تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 26 من 26 الأولىالأولى ... 1617181920212223242526
النتائج 501 إلى 520 من 520

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #501
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء السابع

    سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
    الحلقة (501)
    صــ 461 إلى صــ 470



    يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم .

    قوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا نزلت في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق، ثم خاف فرجع فقال: إنهم قد منعوا [ ص: 461 ] الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية . وقد ذكرت القصة في كتاب "المغني" وفي "الحدائق" مستوفاة، وذكرت معنى "فتبينوا" في سورة [النساء: 94]، والنبأ: الخبر، و "أن" بمعنى "لئلا"، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتهم بالخطإ نادمين .

    ثم خوفهم فقال: واعلموا أن فيكم رسول الله أي: إن كذبتموه أخبره الله فافتضحتم، ثم قال: لو يطيعكم في كثير من الأمر أي: مما تخبرونه فيه بالباطل لعنتم أي: لوقعتم في عنت . قال ابن قتيبة : وهو الضرر والفساد . وقال غيره: هو الإثم والهلاك . وذلك أن المسلمين لما سمعوا أن أولئك القوم قد كفروا قالوا: ابعث إليهم يا رسول الله واغزهم واقتلهم; ثم خاطب المؤمنين فقال: ولكن الله حبب إليكم الإيمان إلى قوله: والعصيان ، ثم عاد إلى الخبر عنهم فقال: أولئك هم الراشدون [ ص: 462 ] أي: المهتدون إلى محاسن الأمور، فضلا من الله قال الزجاج : المعنى: ففعل بكم ذلك فضلا، أي: للفضل والنعمة .

    وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .

    قوله تعالى: وإن طائفتان . . . الآية، في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي: فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم "وإن طائفتان . . . " الآية . وقد أخرجا جميعا من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن رواحة، فخمر ابن أبي وجهه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا، فذكر الحديث، وأن [ ص: 463 ] المسلمين والمشركين واليهود استبوا . وقد ذكرت الحديث بطوله في "المغني" و "الحدائق" . وقال مقاتل: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أبي: أف، وأمسك على أنفه، فقال عبد الله بن رواحة: والله لهو أطيب ريحا منك، فكان بين قوم ابن أبي وابن رواحة ضرب بالنعال والأيدي والسعف، ونزلت هذه الآية .

    والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، قاله قتادة . وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج; اقتتلوا بالعصي بينهم . وقرأ أبي بن كعب ، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: "اقتتلا" على فعل اثنين مذكرين . وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة: "اقتتلتا" بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين . وقال الحسن وقتادة والسدي فأصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله عز وجل والرضى بما فيه لهما وعليها فإن بغت إحداهما طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إلى الصلح، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء أي: ترجع إلى أمر الله أي: إلى طاعته في الصلح الذي أمر به .

    [ ص: 464 ] قوله تعالى: وأقسطوا أي: اعدلوا في الإصلاح بينهما .

    قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة قال الزجاج : إذا كانوا متفقين في دينهم رجعوا باتفاقهم إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب .

    قوله تعالى: فأصلحوا بين أخويكم قرأ الأكثرون: ["بين أخويكم"] بياء على التثنية . وقرأ أبي بن كعب ، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، [وقتادة]، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: "بين إخوتكم" بتاء مع كسر الهمزة على الجمع . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: "بين إخوانكم" بالنون وألف قبلها . قال قتادة: ويعني بذلك الأوس والخزرج .

    [ ص: 465 ] يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .

    قوله تعالى: لا يسخر قوم من قوم هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب; فأما أولها إلى قوله تعالى: خيرا منهم فنزلت على سبب، وفيه قولان .

    أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوما يريد الدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبت مجلسا، فجلس مغضبا، ثم قال الرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان . فقال ثابت: أنت ابن فلانة؟! فذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونكس رأسه، ونزل قوله تعالى: لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل .

    وأما قوله تعالى: ولا نساء من نساء فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 466 ] أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر، فنزلت هذه [الآية]، قاله أنس بن مالك . وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قصر أم سلمة .

    والثاني: أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حقوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إحداهما للأخرى: انظري ما خلف أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    وأما قوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم ألقاب يدعون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقبه، فقيل له: يا رسول الله: إنهم يكرهون هذا، فنزل [ ص: 467 ] قوله تعالى: "ولا تنابزوا بالألقاب"، قاله أبو جبيرة بن الضحاك .

    والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت: "ولا تنابزوا بالألقاب"، قاله الحسن .

    والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام، فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي، فنزلت فيهما "ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب" قاله مقاتل .

    وأما التفسير، فقوله تعالى: لا يسخر قوم من قوم أي: لا يستهزئ غني بفقير، ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر عليه، ولا ذو حسب بلئيم الحسب، وأشباه ذلك مما يتنقصه به، عسى أن يكون عند الله خيرا [منه] . وقد بينا في [البقرة: 54] أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: "ولا نساء من نساء" و "تلمزوا" بمعنى تعيبوا، وقد سبق بيانه [التوبة: 58] . والمراد بالأنفس هاهنا: الإخوان . والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم . والتنابز: التفاعل من النبز، وهو مصدر، والنبز الاسم . والألقاب جمع لقب، وهو اسم يدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمي به . قال ابن قتيبة : "ولا تنابزوا بالألقاب" أي: لا تتداعوا بها . و "الألقاب" و "الأنباز" واحد، ومنه [ ص: 468 ] الحديث: "نبزهم الرافضة" أي: لقبهم . وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال .

    أحدها: تعيير التائب بسيئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي .

    والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة .

    والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني; يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد . قال أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادى به، أو يعد ذما له . فأما الألقاب التي تكسب حمدا وتكون صدقا، فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي: أبو تراب، [ ص: 469 ] ولخالد: سيف الله، ونحو ذلك . وقوله: بئس الاسم الفسوق أي: تسميته فاسقا أو كافرا وقد آمن، ومن لم يتب من التنابز فأولئك هم الظالمون وفيه قولان .

    أحدهما: الضارون لأنفسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس . والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد .

    يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم .

    قوله تعالى: اجتنبوا كثيرا من الظن قال ابن عباس: نهى الله تعالى المؤمن أن يظن بالمؤمن شرا . وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به [سوءا]، فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءا . وقال الزجاج : هو أن يظن بأهل الخير سوءا . فأما أهل السوء والفسق، فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم . قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم ينه عن جميع الظن; والظن على أربعة أضرب . محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إليه، فأما المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حسن الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه [ ص: 470 ] دليل يوصل إلى العلم به، وقد تعبدنا بتنفيذ الحكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحكم عليه واجب، وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تعبدنا فيه بأحكام غالب الظنون . فأما الظن المباح، فكالشاك في الصلاة إذا كان إماما، أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه، وإن فعله كان مباحا، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظننتم فلا تحققوا"، وهذا من الظن الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة، فلا ينبغي له أن يحققه . وأما الظن المندوب إليه، فهو إحسان الظن بالأخ المسلم يندب إليه ويثاب عليه . فأما ما روي في الحديث: "احترسوا من الناس بسوء الظن"، فالمراد: الاحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحا خشيت السراق .



    [ ص: 471 ] قوله تعالى: إن بعض الظن إثم قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنه من السوء بأخيه المسلم، فإن لم يتكلم به فلا بأس، وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإن لم ينطق به .

    قوله تعالى: ولا تجسسوا وقرأ أبو رزين، والحسن، والضحاك ، وابن سيرين، وأبو رجاء، وابن يعمر: بالحاء . قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التبحث، ومنه الجاسوس . وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع لحديث القوم . قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم; فالمعنى: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذ ستره الله . وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا، فقال: إنا نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به .

    قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أي: لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوؤه . وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره" . قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول . قال: "إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" .

    [ ص: 472 ] ثم ضرب الله للغيبة مثلا، فقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا وقرأ نافع "ميتا" بالتشديد . قال الزجاج : وبيانه أن ذكرك بسوء من لم يحضر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك . قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة .

    قوله تعالى: فكرهتموه وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: "فكرهتموه" برفع الكاف وتشديد الراء . قال الفراء: أي: وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ "فكرهتموه" أي: فقد بغض إليكم، والمعنى واحد . قال الزجاج : والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتا، فكذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائبا .

    قوله تعالى: واتقوا الله أي: في الغيبة إن الله تواب على من تاب رحيم به .

    يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .

    [ ص: 473 ] قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقوله في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله: لا يسخر قوم من قوم [الحجرات: 11] .

    والثاني: أنه لما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذن، وأراد أن يذل المشركين بذلك، فلما أذن، قال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي قبض أسيدا قبل اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمدا غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يكره الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئا، فإني إن قلت شيئا لتشهدن علي السماء، ولتخبرن عني الأرض، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    والثالث: أن عبدا أسود مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قبض فتولى غسله وتكفينه ودفنه، فأثر ذلك عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة . فأما المراد بالذكر والأنثى، فآدم وحواء . والمعنى: إنكم تتساوون في النسب; وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب . فأما الشعوب، فهي جمع شعب . وهو الحي العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبكر من ربيعة، وتميم من [ ص: 474 ] مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة . وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب: الموالي، وبالقبائل: العرب . وقال أبو رزين: الشعوب: أهل الجبال الذين لا يعتزون لأحد، والقبائل: قبائل العرب . وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل: إن القبائل هي الأصول، والشعوب هي البطون التي تتشعب منها، وهذا ضد القول الأول .

    قوله تعالى: لتعارفوا أي: ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده . قال الزجاج : المعنى: جعلناكم كذلك لتعارفوا، لا لتفاخروا . ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس، والضحاك ، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: "لتعرفوا" بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف . وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: "لتعارفوا" بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة . وقرأ أبو نهيك، والأعمش: "لتتعرفوا" بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غير ألف .

    قوله تعالى: إن أكرمكم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء: "أن" بفتح الهمزة . قال الفراء: من فتح "أن" فكأنه قال: لتعارفوا أن الكريم التقي، ولو كان كذلك لكانت "لتعرفوا"، غير أنه يجوز "لتعارفوا" على معنى: ليعرف بعضكم بعضا أن أكرمكم عند الله أتقاكم .

    [ ص: 475 ] قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .

    قوله تعالى: قالت الأعراب آمنا قال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة . ووصف غيره حالهم، فقال: قدموا المدينة في سنة مجدبة، فأظهروا [ ص: 476 ] الإسلام ولم يكونوا مؤمنين، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك، فنزلت فيهم هذه الآية . وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار [وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة [الفتح] وكانوا يقولون: آمنا بالله، ليأمنوا على أنفسهم]، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فنزلت فيهم هذه الآية . وقال مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم فلم ينفروا معه .

    قوله تعالى: قل لم تؤمنوا أي: لم تصدقوا ولكن قولوا أسلمنا قال ابن قتيبة : أي: استسلمنا من خوف السيف، وانقدنا . قال الزجاج : الإسلام: إظهار الخضوع والقبول لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحقن الدم، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإيمان، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان بقوله: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أي: لم تصدقوا، إنما أسلمتم تعوذا من القتل . وقال مقاتل: "ولما" بمعنى "ولم" يدخل التصديق في قلوبكم .

    [ ص: 477 ] قوله تعالى: وإن تطيعوا الله ورسوله قال ابن عباس: إن تخلصوا الإيمان لا يلتكم قرأ أبو عمرو: "يألتكم" بألف وهمز; وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة: وقرأ الباقون: "يلتكم" بغير ألف ولا همز . فقراءة أبي عمرو من ألت يألت، وقراءة الباقين من لات يليت، قال الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج : معناهما واحد . والمعنى: لا ينقصكم . وقال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات: ألت يألت، تقديرها: أفك يأفك، وألات يليت، تقديرها: أقال يقيل، ولات يليت، قال رؤبة:


    وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت


    قوله تعالى: من أعمالكم أي: من ثوابها . ثم نعت الصادقين في إيمانهم بالآية التي تلي هذه . ومعنى: يرتابوا يشكوا . وإنما ذكر الجهاد، لأن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فرضا في ذلك الوقت، أولئك هم الصادقون [في إيمانهم فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون] فنزلت [هذه الآية] .

    قوله تعالى: قل أتعلمون الله بدينكم و "علم" بمعنى "أعلم"، ولذلك دخلت الباء في قوله: "بدينكم" والمعنى: أتخبرون [الله] بالدين الذي أنتم عليه؟!، [ ص: 478 ] أي: هو عالم بذلك لا يحتاج إلى إخباركم; وفيهم نزل قوله تعالى: يمنون عليك أن أسلموا قالوا: أسلمنا ولم نقاتلك [والله أعلم] .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #502
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ ق
    الحلقة (502)
    صــ 1 إلى صــ 15




    سُورَةُ ق

    وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْبَاسِقَاتِ

    رَوَى الْعَوْفِيُّ [وَغَيْرُهُ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرَمَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْجُمْهُورُ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَنَّ فِيهَا آيَةً مَدَنِيَّةً، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ الْآيَةُ [ق: 38] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج

    قوله تعالى: "ق" قرأ الجمهور بإسكان الفاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، [ ص: 4 ] وأبو المتوكل ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء: "قاف" بنصب الفاء وقرأ أبو رزين ، وقتادة: "قاف" برفع الفاء . وقرأ الحسن، وأبو عمران: "قاف" بكسر الفاء . وفي "ق" خمسة أقوال .

    أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثاني: أنه جبل من زبرجدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له: "ق" محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله عز وجل أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية . وقال مجاهد . هو جبل محيط بالأرض . وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كنفا السماء، وخضرة السماء منه .

    والثالث: أنه جبل من نار، في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس .

    والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة .

    والخامس: أنه حرف من كلمة . ثم فيه خمسة أقوال . أحدها: أنه افتتاح اسمه "قدير" قاله أبو العالية . والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك، قاله القرظي . والثالث: أنه افتتاح "قضي الأمر"، وأنشدوا:



    قلنا لها قفي فقالت قاف


    معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من "أقف" حكاه جماعة منهم الزجاج .

    والرابع: [ ص: 5 ] قف عند أمرنا ونهينا، ولا تعدهما، قاله أبو بكر الوراق . والخامس: قل يا محمد، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: والقرآن المجيد قال ابن عباس، وابن جبير: المجيد: الكريم . وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال .

    أحدها: أنه مضمر، تقديره: ليبعثن بعد الموت . قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدل عليه قول الكفار: هذا شيء عجيب .

    والثاني: أنه قوله: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ، فيكون المعنى: [قاف] والقرآن المجيد لقد علمنا، فحذفت اللام لأن ما قبلها عوض منها، كقوله: والشمس وضحاها . . . . قد أفلح [الشمس: 1-9] أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج . [ ص: 6 ] والثالث: أنه قوله: ما يلفظ من قول حكي عن الأخفش .

    والرابع: أنه في سورة أخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبين في أي سورة .

    قوله تعالى: بل عجبوا مفسر في [ص: 4] إلى قوله: شيء عجيب أي: معجب .

    أإذا متنا قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآن ليبعثن، فقال: أئذا متنا وكنا ترابا; والمعنى: أنبعث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لما تعجبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بعثتم ما يكون حالكم في تكذيبكم محمدا، فقالوا أئذا متنا وكنا ترابا؟!

    قوله تعالى: ذلك رجع أي: رد إلى الحياة "بعيد" قال ابن قتيبة: أي: لا يكون .

    "قد علمنا ما تنقص الأرض منهم" أي: ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يعزب عن علمه "وعندنا" مع علمنا بذلك "كتاب حفيظ" أي: حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون .

    بل كذبوا بالحق وهو القرآن . والمريج: المختلط، قال ابن قتيبة: يقال: مرج [أمر] الناس، ومرج الدين، وأصل هذا أن يقلق الشيء، ولا يستقر، يقال: مرج الخاتم في يدي: إذا قلق، للهزال . قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة: ساحر، ومرة: شاعر، [ ص: 7 ] ومرة: معلم، ويقولون للقرآن مرة: سحر ،ومرة: مفترى، ومرة: رجز، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم .

    أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .

    ثم دلهم على قدرته على البعث بقوله: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها بغير عمد "وزيناها" بالكواكب وما لها من فروج أي: من صدوع وشقوق . والزوج: الجنس . والبهيج: الحسن، قاله أبو عبيدة . وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يبتهج به .

    قوله تعالى: تبصرة وذكرى لكل عبد منيب قال الزجاج: أي: فعلنا ذلك لنبصر وندل على القدرة . والمنيب: الذي يرجع إلى الله ويفكر في قدرته .

    قوله تعالى: ونزلنا من السماء ماء وهو المطر "مباركا" أي: كثير [ ص: 8 ] الخير، فيه حياة كل شيء "فأنبتنا به جنات وهي البساتين "وحب الحصيد" أراد: الحب الحصيد، فأضافه إلى نفسه، كقوله: لهو حق اليقين [الواقعة: 95] وقوله: من حبل الوريد [ق: 16] فالحبل هو الوريد، وكما يقال: صلاة الأولى، يراد الصلاة الأولى، ويقال: مسجد الجامع، يراد: المسجد الجامع، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة . وقال غيرهما: أراد حب النبت الحصيد . "والنخل" أي: وأنبتنا النخل "باسقات" و"بسوقها": طولها . قال ابن قتيبة: يقال: بسق الشيء يبسق بسوقا: إذا طال، والنضيد: المنضود بعضه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتح، فإذا انشق جف طلعه وتفرق فليس بنضيد .

    قوله تعالى: رزقا للعباد أي: أنبتنا هذه الأشياء للرزق "وأحيينا به" أي: بالمطر "بلدة ميتا كذلك الخروج" من القبور .

    ثم ذكر الأمم المكذبة بما بعد هذا، وقد سبق بيانه إلى قوله: فحق وعيد أي: وجب عليهم عذابي .

    أفعيينا بالخلق الأول هذا جواب لقولهم: ذلك رجع بعيد . والمعنى: أعجزنا عن ابتداء الخلق، وهو الخلق الأول، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق، وأنكروا البعث بل هم في لبس أي: في شك من خلق جديد وهو البعث .

    ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ [ ص: 9 ] في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد

    ولقد خلقنا الإنسان يعني ابن آدم ، ونعلم ما توسوس به نفسه أي: ما تحدثه به نفسه . وقال الزجاج: نعلم ما يكنه في نفسه .

    قوله تعالى: ونحن أقرب إليه أي: بالعلم "من حبل الوريد" الحبل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لما شرحناه آنفا في قوله: وحب الحصيد [ق: 9] قال الفراء: والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين . وعنه أيضا قال: عرق بين اللبة والعلباوين . وقال الزجاج: الوريد: عرق في باطن العنق، [وهما وريدان]، والعلباوان: العصبتان الصفراوان في متن العنق، واللبتان: مجرى القرط في العنق . وقال ابن الأنباري: اللبة حيث يتذبذب القرط مما يقرب من شحمة الأذن . وحكى بعض العلماء أن الوريد: عرق متفرق في البدن مخالط لجميع الأعضاء، فلما كانت أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضا، أعلم أن علمه لا يحجبه شيء . والمعنى: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان بابن آدم يتلقيان عمله .

    وقوله: إذ يتلقى المتلقيان [ ص: 10 ] أي: يأخذان ذلك ويثبتانه "عن اليمين" كاتب الحسنات "وعن الشمال" كاتب السيئات . قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فدل أحدهما على الآخر، فحذف المدلول عليه، قال الشاعر:


    نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف


    وقال آخر:


    رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني


    المعنى: كنت منه بريئا . وقال ابن قتيبة: القعيد بمعنى قاعد، كما يقال: "قدير" بمعنى "قادر"، ويكون القعيد بمعنى مقاعد كالأكيل والشريب بمنزلة: المؤاكل والمشارب .

    قوله تعالى: ما يلفظ يعني الإنسان، أي: ما يتكلم من كلام فيلفظه، أي: يرميه من فمه، "إلا لديه رقيب" أي: حافظ، وهو الملك الموكل به، إما صاحب اليمين، وإما صاحب الشمال "عتيد" قال الزجاج: العتيد: [ ص: 11 ] الثابت اللازم . وقال غيره: العتيد: الحاضر معه أينما كان . وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة " . وقال ابن عباس: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار . واختلفوا هل يكتبان جميع أفعاله وأقواله على قولين .

    أحدهما: أنهما يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد .

    والثاني: أنهما لا يكتبان إلا ما يؤجر [عليه]، أو يؤزر، قاله عكرمة . فأما مجلسهما، فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة . وقد روى علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما [ ص: 12 ] لا يعنيك" وروي عن الحسن والضحاك قالا: مجلسهما تحت الشعر على الحنك .

    قوله تعالى: وجاءت سكرة الموت وهي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله وتدله على أنه ميت "بالحق" وفيه وجهان .

    أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت .

    والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للإنسان ما لم يكن بينا له من أمر الآخرة . ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير .

    وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (وجاءت سكرة الحق بالموت)، قال ابن جرير : ولهذه القراءة وجهان .

    أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الله بالموت .

    والثاني: أن تكون السكرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: إن هذا لهو حق اليقين [الواقعة: 95]، فيكون المعنى: وجاءت السكرة الحق بالموت، بتقديم "الحق" . وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: "وجاءت سكرات" على الجمع "الحق بالموت" بتقديم "الحق" . وقرأ أبي ابن كعب ، وسعيد بن جبير: "وجاءت سكرات الموت" على الجمع "بالحق" بتأخير "الحق" . [ ص: 13 ]

    قوله تعالى: ذلك أي: فيقال للإنسان حينئذ: "ذلك" أي: ذلك الموت "ما كنت منه تحيد" أي: تهرب وتفر . وقال ابن عباس: تكره .

    قوله تعالى: ونفخ في الصور يعني نفخة البعث "ذلك" اليوم يوم الوعيد أي: يوم وقوع الوعيد .

    قوله تعالى: معها سائق فيه قولان .

    أحدهما: أن السائق: ملك يسوقها إلى محشرها، قاله أبو هريرة .

    والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمي سائقا، لأنه يتبعها وإن لم يحثها .

    وفي الشهيد ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه ملك يشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان، والحسن . وقال مجاهد: الملكان: سائق . وشهيد . وقال ابن السائب: السائق الذي كان يكتب عليه السيئات، والشهيد: الذي كان يكتب الحسنات .

    والثاني: أنه العمل يشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة .

    والثالث: الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله، قاله الضحاك .

    وهل هذه الآيات عامة، أم خاصة؟ فيها قولان . أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور . الثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك، ومقاتل .

    قوله تعالى: لقد كنت أي: ويقال له: "لقد كنت في غفلة من هذا" اليوم وفي المخاطب بهذه الآيات ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين .

    [ ص: 14 ] والثاني: أنه عام في البر والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير .

    والثالث: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد . فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به; وعلى الثاني: كنت غافلا عن أهوال القيامة . فكشفنا عنك غطاءك الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك . وقيل معناه: أريناك ما كان مستورا عنك; وعلى الثالث: لقد كنت قبل الوحي في غفلة عما أوحي إليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي "فبصرك اليوم حديد" وفي المراد بالبصر قولان .

    أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك . والثاني: العلم، قاله الزجاج .

    وفي قوله: "اليوم" قولان .

    أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون . والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد . فأما قوله: "حديد" فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحاد . أي: فأنت ثاقب البصر . ثم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: فبصرك حديد إلى لسان الميزان حين توزن حسناتك وسيئاتك، قاله مجاهد . والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الآخرة، قاله مقاتل . والثالث: أنه العلم النافذ، قاله الزجاج .

    [ ص: 15 ] وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد

    قوله تعالى: وقال قرينه قال مقاتل: هو ملكه الذي كان يكتب عمله السيئ في دار الدنيا، يقول لربه: قد كتبت ما وكلتني به، فهذا عندي معد حاضر من عمله الخبيث، فقد أتيتك به وبعمله . وفي "ما" قولان . أحدهما: أنها بمعنى "من" قاله مجاهد .

    والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شيء لدي عتيد، قاله الزجاج، وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السورة [ق: 18]، فيقول الله تعالى: ألقيا في جهنم وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين، قال الفراء: والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين، فيقولون للرجل ويلك ارحلاها وازجراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم:


    فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #503
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ ق
    الحلقة (503)
    صــ 16 إلى صــ 30





    وأنشدني أبو ثروان:

    [ ص: 16 ]
    فإن تزجراني يابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا


    ونرى أن ذلك منهم، لأن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيلا: يا صاحبي ويا خليلي . قال امرؤ القيس:


    خليلي مرا بي على أم جندب نقضي لبانات الفؤاد المعذب


    ثم قال:


    ألم تر أني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب


    فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل، وقال: "ألقيا" خطاب للخازن، يعني خازن النار .

    والثاني: أنه فعل ثني توكيدا، كأنه لما قال: "ألقيا" ، ناب عن ألق ألق، وكذلك، قفا نبك، معناه: قف قف، فلما ناب عن فعلين، ثني، قاله المبرد .

    والثالث: أنه أمر للملكين، يعني السائق والشهيد، وهذا اختيار الزجاج .

    [ ص: 17 ] فأما "الكفار" فهو أشد مبالغة من الكافر . و"العنيد" قد فسرناه في [هود: 59]

    قوله تعالى: مناع للخير في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة .

    والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام .

    والثالث: أنه عام في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: معتد أي: ظالم لا يقر بالتوحيد مريب أي: شاك في الحق، من قولهم: أراب الرجل: إذا صار ذا ريب .

    قوله تعالى: قال قرينه فيه قولان .

    أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور . وفي الكلام اختصار تقديره: إن الإنسان ادعى على قرينه من الشياطين أنه أضله [ ص: 18 ] فقال: ربنا ما أطغيته أي: لم يكن لي قوة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله .

    والثاني: أنه الملك الذي كان يكتب السيئات .

    ثم فيما يدعيه الكافر على الملك قولان .

    أحدهما: [أنه] يقول: زاد علي فيما كتب، فيقول الملك: ما أطغيته، أي: ما زدت عليه، قاله سعيد بن جبير .

    والثاني: أنه يقول: كان يعجلني عن التوبة، فيقول: ربنا ما أطغيته، هذا قول الفراء .

    قوله تعالى: ولكن كان في ضلال بعيد أي: بعيد من الهدى، فيقول الله تعالى: لا تختصموا لدي في هذا الخصام قولان . أحدهما: أنه اعتذارهم بغير عذر، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغووهم، قاله أبو العالية . فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا، فلا يجوز أن يهمل، لأنه يوم التناصف .

    قوله تعالى: وقد قدمت إليكم بالوعيد أي: قد أخبرتكم على ألسن الرسل بعذابي في الآخرة لمن كفر .

    ما يبدل القول لدي فيه قولان .

    أحدهما: ما يبدل القول فيما وعدته من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون .

    والثاني: ما يكذب عندي ولا يغير القول عن جهته، لأني أعلم الغيب وأعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: ما يبدل القول لدي ولم يقل: [ ص: 19 ] ما يبدل قولي وما أنا بظلام للعبيد فأزيد على إساءة المسيء، أو أنقص من إحسان المحسن .

    يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود

    "يوم نقول لجهنم" قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر; وحمزة، والكسائي: "يوم نقول" بالنون المفتوحة وضم القاف . [وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: "يوم يقول" بالياء المفتوحة وضم القاف] . وقرأ أبي بن كعب ، والحسن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو: "يوم يقال" بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف . قال الزجاج: وانتصاب "يوم" على وجهين، أحدهما: على معنى: ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم . والثاني: على معنى: وأنذرهم يوم نقول لجهنم .

    فأما فائدة سؤاله إياها، وقد علم هل امتلأت أم لا، فإنه توبيخ لمن أدخلها، وزيادة في مكروهه، ودليل على تصديق قوله: لأملأن جهنم

    [الأعراف: 18] وفي قولها: هل من مزيد قولان عند أهل اللغة .

    [ ص: 20 ] أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي في موضع لم يمتلئ؟ أي: قد امتلأت .

    والثاني: أنها تقول تغيظا على من عصى الله تعالى، وجعل الله فيها أن تميز وتخاطب، كما جعل في النملة أن قالت: ادخلوا مساكنكم [النمل: 18] وفي المخلوقات أن تسبح بحمده .

    قوله تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين أي: قربت للمتقين [الشرك] (غير بعيد) أي: جعلت عن يمين العرش حيث يراها أهل الموقف، ويقال لهم: "هذا" الذي ترونه ما توعدون وقرأ عثمان بن عفان، وابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن: "يوعدون" بالياء لكل أواب وفيه أقوال قد ذكرناها في [بني إسرائيل: 25] . وفي حفيظ قولان .

    أحدهما: الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها، قاله ابن عباس .

    والثاني: الحافظ لأمر الله تعالى، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: من خشي الرحمن بالغيب قد بيناه في [الأنبياء: 49] وجاء بقلب منيب أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته .

    (ادخلوها) أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة بسلام وذلك أنهم سلموا من عذاب الله، وسلموا فيها من الغموم والتغير والزوال، وسلم الله وملائكته عليهم ذلك يوم الخلود في الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال .

    لهم ما يشاءون فيها وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسائلهم، [ ص: 21 ] فيعطون ما شاؤوا، ثم يزيدهم ما لم يسألوا، فذلك قوله: ولدينا مزيد . وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه النظر إلى الله عز وجل; روى علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله: "ولدينا مزيد" قال: يتجلى لهم . وقال أنس بن مالك في قوله: "ولدينا مزيد": يتجلى لهم الرب تعالى في كل جمعة .

    والثاني: أن السحاب يمر بأهل الجنة، فيمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عز وجل: "ولدينا مزيد" حكاه الزجاج . والثالث: أن الزيادة على ما تمنوه وسألوا مما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ذكره أبو سليمان الدمشقي .

    ثم خوف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: "فنقبوا في البلاد" قرأ الجمهور " فنقبوا " بفتح النون والقاف مع تشديدها . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى بن يعمر . كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهددا . وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيد عن أبي عمرو: "فنقبوا" بفتح القاف وتخفيفها . قال الفراء: ومعنى "فنقبوا" ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت "من محيص" فأضمرت "كان" ها هنا، كقوله: أهلكناهم فلا ناصر لهم [محمد: 13] أي: فلم يكن لهم ناصر . ومن قرأ "فنقبوا" بكسر القاف، فإنه [ ص: 22 ] كالوعيد; والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت من محيص؟! وقال الزجاج: "نقبوا": طوقوا وفتشوا، فلم تروا محيصا من الموت قال امرؤ القيس:


    لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب


    فأما المحيص: فهو المعدل; وقد استوفينا شرحه في سورة [ النساء: 121 ] .

    قوله تعالى: إن في ذلك يعني الذي ذكره من إهلاك القرى لذكرى أي: تذكرة وعظة لمن كان له قلب قال ابن عباس: أي: عقل . قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن تقول: ما لك قلب، وما معك قلبك، تريد العقل . وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعا للعقل كنى به [عنه] . وقال الزجاج: المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهم أو ألقى السمع أي: استمع مني (وهو شهيد) أي: وقلبه فيما يسمع . وقال الفراء: "وهو شهيد" أي: شاهد ليس بغائب .

    قوله تعالى: ولقد خلقنا السماوات والأرض ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم الله عز وجل بقوله: وما مسنا من لغوب قال الزجاج: واللغوب: التعب والإعياء . [ ص: 23 ] قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون أي: من بهتهم وكذبهم . قال المفسرون: ونسخ معنى قوله: "فاصبر" بآية السيف وسبح بحمد ربك أي: صل بالثناء على ربك والتنزيه [له] مما يقول المبطلون قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر وقبل الغروب فيها قولان .

    أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس .

    والثاني: صلاة العصر، قاله قتادة . وروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث جرير بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا . وقرأ: "فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب" .

    قوله تعالى: ومن الليل فسبحه فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها صلاة الليل كله، أي وقت صلى منه، قاله مجاهد .

    والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد .

    والثالث: صلاة المغرب والعشاء، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وأدبار السجود قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: [ ص: 24 ] بكسر الهمزة; وقرأ الباقون بفتحها . قال الزجاج: من فتح ألف "أدبار" فهو جمع دبر، ومن كسرها فهو مصدر: أدبر يدبر إدبارا .

    وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الركعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعلي، والحسن بن علي، رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وقتادة في آخرين، وهو رواية العوفي عن ابن عباس .

    والثاني أنه النوافل بعد المفروضات ،قاله ابن زيد .

    والثالث: أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، رواه مجاهد عن ابن عباس . وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك .

    واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد

    قوله تعالى: واستمع يوم يناد المناد قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر "ينادي المنادي" بياء في الوصل . ووقف ابن كثير بياء، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياء . ووقف الباقون ووصلوا بياء . قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي . قال المفسرون: والمنادي: إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء; وهذه هي النفخة [ ص: 25 ] الأخيرة . والمكان القريب: صخرة بيت المقدس . قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . وقال ابن السائب باثني عشر ميلا . قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض .

    قوله تعالى: يوم يسمعون الصيحة وهي [هذه] النفخة الثانية بالحق أي: بالبعث الذي لا شك فيه ذلك يوم الخروج من القبور .

    إنا نحن نحيي ونميت أي: نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث، وهو قوله: يوم تشقق الأرض عنهم قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: "تشقق" بتشديد الشين; وقرأ الباقون بتخفيفها سراعا أي: فيخرجون منها سراعا ذلك حشر علينا يسير أي: هين .

    ثم عزى نبيه فقال: "نحن أعلم بما يقولون" في تكذيبك، يعني كفار مكة "وما أنت عليهم بجبار" قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم، وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول: "فعال من أفعلت" لا يقولون: "خراج" يريدون "مخرج" ولا "دخال" يريدون "مدخل" إنما يقولون: "فعال" من "فعلت"، وإنما الجبار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: "دراك" من "أدركت" وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه . وقال ابن قتيبة: "بجبار" أي: بمسلط، والجبار: الملك، سمي بذلك لتجبره، يقول: لست عليهم بملك مسلط .

    [ ص: 26 ] قال اليزيدي: لست بمسلط فتقهرهم على الإسلام . وقال مقاتل: لتقتلهم . وذكر المفسرون أن قوله: "وما أنت عليهم بجبار" منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى: فذكر بالقرآن أي: فعظ به "من يخاف وعيد" وقرأ يعقوب: "وعيدي" بياء في الحالين]، أي: ما أوعدت من عصاني من العذاب .

    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ

    مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون

    قوله تعالى: والذاريات ذروا يعني الرياح، يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا: إذا فرقته . قال الزجاج: يقال: ذرت فهي ذارية، وأذرت فهي مذرية بمعنى واحد .

    "والذاريات"، مجرورة على القسم، المعنى: أحلف بالذاريات وهذه الأشياء، والجواب "إنما توعدون لصادق" قال قوم: المعنى: ورب الذاريات، ورب الجاريات .

    [ ص: 28 ] قوله تعالى: فالحاملات وقرا يعني السحاب التي تحمل وقرها من الماء .

    "فالجاريات يسرا" يعني السفن تجري ميسرة في [الماء] جريا سهلا .

    "فالمقسمات أمرا" يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمر الله به . قال ابن السائب: والمقسمات أربعة، جبريل، وهو صاحب الوحي والغلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصور واللوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح . وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته .

    ثم ذكر المقسم عليه فقال: "إنما توعدون" أي: من الثواب والعقاب يوم القيامة "لصادق" أي: لحق .

    "وإن الدين" فيه قولان .

    أحدهما: الحساب . والثاني: الجزاء "لواقع" أي: لكائن .

    ثم ذكر قسما آخر فقال: "والسماء ذات الحبك" وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: "الحبك" بكسر الحاء والباء جميعا . وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة: "الحبك" بكسر الحاء وإسكان الباء . وقرأ أبي ابن كعب ، وابن عباس، وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة: "الحبك" برفع الحاء وإسكان الباء . وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: "الحبك" بفتح الحاء و الباء جميعا .

    [ ص: 29 ] وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: [ "الحبك"] بفتح الحاء وكسر الباء .

    ثم في معنى "الحبك" أربعة أقوال . أحدها: ذات الخلق الحسن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة . والثاني: البنيان المتقن، قاله مجاهد . والثالث: ذات الزينة، قاله سعيد بن جبير . وقال الحسن: حبكها: نجومها . والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك واللغويون . وقال الفراء: الحبك: تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح ، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وواحد الحبك: حباك وحبيكة وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحبك: الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة: ما أجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح فهو حبك . وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة .

    ثم ذكر جواب القسم الثاني، قال: "إنكم" يعني أهل مكة لفي قول مختلف في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون . وفي القرآن [بعضكم] يقول: سحر، وبعضكم يقول: كهانة ورجز، إلى غير ذلك .

    يؤفك عنه من أفك أي: يصرف عن الإيمان [به] من صرف [فحرمه] . [والهاء في "عنه" عائدة إلى القرآن . وقيل: يصرف عن هذا [ ص: 30 ] القول، أي: من أجله وسببه عن الإيمان من صرف] . وقرأ قتادة: "من أفك" بفتح الألف والفاء . وقرأ عمرو بن دينار: "من أفك" بفتح الألف وكسر الفاء .

    قتل الخراصون قال الفراء: يعني [لعن] الكذابون الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب وشاعر، خرصوا ما لا علم لهم به . وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة . وقال ابن الأنباري: والقتل إذ أخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك .

    قوله تعالى: الذين هم في غمرة أي: في عمى وجهالة بأمر الآخرة ساهون أي: غافلون . والسهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه .

    يسألون أيان يوم الدين أي: يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء .

    ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: يوم هم على النار قال الزجاج: "اليوم" منصوب على معنى: يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون أي: يحرقون ويعذبون، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت بالنار: الفتين .

    قوله تعالى: ذوقوا المعنى: يقال لهم: ذوقوا فتنتكم وفيها قولان .

    أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس . والثاني: حريقكم، قاله مجاهد . قال أبو عبيدة: ها هنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال: هذا الذي كنتم به تستعجلون قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء . ثم ذكر ما وعد الله لأهل الجنة فقال: إن المتقين في جنات وعيون وقد سبق شرح هذا [البقرة: 25، الحجر 45] .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #504
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
    الحلقة (504)
    صــ 31 إلى صــ 45







    قوله تعالى آخذين قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: [ ص: 31 ] في جنات وعيون في حال أخذ ما آتاهم ربهم قال المفسرون: أي: ما أعطاهم الله من الكرامة إنهم كانوا قبل ذلك محسنين في أعمالهم . وفي الآية وجه آخر: "آخذين ما آتاهم ربهم" أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض "إنهم كانوا قبل" أن تفرض الفرائض عليهم، "محسنين" أي: مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين .

    ثم ذكر إحسانهم فقال: "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون" والهجوع: النوم بالليل دون النهار .

    وفي "ما" قولان . أحدهما: النفي . ثم في المعنى قولان . أحدهما: كانوا يسهرون قليلا من الليل . قال أنس بن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء .

    والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من الليل . واختار قوم الوقف على قوله: "قليلا" على معنى: كانوا من الناس قليلا، ثم ابتدأ فقال: "من الليل ما يهجعون" على معنى نفي النوم عنهم البتة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل . [ ص: 32 ] والقول الثاني: أن "ما" بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري . وعلى هذا يحتمل أن تكون "ما" زائدة .

    قوله تعالى: وبالأسحار هم يستغفرون وقد شرحناه في [آل عمران: 17] .

    قوله تعالى: وفي أموالهم حق أي: نصيب، وفيه قولان .

    أحدهما: أنه ما يصلون به رحما، أو يقرون به ضيفا، أو يحملون به كلا، أو يعينون به محروما، وليس بالزكاة، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين .

    قوله تعالى: للسائل وهو الطالب .

    وفي " المحروم " ثمانية أقوال .

    أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المحارف، قاله ابن عباس . وقال إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة .

    والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء: هو المحروم في الرزق والتجارة .

    والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي .

    والرابع: أنه المتعفف الذي لا يسأل شيئا، قاله قتادة، والزهري .

    والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمد بن الحنفية .

    [ ص: 33 ] والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد .

    والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي .

    والثامن: أنه الكلب، روي عن عمر بن عبد العزيز . وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلم ما المحروم؟ . وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل - ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل - ثم يتحفظ بالتعفف من ظهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قبل نفسه حين لم يسأل، ومن قبل الناس حين لا يعطونه، وإنما يفطن له متيقظ . وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح .

    قوله تعالى: وفي الأرض آيات كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك للموقنين بالله عز وجل الذين يعرفونه بصنعه .

    وفي أنفسكم آيات إذ كنتم نطفا، ثم عظاما، ثم علقا ثم مضغا، إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف، ثم اختلاف الصور والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم . وتم الكلام عند قوله: "وفي أنفسكم"، ثم قال: أفلا تبصرون قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث .

    قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وقرأ أبي بن كعب ، وحميد، [ ص: 34 ] وأبو حصين الأسدي: "أرزاقكم" براء ساكنة وبألف بين الزاي والقاف . وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: "رازقكم" بفتح الراء وكسر الزاي وبألف بينهما . وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين . وفيه قولان .

    أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور .

    والثاني: الجنة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    وفي قوله: و ما توعدون قولان .

    أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والثاني: الجنة، رواه ليث عن مجاهد . قال أبو عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند من في السماء رزقكم، وعنده ما توعدون، والعرب تضمر، قال نابغة [ذبيان]:


    كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن


    أراد: كأنك جمل من جمال بني أقيش .

    قوله تعالى: إنه لحق قال الزجاج: يعني ما ذكره من أمر الآيات والرزق وما توعدون وأمر النبي صلى الله عليه وسلم . مثل ما أنكم تنطقون قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "مثل" برفع اللام . وقرأ الباقون بنصب اللام . قال الزجاج: فمن رفع "مثل" فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لحق مثل نطقكم; ومن نصب فعلى ضربين . [ ص: 35 ] أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لما أضيف إلى "أن" فتح .

    والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لحق حقا مثل نطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لحق كما أنك تتكلم .

    هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم

    قوله تعالى: هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين "هل" بمعى "قد" في قول ابن عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نقصصه عليك، وضيفه: هم الذين جاؤوا بالبشرى . وقد ذكرنا عددهم في [هود: 70]، وذكرنا هناك معنى الضيف .

    وفي معنى "المكرمين" أربعة أقوال:

    أحدهما: لأنه أكرمهم بالعجل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد .

    والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفسهما، قاله السدي .

    والثالث: أنهم مكرمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى .

    والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مكرمون، قاله أبو بكر الوراق . [ ص: 36 ] قوله تعالى: فقالوا سلاما قد ذكرناه في [هود: 70]

    قوله تعالى: قوم منكرون قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قوم منكرون .

    وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال .

    أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس .

    والثاني: لأنهم سلموا عليه، فأنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو العالية .

    والثالث: لأنهم دخلوا [عليه] من غير استئذان .

    والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة .

    قوله تعالى: فراغ إلى أهله قال ابن قتيبة: أي: عدل إليهم في خفية، ولا يكون الرواغ إلى أن تخفي ذهابك ومجيئك .

    قوله تعالى: فجاء بعجل سمين وكان مشويا فقربه إليهم قال الزجاج: والمعنى: فقربه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: ألا تأكلون ؟! على النكير، أي: أمركم في ترك الأكل مما أنكره .

    [ ص: 37 ] قوله تعالى: فأوجس منهم خيفة قد شرحناه في [هود: 70]، وذكرنا معنى: "غلام عليم" في [الحجر: 54] .

    فأقبلت امرأته وهي: سارة . قال الفراء وابن قتيبة: لم تقبل من موضع إلى موضع، وإنما هو كقولك: أقبل يشتمني، وأقبل يصيح ويتكلم، أي: أخذ في ذلك، والصرة: الصيحة . وقال أبو عبيدة: الصرة: شدة الصوت .

    وفيما قالت في صيحتها قولان .

    أحدهما: أنها تأوهت، قاله قتادة .

    والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء .

    قوله تعالى: فصكت وجهها فيه قولان .

    أحدهما: لطمت وجهها، قاله ابن عباس .

    والثاني: ضربت جبينها تعجبا، قاله مجاهد . ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض .

    وقالت عجوز قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار "أتلد عجوز" . وقال الزجاج: المعنى: أنا عجوز عقيم، فكيف ألد؟! وقد ذكرنا معنى العقيم في [هود: 72] .

    قالوا كذلك قال ربك أنك ستلدين غلاما; والمعنى: إنما نخبرك [ ص: 38 ] عن الله عز وجل وهو حكيم عليم يقدر أن يجعل العقيم ولودا فعلم [حينئذ] إبراهيم أنهم ملائكة .

    قال فما خطبكم مفسر في [الحجر: 57] .

    قوله تعالى: حجارة من طين قال ابن عباس: هو الآجر .

    قوله تعالى: مسومة عند ربك قد شرحناه في [هود: 83] . قوله تعالى للمسرفين قال ابن عباس: للمشركين .

    قوله تعالى: فأخرجنا من كان فيها أي: من قرى لوط (من المؤمنين) وذلك قوله تعالى: فأسر بأهلك الآية: [هود: 82] .

    فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وهو لوط وابنتاه، وصفهم الله عز وجل بالإيمان والإسلام، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم .

    وتركنا فيها آية أي: علامة للخائفين من عذاب الله تدلهم على أن الله أهلكهم . وقد شرحنا هذا في [ العنكبوت: 35 ] وبينا المكني عنها .

    وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [ ص: 39 ] قوله تعالى: وفي موسى أي: وفيه أيضا آية إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين أي: بحجة ظاهرة فتولى أي: أعرض (بركنه) قال مجاهد: بأصحابه . وقال أبو عبيدة: "بركنه" و"بجانبه" سواء، إنما هي ناحيته وقال ساحر أي: وقال لموسى: هذا ساحر أو مجنون وكان أبو عبيدة يقول: "أو" بمعنى الواو . فأما "اليم" فقد ذكرناه في [الأعراف: 136] و"مليم" في [الصافات: 142] .

    قوله تعالى: وفي عاد أي: في إهلاكهم آية أيضا إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، وإنما هي للإهلاك . وقال سعيد بن المسيب: هي الجنوب .

    ما تذر من شيء أتت عليه أي: من أنفسهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم أي: كالشيء الهالك البالي . قال الفراء: الرميم: نبات الأرض إذا يبس وديس . وقال الزجاج: الرميم: الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم .

    وفي ثمود آية أيضا إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فيه قولان .

    أحدهما: أنه قيل لهم: تمتعوا في الدنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهددا لهم .

    والثاني: أن صالحا قال لهم بعد عقر الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام; فكان الحين وقت فناء آجالهم، فعتوا عن أمر ربهم قال مقاتل: عصوا أمره فأخذتهم الصاعقة يعني: العذاب، وهو الموت من صيحة جبريل .

    [ ص: 40 ] وقرأ الكسائي وحده: "الصعقة" [بسكون العين من غير ألف]; وهي الصوت الذي يكون عن الصاعقة .

    قوله تعالى: وهم ينظرون فيه قولان .

    أحدهما: يرون ذلك عيانا . والثاني: وهم ينتظرون العذاب، فأتاهم صيحة يوم السبت .

    قوله تعالى: فما استطاعوا من قيام فيه قولان .

    أحدهما: ما استطاعوا نهوضا من تلك الصرعة .

    والثاني: ما أطاقوا ثبوتا لعذاب الله وما كانوا منتصرين أي: ممتنعين من العذاب . قوله تعالى: وقوم نوح من قبل قرأ أبو عمرو إلا عبد الوارث، وحمزة، والكسائي: بخفض الميم، وروى عبد الوارث، رفع الميم، والباقون بنصبها . قال الزجاج: من خفض القوم فالمعنى: وفي قوم نوح آية، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: فأخذتهم الصاعقة فإن معناه: أهلكناهم، فيكون المعنى: وأهلكنا قوم نوح، والأحسن - والله أعلم - أن يكون محمولا على قوله: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقنا قوم نوح .

    والسماء بنيناها المعنى: وبنينا السماء بنيناها (بأيد) أي: بقوة، وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين: "بأيد" أي: بقوة .

    وفي قوله: وإنا لموسعون خمسة أقوال .

    [ ص: 41 ] أحدها: لموسعون الرزق بالمطر، قاله الحسن . والثاني لموسعون السماء، قاله ابن زيد . والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة . والرابع: لموسعون ما بين السماء والأرض، قاله الزجاج . والخامس: لذو سعة لا يضيق عما يريد حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: والأرض فرشناها فنعم الماهدون قال الزجاج: هذا عطف على ما قبله منصوب بفعل مضمر محذوف يدل عليه قوله: "فرشناها"، فالمعنى فرشنا الأرض فرشناها "فنعم الماهدون" أي: فنعم الماهدون نحن . قال مقاتل: "فرشناها" أي: بسطناها مسيرة خمسمائة عام، وهذا بعيد، وقد قال قتادة: الأرض عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم .

    قوله تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين أي: صنفين ونوعين كالذكر والأنثى، والبر والبحر والليل والنهار، والحلو والمر، والنور والظلمة، وأشباه ذلك لعلكم تذكرون فتعلموا أن خالق الأزواج واحد .

    ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم; والمعنى: اهربوا مما يوجب العقاب من الكفر والعصيان إلى ما يوجب الثواب من الطاعة والإيمان .

    كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون [ ص: 42 ] قوله تعالى: كذلك أي: كما كذبك قومك وقالوا: ساحر أو مجنون، كانوا من قبلك يقولون للأنبياء .

    قوله تعالى: أتواصوا به أي: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب؟! وهذا استفهام توبيخ . وقال أبو عبيدة: أتواطؤوا عليه فأخذه بعضهم من بعض؟!

    قوله تعالى: بل هم قوم طاغون أي: يحملهم الطغيان فيما أعطوا من الدنيا على التكذيب; والمشار إليهم أهل مكة .

    فتول عنهم فقد بلغتهم فما أنت عليهم "بملوم" لأنك قد أديت الرسالة . ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة، ولهم في ناسخها قولان .

    أحدهما: أنه قوله: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين والثاني: آية السيف . وفي قوله: "وذكر" قولان . أحدهما: عظ، قاله مقاتل . والثاني: ذكرهم بأيام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أثبت الياء في "يعبدون" و"يطعمون" و"لا يستعجلون" في الحالين يعقوب . واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال .

    أحدها: إلا لآمرهم أن يعبدوني، قاله علي بن أبي طالب، واختاره الزجاج .

    والثاني: إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها، قاله ابن عباس; وبيان هذا قوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [الزخرف: 87] .

    والثالث: أنه خاص في حق المؤمنين . قال سعيد بن المسيب: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني . وقال الضحاك، والفراء، وابن قتيبة: هذا خاص لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب وإن كانوا [ ص: 43 ] من الإنس، فكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [الأعراف: 179]، فمن خلق للشقاء ولجهنم، لم يخلق للعبادة .

    والرابع: إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا . ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد . وكل الخلق خاضع ذليل لقضاء الله عز وجل لا يملك خروجا عما قضاه الله عز وجل، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني .

    قوله تعالى: ما أريد منهم من رزق أي: ما أريد أن يرزقوا أنفسهم وما أريد أن يطعمون أي: أن يطعموا أحدا من خلقي، لأني أنا الرزاق . وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيال الله، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه . وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني"، أي: لم تطعم عبدي .

    فأما "الرزاق" فقرأ الضحاك، وابن محيصن: "الرازق" بوزن "العالم" .

    قال الخطابي: هو المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها [ ص: 44 ] من قوتها . و المتين الشديد القوة الذي لا تنقطع قوته ولا يلحقه في أفعاله مشقة . وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: "المتين" بكسر النون وكذا قرأ أبو رزين وقتادة، وأبو العالية، والأعمش، قال الزجاج: ذو القوة المتين أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع "المتين" فهو صفة الله عز وجل، ومن خفضه جعله صفة للقوة، لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة، فهو كقوله: فمن جاءه موعظة من ربه [البقرة: 275] .

    قوله تعالى: فإن للذين ظلموا يعني مشركي مكة (ذنوبا) أي: نصيبا من العذاب مثل ذنوب أصحابهم الذين أهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود . قال الفراء: الذنوب في كلام العرب: الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النصيب والحظ، قال الشاعر:


    لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب


    والذنوب يذكر ويؤنث . وقال ابن قتيبة، أصل الذنوب: الدلو العظيمة، وكانوا يستقون، فيكون لكل واحد ذنوب، فجعل "الذنوب" مكان "الحظ والنصيب" .

    قوله تعالى: فلا يستعجلون أي: بالعذاب إن أخروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر .

    سُورَةُ الطُّورِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون

    قوله تعالى والطور هذا قسم بالجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام، وهو بأرض مدين [واسمه زبير] .

    وكتاب مسطور أي: مكتوب، وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه اللوح المحفوظ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #505
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
    الحلقة (505)
    صــ 46 إلى صــ 60






    والثاني: كتب أعمال بني آدم، قاله مقاتل، والزجاج .

    والثالث: التوراة .

    والرابع: "القرآن" حكاهما الماوردي .

    قوله تعالى في رق قال أبو عبيدة: الرق: الورق . فأما المنشور فهو المبسوط .

    قوله تعالى: والبيت المعمور فيه قولان .

    أحدهما: أنه بيت في السماء . وفي أي سماء هو؟ [فيه] ثلاثة أقوال .

    أحدها: [أنه] في السماء السابعة، رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحديث مالك بن صعصعة الذي أخرج في "الصحيحين" يدل عليه .

    والثاني: أنه في السماء السادسة، قاله علي رضي الله عنه .

    [ ص: 47 ] والثالث: أنه في السماء الدنيا، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس: هو حيال الكعبة يحجه كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى "الضراح" . وقال الربيع بن أنس: كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم، فلما كان زمن نوح أمر الناس بحجه، فعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذاء البيت في السماء الدنيا .

    والثاني: أنه البيت الحرام، قاله الحسن . وقال أبو عبيدة: ومعنى "المعمور": الكثير الغاشية .

    قوله تعالى: والسقف المرفوع فيه قولان .

    أحدهما: أنه السماء، قاله علي رضي الله عنه والجمهور .

    والثاني: العرش، قاله الربيع .

    قوله تعالى: والبحر فيه قولان .

    أحدهما: أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم، قاله علي رضي الله عنه .

    والثاني: أنه بحر الأرض، ذكره الماوردي .

    وفي "المسجور" أربعة أقوال .

    أحدها: المملوء، قاله الحسن، وأبو صالح، وابن السائب، وجميع اللغويين .

    [ ص: 48 ] والثاني: أنه الموقد، قاله مجاهد، وابن زيد . وقال شمر بن عطية: هو بمنزلة التنور المسجور .

    والثالث: أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، قاله أبو العالية . وروي عن الحسن قال: تسجر، يعني البحار، حتى يذهب ماؤها، فلا يبقى فيها قطرة . وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد . وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلها نارا، فتزاد في نار جهنم .

    والرابع: أن "المسجور" المختلط عذبه بملحه، قاله الربيع بن أنس .

    فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، فقال: إن عذاب ربك لواقع أي: لكائن في الآخرة .

    ثم بين متى يقع، فقال: يوم تمور السماء مورا وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: تدور دورا، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج .

    والثاني: تحرك تحركا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة . وقال أبو عبيدة "تمور" أي: تكفأ وقال الأعشى:


    كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل


    والثالث: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى، قاله الضحاك . وما بعد هذا قد سبق بيانه [النمل: 88] إلى قوله: الذين هم في خوض يلعبون [ ص: 49 ] أي: يخوضون في حديث محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء، ويلهون بذكره، فالويل لهم .

    و يوم يدعون قال ابن قتيبة: أي: يدفعون، يقال: دععته أدعه، أي: دفعته، ومنه قوله يدع اليتيم [الماعون: 2] . قال ابن عباس: يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار . وقال مقاتل: تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم على وجوههم، حتى إذا دنوا منها قالت لهم خزنتها: هذه النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا أفسحر هذا العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرسل سحرة أم أنتم لا تبصرون النار؟ فلما ألقوا فيها قال لهم خزنتها: اصلوها . وقال غيره: لما نسبوا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطي على الأبصار بالسحر، وبخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ، وقيل: اصلوها أي: قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا سواء عليكم الصبر والجزع إنما تجزون جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب .

    إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين .

    ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا، وقوله: فاكهين قرئت بألف، وبغير ألف، وقد شرحناها في [يس: 55]، ووقاهم أي: صرف عنهم والجحيم مذكور في [البقرة: 119] .

    كلوا أي: يقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا تأمنون حدوث المرض [ ص: 50 ] عنه . قال الزجاج: المعنى: ليهنكم ما صرتم إليه، وقد شرحنا هذا في سورة [ النساء: 4 ] . ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم، فقال: متكئين على سرر وقال ابن جرير: فيه محذوف تقديره: على نمارق على سرر، وهي جمع سرير . مصفوفة قد وضع بعضها إلى جنب بعض . وباقي الآية مفسر في سورة [الدخان: 54] .

    والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم

    قوله تعالى: " وأتبعناهم ذرياتهم " قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: "واتبعتهم" بالتاء "ذريتهم" واحدة بهم ذريتهم واحدة أيضا . وقرأ نافع: "واتبعتهم ذريتهم" واحدة "بهم ذرياتهم" جمعا . وقرأ ابن عامر: "وأتبعناهم ذرياتهم" "بهم ذرياتهم" جمعا في الموضعين . واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن معناها: واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم [ذرياتهم] من المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا أعمال آبائهم، تكرمة من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    [ ص: 51 ] والثاني: واتبعتهم ذريتهم بإيمان، أي: بلغت أن آمنت، ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان . وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك . ومعنى هذا القول، أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء، [لأن الولد يحكم له بالإسلام تبعا لولده .

    والثالث: "وأتبعناهم ذرياتهم" بإيمان الآباء] فأدخلناهم الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

    قوله تعالى: وما ألتناهم قرأ نافع: وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: "وما ألتناهم" بالهمزة وفتح اللام . وقرأ ابن كثير: "وما ألتناهم" بكسر اللام . وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه "وما لتناهم" بإسقاط الهمزة مع كسر اللام . وقرأ أبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بإسقاط الهمزة مع فتح اللام . وقرأ ابن السميفع "وما آلتناهم" بمد الهمزة وفتحها . وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: "وما ولتناهم" بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام . وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل : "وما ألتهم" مثل جعلتهم . وقد ذكرنا هذه الكلمة في [ الحجرات: 140] والمعنى: ما نقصنا الآباء بما أعطينا الذرية .

    كل امرئ بما كسب رهين أي: مرتهن بعمله لا يؤاخذ أحد بذنب أحد . وقيل: هذا الكلام يختص بصفة أهل النار، وذلك الكلام قد تم .

    قوله تعالى: وأمددناهم قال ابن عباس هي الزيادة على الذي كان لهم .

    [ ص: 52 ] قوله تعالى: يتنازعون قال أبو عبيدة: أي: يتعاطون ويتداولون، وأنشد الأخطل:


    نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري


    قال الزجاج: يتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا . فأما الكأس فقد شرحناها في [الصافات: 45] .

    قوله تعالى: لا لغو فيها ولا تأثيم قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: "لا لغو فيها ولا تأثيم" نصبا وقرأ الباقون: "لا لغو فيها ولا تأثيم" رفعا منونا . قال ابن قتيبة: أي: لا تذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا فيأثموا، كما يكون ذلك في خمر الدنيا . وقال غيره: التأثيم: تفعيل من الإثم، يقال: آثمه: إذا جعله ذا إثم . والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين .

    ويطوف عليهم للخدمة غلمان لهم كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مكنون أي: مصون لم تمسه الأيدي . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا نبي الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: "إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" .

    وقوله تعالى" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال ابن عباس: [ ص: 53 ] يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب، وهو قوله: قالوا إنا كنا قبل في أهلنا أي: في دار الدنيا مشفقين أي: خائفين من العذاب، فمن الله علينا بالمغفرة ووقانا عذاب السموم أي: عذاب النار . وقال الحسن: السموم من أسماء جهنم .

    وقال غيره: سموم: جهنم . وهو ما يوجد من نفحها وحرها، إنا كنا من قبل ندعوه أي: نوحده ونخلص له إنه هو البر وقرأ نافع، والكسائي: "أنه" بفتح الهمزة . وفي معنى "البر" ثلاثة أقوال:

    أحدها: الصادق فيما وعد، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: اللطيف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم ببره جميع خلقه، قاله أبو سليمان الخطابي .

    فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين

    قوله تعالى: فذكر أي: فعظ بالقرآن فما أنت بنعمت ربك أي: بإنعامه عليك بالنبوة "بكاهن" وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر عما في غد من غير وحي . والمعنى: إنما تنطق بالوحي لا كما يقول [فيك] كفار مكة .

    أم يقولون شاعر أى: هو شاعر . وقال أبو عبيدة: "أم" بمعنى "بل"، قال الأخطل: [ ص: 54 ]


    كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا


    لم يستفهم، إنما أوجب أنه رأى .

    قوله تعالى: نتربص به ريب المنون فيه قولان:

    أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس .

    والثاني: حوادث الدهر، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، و"المنون" الدهر، قال أبو ذؤيب:


    أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع


    هكذا أنشدناه أصحاب الأصمعي عنه، وكان يذهب إلى أن المنون الدهر، قال: وقوله "والدهر ليس بمعتب" يدل على ذلك، كأنه قال: أمن الدهر وريبه تتوجع؟! قال الكسائي: العرب تقول: لا أكلمك آخر المنون، أي: آخر الدهر .

    قوله تعالى: قل تربصوا أي: انتظروا بي ذلك فإني معكم من المتربصين أي: من المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف . وبعض المفسرين يقول: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، إذ لا تضاد بين الآيتين .

    قوله تعالى: أم تأمرهم أحلامهم بهذا قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام، وهي العقول، فأزرى الله بحلومهم، إذ لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل . وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا [ ص: 55 ] وقد وصفهم الله تعالى بالعقول؟! فقال: تلك عقول كادها بارئها، أي: لم يصحبها التوفيق .

    وفي قوله: "أم تأمرهم" وقوله: أم هم قولان .

    أحدهما: أنهما بمعنى "بل"، قاله أبو عبيدة .

    والثاني: بمعنى ألف الاستفهام، قاله الزجاج; قال: والمعنى: أتأمرهم أحلامهم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدلائل، أم يكفرون طغيانا وقد ظهر لهم الحق؟! وقال ابن قتيبة: المعنى: أم تدلهم عقولهم على هذا؟ لأن الحلم يكون بالعقل، فكنى عنه به .

    قوله تعالى: أم يقولون تقوله أي: افتعل القرآن من تلقاء نفسه؟ والتقول: تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب "بل" أي: ليس الأمر كما زعموا لا يؤمنون بالقرآن، استكبارا .

    فليأتوا بحديث مثله في نظمه وحسن بيانه . وقرأ أبو رجاء، وأبو نهيك، ومورق العجلي، وعاصم الجحدري: "بحديث مثله" بغير تنوين إن كانوا صادقين أن محمدا تقوله .

    أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون

    قوله تعالى: أم خلقوا من غير شيء فيه أربعة أقوال . [ ص: 56 ] أحدها: أم خلقوا من غير رب خالق؟

    والثاني: أم خلقوا من غير آباء ولا أمهات، فهم كالجماد لا يعقلون؟

    والثالث: أم خلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشد خلقا من السماوات والأرض، لأنها خلقت من غير شيء وهم خلقوا من آدم وآدم من تراب .

    والرابع: أم خلقوا لغير شيء؟ فتكون "من" بمعنى اللام . والمعنى: ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون ولا ينهون .

    قوله تعالى: أم هم الخالقون فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا ينهى .

    قوله: تعالى بل لا يوقنون بالحق، وهو توحيد الله وقدرته على البعث . قوله تعالى: أم عندهم خزائن ربك فيه ثلاثة أقوال . أحدها: المطر والرزق، قاله ابن عباس . والثاني: النبوة، قاله عكرمة . والثالث: علم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي .

    وقال الزجاج: المعنى: أعندهم ما في خزائن ربك من العلم، وقيل: من الرزق، فهم معرضون عن ربهم لاستغنائهم؟!

    قوله تعالى: أم هم المصيطرون قرأ ابن كثير: "المسيطرون" بالسين . وقال ابن عباس: المسلطون . قال أبو عبيدة: "المصيطرون": الأرباب . يقال: تسيطرت علي، أي: اتخذتني خولا، قال: ولم يأت في كلام العرب اسم على "مفيعل" إلا خمسة أسماء: مهيمن، ومجيمر، ومسيطر، ومبيطر، ومبيقر; فالمهيمن: الله الناظر المحصي الذي لا يفوته [ ص: 57 ] شيء; ومجيمر: جبل; والمسيطر: المسلط; ومبيطر: بيطار; والمبيقر: الذي يخرج من أرض إلى أرض، يقال: بيقر: إذا خرج من بلد إلى بلد . قال امرؤ القيس:


    ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا؟


    قال الزجاج: المسيطرون: الأرباب المسلطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تقلب صادا، تقول سطر وصطر، وسطا علينا وصطا . قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟!

    قوله تعالى: أم لهم سلم أي: مرقى ومصعد إلى السماء يستمعون فيه أي: عليه الوحي، كقوله: في جذوع النخل [طه: 71] فالمعنى: يستمعون [الوحي] فيعلمون أن ما هم عليه حق فليأت مستمعهم إن ادعى ذلك بسلطان مبين أي، بحجة واضحة كما أتى محمد بحجة على قوله .

    أم له البنات ولكم البنون هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله البنات .

    أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أي: هل سألتهم أجرا على ما جئت به، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الإسلام؟ والمغرم بمعنى الغرم، وقد شرحناه في [براءة: 98] .

    قوله تعالى: أم عندهم الغيب هذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون والمعنى: أعندهم الغيب؟ وفيه قولان .

    أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس . قاله ابن عباس .

    [ ص: 58 ] والثاني: أعندهم علم الغيب فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون أي، يحكمون فيقولون: سنقهرك . والكتاب: الحكم; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سأقضي بينكما بكتاب الله" أي: بحكم الله عز وجل; وإلى هذا المعنى: ذهب ابن قتيبة .

    قوله تعالى: أم يريدون كيدا وهو ما كانوا عزموا عليه في دار الندوة; وقد شرحنا ذلك في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال: 30] ومعنى هم المكيدون هم المجزيون بكيدهم، لأن ضرر ذلك عاد عليهم فقتلوا ببدر وغيرها .

    أم لهم إله غير الله أي ألهم إله يرزقهم ويحفظهم غير الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة، لأنها لا تنفع ولا تدفع . ثم نزه نفسه عن شركهم بباقي الآية .

    وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون [ ص: 59 ] وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم

    ثم ذكر عنادهم فقال: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا والمعنى: لو سقط بعض السماء عليهم لما انتهوا عن كفرهم، ولقالوا: هذه قطعة من السحاب قد ركم بعضه على بعض .

    فذرهم أي: خل عنهم حتى يلاقوا قرأ أبو جعفر "يلقوا" بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف يومهم وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه يوم موتهم . والثاني: يوم القيامة . والثالث: يوم النفخة الأولى .

    قوله تعالى: يصعقون قرأ عاصم، وابن عامر: "يصعقون" برفع الياء، من أصعقهم غيرهم; والباقون بفتحها، من صعقوهم .

    وفي قوله يصعقون قولان .

    أحدهما: يموتون . والثاني: يغشى عليهم، كقوله: وخر موسى صعقا [الأعراف: 143]، وهذا يخرج على قول من قال: هو يوم القيامة، فإنهم يغشى عليهم من الأهوال . وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا يصح، لأن معنى الآية الوعيد .

    قوله تعالى: يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا هذا اليوم الأول; والمعنى: لا ينفعهم مكرهم ولا يدفع عنهم العذاب ولا هم ينصرون أي: يمنعون من العذاب .

    قوله تعالى: وإن للذين ظلموا أي: أشركوا عذابا دون ذلك أي، قبل ذلك اليوم; وفيه أربعة أقوال .

    [ ص: 60 ] أحدها: أنه عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس . والثاني: عذاب القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل . والثالث: مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد . والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: لا يعلمون ما هو نازل بهم .

    واصبر لحكم ربك أي: لما يحكم به عليك فإنك بأعيننا قال الزجاج: فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصلون إلى مكروهك . وذكر المفسرون: أن معنى الصبر نسخ بآية السيف، ولا يصح، لأنه لا تضاد .

    وسبح بحمد ربك حين تقوم فيه ستة أقوال .

    أحدها: صل لله حين تقوم من منامك، قاله ابن عباس .

    والثاني: قل: "سبحانك اللهم وبحمدك" حين تقوم من مجلسك، قاله عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين .

    والثالث: قل: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" حين تقوم في الصلاة، قاله الضحاك .

    والرابع: سبح الله إذا قمت من نومك، قاله حسان بن عطية .

    والخامس: صل صلاة الظهر إذا قمت من نوم القائلة، قاله زيد بن أسلم .

    والسادس: اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: ومن الليل فسبحه قال مقاتل: صل المغرب وصل العشاء وإدبار النجوم قرأ زيد عن يعقوب، وهارون عن أبي عمرو، والجعفي [ ص: 61 ] عن أبي بكر: "وأدبار النجوم" بفتح الهمزة; [وقرأ] الباقون بكسرها . وقد شرحناها في (ق: 40); والمعنى: صل له في إدبار النجوم، أي: حين تدبر، أي: تغيب بضوء الصبح . وفي هذه الصلاة قولان .

    أحدهما: أنها الركعتان قبل صلاة الفجر، رواه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور .

    والثاني: أنها صلاة الغداة، قاله الضحاك، وابن زيد .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #506
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ النجم
    الحلقة (506)
    صــ 61 إلى صــ 75



    سورة النجم

    وهي مكية بإجماعهم

    إلا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا آية منها، وهي "الذين يجتنبون كبائر الإثم" [النجم: 32]، وكذلك قال مقاتل; [قال]: وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

    قوله تعالى: والنجم إذا هوى هذا قسم . وفي المراد بالنجم خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الثريا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد . قال ابن قتيبة: والعرب تسمي الثريا - وهي ستة أنجم- نجما . وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي يمتحن به الناس أبصارهم .

    والثاني: الرجوم من النجوم ، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث: أنه القرآن نزل نجوما متفرقة، قاله عطاء عن ابن عباس .

    [ ص: 63 ] والأعمش عن مجاهد . وقال مجاهد: كان ينزل نجوما ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك .

    والرابع: نجوم السماء كلها، وهو مروي عن مجاهد أيضا . والخامس: أنها الزهرة: قاله السدي .

    فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون "هوى" بمعنى "غاب"; ومن قال: هو الرجوم، يكون هويها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن . يكون معنى "هوى": نزل، ومن قال: نجوم السماء كلها، ففيه قولان .

    أحدهما: أن هويها أن تغيب . والثاني: أن تنتثر يوم القيامة .

    قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آياتها . وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر . وقرأ حمزة والكسائي ذلك كله بالإمالة .

    قوله تعالى: ما ضل صاحبكم هذا جواب القسم; والمعنى: ما ضل عن طريق الهدى، والمراد به: رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وما ينطق عن الهوى أي: ما يتكلم بالباطل . وقال أبو عبيدة: "عن" بمعنى الباء . وذلك أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه .

    إن هو أي: ما القرآن إلا وحي من الله يوحى وهذا مما يحتج به من لا يجيز للنبي أن يجتهد، وليس كما ظنوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن ينسب إلى الوحي .

    علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة [ ص: 64 ] المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى

    قوله تعالى: علمه شديد القوى وهو جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم; قال ابن قتيبة: وأصل هذا من "قوى الحبل" وهي طاقاته، الواحدة: قوة ذو مرة أي: ذو قوة ، وأصل المرة: الفتل . قال المفسرون: وكان من قوته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .

    قوله تعالى: فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان .

    أحدهما: فاستوى جبريل، "وهو" يعني النبي صلى الله عليه وسلم; والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الفراء .

    [ ص: 65 ] والثاني: فاستوى جبريل، وهو- يعني جبريل- بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المشرق، فملأ الأفق; فيكون المعنى: فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجاج . قال مجاهد : والأفق الأعلى: هو مطلع الشمس . وقال غيره: إنما قيل له: "الأعلى" لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء .

    قوله تعالى: ثم دنا فتدلى قال الفراء: المعنى ثم تدلى فدنا، ولكنه جائز أن تقدم أي الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا، فتقول: قد دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر: 1] المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة . قال ابن قتيبة، المعنى: تدلى فدنا، لأنه تدلى للدنو، ودنا بالتدلي . وقال الزجاج: دنا بمعنى قرب، وتدلى: زاد في القرب، ومعنى اللفظتين واحد . وقال غيرهم: أصل التدلي: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب .

    وفي المشار إليه بقوله: "ثم دنا" ثلاثة أقوال .

    أحدها، أنه الله عز وجل . روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وروى أبو سلمة عن ابن عباس: "ثم دنا" [ ص: 66 ] قال: دنا ربه فتدلى، وهذا اختيار مقاتل . قال: دنا الرب من محمد ليلة أسري به، فكان منه قاب قوسين أو أدنى . وقد كشفت هذا الوجه في كتاب "المغني" وبينت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزه عن ذلك .

    والثاني: أنه محمد دنا من ربه، قاله ابن عباس، والقرظي .

    والثالث: أنه جبريل . ثم في الكلام قولان .

    أحدهما: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة . والثاني: دنا جبريل من ربه عز وجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، قاله مجاهد .

    قوله تعالى: فكان قاب قوسين أو أدنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: "فكان قاد قوسين" بالدال . وقال أبو عبيدة: القاب والقاد: القدر . وقال [ ص: 67 ] ابن فارس: القاب: القدر . ويقال: بل القاب: ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان . وقال ابن قتيبة: سية القوس: ما عطف من طرفيها .

    وفي المراد بالقوسين قولان .

    أحدهما: أنها القوس التي يرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قدر قوسين . وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوسا واحدا .

    والثاني: أن القوس: الذراع; فالمعنى: كان بينهما قدر ذراعين، حكاه ابن قتيبة، وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي . قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين .

    قوله تعالى: أو أدنى فيه قولان .

    أحدهما: أنها بمعنى "بل"، قاله مقاتل . والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم; والمعنى: كان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل، هذا اختيار الزجاج .

    قوله تعالى: فأوحى إلى عبده ما أوحى فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أوحى الله إلى محمد كفاحا بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج .

    والثاني: أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث: أوحى [الله] إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة . [ ص: 68 ] قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى قرأ أبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: " ما كذب" بتشديد الذال; وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن شدد أراد: ما أنكر فؤاده ما رأته عينه; ومن خفف أراد: ما أوهمه فؤاده أنه رأى، ولم ير، بل صدق الفؤاد رؤيته .

    وفي الذي رأى قولان .

    أحدهما: أنه رأى ربه عز وجل، قاله ابن عباس، [وأنس] والحسن، وعكرمة .

    والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة .

    قوله تعالى: "أفتمارونه" . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف، ويعقوب: "أفتمرونه" . قال ابن قتيبة: معنى "أفتمارونه" أفتجادلونه، من المراء، ومعنى " أفتمرونه ": أفتجحدونه .

    قوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى قال الزجاج: أي: رآه مرة أخرى . قال ابن عباس: رأى محمد ربه; وبيان هذا أنه تردد لأجل الصلوات مرارا، فرأى ربه في بعض تلك المرات مرة أخرى . قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين . وقد [ ص: 69 ] روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضا، رآه على صورته التي خلق عليها .

    فأما سدرة المنتهى، فالسدرة: شجرة النبق، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة" . وفي مكانها قولان .

    أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في "الصحيحين" من حديث مالك بن صعصعة . قال مقاتل: وهي عن يمين العرش .

    والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك . قال المفسرون: وإنما سميت سدرة المنتهى، لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، وإليها ينتهي علم جميع الملائكة .

    قوله تعالى: عندها وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو نهيك: "عنده" بهاء مرفوعة على ضمير مذكر جنة المأوى قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة . وقال مقاتل: هي جنة إليها تأوي أرواح الشهداء . وقرأ سعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء، وأبو العالية: "جنه المأوى" بهاء [ ص: 70 ] صحيحة مرفوعة . قال ثعلب: يريدون أجنه، وهي شاذة . وقيل: معنى "عندها": أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: إذ يغشى السدرة ما يغشى روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غشيها فراش من ذهب . وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما غشيها من أمر الله ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها . وقال الحسن، ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة . وقال الضحاك: [غشيها] نور رب العالمين .

    قوله تعالى: ما زاغ البصر أي: ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي: ما زاد ولا جاوز ما رأى; وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام .

    لقد رأى من آيات ربه الكبرى فيه قولان . أحدهما: [لقد] رأى من آيات ربه العظام . والثاني: لقد رأى من آيات ربه [الآية] الكبرى . [ ص: 71 ] وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، قاله ابن مسعود .

    والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد .

    والثالث: أنه رأى من أعلام ربه وأدلته [الأعلام والأدلة] الكبرى، قاله ابن جرير .

    أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى

    قال الزجاج: فلما قص الله تعالى هذه الأقاصيص قال: أفرأيتم اللات والعزى المعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء؟!

    فأما "اللات" فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتخذوه من دون الله، وكانوا يشتقون لأصنامهم من أسماء الله تعالى، فقالوا من "الله": اللات، ومن "العزيز": العزى . قال أبو سليمان الخطابي: كان [ ص: 72 ] المشركون يتعاطون "الله" اسما لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللات صيانة لهذا الاسم وذبا عنه . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وابن السميفع، ومجاهد، وابن يعمر، والأعمش، وورش عن يعقوب: "اللات" بتشديد التاء; ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلا كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه . وقال الزجاج: زعموا أن رجلا كان يلت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمي الصنم: اللات . وكان الكسائي يقف عليه بالهاء، فيقول: "اللاه"; وهذا قياس، والأجود الوقوف بالتاء، لاتباع المصحف .

    وأما "العزى" ففيها قولان .

    أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد .

    والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك . قال: وأما "مناة" فهو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة . وقال قتادة: بل كانت للأنصار . وقال أبو عبيدة: كانت اللات والعزى ومناة أصناما من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها . وقرأ ابن كثير: "ومناءة" ممدودة مهموزة .

    فأما قوله: (الثالثة) فإنه نعت لـ "مناة"، هي ثالثة الصنمين في الذكر، "والأخرى" نعت لها . قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأخرى، وإنما الأخرى نعت للثانية; فيكون في المعنى وجهان .

    أحدهما: أن ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله مآرب أخرى [طه: 18] ولم يقل، أخر، قاله الخليل .

    [ ص: 73 ] والثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل .

    قوله تعالى: ألكم الذكر قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة: بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره، فقال الله تعالى منكرا عليهم: ألكم الذكر وله الأنثى ؟! يعني الأصنام وهي [إناث] في أسمائها .

    تلك إذا قسمة ضيزى قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ["ضيزى"] بكسر الضاد من غير همز; وافقهم ابن كثير [في] كسر الضاد، لكنه همز . وقرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ: "ضيزى" بفتح الضاد من غير همز . قال الزجاج: الضيزى في كلام العرب: الناقصة الجائرة، يقال: ضازه يضيزه: إذا نقصه حقه، ويقال: ضأزه يضأزه بالهمز . وأجمع النحويون أن أصل ضيزى: ضوزى، وحجتهم أنها نقلت من "فعلى" من ضوزى إلى ضيزى، لتسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبيض، وأصله: بوض، فنقلت الضمة إلى الكسرة . وقرأت على بعض العلماء باللغة: في "ضيزى" لغات; يقال: ضيزى، وضوزى، وضؤزى، وضأزى على "فعلى" مفتوحة، ولا يجوز في القرآن إلا "ضيزى" بياء غير مهموزة; وإنما لم يقل النحويون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام "فعلى" صفة، إنما يعرفون الصفات على "فعلى" بالفتح، نحو سكرى وغضبى، أو بالضم، نحو حبلى وفضلى .

    قوله تعالى: إن هي يعني الأوثان إلا أسماء والمعنى: إن هذه الأوثان [ ص: 74 ] التي سموها بهذه الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات ألقيت على جمادات، ما أنزل الله بها من سلطان أي: لم ينزل كتابا فيه حجة بما يقولون: إنها آلهة . ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال: إن يتبعون في أنها آلهة، إلا الظن وما تهوى الأنفس وهو ما زين لهم الشيطان، ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان .

    ثم أنكر عليهم تمنيهم شفاعتها فقال: أم للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام فلله الآخرة والأولى أي لا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه . ثم أكد هذا بقوله: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع إلا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة لمن يشاء ويرضى والمعنى أنهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنهم .

    إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى

    قوله تعالى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي: بالبعث ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وذلك حين زعموا أنها بنات الله، وما لهم بذلك، من علم أي: ما يستيقنون أنها إناث إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا أي: لا يقوم مقام العلم; فالحق ها هنا بمعنى العلم .

    [ ص: 75 ] فأعرض عن من تولى عن ذكرنا يعني القرآن; وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى ذلك مبلغهم من العلم قال الزجاج: إنما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة .

    قوله تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله . . . الآية; والمعنى أنه عالم بالفريقين فيجازيهم .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #507
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ النجم
    الحلقة (507)
    صــ 76 إلى صــ 90






    ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى

    قوله تعالى ولله ما في السماوات وما في الأرض هذا إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: ليجزي الذين أساءوا لأن اللام في "ليجزي" متعلقة بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهما، جازى كلا بما يستحقه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك، فلذلك أخبر به في قوله: ولله ما في السماوات وما في الأرض قال المفسرون: "وأساؤوا" بمعنى أشركوا، "وأحسنوا" بمعنى وحدوا . والحسنى: الجنة . والكبائر مذكورة في سورة (النساء: 31) وقيل: كبائر الإثم: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش: كل ذنب فيه الحد . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف: "يجتنبون كبير الإثم" ، واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء . وفي المراد به ها هنا ستة أقوال .

    [ ص: 76 ] أحدها: ما ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يغفر في الإسلام، قاله زيد بن ثابت .

    والثاني: أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي .

    والثالث: أنه صغار الذنوب، كالنظرة والقبلة وما كان دون الزنا، قاله ابن مسعود، وأبو هريرة، والشعبي، ومسروق، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تشتهي وتتمنى، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج، فإن تقدم بفرجه كان الزنا، وإلا فهو اللمم .

    والرابع: أنه ما يهم به الإنسان، قاله محمد بن الحنفية .

    والخامس: أنه ألم بالقلب، أي: خطر، قاله سعيد بن المسيب .

    والسادس: أنه النظر من غير تعمد، قاله الحسين بن الفضل . فعلى القولين [الأولين] يكون الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس .

    قوله تعالى: إن ربك واسع المغفرة قال ابن عباس: لمن فعل ذلك ثم تاب . وها هنا تم الكلام . ثم قال: هو أعلم بكم يعني قبل خلقكم إذ أنشأكم من الأرض يعني آدم عليه السلام وإذ أنتم أجنة جمع جنين; والمعنى أنه علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون؟، فلا تزكوا أنفسكم أي: لا تشهدوا لها أنها زكية بريئة من المعاصي . وقيل: لا تمدحوها بحسن أعمالها . وفي سبب نزول هذه الآية قولان .

    [ ص: 77 ] أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبي، قالوا: صديق، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها .

    والثاني: أن ناسا من المسلمين قالوا: قد صلينا وصمنا وفعلنا، يزكون أنفسهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: هو أعلم بمن اتقى فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله علي رضي الله عنه .

    والثاني: أخلص العمل لله، قاله الحسن . والثالث: اتقى الشرك فآمن، قاله الثعلبي .

    أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى

    قوله تعالى: أفرأيت الذي تولى اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيره بعض المشركين، وقال: تركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عز وجل ففعل، فأعطاه بعض الذي ضمن له، ثم بخل ومنعه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد .

    [ ص: 78 ] والثاني: أنه النضر بن الحارث أعطى بعض الفقراء المسلمين خمس قلائص حتى ارتد عن إسلامه، وضمن له أن يحمل عنه إثمه، قاله الضحاك .

    والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي .

    والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان ربما وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، قاله السدي .

    ومعنى "تولى": أعرض عن الإيمان . وأعطى قليلا فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أطاع قليلا ثم عصى . قاله ابن عباس . والثاني: أعطى قليلا من نفسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد . والثالث: أعطى قليلا من ماله ثم منع، قاله الضحاك . والرابع: أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل . قال ابن قتيبة: ومعنى "أكدى": قطع، وهو من كدية الركية، وهي الصلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها، فقطع الحفر، فقيل لكل من طلب شيئا فلم يبلغ آخره، أو أعطى ولم يتم: أكدى .

    قوله تعالى: أعنده علم الغيب فهو يرى فيه قولان .

    أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء . والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: أم لم ينبأ بما في صحف موسى يعني التوراة، "وإبراهيم" أي: وصحف إبراهيم . وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل [ ص: 79 ] على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف .

    قوله تعالى: الذي وفى قرأ سعيد بن جبير ، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني "وفى" بتخفيف الفاء . قال الزجاج: قوله: "وفى" أبلغ من "وفى" لأن الذي امتحن به من أعظم المحن . وللمفسرين في الذي وفى عشرة أقوال .

    أحدها: أنه وفى عمل يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: أنه وفى في كلمات كان يقولها . روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله [الذي وفى]؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . . . " [الروم: 17] وختم الآية .

    [ ص: 80 ] والثالث: أنه وفى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي .

    والرابع: أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس .

    والخامس: أنه وفى ما أمر به من تبليغ الرسالة، روي عن ابن عباس أيضا .

    والسادس: أنه عمل بما أمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفى ما فرض عليه .

    والسابع: أنه وفى بتبليغ هذه الآيات، وهي: "ألا تزر وازرة وزر أخرى" وما بعدها، وهذا مروي عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي .

    والثامن: وفى شأن المناسك، قاله الضحاك .

    والتاسع: أنه عاهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا، فلما قذف في النار قال له جبريل، ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فوفى بما عاهد، ذكره عطاء بن السائب .

    والعاشر: أنه أدى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة .

    ثم بين ما في صحفهما فقال: ألا تزر وازرة وزر أخرى أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى; والمعنى: لا تؤخذ بإثم غيرها .

    وأن ليس للإنسان إلا ما سعى قال الزجاج: هذا في صحفهما أيضا . ومعناه: ليس للإنسان إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرا جزي عليه خيرا، وإن عمل شرا جزي شرا . واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال .

    [ ص: 81 ] أحدها: أنها منسوخة بقوله: ( وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان) [الطور: 21] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تنسخ .

    والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم، قاله عكرمة واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: إن أبي مات ولم يحج، فقال: "حجي عنه" .

    والثالث: أن المراد بالإنسان ها هنا: الكافر، فأما المؤمن، فله ما سعى وما سعي له، قاله الربيع بن أنس .

    والرابع: أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل، فجائز أن يزيده الله عز وجل ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل .

    والخامس: أن معنى "ما سعى": ما نوى، قاله أبو بكر الوراق .

    والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي .

    والسابع: أن اللام بمعنى "على" فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى .

    والثامن: أنه ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خدمة الدين [ ص: 82 ] والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني .

    قوله تعالى: وأن سعيه سوف يرى فيه قولان .

    أحدهما: سوف يعلم، قاله ابن قتيبة .

    والثاني: سوف يرى العبد سعيه يوم القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج .

    قوله تعالى يجزاه الهاء عائدة على السعي الجزاء الأوفى أي: الأكمل الأتم .

    وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى

    وأن إلى ربك المنتهى أي: منتهى العباد ومرجعهم . قال الزجاج: هذا كله في صحف إبراهيم وموسى .

    قوله تعالى: وأنه هو أضحك وأبكى قالت عائشة: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فرجع إليهم، فقال: [ ص: 83 ] ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل، فقال ائت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول وأنه هو أضحك وأبكى وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبكاء . وقال مجاهد: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار . وقال الضحاك . أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر .

    قوله تعالى وأنه هو أمات في الدنيا وأحيا للبعث .

    وأنه خلق الزوجين أي: الصنفين الذكر والأنثى من جميع الحيوانات، من نطفة إذا تمنى فيه قولان .

    أحدهما: إذا تراق في الرحم، قاله ابن السائب .

    والثاني: إذا تخلق وتقدر . وأن عليه النشأة الأخرى وهي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة .

    وأنه هو أغنى فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس . والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك . والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح . والرابع: بالقناعة، قاله سفيان .

    وفي قوله: ( أقنى ) ثلاثة أقوال:

    أحدها: أرضى بما أعطى، قاله ابن عباس .

    والثاني: أخدم، قاله الحسن، وقتادة . وعن مجاهد كالقولين .

    والثالث: جعل للإنسان قنية، وهو أصل مال، قاله أبو عبيدة .

    [ ص: 84 ] قوله تعالى: وأنه هو رب الشعرى قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء، وكان ناس من العرب يعبدونها .

    قوله تعالى: وأنه أهلك عادا الأولى قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "عادا الأولى" منونة . وقرأ نافع، وأبو عمرو: "عادا لولى" موصولة مدغمة . ثم فيهم قولان .

    أحدهما: أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى، هذا قول الجمهور .

    والثاني: أن قوم هود هم عاد الأخرى، وهم من أولاد عاد الأولى، قاله كعب الأحبار . وقال الزجاج: وفي "الأولى" لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة، ومنالعرب من يقول: لولى، يريد: الأولى، فتطرح الهمزة لتحرك اللام .

    قوله تعالى: وقوم نوح من قبل أي: من قبل عاد وثمود إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم، لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم .

    والمؤتفكة قرى قوم لوط أهوى [أي]: أسقط، وكان الذي تولى ذلك جبريل بعد أن رفعها، وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله: فغشاها أي: ألبسها ما غشى يعني الحجارة فبأي آلاء ربك تتمارى هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله ما فعله مما يدل على وحدانيته قال: فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاء ربك تكذب يا وليد، يعني [الوليد] بن المغيرة .

    [ ص: 85 ] هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا

    قوله تعالى: هذا نذير فيه قولان .

    أحدهما: أنه القرآن، نذير بما أنذرت الكتب المتقدمة، قاله قتادة .

    والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذير بما أنذرت به الأنبياء، قاله ابن جريج .

    قوله تعالى أزفت الآزفة أي: دنت القيامة، ليس لها من دون الله كاشفة فيه قولان .

    أحدهما: إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد ولم يردها، قاله عطاء، وقتادة، والضحاك .

    والثاني: ليس لعلمها كاشف دون الله، أي: لا يعلم علمها إلا الله، قاله الفراء، قال: وتأنيث "كاشفة" كقوله: "هل ترى لهم من باقية" [الحاقة: 8]، يريد: من بقاء; والعافية والباقية والناهية كله في معنى المصدر . وقال غيره: تأنيث "كاشفة" على تقدير: نفس كاشفة .

    قوله تعالى: أفمن هذا الحديث قال مقاتل: يعني القرآن تعجبون تكذيبا به، وتضحكون استهزاء ولا تبكون مما فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة، وأنتم سامدون فيه خمسة أقوال . [ ص: 86 ] أحدها: لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفراء والزجاج . قال أبو عبيدة: يقال: دع عنك سمودك، أي: لهوك .

    والثاني: معرضون، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه الغناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسمد لنا، أي: تغن لنا، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عكرمة: هو الغناء بالحميرية .

    والرابع: غافلون، قاله قتادة .

    والخامس: أشرون بطرون، قاله الضحاك .

    قوله تعالى فاسجدوا لله فيه قولان .

    أحدهما: أنه سجود التلاوة، قاله ابن مسعود .

    والثاني: سجود الفرض في الصلاة .

    قال مقاتل: يعني بقوله: "فاسجدوا": الصلوات الخمس .

    وفي قوله: واعبدوا قولان .

    أحدهما: أنه التوحيد . والثاني: العبادة .

    سُورَةُ الْقَمَرِ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر

    وهي مكية بإجماعهم، وقال مقاتل: مكية غير آية سيهزم الجمع [القمر: 45]، وحكي عنه أنه قال: إلا ثلاث آيات، أولها: أم يقولون نحن جميع منتصر إلى قوله: وأمر [القمر: 4446]، قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فعلت تؤمنون؟" قالوا: نعم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: "يا فلان يا فلان اشهدوا"، وذلك بمكة قبل الهجرة . وقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 88 ] "اشهدوا" . وقد روى حديث الانشقاق جماعة، منهم عبد الله بن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعلى هذا جميع المفسرين، إلا أن قوما شذوا فقالوا: سينشق يوم القيامة . وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: وانشق لفظ ماض، وحمل لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجودا . وفي قوله: "وإن يروا آية يعرضوا" دليل على أنه قد كان ذلك . ومعنى اقتربت : دنت; والساعة القيامة . وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشق القمر واقتربت الساعة . وقال مجاهد: انشق القمر فصار فرقتين، فثبتت فرقة، وذهبت فرقة وراء الجبل . وقال ابن زيد: لما انشق القمر كان يرى نصفه على قعيقعان، والنصف الآخر على أبي قبيس- قال ابن مسعود: لما انشق القمر قالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فاسألوا السفار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله عز وجل: "اقتربت الساعة وانشق القمر" .

    [ ص: 89 ] قوله تعالى: وإن يروا آية أي: آية تدلهم على صدق الرسول، والمراد بها ها هنا: انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق ويقولوا سحر مستمر فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ذاهب، من قولهم: مر الشيء واستمر: إذا ذهب، قاله مجاهد، وقتادة، والكسائي، والفراء; فعلى هذا يكون المعنى: هذا سحر، والسحر يذهب ولا يثبت .

    والثاني: شديد قوي، قاله أبو العالية، والضحاك، وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المرة، والمرة: الفتل . والثالث: دائم، حكاه الزجاج .

    قوله تعالى: وكذبوا يعني كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله تعالى واتبعوا أهواءهم ما زين لهم الشيطان وكل أمر مستقر فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن كل أمر مستقر بأهله، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، قاله قتادة .

    والثاني: لكل حديث منتهى وحقيقة، قاله مقاتل .

    والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقر، وقرار تصديق المصدقين مستقر حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء .

    قوله تعالى: ولقد جاءهم يعني أهل مكة من الأنباء أي: من أخبار الأمم المكذبة في القرآن ما فيه مزدجر قال ابن قتيبة: أي: متعظ ومنتهى .

    قوله تعالى: حكمة بالغة قال الزجاج: هي مرفوعة لأنها بدل من [ ص: 90 ] "ما" فالمعنى: ولقد جاءهم حكمة بالغة [وإن شئت رفعتها بإضمار هو حكمة بالغة] . و"ما" في قوله فما تغن النذر جائز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أي شيء تغني النذر؟! وجائز أن يكون نفيا، على معنى، فليست تغني النذر . قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فما تغني النذر إذا لم يؤمنوا؟!






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #508
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْقَمَرِ
    الحلقة (508)
    صــ 91 إلى صــ 105





    فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر

    فتول عنهم قال الزجاج: هذا وقف التمام، ويوم منصوب بقوله: "يخرجون من الأجداث" . وقال مقاتل: فتول عنهم [إلى] يوم يدع الداعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب; وافقه أبو جعفر ، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين . والداعي: إسرافيل ينفخ النفخة الثانية "إلى شيء نكر" وقرأ ابن كثير: "نكر" خفيفة; أي: إلى أمر فظيع . وقال مقاتل: "النكر" بمعنى المنكر، وهو القيامة، وإنما ينكرونه إعظاما له . والتولي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف .

    قوله تعالى خشعا أبصارهم قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: "خشعا" بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: "خاشعا" بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين . قال الزجاج: المعنى: يخرجون خشعا، و"خاشعا" منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: "خاشعة"; ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع; تقول: مررت بشبان حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم،

    قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب . والأجداث: القبور، وإنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، [فهو أبدا مختلف بعضه في بعض]، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها . والداعي: إسرافيل . وقد أثبت ياء "الداعي" في الحالين ابن كثير، ويعقوب; تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو; والباقون بحذفها في الحالين . وقد بينا معنى "مهطعين" في سورة "إبراهيم: 43" والعسر: الصعب الشديد .

    كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .

    قوله تعالى: كذبت قبلهم أي: قبل أهل مكة "قوم نوح فكذبوا عبدنا" نوحا "وقالوا مجنون وازدجر" قال أبو عبيدة: افتعل من زجر .

    قال المفسرون: زجروه عن مقالته "فدعا" عليهم نوح "ربه" بـ "أني مغلوب فانتصر" أي: فانتقم لي ممن كذبني .

    قال الزجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي: "إني" بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب; ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربه" بـ"أني مغلوب .

    قوله تعالى: ففتحنا أبواب السماء قرأ ابن عامر "ففتحنا" بالتشديد . فأما المنهمر، فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يقال: همر الرجل: إذا أكثر من الكلام وأسرع . وروى علي رضي الله عنه أن أبواب السماء فتحت بالماء من المجرة، وهي شرج السماء . وعلى ما ذكرنا من القصة في "هود: 44" أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: "ففتحنا أبواب السماء" قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوما، وفجرت الأرض من تحتهم عيونا أربعين يوما .

    "فالتقى الماء" وقرأ أبي بن كعب ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري: "الماءان" بهمزة وألف ونون مكسورة . وقرأ ابن مسعود: "المايان" بياء وألف ونون مكسورة من غير همز . وقرأ الحسن، وأبو عمران: "الماوان" بواو وألف وكسر النون . قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء .

    قوله تعالى: على أمر قد قدر فيه قولان .

    أحدهما: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض، قاله مقاتل .

    والثاني: قد قدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج . فيكون المعنى: على أمر قد قضي عليهم، وهو الغرق . قوله تعالى: وحملناه يعني نوحا "على ذات ألواح ودسر" قال الزجاج . أي: على سفينة ذات ألواح . قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جمعت . وفي الدسر أربعة أقوال .

    أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد . وقال الزجاج: الدسر: المسامير والشرط التي تشد بها الألواح، وكل شيء نحو السمر أو إدخال شيء في شيء بقوة وشدة قهر فهو دسر، يقال: دسرت المسمار أدسره وأدسره . والدسر: واحدها دسار، نحو حمار، وحمر .

    والثاني: أنه صدر السفينة، سمي بذلك لأنه يدسر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة; ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه .

    والثالث: أن الدسر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد .

    والرابع: أن الدسر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك .

    قوله تعالى: تجري بأعيننا أي: بمنظر ومرأى منا "جزاء" قال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به .

    وفي المراد بـ "من" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الله عز وجل، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكفرهم به .
    والثاني: أنه نوح كفر به وجحد أمره، قاله الفراء .

    والثالث: أن "من"; بمعنى "ما"; فالمعنى: جزاء لما كان كفر من نعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير . وقرأ قتادة: "لمن كان كفر" بفتح الكاف والفاء .

    قوله تعالى: ولقد تركناها في المشار إليها قولان .

    أحدهما: أنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة .

    والثاني: أنها الفعلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة نوح آية، أي: علامة ليعتبر بها، "فهل من مدكر" وأصله مدتكر، فأبدلت التاء دالا على ما بينا في قوله: "وادكر بعد أمة" [يوسف: 45] . قال ابن قتيبة: أصله: مذتكر فأدغمت التاء في الذال، ثم قلبت دالا مشددة قال المفسرون والمعنى: هل من متذكر يعتبر بذلك؟ "فكيف كان عذابي ونذر" وفي هذه السورة "ونذر" ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين . وقوله فكيف كان عذابي" استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب . قال ابن قتيبة: والنذر ها هنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النكير بمعنى الإنكار . قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة .

    "ولقد يسرنا القرآن" أي: سهلناه "للذكر" أي: للحفظ والقراءة "فهل من مدكر" أي: من ذاكر يذكره ويقرؤه; والمعنى: هو الحث على [ قراءته وتعلمه قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن . وأما الريح الصرصر، فقد ذكرناها في "حم السجدة: 160" .

    قوله تعالى: في يوم نحس مستمر قرأ الحسن: "في يوم" بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنحس . والمستمر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسه . وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم . وقيل: إنه كان يوم أربعاء في آخر الشهر .

    "تنزع الناس" أي: تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد، فـ "كأنهم أعجاز نخل" وقرأ أبي بن كعب ، وابن السميفع: "أعجز نخل" برفع الجيم . من غير ألف بعد الجيم وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: "كأنهم عجز نخل" بضم العين والجيم . ومعنى الكلام: كأنهم أصول نخل منقعر" أي: منقلع . وقال الفراء: المنقعر: المنصرع من النخل . قال ابن قتيبة: يقال: قعرته فانقعر، أي: قلعته فسقط . قال أبو عبيدة: والنخل يذكر ويؤنث، فهذه الآية على لغة من ذكر، وقوله: "أعجاز نخل خاوية" [الحاقة: 8] على لغة من أنث . وقال مقاتل: شبههم حين وقعوا من شدة العذاب بالنخل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبههم بالنخل لطولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا .

    كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر

    قوله تعالى: كذبت ثمود بالنذر فيه قولان .

    أحدهما: أنه جمع نذير . وقد بينا أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل .

    والثاني: أن النذر بمعنى الإنذار كما بينا في قوله: "فكيف كان عذابي ونذر" فكأنهم كذبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، "فقالوا أبشرا منا" [قال الزجاج: هو منصوب بفعل مضمر والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بشرا منا " واحدا"]، قال المفسرون: قالوا: هو آدمي مثلنا، وهو واحد فلا نكون له تبعا "إنا إذا" إن فعلنا ذلك "لفي ضلال" أي: خطإ وذهاب عن الصواب "وسعر" قال ابن عباس: أي : جنون . قال ابن قتيبة: هو من: تسعرت النار: إذا التهبت، يقال: ناقة مسعورة، أي: كأنها مجنونة من النشاط . وقال غيره: لفي شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته .

    ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: "أألقي الذكر؟" أي: أنزل الوحي "عليه من بيننا؟ " أي: كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي؟! "بل هو كذاب أشر" وفيه قولان .

    أحدهما: أنه المرح المتكبر، قاله ابن قتيبة .

    والثاني: البطر، قاله الزجاج .

    قوله تعالى سيعلمون غدا قرأ ابن عامر وحمزة: "ستعلمون" بالتاء "غدا" فيه قولان .

    أحدهما: يوم القيامة، قاله ابن السائب .

    والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل .

    قوله تعالى إنا مرسلو الناقة وذلك أنهم سألوا صالحا أن يظهر لهم ناقة من صخرة، فقال الله تعالى: "إنا مرسلو الناقة" أي: مخرجوها كما أرادوا "فتنة لهم" أي: محنة واختبارا "فارتقبهم" أي: فانتظر ما هم صانعون "واصطبر" على ما يصيبك من الأذى، "ونبئهم أن الماء قسمة بينهم" أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: "كل شرب محتضر" يحضره صاحبه ويستحقه .

    قوله تعالى فنادوا صاحبهم واسمه قدار بن سالف "فتعاطى" قال ابن قتيبة: تعاطى عقر الناقة "فعقر" أي: قتل; وقد بينا هذا في [الأعراف: 77] .

    قوله تعالى: إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم; وقد أشرنا إلى قصتهم في [هود: 61] "فكانوا كهشيم المحتظر" قال ابن عباس: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنم، فهو الهشيم وقد بينا معنى "الهشيم" في [الكهف: 45] . وقال الزجاج: الهشيم: ما يبس من الورق وتكسر وتحطم، والمعنى: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف، فهو يجمع ليوقد . وقرأ الحسن "المحتظر" بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة، والمعنى: كهشيم المكان الذي يحتظر فيه الهشيم من الحطب . وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحيطان . وقال قتادة: كالعظام النخرة المحترقة . والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطم .

    كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر

    قوله تعالى: إنا أرسلنا عليهم حاصبا قال المفسرون: هي الحجارة التي قذفوا بها "إلا آل لوط" يعني لوطا وابنتيه "نجيناهم" من ذلك العذاب "بسحر" قال الفراء: "سحر" ها هنا يجري لأنه نكرة، كقوله: نجيناهم بليل، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يجر، لأن لفظهم به بالألف واللام، يقولون: ما زال عندنا منذ السحر، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يصرف . وقال الزجاج: إذا كان السحر نكرة يراد به سحر من الأسحار انصرف ، فإذا أردت سحر يومك لم ينصرف .

    قوله تعالى: كذلك نجزي من شكر قال مقاتل: من وحد الله تعالى لم يعذب مع المشركين .

    قوله تعالى ولقد راودوه عن ضيفه أي: طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه، وهم الملائكة فطمسنا أعينهم وهو أن جبريل ضرب أعينهم بجناحه فأذهبها . وقد ذكرنا القصة في سورة [هود: 81] . وتم الكلام ها هنا، ثم قال: "فذوقوا" أي: فقلنا لقوم لوط لما جاءهم العذاب: ذوقوا "عذابي ونذر" أي: ما أنذركم به لوط، " ولقد صبحهم بكرة" أي: أتاهم صباحا "عذاب مستقر" أي: نازل بهم . قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة . قال الفراء: والعرب تجري "غدوة" "وبكرة" ولا تجريهما، وأكثر الكلام في "غدوة" ترك الإجراء، وأكثر في "بكرة" أن تجرى، فمن لم يجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبدا في وقت واحد بمنزلة "أمس" و"غد" ، وأكثر ما تجري العرب "غدوة"، إذا قرنت بعشية، يقولون: إني لآتيهم غدوة وعشية، [وبعضهم يقول: "غدوة" فلا يجريها، وعشية"] فيجريها، ومنهم من لا يجري "عشية" لكثرة ما صحبت "غدوة" . وقال الزجاج الغدوة والبكرة إذا كانتا نكرتين نونتا وصرفتا فإذا أردت بهما بكرة يومك، وغداة يومك، لم تصرفهما، والبكرة ها هنا نكرة، فالصرف أجود لأنه لم يثبت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا .

    ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر قوله تعالى: ولقد جاء آل فرعون يعني القبط "النذر" فيهم قولان .

    أحدهما: [أنه] جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى .

    والثاني: أن النذر بمعنى الإنذار; وقد بيناه آنفا، "فأخذناهم" بالعذاب "أخذ عزيز" أي: غالب في انتقامه "مقتدر" قادر على هلاكهم .

    ثم خوف أهل مكة فقال: "أكفاركم" يا معشر العرب "خير" أي: أشد وأقوى "من أولئكم" وهذا استفهام معناه الإنكار; والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلكناهم "أم لكم براءة" من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم في "الزبر" أي: في الكتب المتقدمة، "أم يقولون نحن جميع منتصر" المعنى: أيقولون: نحن يد واحدة على من خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحد المنتصر للفظ الجميع، فإنه على لفظ "واحد" وإن كان اسما للجماعة "سيهزم الجمع" وروى أبو حاتم بن يعقوب: "سنهزم" بالنون، "الجمع" بالنصب، "وتولون" بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة "ويولون الدبر" ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز; قال الفراء: مثله أن يقول: إن فلانا لكثير الدينار والدرهم . وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكانت الهزيمة يوم بدر .

    قوله تعالى: والساعة أدهى قال مقاتل: هي أفظع "وأمر" من القتل قال الزجاج: ومعنى الداهية: الأمر الشديد الذي لا يهتدى لدوائه; ومعنى "أمر": أشد مرارة من القتل والأسر .

    إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر قوله تعالى: إن المجرمين في ضلال وسعر في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية إلى قوله: "خلقناه بقدر" انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة وروى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذه الآية نزلت في القدرية" .

    والثاني: أن أسقف نجران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر، وليس كذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم خصماء الله"، فنزلت: "إن المجرمين" إلى قوله "بقدر"، قاله عطاء .

    قوله تعالى: وسعر فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: الجنون . والثاني: العناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة .

    والثالث: أنه نار تستعر عليهم، قاله الضحاك .

    فأما "سقر" فقال الزجاج: هي اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنثة . وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سقر: اسم لنار الآخرة أعجمي، ويقال: بل هو عربي من قولهم سقرته الشمس: إذا أذابته، سميت بذلك لأنها تذيب الأجسام . وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فنادى نداء يسمعه الأولون والآخرون: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية، فيؤمر بهم إلى النار، يقول الله تعالى: "ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر"، وإنما قيل لهم: "خصماء الله" لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها . وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل، ثم صلى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلما وزورا حتى ذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر "إنا كل شيء خلقناه بقدر" . [وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" . وقال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خدك . وقال الزجاج: معنى "بقدر" أي: كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ونصب "كل شيء" بفعل مضمر; المعنى: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر] .

    قوله تعالى: وما أمرنا إلا واحدة قال الفراء: أي: إلا مرة واحدة، وكذلك قال مقاتل: مرة واحدة لا مثنوية لها . وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد: إن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر . وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كلمح البصر . ومعنى اللمح بالبصر: النظر بسرعة .

    ولقد أهلكنا أشياعكم أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية فهل من مدكر أي: متعظ وكل شيء فعلوه يعني الأمم .وفي "الزبر" قولان .

    أحدهما: أنه كتب الحفظة . والثاني: اللوح المحفوظ .

    وكل صغير وكبير أي: من الأعمال المتقدمة "مستطر" أي: مكتوب، قال ابن قتيبة: هو مفتعل من "سطرت": إذا كتبت وهو مثل "مسطور" .

    قوله تعالى: في جنات ونهر قال الزجاج: المعنى: في جنات وأنهار، والاسم الواحد يدل على الجميع .

    يريد: وأما جلودها، ومثله:

    في حلقكم عظم وقد شجينا

    ومثله:

    كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

    وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وحد لأنه رأس آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال: ويقال: النهر: الضياء والسعة، من قولك: أنهرت الطعنة: إذا وسعتها،

    أي: أوسعت فتقها . قلت: وهذا قول الضحاك . وقرأ الأعمش "ونهر" .

    قوله تعالى في مقعد صدق أي: مجلس حسن; وقد نبهنا على هذا المعنى في قوله: أن لهم قدم صدق [يونس: 2] . فأما المليك، فقال الخطابي: المليك هو المالك، وبناء فعيل للمبالغة في الوصف، ويكون المليك بمعنى الملك، ومنه هذه الآية . والمقتدر مشروح في [الكهف: 45] .

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ

    وَفِي نُزُولِهَا قَوْلَانِ .

    أحدهما: أنها مكية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، ومقاتل، والجمهور، إلا أن ابن عباس قال: سوى آية: وهي قوله: يسأله من في السماوات والأرض [الرحمن: 29] .

    والثاني: أنها مدنية، رواه عطية عن ابن عباس . وبه قال ابن مسعود .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #509
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ
    الحلقة (509)
    صــ 106 إلى صــ 119






    قوله تعالى: الرحمن . علم القرآن قال مقاتل: لما نزل قوله: اسجدوا للرحمن [الفرقان: 60] قال كفار مكة: وما الرحمن؟! فأنكروه وقالوا: لا نعرف الرحمن، فقال تعالى: "الرحمن" الذي أنكروه هو الذي "علم القرآن" . وفي قوله: علم القرآن قولان . أحدهما: علمه محمدا، وعلم محمد أمته، قاله ابن السائب . والثاني: يسر القرآن، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: خلق الإنسان فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه اسم جنس، فالمعنى: خلق الناس جميعا، قاله الأكثرون . فعلى هذا، في "البيان" ستة أقوال . أحدها: النطق والتمييز، قاله الحسن . والثاني: الحلال والحرام، قاله قتادة . والثالث: ما يقول وما يقال له، قاله محمد بن كعب . والرابع: الخير والشر، قاله الضحاك . والخامس: [طرق] الهدى، قاله ابن جريج . والسادس: الكتابة والخط، قاله يمان .

    والثاني: أنه آدم، قاله ابن عباس، وقتادة . فعلى هذا في "البيان" ثلاثة أقوال . أحدها: أسماء كل شيء . والثاني: بيان كل شيء . والثالث اللغات .

    والقول الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، علمه بيان ما كان وما يكون، قاله ابن كيسان . قوله تعالى: الشمس والقمر بحسبان أي: بحساب ومنازل، لا يعدوانها; وقد كشفنا هذا المعنى في [الأنعام: 96] . قال الأخفش: أضمر الخبر، وأظنه- والله أعلم- أراد: يجريان بحسبان قوله تعالى: والنجم والشجر يسجدان في النجم قولان . أحدهما: أنه كل نبت ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس، والسدي، ومقاتل، واللغويين . والثاني: أنه نجم السماء، والمراد به: جميع النجوم، قاله مجاهد . فأما الشجر: فكل ما له ساق . قال الفراء: سجودهما: أنهما يستقبلان الشمس إذ أشرقت، ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء . وقد أشرت في [النحل: 49] إلى معنى سجود ما لا يعقل . قال أبو عبيدة: وإنما ثني فعلهما على لفظهما .

    قوله تعالى: والسماء رفعها وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتد الأنفاس، وأجرى الريح بينها وبين الأرض، كيما يتروح [الخلق] . ولولا ذلك لماتت الخلائق كربا .

    قوله تعالى: ووضع الميزان فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه العدل، قاله الأكثرون، منهم مجاهد والسدي واللغويون . قال الزجاج: وهذا لأن المعادلة: موازنة الأشياء . والثاني: أنه الميزان المعروف، ليتناصف الناس في الحقوق، قاله الحسن، وقتادة، والضحاك . والثالث: أنه القرآن، قاله الحسين بن الفضل .

    قوله تعالى: ألا تطغوا ذكر الزجاج في "أن" وجهين . أحدهما: أنها بمعنى اللام; والمعنى: لئلا تطغوا . والثاني: أنها للتفسير، فتكون "لا" للنهي; والمعنى: أي: لا تطغوا، أي لا تجاوزوا العدل . قوله تعالى: ولا تخسروا الميزان قال ابن قتيبة، أي: لا تنقصوا الوزن .

    فأما الأنام، ففيهم ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم الناس، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: كل ذي روح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي، والفراء . والثالث: الإنس والجن، قاله الحسن، والزجاج .

    قوله تعالى: فيها فاكهة أي، ما يتفكه [به] من ألوان الثمار "والنخل ذات الأكمام" والأكمام: الأوعية والغلف; وقد استوفينا شرح هذا في [حم السجدة: 47] .

    قوله تعالى: والحب يريد: جميع الحبوب، كالبر والشعير وغير ذلك . وقرأ ابن عامر: "والحب" بنصب الباء "ذا العصف" بالألف "والريحان" بنصب النون . وقرأ حمزة، والكسائي إلا ابن أبي سريج، وخلف: "والحب ذو العصف والريحان" بخفض النون; وقرأ الباقون بضم النون .

    وفي "العصف" قولان . أحدهما: أنه تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح، قاله ابن عباس . وكذلك قال مجاهد: هو ورق الزرع . قال ابن قتيبة: العصف: ورق الزرع، ثم يصير إذا جف ويبس وديس تبنا . والثاني: أن العصف: المأكول من الحب، حكاه الفراء .

    وفي "الريحان" أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الرزق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير: والسدي . قال الفراء: الريحان في كلام العرب: الرزق، تقول: خرجنا نطلب ريحان الله، وأنشد الزجاج للنمر بن تولب:


    سلام الإله وريحانه ورحمته وسماء درر


    والثاني: أنه خضرة الزرع، رواه الوالبي عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي: فعلى هذا، سمي ريحانا، لاستراحة النفس بالنظر إليه .

    والثالث: أنه ريحانكم هذا الذي يشم، روى العوفي عن ابن عباس قال: "الريحان" ما أنبتت الأرض من الريحان، وهذا مذهب الحسن، والضحاك، وابن زيد .

    والرابع: أنه ما [لم] يؤكل من الحب، والعصف: المأكول منه، حكاه الفراء .

    قوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن قيل: كيف خاطب اثنين، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء . أحدهما: أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بينا في قوله: ألقيا في جهنم [ق: 24] والثاني: أن الذكر أريد به: الإنسان والجان، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها . قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض، خاطب الجن والإنس، قال: "فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم . وقال ابن قتيبة: الآلاء: النعم، واحدها: ألا، مثل: قفا، وإلا، مثل: معى .

    خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان

    قوله تعالى: خلق الإنسان يعني آدم "من صلصال" قد ذكرنا في [الحجر: 26،27] الصلصال والجان . فأما قوله: "كالفخار" فقال أبو عبيدة: خلق من طين يابس لم يطبخ، فله صوت إذا نقر، فهو من يبسه كالفخار . والفخار: ما طبخ بالنار .

    فأما المارج، فقال ابن عباس . هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت . وقال مجاهد: هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت . وقال مقاتل: هو لهب النار الصافي من غير دخان . وقال أبو عبيدة: المارج: خلط من النار . وقال ابن قتيبة: المارج: لهب النار، من قولك: قد مرج الشيء: إذا اضطرب ولم يستقر . وقال الزجاج: هو اللهب المختلط بسواد النار .

    فإن قيل: قد أخبر الله تعالى عن خلق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة، فتارة يقول: "خلقه من تراب" [آل عمران: 59]، وتارة: "من صلصال" وتارة: "من طين لازب" [الصافات: 11]، وتارة: "كالفخار" [الرحمن: 14]، وتارة: "من حمإ مسنون" [الحجر: 29]; فالجواب: [أن الأصل التراب فجعل طينا، ثم صار كالحمإ المسنون، ثم صار صلصالا كالفخار، هذه أخبار عن حالات أصله . فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " الجواب] أن ذلك التكرير لتقرير النعم وتأكيد التذكير بها . قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار [للتخفيف والإيجاز، لأن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره] في المقام على فن واحد، يقول القائل منهم: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله بإضمار "لا" إذا أراد الاختصار، ويقول القائل المستعجل: اعجل اعجل، وللرامي: ارم ارم، قال الشاعر:


    كم نعمة كانت له وكم وكم


    وقال الآخر:


    هلا سألت جموع كن دة يوم ولوا أين أينا


    وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة، فغيروا منها حرفا ثم أتبعوها الأولى، كقولهم: عطشان نطشان، وشيطان ليطان، وحسن بسن . قال ابن دريد: ومن الإتباع: جائع نائع، ومليح قريح، وقبيح شقيح، وشحيح نحيح، وخبيث نبيث، وكثير بثير: وسيغ ليغ، وسائغ لائغ، وحقير نقير، وضئيل بئيل، وخضر مضر، وعفريت نفريت، وثقة نقة، وكن إن، وواحد فاحد، وحائر بائر، وسمح لمح . قال ابن قتيبة: فلما عدد الله تعالى في هذه السورة نعماءه .وأذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نعمتين، ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقولك للرجل: ألم أبوئك منزلا وكنت طريدا؟ أفتنكر هذا ؟ ألم أحج بك وأنت صرورة؟ أفتنكر هذا؟ .

    وروى الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها [ثم] قال: "مالي أراكم سكوتا؟! للجن كانوا أحسن منكم ردا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة "فبأي آلاء ربكما تكذبان" إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد .

    قوله تعالى رب المشرقين قرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: "رب المشرقين ورب المغربين" بالخفض، وهما مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء للشمس والقمر جميعا .

    قوله تعالى: مرج البحرين أي: أرسل العذب والملح وخلاهما وجعلهما "يلتقيان" بينهما برزخ أي: حاجز من قدرة الله تعالى يبغيان أي: لا يختلطان فيبغي أحدهما على الآخر . وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام . قال الحسن: "مرج البحرين" يعني [بحر] فارس والروم، بينهما برزخ، يعني الجزائر; وقد سبق بيان هذا في [الفرقان: 53] .قوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان قال الزجاج: إنما يخرج من البحر الملح، وإنما جمعهما، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أخرج منهما، ومثله وجعل القمر فيهن نورا [نوح: 16] . قال أبو علي الفارسي: أراد: يخرج من أحدهما، فحذف المضاف . وقال ابن جرير: إنما قال "منهما" لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء .

    فأما اللؤلؤ والمرجان، ففيهما قولان .

    أحدهما: أن المرجان: ما صغر من اللؤلؤ، واللؤلؤ: العظام، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والفراء . وقال الزجاج: اللؤلؤ: اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر، والمرجان: صغاره .

    والثاني: أن اللؤلؤ: الصغار، والمرجان: الكبار، قاله مجاهد، والسدي، ومقاتل . قال ابن عباس: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف أفواهها، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ; قال ابن جرير: حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ذكر بعض أهل اللغة أن المرجان أعجمي معرب . قال أبو بكر، يعني ابن دريد: ولم أسمع فيه بفعل منصرف، وأحر به أن يكون كذلك . قال ابن مسعود: المرجان: الخرز الأحمر . وقال الزجاج: [المرجان] أبيض شديد البياض . وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان: ضرب من اللؤلؤ كالقضبان .

    قوله تعالى: وله الجوار يعني السفن "المنشآت" قال مجاهد: هو ما قد رفع قلعه من السفن دون ما لم يرفع قلعه . قال ابن قتيبة: هن اللواتي أنشئن، أي: ابتدئ بهن في "البحر" وقرأ حمزة: "المنشئات"، فجعلهن اللواتي ابتدأن، يقال: أنشأت السحابة تمطر: إذا ابتدأت، وأنشأ الشاعر يقول، والأعلام: الجبال، وقد سبق هذا [الشورى: 32] .

    كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان .

    قوله تعالى كل من عليها فان أي: على الأرض، وهي كناية عن غير المذكور، "فان": أي; هالك .

    ويبقى وجه ربك أي: ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام قال أبو سليمان الخطابي: الجلال: مصدر الجليل، يقال: جليل بين الجلالة والجلال . والإكرام: مصدر أكرم يكرم إكراما; والمعنى أن الله تعالى مستحق أن يجل ويكرم، ولا يجحد ولا يكفر به; وقد يحتمل أن يكون المعنى: أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم; وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافا إلى الله تعالى بمعنى الصفة له، والآخر مضافا إلى العبد بمعنى الفعل منه، كقوله تعالى: هو أهل التقوى وأهل المغفرة [المدثر: 56] فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهو التقوى .

    قوله تعالى: يسأله من في السماوات والأرض المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غني عنهم كل يوم هو في شأن مثل أن يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويشفي مريضا، ويعطي سائلا، إلى غير ذلك من أفعاله . وقال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت . قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئا، فنزلت: "كل يوم هو في شأن" .

    سنفرغ لكم أيه الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان

    قوله تعالى: سنفرغ لكم قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: "سنفرغ" بنون مفتوحة . وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعبد الوارث: ["سيفرغ"] بياء مفتوحة . وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وعاصم الجحدري، عن عبد الوارث: "سيفرغ" بضم الياء وفتح الراء . قال الفراء: هذا وعيد من الله تعالى، لأنه لا يشغله شيء عن شيء، تقول للرجل الذي لا شغل له: قد فرغت لي، قد فرغت تشتمني؟! أي: قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟! قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين . أحدهما: الفراغ من شغل . والآخر: القصد للشيء، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأتفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، ومعنى الآية: سنقصد لحسابكم . فأما "الثقلان" فهما الجن والإنس، سميا بذلك لأنهما ثقل الأرض .

    قوله تعالى: أن تنفذوا أي: تخرجوا; يقال: نفذ الشيء من الشيء: إذا خلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية; والأقطار: النواحي والجوانب . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا، قاله ابن عباس .

    [ ص: 116 ] والثاني: إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض فاهربوا واخرجوا منها; والمراد: أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين .

    والثالث: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا; وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة، ذكره ابن جرير .

    قوله تعالى: لا تنفذون إلا بسلطان فيه ثلاثة أقوال . أحدها: لا تنفذون إلا في سلطان الله وملكه، لأنه مالك كل شيء، قاله ابن عباس . والثاني: لا تنفذون إلا بحجة، قاله مجاهد، والثالث: لا تنفذون إلا بملك، وليس لكم ملك، قاله قتادة .

    قوله تعالى: يرسل عليكما فثنى على اللفظ . وقد جمع في قوله إن استطعتم على المعنى .

    فأما "الشواظ" ففيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس . وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار . والثاني: الدخان، قاله سعيد بن جبير . والثالث: النار المحضة، قاله الفراء . وقال أبو عبيدة: هي النار التي تأجج لا دخان فيها، ويقال: شواظ وشواظ . وقرأ ابن كثير بكسر الشين; وقرأ أيضا هو وأهل البصرة: "ونحاس" بالخفض، والباقون برفعهما .

    وفي "النحاس" قولان .

    أحدهما: أنه دخان النار، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ، والفراء وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، ومنه قول الجعدي يذكر امرأة: [ ص: 117 ]
    تضيء كضوء سراج السلي ط لم يجعل الله فيه نحاسا


    وذكر الفراء في السليط ثلاثة أقوال . أحدها: أنه دهن السنام، وليس له دخان إذا استصبح به . والثاني: أنه دهن السمسم . والثالث: الزيت .

    والثاني: أنه الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة . قال مقاتل: والمراد بالآية: كفار الجن والإنس، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصفر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار نهار الدنيا، فلا تنتصران أي: فلا تمتنعان من ذلك .

    فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام . فبأي آلاء ربكما تكذبان . هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون . يطوفون بينها وبين حميم آن . فبأي آلاء ربكما تكذبان

    قوله تعالى: فإذا انشقت السماء أي: انفرجت من المجرة لنزول من فيها يوم القيامة "فكانت وردة" وفيها قولان .

    أحدهما: كلون الفرس الوردة، قاله أبو صالح، والضحاك . وقال الفراء: الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر [ ص: 118 ] كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل; وكذلك قال الزجاج: "فكانت وردة" أي: كلون فرس وردة; والكميت: الورد يتلون، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء، فالسماء تتلون من الفزع الأكبر . وقال ابن قتيبة: المعنى: فكانت حمراء في لون الفرس الورد .

    والثاني: أنها وردة النبات; وقد تختلف ألوانها، إلا أن الأغلب عليها الحمرة، ذكره الماوردي .

    وفي الدهان قولان . أحدهما: أنه واحد، وهو الأديم الأحمر، قاله ابن عباس . والثاني: أنه جمع دهن، والدهن تختلف ألوانه بخضرة وحمرة وصفرة، حكاه اليزيدي، وإلى نحوه ذهب مجاهد . وقال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن .

    قوله تعالى: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا يسألون ليعلم حالهم، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك .

    والثاني: لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه، روي القولان عن ابن عباس .

    والثالث: لا يسألون عن ذنوبهم لأنهم يعرفون بسيماهم، فالكافر أسود الوجه، والمؤمن أغر محجل من أثر وضوئه، قاله الفراء . قال الزجاج: لا يسأل أحد عن ذنبه ليستفهم، ولكنه يسأل سؤال توبيخ .

    قوله تعالى: يعرف المجرمون بسيماهم قال الحسن: بسواد الوجوه، وزرق الأعين فيؤخذ بالنواصي والأقدام فيه قولان . أحدهما: أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظهورهم، ثم يدفعونهم على وجوههم [ ص: 119 ] في النار، قاله مقاتل . والثاني: يؤخذ بالنواصي والأقدام، فيسحبون إلى النار، ذكره الثعلبي . وروى مردويه الصائغ، قال: صلى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة "الرحمن" ومعنا علي بن الفضيل بن عياض، فلما قرأ "يعرف المجرمون بسيماهم" خر علي مغشيا عليه حتى فرغنا من الصلاة، فلما كان بعد ذلك قلنا له: أما سمعت الإمام يقرأ "حور مقصورات في الخيام"؟ قال: شغلني عنها يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام قوله تعالى: هذه جهنم أي: يقال لهم . هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يعني المشركين يطوفون بينها وقرأ أبو العالية، وأبو عمران الجوني: يطوفون بياء مضمومة مع تشديد الواو; وقرأ الأعمش مثله إلا أنه بالتاء .

    قوله تعالى: وبين حميم آن قال ابن قتيبة: الحميم: الماء الحار، والآني: الذي قد انتهت شدة حره . قال المفسرون: المعنى أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة .

    ولمن خاف مقام ربه جنتان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . ذواتا أفنان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما عينان تجريان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . فيهما من كل فاكهة زوجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان .

    قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان فيه قولان . أحدهما: قيامه بين يدي ربه عز وجل يوم الجزاء . والثاني: قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب . وجاء في التفسير، أن العبد يهم بمعصية فيتركها خوفا من الله عز [ ص: 120 ] وجل فله جنتان، وهما بستانان .







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #510
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ
    الحلقة (510)
    صــ 120 إلى صــ 133




    ذواتا أفنان فيه قولان .

    أحدهما: أنها الأغصان، وهي جمع فنن، وهو الغصن المستقيم طولا، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعطية، والفراء، والزجاج .

    والثاني: أنها الألوان والضروب من كل شيء، وهي جمع فنن، وهذا قول سعيد بن جبير . وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة .

    وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة .

    قوله تعالى: فيهما عينان تجريان قال ابن عباس: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم . وقال عطية: إحداهما: من ماء غير آسن، والأخرى: من خمر . وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان من البكاء .

    قوله تعالى: فيهما من كل فاكهة زوجان أي: صنفان ونوعان . قال المفسرون: فيهما من كل ما يتفكه به نوعان، رطب ويابس، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله .

    متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي [ ص: 121 ] آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان .

    متكئين هذا حال المذكورين على فرش جمع فراش بطائنها جمع بطانة، وهي التي تحت الظهارة .

    وقال أبو هريرة: هذه البطائن، فما ظنكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس: إنما ترك وصف الظواهر، لأنه ليس أحد يعلم ما هي . وقال قتادة: البطائن: هي الظواهر بلغة قوم . وكان الفراء يقول: قد تكون البطانة ظاهرة، والظاهرة بطانة، لأن كل واحد منهما قد يكون وجها، والعرب تقول: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها، وهو الذي نراه، وقال ابن الزبير يعيب قتلة عثمان: خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا منهم من نجا تحت بطون الكواكب . يعني هربوا ليلا; فجعلوا ظهور الكواكب بطونا، وذلك جائز في العربية . وأنكر هذا القول ابن قتيبة جدا، وقال: إنما أراد الله أن يعرفنا- من حيث نفهم - فضل هذه الفرش وأن ما ولي الأرض منها إستبرق، وإذا كانت البطانة كذلك، فالظهارة أعلى وأشرف . وهل يجوز [لأحد] أن يقول لوجه مصل: هذا بطانته، ولما ولي الأرض منه: هذا ظهارته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين، تقول لما وليك من الحائط: هذا ظهر الحائط، ويقول جارك لما وليه هذا ظهر الحائط، وكذلك السماء ما ولينا منها: ظهر، وهي لمن فوقها: بطن . وقد ذكرنا الإستبرق في [سورة] [الكهف: 31]، [ ص: 122 ] قوله تعالى: وجنى الجنتين دان قال أبو عبيدة: أي: ما يجتنى قريب لا يعني الجاني .

    قوله تعالى فيهن قاصرات الطرف قد شرحناه في [الصافات: 48] .

    وفي قوله: "فيهن" قولان .

    أحدهما: أنها تعود إلى الجنتين وغيرهما مما أعد لصاحب هذه القصة، قاله الزجاج . والثاني: أنها تعود إلى الفرش، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . قوله تعالى: لم يطمثهن قرأ الكسائي بضم الميم، والباقون بكسرها، وهما لغتان: يطمث ويطمث، مثل يعكف ويعكف . وفي معناه قولان .

    أحدهما: لم يفتضضهن; والطمث: النكاح بالتدمية، ومنه قيل للحائض: طامث، قاله الفراء .

    والثاني: لم يمسسهن; يقال: ما طمث هذا البعير حبل [قط] أي: ما مسه، قاله أبو عبيدة . قال مقاتل: وذلك لأنهن خلقن من الجنة; فعلى قوله، هذا صفة الحور . وقال الشعبي: هن من نساء الدنيا لم يمسسهن مذ أنشئن خلق . وفي الآية دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي .

    قوله تعالى: كأنهن الياقوت والمرجان قال قتادة: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان . وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان والمرجان: صغار اللؤلؤ، وهو أشد بياضا . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: "الياقوت" فارسي [ ص: 123 ] معرب، والجمع "اليواقيت"، وقد تكلمت به العرب، قال مالك بن نويرة اليربوعي:


    لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به من الزبرجد والياقوت والذهب


    قوله تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان قال الزجاج، أي: ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة . وقال ابن عباس: هل جزاء من قال: "لا إله إلا الله" وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة . وروى أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال: "هل تدرون ما قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة"؟! .

    ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء [ ص: 124 ] ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام

    قوله تعالى: ومن دونهما جنتان قال الزجاج: المعنى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، وله من دونهما جنتان .

    وفي قوله: "ومن دونهما" قولان .

    أحدهما: دونهما في الدرج، قاله ابن عباس .

    والثاني: دونهما في الفضل كما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جنتان من ذهب وجنتان من فضة"; وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد، ومقاتل .

    قوله تعالى: مدهامتان قال ابن عباس [وابن الزبير]: خضراوان من الري . وقال أبو عبيدة: من خضرتهما قد اسودتا . قال الزجاج: يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتهما إلى السواد، وكل نبت أخضر فتمام خضرته وريه أن يضرب إلى السواد .

    قوله تعالى: نضاختان قال أبو عبيدة: فوارتان . وقال ابن قتيبة: تفوران، "والنضخ" أكثر من "النضح" . وفيما يفوران به أربعة أقوال .

    أحدها: بالمسك والكافور، قاله ابن مسعود . والثاني: بالماء، قاله ابن عباس . والثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن . والرابع: بأنواع الفاكهة، قاله سعيد بن جبير .

    قوله تعالى: ونخل ورمان قال ابن عباس: نخل الجنة: جذوعها [ ص: 125 ] زمرد أخضر، وكربها: ذهب أحمر، وسعفها: كسوة أهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم . وقال سعيد بن جبير : نخل الجنة: جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرد، ورطبها كالدلاء أشد بياضا من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من العسل، ليس له عجم . قال أبو عبيدة: الكرانيف: أصول السعف الغلاظ، الواحدة: كرنافة . وإنما أعاد ذكر النخل والرمان - وقد دخلا في الفاكهة - لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله: وملائكته ورسله وجبريل وميكال [البقرة: 98]، هذا قول جمهور المفسرين واللغويين . وحكى الفراء والزجاج أن قوما قالوا: ليسا من الفاكهة; قال الفراء: وقد ذهبوا مذهبا، ولكن العرب تجعلهما فاكهة . قال الأزهري: ما علمت أحدا من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها: إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال، لقلة علمه بكلام العرب، فالعرب تذكر أشياء جملة ثم تخص شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه، كقوله: وجبريل وميكال [البقرة: 98]; فمن قال: ليسا من الملائكة كفر، ومن قال: ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة جهل .

    قوله تعالى: فيهن يعني في الجنان الأربع "خيرات" يعني الحور . وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: "خيرات" بتشديد الياء . قال اللغويون: أصله "خيرات" بالتشديد، فخفف، كما [ ص: 126 ] قيل: هين لين، وهين لين . وروت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيرات الأخلاق حسان الوجوه" .

    قوله تعالى: حور مقصورات قد بينا في سورة [الدخان: 54] معنى الحور .

    وفي المقصورات قولان .

    أحدهما: المحبوسات في الحجال، قاله ابن عباس، وهو مذهب الحسن، وأبي العالية، والقرظي، والضحاك، وأبي صالح .

    والثاني: المقصورات الطرف على أزواجهن، فلا يرفعن طرفا إلى غيرهم، قاله الربيع . وعن مجاهد كالقولين . والأول أصح، فإن العرب تقول: امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة: إذا كانت ملازمة خدرها، قال كثير:


    لعمري لقد حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر

    عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
    قصار الخطى، شر النساء البحاتر


    وبعضهم ينشده: قصورة، وقصورات; والبحاتر: القصار .

    وفي "الخيام" قولان .

    أحدهما: أنها البيوت .

    والثاني: خيام تضاف إلى القصور . وقد روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون [ ص: 127 ] يطوف عليهم [المؤمن] فلا يرى بعضهم بعضا" . وقال عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس: الخيام: در مجوف . وقال ابن عباس: الخيمة: لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب .

    قوله تعالى: متكئين على رفرف وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن: "على رفارف" جمع غير مصروف . وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران الجوني مثلهم، إلا أنهم صرفوا "رفارف" قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن الرفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا [يس: 80] ولم يقل: الخضر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصى أبيض، وحصى أسود، قال الشاعر:


    أحقا عباد الله أن لست ماشيا بهرجاب ما دام الأراك به خضرا


    واختلف المفسرون في المراد بالرفرف على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها فضول المحابس [والبسط]، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة: هي: الفرش والبسط . وحكى الفراء، وابن قتيبة: أنها المحابس . وقال النقاش: الرفرف: المحابس الخضر فوق الفرش .

    والثاني: أنها رياض الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير .

    والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن .

    [ ص: 128 ] قوله تعالى: وعبقري حسان فيه قولان .

    أحدهما: أنها الزرابي، قاله ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وكذلك قال ابن قتيبة: العبقري: الطنافس الثخان . قال أبو عبيدة: يقال لكل شيء من البسط: عبقري .

    والثاني: أنه الديباج الغليظ، قاله مجاهد . قال الزجاج: أصل العبقري في اللغة أنه صفة لكل ما بولغ في وصفه، وأصله أن عبقر: بلد كان يوشى فيه البسط وغيرها، فنسب كل شيء جيد إليه، قال زهير:


    بخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا


    وقرأ عثمان بن عفان، وعاصم الجحدري، وابن محيصن: "وعباقري" بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوينه; قال الزجاج: ولا وجه لهذه القراءة في العربية لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، نحو; مساجد ومفاتح، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري، لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب، فلو جمعت "عبقري" كان جمعه "عباقرة" كما أنك لو جمعت "مهلبي" كان جمعه "مهالبة" ولم تقل: "مهالبي" قال: فإن قيل: "عبقري" واحد، و"حسان" جمع، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أن واحد هذا "عبقرية" والجمع "عبقري"، كما تقول: تمرة، وتمر ولوزة، ولوز، ويكون أيضا "عبقري" اسما للجنس .

    وقرأ الضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران: "وعباقري" بألف مع التنوين .

    [ ص: 129 ] قوله تعالى: تبارك اسم ربك فيه قولان .

    أحدهما: أن ذكر "الاسم" صلة، والمعنى: تبارك ربك .

    والثاني: أنه أصل .

    قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البركة، أي: البركة تنال وتكتسب بذكر اسمه . وقد بينا معنى "تبارك" في [الأعراف: 54]، وذكرنا في هذه السورة معنى ذي الجلال والإكرام [الرحمن: 27]، وكان ابن عامر يقرأ: "ذو الجلال" وكذلك هي في مصاحف أهل الشام; والباقون: "ذي الجلال" وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، [وهم] متفقون على الموضع الأول أنه "ذو" .

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ

    وَفِيهَا قَوْلَانِ .

    أحدهما: أنها مكية، قاله الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، وجابر، ومقاتل . وحكي عن ابن عباس أن فيها آية مدنية وهي قوله: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [الواقعة: 83]

    والثاني: أنها مدنية، رواه عطية عن ابن عباس .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم

    قوله تعالى: إذا وقعت الواقعة قال أبو سليمان الدمشقي: لما قال المشركون: متى هذا الوعد، متى هذا الفتح؟! نزل قوله: إذا وقعت الواقعة . فالمعنى يكون إذا وقعت الواقعة قال المفسرون: والواقعة: القيامة، وكل آت يتوقع، يقال له إذا كان: قد وقع، والمراد بها ها هنا: النفخة في الصور لقيام الساعة .

    [ ص: 131 ] ليس لوقعتها أي: لظهورها ومجيئها "كاذبة" أي: كذب،كقوله: لا تسمع فيها لاغية [الغاشية: 11] أي: لغوا . قال الزجاج: و"كاذبة" مصدر، كقولك: عافاه الله عافية، وكذب كاذبة، فهذه أسماء في موضع المصدر . وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: لا رجعة لها ولا ارتداد، قاله قتادة . والثاني: ليس الإخبار عن وقوعها كذبا، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: خافضة أي: هي خافضة "رافعة" وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن، وأبو العالية، والحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، واليزيدي في اختياره: "خافضة رافعة" بالنصب فيهما . وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: أنها خفضت فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد، رواه العوفي عن ابن عباس . وهذا يدل على أن المراد بالواقعة: صيحة القيامة .

    والثاني: أنها خفضت ناسا، ورفعت آخرين، رواه عكرمة عن ابن عباس . قال المفسرون: تخفض أقواما إلى أسفل السافلين في النار، وترفع أقواما إلى عليين في الجنة .

    قوله تعالى: إذا رجت الأرض رجا أي: حركت حركة شديدة وزلزلت، وذلك أنها ترتج حتى ينهدم ما عليها من بناء، ويتفتت ما عليها من جبل . وفي ارتجاجها قولان .

    أحدهما: أنه لإماتة من عليها من الأحياء . والثاني لإخراج من في بطنها من الموتى .

    قوله تعالى وبست الجبال بسا فيه قولان .

    [ ص: 132 ] أحدهما: فتتت فتا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد . قال ابن قتيبة: فتتت حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس .

    والثاني: لتت، قاله قتادة . وقال الزجاج: خلطت ولتت . قال الشاعر:


    لا تخبزوا خبزا وبسا بسا


    وفي "الهباء" أقوال قد ذكرناها في [الفرقان: 23] . وذكر ابن قتيبة أن الهباء المنبث: ما سطع من سنابك الخيل، وهو من "الهبوة"، والهبوة: الغبار . والمعنى: كانت ترابا منتشرا .

    قوله تعالى: وكنتم أزواجا أي: أصنافا "ثلاثة" .

    "فأصحاب الميمنة " فيهم ثمانية أقوال .

    أحدها: [أنهم] الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت ذريته من صلبه، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، قاله الضحاك، والقرظي .

    والثالث: أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم، أي: مباركين، قاله الحسن، والربيع .

    والرابع: أنهم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، قاله زيد بن أسلم .

    والخامس: أنهم الذين منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران .

    والسادس: أنهم أهل الجنة، قاله السدي .

    والسابع: أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة، قاله الزجاج .

    [ ص: 133 ] والثامن: أنهم الذين يؤخذ [بهم] ذات اليمين إلى الجنة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

    قوله تعالى: ما أصحاب الميمنة قال الفراء: عجب نبيه صلى الله عليه وسلم منهم; والمعنى: أي شيء هم؟! قال الزجاج: وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب، ومجراه من الله عز وجل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم، ومثله: ما الحاقة [الحاقة: 2]، ما القارعة [القارعة: 2]; قال ابن قتيبة: ومثله أن يقول: زيد ما زيد! أي: أي رجل هو! وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة [أي: أصحاب] الشمال، والعرب تسمي اليد اليسرى: الشؤمى، والجانب الأيسر: الأشأم، ومنه قيل: اليمن والشؤم، فاليمن: كأنه [ما] جاء عن اليمين، والشؤم [ما جاء] عن الشمال، ومنه سميت "اليمن" و "الشأم" لأنها عن يمين الكعبة وشمالها . قال المفسرون: أصحاب الميمنة: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين، ويعطون كتبهم بأيمانهم; وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة سواء; والمعنى: أي قوم هم؟! ماذا أعد لهم من العذاب؟!

    قوله تعالى والسابقون السابقون فيهم خمسة أقوال .

    أحدها: أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أمة، قاله الحسن، وقتادة . والثاني: أنهم الذين صلوا [إلى] القبلتين، قاله ابن سيرين . والثالث: أهل القرآن، قاله كعب . والرابع: الأنبياء، قاله محمد بن كعب . والخامس: السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله، قاله عثمان بن أبي سودة .

    وفي إعادة ذكرهم قولان .








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #511
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
    الحلقة (511)
    صــ 134 إلى صــ 147





    [ ص: 134 ] أحدهما: أن ذلك للتوكيد .

    والثاني: أن المعنى: السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، ذكرهما الزجاج .

    قوله تعالى: أولئك المقربون قال أبو سليمان الدمشقي: يعني عند الله في ظل عرشه وجواره .

    ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما

    قوله تعالى ثلة من الأولين الثلة: الجماعة غير محصورة العدد .

    وفي الأولين والآخرين ها هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الأولين: الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، والآخرون: هذه الأمة .

    والثاني: [أن الأولين]: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخرين: التابعون .

    والثالث: أن الأولين [والآخرين: من] أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

    فعلى الأول يكون المعنى: إن الأولين السابقين جماعة من الأمم المتقدمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين نبينا وصدق به .

    [ ص: 135 ] وعلى الثاني: أن السابقين: جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل من التابعين وهم الذين اتبعوهم بإحسان .

    وعلى الثالث: أن السابقين: الأولون من المهاجرين والأنصار، وقليل ممن جاء بعدهم لعجز المتأخرين أن يلحقوا الأولين، فقليل منهم من يقاربهم في السبق .

    وأما "الموضونة" فقال ابن قتيبة: هي المنسوجة، كأن بعضها أدخل في بعض، أو نضد بعضها على بعض، ومنه قيل للدرع: موضونة، ومنه قيل: وضين الناقة، وهو بطان من سيور يدخل بعضه في بعض . قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الآجر موضون بعضه على بعض، أي: مشرج .

    وللمفسرين في معنى "موضونة" قولان .

    أحدهما: مرمولة بالذهب، رواه مجاهد عن ابن عباس . وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وهذا معنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة، وبه قال الأكثرون .

    والثاني: مصفوفة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الكهف: 30] إلى قوله: ولدان مخلدون الولدان: الغلمان . وقال الحسن البصري: هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع .

    وفي المخلدين قولان .

    أحدهما: أنه من الخلد; والمعنى: أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيرون، وهم على سن واحد . قال الفراء: والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط: أو لم تذهب أسنانه عن الكبر: إنه لمخلد، هذا قول الجمهور . [ ص: 136 ] والثاني: أنهم المقرطون، ويقال: المسورون، ذكره الفراء، وابن قتيبة، وأنشدوا في ذلك:


    ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان


    قوله تعالى: بأكواب وأباريق الكوب: إناء لا عروة له ولا خرطوم، وقد ذكرناه في [الزخرف: 72]; والأباريق: آنية لها عرى وخراطيم; وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الإبريق: فارسي معرب، وترجمته من الفارسية أحد شيئين، إما أن يكون: طريق الماء، أو: صب الماء على هينة، وقد تكلمت به العرب قديما، قال عدي بن زيد:


    ودعا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق


    وباقي الآيات في [الصافات: 46] .

    قوله تعالى: لا يصدعون عنها ولا ينزفون فيه قولان .

    أحدهما: لا يلحقهم الصداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا . و"عنها" كناية عن الكأس المذكور، والمراد بها: الخمر، وهذا قول الجمهور .

    والثاني: لا يتفرقون عنها، من قولك: صدعته فانصدع، حكاه ابن قتيبة . ولا "ينزفون" مفسر في [الصافات: 47] .

    [ ص: 137 ] قوله تعالى مما يتخيرون أي: يختارون، تقول: تخيرت الشيء: إذا أخذت خيره .

    قوله تعالى: ولحم طير قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى . وقال مغيث بن سمي: تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البخت، فإذا اشتهى الرجل طيرا دعاه، فيجيء حتى يقع على خوانه، فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر شواء، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب .

    قوله تعالى: وحور عين قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: "وحور عين" بالرفع فيهما . وقرأ أبو جعفر ، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالخفض فيهما . وقرأ أبي بن كعب ، وعائشة، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: "وحورا عينا" بالنصب فيهما . قال الزجاج: والذين رفعوا كرهوا الخفض، لأنه معطوف على قوله: يطوف عليهم ، قالوا: والحور ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء، لأن المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، فكذلك ينعمون بحور عين، والرفع أحسن، والمعنى: ولهم حور عين; ومن قرأ "وحورا عينا" حمله على المعنى، لأن المعنى: يعطون هذه الأشياء ويعطون حورا عينا، إلا أنها تخالف المصحف فتكره . ومعنى "كأمثال اللؤلؤ" أي: صفاؤهن وتلألؤهن كصفاء اللؤلؤ وتلألئه . والمكنون: الذي لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال، فهن كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه .

    [ ص: 138 ] "جزاء" منصوب مفعول له; والمعنى: يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر، لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون : يجازون جزاء بأعمالهم; وأكثر النحويين على هذا الوجه .

    وقوله تعالى: لا يسمعون فيها لغوا قد فسرنا معنى اللغو والسلام في سورة [مريم: 62] ومعنى التأثيم في [الطور: 23] ومعنى "ما أصحاب اليمين" في أول هذه السورة [الواقعة: 9] .

    فإن قيل: التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟

    فالجواب: أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، فيقولون: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يؤكل، إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل، قال الفراء: أنشدني بعض العرب:


    إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا


    قال:

    والعين لا تزجج إنما تكحل، فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف، وأنشدني آخر:


    ولقيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


    وأنشدني آخر:


    علفتها تبنا وماء باردا


    والماء لا يعلف وإنما يشرب، فجعله تابعا للتبن; قال الفراء: وهذا [هو] [ ص: 139 ] وجه قراءة من قرأ، "وحور عين" بالخفض، لإتباع آخر الكلام أوله، وهو وجه العربية .

    وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين

    وقد شرحنا معنى قوله: وأصحاب اليمين في قوله: فأصحاب الميمنة [الواقعة: 9] . وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أصحاب اليمين: أطفال المؤمنين .

    قوله تعالى: في سدر مخضود سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وج . وهو واد بالطائف مخصب . فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية، والضحاك .

    وفي المخضود ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الذي لا شوك فيه، رواه أبو طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقسامة بن زهير . قال ابن قتيبة: كأنه خضد شوكه، أي: قلع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: لا يخضد شوكها" .

    [ ص: 140 ] والثاني: أنه الموقر حملا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك .

    والثالث: أنه الموقر الذي لاشوك فيه، ذكره قتادة .

    وفي الطلح قولان .

    أحدهما: أنه الموز، قاله علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، [والحسن]، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة .

    والثاني: أنه شجر عظام كبار الشوك، قال أبو عبيدة: هذا هو الطلح عند العرب، قال الحادي:


    بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والجبالا


    فإن قيل: ما الفائدة في الطلح؟ .

    فالجواب أن له نورا وريحا طيبة، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا . وقال مجاهد: كانوا يعجبون بـ "وج" وظلاله من طلحه وسدره . فأما المنضود، فقال ابن قتيبة: هو الذي قد نضد بالحمل أو بالورق والحمل من أوله إلى آخره، فليس له ساق بارزة، وقال مسروق: شجر الجنة نضيد من أسفلها إلى أعلاها .

    قوله تعالى: وظل ممدود أي: دائم لا تنسخه الشمس .

    وماء مسكوب أي: جار غير منقطع .

    [ ص: 141 ] قوله تعالى: لا مقطوعة ولا ممنوعة فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا مقطوعة في حين دون حين، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير، إنما هي مطلقة لمن أرادها، هذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة . ولخصه بعضهم فقال: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان .

    والثاني: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمنع من أحد إذا أريدت، روي عن ابن عباس .

    والثالث: لا مقطوعة بالفناء، ولا ممنوعة بالفساد، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: وفرش مرفوعة فيها قولان .

    أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم . وفي رفعها قولان . أحدهما: [أنها] مرفوعة فوق السرر . والثاني: أن رفعها: زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها .

    والثاني: أن المراد بالفراش: النساء; والعرب تسمي المرأة: فراشا وإزارا ولباسا; وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال . أحدها: أنهن رفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا، والثاني: رفعن عن الأدناس . والثالث: في القلوب لشدة الميل إليهن .

    قوله تعالى إنا أنشأناهن إنشاء يعني النساء . قال ابن قتيبة: اكتفى بذكر الفرش لأنها محل النساء عن ذكرهن . وفي المشار إليهن قولان .

    أحدهما: أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات; ثم في إنشائهن قولان . أحدهما: أنه إنشاؤهن من القبور، قاله ابن عباس . والثاني: إعادتهن بعد الشمط والكبر أبكارا صغارا، قاله الضحاك .

    [ ص: 142 ] والثاني: أنهن الحور العين، وإنشاؤهن: إيجادهن عن غير ولادة، قاله الزجاج . والصواب أن يقال: إن الإنشاء عمهن كلهن، فالحور أنشئن ابتداء، والمؤمنات أنشئن بالإعادة وتغيير الصفات; وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا" .

    قوله تعالى: فجعلناهن أبكارا أي: عذارى . وقال ابن عباس: لا يأتيها زوجها إلا وجدها بكرا .

    قوله تعالى: عربا قرأ الجمهور: بضم الراء . وقرأ حمزة، وخلف: بإسكان الراء; قال ابن جرير: هي لغة تميم وبكر .

    وللمفسرين في معنى "عربا" خمسة أقوال .

    أحدها: أنهن المتحببات إلى أزواجهن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ، وابن قتيبة، والزجاج .

    والثاني: أنهن العواشق، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمبرد; وعن مجاهد كالقولين .

    والثالث: الحسنة التبعل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة .

    والرابع: الغنجات، قاله عكرمة . [ ص: 143 ] والخامسة: الحسنة الكلام، قاله ابن زيد .

    فأما الأتراب فقد ذكرناهن في [ص: 52] .

    قوله تعالى: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين هذا من نعت أصحاب اليمين . وفي الأولين والآخرين خلاف، وقد سبق شرحه [الواقعة: 13] . وقد زعم مقاتل أنه لما نزلت الآية الأولى، وهي قوله: وقليل من الآخرين وجد المؤمنون من ذلك وجدا شديدا حتى أنزلت وثلة من الآخرين فنسختها . وروي عن عروة بن رويم نحو هذا المعنى .

    قلت: وادعاء النسخ ها هنا لا وجه له لثلاثة أوجه .

    أحدها: أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا .

    والثاني: أن الكلام في الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، [فهو ها هنا لا وجه له] .

    والثالث: أن الثلة بمعنى الفرقة والفئة; قال الزجاج: اشتقاقهما من القطعة، والثل: الكسر والقطع . فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثلة في معنى القليل .

    وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين .

    [ ص: 144 ] قوله تعالى: ما أصحاب الشمال قد بينا أنه بمعنى التعجب من حالهم; والمعنى: ما لهم، وما أعد لهم من الشر؟! ثم بين لهم سوء منقلبهم فقال: "في سموم" قال ابن قتيبة: هو حر النار .

    قوله تعالى: وظل من يحموم قال ابن عباس: ظل من دخان . قال الفراء: اليحموم: الدخان الأسود، "لا بارد ولا كريم" فوجه الكلام الخفض تبعا لما قبله، ومثله "زيتونة لا شرقية ولا غربية" [النور: 35]، وكذلك قوله: وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ولو رفعت ما بعد "لا" كان صوابا، والعرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا ينوى [به] الذم، فتقول: ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، وما هذا بسمين ولا كريم .

    قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر .

    قوله تعالى: إنهم كانوا قبل ذلك أي: في الدنيا "مترفين" أي: متنعمين في ترك أمر الله، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبد .

    "وكانوا يصرون" أي: يقيمون "على الحنث" وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الشرك، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن زيد .

    والثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه، قاله مجاهد . وعن قتادة كالقولين .

    والثالث: أنه اليمين الغموس، قاله الشعبي .

    والرابع: الشرك والكفر بالبعث، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: أوآباؤنا الأولون قال أبو عبيدة: الواو متحركة لأنها ليست بواو "أو" إنما هي "وآباؤنا"، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة . وقرأ أهل المدينة، وابن عامر: "أو آباؤنا" بإسكان الواو .

    [ ص: 145 ] وقد سبق بيان ما لم يذكر ها هنا [هود: 103،الصافات: 62، الأنعام: 70 ] إلى قوله: فشاربون شرب الهيم قرأ أهل المدينة، وعاصم، وحمزة: "شرب" بضم الشين; والباقون بفتحها . قال الفراء: والعرب تقول: شربته شربا، وأكثر أهل نجد يقولون: شربا بالفتح، أنشدني عامتهم:


    تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويكفي شربه الغمر


    وزعم الكسائي أن قوما من بني سعد بن تميم يقولون: "شرب الهيم" بالكسر . وقال الزجاج: "الشرب" المصدر، و"الشرب" بالضم: الاسم، قال: وقد قيل: إنه مصدر أيضا .

    وفي "الهيم" قولان .

    أحدهما: الإبل العطاش، رواه ابن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة . قال ابن قتيبة: هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء، يقال: بعير أهيم، وناقة هيماء .

    والثاني: أنها الأرض الرملة التي لا تروى من الماء، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . قال أبو عبيدة: الهيم: ما لا يروى من رمل أو بعير .

    قوله تعالى: هذا نزلهم أي: رزقهم . ورواه عباس عن أبي عمرو: [ ص: 146 ] "نزلهم" بسكون الزاى، أي: رزقهم وطعامهم . وفى "الدين" قولان قد ذكرناهما في "الفاتحة" .

    نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون

    قوله تعالى: نحن خلقناكم أي: أوجدناكم ولم تكونوا شيئا، وأنتم تقرون بهذا "فلولا" أي: فهلا "تصدقون" بالبعث؟!

    ثم احتج على بعثهم بالقدرة على ابتدائهم فقال: أفرأيتم ما تمنون قال الزجاج: أي: ما يكون منكم من المني، يقال: أمنى الرجل يمني، ومنى يمني، فيجوز على هذا "تمنون" بفتح التاء إن ثبتت به رواية .

    قوله تعالى: أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أي: تخلقون ما تمنون بشرا؟! وفيه تنبيه على شيئين .

    أحدهما: الامتنان، إذ خلق من الماء المهين بشرا سويا .

    والثاني: أن من قدر على خلق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدر على خلق ما غاب عنكم من إعادتكم .

    قوله تعالى: نحن قدرنا بينكم الموت وقرأ ابن كثير: "قدرنا" بتخفيف الدال . وفي معنى الكلام قولان .

    أحدهما: قضينا عليكم بالموت .

    والثاني: سوينا بينكم في الموت "وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم" قال الزجاج: المعنى: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا [ ص: 147 ] سابق، ولا يفوتنا ذلك . وقال ابن قتيبة: لسنا مغلوبين على أن نستبدل بكم أمثالكم .

    قوله تعالى: وننشئكم في ما لا تعلمون وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم، قاله الحسن .

    والثاني: ننشئكم في حواصل طير سود تكون بـ "برهوت" كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب .

    والثالث: نخلقكم في أي خلق شئنا، قاله مجاهد .

    والرابع: نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي . قال مقاتل: نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصور .

    قوله تعالى: ولقد علمتم النشأة الأولى وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة فلولا تذكرون أي فهلا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقروا بالبعث





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #512
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
    الحلقة (512)
    صــ 148 إلى صــ 161





    أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم

    "أفرأيتم ما تحرثون" أي: ما تعملون في الأرض من إثارتها، وإلقاء [ ص: 148 ] البذور فيها، "أأنتم تزرعونه" أي: تنبتونه؟! وقد نبه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى، ومنها الامتنان بإخراج القوت، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد .

    قوله تعالى: لجعلناه يعني الزرع "حطاما" قال عطاء: تبنا لا قمح فيه . وقال الزجاج: أبطلناه حتى يكون محتطما لا حنطة فيه ولا شيء .

    قوله تعالى: فظلتم وقرأ الشعبي، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: "فظلتم" بكسر الظاء; وقد بيناه في قوله: ظلت عليه عاكفا [طه: 97] .

    قوله تعالى: تفكهون وقرأ أبي بن كعب ، وابن السميفع، والقاسم بن محمد، وعروة: "تفكنون" بالنون . وفي المعنى أربعة أقوال .

    أحدها: تعجبون، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل . قال الفراء: تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم .

    والثاني: تندمون، قاله الحسن، والزجاج . وعن قتادة كالقولين . قال ابن قتيبة: يقال: "تفكهون": تندمون، ومثلها: تفكنون، وهي لغة لعكل .

    والثالث: تتلاومون، قاله عكرمة .

    والرابع: تتفجعون، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: إنا لمغرمون قال الزجاج: أي: تقولون قد غرمنا وذهب زرعنا . وقال ابن قتيبة: "لمغرمون" أي: لمعذبون .

    [ ص: 149 ] قوله تعالى: بل نحن محرومون أي: حرمنا ما كنا نطلبه من الريع في الزرع . وقد نبه بهذا على أمرين .

    أحدهما: إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما .

    والثاني: قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع . فأما المزن، فهي السحاب، واحدتها: مزنة .

    وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: تورون قال أبو عبيدة: تستخرجون، من أوريت، وأكثر ما يقال: وريت . وقال ابن قتيبة: التي تستخرجون من الزنود . قال الزجاج: "تورون" أي: تقدحون، تقول: أوريت النار: إذا قدحتها .

    قوله تعالى: أأنتم أنشأتم شجرتها في المراد بشجرتها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الحديد، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أنها الشجرة التي تتخذ منها الزنود، وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج .

    والثالث: أن شجرتها: أصلها، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: نحن جعلناها تذكرة قال المفسرون: إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم، وما يخاف من عذابها، فاستجار بالله منها "ومتاعا" أي: منفعة "للمقوين" وفيهم أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم المسافرون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك .

    قال ابن قتيبة: سموا بذلك لنزلهم القوى، وهو القفر . وقال بعض العلماء: المسافرون أكثر حاجة إليها من المقيمين، لأنهم إذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال . [ ص: 150 ] والثاني: أنهم المسافرون والحاضرون، قاله مجاهد .

    والثالث: أنهم الجائعون، قال ابن زيد: المقوي: الجائع في كلام العرب .

    والرابع: أنهم الذين لا زاد معهم ولا مرد لهم، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم قال الزجاج: لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: "فسبح" أي: برئ الله ونزهه عما يقولون في وصفه . وقال الضحاك: معناه: فصل باسم ربك، أي: استفتح الصلاة بالتكبير . وقال ابن جرير: سبح بذكر ربك وتسميته . وقيل: الباء زائدة . والاسم يكون بمعنى الذات، والمعنى: فسبح ربك .

    فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله تعالى: فلا أقسم في "لا" قولان .

    أحدهما: أنها دخلت توكيدا . والمعنى: فأقسم، ومثله لئلا يعلم أهل الكتاب [الحشر: 29] قال الزجاج: وهو مذهب سعيد بن جبير .

    والثاني: أنها على أصلها . ثم في معناها قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى ما تقدم، ومعناها: النهي، تقدير الكلام: فلا تكذبوا، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج، قاله الماوردي .

    [ ص: 151 ] والثاني: أن "لا" رد لما يقوله الكفار في القرآن: إنه سحر، وشعر، وكهانة . ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم، قاله علي بن أحمد النيسابوري: وقرأ الحسن: " فلأقسم" بغير ألف بين اللام والهمزة .

    قوله تعالى: بمواقع وقرأ حمزة، والكسائي: "بموقع" على التوحيد . قال أبو علي: مواقعها مساقطها . ومن أفرد، فلأنه اسم جنس . ومن جمع، فلاختلاف ذلك . وفي "النجوم" قولان .

    أحدهما: نجوم السماء، قاله الأكثرون . فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال .

    أحدها: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن .

    والثاني: منازلها، قاله عطاء، وقتادة .

    والثالث: مغيبها في المغرب، قاله أبو عبيدة .

    والثاني: أنها نجوم القرآن، رواه ابن جبير عن ابن عباس . فعلى هذا سميت نجوما لنزولها متفرقة، ومواقعها: نزولها "وإنه لقسم" الهاء كناية عن القسم .

    وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه . ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى: إنه لقرآن كريم والكريم: اسم جامع لما يحمد، وذلك أن فيه البيان، والهدى، والحكمة، وهو معظم عند الله عز وجل .

    قوله تعالى: في كتاب فيه قولان .

    أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا، قاله مجاهد، وقتادة .

    وفي "المكنون" قولان .

    أحدهما: مستور عن الخلق، قاله مقاتل، وهذا على القول الأول .

    والثاني: مصون، قاله الزجاج . [ ص: 152 ] قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون من قال: إنه اللوح المحفوظ . فالمطهرون عنده: الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير . فعلى هذا يكون الكلام خبرا . ومن قال: هو المصحف، ففي المطهرين أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم المطهرون من الأحداث، قاله الجمهور . فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي .

    والثاني: المطهرون من الشرك، قاله ابن السائب .

    والثالث: المطهرون من الذنوب والخطايا، قاله الربيع بن أنس .

    والرابع: أن معنى الكلام: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، حكاه الفراء .

    [ ص: 153 ] قوله تعالى: تنزيل أي: هو تنزيل . والمعنى: هو منزل، فسمي المنزل تنزيلا في اتساع اللغة، كما تقول للمقدور: قدر، وللمخلوق: خلق .

    قوله تعالى: أفبهذا الحديث يعني: القرآن أنتم مدهنون فيه قولان .

    أحدهما: مكذبون، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء .

    والثاني: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد . قال أبو عبيدة: المدهن: المداهن، وكذلك قال ابن قتيبة "مدهنون" أي: مداهنون . يقال: أدهن في دينه، وداهن "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" روى مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر" . قالوا: هذه رحمة وضعها الله حيث شاء . وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، وكذا، فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ أنكم تكذبون . وروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل . فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم . "قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب . وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب" .

    [ ص: 154 ] وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الرزق ها هنا بمعنى الشكر . روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وتجعلون رزقكم" قال: "شكركم"، وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عباس . وكان علي يقرأ "وتجعلون شكركم" .

    والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، قاله الأكثرون . وذلك أنهم كانوا يمطرون، فيقولون: مطرنا بنوء كذا .

    والثالث: أن الرزق بمعنى الحظ . فالمعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، ذكره الثعلبي . وقرأ أبي بن كعب ، والمفضل عن عاصم "تكذبون" بفتح التاء، وإسكان الكاف، مخففة الذال .

    فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن [ ص: 155 ] كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم

    قوله تعالى: فلولا أي: فهلا "إذا بلغت الحلقوم" يعني: النفس، فترك ذكرها لدلالة الكلام، وأنشدوا من ذلك:


    إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر


    قوله تعالى: وأنتم يعني أهل الميت "تنظرون" إلى سلطان الله وأمره . والثاني: تنظرون إلى الإنسان في تلك الحالة، ولا تملكون له شيئا "ونحن أقرب إليه منكم" فيه قولان .

    أحدهما: ملك الموت أدنى إليه من أهله "ولكن لا تبصرون" الملائكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية ولكن لا تبصرون أي: لا تعلمون، والخطاب للكفار، ذكره الواحدي .

    قوله تعالى: غير مدينين فيه خمسة أقوال .

    أحدها: محاسبين، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وابن جبير، وعطاء، وعكرمة . والثاني: موقنين، قاله مجاهد . والثالث: [ ص: 156 ] مبعوثين، قاله قتادة . والرابع: مجزيين . ومنه يقال: دنته، وكما تدين تدان، قاله أبو عبيدة . والخامس: مملوكين أذلاء من قولك: دنت له بالطاعة، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: ترجعونها أي: تردون النفس . والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم، فهلا تردون هذه النفس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك، فاعلموا أن الأمر لغيركم .

    قال الفراء: وقوله تعالى: ترجعونها هو جواب لقوله تعالى: فلولا إذا بلغت الحلقوم ولقوله تعالى: فلولا إن كنتم غير مدينين فإنهما أجيبتا بجواب واحد . ومثله قوله تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم [البقرة: 38] ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال تعالى: فأما إن كان يعني: الذي بلغت نفسه الحلقوم من "المقربين" عند الله . قال أبو العالية: هم السابقون "فروح" أي: فله روح . والجمهور يفتحون الراء . وفي معناها ستة أقوال .

    أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: الراحة، رواه أبو طلحة عن ابن عباس . والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس . والرابع: الجنة، قاله مجاهد . والخامس: روح من الغم الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب . والسادس: روح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة . وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة، [ ص: 157 ] وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سريج عن الكسائي: "فروح" برفع الراء . وفي معنى هذه القراءة قولان .

    أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة .

    والثاني: فحياة وبقاء، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها . وفي "الريحان" أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الرزق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثاني: أنه المستراح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: أنه الجنة، قاله مجاهد، وقتادة .

    والرابع: أنه الريحان المشموم . وقال أبو العالية: لا يخرج أحد من [ ص: 158 ] المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة، فيشمه، ثم تقبض فيه روحه، وإلى نحو هذا ذهب الحسن . وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة، فتجعل روحه فيه .

    قوله تعالى: فسلام لك من أصحاب اليمين فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: فسلامة لك من العذاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين، قاله عطاء . والثالث: أن المعنى: أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة . وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وأما إن كان من المكذبين أي: بالبعث "الضالين" عن الهدى "فنزل" وقد بيناه في هذه السورة [الواقعة: 56] .

    قوله تعالى: إن هذا يعني: ما ذكر في هذه السورة لهو حق اليقين أي: هو اليقين حقا، فأضافه إلى نفسه، كقولك: صلاة الأولى، وصلاة العصر، ومثله: ولدار الآخرة [يوسف: 109] وقد سبق هذا المعنى وقال قوم: معناه: وإنه للمتقين حقا . وقيل للحق: اليقين .

    [ ص: 159 ] قوله تعالى: فسبح باسم ربك قد ذكرناه في هذه السورة [الواقعة: 74] .

    سُورَةُ الْحَدِيدِ

    وَفِيهَا قَوْلَانِ

    أحدهما: أنها مدنية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل .

    والثاني: أنها مكية، قاله ابن السائب .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور

    قوله تعالى سبح لله ما في السماوات والأرض أما تسبيح ما يعقل، فمعلوم، وتسبيح ما لا يعقل، قد ذكرنا معناه في قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء: 44] .

    [ ص: 161 ] قوله تعالى: هو الأول قال أبو سليمان الخطابي: هو السابق للأشياء "والآخر" الباقي بعد فناء الخلق "والظاهر" بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وشواهده الدالة على صحة وحدانيته . ويكون: الظاهر فوق كل شيء بقدرته . وقد يكون الظهور بمعنى العلو، ويكون بمعنى الغلبة . والباطن: هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية . وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين، وتجليه لبصائر المتفكرين . ويكون معناه: العالم بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب هو الذي خلق السماوات والأرض مفسر في [الأعراف: 54] إلى قوله تعالى: يعلم ما يلج في الأرض وهو مفسر في [سبإ: 2] إلى قوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم أي: بعلمه وقدرته . وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى: آمنوا بالله ورسوله [ ص: 162 ] قال المفسرون: هذا الخطاب لكفار قريش وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه يعني: المال الذي كان بأيدي غيرهم، فأهلكهم الله، وأعطى قريشا ذلك المال، فكانوا فيه خلفاء من مضى .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #513
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْحَدِيدِ
    الحلقة (513)
    صــ 162 إلى صــ 175



    آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم

    قوله تعالى: وما لكم لا تؤمنون بالله هذا استفهام إنكار، والمعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله وقد أخذ ميثاقكم قرأ أبو عمرو "أخذ" بالرفع . وقرأ الباقون "أخذ" بفتح الخاء "ميثاقكم" بالفتح .

    [ ص: 163 ] والمراد به: حين أخرجتم من ظهر آدم إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل .

    قوله تعالى: هو الذي ينزل على عبده يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم "آيات بينات" يعني القرآن ليخرجكم من الظلمات يعني الشرك "إلى" نور الإيمان وإن الله بكم لرءوف رحيم حين بعث الرسول ونصب الأدلة . ثم حثهم على الإنفاق فقال: وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض أي: أي شيء لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز وجل وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وفيه قولان .

    أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس، والجمهور .

    والثاني: أنه فتح الحديبية، قاله الشعبي . والمعنى: لا يستوي من أنفق قبل ذلك "وقاتل" ومن فعل ذلك بعد الفتح . قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق . أولئك أعظم درجة قال ابن عباس: أعظم [ ص: 164 ] منزلة عند الله . قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها . قال الزجاج: لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ، ونالهم من المشقة أكثر وكلا وعد الله الحسنى أي: وكلا الفريقين وعده الله الجنة . وقرأ ابن عامر "وكل" بالرفع .

    قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له قرأ ابن كثير، وابن عامر "فيضعفه" مشددة بغير ألف، إلا أن ابن كثير يضم الفاء، وابن عامر يفتحها . وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي "فيضاعفه" بالألف وضم الفاء، وافقهم عاصم، إلا أنه فتح الفاء . قال أبو علي: يضاعف ويضعف بمعنى واحد، إلا أن الرفع في "يضاعف" هو الوجه، لأنه محمول على "يقرض" . أو على الانقطاع من الأول، كأنه [قال: ] فهو يضاعف . ويحمل قول الذي نصب على المعنى، لأنه إذا قال: من ذا الذي يقرض الله، معناه: أيقرض الله أحد قرضا فيضاعفه . والآية مفسرة في [البقرة: 245] والأجر الكريم: الجنة .

    [ ص: 165 ] يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير

    قوله تعالى: يسعى نورهم قال المفسرون: يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم . قال ابن مسعود: منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة، ويتقد أخرى . وفي قوله تعالى: وبأيمانهم قولان .

    أحدهما: أنه كتبهم يعطونها بأيمانهم، قاله الضحاك .

    والثاني: أنه نورهم يسعى، أي: يمضي بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم . والباء بمعنى: "في" . "وفي" بمعنى "عن"، هذا قول الفراء .

    قوله تعالى: بشراكم اليوم هذا قول الملائكة لهم .

    قوله تعالى: انظرونا نقتبس وقرأ حمزة: "أنظرونا" بقطع الهمزة، وفتحها، وكسر الظاء . قال المفسرون: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة، فيعطى المؤمنون النور، فيمشي المنافقون في نور المؤمنين، فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم "قيل: ارجعوا وراءكم" في القائل قولان .

    أحدهما: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس .

    [ ص: 166 ] والثاني: الملائكة، قاله مقاتل . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور، فيرجعون، فلا يرون شيئا .

    والثاني: ارجعوا فاعملوا عملا يجعله الله لكم نورا .

    والثالث: أن المعنى: لا نور لكم عندنا فضرب بينهم بسور قال ابن عباس: هو الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار باطنه فيه الرحمة وهي: الجنة "وظاهره" يعني: من وراء السور من قبله العذاب وهو جهنم . وقد ذهب قوم إلى أن هذا السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى: وادي جهنم، وبين الباب الذي يسمى: باب الرحمة، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب .

    قوله تعالى: ينادونهم أي: ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور: ألم نكن معكم أي: على دينكم نصلي بصلاتكم، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم قال الزجاج: استعملتموها في الفتنة . وقال غيره: آثمتموها بالنفاق "وتربصتم" فيه قولان .

    [ ص: 167 ] أحدهما: تربصتم بالتوبة .

    والثاني: تربصتم بمحمد الموت، وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح وارتبتم شككتم في الحق وغرتكم الأماني يعني: ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حتى جاء أمر الله وفيه قولان .

    أحدهما: أنه الموت .

    والثاني: إلقاؤهم في النار وغركم بالله الغرور أي: غركم الشطيان بحكم الله وإمهاله فاليوم لا يؤخذ منكم فدية وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر، ويعقوب "لا تؤخذ" بالتاء، أي: بدل وعوض عن عذابكم . وهذا خطاب للمنافقين، ولهذا قال تعالى: ولا من الذين كفروا

    قوله تعالى: هي مولاكم قال أبو عبيدة: أي: أولى بكم .

    ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون

    قوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

    أحدهما: أنها نزلت في المؤمنين . قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا .

    والثاني: ، أنها نزلت في المنافقين، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال [ ص: 168 ] مقاتل: سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا: حدثنا عن التوراة، فإن فيها العجائب، فنزلت هذه الآية . وقال الزجاج: نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع . فأما من كان وصفه الله عز وجل بالخشوع، والرقة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء . فعلى الأول: يكون الإيمان حقيقة . وعلى الثاني: يكون المعنى: "ألم يأن للذين آمنوا" بألسنتهم . قال ابن قتيبة: المعنى: ألم يحن، تقول: أنى الشيء: إذا حان .

    قوله تعالى: أن تخشع قلوبهم أي: ترق وتلين لذكر الله . المعنى: أنه يجب أن يورثهم الذكر خشوعا وما نزل من الحق قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي "وما نزل" بفتح النون، والزاي، مع تشديد الزاي . وقرأ نافع، وحفص، والمفضل عن عاصم "نزل" بفتح النون، وتخفيف الزاي . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم "نزل" برفع النون، وكسر الزاي، مع تشديدها . وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء "وما أنزل" بهمزة مفتوحة، وفتح الزاي . وقرأ أبو مجلز، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنه بضم الهمزة، وكسر الزاي . و"الحق" القرآن "ولا يكونوا" قرأ رويس عن يعقوب "لا تكونوا" بالتاء كالذين أوتوا الكتاب يعني: اليهود، والنصارى [ ص: 169 ] فطال عليهم الأمد وهو: الزمان . وقال ابن قتيبة: الأمد: الغاية . والمعنى: أنه بعد عهدهم بالأنبياء والصالحين فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السلام اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها أي: يخرج منها النبات بعد يبسها، فكذلك يقدر على إحياء الأموات قد بينا لكم الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته لعلكم تعقلون أي: لكي تتأملوا .

    إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

    قوله تعالى: إن المصدقين والمصدقات قرأ ابن كثير، وعاصم إلا حفصا بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون، بالتشديد على معنى الصدقة .

    [ ص: 170 ] قوله تعالى: أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم اختلفوا في نظم الآية على قولين .

    أحدهما: أن تمام الكلام عند قوله تعالى: أولئك هم الصديقون ثم ابتدأ فقال تعالى: والشهداء عند ربهم هذا قول ابن عباس، ومسروق والفراء في آخرين .

    والثاني: أنها على نظمها . والواو في "والشهداء" . واو النسق . ثم في معناها قولان .

    أحدهما: أن كل مؤمن صديق شهيد، قاله ابن مسعود، ومجاهد .

    والثاني: أنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة بن عبد المطلب، وطلحة، والزبير، وسعد، وزيد، قاله الضحاك . وفي الشهداء قولان .

    أحدهما: أنه جمع شاهد . ثم فيهم قولان . أحدهما: أنهم الأنبياء خاصة، [ ص: 171 ] قاله ابن عباس . والثاني: أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان لله، قاله مجاهد .

    والقول الثاني: أنه جمع شهيد، قاله الضحاك، ومقاتل .

    اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

    قوله تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا يعني: الحياة في هذه الدار "لعب ولهو" أي: غرور ينقضي عن قليل . وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه، لأن حياته تنقضي على لهو ولعب وتزين الدنيا، ويفاخر قرناءه وجيرانه، ويكاثرهم بالأموال والأولاد، فيجمع من غير حله، ويتطاول على أولياء الله بماله، وخدمه، وولده، فيفنى عمره في هذه الأشياء، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة . ثم بين لهذه الحياة شبها، فقال: كمثل غيث يعني: مطرا "أعجب الكفار" وهم الزراع، وسموا كفارا، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي: غطاه "نباته" أي: ما نبت من ذلك الغيث "ثم يهيج" أي ييبس "فتراه مصفرا" بعد خضرته وريه "ثم يكون حطاما" أي: يتحطم، وينكسر بعد يبسه . وشرح هذا المثل قد تقدم في "يونس" عند قوله تعالى: [ ص: 172 ] إنما مثل الحياة الدنيا [آية: 24]، وفي "الكهف" عند قوله تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا [آية: 45] .

    قوله تعالى: وفي الآخرة عذاب شديد أي: لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته . وما بعد هذا مذكور في [آل عمران: 185] إلى قوله: ذلك فضل الله فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله .

    ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد [ ص: 173 ] قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار ولا في أنفسكم من الأمراض، وفقد الأولاد إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ من قبل أن نبرأها أن نخلقها، يعني: الأنفس إن ذلك على الله يسير أي: إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل لكيلا تأسوا أي: تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم وقرأ أبو عمرو- إلا اختيار اليزيدي - بالقصر على معنى: جاءكم من الدنيا . وقرأ الباقون بالمد على معنى: أعطاكم الله منها . وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بد أن يصيبه قل حزنه وفرحه . وقد روى قتيبة بن سعيد قال: دخلت بعض أحياء العرب، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلها قد مات، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تل يغزل الصوف، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي، قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها، قلت: فهل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم، قلت:


    لا والذي أنا عبد في عبادته والمرء في الدهر نصب الرزء والحزن

    ما سرني أن إبلي في مباركها
    وما جرى في قضا رب الورى يكن


    وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة [النساء: 37] والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل ها هنا إلى قوله: ومن يتول أي: عن الإيمان فإن الله هو الغني عن عباده "الحميد" إلى أوليائه . وقد سبق معنى الاسمين في [البقرة 267] [ ص: 174 ] وقرأ نافع وابن عامر "فإن الله الغني الحميد" ليس فيها "هو" وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والشام .

    لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز

    قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات أي: بالآيات والحجج وأنزلنا معهم الكتاب ببيان الشرائع، والأحكام . وفي "الميزان" قولان .

    أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة .

    والثاني: أنه الذي يوزن به، قاله ابن زيد ومقاتل . فعلى القول الأول يكون المعنى: وأمرنا بالعدل . وعلى الثاني: ووضعنا الميزان، أي: أمرنا به ليقوم الناس بالقسط أي: لكي يقوموا بالعدل .

    قوله تعالى: وأنزلنا الحديد فيه قولان .

    أحدهما: أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان، والكلبتين، والمطرقة، قاله ابن عباس .

    والثاني: أن معنى "أنزلنا" أنشأنا وخلقنا، كقوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [الزمر: 6] .

    قوله تعالى: فيه بأس شديد قال الزجاج: وذلك أنه يمتنع به، ويحارب به ومنافع للناس في أدواتهم، وما ينتفعون به من آنية وغيرها .

    [ ص: 175 ] قوله تعالى: وليعلم الله هذا معطوف على قوله تعالى: ليقوم الناس والمعنى: ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله "من ينصره" بالقتال في سبيله، ونصرة دينه، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك . وقد سبق معنى قوله تعالى: وليعلم الله في مواضع . وقوله تعالى: بالغيب أي: ولم ير الله، ولا أحكام الآخرة، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #514
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ المجادلة
    الحلقة (514)
    صــ 176 إلى صــ 189






    ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون

    قوله تعالى: وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب يعني: الكتب "فمنهم" يعني: من الذرية مهتد وكثير منهم فاسقون فيه قولان .

    أحدهما: كافرون، قاله ابن عباس . والثاني عاصون قاله مقاتل .

    قوله تعالى: ثم قفينا على آثارهم أي: أتبعنا على آثار نوح، وإبراهيم، وذريتهما "بعيسى" وكان آخر أنبياء بني إسرائيل، وجعلنا في قلوب الذين [ ص: 176 ] اتبعوه يعني: الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه "رأفة" وقد سبق بيانها [النور: 2] متوادين، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: رحماء بينهم [الفتح: 29] .

    قوله تعالى: ورهبانية ابتدعوها ليس هذا معطوفا على ما قبله، وإنما انتصب بفعل مضمر، يدل عليه ما بعده، تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أي: جاؤوا بها من قبل أنفسهم، وهي غلوهم في العبادة، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح ، والتعبد في الجبال ما كتبناها عليهم أي: ما فرضناها عليهم . وفي قوله تعالى: إلا ابتغاء رضوان الله قولان .

    أحدهما: أنه يرجع إلى قوله تعالى ابتدعوها وتقديره: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ذكره علي بن عيسى، والرماني عن قتادة، وزيد بن أسلم .

    والثاني: أنه راجع إلى قوله تعالى: ما كتبناها ثم في معنى الكلام قولان أحدهما: ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعا إلا ابتغاء رضوان الله . قال الحسن: تطوعوا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم . وقال الزجاج: لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إتمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه، لزمه أن يتمه . قال القاضي أبو يعلى: والابتداع قد يكون بالقول، [ ص: 177 ] وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه . وعموم الآية تتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة، قولا، أو فعلا، فعليه رعايتها وإتمامها . والثاني: أن المعنى: ما أمرناهم منها إلا بما يرضي الله عز وجل، لا غير ذلك، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: فما رعوها حق رعايتها في المشار إليهم قولان .

    أحدهما: أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية، قاله الجمهور . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم ما رعوها لتبديل دينهم وتغييرهم له، قاله عطية العوفي . والثاني: لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم . والثالث: لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث، ذكر القولين الزجاج .

    والثاني: أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم، ما رعوها بسلوك طريق أوليهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    قوله تعالى: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم فيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يؤمنوا به .

    والثاني: أن الذين آمنوا: المؤمنون بعيسى، والفاسقون: المشركون .

    والثالث: أن الذين آمنوا: مبتدعو الرهبانية، والفاسقون: متبعوهم على غير القانون الصحيح .

    [ ص: 178 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى . والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم "يؤتكم كفلين" أي: نصيبين، وحظين "من رحمته" قال الزجاج: الكفل: كساء يمنع الراكب أن يسقط، فالمعنى: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي . وقد بينا معنى "الكفل" في سورة [النساء: 85] وفي المراد بالكفلين ها هنا قولان .

    أحدهما: لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء، والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس .

    والثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا، والثاني: أجر الآخرة، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: ويجعل لكم نورا فيه أربعة أقوال . [ ص: 179 ] أحدها: القرآن، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: نورا تمشون به على الصراط . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: الهدى، قاله مجاهد . والرابع: الإيمان، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى: لئلا يعلم "لا" زائدة . قاله الفراء: والعرب تجعل "لا" صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد . فهذا مما جعل في آخره جحد . والمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد ألا يقدرون أي: أنهم لا يقدرون "على شيء من فضل الله" والمعنى: أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فآتاه المؤمنين . هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مسلمة أهل الكتاب الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله تعالى: أولئك يؤتون أجرهم مرتين [القصص: 52 -54] افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هاتان الآيتان، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل . فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين، ويكون المعنى: يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم، فإنه فضلكم على جميع الخلائق . وقال قتادة: لما نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله . . . الآية . حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب الآية .

    سورة المجادلة

    وهي مدنية في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والجمهور . وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدني، والباقي مكي . وعن ابن السائب: أنها مدنية سوى آية، وهي قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير

    قوله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها أما سبب نزولها، فروي عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات . [ ص: 181 ] فأما تفسيرها، فقوله تعالى: قد سمع الله قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين، لأنهما من حروف طرف اللسان، وإظهار الدال جائز، لأنه وإن قرب من مخرج السين، فله حيز على حدة، ومن موضع الدال الطاء والتاء، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد، والسين والزاي والصاد من موضع واحد، وهي تسمى: حروف الصفير . وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال .

    أحدها: خولة بنت ثعلبة، رواه مجاهد، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، والقرظي .

    والثاني: خولة بنت خويلد، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث: خولة بنت الصامت، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والرابع: خولة بنت الدليج، قاله أبو العالية . واسم زوجها: أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار .

    قال ابن عباس: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات . فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كلما قال لها: قد حرمت عليه تقول: والله ما ذكر طلاقا، فقال: ما أوحي إلي في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله . وتشتكي بمعنى: تشكو . يقال: اشتكيت ما بي، وشكوته . وقالت: إن لي [ ص: 182 ] صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا . فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام . قال عنترة في فرسه:


    لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي

    الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم

    قوله تعالى: الذين يظاهرون منكم من نسائهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو "يظهرون" بفتح الياء، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح الياء، وتشديد الظاء، وبألف، وتخفيف الهاء . وقرأ عاصم "يظاهرون" بضم الياء، وتخفيف الظاء والهاء، وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف . وقرأ ابن مسعود "يتظاهرون" بياء، وتاء، وألف . وقرأ أبي بن كعب "يتظهرون" بياء، وتاء، وتخفيف الياء، وتشديد الهاء من غير ألف . وقرأ الحسن، وقتادة، والضحاك "يظهرون" بفتح الياء، وفتح الظاء، مخففة، مكسورة الهاء مشددة . والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا ما هن أمهاتهم قرأ الأكثرون بكسر التاء . وروى المفضل عن عاصم رفعها . والمعنى: ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم إن أمهاتهم [ ص: 183 ] أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم قال الفراء: وانتصاب "الأمهات" ها هنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله "ما هن بأمهاتهم"، ومثله: ما هذا بشرا [يوسف: 31]، المعنى: ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقي أثرها، وهو: النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز . فأما أهل نجد، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا، وقالوا: "ما هن أمهاتهم" و"ما هذا بشر" أنشدني بعض العرب:



    ركاب حسيل آخر الصيف بدن وناقة عمرو ما يحل لها رحل

    ويزعم حسل أنه فرع قومه
    وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل


    قوله تعالى: وإنهم يعني: المظاهرين ليقولون منكرا من القول لتشبيههم الزوجات بالأمهات، والأمهات محرمات على التأبيد، بخلاف الزوجات . وزورا أي: كذبا وإن الله لعفو غفور إذ شرع الكفارة لذلك .

    قوله تعالى: ثم يعودون لما قالوا اللام في "لما" بمعنى "إلى" والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء . قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا . وقال سعيد بن جبير : المعنى: يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرموه على [ ص: 184 ] أنفسهم . وقال الحسن، وطاووس، والزهري: العود: هو الوطء . وهذا يرجع إلى ما قلناه . وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها . فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وإن سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة . وقال داود: هو إعادة اللفظ ثانيا، لأن ظاهر قوله تعالى: " يعودون " يدل على تكرير اللفظ . قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة . وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل، وسميت الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها قال الهذلي:


    وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل


    وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: وإلى الله ترجع الأمور [البقرة: 210] قال ابن قتيبة: من توهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية، فليس بشيء، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد . وإنما تأويل الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في [ ص: 185 ] الجاهلية، وأنزل قوله تعالى: والذين يظاهرون من نسائهم يريد في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا في الإسلام، أي: يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام، فتحرير رقبة قال المفسرون: المعنى: فعليهم، أو فكفارتهم تحرير رقبة، أي: عتقها . وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان .

    قوله تعالى: من قبل أن يتماسا وهو كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا: هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان . وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية " والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم " .

    [ ص: 186 ]

    فصل

    إذا وطئ المظاهر قبل أن يكفر أثم، واستقرت الكفارة . وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة . واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيب، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان . فإن قال: أنت علي كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضي اليوم، هذا قول أصحابنا، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي . وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبدا .

    واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من أمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي . وقال سعيد بن جبير ، وطاووس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار . ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته، لكن تلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفارة الظهار .

    واختلفوا فيمن ظاهر مرارا، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا: يلزمه كفارة واحدة سواء كان في مجلس، أو في مجالس، ما لم يكفر، وهذا قول مالك .

    قوله تعالى: ذلكم توعظون به قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به . والمعنى: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار .

    [ ص: 187 ] قوله تعالى: فمن لم يجد يعني: الرقبة فصيام شهرين أي: فعليه صيام شهرين ( متتابعين فمن لم يستطع ) الصيام "فـ" كفارته " إطعام ستين مسكينا ذلك " أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لتؤمنوا بالله ورسوله أي: تصدقوا بأن الله أمر بذلك، وتصدقوا بما أتى به الرسول وتلك حدود الله يعني: ما وصفه الله من الكفارات في الظهار وللكافرين عذاب أليم قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به .

    إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم

    قوله تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله قد ذكرنا معنى المحادة في [التوبة: 63] ومعنى "كبتوا" في "آل عمران" عند قوله تعالى: أو يكبتهم [آية: 127] . وقال ابن عباس: أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل .

    قوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا أي: من قبورهم فينبئهم بما عملوا من معاصيه، وتضييع فرائضه "أحصاه الله" أي: حفظه الله عليهم "ونسوه والله على كل شيء" من أعمالهم في السر والعلانية "شهيد" ألم تر أي: ألم تعلم .

    قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة وقرأ أبو جعفر "ما تكون" بالتاء . قال ابن قتيبة: النجوى: السرار . وقال الزجاج: ما يكون من خلوة [ ص: 188 ] ثلاثة يسرون شيئا، ويتناجون به "إلا هو رابعهم" أي: عالم به . "ونجوى" مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع . وقرأ يعقوب "ولا أكثر" بالرفع . وقال الضحاك: "إلا هو معهم" أي: علمه معهم .

    ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

    قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدم أصحابهم . فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس .

    والثاني: نزلت في اليهود، قاله مجاهد . قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم، فيظن [ ص: 189 ] المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية . وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين . والنجوى: بمعنى المناجاة "ثم يعودون" إلى المناجاة التي نهوا عنها "ويتناجون" قرأ حمزة، ويعقوب إلا زيدا، وروحا "ويتنجون" وقرأ الباقون "ويتناجون" بألف . وفي معنى تناجيهم "بالإثم والعدوان" وجهان .

    أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول .

    والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول .

    قوله تعالى: وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

    أحدهما: نزلت في اليهود . قالت عائشة رضي الله عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله: ترى ما يقولون؟ فقال: ألست تريني أرد عليهم ما يقولون . وأقول: وعليكم، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك . قال الزجاج: والسام: الموت .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #515
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ المجادلة
    الحلقة (515)
    صــ 190 إلى صــ 204






    والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس .

    قال المفسرون: ومعنى "حيوك" سلموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون: سام عليك . فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول .

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فيها قولان .

    أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل .

    والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى: أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزجاج .

    قوله تعالى: تتناجوا هكذا قرأ الجماعة بألف . وقرأ يعقوب وحده "فلا تتنجوا" . فأما "البر" فقال مقاتل: هو الطاعة، "والتقوى" ترك المعصية . وقال أبو سليمان الدمشقي" "البر" الصدق، و"التقوى" ترك الكذب . ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون، من الشيطان ، فقال تعالى: إنما النجوى من الشيطان أي: من تزيينه، والمعنى: إنما يزين لهم ذلك ليحزن الذين آمنوا وقد بينا اتقاء ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى وليس بضارهم شيئا أي: وليس الشيطان بضار المؤمنين شيئا إلا بإذن الله أي: بإرادته وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي: فليكلوا أمورهم إليه .

    [ ص: 191 ] يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير

    قوله تعالى: ( إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس ) وقرأ عاصم في "المجالس" على الجمع، وذلك لأن كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه . قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صفة ضيقة في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس، فسلموا وانتظروا أن يوسعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضنوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . قال المفسرون: ومعنى "تفسحوا" توسعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متضايقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده، فأمرهم أن يوسعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظ منه، ويظهر فضيلة المقربين إليه من أهل بدر وغيرهم .

    وفي المراد "بالمجلس" ها هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه مجلس الحرب، ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في [ ص: 192 ] الصف، فيقول لهم: توسعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والقرظي .

    والثاني: أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد . وقال قتادة: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة .

    والثالث: مجالس الذكر كلها، روي عن قتادة أيضا . وقرأ علي ابن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، وعكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، والأعمش: "تفسحوا في المجالس" بألف على الجمع .

    قوله تعالى: يفسح الله لكم أي: يوسع الله لكم الجنة، والمجالس فيها . وإذا قيل انشزوا قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم "انشزوا فانشزوا" برفع الشين . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بكسر الشين فيهما . ومعنى "انشزوا" قوموا . قال الفراء: وهما لغتان . وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال .

    أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك .

    والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن .

    والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد .

    [ ص: 193 ] والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهدا به، فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد .

    والخامس: أن المعنى: قوموا وتحركوا وتوسعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي .

    قوله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من الإيمان "و"يرفع "الذين أوتوا العلم" على من ليس بعالم . وهل هذا الرفع في الدنيا . أم في الآخرة؟ فيه وجهان .

    أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة . والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم . وكان [ ص: 194 ] ابن مسعود يقول: أيها الناس: افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات .

    يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون

    قوله تعالى: إذا ناجيتم الرسول في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل هذه الآية، قاله ابن عباس . [ ص: 195 ] والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيان، وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدم أحد من أهل الميسرة صدقة غير علي بن أبي طالب .

    وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي آية النجوى . كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت درهما، فنسختها الآية الأخرى أأشفقتم أن تقدموا . . . الآية .

    قوله تعالى: ذلك خير لكم وأطهر أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم لما فيه من طاعة الله، وأطهر لذنوبكم فإن لم تجدوا يعني: الفقراء فإن الله غفور رحيم إذ عفا عمن لا يجد .

    قوله تعالى أأشفقتم أي: خفتم بالصدقة الفاقة وتاب الله عليكم أي: فتجاوز عنكم، وخفف بنسخ إيجاب الصدقة . قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال . قال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار .

    ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء [ ص: 196 ] ألا إنهم هم الكاذبون . استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون

    قوله تعالى: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين . وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوما، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فعلت" فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآيات . وروى الحاكم أبو عبد الله في "صحيحه" من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله، واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون . . . الآية .

    فأما التفسير، فالذين تولوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود ما هم منكم يعني: المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود ويحلفون على الكذب وهو ما ذكرنا في سبب نزولها . وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تولوا اليهود وهم يعلمون أنهم كذبة اتخذوا أيمانهم [ ص: 197 ] جنة أي: سترة يتقون بها القتل . قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين، فصدوا عن سبيل الله فيه قولان .

    أحدهما: صدوا الناس عن دين الإسلام قاله السدي .

    والثاني: صدوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم .

    قوله تعالى: فيحلفون له قال مقاتل، وقتادة: يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ويحسبون أنهم على شيء من أيمانهم الكاذبة ألا إنهم هم الكاذبون في قولهم وأيمانهم .

    قوله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة [النساء] عند قوله تعالى: نستحوذ عليكم [آية: 141]، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: أولئك في الأذلين أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذل، وفي الآخرة خزي .

    إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون

    قوله تعالى: كتب الله أي: قضى الله لأغلبن أنا ورسلي وفتح الياء نافع، وابن عامر . [ ص: 198 ] قال المفسرون: من بعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إن الله قوي عزيز أي: مانع حزبه من أن يذل .

    قوله تعالى: لا تجد قوما . . . الآية . اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .

    أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرعلة الأولى، فقال: متعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن حمنة يوم أحد، وفي عمرو قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود .

    والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر الصديق صكة شديدة سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو فعلته"؟ قال: نعم . قال: فلا تعد إليه، فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج . [ ص: 199 ] والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله، فشرب رسول الله ماء، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال وما تصنع بها؟ قال: أسقيها أبي، لعل الله سبحانه يطهر قلبه، ففعل، فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك، فقال: هلا جئتني ببول أمك! فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: ائذن لي في قتل أبي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفق به، وأحسن إليه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي .

    والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج .

    وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته .

    قوله تعالى: أولئك الذين، يعني: الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله كتب في قلوبهم الإيمان وقرأ المفضل عن عاصم "كتب" برفع الكاف والنون من "الإيمان" . وفي معنى "كتب" خمسة أقوال .

    أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس .

    والثاني: جعل، قاله مقاتل .

    والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي . والرابع: حكم لهم بالإيمان . وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي . [ ص: 200 ] والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي .

    قوله تعالى: وأيدهم أي: قواهم بروح منه وفي المراد بالروح ها هنا خمسة أقوال .

    أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس، والحسن . فعلى هذا سمي النصر روحا، لأن أمرهم يحيا به . والثاني: الإيمان، قاله السدي . والثالث: القرآن، قاله الربيع . والرابع: الرحمة، قاله مقاتل . والخامس: جبريل عليه السلام أيدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي . فأما حزب الله فقال الزجاج: هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم وارتضاهم، و"ألا" كلمة تنبيه وتوكيد للقصة .

    سُورَةُ الْحَشْرِ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير . وكان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وهذه الإشارة إلى قصتهم .

    ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، [ ص: 202 ] فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجلتكم عشرا . فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حيي فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه قاموا، على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله، فأخبر الله رسوله بذلك، فبعث محمد بن مسلمة فاغتره فقتله، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا .

    فأما التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السورة في [الحديد: 1] [ ص: 203 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [ ص: 204 ] قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب يعني: يهود بني النضير من ديارهم أي: من منازلهم لأول الحشر فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم أول من حشر وأخرج من داره، قاله ابن عباس . وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب .

    والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن . قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر .

    والثالث: أن هذا كان أول حشرهم . والحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #516
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْحَشْرِ
    الحلقة (516)
    صــ 205 إلى صــ 219





    أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتسع [ ص: 206 ] لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إلى ما يليها، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك .

    والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، فيستحسنونه، فيهدمون البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري .

    والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم، وبغيا، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و " الأبصار " العقول . والمعنى: تدبروا ما نزل بهمولولا أن كتب الله أي: قضى عليهم الجلاء وهو خروجهم من أوطانهم . وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين .

    أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد .

    والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة . والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة . والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة ولهم في الآخرة مع ما حل بهم في الدنيا عذاب النار، ذلك الذي أصابهم بأنهم شاقوا الله وقد سبق بيان الآية [الأنفال: 13] و[محمد: 32] . قال القاضي أبو يعلى: فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، [ ص: 207 ] ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية . وإنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز له حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم . وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة، وترك لهم ما أقلت الإبل، وذلك مجهول .

    قوله تعالى: ما قطعتم من لينة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر . وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم، وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم . واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، [ ص: 208 ] والثاني: أنه النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثالث: أنه ألوان النخل كلها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقال الزجاج: أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة . وأصل "لينة" لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .

    والرابع: أنها النخل كله، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد . قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل .

    والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان . والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديد الصفرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب ثمرهم إليهم، قاله مقاتل . وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات، قاله الضحاك . والثاني: أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة قاله ابن إسحاق . والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: فبإذن الله قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله .

    قوله تعالى: وليخزي الفاسقين يعني اليهود . وخزيهم: أن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا . والمعنى: وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فبإذن الله .

    [ ص: 209 ] وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم

    قوله تعالى: وما أفاء الله على رسوله أي: ما رد عليهم منهم يعني: من بني النضير فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب قال أبو عبيدة: الإيجاف . الإيضاع، والركاب: الإبل . قال ابن قتيبة: يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير . وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .

    قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس أموال بني النضير لما أجلوا، فنزلت هذه الآية تبين أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت [ ص: 210 ] بهم حاجة، وهم: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة . ثم ذكر حكم الفيء فقال تعالى: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي: من أموال كفار أهل القرى فلله أي: يأمركم فيه بما أحب، ولرسوله بتحليل الله إياه . وقد ذكرنا ذوي القربى واليتامى في [الأنفال: 41] وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة .

    فصل

    واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم: أن المراد بالفيء ها هنا: الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدو الإسلام للذين سماهم الله ها هنا دون الغالبين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في [الأنفال: 41] واعلموا أنما غنمتم من شيء . . . الآية، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان . وذهب قوم إلى أن هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية .

    واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما بينا في [الأنفال: 41] فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيء والتي في [الأنفال: 41] مثبتة لحكم الغنيمة فلا يتوجه النسخ . [ ص: 211 ] قوله تعالى: كي لا يكون يعني: الفيء "دولة" وهو اسم للشيء يتداوله القوم . والمعنى: لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه . قال الزجاج: الدولة: اسم الشيء يتداول . والدولة، بالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال وما آتاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن أخذه فانتهوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه . قال الزجاج: ثم بين من المساكين الذين لهم الحق؟، فقال تعالى: للفقراء [ ص: 212 ] المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم قال المفسرون: يعني بهم المهاجرين يبتغون فضلا من الله أي: رزقا يأتيهم ورضوانا رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أولئك هم الصادقون في إيمانهم . ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، فقال تعالى: والذين تبوءوا الدار يعني: دار الهجرة، وهي المدينة والإيمان من قبلهم فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوؤوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على "الدار" في الظاهر، لا في المعنى، لأن "الإيمان" ليس بمكان يتبوأ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين . وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة يحبون من هاجر إليهم وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم ولا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدا وغيظا مما أوتي المهاجرون .

    وفيما أوتوه قولان .

    أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن . وقد ذكرنا آنفا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر . [ ص: 213 ] والثاني: الفضل والتقدم، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ولو كان بهم خصاصة أي: فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى . وفي سبب نزول هذا الكلام قولان .

    أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله: إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكن شيء؟ فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمك هذه الليلة . ثم قال: "من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟" فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا، ثم أصبحي سراجك، فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله [ ص: 214 ] صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، وظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويين، فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما، فأنزل الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . . . الآية . أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة: أن الضيف كان من أهل الصفة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد عجب من فعالكما أهل السماء" .

    والثاني: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر . وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك [ ص: 215 ] قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي، وكان مجهودا، فوجه به إلى جار له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية . قوله تعالى: ومن يوق شح نفسه وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء ومن يوق بتشديد القاف . قال المفسرون: هو أن لا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه . والمعنى: أن الأنصار ممن وقي شح نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين .

    فصل

    وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشح في كلام العرب: هو منع الفضل من المال . وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشح بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل: إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة . وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يضن بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه . وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: ومن يوق [ ص: 216 ] شح نفسه وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشح: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة" .

    قوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم يعني التابعين إلى يوم القيامة . قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: ربنا اغفر لنا ولإخواننا فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غل لهم، فله حظ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحم عليهم، وكان في قلبه غل لهم، فما جعل الله له حقا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب . وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات .

    [ ص: 217 ] ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين

    قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه يقولون لإخوانهم في الدين، لأنهم كفار مثلهم، وهم اليهود لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أي: في خذلانكم أحدا أبدا فكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: والله يشهد إنهم لكاذبون ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى ولئن نصروهم لئن قدر وجود نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده . وقوله تعالى: ثم لا ينصرون يعني: بني النضير .

    قوله تعالى: لأنتم أشد يعني: المؤمنين أشد رهبة في صدورهم وفيهم قولان .

    [ ص: 218 ] أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل . والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

    قوله تعالى: لا يقاتلونكم جميعا فيهم قولان .

    أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون .

    والثاني: اليهود والمنافقون، قاله أبو سليمان الدمشقي . والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين في قرى محصنة أو من وراء جدر وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان "جدار" بألف . وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي "جدر" بضم الجيم والدال . وقرأ أبو بكر الصديق، وابن أبي عبلة "جدر" بفتح الجيم والدال جميعا، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري "جدر" بفتح الجيم وسكون الدال . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر "جدر" بضم الجيم وإسكان الدال بأسهم بينهم شديد فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله .

    قوله تعالى: تحسبهم جميعا فيهم قولان .

    أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل .

    والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

    قوله تعالى: وقلوبهم شتى قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه .

    قوله تعالى: ذلك يعني: ذلك الاختلاف بأنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم . ثم ضرب لليهود مثلا، فقال تعالى: كمثل الذين من قبلهم قريبا وفيه ثلاثة أقوال . [ ص: 219 ] أحدها: بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية . فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم .

    والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد . والمعنى: مثل هؤلاء اليهود كمثل المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر . والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مثل بني النضير كبني قريظة ذاقوا وبال أمرهم بأن قتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم في الآخرة . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال تعالى: كمثل الشيطان والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وفيه قولان .

    أحدهما: أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد .

    والثاني: أنه مثل ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #517
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْحَشْرِ
    الحلقة (517)
    صــ 220 إلى صــ 234





    ذكر أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفيني برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم [ ص: 220 ] يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعد إليه، فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيه، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دلنا، قال: انطلقوا إلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيعافون، فلما طال ذلك [ ص: 221 ] عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم . فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال: برصيصا ، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: إن قبلها، والا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا إليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده . وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال: له انزل إليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدقوه، وانصرفوا . وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعت إليكم، فتفرقوا ينظرون لها أثرا، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، و برصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال [ ص: 222 ] الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيوا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدو الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم قادوه إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحييت من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مت على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت إني بريء منك ثم قتل . فضرب الله هذا المثل لليهود حين غرهم المنافقون، ثم أسلموهم .

    [ ص: 223 ] قوله تعالى: إني أخاف الله ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء "إني" وأسكنها الباقون . وقد بينا المعنى في [الأنفال: 48] فكان عاقبتهما يعني: الشيطان وذلك الكافر .

    [ ص: 224 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون

    قوله تعالى: ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم؟ أعملا صالحا ينجيه؟ أم سيئا يوبقه؟ ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي: تركوا أمره فأنساهم أنفسهم أي: أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدموا خيرا . قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع .

    لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

    قوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته تمييزا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقق من خشية الله، وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن . و"الخاشع": المتطأطئ الخاضع، و"المتصدع": المتشقق . وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل، ويدلك على هذا المثل قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو قال الزجاج: قوله [ ص: 225 ] تعالى: هو الله رد على قوله تعالى: في أول السورة: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم

    فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر "الله"، و"الرحمن"، و"الرحيم" في [الفاتحة] وذكرنا معنى عالم الغيب والشهادة في [الأنعام: 73] . و الملك في سورة [المؤمنين: 116] .

    فأما "القدوس" فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف . قال أبو سليمان الخطابي: "القدوس": الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد والأولاد . و"القدس": الطهارة . ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب . وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا . والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فعول بضم الفاء إلا "قدوس" و"سبوح" وقد يقال أيضا: قدوس، وسبوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سفود، وكلوب .

    فأما "السلام" فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء . وقال الخطابي: معناه: ذو السلام . والسلام في صفة الله سبحانه: هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين . قال وقد قيل هو الذي سلم الخلق من ظلمه .

    فأما "المؤمن"، ففيه ستة أقوال .

    أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه، قاله ابن عباس، ومقاتل .

    والثاني: أنه المجير، قاله القرظي .

    [ ص: 226 ] والثالث: الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، قاله ابن زيد .

    والرابع: أنه الذي وحد نفسه، لقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران: 18] ذكره الزجاج .

    والخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده، قاله ابن قتيبة .

    والسادس: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يخيب آمالهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي" حكاه الخطابي .

    فأما "المهيمن" ففيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي . قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: ومهيمنا عليه [المائدة: 48]، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل .

    والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة . ولم يأت مفيعل في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف "مسيطر" و"مبيطر" و"مهيمن" وقد ذكرنا في سورة [الطور: 37] عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف .

    والثالث: المصدق فيما أخبر، قاله ابن زيد .

    والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل . قال الخطابي وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء; والرعاية له، وأنشد:


    ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر


    [ ص: 227 ] يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم . وقد زدنا هذا شرحا في [المائدة: 48] وبينا معنى "العزيز" في [البقرة: 129] .

    فأما "الجبار" ففيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي . وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء . وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه . يقال: جبره السلطان، وأجبره .

    والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق .

    والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي .

    فأما "المتكبر" ففيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء، قاله قتادة .

    والثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده، قاله الزجاج .

    [ ص: 228 ] والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري .

    والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق .

    والخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي . قال: والتاء في "المتكبر" تاء التفرد، والتخصص، لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل . وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق .

    وأما "الخالق" فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق: كقول زهير:


    ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري


    يقول: إذا قدرت شيئا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنى ما لا يبلغه . و"البارئ" الخالق . يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم . و"المصور": [ ص: 229 ] الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها . ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل . وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع "البارئ المصور" بفتح الواو والراء جميعا، يعني: آدم عليه السلام . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأعراف: 180،والإسراء: 110] إلى آخر السورة .

    سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ

    وَهِيَ مَدَنَيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير

    قوله تعالى: أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ذكرأهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها: "أمسلمة جئت؟" قالت: لا، قال: "فما جاء بك؟" قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجة شديدة، فقدمت إليكم لتعطوني . قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من شباب أهل مكة؟" وكانت مغنية، فقالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، [ ص: 231 ] فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، فكسوها، وحملوها، وأعطوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، [وكتب في الكتاب: من حاطب إلى أهل مكة] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، وعمارا، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا "روضة خاخ"، فإن فيها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخلوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها" فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئا فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا ضربت عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، فخلوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: "هل تعرف الكتاب؟" قال: نعم . قال: "فما حملك على ما صنعت؟" فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت [غريبا] فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدقه رسول الله [ ص: 232 ] صلى الله عليه وسلم وعذره، ونزلت هذه السورة تنهى حاطبا عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . وقد أخرج هذا الحديث في "الصحيحين" مختصرا، وفيه ذكر علي، وابن الزبير، وأبي مرثد فقط .

    قوله تعالى: تلقون إليهم بالمودة وفيه قولان .

    أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، ومثله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج: 25]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور .

    والثاني: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج .

    [ ص: 233 ] قوله تعالى: وقد كفروا الواو للحال، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن "يخرجون الرسول وإياكم" من مكة ( أن تؤمنوا بالله) "إن كنتم خرجتم" هذا شرط، جوابه متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير . قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .

    قوله تعالى: تسرون إليهم بالمودة الباء في "المودة" حكمها حكم الأولى . قال المفسرون: والمعنى: تسرون إليهم النصيحة وأنا أعلم بما أخفيتم من المودة للكفار وما أعلنتم أي: أظهرتم بألسنتكم . وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستسرون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!

    قوله تعالى: ومن يفعله منكم يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فقد ضل سواء السبيل أي: أخطأ طريق الهدى . ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى: إن يثقفوكم أي: يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء لا موالين ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسوء وهو: الشتم وودوا لو تكفرون فترجعون إلى دينهم . والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: لن تنفعكم أرحامكم أي: قراباتكم . والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يوم القيامة يفصل بينكم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: "يفصل" برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد . وقرأ ابن عامر" يفصل" برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد . وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها . وقرأ أبي بن كعب ، [ ص: 234 ] وابن عباس، وأبو العالية: ( نفصل ) بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة . وقرأ أبو رزين ، وعكرمة، والضحاك: ( نفصل ) بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده . قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم . وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقية، وإنما [قال] عمر; دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #518
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
    الحلقة (518)
    صــ 235 إلى صــ 249





    قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ ص: 235 ] قوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وقرأ عاصم: ( أسوة ) بضم الألف، وهما لغتان، أي: اقتداء حسن به وبمن معه . وفيهم قولان .

    أحدهما: أنهم الأنبياء .

    والثاني: المؤمنون إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم قال الفراء: تقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم

    قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه قال المفسرون: والمعنى: تأسوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسوا به في ذلك، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه وما أملك لك من الله من شيء أي: ما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: ربنا عليك توكلنا إلى قوله تعالى: العزيز الحكيم قال الفراء: قولوا أنتم: ربنا عليك توكلنا . وقد بينا معنى قوله تعالى: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا في [يونس] [آية: 85] .

    ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة فقال تعالى: لقد كان لكم فيهم أي: في إبراهيم ومن معه، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله . وقوله تعالى: لمن كان يرجو الله بدل من قوله تعالى: لكم وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخشى عقاب الآخرة .

    قوله تعالى ومن يتول أي: يعرض عن الإيمان ويوال الكفار فإن الله هو الغني عن خلقه "الحميد" إلى أوليائه . فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادوا أقرباءهم، فأنزل الله تعالى: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم أي: من كفار مكة "مودة" ففعل ذلك، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فانكسر أبو سفيان [ ص: 236 ] عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام والله قدير على جعل المودة والله غفور لهم رحيم بهم بعدما أسلموا .

    قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

    أحدها: أنها في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى . قدمت عليها المدينة بهدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها ، وتقبل هديتها، وتكرمها، وتحسن إليها، قاله عبد الله بن الزبير . والثاني: أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، قاله ابن عباس . وروي عن الحسن [ ص: 237 ] البصري أنها نزلت في خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناف، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فداموا على الوفاء به .

    والثالث: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، قاله عطية العوفي ومرة . والرابع: أنها عامة في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5]، قاله قتادة .

    والخامس: نزلت في النساء والصبيان، حكاه الزجاج .

    قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم .

    قوله تعالى: ولم يخرجوكم من دياركم أي: من مكة أن تبروهم وتقسطوا إليهم أي: تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم .

    قوله تعالى: وظاهروا على إخراجكم أي: عاونوا على ذلك أن تولوهم والمعنى: إنما ينهاكم عن أن تولوا هؤلاء، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة . وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف . قال ابن جرير: لا وجه لادعاء النسخ، لأن بر المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام . ويدل على ذلك حديث أسماء وأمها الذي سبق .

    يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم [ ص: 238 ] حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم . ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد: اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية . وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي [ ص: 239 ] معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنونني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله عز وجل العهد في النساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهن بحكم رضوه كلهم، ونزل في أم كلثوم فامتحنوهن فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها، يقول: والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله، وما خرجتن لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن .

    وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

    والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور .

    والثالث: أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني .

    قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ [ ص: 240 ] فقالت طائفة: قد كان شرط ردهن في لفظ الهدنة لفظا صريحا، فنسخ الله تعالى ردهن من العقد، ومنع منه، وأبقاها في الرجال على ما كان . وقالت طائفة: لم يشرط ردهن في العقد صريحا، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عز وجل خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين .

    أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم .

    والثاني: أنهن أرق قلوبا، وأسرع تقلبا منهم . فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم . وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإن لم يقع الفعل .

    قال المفسرون: والمراد بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي تولى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم . قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقن بمحمد . وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال . [ ص: 241 ] أحدها: أنه كان يمتحنهن بـ "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله" رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة .

    قوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فإن علمتموهن مؤمنات وذلك يعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردهن "إلى الكفار" [لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك "وآتوهم" يعني أزواجهن الكفار] ما أنفقوا يعني: المهر . قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم . فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وهي المهور . [ ص: 242 ]

    فصل

    عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها . فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي . وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين .

    قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( تمسكوا ) بضم التاء، والتخفيف . وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: ( تمسكوا ) بضم التاء، وبالتشديد . وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: ( تمسكوا ) بفتح التاء، والميم، والسين مشددة . و"الكوافر" جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن . وقال الزجاج: المعنى: أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عقد النكاح .

    وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه .

    قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وليسألوا ما أنفقوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر . والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم . [ ص: 243 ] قال أهل السير: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة .

    قوله تعالى: ذلكم حكم الله يعني ما ذكر في هذه الآية .

    فصل

    وذكر بعضهم في قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [المائدة: 5]، وهذا تخصيص لا نسخ .

    قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم . وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: ( فعقبتم ) بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها .

    وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، والأعمش مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة . قال الزجاج: المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم . وقرأ أبي بن كعب ، وعكرمة، ومجاهد: ( فأعقبتم ) بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة . وقرأ معاذ القارئ، وأبو عمران الجوني: ( فعقبتم ) بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف .

    فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر .

    وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته [ ص: 244 ] مسلمة، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدت، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: براءة من الله ورسوله [التوبة: 1] إلى رأس الخمس .

    فصل

    قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم . وقد نص أحمد على هذا . قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف .

    يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية، وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية، فبايعهن وهو على الصفا، فلما قال: ولا يزنين، قالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم . وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 245 ] لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن بالكلام . وقد سمينا من أحصينا من [ ص: 246 ] المبايعات في كتاب "التلقيح" على حروف المعجم، وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة، والله الموفق .

    قوله تعالى ولا يقتلن أولادهن قال المفسرون: هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله .

    قوله تعالى ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، قاله ابن عباس، والجمهور، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى . وإنما قال: بين أيديهن وأرجلهن لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها . وقيل: معنى يفترينه بين أيديهن : يأخذنه لقيطا وأرجلهن ما ولدنه من زنى .

    والثاني: السحر .

    والثالث: المشي بالنميمة، والسعي في الفساد، ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 247 ] أحدها: أنه النوح، قاله ابن عباس . وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: أنه لا يدعين ويلا، ولا يخدشن وجها، ولا ينشرن شعرا، ولا يشققن ثوبا، قاله زيد بن أسلم .

    والثالث: جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المباح دون المحظور .

    قوله تعالى: فبايعهن المعنى إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن .

    يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم اليهود، وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتقربون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم، فنزلت هذه الآية .

    [ ص: 248 ] قوله تعالى: قد يئسوا من الآخرة وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمدا، وهم يعرفون صدقه، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير، والمعنى: قد يئسوا من ثواب الآخرة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح . وقال قتادة: قد يئسوا أن يبعثوا، كما يئس الكفار فيه قولان .

    أحدهما: كما يئس الكفار من بعث من في القبور، قاله ابن عباس .

    والثاني: كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة، لأنهم أيقنوا بالعذاب، قاله مجاهد .

    سُورَةُ الصَّفِّ

    وَيُقَالُ لَهَا سُورَةُ الْحَوَارِيِّين َ

    وفيها قولان .

    أحدهما: مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور .

    والثاني: مكية قاله ابن يسار

    بسم الله الرحمن الرحيم

    سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص

    قوله تعالى: لم تقولون ما لا تفعلون في سبب نزولها خمسة أقوال .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #519
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد


    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    الحلقة (519)
    صــ 250 إلى صــ 264





    أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ عملناه، فأنزل الله سبح لله ما في السماوات إلى آخر السورة . [ ص: 250 ] والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لم تقولون ما لا تفعلون رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت، ولم يصبر، فنزلت هذه الآية .

    والثالث: أن ناسا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والرابع: أن صهيبا قتل رجلا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب .

    والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد .

    [ ص: 251 ] قول تعالى: كبر مقتا عند الله قال الزجاج: مقتا منصوب على التمييز، والمعنى: كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله . ثم أعلم عز وجل ما الذي يحبه؟، فقال تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أي: بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص . ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وللمفسرين في المراد بـ "المرصوص" قولان

    أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنه المبني بالرصاص، وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية [ ص: 252 ] يقول: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض لهذه الآية .

    اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس الترغمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفون في الغالب إنما يصطف الرجالة .

    وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ ص: 253 ] قوله تعالى: وإذ قال موسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى . وقد ذكرنا ما آذوا به موسى في [الأحزاب: 69] .

    قوله تعالى: فلما زاغوا أي: مالوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم أي: أمالها عن الحق جزاء لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى يأتي من بعدي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم ( من بعدي اسمه) بفتح الياء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم ( من بعدي اسمه) بإسكان الياء ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وفيهم قولان .

    أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل .

    والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف (يدعي إلى الإسلام) بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في [براءة: 32] إلى قوله تعالى: متم نوره قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف ( متم نوره) مضاف . وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم ( متم) رفع منون .

    [ ص: 254 ] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين

    قوله تعالى: هل أدلكم على تجارة قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبدا فدلهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه .

    قوله تعالى: تنجيكم قرأ ابن عامر ( تنجيكم ) بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف . ثم بين التجارة، فقال تعالى: تؤمنون بالله إلى قوله تعالى: يغفر لكم قال الزجاج: وقوله: يغفر لكم ، جواب قوله: «تؤمنون» "وتجاهدون" لأن معناه معنى الأمر . والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم . وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب "هل" وهذا غلط بين، لأنه ليس إذا دلهم على ما ينفعهم غفر لهم، إنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك . ومن قرأ ( يغفر لهم ) بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، [ ص: 255 ] والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم . وقد رويت عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إلا وقد سمعها من العرب . وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام وحجتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها . وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: وأخرى تحبونها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبونها، ثم فسرها فقال تعالى: نصر من الله وفتح قريب وفيه قولان .

    أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس .

    والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء .

    قوله تعالى: وبشر المؤمنين أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة . ثم حضهم على نصر دينه بقوله تعالى: كونوا أنصار الله قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ( كونوا أنصارا لله ) منونة . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي ( أنصار الله ) ومعنى الآية: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله، مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وحرك نافع ياء ( من أنصاري إلى الله ) وقد سبق تفسير هذا الكلام [آل عمران: 52] . فآمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى وكفرت طائفة فأيدنا الذين [ ص: 256 ] آمنوا بعيسى على عدوهم وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله تعالى: وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا بمحمد على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بمحمد على الأديان . وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة . قال ابن قتيبة: فأصبحوا ظاهرين أي: غالبين عليهم بمحمد . من قولك: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه .

    سُورَةُ الْجُمُعَةِ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    وقد سبق شرح فاتحتها . وقرأ أبو الدرداء، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والنخعي، والوليد عن يعقوب ( الملك القدوس العزيز الحكيم ) بالرفع فيهن .

    فإن قيل: فما الفائدة في إعادته ذكر التسبيح في هذه السورة؟

    فالجواب: أن ذلك لاستفتاح السور بتعظيم الله عز وجل، كما تستفتح بـ بسم الله الرحمن الرحيم وإذا جل المعنى في تعظيم الله، حسن الاستفتاح به .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

    قوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين يعني: العرب، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في [البقرة: 78] رسولا يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم منهم أي: من جنسهم ونسبهم .

    [ ص: 258 ] فإن قيل: فما وجه الامتنان في أنه بعث نبيا أميا؟

    فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدها: لموافقة ما تقدمت البشارة [به في كتب] الأنبياء .

    والثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم .

    والثالث: لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله . وما بعد هذا في سورة [البقرة: 129] . إلى قوله تعالى: وإن كانوا من قبل أي: وما كانوا قبل بعثته إلا في ضلال مبين بين، وهو الشرك .

    [ ص: 259 ] قوله تعالى: وآخرين منهم فيه قولان .

    أحدهما: وبعث محمدا في آخرين منهم، أي: من الأميين .

    والثاني: ويعلم آخرين منهم، ويزكيهم . وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم العجم، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبير، وهي رواية ليث عن مجاهد . فعلى هذا إنما قال: " منهم " ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، إذ المسلمون يد واحدة، وملة واحدة .

    والثاني: أنهم التابعون، قاله عكرمة، ومقاتل .

    والثالث: جميع من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة، قاله ابن زيد، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    [ ص: 260 ] والرابع: أنهم الأطفال، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: لما يلحقوا بهم أي: لم يلحقوا بهم .

    قوله تعالى: ذلك فضل الله يعني: الإسلام والهدى والله ذو الفضل العظيم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم .

    مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

    ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا، فقال تعالى: مثل الذين حملوا التوراة أي: كلفوا العمل بما فيها ثم لم يحملوها أي: لم يعملوا بموجبها، ولم يؤدوا حقها كمثل الحمار يحمل أسفارا وهي جمع سفر . والسفر: الكتاب، فشبههم بالحمار لا يعقل ما يحمل، إذ لم ينتفعوا بما في التوراة ، وهي دالة على الإيمان بمحمد [وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه بئس مثل القوم ذم مثلهم، والمراد ذمهم، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد] والله لا يهدي القوم الظالمين أنفسهم بتكذيب الأنبياء .

    [ ص: 261 ] قوله تعالى: إن زعمتم أنكم أولياء لله وذلك أن اليهود، قالوا: نحن ولد إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله، ونحن أولى بالله عز وجل من سائر الناس، وإنما تكون النبوة فينا . فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام "قل" لهم إن كنتم أولياء لله فتمنوا الموت لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا . وقد بينا هذا وما بعده في [البقرة: 94] إلى قوله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمدا، وكانوا يكرهون الموت، فقيل لهم: لا بد من نزوله [بكم] بقوله تعالى: فإنه ملاقيكم قال الفراء: العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل، مثل: "من" و"الذي" فمن أدخل الفاء ها هنا ذهب "بالذي" إلى تأويل الجزاء . وفي قراءة عبد الله إن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم وهذا على القياس، لأنك تقول: إن أخاك قائم، ولا تقول: فقائم، ولو قلت: إن ضاربك فظالم، لجاز، لأن تأويله: إن من يضربك فظالم . وقال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء . ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى: تفرون منه كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره فإنه ملاقيكم وتكون "فإنه" استئنافا بعد الخبر الأول .

    يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون

    قوله تعالى: إذا نودي للصلاة وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر، ولم يكن في عهد رسول الله نداء سواه، كان إذا [ ص: 262 ] جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذلك كان على عهد أبي بكر، وعمر، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دار له بالسوق، يقال لها: "الزوراء" وكان إذا جلس أذن أيضا .

    قوله تعالى: للصلاة أي: لوقت الصلاة . وفي "الجمعة" ثلاث لغات . ضم الجيم والميم، وهي قراءة الجمهور . وضم الجيم مع إسكان الميم، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء ، وعكرمة، والزهري، وابن أبي ليلى، وابن أبي عبلة، والأعمش . وبضم الجيم، مع فتح الميم، وبها قرأ أبو مجلز، وأبو العالية، والنخعي، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو . قال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين . وأما فتح الميم، فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول: رجل لعنة: يكثر لعنة الناس، وضحكة: يكثر الضحك .

    [ ص: 263 ] وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال .

    أحدها: لأن فيه جمع آدم . روى سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما الجمعة؟" قلت: لا . قال: "فيه جمع أبوك"، يعني: تمام خلقه في يوم . [ ص: 264 ] والثاني: لاجتماع الناس فيه للصلاة .

    والثالث: لاجتماع المخلوقات فيه، لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء .

    وفي أول من سماها بالجمعة قولان .

    أحدهما: أنه كعب بن لؤي سماها بذلك، وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة، قاله أبو سلمة . وقيل: إنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه .

    والثاني: أول من سماها بذلك الأنصار، قاله ابن سيرين .

    قوله تعالى: فاسعوا إلى ذكر الله وفي هذا السعي ثلاثة أقوال .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #520
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,195

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْجُمُعَةِ
    الحلقة (520)
    صــ 265 إلى صــ 279








    أحدها: أنه المشي، قاله ابن عباس . وكان ابن مسعود يقرؤها "فامضوا" ويقول: لو قرأتها "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي . وقال عطاء: هو الذهاب والمشي إلى الصلاة . [ ص: 265 ] والثاني: أن المراد بالسعي: العمل، قاله عكرمة، والقرظي، والضحاك، فيكون المعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له، والاشتغال بالطهارة ونحوها .

    والثالث: أنه النية بالقلب، قاله الحسن . وقال ابن قتيبة: هو المبادرة بالنية والجد .

    وفي المراد بـ (ذكر الله ) قولان .

    أحدهما: أنه الصلاة، قاله الأكثرون . والثاني: موعظة الإمام، قاله سعيد بن المسيب .

    قوله تعالى: وذروا البيع أي: دعوا التجارة في ذلك الوقت . وعندنا: أنه لا يجوز البيع في وقت النداء، ويقع البيع باطلا في حق من يلزمه فرض [ ص: 266 ] الجمعة، وبه قال مالك خلافا للأكثرين .

    فصل

    تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر، إذا كان المؤذن صيتا، والريح ساكنة . وقد حده مالك بفرسخ، ولم يحده الشافعي . وعن أحمد في التحديد نحوهما . وتجب الجمعة على أهل القرى . وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على أهل الأمصار . ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافا للشافعي . ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين . وعن أحمد: أقله خمسون . وعنه: أقله ثلاثة . وقال أبو حنيفة: تنعقد بثلاثة والإمام، والعدد شرط في [ ص: 267 ] الجمعة ، وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: يصح أن يخطب منفردا . وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان . وعندنا: تجب على الأعمى إذا وجد قائدا، خلافا لأبي حنيفة . ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين، خلافا لأبي حنيفة . وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان . وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة . وقال مالك، والشافعي، وأبو يوسف: لا تجوز إلا في موضع واحد . وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافا لأكثرهم، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة، وبه قال الشعبي، والنخعي، خلافا للأكثرين . والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة . وقال أبو حنيفة: يكره . ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال . وقال أبو حنيفة: يجوز . وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن أحمد روايتان . ونقل عن أحمد: أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد . وقال أبو حنيفة: يجوز لكل سفر . وقال الشافعي لا يجوز أصلا .

    والخطبة شرط في الجمعة . وقال داود: هي مستحبة . والطهارة لا تشترط في الخطبة، خلافا للشافعي في أحد قوليه . والقيام ليس بشرط في الخطبة، خلافا للشافعي . ولا تجب القعدة بين الخطبتين، خلافا له أيضا .

    [ ص: 268 ] ومن شرط الخطبة: التحميد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، والموعظة . وقال أبو حنيفة: يجوز أن يخطب بتسبيحة .

    والخطبتان واجبتان . وأما القراءة في الخطبة الثانية، فهي شرط، خلافا للشافعي .

    والسنة للإمام إذا صعد المنبر، واستقبل الناس: أن يسلم، خلافا لأبي حنيفة، ومالك . وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان . ويحرم على المستمع دون الخاطب، خلافا للأكثرين . ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة، وبعد الفراغ منها، خلافا لأبي حنيفة .

    ويستحب له أن يصلي تحية المسجد والإمام يخطب، خلافا لأبي حنيفة، ومالك .

    وهل يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر، فيه عن أحمد روايتان .

    قوله تعالى: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون أي: إن كان لكم علم بالأصلح فإذا قضيت الصلاة أي: فرغتم منها فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحة وابتغوا من فضل الله إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى: وذروا البيع وقال الحسن، وابن جبير: هو طلب العلم .

    [ ص: 269 ] وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين

    قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث جابر بن عبد الله، قاله الحسن: وذلك أنهم أصابهم جوع، وغلاء سعر، فلما سمعوا بها خرجوا إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو اتبع آخرهم أولهم التهب عليهم الوادي نارا" . قال المفسرون: كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي، قال مقاتل: وذلك قبل أن يسلم . قالوا: قدم بها من الشام، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومها . وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير . قال جابر بن عبد الله: كانت التجارة طعاما . وقال أبو مالك: كانت زيتا . والمراد باللهو: ضرب الطبل . و"انفضوا" بمعنى: تفرقوا عنك، فذهبوا إليها . والضمير للتجارة . وإنما خصت برد الضمير إليها، لأنها كانت أهم إليهم، هذا قول الفراء، والمبرد . وقال الزجاج: المعنى: وإذا رأوا [ ص: 270 ] تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف . وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة "انفضوا إليهما" على التثنية . وعن ابن مسعود، وابن أبي عبلة "انفضوا إليه" على ضمير مذكر وتركوك قائما وهذا القيام كان في الخطبة قل ما عند الله من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل، ويبتدئ من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته، ويقبل على خدمته .

    سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه . وكان السبب أن عبد الله خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر قريب . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوه، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبي، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاري يده فلطم الجهني، فأدماه، فنادى الجهني: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاري: يا آل قريش ، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين . فبلغ الخبر عبد الله ابن أبي ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرهط من قريش إلا مثل ما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم . وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أضرب عنقه . فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمد بن مسلمة، أو عباد بن بشر فليقتله، فقال: إذن يتحدث [ ص: 272 ] الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي ، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإن زيدا لكذاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، وكذبوه، وقال له عمه: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ومقتوك! فاستحيا زيد، وجلس في بيته . فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي ، لما بلغك عنه . فإن كنت فاعلا فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل تحسن صحبته ما بقي معنا" وأنزل الله سورة [المنافقين] في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال: إن الله قد صدقك . ولما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم اليوم من الأعز، ومن الأذل، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل، فلما نزلت السورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب: إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فذلك قوله تعالى: لووا رءوسهم وقيل: الذي قال له هذا [ ص: 273 ] عبادة بن الصامت .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون [ ص: 274 ] قوله تعالى: إذا جاءك المنافقون يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا نشهد إنك لرسول الله وها هنا تم الخبر عنهم . ثم ابتدأ فقال تعالى: والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله قد ذكرناه في [المجادلة: 16] . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: "أشهد" يمين، لأنهم قالوا: "نشهد" فجعله يمينا بقوله تعالى: اتخذوا أيمانهم جنة وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أشهد، وأقسم، وأعزم، وأحلف، كلها أيمان . وقال الشافعي: "أقسم" ليس بيمين . وإنما قوله: ( أقسم بالله) يمين إذا أراد اليمين .

    قوله تعالى: ذلك أي: ذلك الكذب بأنهم آمنوا باللسان ثم كفروا في السر فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون الإيمان والقرآن وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم يعني: أن لهم أجساما ومناظر . قال ابن عباس: كان [ ص: 275 ] عبد الله بن أبي جسيما فصيحا، ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله . وقال غيره: المعنى: تصغي إلى قولهم، فتحسب أنه حق كأنهم خشب قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: ( خشب ) بضم الخاء، والشين جميعا، وهو جمع خشبة . مثل ثمرة، وثمر . وقرأ الكسائي: بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بدنة، وبدن، وأكمة، وأكم . وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله . وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين: "خشب" بفتح الخاء، والشين جميعا . وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل ، وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . والمسندة: الممالة إلى الجدار . والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خشب مسندة إلى حائط . ثم عابهم بالجبن فقال تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم أي: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن . وأنشدوا في هذا المعنى:


    ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما


    أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين

    قوله تعالى هم العدو فاحذرهم أي: لا تأمنهم على سرك، لأنهم [ ص: 276 ] عيون لأعدائك من الكفار قاتلهم الله أنى يؤفكون مفسر في [براءة: 30]

    وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون

    قوله تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله قد بينا سببه في نزول السورة لووا رءوسهم وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: "لووا" بالتخفيف . واختار أبو عبيدة التشديد . وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرة بعد مرة . قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أبي: تعال يستغفر لك رسول الله لوى رأسه، قال: ماذا قلت؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار . وقال الفراء: حركوها استهزاء بالنبي وبدعائه .

    قوله تعالى: ورأيتهم يصدون أي: يعرضون عن الاستغفار . وهم مستكبرون أي: متكبرون عن ذلك . ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم بقوله تعالى: سواء عليهم أستغفرت لهم وقرأ أبو جعفر : ( آستغفرت ) بالمد .

    قوله تعالى: هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله قد بينا أنه قول ابن أبي . و ينفضوا بمعنى: يتفرقوا . ولله خزائن السماوات والأرض قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات . والمعنى: أنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، ولكن المنافقين [ ص: 277 ] لا يفقهون أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة . وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أبي ليخرجن الأعز يعني: نفسه، وعنى بـ الأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن: ( لنخرجن ) بالنون مضمومة وكسر الراء، ( الأعز ) بنصب الزاي [والأذل منصوب] على الحال [بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة "أل" فيه، أو بتقدير "مثل"] . المعنى: لنخرجنه ذليلا على أي حال ذل . والكل نصبوا "الأذل" فرد الله عز وجل عليه فقال: ولله العزة وهي: المنعة والقوة ولرسوله وللمؤمنين بإعزاز الله ونصره إياهم ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك .

    يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون

    قوله تعالى: لا تلهكم أي: لا تشغلكم . وفي المراد بذكر الله ها هنا أربعة أقوال .

    أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل .

    والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك .

    والرابع: أنه على إطلاقه . قال الزجاج: حضهم بهذا على إدامة الذكر .

    قوله تعالى: وأنفقوا من ما رزقناكم في هذه النفقة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحج، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الضحاك . [ ص: 278 ] والثالث: أنه صدقة التطوع، ذكره الماوردي . فعلى هذا يكون الأمر ندبا، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب .

    قوله تعالى: من قبل أن يأتي أحدكم الموت قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت .

    قوله تعالى: لولا أخرتني أي: هلا أخرتني إلى أجل قريب يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدق ويزكي، وهو قوله تعالى: فأصدق قال أبو عبيدة: فأصدق نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب .

    تقول: من عندك فآتيك . هلا فعلت كذا، فأفعل كذا، ثم تبعتها وأكن من الصالحين بغير واو . وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط . كما يكتب أبو جاد أبجد هجاء، وهكذا يقرؤها أبو عمرو "وأكون" بالواو، ونصب النون . والباقون يقرؤون "وأكن" بغير واو . قال الزجاج: من قرأ "وأكون" فهو على لفظ فأصدق . ومن جزم "أكن" فهو على موضع "فأصدق" لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن . وروى أبو صالح عن ابن عباس "فأصدق" أي: أزكي مالي وأكن من الصالحين أي: أحج مع المؤمنين، وقال في قوله تعالى: والله خبير بما تعملون والمعنى: بما تعملون من التكذيب بالصدقة . قال مقاتل: يعني: المنافقين . وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، وقد كان له مال لم يزكه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية .

    سُورَةُ التَّغَابُنِ

    وَفِيهَا قَوْلَانِ .

    أحدهما: أنها مدنية، قاله الجمهور، منهم ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة .

    والثاني: أنها مكية، قاله الضحاك . وقال عطاء بن يسار: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم واللتان بعدها .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد

    وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله تعالى: فمنكم كافر ومنكم مؤمن وفيه قولان .

    أحدهما: أن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، رواه الوالبي عن ابن عباس .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •