عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر



    الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات وأجلّ القُربات، شَرَعه سبحانه إتماماً لدينه وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوبه على المستطيع في العمر مرّة واحدة

    الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات، وأجلّ القُربات، شَرَعه -سبحانه- إتماماً لدينه، وشرع معه العُمرة، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إلى جانب فريضة الحَج، في قوله -تعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوب الحج على المستطيع في العمر مرّة واحدة.
    فأما الكتاب: فقوله -سبحانه-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران:97)، وأما السُّنة: فقد ثبتَ ذلك في أحاديث كثيرة منها: حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنْ مُحمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصَوم رمضان، وحَج البيت مَنْ اسْتطاع إليه سبيلاً». متفق عليه. ونقل الإجْماع على الوجوب: الإمام ابن المنذر وابن قدامة وغيرهم. وأما العُمرة: فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حُكمها، والصحيح: أنّها واجبة على مَنْ يجبُ عليه الحَج، لعدد مِنَ الأدلة، منْها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: «قلتُ يا رسول الله: على النّساء جِهاد؟ قال: «نعم، عليهنّ جهادٌ لا قتالَ فيه، الحجُّ والعُمرة». رواه أحمد. كما وقع الخَلاف أيضاً بينهم: في وجُوب الحجّ على المُسْتطيع فوراً أم على التّراخي؟ والأكثر على أنّه يجبُ على الفَور، فلا يَجوز للعبد تأخيره إذا كان مُستطيعاً؛ لأمر الله -تعالى- به في قوله: {وأتمّوا الحجَّ والعُمْرة لله} (البقرة 196)، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97)، والأصْل في الأوامر أنْ يقوم بها المكلف فوراً.
    شُروط وجُوب الحج
    الحج لا يكون واجبًا على المُكَلَّف إلا إذا توافرت فيه شُروط معينه، وتُسمى هذه الشّروط «شُروط الوجُوب» فإذا توفرت هذه الشّروط كان الحج واجبًا على المُكَلَّف، وإلا فلا يجب عليه، وهذه الشروط هي:
    أولا: الإسْلام
    فغير المُسْلم لا يصحّ منه الحجّ ولو أتى به، لقوله -تعالى-: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} (التوبة:54)؛ فالإسلام شرطٌ لصحة كل عبادة، وشرط لوجوبها.
    ثانيا: التكليف
    وهو أنّ يكون المُسلم بالغاً عاقلاً، فالصّغير لا يجبُ عليه الحج؛ لأنّه غير مكلّف، لكن لو حج صحّ منه، ولا يجزئه ذلك عن حجّة الإسْلام، فيلزمه أن يحج مرة أخرى بعد بلوغه، أما المجنون فلا يجب عليه الحج ولا يصح منه؛ لأن الحج لا بد فيه من نيةٍ وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.
    ثالثاً: الحُرّية
    فلا يجبُ الحجّ على العبد المملوك؛ لأنّه غير مستطيع، لكن لو حج صحّ منه، ويلزمه أنْ يحجّ حجّة الإسلام إذا أُعْتق.
    رابعاً: الاسْتطاعة
    والاستطاعة تكون في المال والبدن، بأن يكونَ عنده مالٌ يتمكن به منَ الحَجّ، ويكون أيضاً صحيح البدن، غير عاجز عن أداء المناسك، فإنْ كان المكلف غير قادرٍ لا ببدنه ولا بماله، ففي هذه الحال لا يجب الحج عليه، لعدم تحقق شرط الاستطاعة، وإنْ كان قادراً بماله غير قادر ببدنه، فيلزمه أنْ ينيب مَنْ يحجّ عنه، ولا يلزم المُكَلَّف الاسْتدانة لأجلِ الحج، كما لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يَصير مستطيعاً بذلك.
    خامساً: وجُود المحرم للمرأة
    فمن الاستطاعة أنْ يكون للمرأة مَحْرَم يسافر معها، فمَن لمْ تَجد المَحْرم فالحجّ غير واجبٍ عليها، وذلك لمنع الشّرع لها منَ السّفر مِنْ غير مَحْرم، وسيأتي مزيد من التفصيل لهذه الأحْكام، خلال شرحنا لأحاديث: كتاب الحجّ، من (مُختَصَر صَحيح مُسْلم) للحافظ المنذري -رحمهما الله تعالى.
    باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، واخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». الحديث الأول: رواه مسلم في كتاب الحج (2/975) باب: فرض الحجّ مرّة في العُمر. في هذا الحَديثِ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ - -: «خطَب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ»، أي: قامَ فيهم خَطيباً، فقال: «إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قد فرَض عليكم الحَجَّ»، أي: أوجَب عليكم الحجَّ، والتَّوجُّهَ إلى بَيتِه الحرامِ، والطَّوافَ حولَه، والإتيانِ بكلِّ الأركانِ بحسَبِ ما أوضَحه الشَّارعُ.
    قوله: «فقال رجُلٌ: في كلِّ عامٍ؟»
    أي: هل فرَض اللهُ الحجَّ علينا في كلِّ عامٍ؟ «فسَكَت عنه»، أي: لم يَرُدَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسكَتَ إعْراضاً عن هذا السُّؤالِ الَّذي فيه تَشديدٌ، «حتَّى أعادَه ثلاثًا»، أي: حتَّى أعادَ الرَّجلُ سُؤالَه ثلاثَ مرَّاتٍ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعَمْ، لوَجَبَت، ولو وجبَت ما قُمتُمْ بها»، أي: لو أجَبْتُك بقولِ: «نعَمْ» لأصبَح الأمرُ فَرضاً واجباً لازماً أنْ يَحُجَّ المُسلِمُ كلَّ عامٍ، وهذا فيه مِن المشقَّةِ والتَّعسيرِ، ما يُخالِفُ نهْجَ الإسْلامِ في التَّيسيرِ.
    ظاهرُ الحديثِ
    وظاهرُ هذا الحديثِ: يَقتَضي أنَّ أمْرَ افتِراضِ الحجِّ كلَّ عامٍ كان مُفوَّضًا إليه حتَّى لو قال: نعَمْ لحصَل، وليس بمُستبعَدٍ أن يَأمُرَ اللهُ -تعالى- بالإطلاقِ ويُفوِّضَ أمْرَ التَّقييدِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك قال النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- للرَّجُلِ: «ذَروني ما تَرَكتُكم»، أي: اترُكوني واترُكوا سُؤالي إذا تُرِكتُم وتَرَكتُ الرَّدَّ علَيكم، وهذا كان إشارةً إلى كَراهةِ السُّؤالِ في النُّصوصِ المطلَقةِ والتَّفتيشِ عن قُيودِها، بل يَنبَغي العمَلُ بإطلاقِها قدْرَ الاستطاعةِ حتَّى يَظهَرَ فيها قَيدٌ؛ «فإنَّما هلَك مَن كان قَبْلَكم بكثرةِ سُؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم»، أي: هلَكوا بكثرةِ الأسئلةِ فيما لا يُفيدُ ممَّا تتَرتَّب عليه فرْضُ أمورٍ شاقَّةٍ وصعبةٍ عليهم، ولم يَستَطيعوا أداءَها فهلَكوا بالعِصيانِ.
    لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها
    قوله: «فإذا أمَرتُكم بالشَّيءِ فخُذوا به ما استَطَعتُم»، أي: افعَلوا مِن الأوامرِ ما تَستَطيعونه دُونَ مشَقَّةٍ ولا تَفريطٍ، فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها، «وإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه»، أي: إنَّ النَّواهيَ الَّتي أنهاكم عنها وأُبلِّغُكم عن اللهِ بها فابتَعِدوا عنها تمامًا ولا تَقْرَبوها، وهذا بمعنى ما في قولِه -تعالى-: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، وهذا تَوجيهٌ وتَربيةٌ نبويَّةٌ للمُسلمين على طاعةِ اللهِ ورسولِه قدْرَ الاستطاعةِ، والانتهاءِ عمَّا نَهى اللهُ عنه، مع عدَمِ التَّنطُّعِ في الدِّينِ، وكثرةِ التَّشدُّقِ مع تَشقيقِ الكلامِ فيما لا يُفيدُ، والنَّهي عن كَثرةِ السُّؤالِ عمَّا لم يقَعْ، وقد ورَد في الصَّحيحَيْن عن عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ عن أبيه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أعظَمَ المسْلِمينَ في المسْلِمين جُرْماً، مَنْ سَأل عَن شَيءٍ لم يُحرَّمْ على المسْلِمين، فحُرِّم عَليهِم مِن أَجْلِ مَسْأَلتِه». وكذلك مَن سأَل عن أمرٍ فنزَل التَّشديدُ فيه مِن أجْلِ مَسألتِه، وليس في هذا مَنعٌ للسُّؤالِ، وإنَّما هو تَوجيهٌ للتَّوقُّفِ عندَ أوامرِ اللهِ ونَواهيه. قال النووي -رحمه الله- في قوله: «... وإذا نَهيتكم عن شيءٍ فدَعوه» هذا الرجل السائل هو «الأقرع بن حابس» كذا جاء مُبيناً في غير هذه الرواية، واختلف الأصوليون في أنّ الأمر: هل يقتضي التّكرار؟ والصّحيح عند أصحابنا لا يقتضيه. والثاني: يقتضيه. والثالث: يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدلُّ به مَنْ يقول بالتوقف؛ لأنّه سأل فقال: أكلّ عام؟ ولو كان مُطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لمْ يَسْأل، ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة إلى السّؤال، بل مطلقه محمول على كذا، وقد يجيب الآخرون عنه: بأنه سأل استظهاراً واحتياطاً.
    قوله: «ذَرُوني ما تركتكم»
    وقوله: «ذَرُوني ما تركتكم» ظاهر في أنّه لا يقتضي التكرار، قال الماوردي: ويحتمل أنه إنّما احتمل التّكرار عنده منْ وجْه آخر؛ لأنّ الحج في اللغة: قصد فيه تكرّر، فاحتمل عنده التّكرار منْ جِهة الاشتقاق، لا منْ مُطلق الأمر، قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ههنا مَنْ قال بإيجاب العمرة، وقال: لمّا كان قوله -تعالى-: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 97) يقتضي تكرار قصد البيت بحُكم اللغة والاشْتقاق، وقد أجْمعوا على أنّ الحج لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخْرى إلى البيت تقتضي كونها عُمرة؛ لأنّه لا يجب قصده لغير حجٍ وعمرة بأصل الشرع. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعم لوجبت». ففيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أنْ يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعلّه أوْحي إليه ذلك. والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذرُوني ما تَركتكم» دليل على أنّ الأصل عدم الوجوب، وأنّه لا حُكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين، لقوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء).
    من قواعد الإسلام المهمة
    قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما اسْتطعتم» هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ؛ وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك، وهذا الحديث موافق لقول الله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}، وأما قوله -تعالى-: {اتقوا الله حق تقاته} ففيها مذهبان أحدهما: أنها منسوخة بقوله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}. والثاني: وهو الصحيح أو الصواب، وبه جزم المحققون أنها: ليست منسوخة، بل قوله -تعالى-: {فاتقوا الله ما استطعتم} مفسرة لها ومبينة للمراد بها، قالوا: {وحق تقاته} هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر -سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع، قال الله -تعالى-: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وقال -تعالى-: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والله أعلم. «شرح النووي». وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهيتكم عن شيء فَدَعُوه» فهو على إطْلاقه، فإنْ وُجِد عذرٌ يُبيحه كأكلِ المَيتة عند الضَّرُورة، أو شرب الخَمْر عند الإكْراه، أو التلفّظ بكلمة الكُفْر إذا أكْره، ونحو ذلك، فهذا ليسَ مَنْهياً عنه في هذا الحال. والله أعلم.
    فوائد الحديث
    - الحجّ فريضة منْ فرائض الإسْلام، وأنّه لا يجبُ في العُمر إلا مرةً واحدة بأصل الشّرع، وقد يجب زيادة ذلك بالنذر، وقد أجْمعت الأمّة على ذلك. - أمَر الشَّرعُ بفِعلِ ما في الاسْتطاعةِ، والاجتنابِ التَّامِّ للنواهي الشرعيَّةِ، وأمَرَ بالوقوفِ عندَ توجيهاتِ اللهِ ورَسولِه، وعدَمِ تَخطِّيها بالتكلف والزّيادة.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ثوابُ الحَجّ والعُمْرة



    جعَلَ اللهُ عزَّوجلَّ الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ
    فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ
    الحجّ المُستوفي لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، والْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». في الباب حديثان: رواهما مسلم في الحج (2/983) باب: في فَضْل الحَجّ والعُمرة ويوم عرفة.
    في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفضْلِ عِبادةِ العُمْرةِ والحجِّ، أمَّا العُمرةُ فقالَ فيها - صلى الله عليه وسلم -: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كَفَّارةٌ لِما بيْنَهما» أي: مَن اعتَمَر عُمَرتَينِ، كانَتِ العُمرتانِ سَببًا في تَكفيرِ ما بيْنَهما مِن الصَّغائرِ، وعدَمِ المُؤاخَذةِ بها يومَ القِيامةِ. والعُمرةُ هي: التعبُّدُ للهِ -تعالى- بالإحْرامِ مِن الميقاتِ والطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بيْن الصَّفا والمَرْوةِ، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ، أمَّا الحجُّ فإنَّه قَصْدُ المشاعِرِ المقدَّسةِ بمكة وما حولها، لأداءِ المناسكِ وقْتٍ مَخصوصٍ، تَعبُّدًا للهِ -عزَّ وجلَّ.
    الحج المبرور ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ
    ثمَّ أخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحجَّ المبرورَ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ، قال العُلماء: والحج المبرور له خمسة أوصاف: الأول: أن يكون خالصاً لله -تعالى-، لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ففي صحيح مسلم: من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال الله -تعالى-: «أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَنْ عمِلَ عملًا أشْركَ فيه معي غيري، تَركتُه وشِرْكه».
    والثاني: أنْ تكونَ نفقته منْ حلال، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً». رواه مسلم.
    والثالث: البُعد عن المعاصي والآثام، كالجِماع ودواعيه، والفُسُوق والجدال المذموم، والبدع والخرافات وغيرها، قال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197).
    والرابع: حُسْنُ الخُلق ولين الجانب مع الرّفقة، وعلى هذا كان حجّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع الجَمع الغفير، وكذلك كان الصّحابة والسلف.
    والخامس: تعظيمُ شعائر الله -تعالى-، وهي المناسك كلّها، كالطّواف بالبيت، والصّفا والمروة، وعرفة ومِنى وغيرها، قال -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)، فيُعظِّم المشاعر، ويملؤها بذكر الله -تعالى- والخُضوع والتذلل له.
    الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم
    وكذا الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج كلها، قال ابن عبد البر -رحمه الله- في صفة الحج المبرور-: «هو الذي لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ولا رَفث، ولا فُسُوق، ويكون بمَالٍ حلال». انظر «التمهيد» {22/ 39}.
    من فوائد الحديث
    1- الحديث دليلٌ على فضل الإكثار منَ العمرة؛ لِما في ذلك من تكفير للذنوب، وجمهور العلماء على أن التكفير يقع على الصّغائر دون الكبائر، وأن الكبائر لا بد لها من توبة. 2- الحديث دليلٌ على جواز تكْرار العُمرة في السّنَة مرّتين أو أكثر، خلافًا لمن كره ذلك كالإمام مالك، وبعض السلف كإبراهيم النخعي والحسن البصري، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وذلك أنّ حديث الباب يقتضي الفرق بين العمرة والحج؛ إذْ لو كانت العمرة لا تفعل إلا مرةً واحدة في السّنة، لكانت كالحج، ولقيل: «الحجّ إلى الحج»، فلما قال: «العُمْرة إلى العُمْرة»، دلَّ على ذلك على تكرارها، وأنّها ليستْ كالحج. وأيضاً: العُمرة وقتها مطلق في جميع العام، وليست كالحجّ مقيد بوقتٍ لا يكون إلا مرّةً بالسّنة، وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، في مجموع فتاوى ابن تيمية (26 / 268 - 269)، وانظر: (بداية المجتهد2 / 231 ). 3- الحديث دليل على فضل الحج المبرور وأنّ جزاءه الجنة. 4- الترغيبُ في الاستِكثارِ مِن الاعتِمارِ. 5- جعَلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ، ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ، ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ.
    الحديث الثاني
    يُبيِّنُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثاني أنَّ مَن حَجَّ للهِ مُبتغيًا وجْهَه بلا رِياءٍ ولا سُمعةٍ، فلَم يَرفُث، بمعنى: فلم يَفعَلْ شَيئًا مِن الجِماعِ أو مُقدِّماتِه، وقيل: الرَّفَثُ اسمٌ للفُحشِ مِنَ القولِ، ولَم يَفسُقْ، أي: ولَم يَرتكِبْ إثماً أو مُخالَفةً شَرعيَّةً -صَغيرةً أو كَبيرةً- تُخرِجُه عَن طاعةِ اللهِ -تعالى-، وإنَّما صرَّحَ بنَفْيِ الفِسقِ في الحجِّ، مع كَونِه مَمنوعًا في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ حِينٍ، لزِيادةِ التَّقبيحِ والتَّشنيعِ، ولزِيادةِ تَأكيدِ النَّهيِ عنه في الحجِّ، وللتَّنبيهِ على أنَّ الحجَّ أبعَدُ الأعمالِ عن الفِسقِ.
    فمَن فَعَلَ ذلك، عادَ بعدَ حَجِّه نَقيًّا مِن خَطاياهُ، كما يَخرُجُ المولودُ مِن بطْنِ أُمِّه، أو كأنَّه خَرَجَ حِيَنئذٍ مِن بَطْنِ أُمِّه، ليس عليه خَطيئةٌ ولا ذَنْبٌ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه: أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب، وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر. قاله الحافظ، وإليه ذهب القرطبي والقاضي عياض، وقال الترمذي: هو مخصوصٌ بالمعاصي المتعلقة بحقّ اللّه لا العباد، قاله المناوي في (فيض القدير). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ حجَّ فلمْ يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»: أنّ الإنسان إذا حجّ واجتنب ما حرّم الله عليه من الرفث، وهو إتيان النساء، والفُسُوق وهو مخالفة الطّاعة، فلا يترك ما أوجب الله عليه، ولا يفعل أيضاً ما حرّم الله عليه، فإن خالف فهذا هو الفُسوق؛ فإذا حجّ الإنسانُ ولمْ يَفْسق ولمْ يرفث، فإنّه يَخْرج منْ ذلك نقيا منَ الذُّنوب، كما أنّ الإنسان إذا خَرَج منْ بطن أمّه، فإنّه لا ذَنْب عليه، فكذلك هذا الرجل إذا حجّ بهذا الشرط، فإنّه يكون نقيا مِنْ ذُنُوبه». (فتاوى ابن عثيمين 21/20).
    من فوائد الحديث
    1- بَيانُ فضْلِ الحجِّ، وأنَّ الحجَّ المُستوفيَ لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ، إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ. 2- فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ، وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وقد وَعَدَ اللهُ -تعالى- مَن أدَّاها بحقِّها بأعظَمِ الجَزاءِ.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب : في يوم الحجّ الأكبر



    الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر في الحج والمساجد والأسواق وغيرها
    في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما ثمّ لأبي هريرة رضي الله عنه
    مَوسِم الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم- قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. رواه مسلم في الحج (2/982) باب: لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، وبيان يوم الحجّ الأكبر.
    يُخبر أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنّ أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - بعثه فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيها رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم-، أي: الحجة التي جعله فيها أميراً ليحجّ بالناس، وذلك سنة تسع من الهجرة، وهي قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ التي حجّها رسول الله - صلى الله عله وسلم-، «فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ» الرهط من الرّجال: ما دون العشرة، لا يكون فيهم امرأة، والرّهط لا واحد له من لفظه، «يؤذنون» أي: يُعلمون الناس، فالمراد هنا الأذان اللغوي وهو الإعلام. وجاء أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عله وسلم- بعث عليَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - بعْدَ أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - يَقرَأُ على النَّاسِ سُورةَ بَراءةَ، لِيَنْقُضَ عهْدَ المشركينَ، و(بَراءة) هي سُورةُ التَّوبةِ، وأنْ يُناديَ أيضًا بمِثلِ ما بُعِثَ به أبو بَكرٍ - رضي الله عنه -، فأذَّن عليٌّ - رضي الله عنه - معهم يومَ النحرِ بسُورةِ براءة، وبمِثْلِ ما أذَّنَ أبو هُرَيرةَ وأصحابُه بأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ. و«يوم النّحر» هو اليوم العاشر من ذي الحجّة.
    فوائد الحديث
    في الحديث فوائد عدة نذكر منها ما يلي:
    الفائدة الأولى
    كان المُشْركون يَحُجُّونَ كلَّ سَنةٍ، وكان بعضُهم يَطوفُ بِالبيتِ عُريانًا، فلمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ أمَرَ نَبِيَّه أنْ يَمْنَعَ كُلَّ أفْعالِ الجاهِلِيَّةِ حَوْلَ البَيْتِ، وأنْ يُعْلِنَ البَراءَةَ مِنَ الشِّرْكِ والمُشرِكينَ، وقد أمَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عله وسلم- أبا بكرٍ - رضي الله عنه - على الحجَّاجِ في العامِ التاسِعِ من الهِجرةِ، وهي الحجَّةُ الَّتي قبْلَ حجَّتِه - صلى الله عله وسلم-، وأمره أن يُعلِنَ في النَّاسِ هذه المبادئَ الإسلاميّة.
    الفائدة الثانية
    الحديثُ فيه دلالة على النّهي عن الطّواف بالبيت عُريانًا، وإبْطال ما كان عليه أهلُ الجاهلية مِنَ الطّواف عراةً، قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، فأنزلَ الله -تعالى-: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، (الأعراف: 28). قال الحافظ ابن كثير: كانت العرب- ما عدا قُريشاً- لا يطُوفُون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنّهم: لا يَطُوفُون في ثيابٍ عَصَوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحُمس- يطوفون في ثيابهم، ومَنْ أعَاره أحْمسي ثوباً، طافَ فيه، ومَنْ معه ثوبٌ جديد، طافَ فيه ثمّ يُلقيه فلا يتملّكه أحَد، فمَنْ لمْ يجدْ ثوباً جديداً ولا أعَاره أحْمسي ثوباً، طاف عرياناً. قال: وأكثر ما كانَ النساءُ يَطفن عُراةً بالليل. وكان هذا شيئًا قد ابْتدعوه مِنْ تلقاء أنفسِهم، واتّبعوا فيه آباءهم، ويَعتقدُون أنّ فعل آبائهم مُسْتندٌ إلى أمرٍ مِنَ الله وشَرْع؛ فأنكرَ اللهُ -تعالى- عليهم ذلك، فقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فقال -تعالى- ردّاً عليهم: {قلْ} أي: قلْ يا محمد، لمَن ادّعى ذلك: {إنّ الله لا يأمرُ بالفَحْشاء} أي: هذا الذي تَصْنعُونه فاحشةٌ مُنْكرة، واللهُ لا يأمرُ بمثلِ ذلك؟ {أتقُولُون على اللهِ ما لا تعلمون} أي: أتُسْندُون إلى الله مِنَ الأقوال، ما لا تعلمون صحته؟! انتهى. واستدلّ بالآية والحديث، مَنْ قال: إنّ الطواف يُشْترط له سَتْر العَورة، وبه قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله وغيرهم، وهو القولُ الصّحيح. ولأنّ الطواف بالبيت صلاة، كما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عله وسلم- قال: «الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ». أخرجه الترمذي (960) واللفظ له، والدارمي (1847)، وابن حبان (3836). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)(960)، فلا شكّ أنّ الطّواف عُرياناً لا يجوز شَرعاً، بل ولا مُروءة وخُلُقاً وأدَباً مع أعظم المساجد في الأرْض، وأبلغها حُرمة عند الله -تعالى.
    الفائدة الثالثة
    الحديثُ فيه دليل على أنّه يجبُ تَطهير الحَرم من كلّ شِرْكٍ ومُشرك، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28)، فيَحرُم إدخالُ المُشْرك الحَرمَ. قال النووي -رحمه الله-: «فلا يُمكَّن مُشركٌ من دُخُول الحَرَم بحال، حتى لو جَاء في رسالةٍ أو أمْرٍ مُهم، لا يُمكَّن مِنْ الدُّخُول، بل يَخرُج إليه مَن يَقْضي الأمر المُتعلّق به، ولو دَخل خُفيةً ومرِضَ ومات، نُبشَ وأُخْرج مِنَ الحَرم». (شرح النووي لمسلم) حديث ( 1347). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «لا يَحجُّ بعد العام مُشْرك» ويدخل في ذلك غير المُشْرك أيضاً، فإذا كان هناك إنْسانٌ كافر، فإنّه لا يحلّ له الحج، وبناءً على ذلك، فإنّ مَنْ لا يُصلّي لا يحلّ له أنْ يحج، ولو حجَّ لم يُقبل منه، فيكون آثِماً، ولعلّ هذا يكون تذكرة لأولئك الذين ابتُلوا بترك الصلاة، حتى يُصلُّوا، ليَتَمكّنُوا مِنَ الحَج». انظر شرحه للبخاري (5/332).
    الفائدة الرابعة
    الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر، في الحج والمساجد والأسواق وغيرها؛ ففي هذا الحَديثِ، يُخبِرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قد أرسل جماعةً -منهم أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يومَ النَّحرِ -ويومُ النَّحرِ هو يومُ عيدِ الأضْحى، وهو اليومُ العاشِرُ من ذي الحجة- يُعلِمونَ النَّاسَ، ويُنادونَ فيهم: ألَّا يَقرَبَ البيتَ الحرامَ بعْدَ هذا اليومِ مُشرِكٌ، وألَّا يَطوفَ بِالبيتِ عُريانٌ. وكان صَدْرُ سُورةِ التوبةِ قد أُنزِلَ على النَّبيِّ - صلى الله عله وسلم- بعد خروجِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - بالحُجَّاجِ إلى مكَّةَ، فبعث رسولُ الله - صلى الله عله وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - نائباً عنه يتلوها على النَّاسِ، وقيل: كان مِن عَادةِ العربِ أنْ يقومَ بإبْرامِ العُهودِ أو نقْضِها سيِّدُ القَوْمِ، أو مَن ينُوبُ عنه مِن قَرابَتِه.
    الفائدة الخامسة
    في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنهما-، ثمّ لأبي هريرة - رضي الله عنه .
    الفائدة السادسة
    أنَّ مَوسِمَ الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ، ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَضلُ يوم عَرَفة



    الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي بل هو في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة

    الأيَّامُ الفاضِلةُ مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ وعَطاياهُ لعِبادِه يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ
    عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنْ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ». الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/982-983) باب: في فضل الحجّ والعمرة، ويوم عرفة.
    في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ما يكونُ في يَومِ عَرفةَ مِنَ الخَلاصِ عنِ العَذابِ، والعِتقِ منَ النَّارِ، أَكثرَ ممَّا يَكونُ في سائرِ الأيَّامِ، و(عَرَفةُ) موضع على الطَّريقِ بيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، تبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدَلِفةَ، يقِفُ عليها الحجَّاجُ يومَ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ يَدْعونَ اللهَ ويَستَغفرونَه.
    اقتراب الله من عباده الحجيج
    قوله: «وإنَّه» -سُبحانَه وتعالى- «لَيدْنو» أي: يَقْتربُ مِنْ عباده الحَجيج، ويدنو دُنُوًّا حقيقياً يَليقُ بجَلالِهِ وعَظمَتِه، كما أثْبَتَه -سُبحانَه- لِنَفسِه، دُونَ تَشبيهٍ أوْ تَمثيلٍ، كما هو قول أهل السنّة والجَماعة في سائر الأسْماء والصّفات الإلهية، وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي: عن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند اللهِ منْ يومِ عَرفة، ينزلُ الله -تعالى- إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بأهْلِ الأرْض أهلَ السّماء،...».
    قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ»
    قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ» بمَن بعَرَفةَ منَ المسلِمينَ الواقِفينَ، فيُظهِرُ فَضْلَهم للملائكة، ويُرِيهِم حُسنَ عَملِهم، ويُثْني عَليهم عِندَهم، والمباهاة أَصلُها من البَهاءِ: وهو الحُسنُ والجَمالُ، فيُفاخِرُ بهم ويُعظِّمُهم بحَضرةِ الملائكةِ. قوله: «فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤلاءِ؟» أي: أيُّ شَيءٍ أَرادَ هَؤلاءِ، حيثُ تَركوا أهْلَهم وأَوْطانَهم، وصَرَفوا أَموالَهم، وأَتعَبوا أَبْدانَهم؟ والجوابُ محذوفٌ، تَقديرُه: ما أرادُوا إلَّا المَغفرةَ والرِّضا من ربّهم، وهذا يَدُلُّ عَلى أَنَّهم مَغفورٌ لَهم، لأنَّه لا يُباهى بأهْلِ الخَطايا والذُّنوبِ، إلَّا مِن بَعدِ التَّوبةِ والغُفرانِ. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إنّ الله يُباهي بأهلِ عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْثاً غُبْراً». رواه أحمد في «مسنده» وابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه».
    فضل يوم عرفة
    وعن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً أيضًا: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند الله منْ يومِ عرفة، ينزل الله -تعالى- إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجِّين، جاؤوا من كلّ فجٍّ عميق، يرجُون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، مِنْ يومِ عرفة». رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي. وفي مصنف عبد الرزاق: من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: في حديث الرجلين اللَّذين جاءَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يسألانه عن أمْر دينهم، وكان منْ جوابه لهما: «وأمّا وقوفك بعَرفة، فإنّ الله -تبارك وتعالى- ينزلُ إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوا شُعثاً غبراً منْ كلّ فجٍ عَميق، يَرجُون رحمتي، ويَخافُون عَذابي، ولمْ يَروني، فكيفَ لو رَأوني؟ فلو كانَ عليك مثل رَمْل عَالج، أو مثل أيامِ الدُّنيا، أو مثل قَطْر السماء ذُنُوبًا، غَسَلها اللهُ عنك». ونحوه عند ابن عبد البر في (تمهيده) بسندٍ صحيح: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسجد الخَيف قاعداً، فأتاه رجلٌ مِنَ الأنْصار، ورجلٌ مِنْ ثقيف، فذكر حَديثاً فيه طول، وفيه: «... وأمّا وقُوفك عشية عرفة، فإنّ الله يهبطُ إلى سماء الدنيا، ثمّ يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانتْ ذُنُوبكم كعَدَد الرّمل، وكعَدد القَطْر، وكزَبَد البَحر، لغفرتُها، أفيضُوا عبادي مَغْفوراً لكم، ولمَنْ شَفَعتم له».
    «يا بِلال، أنْصت لي الناس»
    وروى ابنُ عبد البر أيضاً: بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «وقَفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَفات، وكادت الشّمس أنْ تؤوب، فقال: «يا بِلال! أنْصت لي الناس»، فقامَ بلال، فقال: أنْصتوا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَصَت الناس، فقال: «مَعَاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقْرأني منْ ربّي السلام، وقال: إنّ اللهَ غَفَر لأهل عرفاتٍ، وأهلِ المَشْعر، وضَمِنَ عنْهم التَّبِعات». فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ الله، هذا لنا خاصٌّ، فقال: «هذا لكم، ولمَنْ أتَى بَعْدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر - رضي الله عنه -: كثُر خيرُ اللهِ وطَاب. ورمل عالج: هو ما تَراكَمَ مِنَ الرّمل، ودَخل بعضُه في بعض. وعالِج: موضِعُ معروف بالبادية، بها رَمْل. وشعثًا: منْ تَلَبَّدَ شعره واغْبَرَّ، والشَّعِث: المُغْبَرُّ الرأْس، الجافُّ الذي لم يَدَّهِن. والتَّشَعُّث: التَّفرُّق والتنكُّث. سُفْعاً: السَّفْع السَّواد والشُّحوب، ومنه قيل للأَثافي: سُفْعٌ، وهي التي أُوقد بينها النار، فسَوَّدَت صِفاحَها التي تلي النار. غُبراً: الغُبْرة: اغبِرار اللَّون، يغْبَرُّ للهمِّ ونحوه، والغُبْرة لون الأغبر، وهو شبيه بالغبار. قال الحافظ النّووي: «هذا الحديث ظاهر الدلالة في فَضل يومِ عرفة، وهو كذلك»، وقد وفَّق النووي بين الأحاديث الدالة على فَضْل يوم عَرَفة، والأحاديث الدالّة على فضل يوم الجُمعة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ يومٍ طَلعتْ فيه الشمس، يوم الجُمعة». رواه مسلم، بأنّ الأحاديث الواردة في فضل يوم عرفة، تفيد أنّ يومَ عَرَفة أفضل أيام السَنة، أمّا الأحاديثُ الواردة في أفضليّة يوم الجُمعة، فمحمولة على أنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. انظر شرحه على «صحيح مسلم».
    الإكثار منْ ذكر الله -تعالى
    وقال ابن قدامة في المغني: يستحب الإكثار منْ ذكر الله -تعالى-، والدُّعاء يوم عرفة؛ فإنّه يومٌ تُرْجى فيه الإجابة، ولذلك أحببنا له الفِطْر يومئذ، ليتقَوّى على الدُّعاء، مع أنّ صومه بغيرِ عرفة يعدل سنتين. انتهى، وقد رُوي عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنّه رأى سائلاً يسألُ يومَ عرفة، فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تَسْأل غير الله؟! وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن هذا الفَضل خاصٌّ بالحَاج. قال الباجي المالكي: ويَحتمل أنْ يُريدَ به الحاج خاصّة، لأنّ معنى دُعاء يوم عَرَفة في حقّه يَصح، وبه يختص، وإنْ وُصِف اليوم في الجُمْلة بيوم عرفة، فإنّه يُوصفُ بِفعل الحاج فيه، والله أعْلم. انتهى. (المنتقى شرح الموطأ). فمن رأى تعلّقَ الفضل في الحديث بالمكان مع الزمان، قَصَرَ ذلك على الحاج في عرفة، ومَنْ رأى تعلق الفضل بالزّمان، جَعله عامًا يشمل الحاج وغيره، وإنْ كان هو للحاج آكدَ، والإجابة في حقّه أقربَ، لاجتماع فضل المَكان مع الزمان. وحديثنا في الباب هنا: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِنْ يومٍ أكثر مِنْ أنْ يُعْتقَ اللهُ فيه عبداً مِنَ النار، مِنْ يوم عرفة..». قد ذكر فَضل اليوم والزّمان.
    فوائد الحديث
    أنّ الله فَضَّلَ بعضَ الأيَّامِ عَلى بعضٍ، والأيَّامُ الفاضِلةُ هي مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ، وعَطاياهُ لعِبادِه، يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ، ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ، وَمِن تِلكَ الأيَّامِ الفاضلةِ: يَومُ عَرَفةَ، وهو الرّكن الأعظم في الحج.
    إِثباتُ صِفةِ الدُّنوِّ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، والقُرْب مِنْ عباده، كَما تَليقُ بجَلالِه وعَظمتِه، كما ثبت ذلك في الثُلث الأخير مِنَ الليل.
    وفيه: إِثْباتُ صِفةِ المُباهاةِ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، كَما تَليقُ بِجلالِه وعَظمتِه.
    أعظمُ الجوائز في يومِ عَرَفة: غُفْرانُ الذّنُوب.
    خطبَ عمرُ بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بعَرفة، فقال: «إنّكم قد جِئتُم مِنَ القريب والبَعيد، وأنْضَيتُم الظّهر- أي: أتْعبتم رَواحلكم-، وأخْلَقْتُم الثياب - أي: أبليتُم ثيابكم، وليس السّابق اليوم مَنْ سَبقت دابّته وراحلته، وإنّما السّابق اليوم مَنْ غُفر له. وننبّه على أنّ الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي، بل هو أولاً في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه الطاعة للدّاعي فيَحصل مطلوبُه، وقد تكون سببًا لحصول نِعَمٍ أُخَرَ، أو اندفاع مَصائب، وقد يُؤخّر الله ثمرته إلى الآخرة، فيكفّر به السيّئات، ويَرفع به الدّرجات.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقولُ إذا رَكِبَ إلى سَفَرِ الحَجِّ وغيرِه



    الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر والدُّعاء الوارد فيه يشتمل على طلب مصالح الدين التي هي أهمّ الأمُور وعلى مَصَالح الدنيا وعلى حُصول المَحاب ودفع المكاره والمَضار
    السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ ومِن رَحمةِ اللهِ سُبحانَه أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ
    عن عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَلَّمَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ والتَّقْوَى، ومِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ والْأَهْلِ». وإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ». الحديث رواه في الحج (2/978) وبوب عليه بمثل تبويب المنذري.
    في هَذا الحَديثِ يُعلِّمُ الصحابي عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- بعضَ أَصْحابِه دُعاءَ السَّفرِ، فأخبَرَهم أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَكِبَ واستَقرَّ عَلى ظَهرِ بَعيرِه، ويدخُلُ فيه كلُّ أنْواعِ الدوابِّ الَّتي تُركَبُ، وكذا الوَسائلُ الحَديثةُ، «خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ» خارجًا مِنَ المَدينةِ إِلى سَفرٍ من الأسفار.
    كان -صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ
    كان يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ، أي: يذكُرُ اللهَ -تعالى- بالتكبير، وتَكبيرُه - صلى الله عليه وسلم - عندَ الاسْتِواءِ والارْتفاعِ فوقَ الدابَّةِ، هو استِشْعارٌ لكِبرياءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وأنَّه أكبَرُ منْ كلِّ شيءٍ، فيُكبِّرُه ليَحمد له ذلك، فيَزيدَه من فَضلِه، وهو افتتاحٌ لسفره بتكبيرِ الله -عزَّ وجلَّ-، والثناء عليه، كما كان يختمه بذلك. ثُمَّ يَقولُ: «سُبحانَ الَّذي سخَّر لَنا هَذا» فَجَعلَه مُنقادًا لَنا، والإشارةُ إلى المَركوبِ، «وَما كنَّا له مُقْرِنينَ» فأي: ما كنَّا نُطيقُ قَهرَه واستِعمالَه للرّكوب، لوْلا تَسخيرُ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- إيَّاه لَنا، ففيه الثّناء على الله بتَسخِيره للمَرْكوبُات التي تَحْمل الأثقال والنُّفوس إلى البلاد النائية، والأقطار الشّاسعة، واعْترافٌ بنعمة الله بالمَركوبات، وهذا يدخل فيه المَركوبات منَ الإبل والخَيل، وكذا المراكب البحريّة والبريّة والجوّية الحديثة، فكلّها تدخل في هذا، وبهذا ذكّر نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - الرّاكبين معه في السّفينة فقال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41)، وقال -تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (إبراهيم: 32). فهذه المراكب كلّها، وأسبابها، وما به تتمّ وتكتمل، كلّها منْ نِعم الله وتسخيره، يجبُ على العباد الاعتراف لله -تعالى- بنعمته فيها، وخُصُوصاً وقت مباشرته -يعني الرُّكوب- ففيه تذكّر النّعمة التي لولا الباري لما حَصَلت، ولكنّ أكثر الخلق في غفلة عن شُكره، بل في عُتوٍّ واسْتكبار عن الله، وتَجبّر بهذه النّعم على العباد.
    قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ}
    قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ} أي: وإنَّا إلى رَبِّنا من بعدِ مماتِنا لصائرونَ إلى الله -تعالى-، وراجِعونَ إليه؛ فإنَّ الإنْسانَ لَمَّا رَكِبَ مُسافراً عَلى ما ذَلَّل اللهُ له، كأنَّه يَتذكَّرُ السَّفرَ الأَخيرَ مِن هَذه الدُّنيا، وهوَ سَفرُ الإنْسانِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- إذا ماتَ، وحَمَله النَّاسُ على أَعْناقِهم، فكما أنّ الإنسان يُسَافر في الدنيا، فهناك سفرٌ آخر إلى الآخرة، فكما بدأ الخَلْق فهو يعيدهم، قال -سبحانه-: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق: 8). أي: إلى الله المصير والمرجع، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم:31). ثُمَّ بَعدَ ذَلك أَثنَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى اللهِ ودَعاهُ، فقالَ: «اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ في سَفرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العمل ما تَرْضى» والبِرُّ: هو الْتِزامُ الطَّاعةِ، والتَّقْوى: البُعدُ عنِ المَعصيةِ، أي: يَمْتثِلُ الأَوامرَ والواجبات، ويَجتنِبُ النَّواهيَ والمُحرّمات، ثمّ سَألَ ربَّه أنْ يَرزُقَه مِنَ العَملِ ما يَرضَى بِه عنْهُ. فسأل اللهَ -تعالى- أنْ يكون السّفر مَوصُوفًا بهذه الوَصْف الجليل، محتويًا على أعمال البر كلّها، سواءً المُتعلّقة بحقّ الله، والمتعلّقة بحُقُوق الخَلْق، وعلى التقوى التي هي اتّقاء سَخط الله، بتركِ جميع ما يكرهه الله مِنَ الأعمال والأقوال، الظّاهرة والباطنة، كما سَأله العمل بما يَرْضاه الله، وهذا يَشْمل جميعَ الطّاعات والقُرُبات، ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السّفر الرابح، وهو السّفر المبارك.
    قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا»
    قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ» سأَلَه تَهوينَ السَّفرِ وهوَ تَيسيرُه، وأنْ يُقرِّبَ لَه مَسافةَ ذَلك السَّفرِ، فكم مِنْ سَفرٍ امتدّ أياماً كثيرة، لكنّ الله هوّنه ويسّره على أهله! وكم مِنْ سَفرٍ قصير، صار أصعب مِنْ كل صعب! فلا سهل إلا ما جعله الله سهلاً، بلطفه ومعونته. ثُمَّ أتْبَعَ دُعاءَه بقولِه: «اللَّهُمَّ أَنتَ الصَّاحبُ في السَّفرِ» يَعني: تَصحَبُني في سَفَري، فتُيسِّرُه وتُسهِّلُه عليَّ، «والخَليفةُ في الأَهلِ» أي: مِن بَعْدي، فتَحوطُهم بِرعايتِكَ وعِنايتِكَ، فهوَ -جلَّ وعَلا- معَ الإِنسانِ في سَفرِه، وخَليفتُه في أَهلِه؛ لأنَّه -جلَّ وعَلا- بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وعلمه وقُدْرته في كلّ مكان.
    الاستعاذة من وعثاء السفر
    ثُمَّ استَعاذَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بعضِ ما يُصيبُ الإِنسانَ في السَّفرِ، ومِنها «وَعْثاءُ السَّفرِ» وهيَ شِدَّتُه ومَشقَّتُه وتَعَبُه، «وكآبةُ المَنظَرِ» وهيَ تَغيُّرُ الوجهِ كأنَّه مَرضٌ، والنَّفسِ بالانْكسارِ ممَّا يَعرِضُ لها فيما يُحِبُّه ممَّا يُورِثُ الهَمَّ والحُزنَ، وقيلَ: المُرادُ مِنه الاستِعاذةُ مِنْ كلِّ مَنظرٍ يَعقُبُ الكآبةَ عندَ النَّظرِ إِليهِ، «وسُوءُ المُنقلَبِ» وَذلكَ أنْ يَرجِعَ فَيَرى في أَهلِه وَمالِه ما يَسوؤُه. قوله: «وكان إذا رجَعَ قالَهنّ» أي: تلكَ الجُمَلَ المَذكورةَ، وقالَ بعدَهنَّ: «آيِبونَ» أي: نحنُ راجِعونَ مِنَ السَّفرِ بالسَّلامةِ، «تائِبونَ» مِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، «عابِدونَ، لربِّنا حامِدونَ» أي: مُثْنونَ عليه -تعالى- بصِفاتِ كَمالِه وجَلالِه، وشاكِرونَ له على نِعَمِه وأفْضالِه. والمَعْنى: أنَّنا في طَريقِ عَودَتِنا إلى بَلَدِنا ومَوْطِنِنا وأهْلِنا، قدْ عَقَدْنا العَزْمَ على العَوْدةِ إلى اللهِ -تعالى-، والتَّوْبةِ الصَّادِقةِ له، المُقْتَرِنةِ بالأعْمالِ الصَّالحةِ، مِنَ الشُّكرِ للهِ، والمواظَبةِ على عِبادتِه، والتَّقرُّبِ إليه بالصَّلاةِ، وغيرها من الأعمال الصالحة. كان - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ فهوَ - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ، وأنَّه عبْدٌ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، فيسأل الله -تعالى- في رجُوعه وعَوده مِنْ سفره، فيقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون»، أي: نسألك اللهمّ أنْ تجعلنا في إيابنا ورجُوعنا، مُلازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأنْ تَخْتم سفرنا هذا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها، وهذا يُشبه قوله -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (الإسراء:80). ومدخل الصِّدْق ومَخْرجه: أنْ تكونَ أسْفار العبد، ومداخله ومخارجه، كلّها تحوي الصّدْق والحَقّ، والاشتغال بما يُحبه الله ويرضاه، مقْرونة بالتّوكل على الله، ومصحوبة بمَعونَته، وقد كانت أسفاره - صلى الله عليه وسلم - كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة، وكلّها في طاعة الله -تعالى- وطلب مرضاته.
    قوله: «لربّنا حامدُون»
    قوله: «لربّنا حامدُون» فيه: الاعتراف بنعمتِه آخِراً، كما اعْترفَ بها أولاً في تسخير الدّابة، فكما أنّ على العَبد أنْ يَحْمد الله على التوفيق لفعل العبادة، والشُّروع في الحاجة، فعليه أنْ يَحمدَ الله على تكميلها وتَمَامها، والفَراغ منها، فإنّ الفَضَل فضله، والخير خيره، والأسْباب أسبابه، والله ذو الفَضل العظيم. وفي حَديثِ عبداللهِ بنِ سَرجِسَ - رضي الله عنه -في صَحيحِ مُسلمٍ (2/979) ومُسنَدِ أحمَدَ- أنَّه كان يَبدأُ بالأهْلِ إذا رجَعَ، وفيه يقولُ: «كان رسولُ الله إذا سافر، يَتعوّذ مِنْ وعثاء السفر، وكآبة المُنقلب، والحور بعد الكون، ودَعوة المظلُوم، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ». وفيه أيضا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعاذَ مِنَ الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، يَعني: مِنَ النُّقصانِ بعدَ الزِّيادةِ، وتَغيُّرِ الحالِ مِنَ الطَّاعةِ إلى المَعصيةِ، وتَعوَّذَ أيضًا مِن دَعوةِ المَظلومِ، أي: أَعوذُ بكَ مِنَ الظُّلمِ، فإنَّه يَترتَّبُ عَليه دُعاءُ المَظلومِ، فإنَّه ليس بينَه وبينَ اللهِ حِجابٌ، كما في الصَّحيحَينِ. ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر اللهم: إني أعوذ بك من وعثاء السفر أي: مشقته وصعوبته وكآبة المنظر أي: الحزن الملازم، والهم الدائم وسوء المنقلب في المال والأهل والولد أي: يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا، من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتوافرة علينا وعليهم، فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور.
    فوائد الحديث
    الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر، والدُّعاء الوارد فيه، يشتمل على طلب مصالح الدين، التي هي أهمّ الأمُور، ومَصَالح الدنيا، وعلى حُصول المَحاب، ودفع المكاره والمَضار، وعلى شُكر نعم الله، والتذكّر لآلائه وكرمه، واشْتمال السّفر على طاعة الله، وما يقرب إليه.
    التَّرغيبُ في ذِكرِ اللهِ -تعالى- عندَ السَّفرِ والرُّجوعِ منه.
    تَذكَّر نِعمةَ اللهِ -تعالى- عليهم بتَيسيرِه وتَذليلِه لهم تلك المراكِبَ.
    السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ، ومِن رَحمةِ اللهِ -سُبحانَه- أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه في البَحرِ مِنَ السُّفُنِ، وفي البَرِّ مِنَ الإبلِ والخيلِ والسَّيَّاراتِ، وفي الجَوِّ مِنَ الطَّائراتِ، فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ.


    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: سَفَرُ المرأة إلى الحَجّ مع ذِي مَحْرم


    لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها
    وُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ مع المرأة ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها ونحْوِ ذلك
    النّهي عن سفر المرأة من غير ذي محرم يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ
    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِداً، إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، ولَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». هذه الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/975- 978) باب: سَفر المَرأة مع محرم إلى حجٍّ وغيره.
    في هذه الأحاديث نهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وزَجَرَ عنْ أنْ تُسافِرَ المرأةُ بغَيرِ مَحرَمٍ، وأخبَر بحُرْمةِ ذلك، وأنَّه لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ، الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ، أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ، إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها؛ لأنَّ مَنْ كانتْ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ لا تَأتي المَناهيَ، ولا تُخالِفُ الأوامِرَ، وكأنَّه تَلميحٌ بالعِقابِ مِنَ اللهِ لمَن خالفَتْ هذا الأمرَ.
    سفَر المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ
    وقد جاء في الصَّحيحَينِ: مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: النَّهيُ عن سفَرِ المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ ولَياليها، إلَّا أنْ يكونَ معَها مَحرَمٌ، فقيل: إنَّ اختِلافَ المدَّةِ هو لاختلافِ السَّائِلينَ، واختلافِ مَواطنِهم، وليس في النَّهيِ عن الثَّلاثةِ تَصريحٌ بإباحةِ اليومِ واللَّيلةِ، وليس في هذا كلِّه تَحديدٌ لأقلِّ ما يقَعُ عليه اسمُ السَّفرِ، ولم يَرِدْ عنه - صلى الله عليه وسلم - تَحديدُ أقلِّ ما يُسمَّى سَفراً، فالحاصلُ: أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سَفراً تُنهَى عنه المرأةُ بغَيرِ زوجٍ، أو مَحْرمٍ، سواءٌ كان ثَلاثةَ أيَّامٍ، أو يومَينِ، أو يَوماً، أو نِصفَ يومٍ، أو غيرَ ذلك. قوله: «لا يَحلّ لامْرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر» خصّ المُؤمنة بالذّكر؛ لأنّ صاحبَ الإيمان، هو الذي يَنتفع بخطابِ الشّارع، وينقاد له.
    قوله: «مَسْيرة يوم وليلة»
    وقوله: «مَسْيرة يوم وليلة» وفي حديث ابن عمر: «لا تُسافر المَرأة ثلاثة أيام، إلا مع ذي محْرم»، وفي حديث أبي سعيد: «لا تُسافر امرأة مسيرة يومين ليسَ معها زوجها أو ذو محرم»، وفي حديث ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلا ومعها مَحرم»، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريدُ أنْ أخْرج في جيشِ كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: «اخرُج معها»، قال الحافظ ابن حجر: «وقد عَمِل أكثر العلماء في هذا الباب بالمُطلق، لاخْتلاف التقييدات. قال ابنُ المنير: وقع الاخْتلاف في مَواطن بحسب السائلين، ويُحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذِكْر ما دونها، فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقّف امتناع سير المرأة على مسافة القصر». «فتح الباري» (4/ 75).
    قوله: «إلا ومعها ذُو محْرم»
    فسّره في حديث أبي سعيد بقوله: «إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا». فمَحرَمُ المرأةِ هو زَوجُها ومَن يَحرُمُ علَيها بالتَّأبيدِ، بسَببِ قَرابةٍ، أو رَضاعٍ، أو صِهْريةٍ، كأبيها، وابنها، وأخيها، فلا يَدخُلُ في المحرَمِ ابنُ العَمِّ ولا ابنُ الخالِ، ولا زوجُ الأختِ، ولا زوجُ العمَّةِ، ولا زوجُ الخالةِ، وما شابَههم، ممَّن يَحِلُّ لهم الزَّواجُ منها لو فارَقَ زَوجتَه. ووُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ معها ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ، وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها، ونحْوِ ذلك، قال الحافظ: «واسْتدلّ به على عدم جواز السّفر للمرأة بلا مَحرم، وهو إجماعٌ في غير الحج والعمرة، والخُروج من دار الشرك، ومنْهم من جعل ذلك من شرائط الحج.
    منع الخلوة بالأجنبية
    قوله: «ولا يَدْخل عليها رجلٌ إلا ومعها محرم»، فيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا: هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات، والصحيح الجواز، لضَعف التهمة به، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا. (فتح الباري) (2/ 568).
    حج المرأة مع ذي محرم
    قال شيخ الإسْلام ابن تيمية: «وليس للزّوج منع زوجته من الحجّ الواجب مع ذي مَحْرم، بل عليها أنْ تحج وإنْ لمْ يأذن في ذلك، حتى إنّ كثيراً منَ العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النّفقة عليه مدّة الحج..»، وقال في «الفتاوى المصرية»: إنّ المرأة لا تسافر للحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم، والمحرم زوج المرأة، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ، وهو قول أكثر العلماء، واختاره ابن عقيل، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين في التحريم لا المحرمية اتفاقًا، والله أعلم». الاختيارات الفقهية (1/ 465).
    من فقه الحديث
    قال الحافظ أبو عمر ابن عبدالبر: «في هذا الحديث من الفقه: أنّ المرأة لا يجوز لها أن تسافر هذه المسافة فما فوقها، إلا مع ذي محرم، أو زوج، وقد اختلفت ألفاظ أحاديث هذا الباب في مقدار المسافة، وسنذكر ذلك والمعنى فيه في آخر هذا الباب إن شاء الله. واختلف الفقهاء في معنى ذي محرم للمرأة، هل هو من السبيل الذي ذكر الله في الحج أم لا؟ فقالت طائفة: المحرم من السبيل الذي قال الله -عزوجل-: {من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 97). فمَن لم يكن لديها ذو محرم فتخرج معه، فليست ممن استطاع إلى الحج سبيلاً، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم منها. وممّن ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل، هل يكون محرَمًا لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو؛ لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، وكأنه ذهب إلى أنّه لم يذكر في القرآن، قال أبو عمر: يعني في قول الله -عزوجل-: {ولا يُبْدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية. قال الأثرم: قيل لأحمد: فيَحجُّ الرجلُ بأخت امرأته؟ قال: لا؛ لأنّها ليستْ منه بمحرم، لأنّها قد تحلّ له، قيل له: فالأخ من الرّضاعة يكون محرماً؟ قال: نعم، قيل له: فيكون الصّبي مَحْرماً، قال لا، حتّى يحتلم؛ لأنّه لا يقومُ بنفسه، فكيف تخرج معه امرأة في سفر؟ لا حتى يحتلم، وتجبُ عليه الحدود، أو يبلغ خمس عشرة سنة.
    مقدار السفر
    ثم ساق الروايات في الباب في مقدار السفر، ثم قال: وقد اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب، كما ترى في ألفاظها، ومحملها عندي - والله أعلم - أنّها خرجت على أجوبة السائلين، فحدّث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنّه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في وقتٍ ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا مَحْرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم؟ فقال: لا. وكذلك معنى الليلة والبريد ونحو ذلك، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم. ويجمع معاني الآثار في هذا الباب- وإن اختلفت ظواهرها- الحَظْر على المرأة أنْ تُسافرَ سفراً يخاف عليها الفتنة بغير محرم، قصيراً كان أو طويلاً، والله أعلم. انتهى.
    الأحاديث متنوعة في هذا
    وقال الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله-: «الأحاديث متنوعة في هذا، فيها يومان، وفيها يوم وليلة، وفيها يوم، وفيها ليلة، وفيها ثلاثة أيام، وفيها مطلق، هذا على اختلاف الأسْئلة يجيبهم على قدر سؤالهم -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الجامع ما رواه الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرم، ولا تُسَافر المرأة إلا مع ذي محرم؛ فقال رجل: يا رسول الله، إنّ امْرأتي خرجتْ حاجّة، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انطلق فحجّ مع امرأتك». أخرجه البخاري.
    حديث جامع
    والحديث الجامع: «لا تُسَافر إلا مع ذي محْرَم». أي: سفر، يوم أو ليلة، أو يومين، أو ثلاث، أو أكثر، أو أقلّ؛ لأنّها عَورة وفتنة، وإذا لمْ يكنْ معها محرمٌ يَصُونها ويلاحظها عن الخطر العظيم عليها، فالشيء الجامع هو السّفر وما يُعدُّ سفرًا هو الممنوع قد يكون يوماً، قد يكون يومين، قد يكون ثلاثة، وقد يكون أكثر من ذلك. قال: ولا فرق بين الطائرة وبين القطار والسيارة وبين الجمل، فإن الذي أخبر عن هذا يعلم -سبحانه- ما في السماء والأرض، وما يكون في آخر الزمان، والرسول -[- إنّما يخبر عن مشروعية ذلك، لقوله -سبحانه-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4)، فهو يعلم عن شرع الله، ويُخبر عن شرع الله في الحاضر والمستقبل، والله -سبحانه- يعلم ما يكون في آخر الزمان في القرن الرابع عشر، والخامس عشر من الطائرات والسيارات والقطارات، والبواخر العظيمة السريعة وغير ذلك، فحُكْمه واحدٌ بيَّنه لعباده، ولمْ يَقل: إلا إذا كان في آخر الزمان، وجاءت مراكب سريعة فلا بأس، قد جعل الحكم واحداً». انتهى (مجموع فتاويه).
    فوائد الحديث
    من فوائد الحديث النَّهيُ عن سَفرِ المرأةِ بغَيرِ مَحرمٍ معَها، سواء يوماً وليلةً أو أكثرَ أو أقل، وهذا النّهي يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ، وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها، وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ، في الحَضرِ والسَّفرِ، ومِن أَوْجُهِ المحافَظةِ عليها ما جاء في هذا الحديثِ.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: حجّ الصّبي وأجْر مَنْ حَجَّ به


    الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ الحُرِّ المُستطيعِ
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ». يَرْوي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - «لقي ركباً بالرّوحاء فقال: من القوم؟» الرّكب: هم الجماعةُ المُسافِرون، وهم أصْحاب الإبل خاصّة، وأصله أنْ يُسْتعمل في عشرةٍ فما دونها، و«الروحاء» مكان على ستةٍ وثلاثين ميلاً من المدينة. وكان ذلك في طَريقِ الرُّجوعِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ، كما بيَّنَت رِوايةُ النَّسائيِّ.
    قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»
    قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟» فأجابوه بأنَّهم مِن جَماعةِ المسلمين، وقوله: «فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟» قال القاضي عياض: يحتمل أنّ هذا اللقاء كان ليلاً فلمْ يعْرفوه - صلى الله عليه وسلم -، ويَحتمل كونه نَهاراً، لكنّهم لمْ يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هِجرتهم، فأسْلموا في بلدانهم ولمْ يهاجروا قبل ذلك.
    ألهَذا حَجّ؟
    قوله: «فرفعتْ امرأةٌ صَبيا لها فقالت: ألهَذا حَجّ؟ الصَبيّ هو الصغير هو الَّذي لمْ يصل سِنَّ البلوغِ. قال: «نعم، ولك أجْر». قال النووي: فيه حجّة للشّافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء: أنّ حَج الصّبي مُنعقدٌ صحيح، يُثاب عليه، وإنْ كان لا يُجْزيه عن حجّة الإسْلام، بل يقع تطوعاً، وهذا الحديث صَريحٌ فيه، وقال أبو حنيفة: لا يصحّ حجّه؟ قال أصْحابه: وإنّما فعلوه تمريناً له ليعتاده، فيقع إذا بلغ، وهذا الحديث يردّ عليهم، قال القاضي: لا خلافَ بين العلماء في جواز الحجّ بالصّبيان، وإنّما مَنَعه طائفة مِنْ أهل البدع، ولا يُلتفت إلى قولهم، بل هو مَردُود بفعل النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابه، وإجماع الأمة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه وتجري عليه أحْكام الحج، وتجبُ فيه الفدية، ودم الجُبران، وسائر أحْكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله، ويقول: إنّما يجبُ ذلك تمريناً على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحْكام الحج في ذلك، ويقولون: حجّه منعقدٌ يقع نفلاً؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل له حجّاً. قال القاضي: وأجْمعوا على أنه لا يُجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسْلام، إلا فرقة شذّت فقالت: يُجزئه؟ ولمْ تلتفت العلماء إلى قولها. انتهى. فلمَّا عَلِموا أنَّه رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَفَعَت إليه امرأةٌ منْهم وسَأَلت: «أَلِهذا حَجٌّ؟» أي: يَحصُلُ لِهذا الصَّغيرِ ثوابُ حَجٍّ، فأجابَها - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ» لَه حجُّ النَّفلِ، «ولَكِ أَجرٌ» أي: بسَببِ تَجنيبِها إيَّاه ما يَجتنِبُه المُحرِمُ، وفِعلِ ما يَفعَلُه المُحرِمُ، وتَعليمِه إنْ كان مُميِّزاً، أو أجْرُ النِّيابةِ في الإحرامِ، والرِّميِ، والإيقافِ، والحملِ في الطَّوافِ والسِّعيِ، إنْ لم يكُنْ مُميِّزًا، وفي قولِه: «ولكِ أجْرٌ» تَرغيبٌ لها. فالحَجُّ يَصِحُّ مِن الصَّبيِّ، ويُثابُ عليه، ولكنْ لا يَكفِيه عن الفريضةِ، وعليه حَجُّ الفريضةِ بعْدَ البلوغِ.
    فوائد الحديث
    الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ، ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ، الحُرِّ المُستطيعِ.
    مشروعية الحج بالصغير مُطلقاً، سواء كان مُميّزاً أم لا.
    وفيه: أنَّ الصَّبيَّ يُثابُ على طاعتِه، ويكُتَبُ له حَسناتُه.
    وثُبوتُ الأجرِ لوليِّ الصَّبيِّ إذا حجَّ به.
    وفيه: أنَّ مَن جَهِل شيئًا فعليه أنْ يَسألَ أهلَ العلمِ عمَّا يَجهَلُه مِن الأحكام، قال الله -تعالى-: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).
    وفيه: أنَّ مَن أعان شخصًا على طاعةٍ فله أجرٌ.
    ومشروعية الزّيادة في الجواب عن السُّؤال زيادة في الفائدة، وهو مِنْ عادة الشّرع، والبلغاء والعُلماء.
    وفيه: أنّ على النّساء أنْ يسألن عمّا يَجهلنه منَ الأحْكام كالرجال، وأنْ يتفقّهن في الدّين.




    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحجُّ عمَّنْ لا يَسْتَطيعُ الرُّكوب



    من فوائد الحديث منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ وغَضُّ البَصَرِ وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء

    العالِم يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب
    عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: «نَعَمْ». وذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/973) باب: الحَجّ عن العَاجز لزَمانةٍ وهَرَم ونحوهما، أو للمَوت، وقد ذكره البخاري في باب الحج عمّن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.
    في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ الفَضلَ بنَ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- كانَ راكبًا خَلْفَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الدَّابَّةِ؛ والفضل: هو ابن العباس بن عبدالمطلب، وهو أكبر أبناء العباس وبه كان يُكنى، وكان جميلًا، وقد مات بالشام في طاعون عمواس، وليس له عقب.
    معنى رديفه
    ومعنى رديفه: أي رَكب خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على عَجز راحلته -صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد أردف أسامة بن زيد، منْ عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وذلك في حجّة الوداع، قبيل رمي جمرة العقبة أو بعدها يوم النحر.
    قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ»
    قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ» وهي قَبيلةٌ يَمنيَّةٌ معروفة، مساكنها تقع جنوبي مساكن غامد وزهران. «تستفتيه» أي: تَسأَلُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الحَجِّ، فكان الفَضلُ - رضي الله عنه - يَنظُرُ إليها، وكانَتْ هي أيضًا تَنظُرُ إليه، وقوله: «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» أي: أخذَ يصرف وجْه الفضل، أي: يلويه حتى لا يتمكّن من النظر إليها. الشق الآخر: أي إلى الجانب الآخر الذي لا تقع عينه فيه على الخثعمية، فلمَّا رآهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنظُر إليها صَرَفَ وَجْهَ الفَضْلِ - رضي الله عنه - إلى الشِّقِّ الآخَرِ؛ ليَكُفَّ بَصَرَه عن النَّظرِ إليها، ولِتُقلِعَ هي أيضاً عن النَّظَرِ إليه، ولم يَأمُرْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَرْفِ وَجْهِها إلى الشِّقِّ الآخَرِ، وإنْ كانتِ المرأةُ مَمنوعةً مِن النَّظَرِ إلى الرجُلِ أيضاً، مِثلَما يُمنَعُ الرجُلُ لقولِه -تعالَى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30).
    وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
    وقولِه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور: 31، وقيل: يحْتَملِ أنْ يكونَ نظَرُها للفضْلِ كان عن غَيرِ قصْدٍ؛ لأنَّها إنَّما كانتْ تَنظُرُ جِهةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَسألتِها. ويَحتمِلُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَفَى بصَرْفِ وَجْهِ الفضْلِ؛ لأنَّ ذلك يَمنَعُ نَظَرَ المرأةِ إلى شَيءٍ مِن وَجْهِ الفضْلِ، فكان في ذلك مَنْعٌ للفضْلِ مِن النَّظَرِ إليها ومَنْعٌ لها مِن النَّظَرِ إليه، ولعلَّها لمَّا صَرَفَ وَجْهَ الفضْلِ فَهِمَت ذلك، فصَرَفَت وَجْهَها أو بَصَرَها عن النَّظَرِ إليه.
    أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟
    قوله: «قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟» فسَأَلتِ المرأةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن مَشروعيَّةِ الحَجِّ نِيابةً عن أبِيها، وأبوها قِيل: هو حُصينُ بنُ عَوفٍ الخَثْعميُّ، الذي أدركته فَريضةُ الحجّ وهو شَيخٌ كَبيرٌ، لا يَستقِرُّ جِسمُه على الرَّاحِلةِ، أو لم تَتَوافَرْ فيه شُروطُ الحَجِّ؛ إلَّا في هَذه السِّنِّ المتأخِّرةِ، حتَّى أصبَحَ عاجِزاً، ضَعيفَ الجِسمِ، مُنهَكَ القُوى، فأجابَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ تَحُجَّ عنه.
    ما يشترط للنائب في الحج
    ويُشتَرَط في النَّائِبِ في الحجّ والعمرة: أنْ يكونَ قد حَجَّ حَجَّةَ الإسْلامِ عن نفْسِه أوَّلًا واعتمر، وإلَّا كانتِ الحجَّةُ أو العُمرة عن نفْسِه، ولم تُجْزِئْ عن المَنوبِ عنه؛ لحَديثِ أبي داودَ: عن ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لَبَّيكَ عن شُبْرُمةَ، قال: مَن شُبرمةَ؟ قال: أخٌ لي -أو قريبٌ لي- قال: «حَجَجتَ عن نفْسَك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نفْسِك، ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ».
    فوائد الحديث
    1- الحَجُّ هو الرُّكنُ الخامِسُ مِنْ أرْكانِ الإسْلامِ، وهو الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ الأهل والوطن كالجهاد في سبيل الله، استِجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وليس لمَن أدَّاهُ على وَجْهِه وبحَقِّه مِنْ ثَوابٍ إلَّا الجنَّةُ.
    2- وفيه: جواز الاستِنابة في حَجِّ الفَريضةِ؛ عن عَاجِزٍ عجزاً مَيؤوسٍاً مِن زَوالِه.
    3- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ، والاعتِناءُ بأمرِهِما، والقِيامُ بمِصالِحِهما؛ مِن قَضاءِ دَينٍ ديني كزكاة أو حجٍّ أو نذرٍ أو كفارة، وكذا خِدمةٍ، ونَفَقةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وأن الحجّ عن الوالد من برّه. 4- وفيه: أنَّ الاستِطاعةَ تكونُ بالآخرين كما تكونُ بالنَّفْسِ.
    5- وفيه: تَواضُعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
    6- وفيه: مَنزِلةُ الفَضْلِ بنِ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ أرْدفه خلفه على الراحلة.
    7- وفيه: منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ، وغَضُّ البَصَرِ، وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء، والعمل على عدمِ اختلاط النساء بالرجال.
    8- أنّه يجوزُ للمرأة الاستفتاء في العلم والترافع في الحُكم، والمعاملة وإظْهار صوتها في ذلك، إذا لمْ تحدث فتنة من ذلك.
    9- وفيه: أنَّ العالِمَ يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه، وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب.
    مسألة مهمة
    مسألة: لا يصحّ الاستدلال بحديث الفضل بن العباس - رضي الله عنه -؛ على جواز كشف الوجْه للنساء، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين: الوجه الأول: أنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عنه، وأقرّها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت «وضيئة»، وفي بعض روايات الحديث: «أنّها حسناء»، ومعرفة كونها وضيئة، أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها...». «أضواء البيان» (6 / 254 - 256).
    وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «وأما حديث الخثعمية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عند مرجعه من مزدلفة إلى منى في حجة الوداع قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، أدركته فريضة الله، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجّي عن أبيك، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فصرف وجه الفضل عنها، صرفه إلى الجهة الأخرى، قالوا هذا يدل على أنها كانت متكشفة، وهذا غلط، فإنه ليس بدليلٍ على أنّها متكشفة، قد ينظر إليها وتنظر إليه وليستْ متكشفة، قد تميل الوجه إليه وهي متخمرة، وينظر إليها إلى حُسن كلامها إلى صوتها إلى خدها القائم مع السّتر، ليس بضروري أن تكون متكشفة، ...». «التعليقات على ندوات الجامع الكبير». وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: «وقد استَدلّ بهذا - أي: حديث الخثعمية-: مَن يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه، وهذا الحديث- بلا شك- من الأحاديث المتشابهة، التي فيها احتمال الجواز، وفيها احتمال عدم الجواز، أما احتمال الجواز: فظاهر، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول: هذه المرأة محرمة، والمشروع في حق المحرِمة أن يكون وجهها مكشوفاً، ولا نعلم أن أحداً من الناس ينظر إليها سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفضل بن العباس، فأما الفضل بن العباس: فلم يقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل صَرف وجهه، وأمّا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله- ذكَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له من النظر إلى المرأة، أو الخلوة بها، ما لا يجوز لغيره، كما جاز له أنْ يتزوج المرأة دون مهر، ودون ولي، وأن يتزوج أكثر من أربع، والله -عز وجل- قد فسح له بعض الشيء في هذه الأمور؛ لأنه أكمل الناس عفةً، ولا يمكن أن يرِد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرِد على غيره من الناس، من احتمال ما لا ينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة.
    القاعدة عند أهل العلم
    وعلى هذا: فإنّ القاعدة عند أهل العلم: أنه إذا وُجد الاحتمال، بَطَل الاستدلال، فيكون هذا الحديث من المتشابه، والواجب علينا في النصوص المتشابهة: أنْ نردّها إلى النصوص المحكمة، الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أنْ تكشف وجهها، وأنْ كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة، والشر» انتهى. «دروس وفتاوى الحرم المكي» (1408 هـ، شريط رقم 16).

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الحَائض والنُّفَساء إذا أرَادَتَا الإحْرَام



    من أحكام الحديث مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ ولو على غير طهارة وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ
    الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ
    عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ يَأْمُرُهَا: أَنْ تَغْتَسِلَ وتُهِلَّ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/869) باب: إحْرام النُّفَساء، واسْتِحباب اغْتِسالها للإحْرام، وكذا الحائض.
    تَرْوي عائشةُ أمُّ المؤمِنينَ -رضي الله عنها- أنَّ أَسْماءَ بنتَ عُمَيسٍ «نُفِسَتْ» بكسر الفاء، وأمّا النُّون ففيها الوجهان: الضّم والفتح، ونُفِسَتْ أي: وَلَدتْ، وسُمِّيَ نِفاساً لخُرُوجِ النَّفَسِ، وهوَ المَولودُ، أوِ خُروج الدَّمُ مِنَ الرّحم. والمعنى: أنّها ولدت، ويقال لمن حاضت: نُفِست أيضاً، إلا أنّ المَشهور قول لمَن ولدت: «نفست»، وأَسْماءُ بنتُ عُمَيسٍ هيَ الخَثْعمية صحابيّة، كانت زوجةً لجَعفر بن أبي طالب، ثمّ زوجةً لأبي بكر الصديق، ثمّ لعليّ بن أبي طالب. هاجرت أسماءُ للحبشة، ثمّ إلى المدينة، لذا فتُكنّى «صاحبة الهجرتين». لمَّا وَلَدتِ ابنَها مُحمَّدَ بنَ أَبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- في طَريقِ الذَّهابِ لحَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ منَ الهِجرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوجَها أَبا بكرٍ أنْ يَأمُرَها أنْ تَغتسِلَ مِن نِفاسِها ودَمِها، وأنْ تُهِلَّ بالحجِّ، وهذا الاغتِسالُ للنَّظافةِ، لا للطَّهارةِ ورفع الحَدث، لأنَّ النُّفَساءَ كالحائضِ لا تَطهُرُ إلَّا بانْقِطاعِ الدَّمِ عنها. وَتُهِل: أي: تُلبي، وتقدَّم أن الإهلال أصْله: رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية، إلا أنّ المرأة تَخْفضُ صوتها بحضرة الأجانب.
    الحائض والنفساء وأعمال الحج
    وفيه: أنّ الحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنْهما جَميعُ أَفْعالِ الحجِّ، إلَّا الطَّوافَ بالبيت. ولمَا رَواه أيضاً النَّسائيُّ وابنُ ماجة: عن أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: عن رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وتَصنَعَ ما يَصنَعُ النَّاسُ» أي: منَ الذِّكرِ والتَّلْبيةِ، وتقِفُ بمِنًى وعَرفاتٍ والمُزدَلِفةِ، «إلَّا أنَّها لا تَطوفُ بالبيتِ» أي: لا تَطوفُ بالكَعبةِ المُشرَّفةِ، طوافَ الرُكنِ وهو الإفاضة، إلَّا بعدَ أنْ تطهُرَ منَ النِّفاسِ، ثمَّ تطوفَ. وقَولُه: «بالشَّجرةِ» هي الشَّجرةُ الَّتي كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنزِلُ تحتَها عندَ خُروجِه منَ المدينةِ إلى مكَّةَ للعُمرةِ أوِ الحجِّ، فكان يَنزِلُ تحتَ ظِلِّ هذه الشَّجرةِ ويُصلِّي، ثُمَّ يُهِلُّ مُحْرِماً يُريدُ العُمرةَ أوِ الحجَّ. وفي رِوايةِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ عندَ مُسلمٍ أنَّها نُفِسَتْ بِذي الحُلَيفةِ، وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: «بالبَيداءِ» هَذه المَواضعُ الثَّلاثةُ مُتقاربةٌ، فالشَّجرةُ بِذي الحُلَيفةِ، وأمَّا البَيداءُ فهيَ بطَرفِ ذي الحُلَيفةِ. يُؤخذ من الحَديث الأحْكام التالية:
    الحُكمُ الأول
    مَشْروعية الاغْتسال عند الإحْرَام، بل هو سُنّة مؤكّدة، ووجه ذلك: أنّ أسْماء بنتَ عُميس -رضي الله عنها- نُفَسَاء، وهي وإنْ اغْتَسلت لنْ تستحلَّ بغُسْلها صلاةً ولا غيرها، ومع ذلك أمَرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ تَغْتسل، والاغْتسال للإحْرام مُسْتحبٌ بالإجْماع، ونقل ابن المنذر -رحمه الله- الإجْماع على أنّ الإحْرام بغير اغتسالٍ جائز. انظر الإجماع (ص: 55). فجمهور العُلَماء أنّ الاغتسال عند الإحْرام مُسْتحب، حتى للحائضِ والنّفساء لحديث الباب، انظر المغني (5/75)، وخالف ابنُ حزم -رحمه الله-، فقال بوجُوبه على النُّفَساء دون الحائض، أخذاً بظاهر حديث الباب، انظر المحلى (7/82)، وأيضا: فإنّ الاغتسالَ للإحْرام لا يجبُ، وأنّ الإجْماع على جَواز الإحْرام بدُونه.
    الحكم الثاني
    صحّة التعبد بالاغْتِسال عند الإحْرَام مِنَ الحَائض والنُّفَساء، وكذا في جميع أفعال الحج يصحُّ منْهما، إلا الطّواف بالبيتِ وركعتيه، لقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلي ما يفعلُ الحاج، غيرَ ألا تَطُوفي بالبيتِ حتّى تَطْهُري».
    الحكم الثالث
    صِحَّةُ إحْرامِ النُّفَساءِ والحَائضِ، معَ اغتِسالِهما للإِحْرامِ، فالحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ، ومِن ذلكَ: أنَّ المَرأةَ المُحرِمةَ إذا وَلَدتْ في أَثناءِ إحْرامِها، وقَبلَ البَدءِ في أَعْمالِ الحجِّ، فلَها أنْ تَغتَسلَ وتَتطهَّرَ، وتُهِلَّ بالحجِّ، غيرَ أنَّها لا تَطوفُ إلَّا بعدَ طَهارتِها الكاملةِ. وَفي هذا تَيسيرٌ عَليها حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ في أيَّامِه المَعلومةِ.
    الحُكم الرابع
    ما في الإسْلامِ مِنْ يُسرٍ ورفع حرَجٍ عن المُكلفين وتخفيف على أصحاب الأعذار، ومن ذلك: رِعايتُه للمَرأةِ النُّفَساءِ والحَائض عند الإحرام، حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ، وتُضْطرَّ للعَودةِ إليه في سَنةٍ قادمةٍ، وربّما أصابها ما أصابها في العام الأول.
    الحكم الخامس
    مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ، ولو على غير طهارة، وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ.
    من شروط الدعوة إلى الله -تعالى
    الدعوة إلى الله -تعالى- وتربية النفوس وتزكيتها وتعريف الخلق بخالقهم من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينََ } (فصلت:٣٣)، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ويشترط في الدعوة إلى الله -تعالى- أن تكون لله وحده لا شريك له؛ فيجب أن يكون الداعية متعبدا لله بالدعوة إليه مخلصًا له، ولا يجوز أن يكون قصده أغراضًا دنيويةً كحب الشهرة أو استمالة الناس إلى أهدافٍ دنيويةٍ كالجماعات والأحزاب، بل الواجب على الداعية أن يكون قصده من الدعوة إلى الله هداية الناس وتعريفهم بربهم وبما يقربهم إليه، وتحذيرهم مما يبعدهم عن الله ويسخطه عليهم، وأساس الدعوة العلم؛ فيشترط على الداعية أن يكون عالمًا بما يدعو إليه مما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يأمر إلاّ بالمعروف ولا ينهى إلاّ عن المنكر، ويبدأ بالمتفق عليه ولا يشدد في المختلف فيه. ومما يشترط في صحة الدعوة وسلامتها عن الأغراض الدنيوية، أن يكون الباعث عليها الشفقة على المدعوين ورحمتهم، وهذا مدخل أساسي في دعوة العامة والأبرياء، ولاسيما وأنّ الأكثرية من الدعاة اليوم يمارسون الدعوة في أوساط المجتمع المسلم؛ فدعوتهم تعليم وتذكير وتزكيةٌ وتصويب وتصحيح لما يختل من مفاهيم الإسلام في أذهان أو سلوكيات المسلمين، سواء في القضايا العقدية أم العملية؛ ولهذا لابد أن يصدر الخطاب الدعوي من قلب رحيم مشفق ولسانٍ مسدد عفيف. قال -تعالى في وصف صاحب الدعوة وإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة ١٢٨) فيجب أن يكون قدوة الدعاة هو صاحب الدعوة وحامل لوائها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في المَوَاقِيت في الحَجِّ والعُمْرة



    أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت فإنّه يُحْرم مِنْ بيته
    المواقيتُ حدّدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأهل الآفاق فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة أنْ يتجاوزها دُون إحْرام وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة فأبعدها ذُو الحُليفة
    عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ. قَالَ: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا»، وعن أَبي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: يُسْأَلُ عَنْ المُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ- أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، والطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ».
    المواقيت: هي جَمع ميقات، وأصل التوقيت أنْ يُجْعل للشيء وقتٌ يَختصّ به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضاً، ومواقيتُ الحَجّ: المُراد بها هنا: ما حدّدته الشّريعة مِنَ الأماكن التي لا يجوزُ أنْ يتجاوزها مَنْ أرادَ الحَجّ أو العُمرة إلا مُحْرماً، فهي الأماكن التي وقْتَتها وحدّدتها الشريعة للإحْرام منْها.
    قوله: «وقّتَ لأهْلِ المَدينة ذا الحُليفة»
    أي: جَعَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض لهم ذلك الموضع ميقاتاً للإحرام. وذو الحليفة: قريةٌ بينها وبين المَدينة نحو أربعة أميال، وتسمى الآن (آبار عليّ) وبها مسجد كان يعرف بمسجد الشجرة، وقد جُدّد بناؤه، وقد أحْرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من عنده.
    قوله: «وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ»
    والجحفة: هي قريةٌ كانت جنوبي شرق رابغ، على نحو ميلين، وتسمى مهيعة، فأجْحف السيل بها فسُمّيت الجُحفة، ولمَّا خَربت ونضب ماؤها، اتفقّ المسلمون على أنْ يكون الإحْرام مِنْ «رابغ» بدلاً منها، لأنّها قبلها بقليل، وبها ماء للاغتسال. وبين رابغ والمدينة نحو (275 كيلو مترا). وقوله: «ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ» ونَجد: هي ما ارتفع من بلاد العرب، ومنه قول الأعشى:
    نَبيٌّ يَرَى ما لا يَرَونَ وذِكْره
    أغَارَ لعَمْرِي في البِلاد وأنْجَدَا
    والمصطلح عليه عند عامة العرب، أنّ نَجداً ما وَقع من بلاد العرب شَرقي جبل حضن، ولذلك قيل: من رأى حضنًا فقد أنْجد، يعني دَخل أرض نجد، وحضن: شرقي الطائف، ونجْدٌ الآنَ تُمثِّلُ قلْبَ الجَزيرةِ العربيَّةِ، تَتوسَّطُها مَدينةُ الرِّياضِ عاصمةُ المَملكةِ العَربيَّةِ السُّعوديةِ، وتَشمَلُ أقاليمَ كثيرةً، منها: القَصيمُ، وسديرُ، والأفلاجُ، واليَمامةُ، والوشمُ، وغيرُها.
    قرن المنازل
    وقرن المنازل: هو المعروف الآن بالسيل الكبير، وهي قرية بها ماء على مرحلتين من مكة شرقيها وتوازي (وادي مَحْرم) الواقع على طريق الطائف (الهدا) وعنده مسجدٌ يُحْرم منه القادمون من الطائف، ونجد إلى مكة عن طريق الهدا. ويَبعُدُ عن مكَّةَ المُكرَّمةِ (75 كم).
    قوله: «ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ»
    ويلمْلم: ويقال فيه ألَمْلم ويرموم، وهو بتهامة على مرحلتين من مكة جنوباً، وبالقرب منها الآن قرية (السّعديّة) يُحْرم الناس القادمون مِنَ اليمن، وتَبعد عن مكة بحوالي (105) كيلو متراً جنوباً، وفي حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: «ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» وذات عرق اخْتُلِف فيها، هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ يعني: هل جاء النص فيها عن النبي -[- أو وقّتها الصّحابة عندما فُتِحت العراق؟ قال الشافعي -رحمه الله في الأم-: «هو غير منصوص عليه». وروى البخاري: من طريق نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فُتِحَ هذان الْمِصْرَان، أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَدّ لأهلِ نَجدٍ قَرْناً، وهو جَور عن طريقنا، وإنّا إنْ أرَدْنا قرناً، شقّ علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فَحَدّ لهم ذات عرق. وما رواه مسلم: في الباب من طريق أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- يُسأل عن المهل، فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق... الحديث. فقال الحافظ النووي في «المجموع»: «وأمّا حديث جابر في ذات عرق فضعيف، رواه مسلم في صحيحه، لكنّه قال في روايته عن أبي الزبير أنّه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ومهل أهل العراق من ذات عرق، فهذا إسناد صحيح، لكنّه لم يجزم بِرَفْعِه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت رفعه بمجرد هذا. انتهى. وقال الإمام ابن عبدالبر: أجْمع أهل العلم بالحجاز والعراق والشام وسائر أمصار المسلمين- فيما علمت- على القول بهذه الأحاديث واستعمالها، لا يخالفون شيئا منها، واختلفوا في ميقات أهل العراق، وفيمن وقَّتَه. وقال القرطبي في التفسير: «وأجمعَ أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه، واختلفوا في ميقات أهل العراق».
    قوله: «هنَّ لهنّ»
    أي: هذه المَواقيت للبلاد المَذْكورة. «ولمَنْ أتَى عَلْيهنّ» أي: ولمَنْ مَرّ على المواقيت المذكورة من غير أهل البلاد المذكورة. «مِنْ غيرِ أهلهن» أي: من غير البلاد التي وقتتْ لها هذه المواقيت. وهو دليلٌ واضح على أنّ مَن مَرّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة، وجبَ عليه الإحْرام منها، سواءً كان مِنْ أهلِ المواقيت الأخْرى أو لمْ يكنْ منْها، فلو مرّ الشّامي أو اليمني أو النجدي بذي الحليفة فهي ميقاتُه، وإنّما يكون الميقات المحدّد لأهل بلده هو إذا مرّ به، ولم يمر بميقاتٍ قَبله. قوله: «ممّن أرادَ الحجّ والعُمرة» أي: ممّن قَصَد بمُرُوره على هذه الأماكن: نُسك الحجّ والعُمرة. قوله: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» أي: ومَنْ كان مسكنه، أو كان عزمه على الحجّ أو العمرة أدنى لمكة من هذه المواقيت. «فَمِنْ أَهْلِهِ» وفي رواية: «فمن حيثُ أنشأ» أي: فإحرامه مِنَ المكان الذي عَزَم فيه على النُّسُك، كأهل جدة وبحرة ونحوها من الأماكن التي تقع داخل المواقيت، فيكون إحْرام الشخص من المكان نفسه الذي يَعزم فيه على أداء النسك، وهو معنى: «وكَذَا فَكَذَلِكَ»، «حتى أهل مكة يُهلّون منها» أي: حتى أهل مكة يُحْرمُون لنُسُكهم من بُيوتهم بمكة.
    فوائد الحديث
    1- هذه المواقيتُ حدّدها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الآفاق، فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة، أنْ يتجاوزها دُون إحْرام، وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة، فأبعدها ذُو الحُليفة. 2- الإحْرام مِنَ هذه المواقيت هو تعظيمٌ لحُرْمة البيتِ العتيق. 3- مَنْ مرّ بميقاتٍ من هذه المواقيت، وهو لا يُريد الحج أو العُمرة، فإنّه لا يجبُ عليه الإحْرام منه. 4- إن أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة، ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه، وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت، فإنّه يُحْرم مِنْ بيته.

    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

    شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطِّيبُ للمُحْرم قبلَ أنْ يُحْرِم




    كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا
    الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ
    عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ المِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ. في هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُطيِّبُ بيَدَيْها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِإحْرامِه قبْلَ أنْ يُحرِمَ للحجِّ أو العُمرةِ، ولحِلِّه بعْدَ أنْ يَتحلَّلَ التَّحلُّلَ الأوَّلَ في الحجِّ، وهو بَعدَ رَميِ جَمرةِ العَقَبةِ والحَلْقِ، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، والتَّحلُّلُ الأولُ يَحِلُّ بَعده كُلُّ شَيءٍ إلَّا الاستِمتاعَ بالنِّساءِ، وذلك كما في رِوايةٍ لِلنَّسائيِّ: «ولِحِلِّه بَعدَما رَمى جَمرةَ العَقَبةِ، قَبلَ أنْ يَطوفَ بالبَيتِ».
    وقال رَاوي الحديثِ- واصفًا فِعْلَ عائِشةَ -رضي الله عنها-: «وبَسَطَتْ يَدَيْها» كأنَّها تُحاكي ما فَعَلَتْ مِن قبْلُ بالفِعلِ معَ القولِ، وقيل: فعلَتْ ذلِك مُبالَغةً في الوُقوعِ، ردًّا على مَن أنْكَرَ ذلك، فإنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُنكِرُ التَّطيُّبَ قبْلَ الإحرامِ، والصحيح: أنّ هذا لا إشْكالَ فيه، أنْ يتطيب في رأسه وبدنه، لا في ثوبه الذي يُحْرم فيه، والممنوع هو: أنْ يَمَسَّ الطِّيبَ حالَ الإحْرامِ.
    حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ
    وللحافظ أبي عُمر بن عبدالبر في (التمهيد) بحثٌ مطوّل في هذا، فقال: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، لا يختلف أهلُ العلم بالحديثِ في صِحّته وثُبوته، ولكن الفُقهاء اخْتلفوا في القَولِ به على حسَب ما ذكرناه في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا، وذكرنا اعتلال كل طائفةٍ لمذهبها في ذلك، مِنْ جِهة الأثر والنظر هناك، وسنذكر هاهنا فيه منْ جهة الأثر، ما لمْ يقع هناك إنْ شاء الله. وهذا الحديث رُوي عن عائشة من وجوه، فممن رواه عنها: القاسم، وسالم، وعروة، والأسود، ومسروق، وعمرة، وممن رواه عن القاسم ابنه عبدالرحمن، وأفلح بن حميد، ورواه عن عروة ابن شهاب وعثمان بن عروة وهشام بن عروة، ولم يسمعه هشام من أبيه، إنّما سمعه من أخْيه عثمان، عن أبيه، ثم روى بإسناده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: كنتُ أطيّبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما أجِدُ لحَرمه ولحِلّه، وحين يُريدُ أنْ يَزُورَ البيتَ. وعنه أيضاً: قالت عائشة: طيّبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ يُحْرِم، ويوم النّحر قبل أنْ يَطُوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْك. وروى: عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يَتطَيّب قبلَ أنْ يُحْرم، فتَرَى أثرَ الطّيب في مفْرقه بعد ثلاث.
    المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام
    قال أبو عمر: فذهبَ قومٌ إلى القول بهذه الآثار، وقالوا: لا بأسَ أنْ يَتطيّب المُحْرِم قبل إحْرامه بما شاءَ من الطيب ومِسْكا كان أو غيره ممّا يبقى عليه بعد إحْرامه، ولا يضرّه بقاؤه عليه بعد إحْرامه، إذا تطيّب قبل إحْرامه؛ لأنّ بقاءَ الطّيب عليه، ليسَ بابتداءٍ منه، وليسَ بمتطيّبٍ بعد الإحْرام، وإنّما المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام. قالوا: ولا بأس أنْ يَتطيّبَ أيضاً إذا رَمَى جَمرة العَقَبة، قبلَ أنْ يَطُوفَ بالبيت، وحُجّتهم فيما ذهبوا إليه من ذلك كله، حديث عائشة هذا، وهو حديثٌ ثابت، وقد عَمِلت به عائشة -رضي الله عنها-، وجماعة منَ الصحابة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن جعفر، وأبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وزُفَر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وكل هؤلاء يقول: لا بأسَ أنْ يَتطيّبَ قبلَ أنْ يُحْرم، وبعد رمي جمرة العقبة. ثمّ روى بسنده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: رأيتُ عائشةَ تَنْكتُ في مفارقها الطِّيبَ قبلَ أنْ تُحْرم، ثم تُحْرم. وعن الشعبي قال: كان سعد يتطيّب عند الإحْرام بالذّريرة، وعن ابن عباس، وابن الزبير: أنّهما كانا لا يَريان بالطِّيب عند الإحْرام بأسَا، وعن ابن الحنفية: أنّه كان يُغلّف رأسه بالغالية الجيّدة، إذا أراد أنْ يُحرم. ثمّ قال ابنُ عبدالبر: وقال آخرون، منهم مالك وأصحابه: لا يجوز أنْ يَتطيّب المُحْرم قبل إحْرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحْرم حَرُم عليه الطيب حتّى يطوف بالبيت، وهذا مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وبه قال عطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وهو اختيار الطحاوي.
    حُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب
    قال: وحُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب من جهة الأثر: حديث يعلى بن أمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه أمَرَ الرجل الذي أحْرَم بعُمْرةٍ وعليه طِيب خَلُوق أو غيره، وعليه جُبّة، أنْ يَنْزعَ عنه الجُبّة، ويغسلَ الطّيب، وادّعوا الخُصُوص في حديث عائشة؛ لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان أمْلَك الناس لأربه، ولأنّ ما يُخاف على غيره مِنْ تَذكّر الجِمَاع المَمنوع منه في الإحرام، مأمونٌ منه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان على عُمومه للناس عامة، ما خَفِي على عمر، وعثمان، وابن عمر، مع علمهم بالمَناسك وغيرها، وجلالتهم في الصّحابة، وموضع عطاء من عِلْم المناسك موضعه، وموضع الزهري من علم الأثر موضعه. قال ابن جريج: كان عطاء يَأخذ في الطّيب للمُحرم بهذا الحديث، قال ابن جريج: وكان عطاء يكره الطيب عند الإحْرام، ويقول: إنْ كان به شيءٌ منه فليغسله ولينقه، وكان يأخذ بشأن صاحب الجبة، قال ابن جريج: وكان شأن صاحبِ الجُبّة قبلَ حَجّة الوداع، والآخرُ فالآخر مِنْ أمْرِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أنْ يُتّبع.
    مذهب ابن جريج
    قال أبو عمر: مذهب ابن جريج في هذا الباب خلاف مذهب عطاء، وحُجّته أنّ الآخر ينسخ الأول، حُجةٌ صحيحة، ولا خلافَ بين جماعة أهلِ العلمِ بالسّير والأثر، أنّ قصة صاحب الجُبّة كانت عام حُنين بالجِعْرانة سنة ثمان، وحديث عائشة عام حَجّة الوداع، وذلك سنة عشر، فإذا لمْ يَصح الخُصُوص في حديث عائشة، فالأمر فيه واضح جدا. وروى بسنده: عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابن عمر عن الطّيب عند الإحْرام؟ فقال: لأنْ أطّلى بالقَطِران أحبّ إليّ مِن ذلك، فذكرت ذلك لعائشة فقالت: يَرْحمُ الله أبا عبدالرحمن، قد كنتُ أطيّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيَطُوف على نسائه، ثمّ يُصْبح يَنْضخ طِيبًا. قال أبو عمر: قد أجْمعوا على أنّه لا يجوزُ للمُحرم بعد أنْ يُحْرم، أنْ يَمسّ شيئاً مِنَ الطّيب، حتّى يَرْمي جمرة العَقَبة، واختلفوا في ذلك إذا رمى الجمرة قبل أنْ يطوف بالبيت على ما ذكرنا، وأجْمعوا أنه إذا طافَ بالبيت طواف الإفاضة يوم النّحر، بعد رمي جَمرة العقبة، أنه قد حَلّ له الطّيبُ، والنّساء، والصّيد، وكل شيء، وتمَّ حِلّه، وقضى حجه.
    إذا طافَ طوافَ الإفاضة فقد تمّ حَجّه
    قال أبو عمر: فإذا طافَ طوافَ الإفاضة، فقد تمّ حَجّه، وحلّ له كلَّ شيء بإجْماع، وإنّما رخّص الشافعي، ومن تابعه في الطّيب، لمَن رَمَى جَمْرة العقبة، لحديث عائشة: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أنْ يُحرم، ولحِلّه قبل أنْ يطوفَ بالبيت. تُريد بعد رَمْي جمرة العقبة، ورخص في الصيد منْ أجل قول عمر: إلا النّساء، والطّيب، ولم يقل: «والصيد». وقد قال الله -عز وجل-: {وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}. ومَنْ رَمَى جَمْرة العقبة فقد حلّ له الحلاق والتفث كلُّه بإجماع، فقد دخل تحت اسم الإحْلال، وفي هذه المسألة ضروب من الاعتلال تركتها، والله المستعان. (التمهيد).
    فوائد الحديث
    أنَّ الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ، حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ.
    وقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الطِّيبَ، ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ، وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا.
    بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- لأمته أحكامَ الحَجِّ والعُمرةِ، وسُننَهما، وآدابَهما بالقَولِ والفِعلِ، ونقَلَ الصَّحابةُ ما سَمِعوه وما رَأوْه مِنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
    وفيه: خِدمةُ المرأةِ لزَوْجِها وتَطييبُها له.



    اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •