شبهات الملحدين والرد عليها



الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحابته والتابعين ومن والاه واتبع سنته وهداه إلى يوم الدين، وبعد: فإن الناظر إلى تلاطم أمواج الإلحاد، وتطاير شرر القاذورات الفكرية التي يتقيؤها الملاحدة والمعتدون في أذهان ناشئة الأمة ليؤكد ضرورة حياتية دينية تقول: إنه ينبغي أن تقام في الناس حملات لا لدفع هذا الطوفان الفكري النجس فحسب؛ بل حملات لتصوير حجم ضرر الفواحش الفكرية حتى ينظر إليها الناس بما يليق بها.
ومما يفرضُ ذلك أن أذهان الناشئة كأرض مشعر منى - تماما - فهي مناخ ما يسبق إليها من الحق أو الباطل اللذين يتدافعان العالمين حتى يقوم الأشهاد، وما دام أمر الأذهان كذلك فقد أوجب الله على أوصياء الأذهان تعاهدها والسبق إلى تحصينها وتعقيمها من كل لوثة فكرية قائمة أو مرتقبة؛ لأن ذلك من جملة الاسترعاء الرباني المسؤول عنه الناس يوم القيامة، والمترتب عليه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الصريح الصحيح: «ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة» (1)، وهذه الإحاطة بالنصيحة في التعبير النبوي البليغ تفتضي أن يكون نظر الوصي وتعاهده لأذهان رعيته -من بنين وبنات وإخوة وأخوات وطلاب ومريدين- كالسياج الحاجز المانع من وصول ما لا ينفعهم، ويكون الراعي والوصي والوالد سدا منيعا وحجابا حاجزا لا يمكن لأعاصير القذر الفكري أن تتسوره أو تخترقه.
وبما أن المؤمن مأمور عند كل قارعة وباقعة أن يتلمس مخارج النجاة ومظانها في أمنة الله الدائمة القائمة وهي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ فقد حاولت اختصار ملامح الإلحاد التي ساقها القرآن وعالجها وأخرس دعاتها بما لا قبل لهم به من البراهين، حتى يعلم أقزام الإلحاد العصريون والذين في قلوبهم مرض أنهم يتجشؤون اليوم هذه الشبه المحجوجة، وأنهم ما جاؤوا بجديد، وإنما يوزع شيخهم -أبو مرة - أدوار تنفيذ وعده ومراحله بين السلف والخلف من أجناده، وليستيقن المؤمنون والمؤمنات ويعلموا أن ربنا ما فرط في الكتاب من شيء؛ وأن الله وحزبه هم الغالبون.
موقف المؤمن من الإلحاد وأهله
لقد طالعت - وبأسف - بعضا من مقالات الإلحاد التي يتباحث خبرها الناس اليوم، فانقدح في ذهني وجوب الفزع إلى القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى أحال المختلفين في التصديق والتكذيب والإيمان والكفر إلى حكمه - تعالى وتقدس - فقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى:10)، وهذه الآية - على وجه الخصوص - مراد بها اختلاف المؤمن مع الكافر في وجود الله وقدرته وربوبيته وصدق أنبيائه، فلا ينبغي للمؤمن أن تتزعزع عقيدته بهذا التشكيك الباطل، بل إن له حالين لا ثالث لهما:
- الأول: أن يعرض عن الحجاج والجدال وإثبات وجود الله إذا علم من نفسه القصور، أو خشي عليها الفتنة فيقول بقول الله: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (الشورى:10)، وهو مأجور على هذا الإعراض والمفارقة، وهذا الإعراض مأمور به صراحة في محكم القرآن كما قال الله تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ} (الأنعام:68).
- الثاني: أن يملك القدرة على النقاش والمحاجة والإثبات، ويعلم من نفسه القدرة على إلجاء الخصم للحق أو كفاية الناس شر إلحاده؛ فهذا الأولى له المفارقة والترك، وقد يتعين عليه الجدال والحجاج بحسب الحال القائمة ومكانة الشخص وأثره في الناس.
فأول خطوات مواجهة هذا الإعصار الإلحادي الفكري الغاشم هو زرع هذا الحكم الشرعي المهم، وهو حرمة مطالعة مقالات الملحدين أو المتلاحدين ونشرها وتداولها؛ لعموم قوله تعالى: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الأنعام:68)، وهذا الإعراض يتحقق في واقعنا بكف العين واليد عن مواقعهم ومنتدياتهم ونشر أباطيلهم؛ وكف اللسان أيضا عن ترديدها، وكف الأذن عن التسامع بها تحت أي ذريعة كانت؛ وحتى لا تظن أيها القارئ أن مخاطبتك بهذه الحرمة والتضييق عليك في غشيان هذه المنتديات يتعلق بذاتك شخصيا أو عدم الثقة في ثقافتك ودينك فاستمع إلى هذا الخبر وأنت تعلم أن أذكى رجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو الفاروق عمر صلى الله عليه وسلم ، والشاهد على هذا الذكاء والإلهام هو رسول اللهصلى الله عليه وسلم القائل: «إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب» (2)، وهو أقواهم إيمانا بعد أبي بكر صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك يقول جابر صلى الله عليه وسلم : «إن الفاروق عمر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب».
ولك أن تضع سبعة خطوط تحت قوله صلى الله عليه وسلم «كتابا حسنا»؛ لتعلم أن هذه القطعة التي جلبها عمر صلى الله عليه وسلم ليست إلحادية ولا كفرية ولا شبهة، بل هي قطعة تؤيد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ونبوته؛ وهذا ما جعل الفاروق يستحسنها ويطير بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرحا مسرورا ويقول: «يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض أهل الكتاب».
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يتعود الناس استجلاب الهدى والنور من غير معينه الأوحد الصافي؛ لئلا تقتادهم الرغبة في الاطلاع وتحصيل هذه الدلائل فيقعوا في شراك الشبه؛ والشبه خطافة كما يقال.
الحاصل: أنه صلى الله عليه وسلم تغير وجهه جدا، واحمر لونه، وخاصم صاحبه المقرب، المحدث، الملهم، المؤمن، المبشر بالجنة؛ فقال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، فوالذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» (3)؛ بل جاء في بعض الروايات أن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه لما رأى شدة غضب النبي صلى الله عليه وسلم من فعل عمر أغلظ عليه وقال له بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره على الغلظة: «مسخ الله عقلك، ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟» (4).
ولا أشك بعد ذلك أن أحدا سيظن تحريم التسامع وتناقل الشبهات ووجوب الإعراض والتصامم والتعامي عنها أمر خاص به، إنما هو ديانة ندين لله بها خوفا مما تفضي إليه، ويكفينا في ذلك قول المولى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾} (النساء: 140)، يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله: «وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم» (5).
ولو كان هذا الأمر مقررا عند ناشئتنا وأنفسنا لكان تصرفنا تجاه التغريدات الكفرية في تويتر - أو النباح بمعنى أصح - تصرفا موحدا فنعاملها معاملة النخامة، ونجعل حقها الدفن أو الدعس، لكن الفرصة فاتت وتسارع الناس إليها فلم تدفن ولم تدعس؛ فبات واجبا أن نعاملها معاملة البول في المسجد، ونطهرها بالمكاثرة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : «أهريقوا عليه سجلا من ماء» (6)، ولا ماء أطهر - لأذهان من أصابهم رذاذ هذ القذر - من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ وما دمنا اكتشفنا غياب هذا الحكم فلنبادر الآن فصاعدا إلى تقريره وغرسه وسقايته؛ حتى يؤتي أكله في عقول رعيتنا من أبناء وبنات وتلاميذ ومأمومين ومتابعين؛ لئلا ندخل في الوصف المذموم على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم للراعي الغشاش «فلم يحطها بنصيحة»، وهذه الخطوة تقضي بضرورة الكشوفات والفحوصات الدورية الماثلة في فتح النقاش (المنضبط الجائز) مع الرعية واستخراج مكنونها لمحاصرة كل فكرة فد تجر لما هو أثوم وألعن.
مدار شبه المحلدين
وثاني خطوات مواجهة هذا الإلحاد العصري العفن أن نعود إلى كتاب الله تعالى؛ لنجد من يبث اليوم سمومه وإلحاده مرددا لأقاويل سلفه من سفلة جند إبليس، ولكن بصوت أعلى وأقبح وأنكر؛ لنستيقن أن لا سكينة ولا يقين ولا حق إلا والقرآن والسنة مصدراه ومطلعاه، فمدار شبه الملحدين الذين قصت أخبارهم في القرآن تقوم على خمسة أسس، وهي:
الأساس الإلحادي الأول:
البحث عن الله تعالى وملائكته وعذابه بطريق الحس والمشاهدة المجردة، وهذا ما صرح به بعض المفتونين في نباحهم على (تويتر) وهم يستحضرون في ذلك شبهة أسلافهم ويطلبون هذه المستحيلات إلحافا، متبعين خطوات الفجرة القائلين: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة:55)، والقائلين أيضا: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ} (النساء:153)، وكذلك طلب معاينة نصرتهم للمؤمنين على وجه السخرية والاستبعاد كما قالو لموسى عليه السلام: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (المائدة:24)، والقائلين بعدهم: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (الفرقان:21)، وينبغي عند النظر في هذه الجزئية أن يعلم أن طلب ملاحدة اليوم والأمس معاينة الله وملائكته ليس طلبا بريئا لتحصيل اليقين بربوبية الله وسلطانه؛ لكنه طلب دافعه الجحود والإنكار والإلحاد، ويفسر هذه النية قول إمام الإلحاد فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر:26)، بمعنى أني أنا ربكم الأعلى فلا يهولنكم ادعاؤه أن له ربا ينصره ويحميه، ولذا فهو طلب جحود وإلحاف.
والمسلم حين يواجه بهذه المطالب التعنتية يطمئن إلى أن ربه - تعالى - منع رؤية العباد له في الدنيا فقال: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام:103)؛ وعلمنا - سبحانه - أنه لا يكلم بشرا :{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى:51)، ولن يكشف هذا الحجاب إلا لأهل كرامته يوم القيامة كما في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبّها ناظِرَةٌ} (القيامة:22-23)؛ وهذه قضية ثابتة عند المسلمين -يقينا- ولا مجال لنقاشها، وهذا الأمر كان عقيدة مستقرة عند الصحابة ومسلما بها ومفروغا من نقاشها، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم : «فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في أحدهما» (7) ولك أن تتأمل أخي الكريم سؤال الصحابة: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ لتعلم أن الأمر مفروغ منه بالنسبة للدنيا؛ فهم على يقين من استحالة الرؤية في الدنيا، ونحن كذلك نقول - حالا ومقالا واعتقادا - صدق الله ورسوله وسمعنا وأطعنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولا يسأل عما يفعل.
الأساس الإلحادي الثاني:
(إنكار فائدة الدين وعائدته الحميدة على من يدين لله به) {وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتَخطف من أرضنا } (القصص:57) وهذا يردده نبحة (تويتر) فيقولون: إن الدين والتدين هو سبب التخلف والرجعية والتقهقر الحضاري والأممي؛ وهذا القول الكفري الفاسد لا يفرزه إلا شعور الهزيمة المتجذر في أصحاب الأفواه الطافحة بهذه القالة الصلعاء؛ فيعدون غاية العلو والفوز والسعادة مقرونا بما يعاينون من ظاهر الحياة الدنيا وزهرتها، وما خول الله من سلطان الغلبة فيها لأعدائه مكرا بهم واستدراجا، ولو علم الله خيرا فيمن يردد هذه الشبهة لأسمعه وأعلمه أن الديانة والتقدم والتطور صنوان لا ينفكان أو يختلفان، لكن التطور في الإسلام له حدود في أهدافه، وحدود في أدواته، وحدود في عوائده ومخرجاته: {وما يعقلها إلا العالمون} (العنكبوت:43)؛ بل لو علم الله فيه خيرا لأعلمه أن الدين يدعو إلى البحث والاكتشاف لزيادة اليقين كما في قول المولى سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:20)، ولو علم الله فيه خيرا لأعلمه أن الدين هو الذي فضح خرافات الكهنة والمشركين الزاعمين وجود إله للمطر، وإله للسحب، وإله للرياح، فأعادهم دين الإسلام إلى الحقيقة الدينية بأنه (لا إله إلا الله)، وأعادهم إلى الحقيقة العلمية في كيفية تكوين الأمطار فقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُ مُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (الحجر:22)، ولو أراد الله به خيرا لأسمعه وأوعاه دعوة الأنبياء جميعا ومساهماتهم في التطور والتقدم، وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم القائل في الصحيح - حثا على اكتشاف الأدوية وتكوينها -: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء» (8)؛ بل لوعلم الله فيهم خيرا لأسمعهم أن ديننا داعية إلى التطور والتجديد في ميدان الثوابت، كما في قوله صلى الله عليه وسلم الصحيح: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»(9)، وما دام كذلك في الثوابت فهو في المتغيرات من باب أولى.!، ولكن أولئك البغال لا يعنيهم من التطور إلا ما كان في مجال الشرك، والفواحش، وبنوك (المني)، وأكل الربا، وتشريع السحر... إلى آخر هذه الدركات السحيقة عافانا الله.
الأساس الإلحادي الثالث:
(الشهوات)، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴿27﴾} (النساء:27)، والإلحاد أعظم الميل، وغالب هؤلاء المنادين بدعوات الإلحاد لا يرون في أقاصي الدنيا سواحا مع البهائم، ولا يرون منكبين على شأن عام ينفع الصالح البشري الذي لا رب له فيما يزعمون - تعالى الله علوا كبيرا - بل يقصرون اهتمامهم على أن تشيع الفاحشة والخمور في الذين آمنوا فحسب!، ولذا لا يتجهون لدول البوذيين أو اليهود فينشرون فيهم هذا الجشاء الفكري؛ إنما يخصون بذلك المسلمين فقط، ولو صدقوا في هذه المزاعم لجابوا أقاصي الهند وأدغال إفريقيا وضواحي القوقاز؛ ليفكوا أغلال هذه الأمم التي تعبد من الأرباب عددا لا يحصيه إلا ربنا سبحانه وتعالى؛ لكن أو لئك النبحة وجدوا الإلحاد أخصر الطرق وأقصرها لتخطي ومجاوزة العبودية والاستسلام لله والانفتاح على ما تشتهيه أنفسهم وشياطينهم؛ بذريعة أنهم غير مسلمين بدين أو رب، وهذه الممارسة القذرة هي ذات ممارسة عميد الإلحاد (برتراند رسل) القائل: «إن تقرير الحقائق يجب أن يبنى على الملاحظة لا على الرواية غير المؤيدة»!
ويعني بالرواية هنا كل ديانة تحجز الملحد عن شهواته، لكن الله يفضحه مرات أخرى فتراه يعترف في بعض مقالاته بالنظام الكوني والخلق؛ ولكنه يتخفف من سيطرة الكنيسة عليه فيتعصب للإلحاد عند ثوران الشهوة الكفرية والفكرية والأخلاقية.
الأساس الإلحادي الرابع:
(اتباع الهوى)، كما في قصة ملحد بني إسرائيل الذي انسلخ من الهدى من غير شبهة أو تأثير فكر خارجي أو خلية نائمة أو مقهى أو غيره؛ وإنما استبان له الحق والباطل فآثر هواه ورضى الناس على رضى الله تعالى، وشهد الله عليه بذلك فقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (الأعراف:176)، فكان من الغاوين لأجل انقياده وعبوديته للهوى، والملحدون أمس واليوم وغدا إنما يخلعون ربقة العبودية لله - زعموا -؛ ليكونوا أرقاء لهواهم ولأبي مرة، ولا مَنٌّ ثَمَّ ولا فداء أجارنا الله وحمانا.
الأساس الإلحادي الخامس
(الجبروت والاغترار بالملك والغنى والمنصب)، عموما كما في قصة الذي {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[1} (البقرة: 258)، فهذا الملحد لم يبعثه على المحاجة إلا أن آتاه الله الملك، وكذلك كثيرون من المارقين من الشعائر والمثل والقيم اليوم إنما باعثهم على الفجور والطغيان الغنى والجدة والملك لا غير، وحديث القرآن عن أثر الغنى المجرد من الإيمان في حلق الديانة والأخلاق والفضائل أطول من أن يستقصى، والراعي المسلم يستفيد من هذا الأساس الخامس من أسس الإلحاد أن تدجين الناشئة وتمحيض الاهتمام لمصالح دنياهم ووفرة أموالهم دون اكتراث بأخلاقهم وإيمانهم هو إلقاء لهؤلاء البرآء في مفازة مسبعة قد ينجون فيها بفضل من الله، وقد يهلكون بغض النظر عن دركة الهلاك التي يؤولون إليها؛ والراعي آثم مسؤول في كلا حاليهم من نجاة أو عطب لأنه دجن ونمى وألبس وأسكن، ولكنه فرط؛ إذ استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة في دينها.
وختاما: لا تعجب أيها المؤمن من عدل الله في بعض أشقياء عباده حين يخرجون عن سائد إيماني متجذر في أسرة أو مجتمع أو أمة، وسل مقلب القلوب أن يحفظ عليك إيمانك، وقم بواجبك في مواجهة إعصار الإلحاد، فإذا اطمأننت للقيام بما افترض الله عليك فاشتغل بنفسك ورعيتك {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 176).
قد تتباين أشكال دعاة الإلحاد ومستوياتهم وأعصارهم وأمصارهم لكن المخازي والمناتن واحدة.!
الهوامش:
1- رواه البخاري (7150) من حديث معقل بن يسار.
2- رواه البخاري (3469) من حديث أبي هريرة.
3- رواه أحمد (15156)، وابن أبي شيبة (26421)، وحسنه الألباني.
4- رواه عبدالرزاق (10164).
5- تفسير الطبري (9/321).
6- رواه البخاري (220)، والترمذي (147) وغيرهما من حديث أبي هريرة.
7- رواه البخاري (6573)، ومسلم (2968) واللفظ له.
8- رواه البخاري (5678).
9- رواه أبو داود (4291)، والطبراني في الأوسط (6527)، والحاكم (8592) من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني.



اعداد: أ. محمود الشنقيطي