.مُنَاظَرَةُ ابن القيم لِأَحَدِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي نُبُوّتِهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

وَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ مُنَاظَرَةٌ فِي ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَلَا يَتِمّ لَكُمْ الْقَدْحُ فِي نُبُوّةِ نَبِيّنَا صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا بِالطّعْنِ فِي الرّبّ تعالى وَالْقَدْحِ فِيهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أَعْظَمِ الظّلْمِ وَالسّفَهِ وَالْفَسَادِ تعالى الله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كَيْفَ يَلْزَمُنَا ذَلِكَ؟ قُلْت: بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتِمّ لَكُمْ ذَلِكَ إلّا بِجُحُودِهِ وَإِنْكَارِ وُجُودِهِ تعالى وَبَيَانُ ذَلِكَ أنه إذَا كَانَ مُحَمّدٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ بِنَبِيّ صَادِقٍ وَهُوَ بِزَعْمِكُمْ مَلِكٌ ظَالِمٌ فَقَدْ تَهَيّأَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى الله وَيَتَقَوّلَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ ثُمّ يُتِمّ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرّ حَتّى يُحَلّلَ وَيُحَرّمَ وَيَفْرِضَ الْفَرَائِضَ وَيُشَرّعَ الشّرَائِعَ وَيَنْسَخَ الْمِلَلَ وَيَضْرِبَ الرّقَابَ وَيَقْتُلَ أَتْبَاعَ الرّسُلِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقّ وَيَسْبِي نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَيُتِمّ لَهُ ذَلِكَ حَتّى يَفْتَحَ الْأَرْضَ وَيَنْسُبَ ذَلِكَ كُلّهُ إلَى أَمْرِ الله تعالى لَهُ بِهِ وَمَحَبّتِهِ لَهُ وَالرّبّ تعالى يُشَاهِدُهُ وَمَا يَفْعَلُ بِأَهْلِ الْحَقّ وَأَتْبَاعِ الرّسُلِ وَهُوَ مُسْتَمِرّ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلّهِ يُؤَيّدُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيُعْلِي أَمْرَهُ وَيُمَكّنُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ النّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أنه يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ نَفْسِهِ وَلَا سَبَبٍ بَلْ تَارَةً بِدُعَائِهِ وَتَارَةً يَسْتَأْصِلُهُم ْ سُبْحَانَهُ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ مِنْهُ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَ ذَلِكَ يَقْضِي لَهُ كُلّ حَاجَةٍ سَأَلَهُ إيّاهَا وَيَعِدُهُ كُلّ وَعْدٍ جَمِيلٍ ثُمّ يُنْجِزُ لَهُ وَعْدَهُ عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَهْنَئِهَا وَأَكْمَلِهَا هَذَا وَهُوَ عِنْدَكُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظّلْمِ فَإِنّهُ لَا أَكْذَبَ مِمّنْ كَذَبَ عَلَى الله وَاسْتَمَرّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَظْلَمَ مِمّنْ أَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَسَعَى فِي رَفْعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَتَبْدِيلِهَا بِمَا يُرِيدُ هُوَ وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ وَأَتْبَاعَ رُسُلِهِ وَاسْتَمَرّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا وَالله تعالى فِي ذَلِكَ كُلّهِ رَبّهِ أنه أَوْحَى إلَيْهِ أنه لَا {أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} [الْأَنْعَامِ 93] فَيَلْزَمُكُمْ مَعَاشِرَ مَنْ كَذّبَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ لابد لَكُمْ مِنْهُمَا: إمّا أَنْ تَقُولُوا: لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَبّرَ وَلَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ مُدَبّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلظّالِمِينَ إذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ هَذَا فَكَيْفَ بِمَلِكِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟. الثّانِي: نِسْبَةُ الرّبّ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْجَوْرِ وَالسّفَهِ وَالظّلْمِ وَإِضْلَالِ الْخَلْقِ دَائِمًا أَبَدَ الْآبَادِ لَا بَلْ نُصْرَةِ الْكَاذِبِ وَالتّمْكِينِ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَإِجَابَةِ دَعَوَاتِهِ وَقِيَامِ أَمْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ دَائِمًا وَإِظْهَارِ دَعْوَتِهِ وَالشّهَادَةِ لَهُ بِالنّبُوّةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي كُلّ مَجْمَعٍ وَنَادٍ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ فَلَقَدْ قَدَحْتُمْ فِي رَبّ الْعَالَمِينَ أَعْظَمَ قَدْحٍ وَطَعَنْتُمْ فِيهِ أَشَدّ طَعْنٍ وَأَنْكَرْتُمُو هُ بِالْكُلّيّةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ كَثِيرًا مِنْ الْكَذّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَتِمّ لَهُ أَمْرُهُ وَلَمْ تَطُلْ مُدّتُهُ بَلْ سَلّطَ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ فَمَحَقُوا أَثَرَهُ وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَهُ. هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ مُنْذُ قَامَتْ الدّنْيَا وَإِلَى أَنْ يَرِثَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. فَلَمّا سَمِعَ مِنّي هَذَا الْكَلَامَ قَالَ. مَعَاذَ الله أَنْ نَقُولَ أنه ظَالِمٌ أَوْ كَاذِبٌ بَلْ كُلّ مُنْصِفٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُقِرّ بِأَنّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النّجَاةِ وَالسّعَادَةِ فِي الْأُخْرَى. قُلْتُ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ سَالِكُ طَرِيقِ الْكَذّابِ وَمُقْتَفِي أَثَرِهِ بِزَعْمِكُمْ مِنْ أَهْلِ النّجَاةِ وَالسّعَادَةِ؟ فَلَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ. قُلْت: فَقَدْ لَزِمَك تَصْدِيقَهُ وَلابد وَهُوَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الأخبار بأنه رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ إلَى النّاسِ أَجْمَعِينَ كِتَابِيّهِمْ وَأُمّيّهِمْ وَدَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَى دِينِهِ أَقَرّوا بِالصّغَارِ وَالْجِزْيَةِ فَبُهِتَ الْكَافِرُ وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَزَلْ فِي جِدَالِ الْكُفّارِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ إلَى أَنْ تُوُفّيَ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ أَمَرَهُ الله سُبْحَانَهُ بِجِدَالِهِمْ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي السّورَةِ الْمَكّيّةِ وَالْمَدَنِيّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجّةِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَبِهَذَا قَامَ الدّينُ وَإِنّمَا جَعَلَ السّيْفَ نَاصِرًا لِلْحُجّةِ وَأَعْدَلُ السّيُوفِ سَيْفٌ يَنْصُرُ حُجَجَ الله وَبَيّنَاتِهِ وَهُوَ سَيْفُ رَسُولِهِ وَأُمّتِهِ. اهـ.

كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم