هل يحتج بكلام العلماء في اللغة؟

مركز جنات للدراسات
فِعْلُ العالِم ليس دليلاً صريحًا، إن لَم يصرِّح بمذهبه تصريحًا، هذا إذا لم نعلم له قولاً في المسألة، فإذا علمنا قوله وخالف فعله، كان ذلك أبلغَ في عدم قَبُول قوله، وأكبر تأكيدًا لقاعدتنا السالفة.


واندراج هذه القاعدة في علوم اللغة من الوضوح بمكان؛ إذ أقوال علماء اللغة لا يُستدل بها في اللغة إذا لَم يصرحوا بمذهبهم في المسألة؛ بمعنى أن أقوالهم التي من عند أنفسهم لا يستشهد بها في القواعد النَّحويَّة واللُّغويَّة.

وإنَّ عدد العلماء من أهل اللغة الذين لهم أقوال تخالفُ ما أصَّلوه هم أنفسهم في مواضعَ أخر، يهولُ كل ناظر، ولا يزيده إلا يقينًا بأصلنا الذي نؤصله الآن.

وقد يستشكل بعضُهم ما قلتُ ويقول: "إذا كان العالم مأمونًا في نقْلِه، أفلا يكون مأمونًا في قوله
وزاد الطين بِلَّة أن هذا المعنى قد صرَّح به بعضُ أهل العلم، كالزمخشري، وهو مَن هو في اللغة؛ إذِ استشهد بشعر أبي تمام - في "الكشاف" 1/220 - 221 - وقال: "وهو وإن كان مُحدَثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرْويه".
والجواب أننا يمكن أن نحمل كلام الزمخشري محملاً حسنًا، فنزعم أنه يريد الاستئناس لا الاحتجاج؛ بمعنى أننا قد تأملنا شعرَ أبي تمام وأعجبتنا فصاحتُه وبلاغته وعلمه الواسع بلغة العرب[1]؛ لذا فنحن نطمئن - إذا رأيناه أورد تعبيرًا نحن منه في شك - إلى صوابه في الكلام، ومعنى الاستئناس أنه لا يُعارَض به في ميدان المناظرة عند الاختلاف، ولكن يُرتاح إليه عند عدم معرفة الخلاف.

وانظر تفصيلاً للاستئناس والاحتجاج في غير هذا الموضع[2].

وقد ظن بعضُ المعاصرين أن كل ما ورد في المعجمات حجة، فتراه مثلاً يحتج بما ورد في مادة (روض) من "المصباح" على صحة (زهور) جمعًا لـ(زهر)؛ لورود ذلك في كلام الفيومي صاحب "المصباح"! مع أنه متوفى سنة 770هـ.

أو يستدل بما ورد في "القاموس" أو "اللسان" في غير مادته من كلام صاحب الكتاب مما لم يقصد به أصلاً النقل اللغوي؛ وإنما هو من كلامه هو.

وأما كون العالم مأمونًا في نقله، فهذا مسلَّم؛ لأن غير ذلك من الكذب الذي يجعل صاحبَه ساقطَ العدالة، غير مقبول الرواية، بخلاف الكلام، فاللحن لا يُؤمَن، ولا يُسقِط عن حد العدالة؛ بل ما نجا منه إلا يسير، فهذا فرق دقيق ولكنه أساسي بين هذَيْن الأمرين اللذين ظن صاحبُ الإشكال اتحادَهما، ومن ثَمَّ لا يصح قياس أحدهما على الآخر.
ويُشبه ذلك ما قاله ابنُ الأنباري في "لُمَع الأدلة" - كما في "المزهر" 1/125 -: "وذهب بعضهم إلى قبول المرسل؛ لأن الإرسال صدَر ممن لو أسند لقُبل ولم يتهم في إسناده، فكذلك في إرساله؛ لأن التُّهَمَةَ[3] لو تطرَّقتْ إلى إرساله لتطرقتْ إلى إسناده، وإذا لم يتهم في إسناده، فكذلك في إرساله"، ثم يعقب ابن الأنباري: "هذا اعتبار فاسِد؛ لأن المسند قد صرَّح فيه باسم الناقل، فأمكن الوقوف على حقيقة حاله، بخلاف المرْسل؛ فبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المسند قبول المرسل"؛ انته

قلتُ: يعني أن الراوي الثقة لو أسند لم يقبل لكونه أسند؛ ولكن لكون من أسند عنهم ثقات، فلو أسند عن غير مأمونين لم يقبل، فكذلك لو أرسل؛ إذ المنقول عنه مجهول، وقول المدعي: "لقبل ولم يتهم في إسناده، فكذلك في إرساله"، نقول: هذا صواب، فنحن لا نتهمه هو في ذاته، فإرساله مقبول، لكن الرواية نفسها هي التي لا تُقبَل؛ لاحتمال أن يكون المجهول كذابًا، والله أعلم.

ويدلُّ على ذلك أيضًا ما رُوي أنَّ الفرَّاء دخل يومًا على الرشيد فتكلَّم بكلام لحن فيه، فقال جعفر بن يحيى: يا أمير المؤمنين، إنه قد لحن، فقال الرشيد للفراء: أتلحن يا يحيى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن طباع أهل البدو الإعراب، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا حفظتُ أو كتبتُ لم ألحن، وإذا رجعتُ إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد كلامه.

يعني أن اللحن والإعراب يعتمد على السليقة لا على المعرفة، كما قال الشاعر:

وَلَسْتُ بِنَحْوِيٍّ يَلُوكُ لِسَانَهُ

وَلَكِنْ سَلِيقِيٌّ أَقُولُ فَأُعْرِبُ




ومما يدلُّ على أن فِعْل العالِم ليس بحجة قولُ أبي حاتم - كما في "اللسان" (ب ع ض) -:

"ولا تقول العرب: الكل ولا البعض، وقد استعمله الناس حتى سيبويه والأخفش في كتبهما؛ لقلة علمهما بذلك النحو"؛ أ. هـ.

وقد يستنبط مستنبِط من كلام أبي حاتم أن العالم المتبَحِّر في جانب من العلوم يحتج بكلامه فيه، وهذا الفهم فيه نظر، والله أعلم.


قال الشيخ النجار عن أسلوبٍ ورد في كلام الفيروزآبادي وابن منظور - "اللحن في اللغة"؛ للدكتور عبدالفتاح سليم ص 405 -: "إن هذا لم يسند إلى العرب حتى يكون فيه الحجة؛ وإنما هو من كلام اللغويين، وقد تقرر أن العلماء يحتج في اللغة بروايتهم لا بكلامهم".

وقال أحمد العوامري - "في مجلة المجمع" 2/293 - ردًّا على الكرملي:

"كيف نحتج بما يكتبه العلامة اليازجي على أنه من تعبيره هو، ونحن لا نحتج بكلام المتأخرين من أئمتنا اللغويين؛ كابن منظور والفيروزآبادي والفيومي والزبيدي، وغيرهم من الفطاحل الذين حفظوا العربية من الشتات والدثور؟! فنحن إذا عثرنا في أثناء كلامهم في شرح عبارة أو تفسير لفظ على كلمة أو تركيب لم تنص عليه اللغة فيما نعلم، وجب ألا نأخذه عنهم، إلا إذا كشف لنا البحث عنْ وجوده فيما بعد في كلام عربيٍّ صحيح، فهؤلاء الأعلام نَقَلةٌ ورواة لا غير، وليس في كلامهم قوة أن يحتج به... ومن يجهل قدر... محمد عبده، وإبراهيم المويلحي، وابنه محمد المويلحي، وحفني بك ناصف ويعقوب صروف، وغيره من جلة حملة الأقلام في القرن الماضي؟ فهؤلاء أيضًا كثيرًا ما أخطؤوا؛ بل إنك لتجد بين أول عهد أحدهم بالكتابة وآخره بونًا شاسعًا، وفرقًا بعيدًا في انتقاء الألفاظ، وتخيُّر الأساليب، وسلامتها من الزلات... فهل بعد ذلك نجهد في تأويل خطئهم هذا، ونتلمس لهم المعاذير، فتارة بحذف المفعول، وتارة بمجاز بعيد، وأخرى بأن قومًا من فصحاء الكتاب في القرن الماضي نطقوا بهذا الفعل؟!"؛ اهـ.
وهذا كلامٌ نفيسٌ يُوزن بميزان الذَّهَب.

وصاحب كتاب "اللحن في اللغة" يُخطئ كثيرًا في انتقاد مَن يذكر مقاييسهم اللغويَّة، فيستدل باستشهاد بعضهم بكلام المتأخرين على أنهم يرون في هذا الاستعمال حجة، ثم يقول بخطر هذا المقياس وهدمه للغة العرب، وقد يذكر أنهم خالَفوا أنفسَهم في بعض الأحيان بنقد بعض المتأخرين كذلك.

وفات هذا الفاضلَ أن هؤلاء لا يذكرون كلام العلماء احتجاجًا به؛ لأن هذا لم يقل به أحد قط من علماء اللغة قديمًا أو حديثًا؛ بل إن بعض هؤلاء الذين ينقدهم يصرحون بهذا الكلام، فكيف يترك كلامهم الصريح، ويُلزِمهم ما لم يقولوا به؛ استنباطًا من مسألة ذكروها؟!
وإنما يذكرون ما ينقلون من كلام المتأخرين استئناسًا وإتمامًا لفائدة البحث، كما بيَّنتُ فيما سبق.
ولك أن تنقدهم في أن ما ذكروه ليس بحجة؛ ولكن ليس لك أن تستنبط أن مذهبهم الاحتجاج بكلام المولدين.
إن مثلك كمثل فقيه احتج بحديث موضوع، فاستنبط مستنبط من ذلك أن هذا الفقيه يرى حجية الحديث الموضوع في الفقه؛ وإنما الصواب في ذلك والمنهج الصحيح أن تردَّ عليه بأن استنباطه باطل؛ لأن الحجة التي احتج بها لا تصحُّ.

وبالله التوفيق.





[1] مثل المتنبي الذي كان يحفظ "الجمهرة"، وأبي نواس الذي روى لستين شاعرة فضلاً عن الرجال.
[2] ككتاب "بين الاستئناس والاحتجاج"؛ للدكتور محمد أحمد علي سحلول
[3] بفتح الهاء، والعامة تسكنها.