من جحود النعمة الإسراف فيها وتبذيرها


نعم الله -عز وجل- كثيرة لا تُعد ولا تحصى، وقد قرر الله -تعالى- ذلك في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(إبرا هيم: 34)، لكنه -سبحانه- قال بعدها مباشرة: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، فهو ظلوم كفار، يظلم النعمة بكفرانها وعدم شكرها، ويظلم نفسه حين يكفر النعمة فيعرضها للزوال، ومن جملة ظلم النعمة أن يسرف فيها ويبذرها ويضعها في غير موضعها، ومن أنواع ظلمه لنفسه أن يعيش متنعمًا مترفًا همه دنياه.
وهناك علاقة وطيدة بين هذه الآفات الثلاثة، فأما الإسراف فهو مجاوزة الحد في كل شيء، واستخدامه في إهدار المال أشهر -كما قاله الراغب- وفي التنزيل الحكيم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}( الأعراف: 31)، أما أهل الحديث -كما نقله ابن الأثير- فقالوا: الغالب على ذكر الإسراف: هو الإكثار من الذنوب والخطايا والأوزار والآثام، يقول -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزم ر: 53).
والتبذير: هو وضع المال في غير موضعه، وقيل: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وقال الكفوي: الإسراف: هو صرف فيما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي، أما التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، وأيضًا فإن الإسراف تجاوز في الكمية؛ إذ هو جهل بمقادير الحقوق، والتبذير تجاوز في موضع الحق؛ إذ هو جهل بمواقع تلك الحقوق.
وعلي ذلك فإن الإسراف أعم من التبذير؛ فالإسراف يكون في المال وغيره، والتبذير لا يكون إلا في الأموال خاصة، لكن عددًا من المفسرين ذهبوا إلى أن الإسراف والتبذير يستخدمان بمعنى واحد فيطلق أحدهما ويراد الآخر.
أما الترف فهو النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير، فالترف هو التنعم، يقول ابن منظور في لسان العرب: «الترف: التنعم، والترفة: النعمة، والتتريف: حسن الغذاء، وصبي مترف: إذا كان منعم البدن مدللًا، والمترف: الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، وأترفته النعمة: أي أطغته... ورجل مترف ومترف: موسع عليه، وترف الرجل وأترفه: دلله وملكه... والتُرفة بالضم: الطعام الطيب»، وفي القرآن: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116).
ولقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا التنعم، فعن معاذ بن جبل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث به إلى اليمن قال: «إياك والتنعم!؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين»
(رواه أحمد)، أي: إياك والتعمق والمبالغة في التنعم؛ فإن خواص عباد الله الذين تحلوا بشرف العبودية ليسوا بالمتنعمين، والسبب في ذلك: أن التنعم بالمباح -وإن كان جائزًا- لكنه يوجب الأنس به والغفلة عن ذكر الله وكراهة لقائه، وهو أيضًا يدعو إلى الركون إلى الدنيا والاسترسال فيها، وقد يجر إلى الحرام؛ لأن الحلال أحيانا لا يتسع للتنعم.


منقول