تونـس … تاريخها الإسلامي ودور علمائها في نشر الدعوة



يقتصر العديد من المتابعين في تاريخ تونس على الحكومات التي حكمت البلاد ما بعد الاستقلال التي عرفت بعدائها الشديد للإسلام بكل مظاهره، ورغم أن الأيام دول وأن عهد الاستبداد لا بد أن ينتهي بمآس إلا أن الإسلام لا يزال باقيا في تونس وسيتمكن أبناءصه المسلمون البررة من إحيائه في قلوب العباد، وفي هذه الإطلالة نحاول استعراض التاريخ الإسلامي المجيد في تونس ودور علمائه في نشر الدعوة الإسلامية وتحملهم المحن في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، فضلا عن المنارات العلمية التي اشتهرت بها تونس مثل مدينة القيروان وجامع الزيتونة الذي كان أول جامعة في العالم.
ولا ننسى أن تونس أنجبت العديد من العلماء الفطاحل قبل أن تحاول هذه الحكومات تجفيف منابع الدين الحنيف ومحاربته بكل طريقة، وكان من آخر هؤلاء الفطاحل الشيخ طاهر بن عاشور، وخضر بن حسين الذي كان من آخر من تقلد بمشيخة الأزهر عندما كان الاختيار بالمكانة العلمية.
بدأ الفتح العربي الإسلامي لتونس منذ سنة 27 هـ في عهد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه- الذي أرسل الصحابي عبد الله بن أبي السرح لمواصلة فتح بلاد أفريقيا على رأس جيش كبير دخولا من طرابلس الغرب.
بعد الفتح تم تأسيس المدينة العربية الإسلامية الأولى بإفريقية وهي مدينة القيروان وبنى فيها القائد عقبة بن نافع جامع القيروان الكبير.
تاريخ القيروان
يعود تاريخ القيروان إلى عام 50 هـ / 670 م، عندما قام بإنشائها عقبة بن نافع. وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم. وقد اختير موقعها على أساس حاجات إستراتيجية واضحة. فقد ذكر عقبة بن نافع أصحابه بعد الفتوح في المغرب: «إن أهل هذه البلاد قوم لا خلاق لهم إذا عضهم السيف أسلموا، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى عاداتهم ودينهم ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيا وقد رأيت أن أبني ها هنا مدينة يسكنها المسلمون فاستصوبوا رأيه». وقد اختار لها موضعا بعيدا عن البصر في وسط البلاد ولئلا تمر عليها مراكب الروم فتهلكها.
وأدت مدينة القيروان دورا رئيسا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامي ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح إلى آخر دولة الأمويين بدمشق . وعندما تأسست الخلافة العباسية ببغداد رأت فيها عاصمة العباسيين خير مساند لها لما أصبح يهدد الدولة الناشئة من خطر الانقسام والتفكك.
أول جامعة إسلامية
جامع الزيتونة أول جامعة في العالم الإسلامي وهو جامعة وجامع بمدينة تونس. يعد ثاني الجوامع التي بنيت في «إفريقية» بعد جامع عقبة بن نافع في القيروان، يرجح المؤرخون أن من أمر ببنائه هو حسان ابن النعمان عام 79 هـ، وقام عبيدالله بن الحبحاب بإتمام عمارته في 116 هـ736م.
كان جامع الزيتونة محور عناية الخلفاء والأمراء الذين تعاقبوا على إفريقية، إلا أن الغلبة كانت للبصمات الأغلبية ولمنحى محاكاته بجامع القيروان وقد منحته تلك البصمات عناصر يتميز بها إلى اليوم.
وتتمثل أهم هذه العناصر في بيت صلاة على شكل مربع غير منتظم وسبع بلاطات مسكبة معمدة تحتوي على 15مترا مربعا وهي مغطّاة بسقوف منبسطة. وقد اعتمد أساسا على الحجارة في بناء جامع الزيتونة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن.
وتتميّز قبّة محرابه بزخرفة كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة بزخارف بالغة في الدقة تعتبر النموذج الفريد من نوعه في العمارة الإسلامية في عصورها الأولى.
ولم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تمتّع به جامع الزيتونة، بل شكّل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس وقد لعب الجامع دورا طليعيا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقية أشاعت روحا علميّة صارمة ومنهجا حديثا في تتبع المسائل نقدا وتمحيصا، ومن أبرز رموز هذه المدرسة علي بن زياد مؤسسها، وأسد بن الفرات، والإمام سحنون صاحب المدوّنة الذي رتبت المذهب المالكي وقننته.
وكذلك اشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة التونسي صاحب المصنّفات العديدة وابن خلدون المؤرخ ومبتكر علم الاجتماع. إلا أن الجامع عرف نكسة كبرى عندما دخله الجيس الإسباني في صائفة 1573 فيما يعرف بوقعة الجمعة، واستولوا على مخطوطاته، ونقلوا عددا منها إلى إسبانيا وإلى مكتبة البابا.
علماء الزيتونة
لقد تخرّج من الزيتونة طوال مسيرتها آلاف العلماء والمصلحين الذين عملوا على إصلاح أمّة الإسلام والنهوض بها. إذ لم تكتف جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتسهم في مسيرة الإبداع والتقدم وتقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيم الإسلامية السمحة، وإنما كانت إلى ذلك قاعدة للتحرّر والتحرير من خلال إعداد الزعامات الوطنية وترسيخ الوعي بالهوية العربية الإسلامية، ففيها تخرج المؤرخ ابن خلدون وابن عرفة وإبراهيم الرياحي وسالم بوحاجب ومحمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر، ومحمد العزيز جعيط والمصلح الزعيم عبدالعزيز الثعالبي وشاعر تونس أبوالقاسم الشابي صاحب: (ديوان أغاني الحياة)، والطاهر الحداد صاحب كتاب: (والتعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة) وخير الدين التونسي، ومحمد المكي بن عزوز الذي تحول من القبورية إلى السلفية، وقد كتب إلى الشيخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة الكويت قال: قلت: وقد أرسل ابن عزوز بعد هدايته للسلفية رسالة إلى الشيخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة (الكويت) قال فيها: «دخل علي السرور ما الله به عليم في التعرف بكم وظفري بصاحب مثلكم، وذلك أن قلبي موجع من غربة العلم والدين وأهله وقلة أنصاره. وإيضاح هذا: أني لست أعني بالدين الدين الذي قنع به أكثر طلبة العصر والمنتسبين إلى العلم في الشرق والغرب من كل مذهب من مذاهب أهل السنة.
سارت مشرِّقة وسرت مغرباً
شتان بين مُشــرِّق ومغرِّب
ولكني أعني بالعلم والدين علم السنة، وما الدين إلا اتباعها وإيثارها على عصارات الآراء وهجومة المتفقهة، وما التوحيد إلا توحيد السلف الصالح، وأما غيره فأشبه بالضلالات وزلقات الهفوات.. إننا نجد فقيهاً تقياً محباً للسنة ومبغضاً للبدعة، متعففاً من تناول الحرام، واقفاً موقف النصح والإرشاد للخلق، حسن النية، لكنه جاهل بعبادات النبي[ وما كان عليه في شؤونه كلها.
وقد يكون عارفاً بها أو ببعضها، ويترك المتابعة النبوية عمداً، لأنها خالفت قول فقهائه، ولو تخبره بإصلاح عبادة أو تحرير حكم شرعي بنص نبوي ينفر منك نفرته من العدو، ورآك مخادعاً ، ولربما اتخذك عدواً مبيناً بعد المحبة والصحبة ويحكم بضلالك، كل ذلك لغلوه في التقليد، ولا يخفى أن أولئك لا يقال لهم علماء إلا مجازاً خلاف في ذلك كما قاله ابن عبدالبر وغيره، وتجد آخر متفنناً بعدة علوم، وربما يكون مطلعاً على دواوين الحديث نبيهاً، له همة تنبو به عن التقليد، يبالغ في تتبع الأدلة، فينقلب عن الدين وغيرته في اعتقاد تأثير الطبيعة، حتى ينكر معجزات الأنبياء، وينكر كونها خارقة للعادة ونحو ذلك من القول بنفي حشر الأجساد في الآخرة ونفي تناسل البشر من آدم وحواء. الخ. وإياها أعني في مباحث عدة من (العقيدة الإسلامية) التي رأيتموها بجدة، وبعض هؤلاء أيضاً لهم حسن نية في تعديهم الحدود، فهذان الفريقان اللذان هما على طرفي نقيض، أحدهما مُفرط، والآخر مُفَرط، كلاهما يعدهما المغفلون من علماء الدين، ولكل منهما أتباع وأنصار. (انعق بما شئت تجد أتباعاً).
وغيرهم كثير من النخب التونسية والمغاربية والعربية.
لقد تجاوز إشعاع جامعة الزيتونة حدود تونس ليصل إلى سائر الأقطار الإسلامية ولعلّ المفكر العربي الكبير شكيب أرسلان يوجز دور الزيتونة عندما عدّه إلى جانب الأزهر والأموي والقرويين أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية في القرون الأخيرة، لقد مرّت الآن أكثر من 1300 سنة على قيام جامع الزيتونة الذي شهد منذ بنائه تحسينات وتوسعات وترميمات مختلفة بدءا من العهد الأغلبي حتى الوقت الحالي، ومرورا بالحفصيين والمراديين والحسينيين، وهم آخر ملوك تونس قبل إقرار النظام الجمهوري لذلك حافظ هذا الجامع باستمرار على رونقه ليبقى في قلب كل المناسبات، وليكون شاهدا على تأصل تونس في إسلامها منذ قرون وقرون.
ومع دوره بوصفه مكاناً للصلاة والعبادة كان جامع الزيتونة منارة للعلم والتعليم على غرار المساجد الكبرى في مختلف أصقاع العالم الإسلامي؛ حيث تلتئم حلقات الدرس حول الأئمة والمشايخ للاستزادة من علوم الدين ومقاصد الشريعة وبمرور الزمن أخذ التدريس في جامع الزيتونة يتخذ شكلا نظاميا حتى غدا في القرن الثامن للهجرة عصر (ابن خلدون) بمثابة المؤسسة الجامعية التي لها قوانينها ونواميسها وعاداتها وتقاليدها ومناهجها وإجازاتها، وتشدّ إليها الرحال من مختلف أنحاء المغرب العربي طلبا للعلم أو للاستزادة منه.


اعداد: الفرقان