خطبة الجمعة للشيخ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي -حفظه الله- بمسجد بتلة الخرينج بعنوان:«إصلاح عيوب النفس »
المسؤوليات أكثر من أن يتَّسع لها عمرك القصير، وأقصر من أن يصرف فيما لا يعني، وترك ما لا يعني حفظٌ للدين، وزكاءٌ للنفس، وتربيةٌ على الجِدّ
تشرفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت بزيارة سماحة الشيخ صالح بن حميد – حفظه الله - إمام وخطيب الحرم المكي الشريف، وقد أعدت الوزارة برنامجًا ثقافيًا للشيخ، استمر لمدة ثلاثة أيام، ختمه الشيخ بخطبة الجمعة بمسجد بتلة الخرينج بمنطقة العارضية؛ حيث كانت بعنوان: «إصلاح عيوب النفس » جاء فيها:
المحاسبة طريق الصلاح
المحاسبة طريق الصلاح، والاشتغال بتقويم النفس سبيل الإصلاح، والمحاسبة والتقويم يتطلبان عزيمة ومثابرة، وجدًّا ومصابرة، ومَنِ اشتغل بما لا يفيد، انصرف عمَّا يفيد، والأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والعمر قصير، وأعظم الربح حفظ الوقت، وخير الغنيمة محاسبة النفس.
وفي هذا الزمن تكاثرت المشكلات، وتكالبت المغريات والمُلهيات؛ فزاحمت الواجبات، ونازعت الأولويَّات. ومن الغريب في طبائع النفوس أنها تتلذَّذ وتسترسل في الخَوْض فيما لا يفيد، وتقطيع الوقت فيما لا ينفع، بل ما أسرعها في تتبع العَوَرات، والاشتغال بالعثرات، والانصراف إلى النقد غير البناء! ولو تأملت وتفحصت لرأيت وأدركت أنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار، ولا يفتش عن المساوئ إلا البطَّالون.
أيها المسلمون:
إن كثيرا من مشكلات الأمة ومآسيها والناس وآلامها - ليست في شؤون السياسة، ولا في قضايا الاقتصاد، ولا في تسلط الأعداء، ولكنها في المسؤولية الخاصة على كل نفس: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11).
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وفي هذا كله - عباد الله - تأملوا هذا الحديث العظيم؛ فهو مقياس الأدب، ودليل الورع، ومنهج المحاسبة، ومظهر التقويم والتقوى:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»؛ رواه أحمد في «المسند»، ومالك في «الموطأ»، والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
قال أهل العلم: هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول تهذيب النفس وتزكيتها، وقد عدَّه بعضهم ثُلُثَ الإسلام، ولقد قالوا:
اجتمع فيه الورع كله»!؛ لماذا عباد الله؟؛ لأن تَرْك ما لا يعني لا تقوى عليه إلا القلوب السليمة والنفوس الزاكية، نفوس تنطوي سرائرها على الصفاء، فأصحابها في راحة، والناس منهم في سلامة.
دخل رجلٌ على أبي دُجانة وهو في مرضه، ووجهه يتهلل ويقول: «ما من عملٍ أَوْثق عندي من شيئين: لا أتكلم في ما لا يعنيني، وقد كان قلبي سليمًا».
ويقول الإمام مالك - رحمه الله -: «لا يفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، ويشتغل بما يعنيه، فإذا فعل ذلك يوشك أن يفتح له قلبه».
ويقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: «كم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والذنوب، ولسانه يَفْري في أعراض الأحياء والأموات! لا يبالي بما يقول، وربما أوبق نفسه!!».
من الاشتِغال بما لا يعني شهوة الكلام، وفضول التنصت والاستماع.
إذا حَسُنَ إسلام العبد تجلَّى ذلك وظهر في الابتعاد عمَّا لا يعنيه من الأقوال والأفعال، فضلاً عمَّا لا يعنيه من المحرَّمات والمشتبِهات والمكروهات وفضول المباحات، مما لا تتعلَّق به حاجاته، ويحفظ عليه وقته، ويجمع له أمره ومُهِمَّاته.
وإن من أَوْلى ما تجب ملاحظته ومراعاته في إدراك ما لا يعنيه، هو شهوة الكلام، وفضول التنصت والاستماع.
فكم من مجالس عُقدت، وولائم نُصبت، وليالٍ قُطِّعت - يخوض فيها أصحابها فيما لا يعنيهم، ويتكلَّمون فيما لا ينفعهم، ويستمعون إلى أمور طهر الله منها أيديهم وأرجلهم، فأبوا إلا أن يلوكوها بألسنتهم، ويفتحوا لها آذانهم، وقد تكون موبقات الأسماع والألسن أعظم من موبقات الأيدي والأرجل؛ «... وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!» هو جزء من حديث رواه الترمذي وصصحه الألباني.
نعم، عباد الله، إن من أعظم الدلائل على الاشتغال بما لا يعني: مدى حفظ العبد للسانه وسمعه وبصره، وصيانته لكلامه وأذنه.
والكلمة في هذا الزمان اتَّسع ميدانها وتنوعت وسائلها؛ فهي مسموعة ومكتوبة ومُشَاهَدة في صحف ومجلات، وإذاعات وقنوات وشبكات معلومات، في فضول كلامٍ ولغو حديثٍ من الخوض في أعراض الناس وتتبُّع عوراتهم، والاشتغال بعيوبهم ومثالبهم، والفرح بسقطاتهم، والتلذُّذ في إشاعتها.
ومن ذلك: التوسع في السؤال عن أحوال الناس وأخبارهم، ودواخل أمورهم، والخاص بشؤونهم، من غير داعٍ صحيحٍ ولا سببٍ مشروع.
من الاشتِغال بما لا يعني تكلُّم المرء فيما لا يُحسنه
ويزداد الأمر هلكةً حين يخوض الخائض في أعراض أهل الخير والصلاح والكفاف والعفاف، ناهيكم إذا كان من مقاصده التحريش الخفي والجَلِي، والتفريط الظالم، مع غَمْز وهَمْز ولَمْز، واتهام للعقائد والنيَّات.
ومن الاشتِغال بما لا يعني - معاشر المسلمين -: تكلُّم المرء فيما لا يُحسنه ولا يُتقنه ولا يعلمه، مما ليس داخلاً في تخصُّصه وخبرته، وما ليس من مطلوباته ولا شؤونه. كيف؟ وإذا كان هذا المنسوب للناس من مسائل الخلاف! ما بعث في الخوض عند هذا المبتلَى إلا نوازع الطيش وحب الغَلَبَة، والرغبة في التعالي وانتقاص الآخرين، والحطّ من قدرهم، مع ابتغاء التصدُّر والتعالُم وصرف الأنظار.
ويزداد الأمر بلاءً إذا قاد ذلك إلى المشاكسات والمُلاسَنات، والدخول في المسائل الشخصية، ونشر قالة السوء، وبثِّ الشائعات والأكاذيب والملفقات والأخبار المفتريات، ثم دخل في دائرة التخمينات والظنون والتكهُّنات والاتهامات.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8).
معاشر الأحبة:
لو سكت مَنْ لا يعرف، لقلَّ الخلاف، والسكوت في موضعه سمة الرجال، والكلام في مناسبته من أشرف الخِصال.
ومن الاشتغال بما لا يعني: الإفراط في تتبع دقائق الأخبار والأحوال، وتفاصيلها وتحاليلها، لما لا تفيد ولا يُفاد منها، والعاقل الناصح يستفتي بذلك قلبه، ويلتفت إلى صلاح شأنه.
ومن مسؤوليات المسلم - ولاسيما طالب العلم والمثقف والمفكر - ألا يغرق في مستجدات هذا العصر وثانوياته، وليحذر وليمحص فيما يقرأ ويسمع ويشاهد، فكل مسألة أو أمر لا ينبني عليها عملٌ مفيد؛ فالخوض فيها من التكلُّف والدخول فيما لا يعني؛ فليحذر الإفراط في تضييع الوقت والجهد والمال.
عقوبات الاشتغال بما لا يعني:
عباد الله: الاشتغال بما لا يعني يُورِث قلَّة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وقسوة القلب، ومَحْق بركة العمر، وحرمان العلم، وقلة الورع، «وربكم قد كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال» هو جزء من حديث رواه البخاري.
يقول سهل التُّسْتَري: «مَنْ تكلم فيما لا يعنيه؛ حُرِمَ الصِّدق»، ويقول معروف: «كلام العبد فيما لا يعنيه خذلانٌ من الله عزَّ وجلَّ».
توفِّي رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال رجلٌ: أَبْشِرْ بالجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَلا تدري؟! فلعله تكلَّم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه»؛ حديث صحيح الإسناد.
الاشتغال بما لا يعني: يقود إلى التثاقل عن الطاعة، والتقصير فيما ينفع، ويصرف عن معالي الأمور بواعث عالي الهمم.
الاشتغال بما لا يعني: هروبٌ من المسؤولية، وأمارات عجز وكسل، وضعف الصلة بالله، وغفلة عن سننه، وجهل بالمصالح، و«المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله» رواه البخاري، و«كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بكل ما سمع». صححه الألباني.
وبعد يا عبد الله: فالمسؤوليات أكثر من أن يتَّسع لها عمرك القصير، وأقصر من أن يصرف فيما لا يعني، وترك ما لا يعني - حفظك الله - حفظٌ للدين، وزكاءٌ للنفس، وتربيةٌ على الجِدّ، فلا تضيِّع نفيس أنفاسك، ولا دقيق دقات قلبك فيما لا يعني، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 114)
فمَنْ شاء أن يتطلَّب صلاح نفسه وسلامة صدره؛ فليشتغِل بعيب نفسه، وليبكِ على خطيئته. والاشتغال بعيوب النفس وتجنب عيوب الناس يُورِث نورَ القلب، وراحة البال، وصفاء الضمير، وسلامة الطَوِيَّة.
يقول محمد بن كعب القرظي - رحمه الله -: «إذا أراد الله بعبده خيرًا جعل فيه ثلاث خصال: فقهًا في الدين، وزهدًا في الدنيا، وبصرًا بعيوب نفسه».
الضابط فيما يعني وفيما لا يعني هو ضابط الشرع، وليس داعي الهوى ورغبات النفس؛ فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاحتساب، ومسؤولية المرء عمَّا استرعاه الله في أهله، وسُوقه، ومدرسته، ومكتبه، وعمله، والاهتمام بأمر المسلمين، هذا كله مما يعني، وداخلٌ في المسؤولية والواجب المطلوب، ألا فاتقوا الله - رحمكم الله - وميِّزوا بين ما يعني وما لا يعني؛ فإن من علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله فيما لا يعنيه.
اعداد: وائل رمضان