عودة مريبة لغلاة التصوف



يطلُّ اليومَ التصوفُ برأسه من جديدٍ، بعد أن فترت سوقُه لعقود طويلةٍ، وصارت مقالاته لا تجدُ لها رواجًا، بل كثير من منتسبيه العقلاء يستحيون مما يُحكى في كتبهم من خرافات كانوا يسيطرون بها على عقول العامَّة والخاصة قديمًا، ويُرهبون الناسَ مِن مخالفتهم بهذه الحكايات السَّمجة، حتى صار بعضُهم ينكر هذه الكتبَ ويدَّعي أنها مدسوسة على أصحابها.
في كتابه (هكذا تكلَّم ابن عربي) يذكر د. نصر حامد أبو زيد سببَ الاستدعاء الكثيف لابن عربي في هذه المرحلةِ؛ مجيبًا عن تساؤل: هل ما زال ابن عربي قادرًا على أن يقدِّم لنا شيئا في واقعنا المعاصر؟ قائلا: نعم، لو أحسنَّا الإنصات لما يقول.. فأبياته الشعرية عن (دين الحبِّ) الذي يتَّسع لكلِّ العقائد من الوثنية إلى الإسلام محتضنًا اليهودية والمسيحيةَ معًا على وجه الخصوص تتردَّد دائمًا في سمعي:
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلان ودِير لرهبانِ
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ
وألواح توراة ومُصحَف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهت
ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني

مطلب ملِحٌّ
ويقول أيضا: إن استدعاء ابن عربي مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات يمثِّل مطلبًا ملِحًّا؛ لعلَّنا نجد في تجربته وفي تجاربهم ما يمكن أن يمثِّل مصدرًا للإلهام في عالمنا الذي سبَق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه، إنَّ التجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية -الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية- فهي الإطار الجامع للدين والفن، هذا أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام. لكن استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي واستعادَتُه من أُفُق التهميش إلى فضاء المتن مرة أخرى لا يقلُّ أهمية؛ وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفيَّة على مجمل الخطاب الإسلاميّ في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين.
تأييد الاتجاه الصوفي
وفي عام (2002م) أصدرت مؤسسة (راند) تقريرها الشهير حول دعم الإسلاميين المعتدلين في مقابل الإسلاميين المتطرِّفين، وجعلت معيار الاعتدال قبول القِيَم العلمانية، وأوصت بتأييد الاتِّجاه الصوفي ونشره والدعوة إليه باعتباره نموذجًا للاعتدال، وهذا الأمر لا نحتاج للإطالة فيه؛ فإنه لا يمكن إنكاره، بل إن كبار المتصوِّفة المعاصرين يقرّون بذلك ويعلنونه في محافلهم على سبيل الفخر باعتراف الغرب بهم باعتبارهم الإسلامَ المعتدل الذي ينبغي استخدامُه في مواجهة الإسلام المتشدِّد، فالجهود الحثيثة المبذولة في محاولة إحياء التصوُّف من رقادِه غرضُها باختصار (علمنة الإسلام) بقصره على الجانب الروحيّ، وانسحابه عن نظام الحياة، كما حدث مع النصرانية في الغرب.
نشأة التصوف وتطوره
وقبل أن نبيّن شيئا من مخاطر بعث التصوف مرةً أخرى لابدَّ أن نبيّن التصوّف الذي نقصده؟ فإن الصوفية عبر قرون مثَّلت ما يشبه التيارَ الواسع المتعدِّد الأطياف، وتفاوتت درجاتُ الغلوّ والانحراف بين مذاهبه وطرقِه، ولكننا يمكننا الحديث عن ثلاثة أطوار، والأدقّ أن نقول: أنماط من التصوف:
الأول: الصوفية الأولى
وهي تعبّر عن مبالغةٍ في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك مما لم يكن موجودًا على عهد الصحابة، ولا معروفًا في طريقتهم في السلوك والتعبُّد، فظهر من يُغْشَى عليه عند سماع آيات القرآن، خلافًا للمأثور عن الصحابة من وجَل القلب واقشعرار الجلود ودمع العين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «أوَّل ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دُوَيرةَ الصوفية بعضُ أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسَن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية… ولهذا غالب ما يُحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عُبَّاد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غُشِي عليه في سماع القرآن ونحوه، كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة، فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} فخرَّ ميتًا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المرِّي فمات، وكذلك غيره ممن رويَ أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يُصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله، فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفةٌ من الصحابة والتابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم… وكذلك ما يُذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك، قد يُنقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم وعلى ما سنَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور تُوجِبُ أن يصير الناس طرفين: قوم يذمّون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك، وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها. والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهِدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك… والصواب للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأنّ أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه».
التصوف السني
وبعض العلماء يطلِق على هذا النوع من التصوف: (التصوف السني)، ومقصدهم بذلك أن كبار أئمة هذا التصوّف كالجنيد (ت 298هـ) وأبي سليمان الداراني (ت 215هـ) وأحمد بن أبي الحواري (ت 230هـ) وغيرهم من أئمة ما عرف بالتصوف السني وكباره. ومقصد العلماء الذين أطلقوا هذا المصطلح (التصوف السني) على هؤلاء أنهم كانوا في الجملةِ على أصولِ الكتاب والسنةِ، ولا سيما في باب العقائد، ودَعُوا لالتزام الشريعة والكتاب والسنة.
الأصول الكبار
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم. وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لا بدَّ وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطَّرد مع ما يعرفه أهل البصيرة، وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ».
أكابر مشايخ الصوفية
وقال أيضا: «والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ (أي: الصوفية) يوافق ما كان عليه السلف، وهذا هو الذي كان يجب أن يُذْكَر؛ فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ -مثل الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي، إلى الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء- ما يبين حقيقة مقالات المشايخ».
المؤاخذات والانحرافات
ولكن هذا لا يعني خلوَّ هذا النوع من التصوّف من المؤاخذات والانحرافات، التي ترجع في الغالب لضعف عنايتهم بالعلم الشرعي كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدَّهم عَن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبَّطوا فِي الظلمات».
إنكار الأئمة والعلماء
ولذلك أنكر كثير من الأئمة والعلماء على هؤلاء الصوفية الأوائل، ورأوا أنهم تكلَّموا في أمور لم يتكلم فيها الصحابة، قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «وروِّينا عن أحمد بن حنبل أنه سمع كلام الحارث المحاسبي فقال لصاحب له: لا أرى لك أن تجالسهم. وعن سعيد بن عمرو البردعي قال: شهدت أبا زرعة وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله -عز وجل- عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمة صنَّفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟! هؤلاء قوم خالفوا أهلَ العلم، يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق! ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع!... وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري، فأنكر عليه ذلك عبد الله بن عبد الحكم، وكان رئيس مصر، وكان يذهب مذهب مالك، وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علمًا لم يتكلَّم فيه السلف».
سمات هذا الطَّور من التصوُّف
فيمكننا تحديد بعض سمات هذا الطَّور من التصوُّف وهي:
1- الالتزام بعقيدة أهل السنة إجمالًا، ولا سيما في أصولها الكبار؛ ولذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كثيرًا ما يورد في أبواب الاعتقاد أقوالَ كبار الصوفية، كالحارث المحاسبي وعبد الله بن خفيف وغيرهما؛ ليبين التزامهم بعقيدة السلف، ويقيم الحجة على أتباعهم المعاصرين له.
2- الغلو في بعض المقامات والعبادات، كالخوف والزهد.
3- التعمق والتكلف في أحوال القلوب ومراقبة الخواطر.
4- عدم العناية بالعلم الشرعي. وهذه الأخيرة كانت سببًا في اتساع زاوية الانحراف مع مرور الزمن، كما هي السنة الكونية في سائر البدع والانحرافات، تبدأ يسيرة، ومع مرور الزمن يشتدّ الانحراف، وهذا ما حصل مع التصوف.
الطور الثاني من أنواع التصوف: التصوف الفلسفي
وهو أخطر أنواع التصوُّف على الإطلاق، وهو مزيج من موروث الصوفية مع عقائد الفلاسفة وتصوّراتهم، وكان الناتج أخطرَ البدع في تاريخ الإسلام، وهي بدع الحلول، والاتحاد، والمساواة بين الأديان، واكتساب النبوة، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، واستباحة المحرَّمات، ومعارضة الشريعة بالحقيقة، وتفسير القرآن تفسيرًا باطنيّا كفريّا، وغيرها من البدع الكفرية الإلحادية، ومن رموز هذا التصوف: الحسين بن الحلاج (ت 309هـ) المقتول على الزندقة، ومحيي الدين ابن عربي (ت 638هـ)، وابن الفارض (ت 632هـ)، وابن سبعين (ت 669هـ) وغيرهم.
الطور الثالث: التصوف الطرقي الخرافي

وهو الذي استقرَّ عليه أمر التصوّف منذ القرن السادس والسابع الهجري تقريبًا، وما زال منتشرًا حتى يومنا هذا، وأتباعه يعظِّمون أئمة التصوّف الفلسفي، كابن عربي وابن الفارض الذي ينشدون أشعاره في موالدهم واحتفالاتهم، وإن كان كثير منهم لا يلتزم بحقيقةَ أقوالهم أو لا يعرفها على التفصيل.
وقد اختلط هذا التصوّف بالقبوريّة، حتى صارا قرينين، وصار الغلوّ في الأولياء وكراماتهم هو أساس دعوتهم وطريقتهم، وأصبحت البدع والمحدثات والرقص والسماع المحدَث شعارًا لمجالسهم، وفي الجملة صار هذا التصوف مرتعًا للخرافة والخرافيين. وهذا هو مقصدنا في هذه الورقة.
لماذا نرفض هذا التصوّف؟
إن محاولات بَعث التصوّف من مراقده تشكِّل أخطارًا متعدِّدة، فالخطاب الصوفيّ الذي هيمن لقرون طويلة على الأمة كان سببًا رئيسًا فيما آلت إليه الأمة من تخلّف وتراجع على مختلف المستويات، وأوجه بيان أثر التصوف في إفساد العقائد وتراجع الأمة والتأثير على نهضتها كثيرة جدًّا، ومن تأمَّلها عرف صدقَ ما قاله ابن عقيل -رحمه الله تعالى-: “وما عَلَى الشريعة أضرّ من المتكلِّمين والمتصوّفين؛ فهؤلاء يفسدون عقائد الناس بتوهيمات شبهات العقول، وهؤلاء أي: الصوفية يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان” وصدق ونصح -رحمه الله تعالى.


شريف طه