خطبة الحرم المكي - داء الحسد: أسبابه وعلاماته وعلاجه


الفرقان



جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 17/4/1444هـ، الموافق 11 نوفمبر 2022م، بعنوان: داء الحسد: أسبابه وعلاماته وعلاجه، ألقاها إمام الحرم المكي الشيخ: د. صلاح البدير، وجاءت عناصر الخطبة على النحو الآتي: الحسد داء وبيل وشره مستطير، وبعض علامات الحاسد وصفاته البغيضة، ومن علامات السمو والرفعة ترك الحسد، وآداب تُذهِب الحسد وتقي القلوب منه، وبعض دواعي الحسد، وعلاج الحسد، ومن آداب التحديث بالنعم ومحاذيره.
في بداية الخطبة أكد الشيخ البدير أن التطهر من الرذائل والتلبُّس بالفضائل شأن الكُمَّل، ومن الرذائل المهلِكة داء الحسد، والحسد داعية النكد، ومطِيَّة الكَمَد، وعلامة الشؤم واللؤم، وحَدُّ الحسَدِ أن يرى الرجلُ لأخيه نعمةً فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه، ويُعرَف الحاسدُ باللَّحْظ واللَّفْظ، ورُبَّ لحظٍ أنمَّ من لفظ، وللحاسد ثلاث علامات: يتملَّق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة.
حاسد النعمة
وحاسدُ النعمة لا يرضيه إلا زوالها، ولا يسرُّه إلا انتقالها، لا يرضى بقضاء، ولا يقنع بعطاء، إذا نظر إلى من فوقه في علم أو في خَلْق، أو خُلُق، أو مال، أو أي خصلة من خصال التفضيل اعترض على الله في مشيئته، واغتاظ من فضل الله وقِسمته، لا يرى قضاءَ الله عدلًا، ولا لنِعَمِه من الناس أهلًا، يَكرَه نعمتَه، ويَجهَل حكمتَه، ويسعى بالبغي على مَنْ أنعَم اللهُ عليه، ويَمضِي في المكر بمَنْ أحسَنَ اللهُ إليه.
من غوائل الحسد
ومن غوائل الحسد: تنقيص العمر وتشتيت الفكر، قال ابن المعتز: «الحسدُ داءُ الجسدِ»، وقال الأصمعي: «رأيتُ شيخًا بالبادية، قد سقَط حاجباه على عينيه، وله مئة وعشرون سنة وفيه بقية، فسألتُه فقال: تركتُ الحسدَ؛ فبقي الجسدُ»، ومن زكت نفسه وسَمَتْ لم يجد في قلبه حزازةً وغيظًا وحسدًا على ذي نعمة، وانظر إلى السادة الأنصار، أهل المواساة والإيثار، وهم أعز قبائل العرب جارًا، ومن اتخذ الرسولُ -[- دارهم أمنًا وقرارًا، -رضي الله عنهم-، الذين أثنى الله عليهم بقوله: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}(الْحَشْ رِ: 9)؛ أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضَّلَهم اللهُ به من المنزلة والشرف، والتقديم في الشرف والرتبة، وقد وبَّخ اللهُ الحاسدينَ وذمَّ صنيعَهم واستقبَح فِعالَهم، فقال جلَّ وعزَّ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(النِّس َاءِ: 54)، و»أَمْ» هي المنقطعة، والتقدير: بل يحسدون الناس على ما جاد الله عليهم من سَجْلِه، وأفاض عليهم من فضله.
الحسد من الذنوب العظام
والحسد من الذنوب العظام، والكبائر الجسام؛ لأنَّه يأكل الحسنات، ويديم الحسرات، فوا أسفاه على من أوقَد نار الحسد في قلبه، وجعَل حطبَها صالحَ كَسبِه! ويا حسرةَ مَنْ آثره الشيطان، وأسكرته الغفلةُ حتى جاد بدِينِه وحسناته وقَدِمَ على الله فقيرًا حقيرًا مُفلِسًا ممقوتًا! وذلك مُرادُ الشيطانِ من أتباعه وأوليائه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا»
(مُتَّفَق عليه)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إذا فُتحت عليكم فارسُ والرومُ أيُّ قومٍ أنتُم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو غيرَ ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض»(أخرجه مسلم).

وعن ضمرة بن ثعلبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا»(أخرجه الطبراني في الكبير)، وقال عمر - رضي الله عنه -: «لا يكون رجل من أهل العلم حتى لا يَحسُد مَنْ فوقه، ولا يُحقِّر مَنْ دُونَه، ولا يبتغي عِلمَه ثمنًا»، وقال حاتم الأصم: «رأيتُ الناسَ يتحاسدون فنظرتُ في قول الله -تعالى-: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(الز ُّخْرُفِ: 32)، فتركتُ الحسدَ».
ومَنْ أرسَل طرفَه عايَن حتفَه، ومَنْ طَمِعَ في كل ما لاحَ حَسِرَ، ومن تمنَّى الأمانيَّ الباطلةَ التي تُورِث الحسدَ والبغيَ بغير الحق خَسِرَ، ومن قال بلسان الحسود: وَدِدْتُ أنَّ لي مالَ فلان، يا ليتَ لي منصبَ فلان، يا ليتَ لي زوجةَ فلان فقد طاش عقلُه، وقَبُحَ قولُه، وساء فِعلُه، وأضحى أسيرًا لحُمقِه ونَزَقِه، قال -جلَّ وعزَّ-: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}(النِّسَا ءِ: 32)، قال الحسن: «تتمنى مال فلان ومال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟».
لم يزل ذو الفضل محسودًا
ولم يزل ذو الفضل محسودًا، وبالأذى مقصودًا، وكلما كَثُرَ الفضلُ كَثُرَ الحُسَّاد، وكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم؛ فتَّتِجهُ إليه أنظار الحَسَدة، وتَنُوشُهُ عيونُ الصغار المفاليس، وتُصوَّب إليه سهامُ المتربصينَ، ومَنْ لمَع نجمُه وارتفع سهمُه واشتُهر اسمُه تألَّب عليه الحُسَّد، وتواطأ عليه الشانئون؛ لأن المنزلة الرفيعة وعلو الصيت تثير الضغائن وتبعث الأحقاد.
ما ضَرَّني حسدُ اللئامِ ولم يزل
ذو الفضل يحسده ذوو النقصان
حُبُّ الوجاهة والصدارة
ولولا حُبُّ الوجاهة والصدارة وطلب الرئاسة، والطمع في الأموال والمناصب والولايات ما حَسَدَ أحدٌ أخاه على ما حازه من غنائم المعالي، ولا وددت النفوس الظالمة أن تسلب المحسود ما وهبه الله من عقود اللآلي ولا تمالؤوا على اهتضمام قدره، ولا أطالوا التمادي في التمالي على قهره، ومن عاشَ بين الناس لم يخل من أذى؛ لما قال واشٍ، أو تكلم حاسدٌ.
التعايش بالمكر
وإذا رأيتَ القومَ وقد سرى بينهم داء الضرائر، ودبت بينهم آكلة الأكباد، وانتشرت بينهم الأثرة، ورأيتَهم يتناهزون ويتنابزون ويتغامزون، ويتغايرون ولا يتجانسون، ويتحاسدون ولا يتآنسون، ويتعاسرون ولا يتعاشرون، ويتدابرون ولا يترافدون، فاعلم أنهم يتعايشون بالمكر، قال ابن القيم: «وقد شاهَد الناسُ عيانًا أنَّ مَنْ عاشَ بالمكرِ ماتَ بالفقر»، وقالت العرب: «مَنْ حفَر لأخيه جُبًّا وقَع فيه مُنكَبًّا».
ما خلَا جسدٌ من حسد
وما خلَا جسدٌ من حسد، أمَّا الكريم فيُخفيه، وأمَّا اللئيم فيبديه، ومَنْ وجَد في نفسه حسدًا فأخفاه وواراه ولم يُرتِّب عليه أذًى للمحسود ولا إضرارًا به بوجه من الوجوه لا بلسانه ولا بيده، ولم يجاوزه إلى البغي والظلم ولم يقابل أخاه إلا بما يحب الله لم ينله عليه ذم ولا لوم، قيل للحسن: «يا أبا سعيد، هل يَحسُد المؤمنُ؟ فقال: ما أنساكَ بني يعقوب؛ حيث حسدوا يوسف؟ ولكِنْ غُمَّ الحسدَ في صدرِكَ؛ فإنَّه لا يضرُّكَ ما لم يَعْدُ لسانُكَ أو تعمل به يَدُكَ».
مَنِ اشتغَل بما لا يعنيه ضيَّع ما يعنيه
ومَنِ اشتغَل بما لا يعنيه ضيَّع ما يعنيه، ومن لم يستغن بما يكفيه، فليس في الدنيا شيء يغنيه، ومن امتلأ صدره حسدًا وشنآنًا وبُغضًا وعداوةً فلا غرضَ له إلا الاستطالة في عرض المحسود، فإذا وُصف عنده بالفضل وذُكِرَ حُسن حالِه، وجَمال فِعالِه، قال طاعنًا فيه: «أليس يقول كذا؟ أليس يفعل كذا؟ يعدد معايبه، وينشر مثالبه، ويخفي محاسنه ومناقبه، ولو كانت معايبه مغمورة في بحر مناقبه، وهكذا ديدن الحاسد، يُجاهِر في سب أعيان زمانه، من أضرابه وأقرانه، لا يَسلَم من عطب لسانه أحدٌ، ولا ينتهي عندَ غاية ولا حد.
عقاربُ الحُسَّد
وإذا دبَّت عقاربُ الحُسَّد، وكمنت أفاعيهم بكل مرصد، فاستعِيذوا بالله من شرهم، ولُوذوا بالله من مكرهم، وتحصَّنوا بالأذكار من غدرهم، وتحرَّزوا من غوائل حسدهم، وابتعِدوا عن ملابَستهم، واستغنوا عن مجالستهم، وامتنِعوا عن إدنائهم؛ لعُضل دائهم، وإعواز دوائهم، وعِظَم بلائهم.
التحدُّث بالنعم من شكرها
والتحدُّث بالنعم من شكرها، ومتى خَشِيَ المسلمُ نفوسَ الحاسدين وعيون الحاقدين كتم وأخفى، قال الأصمعي: «وإذا أردتَ أن تَسلَم من الحاسد فعَمِّ عليه أمورك»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليس للمحسود أسلمُ من إخفاء نعمته عن الحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف -عليهما السلام-: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}(يُوسُفَ : 5)» انتهى كلامه -رحمه الله-، فلما علم أن الله -تعالى- سيبلغه مبلغًا جليلًا ومنزلًا رفيعًا، يصطفيه بالنبوة، ويجتبيه بالرسالة، ويُنعم عليه بشرف الدارين أمرَه أن يكتم رؤياه عن إخوته شفقةً عليه من الحسد، قال القرطبي: «وفيها ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدًا وكيدًا».
فليذكر الله وليبرك
ومَنْ أعجَبَه شيءٌ من حاله، أو ماله، أو ولده، أو حال غيره، فليذكر الله وليبرك؛ لحديث سهل بن حنيف رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعامر بن ربيعة: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكتَ؟»(أخرجه أحمد)، والتبريك الدعاء للإنسان أو غيره بالبركة، يقال: «بركت عليه تبريكا، أي: قلت له: بارَك اللهُ عليك، وبارَك لكَ، وبارَك فيكَ، أي: وضع فيكَ البركة وثبَّتَها، وأدامها وضعَّفها»، والبركة لكونها خالصة تتعدى باللام، ولكونها نافذة تتعدى بالفاء، ولكونها نازلة من السماء تتعدى بعلى؛ تصويرًا لصب البركات وإفاضتها من السماء.