(فالجَوَابُ الأَوَّلْ) عَمَّا اعْتَرَضُوا بِهِ مِن هَذِه الفُرُوقِ التي زَعَمُوا أَنَّها تُؤَثِّرُ؛
أَنَّ الفُرُوقَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى قِسْمَيْنِ:
-فَرْقٍ يُؤَثِّرُ.
- وَفَرْقٍ لاَ يُؤَثِّرُ.
فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ أَنَّ هَذِه الفُرُوقَ لاَ تُؤَثِّرُ،
(لاَ خِلاَفَ بَيْنَ العُلَمَاءِ كُلِّهِم أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَدَّقَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شَيْءٍ وكَذَّبَهُ في شَيْءٍ أَنَّهُ كَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ في الإِسْلاَمِ) بالإِجْمَاعِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلاَ عِنْدَه مِن الإِسْلاَمِ شَعْرَةٌ؛ فَإِذَا كَذَّبَهُ في وَاحِدٍ وصَدَّقَهُ في الأُلُوفِ مِن الصَّلاَةِ والصَّدَقَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ فَهُو قَاضٍ عَلَى تَلِكَ الأُلُوفِز
فَإِذَا كَانَ مَن صَدَّقَهُ في شَيْءٍ وكَذَّبَهُ في شَيْءٍ فهو كَافِرٌ، فَكَيْفَ بالتَّوْحِيدِ الذي هو أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عَمَدَ إِلَى زُبْدَةِ الرِّسَالَةِ، وجَعَلَ لفَاطِرِ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ شَرِيكًا في العِبَادَةِ فَصَرْفُهُ لَهُ الدُّعَاءَ الَّذِي هو مُخُّ العِبَادَةِ وخَالِصُهَا، إِمَّا أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَه وَحْدَهُ أَوْ يَجْعَلَهُ شَرِيكًا لَهُ.فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الفُرُوقُ لاَ تُؤَثِّرُ فَكَيْفَ بالتَّوْحِيدِ؟ لَكِنْ والعِيَاذُ باللهِ طَمَسَ عَلَى قُلُوبِهِم الشِّرْكُ، وامْتَزَجَتْ بِهِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ هَذِه الشُّبِهَةِ مِن أَهْلِ الجَهَالاَتِ والضَّلاَلاَتِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ النَّظَرِ المُنْصِفَ إِذَا نَظَرَ في أَهْلِ هَذِه الشُّبَهِ لَقِيَهُم مَفَالِيسَ مِن العِلْمِ بالمَرَّةِ (وَكَذَلكَ إِذَا آمَنَ بالقُرْآنِ وجَحَدَ بَعْضَهُ) وَلَوْ حَرْفًا وَاحِدًا، أَنْكَرَهُ وجَحَدَهُ، أَوْ جَحَدَ شَيْئًا مِمَّا ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كُفْرٌ ظَاهِرٌ؛ أي: كُفْرٌ فَوْقَ كُفْرِ تَكْذِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ (كَمَنْ أَقَرَّ التَّوْحِيدَ) لَفْظًا وَمَعْنًى (وَجَحَدَ) فَرْعًا مِن فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ (وُجُوبَ الصَّلاَةِ) الَّذِي يَجْحَدُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ كَافِرٌ بِالإِجْمَاعِ، ولو أَنَّهُ يَفْعَلُهَا، وَجَاءَ بالتَّوْحِيدِ (أَوْ أَقَرَّ بالتَّوْحِيدِ وَالصَّلاَةِ وَجَحَدَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ) وَلَوْ كَانَ يُؤَدِّيهَا، فهو كَافِرٌ بإِجْمَاعِ الأُمَّةِ (أَوْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وجَحَدَ الصَّوْمَ) وَلَوْ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ بإِجْمَاعِ الأُمَّةِ لتَكْذِيبِهِ اللهَ ورَسُولَهُ (أَوْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وَجَحَدَ الحَجَّ) إلى البَيْتِ، وَإِنْ كَانَ يَحُجُّ، فهو كَافِرٌ بالإِجْمَاعِ لتَكْذِيبِهِ اللهَ ورَسُولَهُ ورَدِّهِ إِجْمَاعَ الأُمَّةِ.
( (وَلَمَّا لَمْ يَنْقَدْ أُنَاسٌ في زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلحَجِّ) إلى البَيْتِ
(أَنْزَلَ اللهُ في حَقِّهِم: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً})
يَعْنِي: وَاجِبٌ للهِ عَلَى المُسْتَطِيعِ مِن النَّاسِ أَنْ يَحُجَّ
{وَمَن كَفَرَ} يَعْنِي: تَرَكَ ذَلِكَ {فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ كُفْرٌ؛
فَمَنْ جَحَدَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ فَدَلَّ عَلَى فَرْضِيَّةِ حَجِّ الْبَيْتِ؛
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لاَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ كَافِرٌ وَهَذَا بِخِلاَفِ العَاجِزِ.و
كَذَلِكَ مَنْعُ الزَّكَاةِ بُخْلاً بِخِلاَفِ الجَاحِدِ.فَأَمَّا تَرْكُ الصَّلاَةِ تَهَاوُنًا، فاخْتِيَارُ أَحْمَدَ وَحَكَى إِسْحَاقُ بنُ رَاهُويَه كُفْرَهُ بالإِجْمَاعِ.
(وَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وَجَحَدَ البَعْثَ) أي: جَحَدَ بَعْثَ هَذِه الأَجْسَامِ بَعْدَ بَلاَئِهَا وإِعَادَةَ أَرْوَاحِهَا إِلَيْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ (كَفَرَ بالإِجْمَاعِ) بِإِجْمَاعِ أَهْلِ العِلْمِ (وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ) وَلَمْ يَنْفَعْهُ الإِقْرَارُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الآيةَ.
فَصَرَّحَ اللهُ تَعَالَى في هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ الكَافِرُ حَقًّا؛
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ كُفْرًا إِلاَّ إِذَا كَفَرَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ؛
بل هَذَا كُفْرٌ نَوْعِيٌّ؛
فَإِنَّ الكُفْرَ كُفْرَانِ:
-كُفْرٌ كُلِّيٌّ.
-وَكُفْرٌ نَوْعِيٌّ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ مَنْ كَفَرَ بِبَعْضٍ فَكَمَنْ كَفَرَ بالكُلِّ لاَ فَرْقَ.
(فَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ صَرَّحَ في كِتَابِهِ أَنَّ مَن آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فهو الكَافِرُ حَقًّا زَالَتْ هَذِه الشُّبْهَةُ،
وهَذِهِ هي الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الإِحْسَاءِ في كِتَابِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا)
وبِهَذَا ظَهَرَ واتَّضَحَ أَنَّهُ يُوجَدُ فُرُوقٌ ولَكِنْ لاَ تُؤَثِّرُ؛
فَإِنَّ الرِّدَّةَ رِدَّتَانِ:
-رِدَّةٌ مُطْلَقَةٌ: وهي الرُّجُوعُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً.
والثَّانِيَةُ:
أَنْ يَكْفُرَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ الَّذِي يَرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الدِّينِ كَافِرٌ؛
بل يَرَوْنَ أَنَّ الاعْتِقَادَ الوَاحِدَ والكَلِمَةَ الوَاحِدَةَ قَدْ تُخرِجُ صَاحِبَهَا عن جُمْلَةِ الدِّينِ.
وبِهَذَا انْكَشَفَت الشُّبْهَةُ وعُرِفَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بالفُرُوقِ الَّتِي ذُكِرَتْ مِن الفُرُوقِ الَّتِي هي غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ.