طريق الألف ميل
محمود فتحي عبدالصمد









كانت الخطوات الأولى لها بعدما عانتْ طويلًا، ساعدها، ولطالما فعل!

أتذكر: كان يقف أعلى درجات السُّلَّم؛ ليعطي لها دفعةً من الأمل أن تأتي إليه صاعدةً متكئةً على ساعدين من معْدِنٍ مقوَّى؛ لتحمل عليهما عبء الزمان، ومصاعب الحياة.



"هيا اصعدي يا بنيتي...، هيَّا...، أريني خطواتك التي طالما انتظرتها لأيام وشهور بل لسنوات".



كانت تتصبَّب عرقًا، وتشعر أن قواها ستخونها هاربةً من هذا العذاب الذي لا ينتهي ولن ينتهي، أحيانًا يُلهبها بسياط كلماته الحماسية بلا مَلَل.



خطت خطواتٍ عنيفةً في أحد الأيام أدَّت إلى كسور، فكانت تتألم وكان يواسيها، وقلبُه يئنُّ ويشتكي؛ لكنه الساعد الذي لا بد أن تتعكَّز عليه، فإن لان لانتْ هي الأخرى، وظلَّت طريحة َالفراش، تنتظر مَن يخدمها، لكن هيهات فهو الأبيُّ الذي لا يرضى لابنته المذلَّة والهوان، تصرخ أحيانًا: "لا أريد الحركة؛ فقد ولدتُ هكذا، وسأظلُّ هكذا".



ينزل من أعلى الدرج مسرعًا يهزُّها هزًّا عنيفًا: "لن أتركَكِ لليأس يأكل عليك ويشرب، ثم تندمين طيلة عمرك، فإن بقيتُ الآن لك داعمًا فغدًا الله أعلم بي يا بنتي، لن أظل طيلة الحياة لك مساندًا؛ فالأعمار بيد الله، ولا بد أن تعتمدي على نفسك؛ لتكوني عمودًا صُلْبًا لا يلين ولا ينحني، خُذي عني هذه الكلمات يا بنتي".




تذرف بضع دمعات من عينيها، يمسحها بيديه، تحضنُه...، هيَّا نُكمل بداية المشوار؛ فالألف ميل يبدأ بخطوة، تحاول وتحاول وتحاول.



صعدت الدرج، ومشت الألف ميل، والآن هو في شيخوخته، وهي أمٌّ لبنتين، تصعد السلالم، وينتظرها أيضًا كأول عهده بها، اصعدي يا بنيتي الصغيرة، وستظلين صغيرةً كما عهدتك، تبكي وتحتضنه، وتقول بلغتها الدارجة: "لله درُّك يا أبي"!