من دروس الصراع مع اليهود
للدكتور : أحمد أبو الشباب
تُمثِّل غزوة خيبر منعطفاً مهمّاً في تاريخ الدعوة الإسلامية وعلاقتها بالصراع مع اليهود ، ذلك أنها تمخّضت عن القضاء على اليهود قضاءً كاملاً، ووضعت حَدّاً للوجود اليهودي في جزيرة العرب. ولا تختلف معركة القادسية من حيث النتائج عن غزوة خيبر، حيث وَضَعت معركة القادسية حَدّاً لوجود الفُرْس المحتلّين في بلاد العرب، فخرجوا منها على أيدي المجاهدين المسلمين.
وثَمّة قاسم مشترك بينهما أنّ اليهود هم شذاذ آفاق، دُخلاء على جزيرة العرب، ليس لهم فيها أيُّ جذور تاريخية، وكذلك الفُرْس، كانوا دُخلاء على المناطق التي كانوا يحتلونها من البلاد العربية قبل الإسلام.
ومهما قيل من آراءٍ حول الوجود اليهوديّ في الجزيرة العربية، فالمُجْمَع عليه عند المؤرّخين والباحثين أنّ اليهود هم دخلاء على خيبر والمدينة، وباقي المناطق التي كانوا يسكنونها. لا تربطهم بسكان الجزيرة العربية أية روابط من لغةٍ أو دينٍ أو دم، وإنما هم لاجئون سيطروا على تلك المناطق، في وقت كان العرب الوثنيون فيه تُمزّقهم روح الجاهلية القَبَلية الضّيقة، التي ساهم وجودها وتحكُّمُها في المجتمع العربي في التمكين لهؤلاء اليهود الدُّخلاء في هذه المناطق من جزيرة العرب، الذين زادوا المجتمعات العربية فساداً على فساد، كما هي طبيعة العنصر اليهودي الذي لا يكون له نفوذ في أرض إلا وأشاع فيها الفساد، وبَذَرَ بذور الشَّحْناء والبَغضاء، وأشعل نيران الفُرقة والتخاصم بين أهلها.
وقد ظلّ العنصر اليهودي الدخيل هذا شأنه منذ استوطن خيبر، وباقي الأجزاء الأخرى من الجزيرة العربية، حتى اقتلع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العنصر نهائياً بالعمليات الحربية التي قام بها في خيبر، وغيرها من المناطق الأخرى التي كانت واقفة تحت سلطان اليهود.
قوة يهود خيبر العسكرية:
يجب ألاّ يغيب عن بالِ المؤرخين، أنّ يهود خيبر كانوا يتمتعون بمقدار كبير من القوة والمَنعة والتماسك والاستقرار، بعكس قبائل اليهود الأخرى التي لم تكن بمعزل عن الخلافات، والاقتتال فيما بينهم، كما هو شأنهم في الغالب؛ لأنّ قلوبهم شتّى كما وصفهم الحقُّ تبارك وتعالى.
كما أنّ يهود خيبر تجنّبوا وقوع صِدام بينهم وبين جيرانهم من العرب الوثنيين، مما منحهم قدْراً كبيراً من الاستقرار، وحافظ على قوّتهم من الاضمحلال، وجعلهم أقوى قوة يهودية دخيلة على بلاد العرب.
فإذا كان اليهود في المدينة، قد تعرضوا لحروب أهلية فيما بينهم، فرَّقت جَمْعَهُم، وصدّعت كيانَهُم، كما حدث بين يهود بني قَيْنُقاع وبني النّضير من تخاصم وتقاتل، وعداء شديد، ظلَّ أثره باقياً، حتى بعد ظهور الإسلام، ومخاصمة الفريقين له.
إذا كان اليهود في المدينة قد تعرّضوا لهذه الانتقامات، وتلك الصِّدامات الدامية، فيما بينهم عَبْرَ وجودهم في المدينة، فإنّ يهود خيبر لم تَحْدُث بينهم مُذ وطئت أقدامهم أرض العرب أية خلافات أو انتقامات، الأمر الذي جعلهم طيلة وجودهم في خيبر متّحدين، لم يفقدوا شيئاً من قُدُراتهم العسكرية أو وحدتهم السياسية.
وإذا كان اليهود في المدينة قد تعرّضوا قبل البعثة لانتكاسات عسكرية على أيدي جيرانهم العرب الوثنيين، كادت تقتلعُ وجودَهم، وتهددُ كيانَهم، كما حدث لهم في أوائل القرن الأول الميلادي على أيدي المهاجرين من عرب اليمن، من الأوس والخزرج، قُبَيل خراب سدِّ مأْرِب، حيث تروي كتب التاريخ أنّ هؤلاء العرب نزلوا في يثرب على ضَنْكٍ من العيش، إلى أن سنحت لهم الفرصة للقضاء على اليهود، وخاصة أنهم كانوا ينظرون إليهم على أنهم دخلاء على بلاد العرب، فضلاً عن أنهم كانوا يسومونهم سوء العذاب، ويَعيثون فساداً في جزيرة العرب، حيث رُويَ في هذا الصدد أنَّ ملكاً يهودياً اسمه (ألفطيون) كان من عادته في يثرب أنه لا تتزوج فتاة من الأوس والخزرج إلا أُدْخِلت عليه قبل أن تدخل على زوجها فيفتضَّها، حتى كان من شأنهم أن أختاً لمالك بن العجلان سيد الأوس والخزرج، جاءت في ليلة زفافها إلى مجلس أخيها فكشفت عن فخذها، فاستشاط مالك غضباً وهمّ بقتلها، فقالت: "يا أخي ما يُراد بي الليلة أعظم من هذا" فتخفَّى بلباس جارية ودخل معها إلى (ألفطيون) ثم قتله، وفرّ إلى بلاد الشام، حيث أبناء عمومته الغساسنة، فجرّد أبو جبيلة الغساني جيشاً عرمرماً وجاء إلى يثرب، مجرِّداً على اليهود سيفَ انتقامه، ومكّن للأوس والخزرج، وكادت هذه الواقعة تستأصل شأفة اليهود، لولا أنهم كعادتهم دائماً، انحنَوْا للعاصفة، وخضعوا وسلّموا بالهزيمة، ثم لكي ينجُوا من الهلاك، قَبِلوا الانضواء بالحِلف تحت لواء الأوس والخزرج، فحالف بعضهم الأوس، وحالف بعضهم الآخر الخزرج، حيث تَذْكُرُ مصادر التاريخ أنهم كانوا يعملون خُفْية على إثارة الفتن بين أبناء العمومة من الأوس والخزرج.
وهكذا فإنّ هؤلاء اليهود، إذا كانت الهزات العنيفة التي زلزلت سُلطانهم، ومزقت وحدتهم، سواء بسبب الضربات التي تعرضوا لها من جيرانهم العرب، أم بسبب النزاعات التي كانت تَنْشَب بينهم، فإن يهود خيبر ظلّوا طيلة وجودهم بمعزل عن مِثل هذه الهزات الخطيرة التي ذهبت بسلطان اليهود في المدينة.
الأمر الذي أبقى على وحدة يهود خيبر وتماسكهم، وذلك دونما شك من أعظم أسباب تفوُّقهم في القوة والمَنَعة والشجاعة على جميع العناصر اليهودية الدخيلة التي حلّت على أرض العرب.
وكر للتآمر على المسلمين:
عُرِف اليهود منذ القدم بالمكر والخداع والمماحكة ومعاندة الحق وأهله، فضلاً عن تنكُّبهم للطريق القويم، حيث كان لهم صَولات وجَولات مع بعض الرسل والأنبياء، فقتلوا عدداً منهم. وما أن بزغ فجر الدعوة الإسلامية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة حتى ناصبوه العداء، وكانوا أول من كفر برسالته وكذّبوها، وحاولوا أكثر من مرّة القضاء عليها عن طريق قتل النبي صلى الله عليه وسلم غير أن كل المحاولات التي قاموا بها في هذا الصدد باءت بالفشل الذريع.
لقد كان اليهود يَعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من معرفتهم لأبنائهم، وبعد أن زال سلطانهم في يثرب على نحو ما تقدم ذكره، صاروا يستفتحون على العرب المشركين ويقولون: "إنه قد آن ظهور نبي لنا يُبْعَثُ آخر الزمان سنقاتلكم به". فلما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من بني إسرائيل، كانوا أول من كذَّبَه وحاربه. وقد سجّل الحق تبارك وتعالى هذا الموقف فقال جلّ من قائل: )ولمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدِّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفو كفروا به، فلعنة الله على الكافرين( [البقرة:89].
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل راحوا يتحدَّوْن النبي صلى الله عليه وسلم ويصارحونه بعداوتهم له صلى الله عليه وسلم، بكل صَلَفٍ وغرور وكبرياء ووقاحة، فبعد أن أَلْحَق الهزيمة بالمشركين في معركة بدر جَمَعَهُم بسوق بني قَيْنُقاع ثم قال: «يا معشرَ يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنني نبيٌّ مرسَل، تجدونني في كتابكم وعَهْد الله إليكم»، قالوا: "يا محمد إنك ترى أنّا قومك! لا يغرينّك أنك لَقِيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فريضة، إنّا واللهِ لئِن حاربناك لتعلمَنَّ أنّا نحن الناس".
ولم تفلح العهود والمواثيق التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخفيف من غُلَوائهم ضدّ الإسلام والمسلمين، ولم يكفُّوا عن التآمر لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رَدْعهم والقضاء عليهم، فقاتَلَهم تباعاً بعد أن نقضوا تلك العهود والمواثيق.
وظل يهود خيبر على الحياد حِيال النزاع المسلح الذي وقع بينهم وبين المسلمين في المدينة، إلى أن نزل عليهم بنو النّضير مَنْفيِّين من المدينة، ومنذ ذلك الحين طرأ تحوُّلٌ خطير على موقف الحياد الذي كان يهود خيبر يلتزمونه إزاء النّزاعات المسلحة التي نشبت عبر العصور بين المشركين وبين يهود يثرب قبل الإسلام، ثم بين هؤلاء اليهود وبين المسلمين بعد بزوغ فجر الإسلام.
فلم يَكَد بنو النضير بقيادة شيطانهم (حُيَيّ بن أخطب) ينزلون في خيبر، ويستقرُّ بهم المُقام فيها، حتى تحولت من منطقة حيادية إلى أخطر وِكْرٍ تُحاك فيه الدسائس، وتُرسم خطط التآمر على الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم تحت إشرافِ هؤلاء اليهود المَنْفيِّين من المدينة.
وكان يهود خيبر منذ فشل غزوة الأحزاب التي كانت من وحي اليهود وتدبيرهم، يتوقعون أن يقوم المسلمون بتأديبهم عن طريق حرب وقائيّة شاملة، ولذلك كانوا يستعدون للمواجهة بصفة عامة، إلا أنهم ما كانوا يعلمون على وجه التحديد متى ستكون تلك المواجهة.
وبعد أن تَلَقَّوا عن طريق عُملائهم المنافقين في المدينة إشارة بنِيّة النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم في عُقْرِ دارهم، أخذوا في التَّهيُّؤ والاستعداد للمواجهة على نطاق أوسع، وبصورة أكثر جدية.
فقد ذكر علي بن برهان الدين الحلبي في «السيرة الحلبية»، أن رأس المنافقين، عدو الله، عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول، أرسل برسالة إلى يهود خيبر يُخبرهم فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم عازمٌ على غزوهم، ومما جاء في هذه الرسالة: "إن محمداً سائرٌ إليكم، فخُذوا حِذْرَكم، وأَدْخِلوا أموالَكم إلى حصونِكم، واخرجوا لقتاله، ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير، وقومُ محمدٍ شِرْذمة قليلون، عُزّل لا سلاح معهم إلا القليل".
من هنا عَمَد يهود خيبر إلى حشد كل الطاقات العسكرية والبشرية والمادية، واتخذوا الإجراءات كافة لمواجهة المسلمين، ومما يُروى في هذا الصدد أنهم أَخلَوْا حصونهم الأمامية من النساء والذراري، ونقلوهم إلى حصون خلفية، ولم يسمحوا لأحد أن يبقى فيها غير حَمَلة السلاح الذين امتلأت بهم ساحات هذه الحصون وأبراجها.
كما نقلوا شيئاً عظيماً من المواد الغذائية إلى خط الدفاع الثاني، ليكون ذلك عَوناً لهم على مواجهة الحصار الذي كانوا يتوقعونه.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في منتصف شهر محرّم سنة سبع للهجرة، فأقام يُحاصرها بضعَ عشْرَة ليلة إلى أن فتحها في صَفَر.
ولم تُفلح كل تلك الاستعدادات التي قام بها يهود خيبر بالتنسيق والتعاون مع القبائل العربية من حولها في الحيلولة دون سقوطها بأيدي المسلمين، وكان اليهود قد تحالفوا مع قبيلة (غَطَفان) التي كانت لا تزال على الكفر فأرسلت غطفان بالكثير من فُرسانها ليكونوا مع اليهود في حصونهم، في الوقت الذي يقوم به الغطفانيون بالالتفاف على جيش المسلمين لضربهم من الخلف، عندما يكونون قريبين من خيبر، على أن يقدّم لهم اليهود نصف ثمار خيبر مقابل هذه المساندة العسكرية ضد المسلمين. علماً أن جيش المسلمين كان عبارة عن ألف وأربعمائة من المُشاة، ومائتي فارس. فلا مجال للمقارنة بين قوة اليهود ومَن معهم من الأعراب وقوة المسلمين، وعلى الرغم من حَراجة الموقف وخطورته على المسلمين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم القائد الفذّ، عرف كيف يتجنب الصدام مع (غطفان) ليتفرغ لقتال اليهود، فأرسل بمفرزة من جيشه باتجاه غطفان، موهماً إياها أنه يريدها، فعند ذلك كرَّ جيش غطفان المؤلّف من أربعة آلاف فارس إلى ديارهم، وقرروا أن يتركوا اليهود وحدهم في هذه المواجهة.
ويُروى في هذا الصّدد أن غطفان سمعوا صائحاً يصيح، لا يدرون من السماء أو من الأرض: "يا معشر غطفان، أهلَكم أهلَكم، الفَوت، الفَوت، بحيفاء"، صِيح ثلاث مرات، فرجع الجيش إلى غطفان، ظنّاً منهم أن المسلمين قد أطبقوا عليهم، فوجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: "هل راعكم شيء؟ قالوا: "لا والله"، فقالوا: "لقد ظننّا أنكم قد غُنِمتُم"، فقال عُيَيْنة بن حِصن لأصحابه: "هذا واللهِ من مكان محمدٍ وأصحابه، خُدِعنا والله، وكان عُيينة بن حصن الفزاري مع قوّاته من غطفان في حصون خيبر ثم خرجوا إلى ديارهم عندما سمعوا ذلك الإنذار، فقال له الحارث بن عوف المُزْني: "بأيِّ شيء"؟ قال عيينة: "أنا في حصن النطاة بعد هداة، إذ سمعنا صائحاً يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض، أهليكم أهليكم بحيفاء، صيح ثلاثة". فقال الحارث بن عوف: " يا عيينة، والله لقد غبرت، أي بقيت إن انتقفت، والله إن الذي سمعت لمن السماء، والله ليظهرنَّ محمد على من ناوَأَه حتى لو ناوَأَتْهُ الجبال لأَدْرَكَ منها ما أراد".
فكان هذا أمراً أراده الله عزّ وجلّ لنبيِّه - كما يقول الواقدي-.
وهكذا ردَّ الله تبارك وتعالى كيد يهود ومشركي غَطَفان إلى نحورهم، وارتدّ فُرسان غَطَفان إلى ديارهم للذَّوْدِ عنها، وقد ألقى الله تعالى الرُّعبَ في قلوبهم، وذلك مِصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُعطيتُ خمساًً لم يُعطَهنَّ نبيٌّ قبلي...» (سنن الدارمي)، ومنه أنه صلى الله عليه وسلم قد نُصِرَ بالرعب مسيرة شهر.
وإذا انتقلنا إلى الصراع بين المسلمين واليهود في الوقت الحاضر، لوجدنا أن الصورة تكاد تتكرر بتفصيلاتها، فاليهود في فلسطين شذاذ آفاق، جاؤوا إلى فلسطين من شتّى بقاع الأرض، من قوميات مختلفة، وأقاموا دولتهم المحكوم عليها بالزوال -لا محالة- على أنقاض فلسطين، ونجحوا في الحصول على الدعم الكثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُمِدُّهم بالمال والسلاح، والدعم المعنوي في المحافل الدَّوْلية، كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتَحُول دون اتخاذ أي قرار بإدانتهم عن طريق حق النقض (الفيتو).
ولكن رغم هذه الصورة القاتمة، فالأمل موجود، والوعد بنصر الله تعالى حاضر في أذهاننا، وسوف يتحقق بإذن الله تعالى: )فإذا جاء وعدُ الآخرة ليسوؤا وجوهَهم وليَدْخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبّروا ما عَلَوا تتبيراً( [الإسراء: 7]
ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.