المسجد الأقصى – ميراث الأجداد ومسؤولية الأحفاد


لن تضيع بإذن الله قدسنا ما دام الأحفاد سيحملون مسؤولية إرث الأجداد بقلوب مؤمنة وعزائم صادقة
إن الآباء والأجداد من سلف الأمة وعظمائها فتحوا بيت المقدس وأقاموا فيه حضارة كبرى وعمروا المسجد الأقصى وأعادوا هيبته ومكانته بعد سنوات من الأسر والاحتلال
رغم مظاهر الضعف والهوان التي توحي بها مشاهد الحاضر والمستقبل الغامض فإن المسلم المتعلق بربه والمتبصر بالسنن ونواميس الكون يرى أنّ من وراء ذلك كله فتحًا قريبًا بإذن الله
لابد للأمة أن تقرأ تاريخها وتستفيد من ماضيها فالماضي والتاريخ ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب بل هو أساسٌ من أسس إعادة صيغة الحاضر وبناء المستقبل
لم يُبرز التاريخ قضيةً تجلّت فيها ثوابتُنا الشرعية، وحقوقنا التاريخية، وأمجادنا الحضارية، كقضية المسلمين الأولى، قضية فلسطين المسلمة المجاهدة الصامدة، وفي القلب منها القدس المقدسة، والأقصى المبار؛ حيث تشابكت حلقات الكيد في سلاسل المؤامرة، لتمثل منظومةً من العداء المعلن، والكره المبطّن.
إنَّ المسجد الأقصى المبارك قلب بيت المقدس قبلة الأمة الأولى، وبوابة السماء، وميراث الأجداد، ومسؤولية الأحفاد، والمعراج المحمدي، والعهد العمري. إن للأجيال أمانة في أعناقنا يجب ألَّا تُنسى: القدس والمسجد الأقصى ومكانتهما في هذه الأمة، فالمسجد الأقصى ليس شأنًا فلسطينيا خاصا، وإنما هو شأن الأمة الإسلامية جمعاء؛ فتاريخ المسجد الأقصى هو تاريخ الأنبياء من لدن أدم -عليه السلام- إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -الذي عرج به إلى السماء من ذلك المكان المبارك، وفي كل صلاة نذكره؛ لأن الصلوات إنما فرضت في تلك الرحلة المباركة، فالمسجد الأقصى يمثل تاريخ التوحيد الذي كان الإسلام آخر حلقاته، وسمي المسجد بالأقصى لبعد المساحة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والأنجاس، المقدس المطهر عن ذلك.
اسم لجميع المسجد
والمسجد الأقصى عند العلماء والمؤرخين أشمل من مجرد البناء الموجود الآن بهذا الاسم؛ إذ هو اسم لجميع المسجد الذي جـدده سليمان -عليه السلام-، فكل ما هو داخل السور الكبير ذي الأبواب يعد مسجداً بالمعنى الشرعي، ويشمل هذا المكان والأقصى القديم والمرواني وقبة الصخرة وجميع الساحات والمحاريب والمصاطب. وكان أول من سكن القدس قبائل الكنعانيين الوثنيين من العرب، ثم فرض الله -عز وجل- الجهاد على بني إسرائيل لتطهير بيت المقدس من وثنية الكنعانيين؛ فامتنعت بنو إسرائيل عن القيام بأمر الله -تعالى-، فعاقبهم الله -تعالى- بالتيه على عصيانهم أربعين سنة على ما جاء ذكره في سورة المائدة، توفي فيها هارون ثم موسى -عليهما السلام. ثم نشأ جيل جديد من بني إسرائيل، أقوى إيمانا، وأصلب عودا، وأمضى عزيمة، فقادهم يوشع بن نون -عليه السلام- إلى بيت المقدس ففتحها الله -تعالى- على يديه، وعمرها أتباع موسى بتوحيد الله -تعالى-، إلى أن دبَّ الشرك والعصيان في بعضهم، فسلط الله -تعالى- عليهم الجبابرة من الكنعانيين، فاحتلوا بيت المقدس مرة أخرى، ونكَّلوا بهم، فضاع بنو إسرائيل وتفرقوا، فعمدوا إلى نبي لهم؛ لينصب عليهم ملكا يسوسهم، ويعيد مملكة القدس لهم، فأرسل إليهم طالوت، فكانت المعركة المذكورة في سورة البقرة. وبسبب فساد اليهود وكفرهم سلط الله -عزوجل- عليهم الرومان فشردوهم وأبادوهم وأخرجوهم من بيت المقدس، وانتهى أمر اليهود في بيت المقدس، وتفرقوا في أرجاء الأرض، وذلك قبل البعثة المحمدية بأكثر من ثلاثمائة سنة، ولم يعودوا إليها مرة أخرى إلا بمعاونة الاحتلال الصليبي الأوروبي لبلاد المسلمين بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية.
محور معجزة الإسراء والمعراج
المسجد الأقصى هو محور معجزة الإسراء والمعراج؛ إليه انتهى الإسراء ومنه بدأ المعراج إلى السماوات العُلا، وفيه صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إماماً بالأنبياء والرسل جميعاً؛ قال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1)، والقدس هي أرض مباركة، بنص كتاب الله قال -تعالى-: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71), قال ابن كثير: «هي بلاد الشام»، وقال -عز من قائل عن قوم سبأ-: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} (سبأ: 18) قال ابن عباس: «القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس».
إدراك أهمية هذه المكانة الدينية الرفيعة
ما إن أدرك المسلمون واستوعَبوا أهمية هذه المكانة الدينية الرفيعة للمسجد الأقصى وبيت المقدس وعلاقتهما الوثيقة بالعقيدة الإسلامية، حتى لبوا النداء وأجابوا الداعي، فكان الفتح العُمَري لبيت المَقدس سنة 15هـ/ 636م، عندما دخلها الخليفة عمر بن الخطاب سلمًا، وأعطى لأهلها الأمان من خلال وثيقته التي عرفت بالعهدة العُمَريَّة، وكان يوم دخول الفاروق القدس يوماً مشهوداً ضربت فيه أروع الأمثلة في عدالة الإسلام وسماحته ورقيه وطهارة منهجه، فقد سار الفاروق عمر -]- إلى منطقة المسجد الشريف التي كانت خرابًا تامًّا في ذلك الوقت، وزار موقع الصخرة المشرفة وأمر بتنظيفها، كما أمر بإقامة مسجدٍ في الجهة الجنوبية منَ المسجد الشريف، ثم عمد إلى تنظيم شؤون المدينة فأنشأ الدَّواوين، وأقام يزيد بن أبي سفيان واليًا، وعيَّن عبادة بن الصامت قاضيًا فيها.
الأمويون وتكوين الوجه الحضاري الإسلامي
وكما كان للخلفاء الراشدين الفضل في فتح بيت المقدس وأسلمة المسجد الأقصى فعليًّا، وإدخالهما دار الإسلام والمسلمين سياسيا، كان للأمويين الفضل في تكوين الوجه الحضاري الإسلامي، وفي تعمير منطقة المسجد الأقصى المبارك تعميرًا يتلاءَم مع عظمة الدولة الإسلامية واستقرارها، فبنيت قبة الصخرة المشرفة وقبة السلسلة في عهد الخليفة عبدالملك، وبناء المسجد الأقصى ودار الإمارة والأبواب.
عناية الخلفاء ورعايتهم للمسجد الأقصى
واستمرت عناية الخلفاء المسلمين ورعايتهم للمسجد الأقصى حتى دب الوهن في صفوف الأمة، وفشت فيهم البدع والخرافات، وانتشرت الفرق الضالة، واحتل الصليبيون بيت المقدس سنة 491 هـ، وذبحوا سبعين ألفًا من خلاصة أهلها من عباد وعلماء وصالحين، وصارت الدماء أنهارًا، وغيّر المجرمون من معالم المسجد فجعلوا جزءًا منه كنيسة وجزءًا سكناً لفرسانهم، وبنوا بجواره مستودعا لأسلحتهم، أما مسجد الصخرة فحولوه إلى كنيسة ونصبوا فوق القبة صليباً كبيرًا في تحد سافر وصليبية مقيتة لمشاعر ملايين المسلمين، لتبدأ بعدها الملاحم الكبرى بين العالم الإسلامي وأوروبا، حتى تم استعادة بيت المقدس على يد الفاتح الكبير الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 583 هـ. فكان يوم استعادته من أيام الإسلام الكبرى وأفراحه العظمى.
احتلال اليهود بيت المقدس سنة 1967
استمر المسجد الأقصى وبيت المقدس في عز الإسلام ورعايته حتى دارت على المسلمين الدوائر، وسقطت حاضنتهم السياسية ممثلة في الخلافة العثمانية، فاحتل اليهود بيت المقدس سنة 1967 بعد حرب الأيام الست، وما لبثوا حتى حاولوا هدم المسجد بإحراقه سنة 1968، ثم حاولوا هدمه بالتنقيب والحفر تحت أساساته، وأخيرًا حاولوا هدمه بتقسيمه زمانيا ومكانيا مع المسلمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قراءة التاريخ
إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من ماضيها، لهي أمة تائهة حائرة؛ فالماضي والتاريخ ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب، بل هو أساسٌ من أسس إعادة صيغة الحاضر وبناء المستقبل، وقد كان المسجد الأقصى على مرِّ التاريخ مسجدًا للمسلمين من قبل أن يوجد اليهود ومن بعد ما وجدوا؛ فإبراهيم -عليه السلام- هو أول من اتخذ تلك البقعة مسجداً، وقد قال الله -تعالى- عنه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)، وليس لبني إسرائيل يهودًا ونصارى ارتباط بالمسجد الأقصى إلا في الفترات التي كانوا فيها مسلمين مع أنبيائهم -عليهم السلام-، أما بعد كفرهم بالله -تعالى-، فقد حسمت علاقتهم بهذا المسجد الذي تحول إلى إرث المسلمين المؤمنين بجميع الأنبياء -عليهم السلام. إن الآباء والأجداد من سلف الأمة وعظمائها فتحوا بيت المقدس وأقاموا فيه حضارة كبرى، وعمروا المسجد الأقصى، وأعادوا هيبته ومكانته، فكان منارة الإسلام، ودرة بلاد الشام، وموئل العلماء والعباد والصالحين، وقد تسلط عليهم العدو مرات ومرات، ومع ذلك لم يستسلموا للواقع المرير.
روح الأمل الدافع
رغم مظاهر الضعف والهوان التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم، والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدُّس معالم الفشل في كثيرٍ من الأنحاء، رغم كل هذا فإن المسلم المتعلق بربه، المؤمن بوعده ووعيده، والمتبصر بالسنن ونواميس الكون، يرى من وراء ذلك كله فتحًا قريبًا، إنها روح الأمل الدافع، والفأل الدافق الذي تغرسه في أهل الإسلام حقائق الوحي، وهداية النبوة المحمدية الخاتمة، وشواهد التاريخ، فلن تضيع بإذن الله قدسنا، ما دام الأحفاد سيحملون مسؤولية إرث الأجداد، بقلوب مؤمنة وعزائم صادقة، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).


اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان