حقوق الآباء والأمهات (الحلقة الأخيرة) من صور بر الوالدين بعد موتهما
ما زال حديثنا مستمرا عن حقوق الآباء والأمهات؛ حيث ذكرنا أنَّ من صفات المؤمنين الإحسان والبر والعطاء، والإجادة والإتقان، ويصل منهم الإحسان إلى الناس أجمعين، وأحق الناس به -بل ويكون واجبًا نحوهم- هم الآباء والأمهات، وذكرنا بعضًا من أنواع البر بهما، واليوم نتحدث عن حق الوالدين بعد موتهما، وذكرنا في الحلقة الماضية أنواعا من بر الوالدين بعد موتهما ومنها قضاء دين الوالدين بعد موتهما، والدعاء والاستغفار من الحي، واليوم نتكلم عن تنفيذ وصيتهما، وصلة أصدقائهما.
تنفيذ ما أوصى به الوالدين
على الحي أن ينفذ وصية المتوفى ولا سيما الوالدين إذا أوصيا بطاعة الله -سبحانه وتعالى- وعبادته، كنحو بناء مسجد أو ذبح أضحية أو أوقف أرضا للفقراء أو لطلبة العلم؛ لقوله -تعالى-: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}، سورة النساء: آية 11، فإن أولى الناس بتنفيذ وصية المتوفى أولاده ثم أقرباؤه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لو جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا»، فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء مال البحرين أتوا أبا بكر، فنادى: من كان له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد أو دين فليأتنا، فأتيته، فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: كذا وكذا، فحثى لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة، وقال: خذ مثليها».
وفي هذا الحديث دليل على إنفاذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعده، وأوجب في حق الولد نحو أبيه أو أمه المتوفى، وأحرى بتنفيذ وصيتهما بعد وفاتهما حتى يكون من البارين بوالديهم، وأحرى بالمسلم أن تكون عنده وصيته مكتوبة أو شفوية تنفذ بعد موته، فقد حث عليها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»، وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: «أوصي بمالي كله ؟ قال: لا، قلت: فالنصف ؟ قال: لا، فقلت: أبالثلث ؟ فقال: والثلث كثير».
صلة أصدقائهما
إن من كمال البر بالوالدين بعد موتهما إكرام من كان صديقا لهما، وود من كانا يقومان بوده، ورعاية من يرعيانه، وصلة قرابتهما، وإن البر يكون على الولد ذكرا كان أم أنثى لأحباء أبيه وحبيبات أمه، وأهلهما وأقاربهما وأصحابهما، ويكون بالتزاور لهم، والعطف عليهم، ومعاملتهم معاملة حسنة، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على حسن صلة أقارب الوالدين وأصدقائهما نذكر منها ما يلي:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قدمت المدينة فأتاني عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: «أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده، وإن كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك».
وعن ابن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي «يعني يولي الأب».
وعن عبد الله بن دينار عن عبدالله بن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة وعمامة يشد بها رأسه، فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مر أعرابي، فقال: ألست ابن فلان ؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة قال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي «وإن أباه كان صديقا لعمر».
وروى مسلم أيضا عنهما أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبدالله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلنا له: أصلحك الله فإنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وداًّ أي صديقاً لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ابر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
ومن البر بالصديق إكرامه كما يُكرم ذو الرحم، فقد قرن الله في كتابه بين بيوت الأصدقاء والأقارب مما يبرز مكانة الصداقة حتى تلحق بصلة القرابة في العطاء وصرف الإيذاء، ومعلوم أن صلة القرابة واجبة ومن ثم بر أصدقاء الوالدين واجب.
قال -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} سورة النور: آية 61.، وقد بلغ من درجة الصديق أن بعض السلف جعله كالأخ، سئل بعض الحكماء أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
تكريم أصدقاء الوالدين وأثر ذلك
إن صلة أصدقاء الوالدين يضفي على الواصل محبة من الله -تعالى-، وثوابا جزيلاً، وقبولاً لعمله الصالح، فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احفظ ود أبيك لا تقطعه فيطفئ الله نورك».
كما أن الابن البار لوالديه في حياتهما يبرهما بعد موتهما بالإحسان لأصدقاء أبيه وأمه وزيارتهما فذاك من البر بهما، وإن كان الابن مقصراً في حق والده فعليه أن يصل والده بعد موته ببره بأصدقائه بعد موته، فعن ثابت قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «من أراد أن يصل أباه بعد موته فليصل إخوانه»
حسن الاستقبال وبشاشه الوجه
تكون صلة الأصدقاء بحسن الاستقبال وبشاشه الوجه، روى الحسن المروزي في كتاب البر والصلة بسنده أن عبدالله بن طاووس قال لأبيه وهو بالموت: ما توصيني؟ قال: ما كنت تهديني به، فانظر فلانا، قال الرجل: فبينما عبد الله وأنا معه إذ رأى الرجل فنزل عبدالله عن فرسه فمشى إليه حتى احتضنه».
تقديم العون والعطاء
من أنواع البر بالأصدقاء تقديم العون والعطاء وصنائع المعروف لهم، وكان النموذج الحي لذلك ما فعله ابن عمر -رضي الله عنهما- مع صديق أبيه من منحه الحمار والعمامة، وبهذا العمل يستمر الود في الأولاد ويتوارث، وتستمر المودة والمحبة وهذا ما يقصده الإسلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الود يتوارث».
لا ينحصر الود في الكرم والعطاء بل يكون بحسن المعاملة، وكرم الأخلاق ولين الطبع، والرفق والرحمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
من خصال المؤمن الوفاء بالعهد
من خصال المؤمن الوفاء بالعهد، وعدم خلف الوعد متمثلاً قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} سورة المائدة: آية 1، وقال -تعالى- {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} سورة المائدة: آية 1.
على الابن البار أن يؤازر أصدقاء أبيه، وأن يقف معهم في الملمات والمصائب، ويفك كربهم، وينصرهم إن كانوا مظلومين، ويحجزهم عن الظلم ويمنعهم منه إذا ظلموا غيرهم،،فتلك خصال المسلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أرأيت - أي أخبرني - إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - تحجزه وتمنعه من الظلم فإن ذلك نصره».
الدعاء بظهر الغيب
من أنواع البر بصاحب الأب، وصاحبة الأم الدعاء له بظهر الغيب، فإن من دعا لأخيه المسلم في غيبته قال له الملك ولك بمثل، ونال الداعي ثواب الدعاء كما ظفر بالإجابة له ولصديقه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب «رواه أبو داود.
تنبيه مهم
مما ينبغي علمه أن إكرام صديق الوالد وبره ومحبته يجب أن تكون خالصة لله -تعالى- لا يشوبها غرض من أغراض الدنيا حتى ينال عليها ثواباً من الله -جل وعلا- قال -سبحانه-: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} سورة البينة: آية 5، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان».
الشيخ: عبدالمتعال محمد علي