تأمّلات في حياة الشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني
تأمّلات في حياة الشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني ( صاحب كتاب حصن المسلم ) :
بسم الله الرحمن الرحيم
• لا أظنّ أنّ أحداً خصوصاً من العُبّاد والصالحين من أمتنا - عربي أو غير عربي - إلا ويعرف كتاب " حصن المسلم " .
هذا الكتاب العظيم الذي ضربت شهرته أقطار الدنيا ، وسيبقى إلى ماشاء الله من آماد السنين في بقاء ذكر لهذا العالِم الرباني المبارك - نحسبه والله حسيبه ، ولا نزكي على الله أحداً - وقد وافته المنية فجر يوم الأثنين الموافق ١٤٤٠/١/٢١ هجري .
وحزن المحبون لفقده ، وغبطوه على ماترك من آثار .
ولي مع سيرة هذا العالِم وقفات مختصرة :
• فضل الله على عبده وهي - من آثار من وحدانيته -فمن يرفعه الله فلا خافض له ، ومن يخفض فلا رافع له .
ففي نشأة الشيخ عبرة لأولي الألباب ، فقد نشأ في قرية من قرى عسير ، ومناطق بعيدة عن أنظار النّاس ولكنّ الله - وهو المدبّر لأمر عباده وهو الذي يختار منهم من يشاء - فمن كان يظنّ أنّ هذا الشاب اليافع الناشئ في هذه القرية يسمع به العالَمُ أجمع ، ويصل إنتاجه شرق الأرض وغربها ، وينال كتابُه هذه الشهرة الواسعة !
والعبرة : أنّك لا تلتفت لنشأتك ، ولا تنظر لمكانك وإقامتك مادام أنّك مخلِصاً لله في عملك ، تحمل همّ نشر دين الله ، وتسعى في نفع أمّتك ، فسيعينك الله ، ويسدد عملك ، ويُبارك لك فيه .
• أنّ الذي يرفع العبد عند ربه هو لزوم طاعته وانشغاله بما يرضيه - ولا شيء أرضى عند الله من نشر العلم بين الأمّة - . فكم من أصحاب أموال ، وأصحاب جاه عاشوا وماتوا ولم يعلم بهم أحدٌ إلا أهليهم وخاصتهم ولكنّ ناشر علم رسول الله ﷺ مثل صاحب " حسن المسلم " قد ضربت شهرته الآفاق ، فاشتغل بالعلم واسع بنشره سواءً كنتَ كاتباً أو صحاب مال ، أو حريصاً على نشر علم علماء الأمّة .
• أنّ أشرف أنواع الشهرة ماكانت متعلقة بمايرضي الله ، متصلة بالآخرة ، فهي الباقية التي لا تنقطع ، وأصحابها قد انتسبوا لربهم " فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته " ونحسبه منهم ، فما عرفه النّاس إلا بالعلم ونشره .
وهنا أمرٌ مهم في - قضية الشهرة - فقد يُكتب لبعض النّاس الشهرة ولكنّها قد تكون شهرة وبالاً لصاحبها لا تنفعه بل تضره ، وقد تتولى وسائل الإعلام إعلاء أناس يغترّ العامة بهم ، ومن التلبيس العظيم أنّهم يرفعون شأنهم حتى بعد مماتهم ليستمر النّاس في الضلال وتبقى الجماهير الغفيرة في التيه .
• مع شهرة كتاب " حصن المسلم " إلا أنّ صاحبه حريصاً على البعد عن الشهرة ، فالشيخ إلى زمن قريب جداً لا يعرف صورته أحد لبعده عن الأضواء وحرصه على الخفاء ، بل أجزم أنّ جمعاً من النّاس لم يشاهدوا وجهه إلا مع خبر وفاته - وقد أخبرني بعضهم بهذا - وهذا هو هدي الصالحين الحريصين على الخفاء .
فمع شهرة كتابه التي لا يدانيها ولا يقاربها كتاب معاصر إلا أنّ مؤلفه هارباً من الشهرة ساعياً في الخفاء ؛ فليت شعري ماحال من يختار أجمل صورة عنده ليضعها على أغلفة كتبه ، ومونتاجه من صوتيات ونحوها !
نعم اسع في نشر الخير في أمّتك وقد يتطلب الأمر ظهورك في كثير من الأحيان ولكن اعلم أنّ النّاس ينظرون لظاهرك ، والملك العلاّم خبير بباطنك ، فليكن الإخلاص ورضا الله همّك الأًعظم .
• جِدِّه في اغتنام حياته ( فأكثر من مائة وثلاثين كتاب ) هي إنتاج الشيخ مابين كتاب كبير ورسائل صغيرة بتحرير وإتقان لم تكن تتأتّى إلا لرجل حريصاً على وقته ، شحيحاً بساعات عمره ، مسابقاً لزمانه ، فليت شعري ما إنتاج من عمّر طويلاً - حتى وإن كان من أهل العلم القادرين على التأليف ونفع الأمّة - ! ( ومن تأمّل في حال الشيخ وجد أنّ التأليف أبقى للعبد ، وأنسأ في الذكر )
• سلامة قلب الرجل على إخوانه - نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً - فلم يعهد عنه أقوالاً تقدح في إخوانه ، ولم يترك كتاباً يضع من قدرهم أو يسمهم بسمات هم براءٌ منها ، فقد كان عفيف القلب ، سليم الجنان ، فعاش نقي القلب ، طاهر السريرة . والتأريخ لا يرحم أحداً .
• اعتزازه بعلماء عصره ومعرفته لقدره وقدرهم . تأمّل في مؤلفاته لترى تقديره لعلماء العصر ونقله لأقوالهم واعتداده باختياراتهم . وقوفاً عند قدر النفس ، واعترافاً لهم في الفضل ؛ فليت شعري ماحال أنصاف المتعلمين الذي تطفلوا على موائد العلم ، وصاروا يقدحون في العلماء ويحطون من قدرهم .
إنّ دين الله نصوصه واضحة ، وأحكامه ثابته ، وهي صالحة لكل عصر " والحق قديم " كما قال عمر رضي الله عنه ، لا تغيره الأزمنة ولا يغلبه الباطل .
• عصامية الشيخ فقد بدأ الشيخ تعليمه وهو في الخامسة عشرة من عمره ، وفي هذا درسٌ وأي درس للخاملين والكسالى ؛ فهذا السنّ الذي بدأ به الشيخ تعليمه ليس هو سنّ الدراسة المعهودة في بلادنا بل صاحب هذا السنّ في الغالب في نهاية المرحلة المتوسطة ، ومع هذا التأخر في الإلتحاق في التعليم إلا أنّه لم يثنه عنه ، بل واصل الشيخ تعليمه وتفوّق حتى حصل على الشهادة العالمية - الدكتوراة - . فلا تيأس يابني ، ولا يحول بينك العلم أي سبب ، فباب التوفق مفتوح للجادين ( والجادون فقط )
• ذكر بعض الفضلاء أنّه مع أنّ مؤلفات الشيخ زادت على المائة ، ولكنّ الذي ضربت شهرته الآفاق هو ( أصغرها ) وهو ( حصن المسلم ) . فلا تحتقر عملاً صغيراً ، أو مؤلَفاً ذا ورقات يسيرة فربما كان هو أفضل ما أنتجت ، وأبرك ماجمعت ، وقس عليه سائر أعمالك ، فربما كانت أعظم حسنة ما حقرتها عيناك ، وربما كان أثقل عملٍ من أعمالك مالم ترفع به رأساً .
• سأل بعض الفضلاء : ما الجامع بين انتشار كتاب رياض الصالحين وكتاب حصن المسلم ؟
فجاء في نفسي أنّ الجواب لسبيبين :
أولهما : نية الرجلين وإخلاصهم - نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً - . وثانيهما : أنّ الكتابين كلاهما ( مجموع أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام ) فبركة العلم ببركة هذا النبي الكريم وأقواله عليه الصلاة والسلام .
فينبغي للأمّة أن تهتم بحديث نبيها عليه الصلاة والسلام - علماً وعملاً ومدارسة ونشراً - ففيه الخير والعزة والكرامة .
• حسن خاتمة الصالحين ، ومن عاش على شيء مات عليه . فقد ذكر أحد أبنائه أنّ آخر يومين للشيخ كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله ، وكان يدعو كثيراً ( اللهم اجعل عملي خالصاً لوجهك الكريم ) وقد كانت وفاة الشيخ بسبب مرض السرطان - جعلها الله شهادة ورفعة في الدرجات - وهنا ألفت النظر لأمر لا يعرفه إلا القليل وهو أنّ الشيخ قد مات لها ولدان صالحان هما ( عبدالرحمن وعبدالرحيم ) فاحتسبهم وكانوا له فرطاً بين يديه ، جمعهم الله وأهليهم في جنّته
• احفظ الله يحفظك . تطالعنا الأخبار ومواقع التواصل حفظ الله لتراث الشيخ ، فهذا يتبرع بطباعة بعض كتبه ، وآخر يتكفل بترجمتها ، وجهات تتولى توزيعها.. في بقاء لعلم الشيخ . فمن حفظ الله وأخلص العمل له حفظه الله وحفظ علمه وأبقى له حسناته .
ختاماً فالدروس في حياة شيخنا أكثر من تُجمع بمقال صغير ، ولكنّها من باب الواجب علينا ، ولعل الله أن ينفع بها .
منقول