غزوة الخندق (الأحزاب)


فَبَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ أَظَلَّتِ المَدِيْنَةَ سَحَابَةُ حُزْنٍ لِفَقْدِ الأَحَبَّةِ شُهَدَاءَ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَخَيَّمَ السُّكُونُ حِيْنًا عَلَى الجَزِيْرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الهُدُوءُ الَّذِي أَظَلَّ المَدِيْنَةَ إِلَّا بِدَايَةً لِتَحَزُّبِ الأَحْزَابِ مِنْ مِلَلِ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ، يَتَحَيَّنُونَ الفُرَصَ وَيُسَابِقُونَ إِلَى العَدَاوَةِ، فَلاَ يَهْنَأُ لَهُمْ بَالٌ، وَلاَ يُقَرُ لَهُمْ قَرَارٌ حَتَّى يَكُونَ مَعْقِلُ الإِسْلَامِ وَمَدِيْنَتُهُ تَحْتَ أَيْدِيْهِمْ، يَجُوسُونَ فِيْهَا تَقْتِيْلاَ وَإِفْسَادًا، وَمَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِمْ إِلَّا تَوْحِيْدَهُمْ وَإِيْمَانَهُمْ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].


لَكِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ وَلَهُ القَهْرُ وَالغَلَبَةُ وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ وَالجَلاَلُ، غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

قَالَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

فَفِي السَّنَةِ الخَامِسَةِ - أَيُّهَا النَّاسُ - خَرَجَتْ شِرْذِمَةٌ مِنَ اليَهُودِ نَحْوَ كُفَّارِ مَكَّةَ، لِيُؤَلِّبُوهُم ْ وَيُحَرِّضُوهُم ْ عَلَى غَزْوِ المَدِيْنَةِ.

وَاليَهُودُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ يَسْعَونَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ، فَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ خَالِقُهُمْ وَمَلِكُهُمْ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].

فَبَعْدَ أَنْ خَرَجَ رَهْطُ اليَهُودِ نَحْوَ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَوَجَدُوا مِنْهُمْ اسْتِجَابَةَ لِغَزْوِ المَدِيْنَةِ تَوَجَّهَ ذَلِكَ الرَّهْطُ يَحْمِلُ الحِقْدَ وَالكَرَاهِيَّة َ لِلمُسْلِمِيْنَ نَحْوَ غَطَفَانَ لِيَكْمُلَ عِقْدُ الأَحْزَابِ، وَتَدَاعَتْ الجُمُوعُ - أَيُّهَا النَّاسُ - وَأَقْبَلَ الشَّرُّ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، فَخَرَجَتْ مِنَ الجَنُوبِ قُرَيْشٌ وَكَنَانَةُ وَأَهْلُ تُهَامَةَ، وَوَافَاهُمْ سُلَيْمٍ، وَخَرَجَتْ مِنَ الشَّرْقِ قَبَائِلَ غَطَفَانَ، وَكَذَلِكَ خَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَاتَّجَهَتْ الأَحْزَابُ الكَافِرَةُ صَوْبَ المَدِيْنَةِ حَتَّى تَجَمَّعَ حَوْلَهَا جَيْشٌ عَرَمَرْمٌ، يَبْلُغَ عَشَرَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ!.

جَيْشٌ يَزِيْدُ عَدَدُهُ عَلَى سُكَّانِ المَدِيْنَةِ رِجَالًا وَنِسَاءً، صِغَارًا وَكِبَارًا، فِي جُوعٍ مِنْهُمْ شَدِيْدٍ، وَبَرْدٍ وَزَمْهَرِيْرٍ، عُدَّةٍ قَلِيْلَةٍ، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

وَلَقَدْ اجْتَمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلَ المَدِيْنَةِ - أَيُّهَا النَّاسُ - لِسَبَبٍ وَاحِدِ لاَ غَيْرَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الأَلْسُنُ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

وَفِي هَذَا الجَوِّ المُكْفَهِرِّ وَالكَرْبِ الشَّدِيْدِ - أَيُّهَا النَّاسُ - انْقِسَمِ أَهْلُ المَدِيْنَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: وَهُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِيْنَ آمَنُوا بِوَعْدِ اللهِ وَصَدَّقُوا بِنَصْرِ رِسَالَتِهِ.
قَالَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

القِسْمُ الثَّانِي: وَهُمُ أَهْلُ النِّفَاقِ، فَقَدْ تَزَعْزَعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْخَلَعَتْ صُدُورُهُمْ لِرؤُيَةِ الجُمُوعِ وَالعُدَدِ وَالعُدَّةِ.
قَالَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].

وَاشْتَغَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّهَا النَّاسُ- بِمُقَارَعَةِ العَدُوِّ وَأَخْذِ العُدَّةِ وَحَفَّرِ الخَنْدَقِ، وَكَانَ طُولُهُ خَمْسَةِ آلاَفِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، وَعُمْقُهُ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ حَفْرٌ أَرْبَعِيْنَ ذِرَاعًا.

وَقَدْ تَوَلَّى المُهَاجِرُونَ الحَفْرَ مِنْ نَاحِيَةِ حِصْنِ رَاتِجٍ فِي الشَّرْقِ إِلَى حِصْنِ ذُبَابٍ، وَالأَنْصَارُ مِنْ حِصْنِ ذُبَابٍ إِلَى جَبَلِ عُبَيْدٍ فِي الغَرْبِ.

وَقَدْ تَمَّ الحَفْرُ - أَيُّهَا النَّاسُ - بِسُرْعَةٍ عَجِيْبَةٍ بِرَغْمَ الجَوِّ البَارِدِ وَالمَجَاعَةِ الَّتِي أَصَابَتْ المَدِيْنَةَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، كَمَا جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[2]، لَكِنْ حَرَارَةَ الإِيْمَانِ طَغَتْ عَلَى آثَارِ البَرْدِ والجُوْعِ القَارِصَيْنِ، فَكَانَ المُسْلِمُونَ يَعْمَلُونَ بِقُوَّةٍ وَيَحْمِلُونَ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَفِيْهِمْ مَنْ كَانَ لاَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ مِنَ التُّجَّارِ وَالزُّعَمَاءِ، وَقَدْ اسْتَوْوا جَمِيْعًا فِي الحَفْرِ وَحَمْلِ الأَتْرِبَةِ وَهُمْ فِي غَايَةِ الحَمَاسِ، وَيُرَدِّدُونَ الأَهَازِيْجَ، وَالرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- يَحْفُرُ مَعَهُمْ وَيَنْقِلُ التُّرَابَ حَتَّى اغْبَرَّ بَطْنُهُ وَوَارَى التُّرَابُ جِلْدَهُ، وَقَدْ شَدَّ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا لِفُرْطِ الجُوْعِ، جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ» [3]، وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يَلْجَؤَوْنَ إِلَيْهِ إِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ الصَّخْرَةُ فَيَأْخُذُ المِعْوَلَ وَيُفَتِّتُ الصَّخْرَةَ، جَاءَ ذَلِكَ فِي «صَحِيْحِ البُخَارِيُّ»[4]، وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُرَدِّدُ مَعَهُمْ الأَهَازِيْجَ وَالأَرْجَازَ مُشَارَكَةً لَهُمْ وَتَوَاضُعًا، يَقُولُ كَمَا فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[5]:
اللهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَــــا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَـــــــ ـا ** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَـا
إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَـا ** وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَـــــا
وَكَانَ يَمُدَّ صَوْتَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِآخِرِهَا.

وَكَانَ المُسْلِمُونَ يَقُولُونَ وَهُمْ يَحْفِرُونَ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ** عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا

فَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُجِيْبُهُمْ بِقَوْلِهِ:
اللهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ** فَبَارِكْ فِي الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة ْ

وَرُبَّمَا يَبْدَؤُهُمْ بِقَوْلِهِ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ جَاءَ ذَلَكَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[6]، وَكَانَ لِمُشَارَكَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَفْرِ الخَنْدَقِ بِصُورَةٍ فِعْلِيَّةِ -وَلَيْسَتْ رَمْزِيَّةً - أَثَرٌ كَبِيْرٌ فِي الرُّوْحِ الَّتِي سَادَتْ مَوْقِعَ العَمَلِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ المُسْلِمُونَ مِنْ إنْجَازِ الخَنْدَقِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَقَطْ.

وَبِذَلِكَ - أَيُّهَا النَّاسُ - نَفَّذُوا خُطَّةَ الدِّفَاعِ عَنِ المَدِيْنَةِ قَبْلَ وُصُولِ الأَحْزَابِ، وَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَيْشَهُ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُمْ إِلَى جَبَلِ سَلْعٍ دَاخِلَ المَدِيْنَةِ، وَوُجُوهَهُمْ إِلَى الخَنْدَقِ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ نَزَلُوا رَوْمَةَ بَيْنَ الجَرْفِ والغَابَةِ وَنَقمَى. [7]

وَكَانَ تَفَوُّقُ المُشْرِكِيْنَ العَدَدِيِّ كَبِيْرًا، فَقَدْ بَلَغُوا عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَأَمَّا جَيْشُ المُسْلِمِيْنَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَتَابَعَهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السِّيْرَةِ أَنَّهُمْ ثَلاَثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. [8]

وَقَدْ اشْتَدَّ الخَطْبُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ- أَيُّهَا النَّاسُ - عِنْدَمَا بَلَغَهُمْ أَنَّ حُلَفَاءَهُمْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَكَثُوا العَهْدَ - وَغَدَرُوا بِهِمْ- وَكَانَتْ دِيَارُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي العَوَالِي فِي الجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ لِلمَدِيْنَةِ عَلَى وَادِي مَهْزُورٍ، فَكَانَ مَوْقِعُهُمْ يُمُكِّنُهُمْ مِنْ إِيْقَاعِ ضَرْبَةٍ بِالمُسْلِمِيْن َ مِنَ الخَلْفِ.

وَوَصَفَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ البَلَاءَ الَّذِي أَصَابِ المُسْلِمِيْنَ بِوَصْفٍ عَجِيْبٍ كَأَنَّ العَيْنَ تَرَاهُمْ، قَالَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].

وَلَمَّا أَمَرَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِانْجِلاَءِ الغُمَّةِ وَتَفْرِيْجِ الكُرْبَةِ صَنَعَ أَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمِ رِيْحَ الصَّبَا، كَمَا جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[9]، فَاقْتَلَعَتْ خِيَامَهُمْ، وَكَفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَأَطْفَأَتْ نِيْرَانَهُمْ، وَدَفَنَتْ رِحَالَهُمْ وَآمَالَهُمْ، فَلَمْ تَدَعْ قِدْرًا إِلَّا كَفَأَتْهَا، وَلاَ طَنْبًا إِلَّا قَلَعَتْهُ، وَلاَ قَلْبًا إِلَّا أَهْلَعَتْهُ وَأَرْعَبَتْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَصِّ القُرْآنُ الكَرِيْمُ، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَهَكَذَا - أَيُّهَا النَّاسُ - انْفَضَّ الأَحْزَابُ عَنِ المَدِيْنَةِ، فَتَنَفَّسَ المُسْلِمُونَ الصُّعَدَاءَ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].

وَرُغْمَ طُولِ الحِصَارِ - أَيُّهَا النَّاسُ - فَقَدْ دَامَ شَهْرًا، قُتِلَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ ثَمَانِيَةٌ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَيِّدُ الأَوْسِ، وَقُتِلَ مِنَ المُشْرِكِيْنَ أَرْبَعَةٌ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ الأَحْزَابِ أَقَلَّ الغَزَوَاتِ قَتْلَى، وَلَمْ يَقَع الْتِحَامٌ مُبَاشِرٌ بَيْنَهُمْ، حَيْثُ حَالَ الخَنْدَقُ دُونَ ذَلِكَ، وَكَان طُولُ الحِصَارِ سَبَبًا فِي إِضْعَافِ مَعْنَوِيَّةِ الأَحْزَابِ.

وَاسْتَجَابَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِدُعَاءِ نِبِيِّهِ خِلاَلِ الحِصَارِ كَمَا جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[10]، «اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، مُجْرِيَ السَّحَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» .

وَبَعْدَ مَعْرَكَةِ الأَحْزَابِ - أَيُّهَا النَّاسُ - أَزِفَتِ البَشَائِرِ وَأَشْرَقَتِ المَدِيْنَةِ بِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا فِي «صَحِيْحِ البُخَارِيُّ»[11]: «الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَّا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ».

وَمِمَّا يَدُلَّ - أَيُّهَا النَّاسُ - عَلَى تَغْيِرِ الإسْتِرَاتِجِي َّةِ الإِسْلاَمِيَّة ِ مِنْ مَرْحَلَةِ الدِّفَاعِ إِلَى مَرْحَلَةِ الهُجُومِ -وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ - أَنَّ مَسْرَحَ الأَحْدَاثِ انْتَقَلَ مِنَ المَدِيْنَةِ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ تَبُوك، بَعِيْدًا عَنْ عَاصِمَةِ الإِسْلاَمِ «المَدِيْنَةِ المُنَوَّرَةِ. [12]

أَمَّا بَعْدُ:
فَتَقَدَّمَ الحَدِيْثُ مَعَكُمْ - أَيُّهَا النَّاسُ - عَنْ «غَزْوَةِ الخَنْدَقِ (الأَحْزَاب).
وَالآنَ حَدِيْثِي مَعَكُمْ عَنْ «بَعْضِ مَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ.

فَأَكْرَمَ اللهُ نَبِيِّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّهَا النَّاسُ- بِتَأْيِّيْدِ مَلاَئِكَتِهِ، فَفِي «صَحِيْحِ البُخَارِيُّ» [13]، مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ، فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ: «فَإِلَى أَيْنَ» ؟ قَالَ: هَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ.

كَمَا جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[14]، مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الأَحْزَابِ: «اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، مُجْرِيَ السَّحَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» .

وَقَدْ قَالَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرِّيْحُ، فَكَفَأَتْ قُدُورَهُمْ، وَنَزَعَتْ خِيَامَهُمْ حَتَّى أَظْعَنَتْهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَما فِي «صَحِيْحِ البُخَارِيُّ» [15]، « نُصِرْتُ بِالصَّبَا.

( وَالصَّبَا) - أَيُّهَا النَّاسُ - هِيَ الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ.

وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَنْسِبُ الفَضْلُ كُلَّهُ فِي هَزِيْمَةِ الأَحْزَابِ لِلهِ وَحْدَهُ، فَفِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[16]، مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ».

وَمِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّهَا النَّاسُ- تَكْثِيْرُ الطَّعَامِ، فَفِي «الصَّحِيْحَيْن ِ»[17]، مِنْ حَدِيْثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ.

فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ -أَوْ أَهْيَمَ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: «كَمْ هُوَ» ؟»، فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: «كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ» »، فَقَالَ: «قُومُوا» فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ.

قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ.

اللهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَ ا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا.

سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.


[1] انْظُرْ: «البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةِ» (4 /93).
[2] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4101 )، وَمُسْلِمٌ (2039).
[3] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4101 )، وَمُسْلِمٌ (2039).
[4] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4101).
[5] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4106 )، وَمُسْلِمٌ (1083) وَاللَّفْظُ لَهُ.
[6] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4100 )، وَمُسْلِمٌ (1805).
[7] «تَفْسِيْـرُ الطَّبَرِيِّ» (21 /129-130).
[8] « سِيْـرَةُ ابْن هِشَامٍ »(2 /220) بِدُونِ إِسْنَادٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْن إِسْحَاقَ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السِّيْرَة.
[9] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 1035 )، وَمُسْلِمٌ (900).
[10] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4115 )، وَمُسْلِمٌ (1742).
[11] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4110).
[12] انْظُرْ : « السِّيْرَةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيْحَةِ »لِلعِمَرِيِّ ( غَزْوَة الأَحْزَاب، مَوَاقِفٌ وَعِبَرْ) لِعَبْدِ المَلِكِ القَاسِم، بِتَصَرُّفٍ.
[13] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4117 )، وَمُسْلِمٌ (1769) مُطَوَّلًا.
[14] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4115 )، وَمُسْلِمٌ (1742).
[15] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 1035 )، وَمُسْلِمٌ (900).
[16] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4114 )، وَمُسْلِمٌ (2724).

[17] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ( 4201 )، وَمُسْلِمٌ (2039).
______________________________ _____________________
الكاتب: أبو عبدالله فيصل بن عبده قائد الحاشدي