كتاب قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام لمحمود محمد شاكر
صفية الشقيفي
عمر الشعر الجاهلي ورأي الجاحظ فيه
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :(
أما القضية الأولى، وهي قضية عمر الشعر الجاهلي وأوليته، فإني رأيت أكثر الباحثين يؤولون في الحديث عنها إلى قول أبي عثمان الجاحظ، (المولود سنة 150، والمتوفى سنة 255هـ)، لأنه من أقدم ما قيل في هذه القضية، ولثقة الناس بعقل الجاحظ ونظره. فلذلك أرى أن أثبت هنا مقالته كلها التي تتعلق بالشعر، في خلال ما أفاض فيه من ذكر فضل الكتابة والكتاب، وهذا نص ما قاله في كتاب الحيوان (1/ 71: 75).
>... فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ... وذهبت العجم على أن تقيد مىثرها بالبنيان ... بنى أردشير بيضاء إصطخر، وبيضاء المدائن، والحضر، والمدن والحصون والقناطر والجسور والنواويس. ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران، وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد<. ثم انتهى أبو عثمان إلى أن قال: >وأما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة. وكتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم يطليموس، وديمقريطس وفلانٍ وفلانٍ قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب. ويدل على حداثة الشعر قول امرئ القيس بن حجر:
إن بني عوف ابتنوا حسبــــــــــــ ــــــا..... ضيعه الدخللون إذ غــــــــــــــ ـــدروا
أدوا إلى جارهم خفارتــــــــــ ـــــــــــــــ ـه ..... ولم يضع بالمغيب من نصـــــــــــــ روا
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 11]
لم يفعلـــــــــــ ـــوا فعل آل حنظلة ..... إنهم، جير، بئس مــــــــــــــ ـا ائتمروا
لا حميري وفي ولا عــــــــــــــ ـــدس ..... ولا است عير يحكهـــــــــــ ـــــا الثفر
لكـــــــــــــ ــــــن عوير وفى بذمته ..... لا قصر عـــــــــــابه ولا عــــــــــــــ ـــــــــــــــ ور
فانظر كم عمر زرارة؟ وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومئة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام< وانتهت مقالة أبي عثمان.
وهذه الأبيات التي استدل بها أبو عثمان، يقولها امرؤ القيس في شأن مقتل أبيه حجر، لما قتلته بنو أسد، فانحازت ابنته هند هي وقطينها إلى عوير بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن زيد مناة بن تميم، فأجارها وفر بها ورمى بها النجاد حتى أطلعها نجران وقال لها: >إني لا أغني عنك شيئًا وراء هذا الموضع، وهؤلاء قومك، وقد برئت خفارتي<. وكان امرؤ القيس حين قتل أبوه حجر مقيمًا في بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، لأن ظئره كانت امرأة منهم. وبين من هذا الشعر أنه هو وأخته استجارا ببني حنظلة فلم يجيروهما. استجارا بحميري بن رياح بن يربوع بن حنظلة وعدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة. و>عدس<، هو أبو زرارة بن عدس، وزرارة بن عدس، كان أحد حكام تميم في الجاهلية. وكان قد أسن، وكان موته قبل يوم أوارة الثاني بقليل، وذلك على عهد عمرو بن هند، الذي حرق بني تميم، فقيل له >محرق<، وهو >مضرط الحجارة<، وهو >عمرو ابن المنذر بن ماء السماء<. وكان موله صلى الله عليه وسلم، كما في تاريخ أبي جعفر الطبري (2: 94) لثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند بالحيرة، وذلك في زمن كسرى أنوشروان، وهو عام الفيل الذي غزا فيه أبو يكسوم الأشرم بيت الله الحرام يريد هدمه.
وظني، وهو ظاهر الصواب إن شاء الله، أن أسلوب الجاحظ في استظهاره هو هذا: كان موت زرارة بن عدس قبيل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه نحو من خمس وأربعين سنة إلى أن بعث الله رسوله بالإسلام على رأس أربعين سنة من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 12]
مولده. وزرارة بن عدس قد رأس وقاد تميمًا، (وهو أحد الجرارين)، نحوًا من أربعين سنة أو أكثر إلى أن أسن ومات قبل يوم أوارة الثاني، فهذه نحو من تسعين سنة. وابوه >عدس بن زيد< قد ساد من قبله ورأس نحوًا من أربعين سنة. فهذه مئة وعشرون إلى مئة وخمسين سنة، على الأكثر. فإذا كان امرؤ القيس قد ذكر >عدس بن زيد< في شعره، فهذا دليل على حداثة الشعر. ولم كان ذلك؟ لأن أبا عثمان قد زعم أن >أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه< هو امرؤ القيس الكندي وخاله مهلهل بن ربيعة التغلبي، وما دام هذا صحيحًا عند أبي عثمان، فإنه سيتظهر بغاية الاستظهار، هكذا يقول، فيضيف خمسين سنة أخرى لما عسى أن يكون صحيحًا من قولهم إن امرأ القيس كان يتكئ في بعض شعره على من سبقه كابن حذام الطائي وأبي دؤاد الإيادي، فهذه مئتا عام بغاية الاستظهار. وإذن فالشعر >حديث الميلاد صغير السن<. هذا هو أسلوب أبي عثمان في الاستدلال على حداثة >الشعر< عند العرب.
وهذا الأسلوب من النظر في تقدير عمر الشعر العربي، أسلوب حسابي بحت. والحساب وحده لا يكاد يغني شيئًا في ميلاد الشعر وحداثة سنه. لم ينظر أبو عثمان، أو لم يبال أن ينظر، في شعر امرئ القيس نفسه، كيف جاء موزونًا مقفى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي معروفة عنده في شعر مهلهل وابن أخته الذي ورث عنه الشعر. ولم يبال أن يأمر نفسه أن تنظر، كما أمرنا أن ننظر ف يموت زرارة، كيف تسنى لمهلهل وابن أخته أن يستحدثنا هذا القدر في البحور المختلفة الأوزان والقوافي؟ ولا كيف يمكن أن يقع لهما هذا القدر من الابتداع جملة على غير مثال سابق؟ وأسئلة أخرى كثيرة جدًا. والذي لا أشك فيه، لطول معرفتي بأبي عثمان، هو أنه فرح فرحًا شديدًا غامرًا بأسلوبه الحسابي في الاستدلال على ميلاد الشعر، فأغفله الفرح الغامر عن مذهبه في النظر والفحص والتساؤل، وتقليل كل قضية على وجه بعد وجه، معترضًا، آخذًا تاركًا، دافعًا مثبتًا حتى يفرغ. وهو مذهبه الذي برع فيه، كما
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 13]
هو معلوم مألوف في كتبه ورسائله، وفي احتجاجه لآرائه التي تولى نصرتها، وأقواله التي استحدث بها مذهبه في الاعتزال.
وهذا الأسلوب الحسابي لا يغني ولا ينفع إلا في أمر واحد لا غير، هو تحديد عم رما بلغنا من شعر مهلهل وابن أخته امرئ القيس، لا أكثر. وكل تجاوز لهذا القدر، تهجم على غيب بلا دليل هاد، وهو أيضًا خطأ فاحش في نقله نتيجة الحساب من موضع هو به لائق، إلى موضع آخر يباينه كل المباينة، وليس ينفع أبا عثمان أن يتكئ في نقله على دعوى يدعيها هو لامرئ القيس أو لخاله مهلهل، زاعمًا أنه أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه. وذلك لأن هذه الدعوى في أولية امرئ القيس أو غيره، هي قبل كل شيء محتاجة في إثباتها إلى دليل مقنع، غير مجرد الادعاء الذي لا برهان عليه أن: >كتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقريطس وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب<، كما قال، والدعوى لا تقرر بدعوى مثلها تفتقر هي نفسها إلى برهان يجليها ويثبتها. وكلتاهما تحتاج إلى دليل غير الدليل الحسابي المعتمد على زمن الميلاد وزمن الوفاة. وإذن، فقول الجاحظ: >إن الشعر حديث الميلاد صغير السن<، قضية باطلة، لا برهان عليها، وليس لها دليل، وهي مقالة لا أصل لها. وليس يبقى في أيدينا من استظهاره الذي استظهره إلا أمر واحد، هو أن امرأ القيس وخاله المهلهل من أقدم شعراء الجاهلية الذين انتهى إلينا شعرهم، فإذا كان ذلك فإن أكثر الذي انتهى إلينا من سائر قديم شعراء الجاهلية، لا يكاد يتجاوز عمره مئتي عام. وهذا يوشك أن يكون حقًا لا ريب فيه، ولكن يحسن أن نقيد هذه القضية بقيد لا بد منه، احترازًا من التعميم الغامض، هو أننا نعني القصائد الطوال المقصدة، دون ما نسميه المقطعات، أو الأبيات ذوات العدد التي بلغتنا من قديم شعر الجاهلية.
وقد كنت شديد العجب من أمر أبي عثمان، أتعجب من أين أتى بهذه الدعوى التي بنى عليها استظهاره، أن امرأ القيس هو أول من نهج سبيل الشعر
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 14]
وسهل طريقه؟ وكان بدا لي قديمًا أن أبا عثمان قد أخذ هذا من الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (رقم: 7127)، عن هشيم، حدثنا أبو الجهيم الواسطي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار<.
وهذا الخبر نفسه رواه البخاري في الكنى قال: >قال مسدد، حدثنا هشيم، حدثنا شيخ يكنى أبا جهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: >صاحب لواء الشعراء إلى النار، امرء القيس، لأنه أول من أحكم الشعر<. وأبو الجهم هذا قال فيه ابن عدي >شيخ مجهول، لا يعرف له اسم، وخبره منكر، ولا أعرف له غيره<، وقد أفاض أخي السيد أحمد محمد شاكر رحمه الله في شرح إسناد هذا الخبر، وذكر إجماع علماء الجرح والتعديل على أن أبا الجهم معروف برواية هذا الخبر، وأنه خبر واهٍ ضعيف جدًا، وذكر أيضًا ما يدور في كتب الأدب من حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر امرأ القيس فقال: >ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها. منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار<، ووجد أخي إسناده في تاريخ ابن عساكر عن ابن الكلبي، ورواه الطبراني في الكبير >من طريق مسعد بن فروة بن عفيف عن أبيه عن جده< قال: >ولم أجد من ترجم هؤلاء. وهذا إسناد مظلم، لا تقوم به حجة، بل لا تقوم له قائمة. وإنما هي كلها روايات ضعاف متهافتة، يضعف بعضها بعضًا<. وكنت أعذر الجاحظ، لأنه لا علم له بالحديث، وأتعجب له أن يزور في كتبه عن الأحاديث الصحاح الراسخة في الصحة، ثم يعتمد في هذا الأمر على خبر هالك متهافت لا تنهض به حجة! وكنت أظن أو أرجح أنه ترجم ما جاء في هذا الكلام: أن امرأ القيس هو >أول من أحكم الشعر<، فقال: >هو أول من نهج سبيل الشعر وسهل الطريق إليه<، والتشابه بين سياق القولين ظاهر بين، وهذا جائز جدًا، لأن أبا عثمان ذكر في كتبه كالبيان والحيوان وغيرهما أحاديث من أحاديث هشيم بن بشير الواسطي الإمام الثقة (104 – 183)، وروى كثيرًا من الأخبار من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 15]
كتب ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب (0000 – 204)، فهو خليق أن يكون رأى هذين الخبرين، فأخذ منهما ما أخذ، وصاغ هذه القضية وألقاها إلقاء الواثق بصحتها، وهي في الحقيقة دعوى لا نسب لها إلا في ألفاظ خبرين واهيين، من رواة مجاهيل كذبة معرقين في الكذب.
ازددت على الأيام ثقة بأن مقالة أبي عثمان في >كتاب الحيوان<، دعوى مشتقة من ألفاظ هذين الخبرين العليلين الهالكين، مع التباين الشديد في حقيقة المعنى، لم يسبقه إليها أحد من نقاد الشعر وحفظته. بيد أن وجه الرأي تغير عندي فيما بعد. أيكون أبو عثمان وحده هو الذي نظر في قضية >الشعر الجاجلي< وأوليته وقدمه؟ لا بل، نظر فيها رجل من معاصريه هو أقوم منه على الشعر عامة، وعلى الشعر الجاهلي خاصة. وهو أشد تحققًا بدراسته، وأبلغ نفاذًا وتثبتًا في روايته وفحصه. لا، بل من الخطأ أن يقايس بينهما، لاختلاف طريقيهما في النظر والرواية اختلافًا مبينًا. وهذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، صاحب كتاب >طبقات فحول الشعراء<، (المولود سنة 139، والمتوفى سنة 231)، فهو كما ترى معاصر لأبي عثمان الجاحظ (المولود سنة 150، والمتوفى سنة 255). ولولا أني شغلت بكتاب ابن سلام، وأجمعت العزم على شرحه وتحريره، لكنت خليقًا أن أقف حيث كنت من رأي في دعوى أبي عثمان، لا أزيد عليه شيئًا يذكر) [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 11-16 ]