قال شيخ الاسلام ابن تيمية فى العقيدة الواسطية
الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بالهُدَى ودِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّين كُلِّهِ وكَفَى باللهِ شَهِيداً
وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ إِقْرَاراً بِه وتَوْحِيداً
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيداً
قال الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد فى التنبيهات السنية:
( 1) قولُه: ( الحمدُ للهِ ): الألفُ واللامُ للاستغراقِ، فجميعُ أنواعِ المحامدِ كُلِّها للهِ سُبحانه مُلكا واستحقاقاً. وهو لغةً الثَّناءُ بالصِّفاتِ الجميلةِ، والأفعالِ الحسنةِ، وعُرفاً فعلٌ ينبئ عن تعظيمِ المُنْعِمِ بِسببِ كونهِ منعِمَاً.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: الحمدُ هو ذكرُ صفاتِ المحمودِ مع حبِّهِ وتعظيمهِ وإجلالِه، فإن تَجرَّد عن ذلك فهو مدحٌ، فالفرقُ بينهما أنَّ الإخبارَ عن محاسنِ الغيرِ إمّا أَنْ يكونَ إخباراً مجرَّداً من حبٍّ وإرادةٍ أو مقروناً بحبِّهِ وإرادتِهِ. فإذا كان الأوَّلَ فهو مدحٌ، وإن كان الثَّانيَ فهو الحمدُ.
قولُه: ( للهِ ): لفظُ الجلالةِ عَلَمٌ على ذاتِهِ سبحانه وهو أَعرفُ المعارفِ على الإطلاقِ.
وقالَ بعضُ العلماءِ: إنّه الاسمُ الأعظمُ وذُكِرَ في القرآنِ في (2360) ألفين وثلاثمائةٍ وستِّين موضعاً، وهو يتناولُ معانيَ سائرِ الأسماءِ بطريقِ التَّضَمُّنِ، وهو مشتقٌّ من أَلَهَ يَأْلَهُ إذا عَبَدَ فهو إلهٌ بمعنى مألُوهٍ أي معبودٍ، فالإلهُ هو المألوهُ والَّذي تألَهُهُ القلوبُ، وكونُه مستحِقّاً للألوهيَّةِ مُستلزِماً لصفاتِ الكمالِ فلا يستحِقُّ أنْ يكونَ معبوداً محبوباً لذاتِهِ إلا هُوَ، وكلُّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُه فهو باطلٌ، وعبادةُ غيرِه وحبُّ غيرِه يوجِبُ الفسادَ كما قالَ تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
قولُه: ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ): أي بعثَ رسولَهُ. والرَّسولُ إنسانٌ ذكَرٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ وأُمِرَ بتبليغِهِ، وأمَّا النَّبيُّ فهو مأخوذٌ من النَّبأِ وهو الإخبارُ؛ لأنَّهم مُخْبِرون عن اللهِ أو من النّبوَةِ وهي الرِّفعةُ؛ لارتفاعِ رُتَبِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وهو إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ ولم يُؤمَر بتبليغِهِ، فكلُّ رسولٍ نبيٌّ ولا ينعكسُ، وعددُ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ مائَةُ ألفٍ وأربعةُ وعشرون ألفاً كما جاء في حديثِ أبي ذرٍّ، وقيلَ لا يُعرَفُ عددُهم بدليلِ قولِهِ سبحانَه: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الآيةَ، وأمّا عددُ الرُّسلِ فهم ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشرَ كما في الحديثِ المذكورِ.
وأولو العَزْمِ مِنهم خمسةٌ كما ذَكَر ذلك البَغَويُّ عن ابنِ عباسٍ وغيره وهم: محمَّدٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ونوحٌ عليهمُ السَّلامُ، وَنَظَمهُم بعضُهم بقولِهِ:
محمَّدٌ ابراهيمُ موسى كليمُه فعيسى فنوحٌ هم أولوا العزمِ فاعلمِ.
وهم في الفضلِ على هذا التَّرتيبِ المذكورِ في البيتِ.
( 2) قولُه: ( بالهدى ): أي العلمِ النـَّافعِ.
قولُه: (وَدِينِ الْحَقِّ ): أي العملِ الصَّالحِ.
قولُه: ( ليظهرَهُ ): أي يُعْلِيَهُ وينصرَهُ ظهوراً بالحُجَّةِ والبيانِ، والسَّيفِ والسِّنانِ، حتَّى يَظْهَرَ على مخالفيهِ، وقد وقعَ ذلك، فإنّ المسلمين جاهدوا في اللهِ حقَّ جهادِه حتَّى فتحَ اللهُ عليهم فاتَّسعَتْ رُقعةُ البلادِ الإسلاميَّةِ شرقاً وغرباً في مُدَّةٍ يسيرةٍ مع قلَّةِ عددِهِم وعُدَّتِهِم بالنّسبةِ إلى جيوشِ سائرِ الأقاليمِ من الرّومِ والفرسِ والتُّركِ والبَرْبَرِ وغيرِهم، فقهَروا الجميعَ حتَّى عَلتْ كلمةُ اللهِ، وظهرَ دينُه على سائرِ الأديانِ وامتدَّتِ الممالكُ الإسلاميَّةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها في أقلَّ من ثلاثين عاماً.
قولُه: ( على الدِّينِ كلِّه ): أي على سائرِ الأديانِ، كما ثبتَ في الصَّحيحِ مِن حديثِ ثَوْبانَ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإَنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا )). وما في هذا لحديثِ أخبَر بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوَّلِّ الأمرِ, وأصحابُه في غايةِ القلَّةِ قبلَ فتحِ مكةَ فكانَ كما أخبرَ فَإِنَّ مُلكَهُم انتشرَ في المشرقِ والمغربِ ما بينَ أرضِ الهندِ أقصى المشرقِ إلى بحرِ طنجَةَ في المغربِ، حيث لا عِمارةَ وراءَه وذلك مالم تَمْلِكْهُ أمَّةٌ من الأممِ، وفي حديثِ جابرٍ: (( إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ )) أخرجاه في الصَّحيحينِ.
قولُه: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ): أي شاهداً أَنَّه رسولُه، وهو ناصِرُه ومُعلِيهِ، وَكَفى بِشَهادَتِهِ سُبحانَهُ إثباتاً لصدقِه، وكفى باللهِ شهيداً أي في علمِهِ، واطّلاعِه على أمرِ مُحمَّدٍ، كفايةً في صدقِ هذا المخبِرِ عنهُ، إذ لو كان مُفْتَرِياً لَعاجَلَه بالعقوبةِ البليغةِ، كما قالَ تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ) الآيةَ.
ومن أسمائهِ سبحانَه الشَّهيدُ، قالَ اللهُ تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي أَنَّه لا يغيبُ عنه شيءٌ، ولا يعْزُبُ عنه، بل هو مُطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ مُشاهِدٌ له عليمٌ بتفاصيلِه، فشهِدَ سبحانَهُ لرسولِه أنَّ ما جاء به حقٌّ وصدقٌ، فلا يليقُ به سبحانه أن يُقِرَّ من يكذبُ عليه أعظمَ الكذبِ، ويخبرُ عنهُ بخلافِ ما الأمرُ عليه ثمَّ ينصرَهُ, ويؤيِّدُه, ويُعْليَ شأنَه، ويجيبَ دعوتَه، ويُظهِرَ على دينِهِ من الآياتِ والبراهينِ ما يعجَزُ عن مثلِهِ قُوَى البشرِ، وهو مع ذلك كاذبٌ عليه ومُفترٍ، ومعلومٌ أنَّ شهادتَهُ سبحانَهُ على كلِّ شيءٍ، واطّلاعَه وقدرتَهُ وحكمتَهُ وعزَّتَهُ وكمالَهُ يَأبى ذلك أشدَّ الإباءِ، ومَن جَوَّزَ ذلك فهو مِنْ أبعدِ النَّاسِ عن معرفتِه سُبحانه. انتهى من كلامِ ابنِ القيّمِ رحمهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى باختصارٍ.
( 3) قولُه: ( أشهدُ ): أي أُقِرُّ وأَعترفُ أنْ لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ، وتأتي ( شَهِدَ ) بمعنى أخبرَ كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: (( شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُم عِنْدِي عُمَرُ )) أي: أخبرني، وتأتي بمعنى حَضَرَ، كما في قولِه سبحانَهُ: (فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي حضَرَ، وتأتي بمعنى اطّلعَ كما في قولِهِ سبحانَهُ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي مُطَّلِعٌ. أفاده ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابِه ( بدائعُ الفوائدِ ).
قولُه: (أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ): أنْ مُخَفَّفةٌ من الثَّقيلةِ.
قولُه: (لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ) أي لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ سُبحانَهُ، وهذا معنى هذه الكلمةِ العظيمةِ الَّتي تدلُّ عليه الأدلَّةُ، خلافاً لمن زَعِمَ أنّ معناها القدرةُ على الاختراعِ، كما يقولُه الأشاعِرةُ، فإنَّ المشركين الَّذين بُعِثَ إليهم الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّون بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المحيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمرِ ولم يُدخِلْهم ذلكَ في الإسلامِ، بل قاتلَهُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحلَّ دماءَهم وأموالَهم، ولمَّا قالَ لَهم رسولُ اللهِ: اعبدوا اللهَ واتركوا ما كانَ يَعبُدُ آباؤُكم، قولُوا لا إلهَ إلا اللهُ، أنكروا ذلك ونَفَروا، وقالوا: أجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً، فدلَّ على أَنَّ معنى هذه الكلمةِ هو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وتركُ عبادةِ ما سواه.
وهذه الكلمةُ هي أوَّلُ واجبٍ وأعظمُ واجبٍ على الإطلاقِ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمعاذٍ حينَ بعثَهُ إلى اليمنِ (( فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ )) وفي روايةٍ (( إِلى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ )) فدلَّ على أنَّ التَّوحيدَ هو أولُ واجبٍ على العبادِ، خلافاً لمن زَعَمَ أَنَّ أولَ واجبٍ معرفةُ اللهِ بالنَّظرِ أو القصدِ إلى النَّظرِ أو الشّكِّ كما هي أقوالٌ لأهلِ الكلامِ المذمومِ، فإِنَّ معرفَةَ اللهِ فِطْريَّةٌ فطرَ اللهُ عليها عبادَه، قالَ تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي أفي وجودِهِ شكٌّ؟، فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوجودِه مجبولةٌ على الإقرارِ بِه، فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السّليمةِ كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ )).
وَلهذه الكلمةِ أركانٌ وشروطٌ إلى غيرِ ذلك من الأبحاثِ المتعلّقةِ ِبهذه الكلمةِ العظيمةِ.
فأركانُ لا إلهَ إلا اللهُ اثنان: النَّفيُ، والإثباتُ، فـ ( لا إلهَ ) نافياً لجميعِ المعبوداتِ، و ( إلا اللهُ ) مثبِتاً العبادةَ للهِ سُبحانَهُ، وشروطُهما سبعةٌ: العلمُ، واليقينُ، والإخلاصُ، والصّدقُ، والمحبَّةُ، والانقيادُ، والقبولُ، ونَظَمَها بعضُهم بقولِه:- علمٌ يَقينٌ وإخلاصٌ وَصِدْقُكَ معْ محبّةٍ وانقيادٍ والقَبولِ لها
وَزِيدَ ثامِنُها الكُفرانُ مِنْكَ بما غيرُ الإلهِ من الأوثانِ قَدْ أُلِّها
وتحقيقُها أَنْ لا يُعبدَ إلا اللهُ, كما أَنَّ تحقيقَ شهادةِ أَنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ أَنْ لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرعَ.
وحقُّ هذه الكلمةِ هو فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ، وأَمّا فائدتُها وثمرتُها فسعادةُ الدَّارين لِمن قالَها عارِفاً بمعنَاها، عامِلاً بمقتضاها، وأمَّا مجرَّدُ النُّطقِ بِها فقط فإنّهُ لا ينفعُ.
قالَ الشَّيخُ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى: مَنِ اعتقدَ أَنَّه بِمُجَرَّدِ تلفُّظِهِ بِالشهادةِ يدخلُ الجنَّةَ ولا يدخلُ النَّارَ فهوَ ضالٌّ مخالِفٌ للكتابِ والسُّنّةِ والإجماعِ".
وأمَّا فضلُها فقد تكاثرتِ الأحاديثُ في فضلِ هذه الكلمةِ. منها حديثُ عبادَةَ بنِ الصَّامتِ المتّفقُ عليه أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ )). وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. الحديثَ".
وفي هذا الحديثِ وغيرِه ردٌّ على من زَعَمَ أَنَّ الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ ( اللهُ ) أفضلُ من الذكرِ بالجملةِ المركَّبةِ، كقولِه: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ وهذا فاسدٌ، فإنَّ الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ غيرُ مشروعٍ أصلاً، ولا مفيدٍ شيئاً، ولا هو كلامٌ، ولا يدلُّ على مدحٍ ولا تعظيمٍ، ولا يتعلَّقُ به إيمانٌ ولا ثوابٌ، ولا يدخُلُ الذَّاكرُ بهِ عقدَ الإسلامِ جُمْلَةً، فلو قالَ الكافرُ: ( اللهََ اللهَ ) طولَ عُمُرِهِ لم يصِرْ بذلك مسلماً، فضلاً أَنْ يكونَ مِنْ جُملةِ الذِّكرِ، أو يكونَ أفضلَ الأذكارِ، إلى آخرِ ما ذكرهُ ابنُ القَيِّمِ - رحمهُ اللهُ - في كتابهِ ( سَفَرُ الهِجْرَتَيْنِ ).
وأمَّا نواقضُ لا إلهَ إلا اللهُ فكثيرةٌ جدًّا، ذكرَها العلماءُ في بابِ حُكمِ المُرتدِّ، وأعظمُها الشّركُ باللهِ.
وأمَّا إعرابُ هذه الكلمةِ: فـ ( لا ) نافيةٌ للجنسِ تعملُ عملَ إنَّ ( وإلهَ ) اسمُها مبنيٌّ معها على الفتحِ، وخبرُها محذوفٌ، والتَّقديرُ "حقٌّ" و ( إلاّ ) أداةُ استثناءٍ ملغاةٌ, ولفظُ الجلالةِ مرفوعٌ على البَدَلِيَّةِ.
وأمَّا دَلالتُها على التَّوحيدِ فإنَّها دلَّتْ على أنواعِ التَّوحيدِ الثّلاثةِ، فدلَّتْ على إثباتِ العبادةِ للهِ ونفيِها عَمَّنْ سواهُ، كما دلَّتْ أيضاً على توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإنَّ العاجزَ لا يَصْلُحُ إلهاً، ودلَّتْ على توحيدِ الأسماءِ والصّفاتِ، فإنَّ مَسْلُوبَ الأسماءِ والصّفاتِ ليس بشيءٍ، بل هو عدمٌ مَحْضٌ، كما قالَ بعضُ العلماءِ: المُشَبِّهُ يَعْبُد صَنَماً، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَماً، والمُوَحِّدُ يعبدُ إِلهَ الأرضِ والسَّماءِ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: وشهادةُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ فيها الإِلَهِيَّاتُ، وهي الأصولُ الثَّلاثةُ: توحيدُ الرُّبوبيّةِ، وتوحيدُ الألوهيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ. وهذه الأصولُ الثَّلاثةُ تدورُ عليها أديانُ الرّسلِ وما أُنزِلَ إليهم، وهي الأصولُ الكبارُ الَّتي دلَّتْ عليها وشهدَتْ بها العقولُ والفِطَرُ".
( 4) قولُه: ( وحدَهُ ): فيه تأكيدٌ للإثباتِ. وقولُهُ: ( لا شريكَ لهُ ): تأكيدٌ للنَّفيِ.
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ: تأكيدٌ بعدَ تأكيدٍ؛ اهتماماً ِبمَقَامِ التَّوحيدِ.
وقولُهُ: ( إقراراً به ): أي اعترافاً. وقولُه: ( وتوحيداً ): مصدرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيداً، أي: جعَلَهُ واحداً، أي فَرْداً، فهو بالعبادةِ مع اعتقادِ وحدتِه ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، وسُمِّي دينُ الإسلامِ توحيداً؛ لأنَّ مبناهُ على أَنَّ اللهَ واحدٌ في ملكِه وأفعالِه، وواحدٌ في ذاتِهِ وصفاتِه لا نظيرَ له، وواحدٌ في ألوهيّتهِ وعبادتهِ لا نِدَّ له، وإلى هذه الأنواعِ الثَّلاثةِ ينقسمُ توحيدُ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وهذه الثَّلاثةُ مُتَلازِمَةٌ, كلُّ نوعٍ منها لا يَنْفَكُّ عن الآخرِ.
فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ: هو الإقرارُ بأَنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المُحْيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، وهذا النَّوعُ من التَّوحيدِ أَقرَّ بهِ المشركونَ ولم يُدْخِلْهُم إقرارُهم به في الإسلامِ.
النَّوعُ الثَّاني: توحيدُ الألوهيَّةِ: وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي فيه الخُصُومَةُ بين الأنبياءِ وأممِهم.
النَّوعُ الثَّالثُ: توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: وهو أَنْ يُوصَفَ اللهُ بما وصفَ به نفسَهُ وبما وصفَهُ بهِ رسولُه من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وإنْ شئْتَ قلتَ: التَّوحيدُ ينقسمُ إلى قسمينِ كما ذكرهُ ابنُ القيّمِ في (( النُّونيَّةِ )).
( أحدِهما ): التَّوحيدُ الفِعليُّ، وهو المسمَّى بتوحيدِ الألوهيَّةِ، سُمّيَ فِعْليّاً: لأنَّه مُتَضمِّنٌ لأفعالِ القلوبِ والجوارحِ، فأفعالُ القلوبِ كالرَّجاءِ، والخوفِ، والمحبَّةِ، والجوارحِ: كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والحجِّ، ونحوِ ذلك، فهو إفرادُ اللهِ بأفعالِ العبيدِ.
( النَّوعِ الثَّاني ): التَّوحيدُ القوليُّ الاعتقاديُّ، سمّيَ بذلك لاشتمالهِ على أقوالِ القلوبِ، وهو اعترافُها واعتقادُها، وعلى أقوالِ اللسانِ، وهذا النَّوعُ هو المسمَّى توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتوحيدُ الرّبوبيَّةِ.
والتَّوحيدُ القوليُّ ينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: النَّفيُ. والثَّاني: الإثباتُ.
فالنَّفيُ ينقسمُ إلى قسمينِ:
( الأوَّلِ ): نفىُ النَّقَائِصِ والعُيوبِ عن اللهِ.
( والثَّاني ): نفيُ التَّشبيهِ والتَّعطيلِ عن أسمائهِ وصفاتِه.
والثَّاني: الإثباتُ: وهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ للهِ، ثمَّ السَّلْبُ أيضاً ينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: سَلْبٌ مُتَّصِلٌ. والثَّاني: سَلْبٌ مُنْفَصِلٌ، فالأوَّلُ نفيُ ما يُنَاقِضُ ما وَصَفَ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه من كلِّ ما يُضادُّ الصّفاتِ الكاملةَ من النَّقائصِ والعيوبِ؛ كالموتِ والإِعْيَاءِ والنَّومِ والنُّعاسِ والجهلِ والعجزِ، ونحوِ ذلك. والثَّاني سلبٌ منفصل,ٌ وهو تَنْزِيهُهُ سبحانَهُ عن أَنْ يشارِكَهُ في خصائِصه الَّتي لا تكونُ لغيرِه، كالشَّريكِ، والظَّهِيرِ، والشَّفيعِ بِغيرِ إذنِه، ونفيِ الزَّوجةِ والولدِ ونحوِ ذلك.
وأَمَّا ضدُّ التَّوحيدِ: فتوحيدُ الرّبوبيَّةِضدّ ُه اعْتقَادُ مُدَبِّرٍ أو خالقٍ مع اللهِ سبحانه وتعالى، وضدُّ توحيدِ الألوهيّةِ هو الإعراضُ عن عبادتِهِ، أو عبادةُ غيرهِ معَهُ، وضدُّ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ شيئان: التَّشبيهُ، والتَّعطيلُ.
( 5) قولهُ: ( محمـَّدٌ ): هذا أحدُ أسمائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيلَ: سُمِّيَ به؛ لكَثرةِ خِصَالِهِ الحَمِيدَةِ، وهو اسمهُ الَّذي في التَّوراةِ، وأمَّا اسمُه أحمدُ فهو الذي بَشَّرَ به المسيحُ عليه السَّلامُ كما قال سبحانه وتعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الآية.
قولُه: ( عبدُه ): أضافَه إِليه إِضافَةَ تشريفٍ وتعظيمٍ، وَوَصْفُهُ بالعبوديّةِ بأشرفِ أحوالِهِ، مقامُ الإرسالِ والإسراءِ والتّحدِّي، ومعنى العبدِ هنا: المملوكُ العابدُ، والعبوديَّةُ الخاصّةُ وصفُه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال سبحانه وتعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وأعلى مراتبِ العبدِ العبوديّةُ الخاصّةُ والرِّسالةُ، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ الخلقِ في هاتينِ الصّفتينِ الشَّريفتينِ، وأمَّا الرّبوبيَّةُ والألوهيَّةُ فهما حقٌّ للهِ لا يَشْرَكُهُ فيهما أحدٌ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مرسَلٌ، فضلاً عن غيرِهما.
وفي قولِه: ( عبدُه ورسولُه ): إشارةٌ للرّدِّ على أهلِ الإِفْرَاطِ والتَّفريطِ، أهلِ الإفراطِ الَّذين غَلَوا فيهِ ورفعوُهُ عن مَنْزِلَتِهِ، وارتكبوا ما نهاهمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغُلُوِّ. وأهلُ التفريطِ الَّذين يشهدون أَنّه رسولُ اللهِ حقّاً وهم مع ذلك قد نَبَذُوا ما جاءَ به وراءَ ظهورِهم، واعتمدوا على الآراءِ المُخَالفةِ لما جاءَ بهِ، فإنَّ شهادةَ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ تقتضي الإيمانَ به، وطاعتَه فيما أمرَ وتصديقَهُ فيما أخبرَ، فما أثبتهُ وَجَبَ إثباتُه، وما نَفاهُ وَجَبَ نَفيُه، فشهادةُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ كما تقتضي الإيمانَ بهِ تقتضي الإيمانَ بجميعِ الرّسلِ؛ لما بينهُما من التَّلازُمِ، وكذلك الكتُبُ الَّتي جاءَتْ بها الرُّسلُ.