الرُّجُوعُ إِلَى مِنًى لِلْمَبِيتِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

قَالَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَبِيتُ بِمِنًى ثَلَاثَ لَيَاٍل، فَيَرْمِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَتَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ وَيَتَأَخَّرُ قَلِيلًا وَيَدْعُو طَوِيلًا، ثُمَّ الْوُسَطَى مِثْلُهَا، ثُمَّ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، يَفْعَلُ هَذَا فِي كُلِّ يَوْمِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُرَتِّبًا. فَإِنْ رَمَاهُ كُلَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: أَجْزَأَهُ، وَيُرَتِّبُهُ بِنِيَّتِهِ؛ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَبِتْ بِهَا: فَعَلَيْهِ دَمٌ].

ثَانِي عَشَرَ: الرُّجُوعُ إِلَى مِنًى لِلْمَبِيتِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَبِيتُ بِمِنًى ثَلَاثَ لَيالٍ...)

وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُرُوعٍ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: مَشْرُوعِيَّةُ الْمَبِيتِ بِمِنًى بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.
أَيْ: يَرْجِعُ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ فَيُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى»[1].

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، وَلَفْظُهُ: «فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ»[2]، وَكَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُهُ: «أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى»[3].

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ رَجَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهُمْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى؛ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِمَكَّةَ؛ لَكَانَ خَلْفَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ مُقِيمُونَ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُتِمُّوا صَلَاتَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ قَامُوا فَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ بَعْدَ سَلَامِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بَمَكَّةَ: لَأَنَابَ عَنْهُ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِمِنًى إِمَامًا يُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمُسْلِمِين َ الظُّهْرَ بِمِنًى نَائِبٌ لَهُ، وَلَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ.

وَمِنْهَا: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ؛ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِسْنَادِهِ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهِ أَحْفَظُ وَأَشْهَرُ وَأَتْقَنُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَاقِيَ الْوُجُوهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الزَّادِ[4]، وَرَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ.

وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ: قَوْلَ جَابِرٍ، وَعَائِشَةَ؛ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ رِوَايَةُ اثْنَيْنِ؛ فَهُمَا أَوْلَى مِنَ الْوَاحِدِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ عَائِشَةَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَهَا مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَاقَ حَجَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أَتَمَّ سِيَاقٍ، وَقَدْ حَفِظَ الْقِصَّةَ وَضَبَطَهَا حَتَّى ضَبَطَ جُزْئِيَّاتِهَا بَلْ ضَبَطَ مِنْهَا أُمُورًا لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ كَنُزُولِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ جَمْعٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ عِنْدَ الشِّعْبِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا؛ فَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْقَدْرَ: فَهُوَ بِضَبْطِ مَكَانِ صَلَاتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْلَى.

وَقَدْ ذَكَرَ بَاقِيَ الْوُجُوهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (الزَّادِ)[5].

وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ فَقَالَ: إِنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى: فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِهَذَا الْجَمْعِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ الشَّنْقِيطِيُّ ، وَاللهُ أَعْلَمُ[6]. وَهُنَاكَ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجَمْعِ أُمُورًا أُخْرَى قَرِيبَةً مِمَّا ذُكِرَ[7].

الْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ إِلَى مِنًى وَيَبِيتُ بِهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ إِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ، وَلَيْلَتَيْنِ إِنْ تَعَجَّلَ، وَيَرْمِي الْجَمَراتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: رَمْيُ الْجِمَارِ فِي أَيَّامِ مِنًى. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (فَيَرْمِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى -وَتَلِي مَسْجِدَ الخيف- بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ الْوُسْطَى مِثْلُهَا، ثُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ).

وَهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صِفَةُ الرَّمْيِ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْدَأَ الْحَاجُّ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى -وَتُسَمَّى الصُّغْرَى، وَالْجَمْرَةَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا أَدْنَاهُنَّ إِلَى الْمَشَاعِرِ، وَهِيَ: الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ-؛ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يَقُولُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ: "اللهُ أكبرُ"، وَيُسَنُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَنْهَا وَيَجْعَلَهَا عَنْ يَسَارِهِ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَرْفَعَ يَدَهُ وَيُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ»[8]، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَمَى الجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا، فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الوُقُوفَ، ثُمَّ يَأْتِي الجَمْرَةَ الثَّانِيةَ»[9].

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: الْوُقُوفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا).
وَهَذَا لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْتَهَى إِلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى جَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ»[10]؛ فَإِذَا أَكْمَلَ الرَّمْيَ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا؛ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ «يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ»[11].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَقِيلَ: لِضِيقِ الْمَكَانِ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ - وَهُوَ أَصَحُّ: إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمَّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَرَغَ الرَّمْيُ، وَالدُّعَاءُ فِي صُلْبِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا"[12].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَكْرَارُ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَقْتُهُ.
وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (يَفْعَلُ هَذَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ).
أَيْ: يَرْمِي الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُرَتِّبًا، وَأَفَادَنَا الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَنَّ الرَّمْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ الرَّمْيِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّمْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[13]؛ فَإِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ: أَعَادَ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[14]. وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ[15].

وَعَنْ وَبْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن ِالسُّلَمِيِّ، قَالَ: «سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَتَى أَرْمِي الجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ، فَارْمِهْ؛ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ؛ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ[16].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسَ[17].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: جَوَازُ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[18].

فائِدَةٌ:قَالَ فِي (الرَّوْضِ): "وَالْأَفْضَل *الرَّمْيُ *قَبْلَ *صَلَاةِ *الظُّهْرِ"[19].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي، *هَلْ *كَانَ *يَرْمِي *قَبْلَ *صَلَاةِ *الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَهَا؟ وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي قَبْلَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي"[20].

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَرْتِيبُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (مُرَتِّبًا).
أَيْ: يَجِبُ تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ؛ فَيَبْدَأُ بِالْأُولَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْعَقَبَةَ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ: شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ[21]؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَمَاهَا مُرَتِّبًا، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[22].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ[23]؛ وَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ لَا تَنْهَضُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مَعَ الْجَهْلِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ[24].

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ فِي (الْمُقْنِعِ): "وَفِي عَدَدِ الْحَصَى رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: سَبْعٌ، وَالْأُخْرَى: يُجْزِئُهُ خَمْسٌ"[25].
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهَا الْأَصْحَابُ[26].

قَالَ فِي (الْمُغْنِي): "وَالْأَوْلَى: أنْ لَا يَنْقُصَ في الرَّمْيِ عن سَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ لِأَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ *فَإِنْ *نَقَصَ *حَصَاةً *أَوْ *حَصاتَيْنِ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَنْقُصُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ"*[27].

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: رَمْيُ الْجِمَارِ كُلِّهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ:(فَإِنْ رَمَاهُ كُلَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: أَجْزَأَهُ، وَيُرَتِّبُهُ بِنِيَّتِهِ؛ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَبِتْ بِهَا: فَعَلَيْهِ دَمٌ).

وَهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا كَيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ. وَهَذِهِ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ رَمَاهُ كُلَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: أَجْزَأَهُ)

لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ رَمْيِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْهَا[28]، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ هَلْ هِيَ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ؛ فَالرَّمْيُ فِي جَمِيعِهَا: أَدَاءٌ[29]؛ فَلَوْ رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي، أَوْ عَنِ الثَّانِي فِي الثَّالِثِ، أَوْ عَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الثَّالِثِ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وَقْتٌ لِلرَّمْيِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: "وَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ كُلَّهُ -أَيْ: مَعَ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ- فَرَمَاهُ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْريقِ؛ أَجْزَأَ بِلَا نِزاعٍ، وَيَكُونُ أَدَاءً عَلَى الصَّحَيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ"[30].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ؛ فَإِنْ فَاتَ هُوَ وَلَيْلَتُهُ الَّتِي بَعْدَهُ: فَاتَ وَقْتُ رَمْيِهِ؛ فَيَكُونُ قَضَاءً فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[31]، وَعَلَى هَذَا: يَلْزَمُهُ دَمٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاتَهُ رَمْيٌ فِيهِ إِلَى الْغَدِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّمْيِ؛ فَمَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ مِنْهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ: أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا". ثُمَّ اسْتَدَلَّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْعَجْلَانِيِّ : «أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ الْيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ[32]. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ بَحْثِهِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: "وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ أَيَّامَ الرَّمْيِ كُلَّهَا كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ مَنْ رَمَى عَنْ يَوْمٍ فِي الَّذِي بَعْدَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِإِذْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلرِّعَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ إِلَّا لِعُذْرٍ؛ فَهُوَ وَقْتٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ كَالْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ"[33]*.

وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ كُلِّهِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ*.
أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِذَلِكَ؛ فَالْأَقْرَبُ: الْمَنْعُ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-[34]*؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ (رَخَّصَ) فِي حَدِيثِ عَاصِمٍ: تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ يَكُونُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي حَقِّهِمْ عَزِيمَةً، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانيةُ: تَرْتِيبُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ إِنْ رُمِيَتْ جَمِيعُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيُرَتِّبُهُ بِنِيَّتِهِ).

فَيَبْدَأُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَرْمِي الصُّغْرَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْعَقَبَةَ عَنِ الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ.

ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ عَنِ الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ.

ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَرْمِيهِنَّ عَنِ الثَّالِثَ عَشَرَ، إِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ.

وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَرْمِيَ الْأُولَى عَنِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ الْوُسْطَى الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ الْعَقَبَةَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَأْخِيرُ الرَّمْيِ عَنِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ تَرْكِ الْمَبِيتِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَبِتْ بِهَا: فَعَلَيْهِ دَمٌ).

أَيْ: إِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَا يَأْتِي بِهِ كَالْمَبِيتِ بِمِنًى إِذَا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ نُسُكًا وَاجِبًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «مَنْ نَسِيَ نُسُكًا أَوْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ»، وَهَذَا الْأَثَرُ ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ[35]*.

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

الْفَرْعُ الرَّابِعُ: أَحْكَامُ رَمْيِ الْمُتَعَجِّلِ.
وَهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَقْتُ خُرُوجِ الْمُتَعَجِّلِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ خَرَجَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَإلَّا لَزِمَهُ الْمَبِيتُ، وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ).

مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ: خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَضُرُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ؛ لِحُصُولِ الرُّخْصَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فيِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَمْيٌ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ[36].

فَإِنْ غَرَبَتِ الْشَمْسُ وَهُوَ بِمِنًى: لَزِمَهُ الْمَبِيتُ، وَالرَّمْيُ مِنَ الْغَدِ، وَلا يَنْفِرُ لَيْلًا، فَيَرْمِي بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا النَّفِيرُ الثَّانِي، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ*، وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ[37]*.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشَرَ، فَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ: لَزِمَهُ الْبَقَاءُ حَتَّى يَرْمِيَ[38]*.

وَالْأَقْرَبُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِمَا يَلِي:
أَوَّلًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]، وَالْيَوْمُ: اسْمٌ لِلنَّهَارِ؛ فَمَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ: فَمَا تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: فِي يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةٍ.

ثَانِيًا: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: فَلْيَقُمْ إِلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ[39]*.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ مَنْ أَدْرَكَهُ الْغُرُوبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَقَدِ ارْتَحَلَ مِنْ مِنًى.

مَنْ أَدْرَكَهُ الْغُرُوبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَقَدِ ارْتَحَلَ مِنْ مِنًى: فَهَلْ هُوَ فِي حُكْمِ النَّافِرِ؛ فَيَرْتَحِلُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمْ يُلْزَمُ بِالْمَبِيتِ لَيْلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مِنًى؛ فَلَمْ يَتَعَجَّلْ مِنْهَا فِي يَوْمَيْنِ؟

فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِنًى: لَمْ يَنْفِرْ سَوَاءٌ كَانَ ارْتَحَلَ أَوْ لَمْ يَرْتَحِلْ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ[40]*، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّنْقِيطِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-[41]*.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي نَفِيرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَالرَّمْيُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ[42]*.

وَأَمَّا لَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي شُغْلِ الاِرْتِحَالِ، وَلَمْ يَرْتَحِلْ: فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَبِيتُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خِلَافُ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، فَالْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ: أَدْرَكَهُ الْغُرُوبُ وَهُوَ سَائِرٌ، يَعْنِي: ارْتَحَلَ. وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: فَأَدْرَكَهُ الْغُرُوبُ وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ، وَلَمْ يَسِرْ؛ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْ نِ، فَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَصْلُ أَنَّهُ يَبِيتُ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالرَّحِيلِ؛ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي مِنًى، وَاللهُ أَعْلَمُ.
______________________________ _____

[1] أخرجه مسلم (1308).

[2] أخرجه مسلم (1218)، وقد تقدم.

[3] أخرجه أحمد (24592)، وأبو داود (1973)، وصححه ابن خزيمة (2956)، وابن حبان (3868)، والحاكم (1756).

[4] زاد المعاد (2/ 258-259).

[5] زاد المعاد (2/ 259-261).

[6] ينظر: شرح مسلم، للنووي (8/ 193)، والبداية والنهاية (5/ 212)، وأضواء البيان (4/ 408).

[7] ينظر: عمدة القاري (10/ 69).

[8] أخرجه البخاري (1751).

[9] أخرجه البخاري (1753).

[10] أخرجه البخاري (1748)، ومسلم (1296).

[11] أخرجه البخاري (1751).

[12] زاد المعاد (2/ 263).

[13]ينظر: فتح القدير، للكمال (2/ 499)، والمدونة (1/ 437)، والمجموع، للنووي (8/ 235)، والمغني، لابن قدامة (3/ 399).

[14] تقدم تخريجه، وسيأتي أيضًا.

[15] أخرجه مسلم (1299).

[16] أخرجه البخاري (1746).

[17] ينظر: شرح مسلم، للنووي (9/ 48).

[18] ينظر: الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (1/ 161).

[19] الروض المربع (2/ 146).

[20] زاد المعاد (2/ 264).

[21] ينظر: الفواكه الدواني (2/ 815), والإيضاح، للنووي (ص: 366)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 242، 243).

[22] تقدم تخريجه.

[23] ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 520)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 243).

[24] ينظر: الإنصاف، للمرداوي (9/ 243).

[25] المقنع (ص129).

[26] ينظر: الإنصاف، للمرداوي (9/ 243-244).

[27] المغني، لابن قدامة (5/ 330).

[28])) ينظر: أضواء البيان (5/ 323)، ومنسك الشنقيطي (2/ 98).

[29] ينظر: فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان (ص: 520)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 245).

[30] ينظر: الإنصاف، للمرداوي (9/ 245).

[31] ينظر: التجريد، للقدوري (4/ 1949)، والإنصاف، للمرداوي (9/ 245).

[32] أخرجه أحمد (23775)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الكبرى (4164)، وابن ماجه (3037)، وصححه الحاكم (1759).

[33] أضواء البيان (5/ 323-326).

[34] أضواء البيان (5/ 326).

[35] تقدم عند قول المصنف: (ومن وقف نهارًا ودفع قبل الغروب) بلفظ: «مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُهْرِقْ دَمًا».

[36] ينظر: الإنصاف، للمرداوي (9/ 252-253).

[37] ينظر: الفواكه الدواني (1/ 365)، والمجموع، للنووي (8/ 249)، والمغني، لابن قدامة (3/ 401).

[38] ينظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (2/ 539، 540).

[39] أخرجه مالك (1/ 409)، والبيهقي في الكبرى (9758)، ولفظ البيهقي: "مَن نَسِىَ أيّامَ الجِمارِ، أو قال: رَمْىَ الجِمارِ، إلَى اللَّيلِ فلا يَرمِى حَتَّى تَزولَ الشَّمسُ مِنَ الغَدِ".

[40] ينظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 338)، والمغني، لابن قدامة (3/ 401).

[41] أضواء البيان (5/ 336).

[42] ينظر: روضة الطالبين (3/ 107).