الفساد الفكري.. وانتحار الأمم


بلغ المسلمون درجة عالية من العلم والتقدم والحضارة لم يبلغها شعب من الشعوب، وامتدت حضارتهم قرونا عدة أضاءت كل أرجاء العالم، وكانت الحياة الفكرية تتسم بالشمول والتكامل والنضج، فلم تحصر نفسها في محراب العبادة فقط بل امتدت أيديهم في مجالات العلوم المختلفة الدينية والدنيوية، وهذا ما دفع أعداء الإسلام إلى إضعاف هذا التقدم العلمي والثقافي،ومحاول ة تغيير سمات المجتمعات الإسلامية،عن طريق الحرب الناعمة،بعدما عجزوا عن المواجهة القتالية، ولقد ارتكزوا في حروبهم الثقافية والفكرية على القاعدة المشهورة: «إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده»، ولقد تم الاستعباد الفكري في مراحل حياتنا، حتى صار كثير من الأمم والشعوب تسير منقادة وتابعة للأفكار التغريبية، بل وتفتخر بهذا وتظهره،وترمي كل من خالف طريق التغريبيين بالتخلف والبداوة والعداوة للتقدم والحضارة!!.
لقد صدق في هؤلاء الذين لهم قلوب لا يفقهون بها وأذان لا يسمعون بها،وأبصار تفتقد البصيرة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن؟» (أخرجه البخاري).
والتشبيه بجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته ونتن ريحه وخبثه وما أروع هذا التشبيه الذي صدق معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنحن نشاهد تقليد أجيال الأمة لأمم الكفر في الأرض فيما هي عليه من أخلاق ذميمة وعادات فاسدة تفوح منها رائحة النتن، وتمرغ أنف الإنسانية في مستنقع من وحل الرذيلة والإثم وتنذر بشر مستطير ... فإنهم المخططون لكل شر، والقدوة في كل رذيلة (الجامع الصحيح المختصر ،تحقيق وتعليق د. مصطفى ديب البغا).
من وسائل الإفساد الفكري:
وضع أعداء الفكر الإسلامي المخططات والبرامج والوسائل المتعددة للوصول إلى أغراضهم الخبيثة لتلويث وتسميم الأفكار،متحركين بعقيدة ثابتة، وأيدلوجيات منظمة، وقد ساعدهم في ذلك رهط من أبناء جلدتنا من المهزومين فكريا باسم النخب الفكرية والسياسية، بدعوى الواقعية والعقلانية والحداثة والمدنية بمفهومها الغربي؛ ليؤدي ذلك إلى التنازل عن الثوابت، بل يصبح فكر التطبيع جزءا أصيلا من الثقافة الوطنية لتصبح بعد ذلك الخيانة وطنية، والتنازل عن الثوابت وطنية.ومن أهم هذه الوسائل:
1- إحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الإسلامية لتغريب العالم الإسلامي، وتفريغ التعليم من الروح الإسلامية، وتهيئة مناخ فكري جديد يخضع لهيمنة النظام العالمي الجديد، وعزل العالم الإسلامي عن وسائل التقدم العلمي، وشيوع الجهل، وذلك عن طريق المستشرقين والتغريبيين، الذين استخدموا بعض الحكام لتنفيذ خططهم،كما ركز الغزو الفكري سهامه علي قلب الأمة -أي علي الأسرة المسلمة-في محاولة لتغيير ملامحها،وصبغها بصبغة غير إسلامية ،وبالفعل أسفرت حملات الغزو الفكري عن آثار خطيرة أصابت قلوب وعقول أفراد الأسرة المسلمة،وكان لهذا الغزو أثر في العقيدة والثقافة والفكر.
2- التطبيع الثقافي المتسع النطاق،الذي يشمل كل مفردات الحياة اليومية، كالمأكل والمشرب والملبس وطريقة الكلام والتفكير، وهي علاقة غير قائمة على الحوار والثقافة بل على التبعية والتقليد والإذعان أمام الغالب، يقول ابن خلدون موضحاً هذه التبعية العمياء: “ إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله. وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم” (انظر:مقدمة ابن خلدون، ص149).
3- محاولة اختراق المناهج الثقافية والتعليمية والتربوية للأمة الإسلامية،والتد رج في الهبوط الثقافي والأخلاقي،ووضع مناهج تتماشى مع الفكر الصهيوأمريكي؛حي ث ركزوا على الناشئة؛ وذلك لمعرفة أعداء الإسلام الأثر الواضح في التربية الصحيحة المبكرة، يقول المبشر (جون موط): {إن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكرا جدا، ومن أجل ذلك يجب حمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم سن الرشد، وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية}(انظر: الغزو الفكري، د. عبد الستار سعيد، ص 69).
4- كما تحكموا في الإعلام؛ لقدرته على تشكيل الأفكار والأفراد حسب النوعية التي تراد، وتستطيع أن تحكم على الأمة من خلال إعلامها من حيث تقدمها أو تخلفها، ولو نظرنا إلى وسائل إعلام الأمة العربية والإسلامية – ولاسيما الرسمية- لوجدنا التناقض الواضح في البرامج المعروضة،فمثلا التلفاز يعرض برنامجا دينيا يتكلم عن الحجاب والعفاف ثم بعده يأتي بالمذيعات المتبرجات أو الأفلام الماجنة،بل ترى في كثير من البرامج ألوانا من الكذب والنفاق،بل والترويج للأفكار الهدامة التي تدمر أطفالنا وشبابنا.
5- إيجاد فئة من المنتسبين للعلم الشرعي الذين تربوا على الموائد الغربية المباشرة وغير المباشرة (عن طريق المناهج التغريبية)، وتلميع هذه الطائفة للتحدث باسم الدين، رافعة شعار الحق الذي يراد به الباطل ،فهم يتحدثون ليل نهار عن التسامح مع الآخر، ولا يتحدثون عن تسامح الآخر معنا، وينددون بالعنف من جانب واحد،ويتركون الآخر يقتل ويدمر ويستبيح العرض والأرض، ووالله إنها لأحدى الكبر، أن يحارب الإسلام بأهله،وذلك بتجنيد هؤلاء الشرذمة الذين يأكلون بدينهم، ويغزون العقول باسم الدين وبصفة علماء الأمة، ولقد نجح أعداء الإسلام ومحاربو الحق في حشد كثير من علماء السوء الذين ينفرون الناس من دعاة الحق وأهله، ويصفونهم بما ليس فيهم من القبائح، ويطعنون في عقائدهم ومقاصدهم زورا وبهتانا.
6- إشاعة الفوضى الفكرية عن طريق تمرير مصطلحات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كالحرية،والمساو اة،وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والدولة المدنية،والديمق راطية،والعدالة الاجتماعية وذلك لأنهم يطلقون كل هذه المصطلحات من أجل إشغال الناس،وليس من أجل تحققها،بمعنى أن الذين ينادوننا بهذه المصطلحات يكفرون بها إذا لم تكن في صالحهم،فأمريكا كفرت بكل هذا ،وغزت العراق وعذبت الناس في جوانتناموا وسجن (أبو غريب )،وكذلك اليهود عندما احتلوا الأراضي المقدسة وأسروا أهلها،والبوذيون عندما أحرقوا المسلمين... فالحقيقة أن كل هذه المصطلحات للاستهلاك المحلي فقط!!.
يقول آرنولد توينبى: “أصبح استخدام اصطلاح الديمقراطية مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الحرية والمساواة”انظر لغة تراث الإنسانية: (ج:3)، (ص:342).
كل هذه الوسائل هدفها أن تنتحر الأمم بأيديها دون سلاح،كما قالوا: «إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده».
7- زرع روح الهزيمة في نفوس العرب والمسلمين لإحداث شلل إيماني وفكري وحركي، مما يجعل الشعوب في حالة استكانة وضعف ومذلة وتبعية كاملة للغرب؛ وذلك عن طريق إيهام العرب والمسلمين بأن أمريكا واليهود هم القوى العظمى التي لا تقهر، وعلى الجميع أن يخضع لهم.
مقاومة الفساد الفكري واجب شرعي ووطني:
- إن تسخير الإمكانات - مهما كانت متواضعة - لمكافحة الفساد الفكري والتغريبي القادم واجب شرعي ووطني؛لأن الفساد الفكري كالسرطان إذا أمسك عضوا سرى أثره في الجسد كله،ولذا فيجب علينا جميعا التصدي لهذه الأفكار المسرطنة المدمرة،ومن أهم هذه الوسائل:
1- إحداث إفاقة إيمانية وفكرية نابعة من ثوابت ديننا،والاستمسا ك بالقرآن الكريم، والهدي النبوي؛ لأن التخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين كان بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.
كما يجب الإطاحة الشاملة بكل الأفكار الفاسدة عن طريق كشف عور هذه الأفكار، وما يترتب عليها من آثار مدمرة، وإيجاد البديل الفكري المستنير الذي يحافظ على قيم وأخلاقيات المجتمعات الإسلامية العربية،مع تمحيص كل الأفكار الواردة علينا، والأخذ منها بما يتفق مع أصولنا وعقيدتنا وأخلاقنا وقيمنا، وطرح كل ما يخالف ذلك، وعدم الانبهار بالمصطلحات الخداعة التي يروج لها الغرب.
2- استحضار المعنى الحقيقي لخيرية الأمة والاستخلاف في الأرض، وأن هذا الاستخلاف لن يتحقق إلا بعبادة كاملة لله، وإعمار حقيقي للكون بمنهج الله، وأن هذه الأمة هي الأمة الوسط التي ينبغي على الجميع أن ينهل منها، وأن تعطي وتعلم العالم كله الأسس الحقيقية لقواعد التفكير السديد البناء، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق إصلاح شامل، يشمل الجانب الفكري والنفسي في الميادين الاجتماعية والسياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والقضائية وسائر ميادين الحياة ، ولابد من التحلي بالصبر الجميل على هذا الإصلاح حتى يؤتي أكله.
3- لا بد من العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين الربانيين ،ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم لا ينجرف مع تيار التغريب،ويعتز بانتمائه لدينه وقيمه وأخلاقه.
4- الإخلاص في الإرادة والصواب في التفكير والعمل ؛لأن فترات القوة والمنعة في التاريخ الإسلامي إنما ولدت حين تزاوج هذان العنصران، فإن غاب أحدهما أو كلاهما فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم .
5- الاهتمام بالتربية الإسلامية، ومفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وهي القرآن الكريم، فهو مصدر التلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وأن يكون القرآن الكريم هو المنهج الأساسي الذي يتربى عليه الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وقد كان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب إلى أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته. .(انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص225 بتصرف يسير).
كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصا شديدا على أن تكون السنة النبوية هي المادة الدراسية الثانية؛لأنها هي المبينة والمفسرة والشارحة لما جاء في القرآن الكريم،قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل:89) .
6- التغلب على الهزيمة النفسية التي أوجدها الأعداء في نفوس الناشئة والأجيال المسلمة،وذلك بتقوية الإيمان،قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران:139)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ}(مُحَمّ د : 35). فالمؤمنون هم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة . والأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى، والأعلون منهجا وهدفا وغاية ،والأعلون شعورا وخلقا وسلوكا . . والأعلون قوة ومكانا ونصرة.
7- إظهار أدبيات الإسلام في التعامل مع المرأة، وإعطائها الاستقلال الفكري واحترام علمها وبيعتها وشهادتها وحقوقها ووجهة نظرها وتقديرا لدور المرأة في بناء المجتمع الإسلامي، فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء في موقعة مشهودة للقاصي والداني، فكانت بيعة النساء ثاني يوم الفتح بعدما فرغ من بيعة الرجال..وسطّرها القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة:12)، يقول مارسيل بوازار:.. أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم - أنها حامية حمى حقوق المرأة”(انظر: مارسيل بوازار : إنسانية الإسلام ، ص 140 ). ويقول السير (تشارلز إدوارد أرشيبالد هاملتون): إن الإسلام يُعَلّمُ البراءة الأصلية للإنسان - أي أن الإنسان يولد بريئا بلا ذنوب، بخلاف ما تعلمه المسيحية من القول بالخطيئة الأصلية للإنسان وبأن البشرية ورثت خطيئة آدم وأن الأبناء يرثون خطايا الآباء. فالإسلام يعلم أن المرء يولد على الفطرة وأن : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدث ر: 38)- ويعلم أن الرجل والمرأة جاءا من نفس واحدة وأنهما يملكان نفس الروح. وأنهما مُنحَا قدرات متساوية من المواهب العقلية أو الفكرية والروحية أو الدينية والأخلاقية. (موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،علي بن نايف 5/40).
كما يجب إظهار أدبيات الإسلام في التعامل مع الآخر مهما كانت عقيدته،وأن له كافة الحقوق التي توفر له حياة آمنة،بل هذا الأمر من آكد الواجبات الإسلامية،قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(الت وبة:6).
كما يجب على الأمة ولاسيما العلماء والمفكرين تصحيح المفاهيم المغلوطة حول الإسلام والمسلمين،هذه المفاهيم التي روجها - كذبا - أعداء الإسلام،ولا يقتصر في تصحيح هذه المفاهيم على الجانب النظري، بل لابد من إظهار جانب المعاملات والأخلاق،وإبراز هذا الجانب العملي من خلال أبجديات التاريخ والواقع الذي ينطق بذلك على مدار هذا التاريخ.



اعداد: د.خالد راتب