أَرْكَانُ الْحَجِّ


يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

قَالَ الْمَصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [وَأَرْكَانُ الْحَجِّ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ. وَوَاجِبَاتُهُ: الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ لَهُ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ، وَالْمَبِيتُ لِغَيْرِ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَايَةِ بِمِنًى وَبِمُزْدَلِفَة َ إِلَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَالرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالْوَدَاعُ. وَالْبَاقِي سُنَنٌ].


الْكَلَامُ هُنَا فِي فُرُوعٍ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَرْكَانُ الْحَجِّ. وَهَذِهِ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَرْكَانُ الْحَجِّ... ).


أَيْ: أَجْزَاؤُهُ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهَا. وَهِيَ:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: (الْإِحْرَامُ).
وَهُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[1]؛ فَمَنْ نَوَى الدُّخُولَ فِي نُسُكٍ فَهُوَ مُحْرِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ مِنْ ثِيَابِهِ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ فَلَيْسَ بِمُحْرِمٍ، وَلَوْ تَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: (وَالْوُقُوفُ).
أَيْ: الْوُقُوفُ بعِرَفَةَ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ[2]؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ ﴾ [البقرة: 198]، وَلِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيُّ قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْحَجُّ حَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ... »، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ[3].


الرُّكْنُ الثَّالِثُ: (وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ).
وَهَذَا أَيْضًا رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ[4]؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: (وَالسَّعْيُ).
أَيِ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كَمَا قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُكُنٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[5].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهَا الْمُوَفَّقُ وَابْنُ أَخِيهِ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا[6]، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[7].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ[8].

وَالْأَظْهَرُ -وَاللهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا أتمَّ اللهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ، لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الْصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[9].


وَلِحَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قَالَ: «اسْعَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ[10].


وَلِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: «قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ- بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟، قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: أَحْسَنْتَ، انْطَلِقْ، فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ»[11]؛ فَهَذَا أَمْرٌ صَرِيحٌ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَأْتِ صَارِفٌ لَهُ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: وَاجِبَاتُ الْحَجِّ. وَهَذِهِ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَوَاجِبَاتُهُ.. . ).


فَذَكَرَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَالْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ: يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَإِذَا تَرَكَهُ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ؛ لَكِنْ يَلْزَمُهُ دَمُ شَاةٍ أَوْ سُبُعِ بَدَنَةٍ أَوْ سُبُعِ بَقَرَةٍ تُذْبَحُ فِي مَكَّةَ، وَتُعْطَى فُقَرَاءَ أَهْلِهَا، وَهَذَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[12].

وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا سَبْعَةُ وَاجِبَاتٍ، وَهِيَ:
الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ: (الْإِحْرَامُ مِنَ الْميقَاتِ الْمُعْتَبَرِ لَهُ).
لِأَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ وَقَالَ: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ»[13].

الْوَاجِبُ الثَّانِي: (وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ).
عَلَى مَنْ وَقَفَ نَهَارًا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ[14].

الْوَاجِبُ الثَّالِثُ: (وَالْمَبِيتُ لِغَيْرِ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَايَةِ بِمِنًى).
أَيْ: لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَلَى قِوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَاجِبٌ، وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّ ةِ[15]، إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي يَجِبُ فِي تَرْكِهَا دَمٌ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَبِيتَ سُنَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[16].

وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْمَبِيتَ بمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باتَ في مِنًى وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»[17]، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ»[18]،وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[19]، وَلِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْخَصَ لِرُعَاة الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى, يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ, ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ لِيَوْمَيْنِ, ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ[20]؛ فَقَوْلُهُ: (رخَّصَ) وَ(أَرْخَصَ): تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْوُجُوبُ؛ لِأنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُقَالُ إِلَّا فِي مُقَابِلِ أَمْرٍ وَاجِبٍ وَعَزِيمَةٍ، فَالرُّخْصَةُ الَّتِي لِلْعَبَّاسِ وَلِرُعَاةِ الْإِبِلِ وَقَعَتْ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

الْوَاجِبُ الرَّابِعُ: (وَمُزْدَلِفَةُ إِلَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ).
لِمَنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ[21].

الْوَاجِبُ الْخَامِسُ: (وَالرَّمْيُ).
أَيْ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ[22]؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 203]، وَرَمْيُ الْجِمَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ»[23]، وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ أَبِي زِيَادٍ، وَالأَكْثَرُونَ عَلَى تَضْعِيفِهِ[24]، وَأَيْضًا ثَبَتَ مِنْ حديثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»[25]، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَرْمِيَ الْجِمَارَ بِمِثْلِ حَصَى الخَذْفِ... فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ»[26].

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْتيبِ الرَّمْيِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّل: وُجُوبُ تَرْتِيبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ[27].

الْقَوْلُ الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ تَرْتِيبِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ[28].

الْوَاجِبُ السَّادِسُ: (وَالْحِلَاقُ).
أَوِ التَّقْصِيرُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ فَالْحِلَاقُ أَوِ التَّقْصِيرُ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[29].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[30]، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَدَعَا لِلْمُحَلِّقِين َ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِ ينَ مَرَّةً[31]،وَتَقَدَّمَ هَلْ هُوَ نُسُكٌ، أَوْ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ.

الْوَاجِبُ السَّابِعُ: (وَالْوَدَاعُ).
وَهُوَ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ[32]؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[33]، وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا يَنْفِرِنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ[34].


الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ[35].

فَائِدَةٌ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، أَمَّا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهِ[36].

مَسْأَلَةٌ: طَوَافُ الْوَدَاعِ لِلْمُعْتَمِرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ[37]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُحفَظْ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ بَعْدَ عُمْرَتِهِ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: سُنَنُ الْحَجِّ. وَهَذِهِ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْبَاقِي سُنَنٌ).


أَيْ: الْبَاقِي مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ غَيْرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ : سُنَنٌ؛ كَطَوَافِ الْقُدُومِ وَالاِضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
--------------------------------------------------------------------

[1] تقدم تخريجه.

[2] ينظر: الإجماع، لابن المنذر (ص: 57).

[3] أخرجه أحمد (18774)، وأبو داود (1949)، والترمذي (889، 890، 2975)، وابن ماجه (3015)، وصحح ابن خزيمة (2822).

[4] ينظر: الإجماع، لابن المنذر (ص: 58).

[5] ينظر: الكافي لابن عبد البر (1/ 359)، والمجموع للنووي (8/ 265)، والإنصاف للمرداوي (9/289، 290).

[6] ينظر: المغني، لابن قدامة (3/ 352)، والشرح الكبير على متن المقنع (3/ 504).

[7] ينظر: التجريد للقدوري (4/ 1879)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 289، 290).

[8] ينظر: المغني، لابن قدامة (3/ 352).

[9] أخرجه البخاري (1790)، ومسلم (1277).

[10] أخرجه أحمد (27367)، وصححه ابن خزيمة (2764).

[11] أخرجه البخاري (1724)، ومسلم (1221).

[12] ينظر: مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 274)، وخلاصة الجواهر (ص: 45)، والمجموع، للنووي (8/ 265)، والمغني، لابن قدامة (3/ 468).

[13] تقدم تخريجه.

[14] تقدم تفصيل المسألة.

[15] ينظر: المدخل لابن الحاج (4/ 219)، والمجموع، للنووي (8/ 266)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[16] ينظر: التجريد، للقدوري (4/ 1957)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[17] تقدم تخريجه.

[18] أخرجه أحمد (24592)، وأبو داود (1973).

[19] أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315).

[20] تقدم تخريجه.

[21] تقدم تفصيل المسألة عند الحديث عن قول المصنف: "ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة".

[22] ينظر: بدائع الصنائع (2/ 136)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية (17/ 460).

[23] أخرجه أحمد (24351)، وأبو داود (1888)، والترمذي (902)، وقال: حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2882)، والحاكم (1685).

[24] قال الذهبي المهذب في اختصار السنن الكبير (4/ 1897): "اختلف في رفعه على سفيان فقد رواه يحيى القطان عن عبيد الله فوقفه وقال: قد سمعته يرفعه ولكني أهابه، ورواه الخريبي، وأبو عاصم عن عبيد الله فرفعاه، ورواه ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة موقوفًا".

[25] أخرجه مسلم (1297)، وتقدم تخريجه بلفظ غير لفظ مسلم، وهو: "خذوا عني مناسككم".

[26] تقدم تخريجه.

[27] ينظر: الذخيرة للقرافي (3/ 278)، والمجموع، للنووي (8/ 239)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[28] ينظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 264)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[29] تقدم الكلام عن المسألة عند قول المصنف: " ويحلق أو يقصر من جميع شعره".

[30] تقدم تخريجه.

[31] تقدم تخريجه.

[32] ينظر: بدائع الصنائع (2/ 142)، والمهذب، للشيرازي (1/ 422)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[33] تقدم تخريجه.

[34] تقدم تخريجه.

[35] ينظر: التلقين في الفقه المالكي (1/ 90)، والمهذب، للشيرازي (1/ 422)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 294).

[36] ينظر: اختلاف الأئمة العلماء (1/ 291).

[37] ينظر: بدائع الصنائع (2/ 227)، ومواهب الجليل (3/ 137)، والمجموع، للنووي (8/ 11)، والشرح الممتع (7/ 398).