د. مصطفى عطية جمعة
إن المتتبِّع لسلسلة روايات تاريخ الإسلام للأديب اللبناني الراحل جرجي زيدان (1861- 1914م)؛ يتبين له سَعْيه المتعمَّد إلى تشويه التاريخ الإسلامي؛ باختياره لموضوعات رواياته في فترات القلق والاضطرابات السياسية والاجتماعية في تاريخ الإسلام، مثل أحداث الفتنة الكبرى، ومقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ثم الحرب بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، غير ناظِر إلى الحِقَب الذهبية المتمثلة في الفتوحات الكبرى، ولا إلى ترحيب الشعوب بالإسلام، وامتزاجها معه لغويًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. كما صوَّر قادة الفتوحات على أنهم غزاة عسكريون، هدفهم الهيمنة السياسية والتَّسلُّط على الشعوب، وقدّم التاريخ الإسلامي بوصفه تاريخًا حافلاً باللصوص وقُطّاع الطرق، مليء بالدسائس والمؤامرات، وأن مسبّبات الأحداث عائدة إلى الصراع على السلطة، أو من أجل الفوز بالفاتنات والجواري الغانيات، والتي تذعن لهن أعناقُ أشجع الشجعان.
كما أمعن في تأجيج النعرات المذهبية والطائفية والصراعات الشعوبية[1]، دون أدنى اهتمام برسالة الإيمان والخيرية التي حمَلها المسلمون لشعوب الأقطار المفتوحة، ولا المنجَز الإسلامي الحضاري المتمثل في إبداعات وكُتب وعلوم سامية، وتراث علمي رفيع، وفنون وعمارة وثقافة راسخة.
فلم يختر زيدان الزوايا والشخصيات والموضوعات التي يمكن أن تجعل التاريخ مصدرًا للفخر والاعتزاز، فــــ«لو أعمل فكره، وأمعن النظر في المادة التاريخية المتوافرة لديه، ثم تناولها بحسّ الفنان وروح الناقد، ومن زاوية صاحب الرأي؛ لاستطاع أن يبلغ مرتبة الكُتّاب العالميين الذين سبقوه إلى ارتياد هذا الطريق»[2].
فتجربة الروائي الإنجليزي «والتر سكوت» على سبيل المثال، سعت إلى إبراز الطابع القومي للشعب الإنجليزي، وإظهار أبرز التحديات التي واجهت قادته، وكيف استطاعوا تجاوزها، عبر رواياته التي ألّفها بطابع درامي فعّال، وبمواقف قصصية مؤثرة، وتسليط الضوء على التطور السياسي وحقائق التطور الاجتماعي، بعد الثورة الإنجليزية البيضاء خلال عام 1688م، وقد عدّها سكوت مثلًا أعلى في الفكر والممارسة السياسية للمجتمعات؛ مما أدَّى إلى تقديم التاريخ الإنجليزي بشكل ملحمي بديع.
وكانت رُؤية سكوت في رواياته معتدلة ووسطًا بين الأطراف المتصارعة؛ فمن صراع السكسونيين والنورمانديين، تكونت الأمة الإنجليزية من تمازجهما، بعد عملية استقرار اجتماعي طويل. وكل هذا ناتج عن الرؤية الإيجابية التي قرأ بها سكوت تاريخ إنجلترا، واستطاع أن يصوغ تاريخها سردًا، بما يملأ القارئ بقيم عظمى، ويجعله ينظر للتاريخ نظرة تعلُّم واستفادة. كما أن أبطال رواياته المتخيلين، كانوا من الطبقة الوسطى أو أقل، وكافحوا لبلوغ المجد وإفادة الوطن بتضحياتهم[3].
وإذا كان بعض مناصري زيدان يحتجّ بأن له روايات مجَّدت شخصيات تاريخية عظيمة مثل روايات: صلاح الدين الأيوبي، وأحمد بن طولون...؛ فإن القارئ لهذه الروايات لا يجد الاحتفاء بهم كأصحاب مُنجزات تاريخية عظيمة، وإنما يتفاجأ بصراعات القصور، والمؤامرات والدسائس من أجل الوصول إلى السُّلطة.
ومثال على ذلك رواية «صلاح الدين الأيوبي»، ومعروف أن له الفضل الأكبر -بعد الله سبحانه وتعالى- في تحرير بيت المقدس من الصليبيين، وقيامه بتوحيد مصر والشام في دولة واحدة تحت قيادته، ونشر السُّنَّة...، ولكن نتفاجأ أن أحداث الرواية التي صاغها جرجي زيدان؛ تُظْهِر صلاح الدين شخصًا وصوليًّا انتهازيًّا، رافضًا مبايعة (الخليفة) نجم الدين أيوب إلا بعد الفوز بحكم مصر، قائلاً: إنني قد دبَّرت أمر مصر، وضبطت شؤونها بسيفي وتدبيري، وبسيف عمي من قبلي، وكان نور الدين (الخليفة) قاعدًا في قصره بدمشق، ومملكته واسعة، ومماليكه كثيرون. فهل من العدل أن تكون مصر له، ونبقى نحن مِن خدمه أو قوّاده؟ ما الذي يمتاز به نور الدين عنّا؟ هل ابتاعنا بماله؟ نحن لسنا من مماليكه. إننا قواد. وهذه مصر يستحيل عليه إخضاعها بدوني، فأنا لا أبايع للخليفة العباسي إلا على أن أكون صاحب مصر وليس نور الدين»[4].
وقد ألمح المؤلف -بنزعة عنصرية ساخرة- لجنسية صلاح الدين ووالده؛ من خلال إشارات عديدة في متن السرد بأنهما من الجنس الكردي، ولا ينتميان إلى شعب مصر العربي، فيتكلمان باللغة الكردية حتى لا يفهم الحراس مناجاتهما[5].
فاقتصرت أحداث الرواية على تبيان الصراع على حكم مصر، بعد انتهاء الدولة الفاطمية، حتى يتمكَّن صلاح الدين من السيطرة على السلطة، بعد وفاة الخليفة العاضد، آخر خلفاء الدولة الفاطمية؛ فجلُّ أحداث الرواية تدور حول قصة الحبّ بين الأمير عماد الدين ذي الخُلق الطيب، وسيدة الملك أخت الخليفة العاضد، عندما تمكّن الأول من إنقاذها من لصوصٍ أرادوا خطفها، فتنشأ قصة حب بينهما؛ تُواجَهُ بحوائل كثيرة، بسبب الفروق الطبقية بين الاثنين[6].
ونظل طوال الرواية نبحث عن معركة حطين، وتحرير بيت المقدس، والصراع مع الصليبيين، فلا نجد أيّ إشارة لها، بل إن صلاح الدين نفسه يبدو شخصية باهتة للغاية، عنوانها السذاجة وضعف الشخصية؛ حيث يسهل توجيهه من أتباعه، كما يظهر شَبقه الدائم بالحسناوات، بعكس شخصية عماد الدين الموسومة بالشجاعة والتضحية والخير، والإخلاص لقائده صلاح الدين، كما ظهرت شخصية «سيدة الملك» بوصفها العمود الفقري لأحداث الرواية، وسعيها للفوز بقلب حبيبها عماد. ويكون الخطأ التاريخي الأكبر من جانب المؤلف، أنه جعل شخصية «سيدة الملك» أختًا للخليفة العاضد، والحقيقة أنها أخت الحاكم بأمر الله الفاطمي، وابنة العزيز بن المعز لدين الله، وقد توفيت في العام 415هـ، 1024م[7]، أي قبل قيام الدولة الأيوبية بنصف قرن، وهذا تزوير تاريخي فاضح، ومتعمد، وتدليس معرفي.
فلم يسعَ جرجي زيدان للتأكُّد من صحة النصوص التاريخية، وإنما كان ينتقي من الأخبار ويُحوّرها كما يشاء، بل كان يُصْدِر أحكامًا مباشرة على الأحداث، وسلوك الشخصيات، وبعض الأخبار التاريخية التي أوردها، واستند عليها، مشكوكٌ في صحتها من الأساس، مثل قصة زواج العباسة أخت هارون الرشيد بجعفر البرمكي، فقد نفاها العديد من المؤرخين الثقاة؛ فالجهشياري المؤرخ الثبت ينفيها نفيًا قاطعًا، بقوله: «لا والله ما لهذا الشيء من أصل»[8].
ويُعلّل المؤرخ عبد الله الفياض لنفي هذا المعلومة، قائلاً: «لو جاز لنا قبول تزويج العباسة بجعفر مِن قِبَل الرشيد، فلا بد من سند أو وثيقة وشهود؛ لأن من الشروط الشرعية لعقد الزواج التدوين والشهود من القضاة وشخصيات من الأسرة العباسية وأعيان القوم وغيرهم؛ حتى يكتسب العقد شروط الإعلام»[9].
ومع ذلك اتخذ جرجي زيدان هذه المعلومة المشكوك فيها سرديةً مركزيةً، بنَى عليها أحداث روايته. وقد أسرف زيدان في هذه الرواية في تصوير نَكبة البرامكة، وكيف أن زواج جعفر البرمكي من العباسة أخت الرشيد قد جرَّ عليهما ويلات ومصائب. وتصف الرواية مجالس الخلفاء العباسيين بأنها مجالس خمر ومجون، كما تطرَّق إلى الصراع السياسي حول السلطة بين الأمين والمأمون وجعفر بن الهادي والوزارة بين الفضل بن الربيع وجعفر البرمكي[10]، وأيضًا مؤامرات زبيدة -زوجة هارون الرشيد-، وتنافسها مع العباسة لنيل الحظوة عند أمير المؤمنين. وجاءت نهاية الرواية مأساوية بالتخلُّص من الوزير البرمكي والعباسة وولديهما: الحسن والحسين بدون رحمة ولا شفقة[11]، بأن تم ذبحهما ثم دفنهما في قبر بالقصر.
لقد مرت تجربة الرواية التاريخية العربية بمراحل عديدة، يُمثّل جرجي زيدان المرحلة الأولى، من حيث النضج الفني، وتراكم منجزه الروائي، ولكنَّه قياسًا بالمراحل التالية عليه؛ نجد أنه قدَّم رواية تقليدية تعليمية، تكمن وراءها تحيُّزات معرفية وفكرية خاصة به، تنحصر في تقديم صورة مشوَّهة للتاريخ الإسلامي، فجاء تمثيل التاريخ العربي والإسلامي لديه حافلًا بالصراعات والدسائس، وتشويهًا للشخصيات العظيمة، يتماهى من المنظور الاستشرافي للتاريخ الإسلامي، والذي أهمل جوهر الحضارة العربية الإسلامية وعظمة رسالتها.
[1] محمد محمد حسن طبيل، تحولات الرواية التاريخية العربية، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، غزة، 2016م. ص34، 35.
[2] د. سيد حامد النساج، بانوراما الرواية العربية الحديثة، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1980م، ص94.
[3] جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة: د. صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، 1986م، ص30-32.
[4] جرجي زيدان، صلاح الدين الأيوبي، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012م، ص26.
[5] المصدر السابق، ص20، 21.
[6] المصدر السابق، ص47، ص185.
[7] أميرة الشيخ رضا فرحات، الفاطميون: تاريخهم وآثارهم في مصر، دار الكتب العلمية، بيروت، 2013م، ص57، 58.
[8] أبو عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري، الوزراء والكُتّاب، دار الصاوي، القاهرة، 1938م، ص204.
[9] د. عبدالله الفياض، تاريخ البرامكة، مطبعة الرشيد، بغداد، 1948م، ص18.
[10] جرجي زيدان، العباسة أخت الرشيد، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012م، ص123.
[11] المصدر السابق، ص245.