقول في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ»
    الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
    التلبية إجابةٌ للعبادة وإشْعار للإقامة عليها وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها وهو التّحللُ منْها والتّحلل يحصل بالطواف والسعي
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». قَالُوا: وَكَانَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والْعَمَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/842) باب: التلبية وصِفتها ووقتها.
    في هذا الحَديثِ بَيانٌ لِصفةِ تَلبِيةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ الإهْلالِ بالحَجِّ؛ حيثُ يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ» لبيك أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ، في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمْرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
    قوله: «لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ»
    أي: أنتَ وحدَكَ مالِكٌ في مُلكِكَ بلا مُنازِعٍ أو شَريكٍ، «إنَّ الحَمدَ والنِّعْمةَ لكَ» أي: فلكَ وحْدَكَ الحَمدُ والشُّكرُ والثَّناءُ، وكلُّ نِعمةٍ فهيَ مِنكَ وأنتَ مُعْطيها، «والمُلْكَ لا شَريكَ لكَ» ذكَرَ المُلْكَ بعدَ الحَمدِ والنِّعمةِ، لتَعميمِ أَسْبابِ الطَّاعةِ وإيضاحِ وجوهِ الانْقيادِ والعِبادةِ، ثُمَّ أتْبَعَه بقولِه: «لا شَريكَ لكَ» ليَزولَ الشَّبهُ عنه ويَستقِلَّ بالمُلكِ والحمدِ والنِّعمةِ مُنفرِدًا. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَزيدُ على قولِ تلك الكلِماتِ في تَلبيتِه وإهْلالِه. وقيلَ: الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ -تعالى- لعِبادِه، بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه، إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب.
    متى يُلبّي الحاجُّ أو المعتمر؟
    في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أهَلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اسْتَوتْ به راحلته قائمة، وفي رواية: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا صلّى بالغداة بذي الحليفة أمَرَ براحلته فَرُحِّلَتْ، ثم ركب فإذا اسْتَوتْ به استقبل القبلة قائمًا، ثم يُلَبِّي حتى يبلغ الحَرَم ثمّ يُمْسك.
    إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم
    وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنّ إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذِي الحُليفة حين اسْتوت به راحلته. رواه البخاري، وقوله: «أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،...». فيه: أنّ السُّـنَّة رفعُ الصّوت بالتلبية بالنّسبة للرِّجال. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظّهر أربعًا، والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتُهم يصْرُخُون بهما جميعًا. رواه البخاري، قال ابن حجر: قوله: «وسمعتهم يَصرخون بهما جميعاً» أي: بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك: من نَوى منهم القِران، ويحتمل أنْ يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج، وبعضهم بالعمرة، قاله الكرماني. ويُشْكِل عليه قوله في الطريق الأخرى، يقول: لبيك بحجة وعمرة معاً. اهـ. وفي رواية للبخاري: قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ معه بالمدينة الظهر أرْبعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثمّ بات بها حتى أصبح، ثمّ ركبَ حتى اسْتَوتْ به على البيداء، حَمِد الله وسَبّح وكَبّر، ثم أهَلّ بِحَج وعمرة، وأهلّ الناسُ بهما. وروى ابن أبي شيبة: عن بكر بن عبدالله المزني قال: كنتُ مع ابن عمر فَلَبّى حتى أسْمَعَ ما بينَ الجبلين، قال ابن حجر: إسناده صحيح.
    رفع الصحابة أصواتهم بالتلبية
    وأخرج أيضًا: من طريق المطلب بن عبدالله قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى تُبَحّ أصواتهم. قال ابن حجر: إسناده صحيح. وروى أيضًا: عن زيد بن خالد الجُهني قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: جاءني جبريل فقال: « يا محمَّدُ، مُرْ أصحابَكَ فليَرفَعوا أصواتَهُم بالتَّلبيةِ، فإنَّها مِن شعارِ الحجِّ». رواه ابن ماجة. وروى أيضا من طريق المسيب بن رافع قال: كان ابن الزبير يقول: التلبيةُ زينة الحج وقال ابن عباس: هي زينةُ الحاجّ. وروى عبدالرزاق: عن معمر عن الزهري عن سالم قال: كان ابنُ عُمر يَرْفعُ صَوته بالتلبية، فلا يأتِ الرَّوحاء حتى يَصْحَل صوته قال الخليل: صَحل صوتُه يصحل صَحْلاً، فهو أصْحل، إذا كانت فيه بُحّة. قال الخرقي: ويُستحب اسْتدامة التلبية، والإكثار منها على كل حالٍ، لا سيما إذا علا نشْزا، أو هبط وادياً، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه، وفي دُبر الصلوات المكتوبة. «المغني» (5/105). وبهذا قال الشافعي. قال ابنُ عبدالبر: أجْمعُ العُلماء على أنّ السُّنّة في المَرأة، ألا تَرفعَ صَوتَها، وإنّما عليها أنْ تُسْمِع نفسَها. «المغني (5/160).. فَخَرَجَتْ منْ جملة ظاهر الحديث، وخُصَّتْ بذلك، وبَقِي الحديث في الرّجال، قال ابنُ قدامة: وإنّما كُره لها رفعُ الصّوت، مُخافةَ الفِتْنة بها، ولهذا لا يُسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة، والمَسْنُون لها في التّنْبيه في الصلاة: التّصفيق دُون التّسبيح.
    متى يَقطع المُعتمِر التّلبية؟
    قال الإمامُ أحمد: يقطع المُعتَمِر التلبية إذا اسْتلم الرُّكن، قال ابن قُدامة في المغني (5/256): وبهذا قال ابنُ عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاووس والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر وعروة والحسن: يقطعها إذا دَخل الحَرَم. وحُكِي عن مالك: أنه إنْ أحْرمَ مِن المِيقات، قطع التلبية إذا وَصَلَ إلى الحَرم، وإنْ أحْرمَ بها مِنْ أدْنى الحِلّ، قطع التلبية حين يَرَى البيت. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن ابن عباس- يرفعُ الحديث- كان يُمْسِك عن التّلْبية في العمرة إذا اسْتلمَ الحَجَر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اعْتمرَ ثلاث عُمَر، ولمْ يزلْ يُلَبّي حتّى اسْتلمَ الحَجَر.
    التلبية إجابةٌ على العبادة
    ولأنّ التلبيةَ إجابةٌ للعبادة، وإشْعار للإقامة عليها، وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها، وهو التّحللُ منْها، والتّحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخَذ في التّحلّل، فينبغي أنْ يقطع التلبية، كالحجّ إذا شَرَع في رمي جَمرة العقبة لحصول التحلل بها، أمّا قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها، والله أعلم. اهـ. وقال ابن عبدالبر: اخْتَلَف العُلماء في قطع التلبية في العُمرة. وقال مالك في موطئه- على ما ذكره ابن قدامة- وأضافَ ذلك إلى ابن عمر وعروة بن الزبير. وقال الشافعي: يقطع المُعْتمر التلبية في العُمرة، إذا افتتح الطّواف. وقال مرة: يُلَبِّي المعتمر حتى يستلم الرُّكن، وهو شيءٌ واحد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف. قال أبو عمر: لأنّ التلبية استجابةٌ لمَا ذكر إليه فرضَاً أو نَدْبا، فإذا وصَلَ إلى البيت قَطَع الاسْتجابة، والله أعلم، وهؤلاء كلُّهم لا يُفَرِّقُون بين المُهِلّ بالعمرة، بعيد أو قريب. اهـ. قالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والعَمَلُ. وهذهِ الزِّيادةُ مِن قَولِ ابن عُمرَ - رضي الله عنه -، وقدْ ورَدَ عن بَعضِ الصَّحابةِ زِياداتٌ أُخْرى في التَّلبيةِ، وهيَ مِن بابِ الزِّيادةِ في الخيرِ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يُنكِرُ على أحدٍ من أصْحابِه شيئاً منْ إهْلالِه. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لبيكَ حقاً، تعبداً ورِقًّا، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المُسْتحبُ الاقْتصارُ على تلبية رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبه قال مالك والشافعي. نقله النووي. قوله: «وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ» أي: بِيَدِك الخيرُ كلّه، كما في قوله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26).
    صِفة «اليَد» لله -عَزّوجَلّ
    وكما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّه كان إذا قامَ إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ،.. . وفيه: لبيكَ وسَعديك، والخَيرُ كلُّه في يَديك، والشَّرُّ ليسَ إليك، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ...». رواه مسلم وأهل السُّنّة: يُثبِتون بمثل هذه النُّصُوص صِفة «اليَد» لله -عَزّ وجَلّ. ومعنى «والرغباء إليك»: قال المازري: يُرْوى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر، ونظيره: العُلا والعلياء، والنّعمى والنَّعْماء. قال القاضي: وحَكَى أبو علي فيه أيضًا الفتح مع القصر: الرَّغْبَى مثل سَكْرَى، ومعناه هنا: الطّلب والمسألة إلى مَنْ بيده الخير، وهو المقصود بالعمل، الْمُسْتَحِقّ للعبادة. اهـ (النووي).

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في التّلبية بالعمرة والحج



    في الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة مِنْ عُمْرةٍ أو إفْراد بالحجّ أو قِران بين الحجّ والعُمرة إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع
    أُمَّةُ الإسْلامِ آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ
    صفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ
    عن أَنَسٍ -رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُ مَا»، وفي الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/905) باب: في الإفْراد والقِران بالحجّ والعُمرة.
    في هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: «أنَّه سمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا» يعني: الحجّ والعمرة، أي: رَفَعَ صوْتَهُ بالتَّلبيةِ بهما فقال: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»، وفي لفظ: «يُلبِّي بالحَجِّ والعُمرَةِ جميعًا» وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ، وهذا دليلٌ واضح على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ قارِنًا في حجّته، وجاء في رواية مسلم: فأخبَرَ بكرُ بنُ عبداللهِ - وهو راوي الحَديثِ عن أنسٍ - رضي الله عنه - عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما- بما قالَه أنسٌ - رضي الله عنه -، فقالَ عبداللهِ - رضي الله عنه - مُعقِّبًا على أنسٍ - رضي الله عنه -: «لبَّى بالحَجِّ وحْدَهُ» أي: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُفرِداً، ولم يجعَلْ معَه عُمرةً.
    ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا!
    فرجع بَكرٌ بقَولِ ابنِ عُمرَ هذا إلى أنَسٍ - رضي الله عنه -، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا!» أي: ما تَحسَبونَنا إلَّا صِغاراً، لا نَعلَمُ شيئًا مِن أَحْوالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسُننِه، يقصِدُ - صلى الله عليه وسلم - بذلك: صِغَرَ سِنِّه، وقصر مدَّةَ صُحبتِه وخِدمتِه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينَما حضَرَ إلى المَدينةِ مُهاجراً، كان عُمرُ أنَسٍ - رضي الله عنه - حينَئذٍ عَشْرَ سِنينَ، وعليه فإنَّ أنَسًا - رضي الله عنه - كان بعُمرِ العِشرينَ يومَ حجَّةِ الوَداعِ، فمِثلُه ممّا يُقبَلُ حَديثُه بلا شَكّ، لبُلوغِه ورُشدِه. فأنَسٌ - رضي الله عنه - بذلك؛ يُنكِرُ بمَقولتِه تلك على مَن يظُنُّ به شيئاً مِنْ ذلك، ولذلك قالَ: «سَمعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: لبَّيكَ عُمرةً وحَجًّا» ويؤكِّدُ - رضي الله عنه - ذلك بما رَواه عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه رَآه وسَمِعَه يفعَلُ ذلك.
    الرَّاجِحُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا
    والرَّاجِحُ والأصَحُّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا، كما قال أنَسٌ، ومَنْ قال بغيرِ ذلك؛ فإنَّه بَنى على ما شاهَدَه منَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسَمِعَه في إهْلالِه، فمَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ، ظنَّه أنَّه أفرَدَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالعُمرةِ ظنَّ أنَّه تمتَّعَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ والعُمرةِ معاً، علِمَ أنَّه قارِنٌ بينَهما بإحْرامٍ واحدٍ، ودخَلَتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ
    فوائد الحديث
    حجُّ بيت الله وهو الرُّكنُ الخامسُ مِن أَركانِ الإِسْلامِ، هوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وتُؤخَذُ جميعُ أَعْمالِه مِن سُنَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصْحابه فقال لهم: «خُذُوا عنّي مَنَاسِككم».
    وكان التَّابِعونَ يَذهَبونَ إلى أصْحابِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليَسأَلوهم، ويَتعلَّموا منهم حَديثَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأفْعالَه وأقْوالَه في الحج، وغيره من العِباداتِ.
    وفيه: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَنا أحْكامَ الحجِّ والعُمْرَةِ، وبيَّنَها قَوْلًا وفِعْلًا، وكان الصَّحابةُ الكِرامُ يتَّبِعونَهُ، ويَنْقُلونَ إلينا كُلَّ سُنَّتِهِ القَوْليَّةِ والعَمَليَّةِ والتَّقْريريَّة ِ.
    وفيه: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حَجَّةِ الوَداعِ قارِنًا بين الحَجِّ والعُمْرةِ في نُسُكٍ واحِدٍ، وكان معه هدْيُهُ، وكان إهْلالُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهما جميعاً كما في هذا الحديث، وقيل: كان قرانه في نِهايَةِ الأمْرِ، وإلَّا فإنَّه بَدَأَ بالحَجِّ، ثمَّ أدْخَلَ عليه العُمْرةَ، فصار قارِنًا.
    وصفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ، فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ، ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ، فيذهب إلى عرفة، ويُتم حجّه، فَيَجْمَعُ بين عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ في عَمَلٍ واحِدٍ، حَتَّى يَطوفَ طَوافَ الإفَاضَةِ، ثُمَّ يَجِبُ عليه ما يَجِبُ على المُتَمَتِّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ مِنَ الهَدْيِ إنْ تَيَسَّرَ ذلك عليه، أو الصِّيَامُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً.
    الحديث الثاني في الباب
    حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًاً أَوْ مُعْتَمِراً، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُ مَا» أخرجه مسلم في الحج (2/915) باب: إهلال النّبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه. في هذا الحَديثِ يُقسِمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باللهِ تعالى، الَّذي يملِكُ رُوحَ ونفس عَبدِه ونبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويملِكُ أنْ يَقبِضَها، وكثيراً ما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقسِمُ بهذا القسَمِ، فيُقسمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عيسَى ابنَ مَريمَ -عليهما السَّلامُ- سينزلُّ مِنَ السّماء إلى الأرْض، وذلك في آخِرِ الزَّمانِ، وهو مِنْ عَلاماتِ يومِ القِيامةِ الكُبْرى، ويهلّ والإهْلالُ: هو رفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، وهذا كنايةٌ عن خُروجِه للحجِّ إلى بَيتِ اللهِ عزَّ وجلَّ. ويقَعُ ذلك بفَجِّ الرَّوْحاءِ، والرَّوْحَاءِ: بفَتْح الفاء وتشديد الجِيم، بين مكّة والمَدينة، وكان طريق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وإلى مكة عام الفتح، وعام حَجّة الوَدَاع، ويكونُ إهْلالُه عليه السَّلامُ مُفرِدًا بالحجِّ، أو مُفرِدًا بالعُمرةِ، أو يَجمعُ بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ. ونَبيُّ اللهِ عيسَى ابنُ مَريمَ -عليه السَّلامُ- حيٌّ في السَّماءِ، وثبَتَ في الصَّحيحَينِ: «أنَّه -عليه السَّلامُ- سينزِلُ قبلَ يومِ القِيامةِ إلى الأرْضِ، حكَماً عَدلًا، فيَكسِرُ الصَّليبَ، ويقتُلُ الخِنزيرَ، ويضَعُ الجِزيةَ»، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم .
    فوائد الحديث
    بيانُ أنَّ الأنْبياءَ يحُجُّونَ بيتَ الله الحَرَام ويَعتمِرونَ.
    أنّ أُمَّةُ الإسْلامِ شأنُها عَظيمٌ؛ فإنَّها آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا، ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ، وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا، ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ.
    وفي الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة، مِنْ عُمْرةٍ، أو إفْراد بالحجّ فقط، أو قِران بين الحجّ والعُمرة، إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع.
    وفيه إخبارٌ بما يكون في آخِر الزّمان، قبيل قيام السّاعة، وهو بعد نُزُول عيسى عليه السّلام؛ حيث سيهلّ عليه السلام ويلبّي إلى مكة حاجّاً أو مُعتمراً، أو آتياً بالحجّ والعُمرة جميعاً.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في إفْرَادِ الحَجّ



    المُعتمر والمُفرد لا هَدْي عليهما لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً
    يستحب سوق الهدي للمُفْرد والمُعتمر فالنّبيُّ صلى الله عليه وسلم ساق الهَدْي اسْتحبابًا
    في الحديث وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ
    عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ مُفْرَداً، وفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/904- 905) باب: في الإفْرَاد بالحَجِّ والعُمرة.
    يقول الصحابي الجليل ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أهْلَلْنا مع رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحَجّ مُفرداً» أي: أنّه بدأ أولَ الحَجّ مُفْرداً، فلمّا أتى إلى الجِعْرانة، أدْخلَ عليها العمرة، فاعتمرَ أولاً، وبَقِي على إحْرامه، ولمْ يتحلّل إلا في يوم النّحر، وهذا يَردُّ على منْ يقول: إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان مُفْرداً فقط.
    أيِّ الحجّ أفضل؟
    وقد اختلفَ العلماء في أيِّ الحجّ أفضل: الإفْراد، أو التّمتع، أو القِرَان؟ وكلّ مَنْ قال بقولٍ منها، قال: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك، وظَهَر له هذا في بعض الأدلة فاعتمد عليه، أمّا الذي قال: إنّ التّمتع أفضل، فاعتمد على ظاهر بعض الروايات التي تقول: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرة إلى الحج.
    والرد على هذا القول:
    الأمر الأول: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تمنّى لو أنّه تمتّع، فقال: «لو اسْتقبلتُ مِنْ أمْري ما اسْتَدْبرتُ، ما سقتُ الهَدي مِنَ المِيقات» فالذي يَسوق الهَدي مِنَ الميقات، هو القارنُ لا المُتمتّع.
    الأمر الثاني: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما اعْتمر، لمْ يَتَحلّل إلا في يومِ النّحر، بعد أداء المناسك، فهذا يدلُّ على أنّه كان قارناً.
    الذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل
    والذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل، اعتمد على أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُفرداً في حَجّه، وأنّ منْشأ الحج، أي: أصْل الحجّ في ذي الحليفة، كان إفراداً، وقد أهلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ فقط منْ ذي الحليفة، كما هي أحاديث الباب. والصّوابُ والصّحيح: أنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ الحج مُفرداً، ثمّ أدخلَ عليه مِنَ الجِعْرانه العُمْرة، فكان أولاً مُفرداً، وقبل أداء الحجّ، أدْخلَ عليه العُمرة، فاعتمرَ أولاً ثمّ حَجّ. ومعلوم أنّ سوق الهدي على سبيل الاسْتحباب للمُفْرد والمُعتمر، فالنّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساق الهَدْي اسْتحباباً؛ لأنّه نَوى الإفراد، ولكن سوق الهدي حَمَله على إدخال العمرة على الحجّ، فصَار قارنًا، وهناك اتفاقٌ بين أهلِ العلم: أنّ المُعتمر لا هَدْي عليه، وأنّ المُفردَ لا هَدْي عليه، لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً، وقد قال أنس: «سَمعتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلبّي بالحجّ والعُمْرة جَميعاً»، وعبدالله بن عمر يقول: أنا كنتُ معه، وما كان يُلبّي إلا بالحج فقط.
    تفسير هذا الخلاف
    وتفسير هذا الخلاف: أنّ عبدالله بن عمر حَكى ما قد سَمعه أولَ الأمْر، منْ ميقات ذي الحليفة، وأنس بن مالك كان يَأخذ بخِطَام ناقته في مناسك الحَجّ، ابتداءً مِن الجعرانة حتى قَضَى حَجّه، فسَمِعه يقول: «لبيك اللهُمّ عُمرةً وحجّة». فلمّا أدخلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العُمرة على الحَجّ، سَمِعه أنسٌ فحَكى ما سمعه، وعبدالله بن عمر حكى ما سمعه أولاً، فكلّ واحدٍ مِنَ الصّحابة يحكي ما قد سمعه، وسيأتي الحديث. الرأيَ الصّحيح
    في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -
    قال النووي: «قدَّمْنا أنّ الرأيَ المُخْتار- بل الصّحيح- في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان في أوّلِ إحْرامه مُفْرداً، ويحمل عليه حديث عبدالله بن عمر، ثمَّ أدخلَ العُمْرة على الحَجّ فصَارَ قَارناً، وهذا حديثُ أنس، وبهذا اتّفقت الرّوايات، وجمعنا بين الأحاديث أحْسَن جمع، فحديثُ ابن عمر مَحْمولٌ على أوّل إحْرامه، وحديث أنس مَحمولٌ على أواخره وأثنائه، وكأنّه لمْ يسمعه أولاً، ولا بُدّ مِنْ هذا التأويل أو نحوه، لتكونَ روايةُ أنسٍ مُوافقة لرواية الأكثرين، كما سبق بيان ذلك».
    باب: القِرَان بينَ الحَجّ والعُمْرة
    عَنْ بَكْرٍ بن عبدالله: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا».
    باب: في مُتْعُةِ الحجِّ
    عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً.
    الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/900) باب: جواز التمتع. في هذا الحَديثِ يَرْوي عِمْرانُ بنُ حُصينٍ - رضي الله عنه - أنَّهم تَمتَّعوا على عَهدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمَقصودُ بِالمُتعَةِ هنا: التَّمتُّعُ في الحَجِّ، بالعمرةِ مع الحجِّ، وفَعَلوه في حياتِه وَهوَ مَوجودٌ حاضِرٌ بيْنَهُم، ونَزَلَ القرآنُ بمَشروعيَّتِه، قالَ -تعالَى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (البقرة: 196)، ولم يَنزِلْ قُرآنٌ يُحرِّمْه، فاستقَرَّ هذا الحُكمُ، وهو مستمِرٌّ، ولم يَنْهَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى مات.
    قوله: «قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
    أي: فلا نَسخَ لهذا الحُكْمِ بعْدَ ذلك، مهْما قال رجُلٌ بِرَأيِه ما شاء، يعني: مِن تَرْكِه، أو ترك الأخذِ به، وأنَّ الرَّأيَ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - باختيارِ الإفرادِ بحَجٍّ فقطْ، لا يَنسَخُ ما سَنَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن التَّمتُّعِ والقِرانِ. والرَّجلُ المَقصودُ هُنا هوَ: عُمرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَقدْ نَهَى عَنِ التَّمتُّعِ في الحَجِّ، وكان نهيُه عن ذلك على جِهةِ التَّرغيبِ للنَّاسِ، فيما يَراهُ الأفضلَ لَهُم بأنْ يُفرِدوا العُمرَةَ بِسَفرٍ، والحَجَّ بِسَفرٍ. قال ابن عبدالبر: لا خلافَ بين العلماء أنّ التمتع المراد بقول الله -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} (البقرة: 196). هو الاعتمار في أشهر الحج. قال: ومِنَ التّمتع أيضاً: القِرَان؛ لأنّه تمتعٌ بسُقوط سَفَره للنُّسُك الآخر من بلده. قال: ومِنَ التمتع أيضاً: فَسْخُ الحج إلى العُمرة. انتهى
    أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ
    وكان أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، في أيَّامِ خِلافتِه - رضي الله عنه -، وتابَعَه عُثمانُ - رضي الله عنه - في ذلك، وغَرَضُهم منه: الحثُّ على تَحصيلِ فَضيلةِ الإفْرادِ، وليَكثُرَ قصْدُ الناسِ بيتَ الله الحرام طوال العام، حاجِّينَ ومُعتمِرينَ، وليس إبطالًا للتَّمتُّعِ، وفي مسلمٍ: أنَّ ابنَ الزُّبَيرِ أيضًا كان يَنْهى عنها، وابنُ عَبَّاسٍ كان يأمُرُ بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أنَّ أوَّلَ مَنْ نَهَى عنها كان عُمَرَ - رضي الله عنه .
    فوائد الحديث
    وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ، وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ.
    وفيه: إقرارٌ للقاعدةِ الفِقهيَّةِ: «لا اجتِهادَ مع ثُبوتِ النَّصِّ».
    وفيه: جوازُ نَسخِ القُرآنِ بالقُرآنِ، ولا خِلافَ فيه، وجوازُ نَسخِه بالسُّنَّةِ، ووجهُ الدَّلالةِ منه قولُه: «ولم يَنْهَ عنْها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -»، فإنَّ مفهومَه: أنَّه لو نَهَى عنها، لامتنَعْتُ، ويستلزِمُ ذلك رَفْعَ الحُكمِ، ومقتضاه جوازُ النَّسخِ بالسُّنّة.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ومَعَه الهَدْي



    التَّمتُّعُ في الحَجِّ هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ ثمَّ يَحِلَّ منها ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه
    أبطَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ
    عن مُوسَى بْنِ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعاً بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الْآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَاسْتَفْتَيْتُ هُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عبداللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ سَاقَ الهَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وقَصِّرُوا وأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، واجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً». قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ قَالَ: «افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»، فَفَعَلُوا.
    الحديث رواه مسلم في الحج (2/884-885) باب: بيان وُجُوه الإحرام، وأنّه يجوز إفرادُ الحَج والتّمتع والقران، وجواز إدْخال الحجّ على العمرة، ومتّى يحلّ القارن من نُسكه.

    مُوسى بنُ نافع هو التّابعي أبو شهاب الحنّاط الأسَدي، الهُذَلى الكوفى الأكبر، وليسَ بأبي شهاب الأصْغر عبدربه بن نافع، روى عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد، روى عنه يحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس ومحمد بن عبيد وأبو نُعيم، صدوق، أخرجَ له البخاري ومسلم. في هذا الحديثِ يَرْوي التابعيُّ موسى بْنُ نافعٍ أنَّه قَدِمَ إلى مكَّةَ مُتَمَتِّعًا بعُمْرةٍ، وأهَلَّ بذلك، فوَصَل مكَّةَ ودَخَلها قَبْلَ يومِ التَّرْوِيَةِ -وهو اليومُ الثَّامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ- بثَلَاثةِ أيَّامٍ، وسُمِّيَ يومُ التَّرويةِ بذلك، لأنَّ الحُجَّاجَ كانوا يَرْتَوُونَ فيه مِن الماءِ لِما بعْدَه، أي: يَستَقُون ويَسْقُون إبِلَهم فيه، استِعدادًا للوُقوفِ يومَ عرَفةَ، فَقالَ له بعضُ الناسِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، حيثُ تَفوتُك فَضيلةُ الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، فتُشْبِهُ في ذلك حَجَّةَ أهلِ مكَّةَ، اللذين لا يُحْرِمون مِنْ مِيقاتٍ مُعيَّنٍ، بلْ يُحرِمون للحجِّ مِن مَكانِهم، فذَهَبَ أبو شِهابٍ إلى التابعيِّ الجليل الفقيه عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ لِيَسأَلَه في ذلك ويَسْتفتيهِ، فحَدَّثَه أنَّ جَابِرَ بنَ عبدالله -رَضيَ اللهُ عنهما- أخْبَرَهُ: أنَّه حجَّ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ ساقَ البُدْنَ معَه، مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، والبُدْنُ يُقصَدُ بها الهَدْيُ، والهدْيُ: اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.
    قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ
    قال: وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفرَدًا، أي: أَحْرَموا مُفْرِدينَ بالحَجِّ، والمُرادُ بالإهْلالِ هنا: قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأمَرَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ قُدومِهم إلى مَكَّةَ، أنْ يَحِلُّوا مِنْ إحرامِهِم، فيَفسَخوا الحَجَّ إلى العُمرةِ، ويَتحلَّلوا مِن عُمرَتِهم بالطَّوافِ والسَّعيِ والتَّقصيرِ، ثمَّ يُقيموا بها حَلالًا، يَحِلُّ لهُم كُلُّ شَيءٍ، حتَّى مُعاشَرةُ النِّساءِ، حتَّى إذا كانَ يومُ التَّرويةِ، وهو اليومُ الثامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ، فعلَيهم أنْ يُهِلُّوا، أي: يُحْرِموا بالحَجِّ، ويَتَوجَّهوا إلى عَرَفَةَ، ويَجعَلوا الأفعال الَّتي قَدِموا بها تَمتُّعًا بالعُمرةِ.
    التَّمتُّعُ في الحَجِّ
    والتَّمتُّعُ في الحَجِّ: هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثمَّ يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه، فإذا قدِمَ مكَّةَ في أشْهُرِ الحجِّ واعتَمَر وانْتَهى مِن عُمرتِه، فله أنْ يَتحلَّلَ مِن إحْرامِه، ويَتمتَّعَ بكلِّ ما هو حَلالٌ حتَّى تبدَأَ مَناسِكُ الحجِّ.
    سؤال الصَّحابةُ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم
    فسَأَل الصَّحابةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ يَجعَلون نُسكَهم الأوَّلَ عُمرةً ومُتْعَةً بها وهم قدْ أحْرَموا بنِيةِ الحَجَّ؟ فأمَرَهم أنْ يَفعَلوا ما أمَرَهم به، وأخْبَرَهم أنَّه لَولا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ساقَ الهَديَ، لفَعَلَ مِثلَ الَّذي أمَرَهُم به، وفَسَخَ الحَجَّ إلى عُمرةِ، ولكِن ذلك لا يَحِلُّ له، ولا يَحِلُّ له فِعلُ شَيءٍ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، حتَّى يَصِلَ الهدْيُ إلى المَكانِ الَّذي يُنحَرُ فيه بِمِنًى يومَ النَّحرِ، في العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فاستجابَ الصحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- لأمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الفورِ، وفعَلوا ما أمَرَهم به، وبذلك أبطَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ، التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ، وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ.
    اخْتَلَاف العُلَمَاء فِي هَذَا الفَسْخِ
    وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي هَذَا الفَسْخِ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً؟ أَمْ هو بَاقٍ لَهُمْ ولِغَيْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا، بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَومِ القِيَامةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، ولَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، ويَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِها. وقَالَ مالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَها؟ وإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ، لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ. والراجح هو الأوّل: فقد ثبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: لَمَّا أمَر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالمُتْعةِ -أي التَّمتُّع-، قال جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: وأنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ لقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالعَقَبةِ، وهو يَرميها، فقال: ألَكُم هذه خاصَّةً يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لا، بلْ للأبدِ».
    وفِي رواية قال: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: «لِأَبَدِ أَبَدٍ».
    فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكَذَلِكَ القِرَانُ، وأَنَّ فَسْخَ الحَجِّ إِلَى العُمْرَةِ غير مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ السَّنَةِ، بل للأبد، واللَّهُ أَعْلَم.
    فوائد الحديث
    مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشْهُرِ الحجِّ.
    وفيه: طاعةُ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ ما يأمرهم به.
    من أصول منهج السلف ومعالمه
    من معالِمِ منهج السلف وأصوله لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور! فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة». لُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه -عزَّ شأنُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59). لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه -عز وجل-، ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم». أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه - نصيحةٌ في حفظ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء. مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به».

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: نَسخُ التّحلّل مِنَ الإحْرام والأمْر بالتَّمَام



    في الحديث مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبْلَ شُروعِه في العبادة
    عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، وغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا، فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196). وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الْحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، في الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/895) باب: في نَسخ التّحلّل من الإحرام والأمر بالتمام.
    في هذا الحَديثِ يَحكي أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَه إلى قَومٍ باليَمَنِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدْ أرْسَلَه ليَكونَ مُعلِّمًا وقاضيًا لأهْلِها، فرَجَع أبو مُوسى - رضي الله عنه - والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، وهو مُحرِمٌ بحَجَّةِ الوَداعِ، والبَطحاءُ: مكانٌ ذو حَصًى صَغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّةَ، وهو يَقُعُ جَنوبَ الحرمِ الشَّريفِ أمامَ جَبلِ ثَورٍ، ويُقالُ له: الأَبْطَحُ أيضاً، فسَأَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا مُوسى - رضي الله عنه -: بِمَ أهلَلْتَ؟ والمرادُ بالإهلالِ هنا: قصْدُ النِّيةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصْلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأجابَه أبو مُوسَى - رضي الله عنه - أنَّه أهَلَّ كإهلالِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - -وكان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ممَّن ساقَ الهَدْيَ، فقَرَنَ في إحْرامِه بيْن العُمرةِ والحجِّ- فسَأَله: هلْ مَعَكَ مِن هَديٍ؟ فأجابَ: لا، فأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَطوفَ بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فيكونُ بذلك قدْ أتَّم عُمرةً، ثمَّ أمَرَه أنْ يَحِلَّ مِن إحرامِه، فيُباح له كلُّ شَيءٍ. فأَتَى أبو مُوسى - رضي الله عنه - امرأةً من قَومِه، وهذا مَحمولٌ على أنَّها كانتْ مَحْرَمًا له، فسَرَّحَتْ له شَعرَه بالمُشطِ، وغَسَلتْ رَأْسَه، ولم يَذكُرِ الحَلْقَ أو التَّقصيرَ، إمَّا لكونِه مَعلومًا عندَهُم، أو لدُخولِه في أمْرِه بالإحلالِ.
    زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه
    فلمّا جاء زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - وخِلافتُه، فذُكِرَ له ذلك فقالَ: إنْ نَأخُذْ بكِتابِ الله، فإنَّه يَأمُرُنا بالتَّمامِ، أي: بإتمامِ أفعالِهما بعْدَ الشُّروعِ فيهما، قال اللهُ -تعالَى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وتَأويلُه للآيةِ: هو إفرادُ كلِّ نُسكٍ على حِدَةٍ، واستَشهَدَ - رضي الله عنه - بقِرانِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يَحِلَّ مِن إحْرامِه حتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بمِنًى. وظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ - رضي الله عنه - هذا، إنكارُ فسْخِ الحجِّ إلى العُمرةِ، وليس مُرادُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بذلكَ مُخالَفةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وقد رَوَى النَّسائيُّ: أنَّ أبا مُوسى سَأَلَ عُمرَ عن ذلِك، فقال عُمرُ: قد عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد فَعَلَه، ولكنْ كَرِهْتُ أنْ يَظلُّوا مُعرِّسينَ بهنَّ في الأرَاكِ، ثمَّ يَروحوا في الحجِّ تَقطُر رُؤوسُهم؟ ومعْناه: أنّه كَرِه التَّمتُّعَ، لأنَّه يَقتضي التَّحلُّلَ ووَطْءَ النِّساءِ، إلى حِينِ الخُروجِ إلى الحجِّ. فكان مِنْ رأي عُمر: عَدمُ التّرفّه للحَجّ، فكرِه لهُم قُربَ عَهدهم بالنساء، وقد أخرج مسلم: من حديث جابر أنّ عُمر قال: «افْصلُوا حَجّكم مِنْ عُمْرتكم، فإنّه أتمّ لحَجّكم، وأتَمّ لعُمْرتكم».
    قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله»
    قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله... إلخ» هذا مُحصّل جواب عمر - رضي الله عنه - في مَنَعه الناس مِنَ التّحلل بالعُمرة: أنّ كتابَ الله دالٌ على منع التّحلّل لأمْره بالإتْمام، فيقتضي اسْتمرار الإحْرام إلى الفراغ من الحج، وأنّ سُنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً دالة على ذلك، لأنّه لمْ يحلّ حتّى بلغَ الهَدي محلّه، لكنْ الجواب عن ذلك، ما أجاب به هو - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: «ولولا أنّ مَعي الهَدي، لأحْللت». فدلّ على جواز الإحْلال لمَنْ لمْ يكنْ معه هَدْي، وتبيّن منْ مُجْموع ما جاء عن عمر في ذلك أنّه مَنَعَ منْه، سَدّاً للذّريعة. (انظر الفتح). وقال النووي: والمُختار أنّه نَهى عن المُتعة المَعْروفة، التي هي الاعْتمار في أشْهر الحَج، ثمّ الحَجّ مِنْ عامه، وهو على التّنْزيه، للتّرغيب في الإفْراد، كما يظهر من كلامه، ثمّ انْعقدَ الإجْماع على جواز التّمتّع مِنْ غير كراهة، ونفي الاخْتلاف في الأفضل. ويُمكن أنْ يتمسّك مَنْ يقول: بأنّه إنّما نَهَى عن الفسخ، بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا مِنْ مسلم: «إنّ الله يُحلُّ لرسُوله ما شاء». والله أعلم.
    فوائد الحديث
    اتِّباعُ سُنَّةِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واقتِفاءُ أثَرِه في أفعالِه.
    وفيه: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
    وفيه: مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ، قبْلَ شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ.
    وفيه: دلالة على جواز تعليق الإحْرام، بإحْرام الآخر.
    الحديث الثاني
    عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، هذا الأثر رواه مسلم في الحج (2/897) باب: جواز التمتع، وفيه يُخبِرُ أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ المُتعةُ في الحجِّ كانتْ لأصْحابِ محمَّدٍ خاصَّةً، يَعني: فسْخَ الحجِّ إلى العُمرةِ كان خاصًّا للصَّحابةِ فقط، وذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَ بها بعضَ أصْحابِه في حَجَّةِ الوَداعِ لمَن لمْ يسُقْ معَه الهَديَ، وكان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - من هؤلاء الَّذين فَسَخوا حَجَّهم إلى عُمرةٍ، أمَّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والبعضُ الآخَرونَ منَ الصَّحابةِ ممَّن معَهمُ الهَديُ كانوا قارِنينَ، أي: جَمَعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ.
    وقولُه هذا مخالِفٌ لما ورَدَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ والثَّابِتةِ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ التَّمتُّعَ جائزٌ في أشهُرِ الحجِّ، وأنّه باقٍ إلى يوم القيامة كما سبق. وقيلَ: إنَّ قولَ أبي ذَرٍّ هذا يُحمَلُ على أنَّ الفَسخَ الواجبَ الَّذي يَتعيَّنُ، هو الَّذي كان لأصْحابِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا غَيرُهم فإنَّه يَبْقى على الاسْتِحْبابِ.
    انكسار القلب وخضوعه لله -تعالى
    يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله وهو يتحدث عن انكسار القلب وخضوعه لله تعالى-: «ليس شيء أحب إلى الله -تعالى- من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه -سبحانه-، والاستسلام له، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر، والرحمة والرزق منه! وأحبُّ القلوب إلى الله -سبحانه- قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، وهذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله -تعالى- وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها «أي بالنسبة لحق الله» بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم نوع آخر، وفتح آخر، والسالك بهذه الطريق غريب عن الناس، وهم في واد وهو في واد، فالله المستعان وهو خير الغافرين».

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •