سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قول الفقهاء، إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟
فأجاب: أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح; وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم.
بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله:" فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " . فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم بل نقول: من كان من أهل الجاهلية، عاملا بالإسلام، تاركا للشرك، فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .فمن كان منهم مسلما أدخله الله الجنة، ومن كان كافرا أدخله الله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.
وأيضا: فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا، بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئا لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول، أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث.
وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون؛ فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها، وقد روى أبو داود، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام "، وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة بن أبي مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلم على شيء فهو له "، ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنا.
واعلم: أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، أحد الأقوال في المسألة، وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي، وأهل العراق، والقول الثالث: أن ماله لأهل دينه الذي اختاره، إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي، وصلى الله على محمد.[ الدرر السنية فى الاجوبة النجدية]
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر -
وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: " الإسلام يهدم ما قبله " ،وفي رواية " يجُبُّ ما قبله "، وفي حديث حجة الوداع: " ألا إن دم الجاهلية كله موضوع " إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا، جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أم لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة؛ ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص، لعدم قيام الحجة عليه؛ لا يقال: إن لم يكن كافرا، فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية. وقد ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.
وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله،
فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم،
بل نقول: الإسلام يجُبّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره؛
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كلام أسعد، على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1، أنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك؛ وقد ذكر المفسرون: أن معنى قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم: إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم هم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية، مشركون بالله في العبادة.
ومعلوم:
أن مشركي العرب وغيرهم، يؤمنون بأن الله رب كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات، حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه؛ بل تجد الرجل يؤمن بالله ورسوله، وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات، حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، من فعل واحدا منها كفر؛ وإذا تأملت ما ذكرناه، تبين لك أن الإيمان الشرعي، لا يجامع الكفر، بخلاف الإيمان اللغوي، والله أعلم.
وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟
فيقال:
لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلا عن الإيمان;
بل يقال:
الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج،
لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة،
والحج من شرط صحته الإسلام؛
فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟
ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه،
فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما ما ذكرته عن السيوطي:
أن الردة لا تتبعض إذا لم تتصل بالموت، فهي مسألة اختلف العلماء فيها،
وليست من هذا الباب، لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته، لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها.
[الدرر السنية فى الاجوبة النجدية - المجلد العاشر - كتاب حكم المرتد - ص 139]