التسليم في الحج




إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، مَن يهده الله فهو المهتد، ومَن يُضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

اللهم اجعلنا ممَّن يثقون بوعدك لعبادك المؤمنين، وممن يتمسكون بحبلك المتين؛ فأنت حسبنا ونعم الوكيل.

شرع الله -تعالى- الحجَّ لمقاصد جليلة، ومنافع عاجلة وآجلة؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «منافع الدنيا والآخرة، أمَّا منافع الآخرة فرضوان الله -تعالى-، وأمَّا منافع الدنيا فما يُصيبون من منافع البُدْن، والذبائح والتجارات».

ومن أعظم منافع الحج: تربية الأمة على التسليم لله ولشرعه؛ فالله -تعالى- لا يشرع شيئًا إلا لحكمة، عَلِمَها مَن عَلِمَها، وجَهِلها مَن جهلها؛ ولذا مَن ترسَّخ عنده هذا المعنى ووقر في قلبه فإنه يُسلِّم وينقاد لأحكام ربه -تبارك وتعالى-.

ولو تأملنا في أعمال الحج ومناسكه؛ لوجدنا كل أعمال الحج تدور على تكريس درس التسليم، وتقريره، وتثبيته في نفوس العباد؛ ومِن ثَمَّ لا سؤال: لماذا نطوف بالبيت سبعًا؟ ولماذا نقف في عرفة؟ ولماذا نرمي الجمرات؟ ولماذا هذه المواقيت الزمانية والمكانية؟ ولماذا نؤدي المناسك بهذه الطريقة التي أمرنا الله -تعالى- بها؟

وذلك كله جوابه في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته: «خذوا عني مناسككم»؛ ولذا قال جابر -رضي الله عنه- في حديث الحج المشهور: «فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلُّهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله»... ثم قال: «فنظرت إلى مدِّ بصري بين يديه، من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومِن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظْهُرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به».

وشعار الحج «لبيك اللهم لبيك» يرسّخ بإعلانه وتكراره هذا الدرس، فيكرر الحاج «لبيك اللهم لبيك»؛ أي: أستجيب لك يا رب إجابةً بعد إجابة، ونعبدك وحدك، ونتَّبع رسولك صلى الله عليه وسلم ، فلبَّيك اللهم استسلامًا، ولبيك انقيادًا، ولبيك اتباعًا مرَّة بعد أخرى.

وقد وَقَف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، لم أشعر، فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: «اذبح ولا حرج». ثم جاءه رجلٌ آخر، فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: «ارمِ ولا حرج». قال: فما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال: «افعل ولا حرج».

فهذه الأسئلة وغيرها مما ورد في حجة الوداع دليلٌ على ترسخ درس التسليم؛ فالصحابة لا يريدون أن يُقدموا على شيء من أنفسهم ما لم يأذن به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والتسليم والاتباع ليس في مجرد الإتيان بالفعل، وإنما في صفته وتوقيته وشرطه؛ فحين توجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي بعد أن طاف بالبيت قال: «أبدأُ بما بدأ الله به»؛ متابعةً لقول الله -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا؛ كما بدأ الله -تعالى-.

وفي درس التسليم في الحج: لا بحث عن عِلَل ومعاذير لترك الأمر المشروع؛ ما دام هذا الأمر ثابتًا غير مرتبط بعلته، أما ما كان مرتبطًا بعِلّته فإن الحكم يدور مع عِلّته؛ كما قرره أهل العلم. وهذا من التسليم كما هو ظاهر؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحابة بالرَّمل لإظهار قوة المسلمين، وتخييب ظنِّ المشركين الذين ظنُّوا أن حُمَّى المدينة قد أنهكت الصحابة، فرأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن سبب الرَّمَل قد زال، فقد أعزَّ الله الإسلام وأذلَّ المشركين، ورغم ذلك كان يقول: «فما لنا وللرَّمل، إنَّما كنَّا راءَينا به المشركين، وقد أهلكهم الله»، ثم قال: «شيءٌ صنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نُحِبُّ أن نتركه».

وقد فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- هذا الدرس، وعملوا به؛ فكانوا في غاية الحرص على التسليم للشرع والانقياد لله -تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن عليًّا -رضي الله عنه- لشدة تأسّيه بالنبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بما أهلَّ به رسولُ الله؛ دون أن يَعرف ما هو، فقد سأله النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «ماذا قلتَ حين فرضتَ الحج؟»، قال: قلت: اللهمَّ إني أُهِلُّ بما أهَلَّ به رسولك.

ودرس التسليم في الحج له ركيزتان لا يتحقق إلا بهما؛ أولهما: إن التسليم لا يتوقف على معرفة الحكمة من الأمر أو النهي، بل إن اشتراط ذلك يَنقض أصل التسليم، ويبيّن ذلك مقولة عمر -رضي الله عنه- المشهورة، مخاطبًا الحجر الأسود: «إنِّي أعلمُ أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتك»(صحيح البخاري)، «وفي قول عمر هذا: التَّسليم للشارع في أمور الدين، وحُسْن الاتباع فيما لم يُكشَف عن معانيها، وهو قاعدةٌ عظيمة في اتباع النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يُعلَم الحكمة فيه»[1].

ولا يخفى أن البحث عن الحكمة بعد الانقياد لحكم الشرع لا ينافي التسليم، وإنما الذي ينافي التسليم هو توقف الانقياد على معرفة الحكمة، وإلا فالنصوص في كثير منها بيان لحكمة التشريع، كما اجتهد العلماء في تلمُّس حِكَم التشريع؛ تحصيلاً للعلم الذي يزيد اليقين بحِكْمة الله في تشريعه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكُتبه ورسله على التسليم، وعـدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يَحْكِ الله -سبـحـانـه- عن أُمّة نبي صدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرَها به، ونـهـاهـــا عنه، وبلَّغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلَّمتْ، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها بسبب عدم معرفته، وقد كانت هذه الأُمّة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلومًا لا تَسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نـهـى عـــن ذلك؟ ولِمَ فعل ذلك؟؛ لعلمهم أن ذلك مضادّ للإيمان والاستسلام... فإن ورد الشرع بذِكْر حكمة الأمر، أو فقهها العقل؛ كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يُوهِن ذلك انقياده ولم يقدح في امتثاله»[2].

والركيزة الأخرى: إن مقتضى التسليم الوقوف عند حدود الشرع؛ لأن تجاوز ما حدَّه الشارع يدلّ على ضعف التسليم مهما كانت نية صاحبه، ويبين ذلك قصة ابن عباس -رضي الله عنهما- في طوافه مع معاوية -رضي الله عنه- بالبيت؛ إذ كان معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس: «لِمَ تستلم هذين الركنين، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟! فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فقال معاوية: صدقتَ.

وفي هذا المعنى ما رواه الزبير بن بكار قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، مِن أين أُحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: إني أريد أن أُحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: إني أريد أن أُحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة. قال: وأيّ فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها! قال: وأيّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63][3].

فحريّ بالمسلمين أن يستوعبوا درس التسليم في الحج، ويعلموا أن تحقيق معنى العبودية لله تعالى لا يتم إلا بالتسليم الكامل لحكم الله -سبحانه وتعالى-، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم مع الرضى القلبي به؛ قال الله -تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].







[1] فتح الباري (3/ 463).
[2] الصواعق المرسلة (4/ 1560).
[3] أحكام القرآن، لابن العربي (3/ 432).
منقول