قبل أن تكتب تمهل
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
أخي الكريم، قبل أن تكتب تمهل، وقِفْ عند أمر الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قال الحافظ ابن كثير: "أي: كلموهم طيبًا، ولِينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله"[1].
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله: "أمر بالإحسان إلى الناس عمومًا، فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
ومن أدب الإنسان الذي أدَّبَ الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيهًا في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملًا لكل أحد، صبورًا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالًا لأمر الله، ورجاءً لثوابه"[2].
أخي الحبيب، فكلما أردتَ أن تأخذ القلم أو الهاتف أو الكمبيوتر للكتابة تمهل! تمهل قبل أن تكتب.
• ماذا ستكتب؟
• ولماذا ستكتب؟
• وهل ما تكتبه يُرضي الله سبحانه؟
فإن كان نعم فهو المطلوب، وإن كان لا فأعرض ولا تكتب خير لك.
• هل ما تكتبه لله تعالى؟ وقصد النصيحة أم انتصارًا لنفسك وحزبك وجماعتك؟
فإن كانت الأولى فنِعم ما قمتَ به، وإن كانت الأخرى فالإعراض أولى.
• وليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر.
• وليكن نقدك للخطأ صحيحًا بعيدًا عن الفجور في الخصومة والبهتان، ولا تقوله بما لم يقل، أو تلزمه بما ليس بلازم، ولا يكن نقدك وردك انتصارًا لنفسك وحزبك، وأن يكون سالمًا من السب والشتم والألفاظ التي يترفع عنها العوامُّ.
• إياك والتطاول على الكبار ممن أفنوا أعمارهم في خدمة الدين تعلمًا وتعليمًا، واعلم بأنك إن فعلت ذلك فلن تضر إلا نفسك.
• واعلم بأن البحر لا ينجس برمي القاذورات فيه.
• ولا تكن كمن يعالج الزكام بما يسبب الجذام.
• ولا ترد الخطأ بمثله أو أشد، ولا المنكر بمنكر.
• ومن عصى الله تعالى فيك فلا تعص الله سبحانه فيه؛ بمعنى إن سبَّك وشتمك وافترى عليك واغتابك شخص فهذه معصية لله تعالى، فلا يكن هذا مبررًا لك لمعصية الله تعالى فيه بأن تغتابه أو تسبه أو تفتري عليه، فالحرام حرام، يجوز لك أن تنتصر لنفسك، لكن لا تتجاوز بحيث إن كذب عليك فتبين كذبه وافتراءه، ولا يجوز لك بحال أن تكذب عليه بحجة أنه كما كذب عليك تكذب عليه، أو افترى عليك أن تفتري عليه.
• الرد على المبطلين من أفضل القُرب إلى الله تعالى، ولكن الرد ليس لكل أحد، وأن للرد آدابًا فاحرص عليها؛ ليكن ردك مقبولًا عند الله تعالى، ويضع له القبول عند خلقه، بل على المردود عليه أحيانًا، بخلاف الرد حين يكون فيه ألفاظ وكلمات لا تليق، فإن ذلك سبب في الإعراض عن القراءة ولو كنتَ محقًّا.
وإن من الفجور في الخصومة ومن الظلم أيضًا:
حين تُخرج إنسانًا من السُّنَّة بمجرد أن تختلف معه أو بمجرد أن يختلف هو مع من تُحب!
ومن الظلم أيضًا رمي من تختلف معه بالفواقر، وتفتري عليه بما ليس فيه، وتقوِّله ما لم يقل، فكيف إذا كان ذلك مع أهل العلم والفضل؟! وكيف إذا كان ذلك مع من تعرفه لكن لحظوظ نفس؟!
فالإنصاف الإنصاف.
ومع الأسف أصبحنا في زمنٍ الإنصافُ فيه أندرُ من الكبريت الأحمر كما يُقال.
وأخيرًا أخي الفاضل:
إن كان قصدك الخير بردك، فتخيَّر الأسلوب الأجمل الذي يكون سببًا لقبول نصحك وردك عند المردود عليه ومن يقرأ كلامك.
وتذكر أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يقول لأكبر طاغية فرعون قولًا لينًا: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، قال الحافظ ابن كثير: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟!
وقال وهب بن منبه: "قولا له: إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة"[3].
وقال السعدي رحمه الله: "أي: سهلًا لطيفًا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال، {لَعَلَّهُ} بسبب القول اللين {يَتَذَكَّرُ} ما ينفعه فيأتيه، {أَوْ يَخْشَى} ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داعٍ لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه، وقد فسَّر القول اللين في قوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}[النازعات: 18، 19]فإن في هذا الكلام من لطف القول وسهولته وعدم بشاعته ما لا يخفى على المتأمل فإنه أتى بـ "هل" الدالة على العرض والمشاورة التي لا يشمئز منها أحد، ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس التي أصلها التطهر من الشرك الذي يقبله كل عقل سليم، ولم يقل: "أزكيك"، بل قال: "تزكى" أنت بنفسك.
ثم دعاه إلى سبيل ربه الذي ربَّاه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة التي ينبغي مقابلتها بشكرها وذكرها، فقال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فلما لم يقبل هذا الكلام اللين الذي يأخذ حسنه بالقلوب علم أنه لا ينجع فيه تذكير، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر"[4].
وقد سئل الإمام ابن باز رحمه الله: ما هو الأسلوب المناسب للنصيحة والدعوة إلى الله سبحانه؟
فأجاب: الأسلوب المناسب في الدعوة إلى الله والنصيحة هو الأسلوب الذي أرشد الله إليه، وأمر به عباده في كتابه الكريم في قوله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53].
وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: 83].
وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].
وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت: 46].
وقوله تعالى يخاطب نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم في آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
وقوله سبحانه لما بعث موسى وهارون إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 44].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، اللهم ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه»؛ (أخرجه مسلم في صحيحه).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم».
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة؛ فالواجب على العلماء والأمراء والدعاة إلى الله تعالى أن ينهجوا هذا المنهج الذي أرشد الله إليه، وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ينصحوا الناس ويعالجوا مشاكلهم بالطريق التي أرشد الله إليها سبحانه، وأرشد إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ظلم واعتدى ولم ينفع فيه التوجيه والنصيحة وجب على ولاة الأمر أن يعاقبوه بالعقوبات الشرعية.
ومن ثبت عليه ما يوجب إقامة الحد أو التعزير وجب تنفيذ حكم الله فيه بواسطة أولي الأمر ومن يستنيبونه في ذلك؛ ردعًا له ولأمثاله، وحماية للمجتمع الإسلامي من جميع أنواع الفساد[5].
واعلم أخي الكريم، أن المسلم ليس بالسَّبَّاب ولا باللَّعَّان ولا الفاحش البذيء، واجعل نصب عينك قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فلنستجب لأمر الله سبحانه، فلا يقول أحدنا إلا الخير، والقول الحسن الطيب، والله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا.
فاللهم بصِّرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا، وفقني الله وإياكم للإخلاص في القول والعمل، وجنبنا الزلل في القول والعمل، "إلهِي لا تعذب لسانًا يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدمًا تمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك. فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذبُّ عن دينك"[6].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[1] تفسير ابن كثير، ت سلامة (1/ 317).
[2] تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن) (ص: 57-58).
[3] تفسير ابن كثير، ت سلامة (5/ 294).
[4] تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن) (ص: 506).
[5] من سؤال وُجِّه لسماحته من جريدة عكاظ بمناسبة دخول شهر رمضان المبارك عام1413هـ؛ (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (27/ 359). وهو في موقعه على الرابط: https://2u.pw/Lz85akq8.
[6] ذيل طبقات الحنابلة (2/ 499).
______________________________ __________________________
الكاتب: محمد بن عبدالله العبدلي