الحلقة (436)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ التين
مكية
الاية 1 إلى الاية 6
( فإذا فرغت فانصب ( 7 ) )
( فإذا فرغت فانصب ) أي فاتعب ، والنصب : التعب ، قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، والكلبي : فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك .
[ وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال : إذا صليت فاجتهد في الدعاء والمسألة ] .
وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل .
وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع ، لدنياك وآخرتك .
وقال الحسن وزيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك .
وقال منصور عن مجاهد : إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في عبادة ربك وصل .
وقال حيان عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب ، أي : استغفر لذنبك وللمؤمنين .
[ ص: 467 ] ( ( وإلى ربك فارغب ( 8 ) )
( وإلى ربك فارغب ) قال عطاء : تضرع إليه راهبا من النار راغبا في الجنة . وقيل : فارغب إليه في جميع أحوالك . قال الزجاج : أي اجعل رغبتك إلى الله وحده .
سُورَةُ التِّينِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ( 1 ) وَطُورِ سِينِينَ ( 2 ) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ( 3 ) .
( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْكَلْبِيُّ : هُوَ تِينُكُمْ [ هَذَا ] الَّذِي تَأْكُلُونَهُ ، وَزَيْتُونُكُمْ هَذَا الَّذِي تَعْصِرُونَ مِنْهُ الزَّيْتَ .
قِيلَ : خَصَّ التِّينَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مُخَلَّصَةٌ لَا عَجَمَ لَهَا ، شَبِيهَةٌ بِفَوَاكِهِ الْجَنَّةِ . وَخَصَّ الزَّيْتُونَ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَلِأَنَّهُ شَجَرَةٌ مُبَارَكَةٌ جَاءَ بِهَا الْحَدِيثُ ، وَهُوَ ثَمَرٌ وَدُهْنٌ يَصْلُحُ لِلِاصْطِبَاغِ وَالِاصْطِبَاحِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هُمَا جَبَلَانِ . قَالَ قَتَادَةُ : " التِّينُ " : الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، لِأَنَّهُمَا يُنْبِتَانِ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : هُمَا مَسْجِدَانِ بِالشَّامِ . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " التِّينُ " : مَسْجِدُ دِمَشْقَ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : " التِّينُ " مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، وَ " الزَّيْتُونُ " : مَسْجِدُ إِيلِيَا . ( وَطُورِ سِينِينَ ) يَعْنِي الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ " ( الْمُؤْمِنُونَ - 20 ) . ( وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) أَيِ الْآمَنِ ، يَعْنِي : مَكَّةَ ، يَأْمَنُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، هَذِهِ كُلُّهَا أَقْسَامٌ ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :
[ ص: 472 ] ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4 ) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( 5 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 6 ) )
( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) أَيْ : أَعْدَلِ قَامَةٍ وَأَحْسَنِ صُورَةٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ حَيَوَانٍ مُنْكَبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ ، يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ ، مُزَيَّنًا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ . ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) يُرِيدُ إِلَى الْهَرَمِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ ، فَيَنْقُصُ عَقْلُهُ وَيَضْعُفُ بَدَنُهُ ، وَالسَّافِلُونَ : هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى وَالْأَطْفَالُ ، فَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ [ أَسْفَلُ ] مِنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا ، [ " وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ " نَكِرَةٌ تَعُمُّ الْجِنْسَ ، كَمَا تَقُولُ : فَلَانٌ أَكْرَمُ قَائِمٍ فَإِذَا عَرَّفْتَ قُلْتَ : أَكْرَمُ الْقَائِمِينَ . وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ " أَسْفَلَ السَّافِلِينَ "
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُجَاهِدٌ : يَعْنِي ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى النَّارِ ، يَعْنِي إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : يَعْنِي إِلَى النَّارِ فِي شَرِّ صُورَةٍ ، فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ . ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) [ فَإِنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى النَّارِ . وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ : رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ وَانْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ ، فَلَا يُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَةٌ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ] . ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ بَعْدَ الْهَرَمِ ، وَالْخَرَفِ ، مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَالِ الشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمْ نَفَرٌ رُدُّوا إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرَهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُمُ الَّذِي عَمِلُوا قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ عُقُولُهُمْ .
قَالَ عِكْرِمَةُ : لَمْ يَضُرَّ هَذَا الشَّيْخَ [ كَبِرُهُ ] إِذْ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ .
وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " [ ص: 473 ] قَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ [ آمَنُوا ] " قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، وَقَالَ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) غَيْرُ مَقْطُوعٍ ، لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ . قَالَ الضَّحَّاكُ : أَجْرٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، ثُمَّ قَالَ : إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ :
( فما يكذبك بعد ، بالدين ( 7 ) أليس الله بأحكم الحاكمين ( 8 ) )
( فما يكذبك ) [ أي : أمن يكذبك . وقيل : أي شيء يكذبك ؟ أي يحملك على الكذب ، وقيل على التكذيب ] أيها الإنسان ، ( بعد ) أي بعد هذه الحجة والبرهان ، ( بالدين ) بالحساب والجزاء ، والمعنى : ألا تتفكر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر ، وتقول : إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ، فما الذي يكذبك بالمجازاة بعد هذه الحجج ؟ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) بأقضى القاضين ، قال مقاتل : [ أليس الله ] يحكم بينك وبين أهل التكذيب [ بك ] يا محمد .
وروينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قرأ والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : " أليس الله بأحكم الحاكمين " فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : سمعت البراء بن عازب قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون .
سُورَةُ الْعَلَقِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( 1 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( 2 ) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ( 3 ) )
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ : " مَا لَمْ يَعْلَمْ " .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ، وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، [ قَالَ : فَأَخَذَنِي ] فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فغطَّني الثَّالِثَةَ [ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ] ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ ، فَقَالَ : زمِّلُونِي زمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : مَا لِي ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، وَقَالَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لِتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتُقِرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ [ ص: 478 ] فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى - ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّة ِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ مَا يَقُولُ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَوَمُخْرِجِيَّ [ هُمْ ] ؟ قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ [ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا ] جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرَا ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَقَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " حَتَّى بَلَغَ " مَا لَمْ يَعْلَمْ " وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ : وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا حَتَّى يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ ، فَيَرْجِعُ ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ " .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَانَ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَرَّاقُ أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَجَازُهُ : اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ ، يَعْنِي أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ ، وَالْمَعْنَى : اذْكُرِ اسْمَهُ ، أُمِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ اللَّهِ [ تَأْدِيبًا ] . [ ص: 479 ]
( الَّذِي خَلَقَ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي الْخَلَائِقَ ، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ : ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) يَعْنِي [ خَلَقَ ] ابْنَ آدَمَ ، ( مِنْ عَلَقٍ ) جَمْعُ عَلَقَةٍ . ( اقْرَأْ ) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ : ( وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فَقَالَ الْكَلْبِيُّ : الْحَلِيمُ عَنْ جَهْلِ الْعِبَادِ لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ .
( الذي علم بالقلم ( 4 ) علم الإنسان ما لم يعلم ( 5 ) كلا إن الإنسان ليطغى ( 6 ) أن رآه استغنى ( 7 ) إن إلى ربك الرجعى ( 8 ) أرأيت الذي ينهى ( 9 ) عبدا إذا صلى ( 10 ) )
( الذي علم بالقلم ) يعني الخط والكتابة . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) من أنواع الهدى والبيان . وقيل : علم آدم الأسماء كلها . وقيل : الإنسان هاهنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بيانه : " وعلمك ما لم تكن تعلم " ( النساء - 113 ) . ( كلا ) حقا ( إن الإنسان ليطغى ) ليتجاوز حده ويستكبر على ربه . ( أن ) لأن ( رآه استغنى ) أن رأى نفسه غنيا . قال الكلبي : يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما .
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، كان إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه ، فذلك طغيانه . ( إن إلى ربك الرجعى ) أي المرجع في الآخرة ، [ " الرجعى " : مصدر على وزن فعلى ] . ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) نزلت في أبي جهل ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى القيسي ، قالا حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثني نعيم بن أبي هند ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ، فقال : [ واللات ] [ ص: 480 ] والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، [ عزم ] ليطأ على رقبته ، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص ، على عقبيه ، ويتقي بيديه ، قال فقيل له : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ، وهولا وأجنحة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، قال : فأنزل الله - لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى الآيات .
ومعنى " أرأيت " هاهنا تعجيب للمخاطب . وكرر هذه اللفظة للتأكيد :