الغفور الحليم


علمت أن والدة «بوفهد» توفيت ليلة ثاني جمعة من رمضان، فعقدت النية أن أصلي العصر في المسجد المرفق بالمقبرة، ثم كتب الله ألا أفيق إلا مع أذان العصر، ففاتني قراريط الجنازة، فضلا عن أداء الواجب تجاه أخ عزيز. أسأل الله لوالدته المغفرة والرحمة.
- زارني صاحبي كعادته بعد نصف ساعة من صلاة العصر، أخذنا مجلسنا.
- ماذا عن اسم الله «الحليم»؟
- «الحليم» ورد في كتاب الله إحدى عشرة مرة، ومقترنا بـ«الغفور» ست مرات، وبـ«العليم» ثلاث مرات، وبـ«الغني» مرة واحدة، وبـ«الشكور» مرة واحدة، ولأذكر لك بعض الأمثلة:
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }(البقرة:225).
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(البقرة:2 63).
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(التغابن :17).
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(فاطر:41) .
- هل لاحظت أن اسم الله «الحليم» أتى بعد «الغفور» و«العليم» و«الشكور»، و«الغني».. وأتى مرتين فقط قبل «الغفور» في آية الإسراء(44) وآية فاطر (41).. وكلتاهما: {حليما غفور}؟
- نعم لاحظت ذلك. تعالَ نبحث في كتاب التفسير واللغة؛ لنتدبر الحكمة.
- «الحليم» ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم، وهو ذو الصفح والأناة لا يستفزه غضب غاضب، ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص، فهو الصفوح مع القدرة على العقوبة.
وفي تفسير القرطبي للآية (255) في البقرة: «والله غفور لعباده فيما لغوا في أيمانهم التي أخبر الله تعالى أنه لا يواخذهم بها، ولو شاء آخذهم بها..»، وذلك أن الذنب إما أن يستغفر العبد منه فيغفره الله ولا يؤاخذ عليه، وإما ألا يستغفر منه ولكن لا يعاجله الله بالعقوبة لأنه «حليم»، ويعطي عباده «فرصة» الحياة كلها يستغفرون ويرجعون، فإن فعلوا ذلك غفر ذنوبهم مهما كانت.
- ولماذا تقدم «حليما» و«غفورا» في الآيتين؟!
في هاتين الآيتين لا يذكر الله ذنبا «مباشرا» وإنما يقول في سورة الإسراء: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }(الإسراء:44).
في تفسير السعدي الجواب؛ حيث لم يعجل بالعقوبة لمن قال فيه قولا تكاد السموات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال، ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه؛ ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم، فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض ولما ترك على ظهرها من دابة.
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(فاطر:41) .
يخبر تعالى عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدراتهم وقواهم عنهما.
ولكنه تعالى، قضى أن يكونا كما أوجدهما؛ ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته، ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما، ومحبة وتكريما، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته، بإمهال المذنبين، وعدم معاجلته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم، ولو أذن للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعتهم مغفرته وحلمه وكرمه؛ { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.


اعداد: د. أمير الحداد