الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية
د. محمود محمد الطناحي
كتب الأستاذ الدكتور محمود الربيعي كلمة في أسبوعيات الأهرام 6/ 7 /1990م، بعنوان «ترتيب الأولويات»، قال فيها: «إن تلقين المناهج لطلاب العلم الذين يدرسون في الجامعات لدينا يجعلهم يتحدثون عن «أعوص» المناهج الغربية الأجنبية كأنهم أصحابها، فإذا طلبت إليهم أن يقرأوا (مجرد قراءة) نصًا إبداعيًّا باللغة التي يُعَدُّون للتخصص فيها (عربية أو أجنبية) لم يقيموا النص قراءة، فضلًا عن التعمق في فهمه بالتحليل والتركيب والتفكيك».
وهذا كلامُ حكيمٍ (بالتنوين والإضافة)، وهو أيضًا كلام ظاهر الوضاءة والحسن والتيقظ، لأنه يلخص المأساة التي نعيشها منذ نحو ثلاثين عامًا، في هذا المستوى المتدنَّى من علوم العربية: قراءة وكتابة، ثم هو كلام يفضي بنا إلى قضيةٍ ذات خطر، ليس في الأدب وحده، بل إن هذا الخطر يمتد ليشمل مختلف فروع التراث العربي، وأعني تلك الفجوة الواسعة بين النظرية والتطبيق، أو بين المحفوظ والمفوظ.
فأنت قد تصادق شخصًا دارسًا للأدب: تاريخه ومذاهبه ومدراسه، وإذا فاتشته في قضية من قضاياه النظرية تلك، صال وجال، ولاك ومضغ، وخلط عربيًّا بعجمي، وأتاك بكل عجيبة وغريبة، فإذا أخذته إلى نصٍّ مما كتبه السابقون الأولون، وأردته على شيء من التفسير أو التحليل والتذوق حارَ وأبلس، «وصار لسانه قطعة لحم خرساء تدور في جوبة الحنك» كما يقول شيخنا محمود محمد شاكر - في سياق آخر.
ومثل ذلك يقال في نحويّ خالطتْ بشاشةُ النحو قلبه، وخبر سواده وبياضه (زعم)، أسهر فيه ليله، وأدأب له نهاره، حتى ظن أنه ملك ناصيته: قواعد وخلافيات ونقدًا، فإذا أخذ في كلام، أو أدار قلمه على بيان خلَّط واعتسف وأخطأ، وما أتي هذا النحوي وذلك الأديب إلا من قبيل الإغراق في النظريات والمناهج والقواعد، واطراح الحفظ، وهجر النصوص، وإهمال التطبيق.
وقد سرى هذا الداء الخبيث إلى علمين جليلين في تراثنا - وما كان ينبغي أن يسرى إليهما، لأنهما ملاك الأمر كله - وهما التفسير والحديث، ففي ميدان التفسير قد تصادف دارسًا يحدثك بإفاضة وإحاطة عن مدارس التفسير واتجاهاته، من تفسير بالمأثور إلى تفسير بالرأي، والتفسير الموضوعي للقرآن، والتفسير الفقهي، والتفسير الإشاري الصوفي، إلى آخر هذه القائمة، فإذا طلبت منه تفسير شيء من كتاب الله لم تظفر منه بشيء إلا شيئًا لا يُعبأ به = وقد اختفت تلك الصور الجليلة النبيلة، حين كنت تستوقف شيخًا فاضلًا عقب صلاة الجمعة، أو في طريق عام، فتسأله عن آية من كتاب الله فإذا أنت أمام علم حاضر وإجابة شافية.
وقل مثل هذا في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اشتغل به كثير من طلبة العلم الآن: دراسة نظرية، تعنى بتدوينه وعلومه وتصانيفه من الصحاح والمسانيد = إلى غير ذلك مما كان يعرف قديمًا بعلم «الدراية»، لكنك قل أن تجد منهم من اعتنى بهذا العلم الجليل «رواية» من حيث حفظ المتون وإتقان الغريب.
وقد أدى هذا الأمر إلى مصيبة كبرى اجتاحت بعض الشباب المسلم المحب لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومعرفة السنة المطهرة، فقد اتجه كثير منهم في هذه الأيام إلى طلب معرفة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتجريح الرواة وتعديلهم - وهذا بحر لا ساحل له، ولا يقوى عليه إلا أولو العزم من الرجال - وقد صرفوا في ذلك جهودًا كثيرة كان الأولى أن تصرف إلى قراءة صحيحي الإمامين الجليلين: البخاري ومسلم، وبقية الكتب الستة التي هي دواوين السنة، ثم بعض المسانيد الأخرى، قراءة فهم وبحث وإمعان، فإذا أتقنوا ذلك كان لهم أن يبحثوا في الضعيف والموضوع، وقد بلغت السفاهة ببعضهم أن يقول عن حديث رواه الإمام الجليل أبو عبد الله البخاري: «صحَّحه فلان» يشير إلى أحد العلماء المعاصرين. أفبعد إخراج البخاري للحديث، يقال: صحَّحه فلان؟
إن الإسراف في النظريات والمناهج هو الذي أضعف إحساس أبنائنا بالعربية الأولى، وهو الذي أورثهم العجز الذي يأخذ بألسنتهم وأقلامهم، فلا يستطيعون قولًا ولا بيانًا.
على أن هذا الذي ذكره الدكتور الربيعي، والذي ذكرته أنا، يرجع إلى أننا أهملنا جوانب ضرورية في تعلم العربية. ومن هذه الجوانب التي أهملت جانب النصوص أو الحفظ = فإنه يشيع في أيامنا هذه كلام عجيب، يبغض إلى طالب العربية «الحفظ» ويزهده فيه، بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل «الحفظ» مقابل «الفهم» وأن الطالب الذي قد تعدى ذلك إلى تثبيت قاعدة تجعل «الحفظ» مقابل «الفهم» وأن الطالب الذي يحفظ «صمام» وغير قادر على الفهم والاستيعاب، ونقرأ لمسؤول كبير عن التعليم في مصر قوله: «ولا بد أن يدرك الطالب أن زمن الحفظ والصمامين قد انتهى».
تراثنا قائم على الرواية:
وهذا الكلام إن صدق على العلوم المعملية والتطبيقية، لا يصدق على علوم العربية، من أدب وبلاغة ولغة ونحو، وذلك لأن تراثنا كله قائم على الرواية والدراية، والرواية مقدمة، ولذلك قالوا: «الرواية من العشرين والدراية من الأربعين». والجوهري صاحب «الصَّحاح» يقول في مقدمته: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة = بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية».
وقد وصل إلينا تراثنا في أول أمره عن طريق الحفظ والرواية، فقد وعته صدور الرواة والنقلة، وسلَّمته أجيال إلى أجيال، حتى أظل زمان التدوين والكتابة، فالحفظ هو الأساس، وقد حثوا عليه ومدحوا أهله، فروي عن الأصمعي أنه قال: «كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم». ويريد أنه حافظه ومستحضره في كل وقت وعلى كل حال. وقال محمد بن يسير - من شعراء الدولة العباسية الأولى:
أأشهد بالجهل في مجلس
وعلمي في البيت مستودع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا
فجمعك للكتب لا ينفع
وقال بعض أهل العلم:
حفظ اللغات علينا
فرض كفرض الصلاة
فليس يُضبط دين
إلا بحفظ اللغات
ولولا الحفظ في تاريخنا التراثي لما أمكن لهذه الطائفة من عباقرة العربية العميان أن يسجلوا لنا هذا القدر الضخم من المعارف الإنسانية، كالذي نقرأه عند أبي العلاء المعري - وأبو العلاء فوق شاعريته صاحب لغة ونحو وصرف وعروض -، وابن سيده صاحب المحكم والمخصص، والإمام الترمذي صاحب السنن، وغيرهم كثير، مما ذكره صلاح الدين الصفدي في كتابه الطريف «نَكْت الهِمْيان في نُكَت العميان». وحسبك بقراء القرآن وعلماء القراءات، كالشاطبي صاحب المنظومة الشهيرة في القراءات السبع المسمَّاة: «حرز الأماني ووجه التهاني». وفي هذا العصر الحديث يأتي الدكتور طه حسين - رحمه الله - على رأس أفذاذ العميان المعاصرين.
إن طبيعة تعلم العربية تقتضي حفظ كثير من النصوص لتثبيت القواعد والتمكين للأبنية والتراكيب في ذهن طالب العلم. وقد قيل: - الحفظ الإتقان - وذلك ما رواه أيوب بن المتوكل قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علمه وتواضع له، وإذا لقي من هو مثله في العلم ذاكره ودارسه.
وقال: لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، ولا يكون إمامًا في العلم من روى كل ما سمع، ولا يكون إمامًا في العلم من روى عن كل أحد، والحفظ الإتقان».