حي ينهق
عبدالباسط سعد عيسى



منذُ أعوامٍ عديدة ابتعتُ أولَ تليفون محمول، ثمنُه كان مرتفعًا؛ إذ لم يكن مرَّ على ظهور هذا الاختراع في الأسواق إلا شهورٌ قليلة، اختراعٌ له بريق يزداد لَمعانُه كل يوم، ولي معه حظٌّ سيِّئ لا يفارقني، فقد سُرِق مِن غرفتي بعد أيام من شرائه، كنتُ لحظتَها أعملُ في مجال السياحة، فبلَّغت مدير أمنِ الفندق، فامتعض وبدا الضيقُ على وجهه، ليس مِن فَعلة السارق، بل مني؛ إذ كيف أقتني أشياء ثمينة وأُعرِّض نفسي لخطرِ فقدانِها؟ فأخبرتُه - وأنا أكتم غيظًا شديدًا -: إذًا عليك أن تُخبِر الناس أن يحجموا عن شراء أشياء ثمينة كيلا تُسرَق! فالمشكلة في رأيه تكمُن في المواطن، وليست فيمن وظيفته حمايةُ الممتلكات الخاصة والعامة!

في عام 1971م أطلق أحدُ المثقفين صرخةً هادرة يُنبِّه بها الغافلين عن الهول الأكبر والكارثة العظمى، عن خطبٍ يهُزُّ الوطن، ويجعل أبناءه أشباحًا مهزولةً، فقد زاد تَعداد السُّكان في ذلك العام نصفَ مليون نَسَمة، ولم يُلمِح في مقاله إلى احتمالية كون تلك الزيادة قوةً بشرية للوطن وليست عبئًا عليه؛ لذا اقتَرَحَ أن يُسَن قانون لوقف الإخصاب لمدة خمس سنوات، وناشَد الجميعَ - سعيًا لصالح الأمة - أن يدعم مشروع السنوات الخمس لوقف الإخصاب دون إبطاء ولا إمهال، ومَن يخالف ويُنجِب طفلًا خلال تلك السنوات الخمس، تُفرَض عليه مغارم ثقيلة، فالمشكلة هنا أيضًا في المواطن وشهوته الجامحة في بناء عزوة!

مؤخرًا تلقَّى وزير الصحة أمرًا بخفضِ النمو السكانيِّ!
تُرى ماذا سيفعلون بنا؟!
خرج بعدها علينا نائبٌ بالبرلمان يطالب بقانونٍ يسمح بتقنينِ التكاثر، عن طريق رخصة الإنجاب، الفكرة ليست جديدةً، وقابلها المواطِنون بسخرية لاذعة.

تساؤلات متتالية تطلُّ برأسها:
لماذا نضعُ ما يطرحه المسؤولُ حيز التنفيذ دون مفاضلة مع غيره من الأُطروحات؟
لماذا لا نُريح المواطن ولو قليلًا من مسؤوليته المباشرة عن كل قضايا الوطن الكبرى؟
هل مِن العيب أن تُعزَى بعض الانتكاسات لسوء التخطيط مثلًا؟
متى ننتهج التوسط والاعتدال؟
هل مِن حلول مبتكَرة لقضايانا المزمنة؟

كل المبادرات التي تُطالِب بتخفيض النسل وتنظيمه، هي حملات تدعو لها النخبة، وتُشرِف عليها الحكومات، لكن في المقابل نجد حملةً شعبية تسمى "ضد التناسل"، أطلقها شباب في الوطن العربي، ولاقت قَبولًا يسترعي الانتباهَ، ربط المراقبون هذا التجاوبَ بما تعانيه الشعوب العربية من حروب وفقر وبطالة، وأزمات وكوراث؛ لذا اتجه الشباب إلى هذه الفكرة؛ فعقولهم لا تتقبَّل فكرة أن يأتوا بجيلٍ لعالم يحتضر، بل ذهب بعضُهم إلى أبعد من ذلك، قال أحدهم: مِن العار أن نقذف بأطفالٍ أبرياءَ إلى عالم مُوحِش، لا ندري الغاية من وجوده أصلًا؛ إذًا هي دعوةٌ علنية للانقراض، مبنيَّة على توجُّهات إلحادية تُلقِي باللوم على الوجود والواجد، حلول غريبة وشابة لكنها خالية مِن رُوح التحدي، بل تمثل هروبًا فجًّا وسهلًا في نفس الوقت، رغم ذلك يمكن أن نقول: إن المواطن هنا يُلقِي باللائمة أيضًا على المسؤولين في الوطن العربي، العاجزين عن تقديم حياةٍ يُقبِل عليها الشباب!

يبدو أن حفنةً مِن البؤس تعامدت على وجه الوطن منذ القِدَم وحتى هذه اللحظة، فالفكر الذي يتعامل بتطرف مع القضايا لم يَمُتْ، بل ما زال حيًّا يَنهِق.