التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون (1/2)
الدكتور/ سلمان بن صالح الدخيل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذا بحث في التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون وأحكامها.
وفيه تمهيد ومبحثان:
المبحث الأول: ضرر مجرد التأخير في المماطلة في الديون.
المبحث الثاني: الضرر الناتج عن فوات الربح المفترض في المماطلة في الديون.
تمهيد:
المماطلة في الديون تعود بالضرر على أهل الحقوق من جهة تأخر ديونهم، ومنعهم من الانتفاع بها تلك المدة وعدم تمكنهم من التصرف فيها، وهذا التأخر في سداد الديون هو في نفسه ضرر، وقد يترتب عليه ضرر آخر من جهة فوات أرباح متوقعة أو متيقنة، وقد يكون الضرر فعلياً كأن يحمله هذا التأخر والمماطلة إلى تكبد الخسائر المادية لأجل استخلاص حقه والظفر به أو ببعضه فضلاً عن الضرر المعنوي الذي قد يتكبده الدائن من الحزن والابتذال بالمرافعة والمخاصمة وكثرة التردد، الأمر الذي يتنـزه عن مثله أهل المروءات.
لذا فإن بحث التعويض عن الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون ، من جهة جواز التعويض المالي عنها أو عدمه، يعد من أهم مسائل هذا البحث، وهي من المسائل المعاصرة الملحة في كثير من الجهات ذات العلاقة، وقبل الشروع في بيان هذه الأضرار، يجدر بيان معنى الضرر، وشروط التعويض المالي عنه، وتحرير محل النزاع في التعويض عن أضرار المماطلة في الديون، والكلام في ذلك ينتظم في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الضرر.
والضُّر في اللغة: ضد النفع، ويطلق على سوء الحال، والفقر، والشدة في البدن والمرض(1)، ومنه قوله _تعالى_: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ"(2).
والضرر في الاصطلاح: يطلق على"كل أذى يَلحقُ الشخص، سواء أكان في مال متقوم محترم، أو جسم معصوم، أو عرض مصون"(3).
المبحث الثاني: شروط التعويض المالي للضرر.
نص العلماء على قاعدة هي من القواعد الكبرى في الشريعة، وهي أن الضرر يزال، وقد يكون زوال هذا الضرر بالتعويض المالي، إلا أن التعويض أخص من الضرر، فليس كل ضرر يعوض بالمال كي يزول، وقد ذكر الفقهاء شروطاً لاستحقاق الضرر للتعويض المالي(4)، وهي ما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الضرر في مال.
فلا ضمان على ما ليس مالاً كالكلب والميتة والدم المسفوح.(5)
الشرط الثاني : أن يكون المال متقوماً مملوكاً للمتلف عليه.
وهذا يشمل المباح، فلا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم؛ لسقوط تقوم الخمر والخنزير على حق المسلم(6).
الشرط الثالث: أن يكون في إيجاب التعويض فائدة.
بمعنى إمكان الوصول إلى الحق ودفع الضرر حتى لا يكون إيجاب التعويض عبثاً؛ لعدم القدرة على الوصول إلى الحق، فلا يضمن المسلم بإتلاف مال الحربي، ولا العكس.
الشرط الرابع: أن يكون المتلف من أهل الضمان.
وذلك بأن يكون له أهلية وجوب، وأهلية الوجوب تثبت لكل إنسان بدون قيد ولا شرط (7).
الشرط الخامس: أن يكون الضرر محقق الوقوع بصفة دائمة.
فلا يضمن بمجرد الفعل الضار دون حصول الضرر واستمراره، كمن حفر حفرةً في طريق، فسقط فيها إنسان، فلم يصب بشيء، أو قلع سناً فنبتت أخرى مكانـها(8)، وكذا لا يضمن الضرر المحتمل وقوعه، أو ضرر تفويت الفرصة، أو الضرر المعنوي.
المبحث الثالث: تحرير محل النزاع في الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون، وحكم التعويض عنها:
التعويض عن أضرار المماطلة في الديون، هو أهم المسائل المتعلقة بـهذا البحث؛ وذلك لأنـها هي الصيغة المطبقة عالمياً في معالجة الديون المتعثرة، سواء كان هذا التعثر في السداد بسبب المطل أو غيره، وقد نصت القوانين الوضعية على مشروعية التعويض المالي ضد التأخر في وفاء الديون، ونظراً لانتشار البنوك الإسلامية وتضررها من المماطلة في الديون بشكل أوضح من البنوك الربوية، لكونـها تحرم الربا في معاملاتـها فقد أثيرت هذه المسألة في محيط هذه البنوك الإسلامية، وحصل فيها خلاف بين المعاصرين، وهو ما سنعرضه _بإذن الله_ في هذا الفصل .
وقبل الشروع في تفصيل الأضرار المترتبة على المماطلة في الديون، تجدر الإشارة إلى تحرير محل النزاع في المسألة، وبيان أحكام اتفق عليها الفقهاء المعاصرون بمن فيهم القائلون بجواز التعويض، وهي كما يلي :
أولاً: اتفق الفقهاء المعاصرون على أن المدين المعسر لا يجوز إلزامه بدفع تعويض مقابل تأخيره في الوفاء؛ لأن المعسر مستحق للإنظار إلى الميسرة، والإلزام بالتعويض ينافي الإنظار المأمور به شرعاً.
وقد نص على هذا القائلون بجواز التعويض المالي عن ضرر مماطلة المدين:
قال الشيخ مصطفى الزرقاء: "واستحقاق هذا التعويض على المدين مشروط بأن لا يكون له معذرة شرعية في هذا التأخير، بل يكون مليئاً مماطلاً يستحق الوصف بأنه ظالم كالغاصب" (9).
وقال الشيخ عبد الله بن منيع:" الغرامة لا يجوز الحكم بـها، إلا بثلاثة شروط هي: ثبوت المطل واللي، وثبوت القدرة على السداد، وانتفاء ضمان السداد لدى الدائن كالرهن والكفالة المليئة" (10).
وقال الدكتور الضرير: " لا يجوز أن يطالب البنك المدين المعسر بتعويض، وعليه أن ينتظره حتى يوسر " (11).
ثانياً: اتفق الفقهاء المعاصرون على منع اشتراط التعويض المالي عن التأخر في سداد الدَّين مع تحديد نسبة معينةٍ أو مبلغٍ محددٍ؛ لأن ذلك صورة من صور ربا الجاهلية المحرم( 12).
ثالثاً: يخرج من النزاع ما يحكم به الحاكم من عقوبة تعزيرية مالية إذا رأى المصلحة في ذلك، موردها بيت المال، ومصرفها مصالح المسلمين؛ لأن المال المأخوذ من باب الزواجر لا من باب الجوابر(13).
المبحث الأول: ضرر مجرد التأخير في المماطلة في الديون.
المطلب الأول: صورة ضرر مجرد التأخير في المماطلة في الديون. إذا تأخر المدين في وفاء دينه عن الوقت المحدد المتفق عليه مع الدائن ومضت مدة، فإن مجرد التأخير ضرر، وإن لم يفته به ربح مفترض، أو متيقن، أو تلحق به خسارة، أو يتأثر بشيء ولو معنوياً، فمجرد التأخير ضرر يستحق الدائن مقابله عوضاً مالياً، سواء كان المدين معسراً أولم يكن، بل يستحق التعويض المالي بمجرد التأخر عن المدة المتفق عليها ولو ليوم واحد.
ومثاله: أن يتعاقدا بيعاً مؤجلاً بعد سنة، أو مقسطاً يدفع كل شهر كذا من الثمن، فإذا تأخر المدين عن الوفاء بالتزامه في الموعد المحدد، فإن عليه عن كل يوم مبلغاً من المال قدره كذا،أو ما نسبته كذا من الثمن، تعويضاً عن التأخرفي السداد.
وهذه الصورة هي المطبقة في أكثر البنوك الربوية، والمشروطة في أكثر البطاقات المصرفية الإقراضية، ولها عدة أسماء، منها: الغرامة التأخيرية، والفوائد التأخيرية، أو بدل التأخير، أو خدمة الديون.
المطلب الثاني: حكم التعويض عن مجرد التأخر ذاته.
التعويض عن مجرد التأخر في وفاء الدَّين بصورته السابقة محرم قطعاً، إذ هو عين ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه، فقد كان المدين إذا حل عليه الدَّين قال له الدائن: إما أن تقضي وإما أن تربي.
وهو ما ابتليت به كثير من البنوك وأقرته كثير من الأنظمة،ويقوم عليه التعامل الدولي، وعليه أكثر المصارف في العالم.
وأدلة تحريم هذا التعويض هي أدلة تحريم الربا، وهي كثيرة متنوعة، وأشير إلى بعضٍ منها فيما يلي:
الدليل الأول:
قوله _تعالى_: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" (14)، إلى قوله في آخر الآية: "وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (15).
الدليل الثاني:
قوله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ" (16).
و الدلالة من الآيات من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن الله نص على تحريم الربا، وتوعد من فعله بعد علمه بالتحريم بعذاب النار، وأمر المؤمنين بترك الربا ووضعه، وآذن من لم يذره بالحرب، ومن حارب الله ورسوله فهو الخاسر المهزوم قطعاً.
الوجه الثاني:
دل عموم الآيات على أن الدائن لا يستحق على المدين إلا رأس ماله، وهذا العموم يشمل المدين الموسر والمعسر، والمماطل والباذل، والمدين المماطل داخل في هذا العموم من جهة أنه يجب عليه وفاء رأس المال فقط دون ربا، ولم يستثن من وجوب الأداء إلا المعسر العاجز فينظر إلى ميسرته، فالقول باستحقاق الدائن للتعويض المالي مقابل مماطلة المدين وتأخره في الوفاء مخالف لعموم الآيات.
الوجه الثالث:
أن الربا المحرم الذي كان العرب يأخذونه هو زيادة في مقدار الدَّين مقابل تأخير أدائه، فظهر أن التعويض المالي لأجل التأخر في وفاء الدَّين داخل في الربا المحرم، وتسميته بالغرامة التأخيرية، أو الفوائد التأخيرية، أو تعويضاً عن ضرر، أو أنه عقوبة مالية، لا ينقله من كونه رباً، ولا يؤثر في الحكم بشيء؛ لأن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
الدليل الثاني:
ما ورد عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟: قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " (17).
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على أن الربا من كبائر الذنوب، وذلك يقتضى الترهيب من أخذه ومقارفته، وإلزام المدين بتعويض الدائن مالياً مقابل التأخر في السداد أخذٌ للربا المحرم ومقارفة له، فيكون باطلاً.
الدليل الثالث:
ما ورد عن جابر _رضي الله عنه_ قال: "لعن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ آكل الربا، وموكله، وكاتبه، و شاهديه، وقال: هم سواء " (18).
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على تحريم الربا أخذاً وإعطاءً وتعاوناً عليه، وإلزام المدين بدفع زيادة على رأس ماله مقابل تأخره في الوفاء هو من الربا المحرم، فيحرم وإن سُمِّيَ تعويضاً عن ضرر الدائن.
الدليل الرابع:
ما ورد عن جابر _رضي الله عنه_ في قصة حجة الوداع أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال:" ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله "(19).
وفي لفظ: " ألا وإن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون " (20).
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث أن الربا موضوع وباطل، وذلك يقتضي تحريم أخذه، وعليه فليس للدائن على المدين إلا رأس ماله فقط، وإلزام المدين بدفع تعويض مالي زائد على أصل دينه مقابل مماطلته في الوفاء مخالف لمدلول الحديث.
الدليل الخامس:
إجماع العلماء على تحريم الربا، ومن الربا المحرم: الزيادة على أصل الدَّين لأجل تأخير وفائه، ومن أنواع الزيادة الربوية المحرمة: تعويض الدائن عن مماطلة المدين المماطل؛ لأنـه زيادة في مقابل التأخر في الوفاء، والإجماع منعقد على تحريم الربا، ومن عبارات العلماء في ذلك ما يلي:
قال ابن المنذر: " وأجمعوا أن المسلف إذا شرط عند السلف هدية أو زيادة، فأسلف على ذلك، أن أخذه الزيادة ربا " (21).
المبحث الثاني: الضرر الناتج عن فوات الربح المفترض في المماطلة في الديون. .
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: صورة الضرر الناتج عن فوات الربح المفترض في المماطلة في الديون.
إذا تأخر المدين في وفاء دينه عن وقته المحدد المتفق عليه مع الدائن ومضت مدة كان من المفترض أن يربح فيها الدائن من ماله لو أنه سُلِّم إليه في وقته، إذ بإمكانه أن يستثمره في تجارة أو مضاربة أو مزارعة ونحو ذلك، إلا أن المدين بمماطلته وعدم وفاء الدَّين في وقته قد فوت على الدائن تلك الأرباح المفترضة، فهل له المطالبة بتعويضه عن ضرر فوات هذا الربح الذي كان يتوقع حصوله لولا المماطلة في الديون أم لا؟
مثاله: باع رجل سيارة بيعاً مؤجلاً بمئة ألف ريال إلى سنة – بمرابحة قدرها العُشْر مثلاً- فماطل المدين في الوفاء سنتين، فلو أن ماله سدد في حينه ولم يماطل به لأمكنه تكرار هذه المرابحة مرتين خلال السنتين اللتين ماطل فيهما المدين، ولربح فيها ربحاً مقداره عشرون ألفاً تقريباً، فهل للدائن أن يطالب المدين المماطل بتعويضه عن ضرر فوات ربحه المفترض خلال سنتين أم لا؟
المطلب الثاني: حكم التعويض عن الضرر الناتج عن فوات الربح المفترض في المماطلة في الديون اختلف العلماء المعاصرون في حكم تعويض الدائن عن ضرر فوات منفعة المال وربحه بسبب مماطلة المدين القادر على الوفاء على قولين:
القول الأول:
عدم جواز إلزام المدين المماطل القادر على الوفاء بتعويض مالي غير مشروط في العقد يدفعه للدائن مقابل فوات منفعة ماله وتضرره بذلك مدة التأخير.
وبـهذا القول صدرت قرارات المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، وهو قول جمهور العلماء المعاصرين (22).
جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشر عام 1409هـ ما نصه: " إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو قرض باطل، ولا يجب الوفاء به بل ولا يحل، سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره؛ لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه " (23).
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السادسة المتعلق ببيع التقسيط ما يلي:
" ثالثاً: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدَّين، بشرط سابق أو بدون شرط؛ لأن ذلك ربا محرم.
رابعاً: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء" (24).
وجاء في معيار المدين المماطل المعتمد من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ما يلي: "(ب)لا يجوز اشتراط التعويض المالي...سواء كان التعويض عن الكسب الفائت (الفرصة الضائعة)، أم عن تغير قيمة العملة. (ج) لا تجوز المطالبة القضائية للمدين المماطل بالتعويض المالي نقداً أو عيناً عن تأخير الدَّين" (25).
ومنعته أيضاً هيئة الرقابة لبنك التنمية التعاوني الإسلامي بالسودان بتأريخ 6/8/1406هـ(26).
القول الثاني:
جواز إلزام المدين المماطل القادر على الوفاء بتعويض مالي غير مشروط في العقد يدفعه للدائن مقابل فوات منفعة ماله مدة التأخير.
وقال به بعض المعاصرين (27).
قال الزرقاء:" مبدأ تعويض الدائن عن ضرره نتيجة لمماطلة المدين وتأخير وفاء الدَّين في موعده مبدأ مقبول فقهياً، ولا يوجد في نصوص الشريعة وأصولها ومقاصدها العامة ما يتنافى معه، بل بالعكس يوجد ما يؤيده ويوجبه واستحقاق هذا التعويض على المدين مشروط بأنه لا يكون له معذرة شرعية في هذا التأخير، بل يكون مليئاً مماطلاً يستحق الوصف بأنه ظالم كالغاصب " (28).
وقال الشيخ عبد الله بن منيع: " القول بضمان ما فات من منافع المال نتيجة مطل أدائه لمستحقه قول تسنده قواعد الشريعة وأصولها، والنصوص الصريحة والواضحة في ذلك من كتاب الله _تعالى_ وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ " (29).
وأصحاب هذا القول مختلفون أيضاً: في حقيقة هذا المال المدفوع للدائن، هل هو عقوبة تعزيرة زاجرة، أم أنـها تعويض مالي جابر لضرر واقع؟ ويترتب عليه كيفية تقدير المال المدفوع. ومن له سلطة التطبيق؟ خلاف على رأيين:
الرأي الأول: أن غُرْمَ هذا المال بناء على أنه تعزيز بالمال، والتعويض إنما هو على سبيل التبعية، وعلى ذلك فمقدار التعزير بالمال لا يشترط أن يكون مساوياً للضرر الحقيقي الفعلي، أو الربح الفائت، وهو رأي الشيخ عبد الله بن منيع.
قال _حفظه الله_ تعقيباً على الشيخ مصطفى الزرقا: " ومع اتفاقي مع فضيلته في النتيجة إلا أنني أرى أن العقوبة المالية تعزيرية، وليست تعويضاً " (30).
وقال بعد ذلك: " ولكننا نقول بأنـها عقوبة وليست تعويضاً إلا على سبيل التبعية"(31).
وقال في موضع آخر: " خلاصة هذه الوقفة: أننا إذا اعتبرنا ما يأخذه الدائن من المدين تعويضاً فقط، فهذا الاعتبار يحيل الأمر من حل إلى تحريم... وإن اعتبرنا ما يغرمه المدين من مال لقاء مطله عقوبة ليس لها ارتباط أو علاقة بحجم الضرر الواقع على الدائن من المطل، وإنما تكييفها وتقديرها راجع إلى ما يوجب الردع والزجر، فهذا الاعتبار صحيح"(32).
الرأي الثاني: أن غُرْمَ هذا المال بناء على أنه تعويض للدائن عن ضرره الذي أصابه بسبب مماطلة مدينه، وعليه فقد شرطوا أن يكون التعويض مساوياً للضرر الواقع.
ثم اختلف أصحاب هذا الرأي فيمن يتولى تقدير التعويض، وكيفية تقديره:
(1) يرى الشيخ مصطفى الزرقا: أن القضاء وحده هو صاحب السلطة الوحيد في تقدير التعويض، وتقدير ضرر الدائن، وتقدير عذر المدين في التأخر، ولا يجوز الاتفاق مسبقاً بين الدائن والمدين على تقدير معين لضرر تأخير الدَّين.
وتقدير الضرر يكون بمقدار ما فات من ربح معتاد في طريق التجارة العامة بأدنى حدوده العادية، فيما لو أنه قبض ماله واستثمره بالطرق المشروعة الحلال في الإسلام كالمضاربة والمزارعة ونحوهما ولا عبرة لسعر الفائدة المصرفية، وتعتمد المحكمة في هذا التقدير رأي أهل الخبرة في هذا الشأن، وبعد وجود البنوك الإسلامية يمكن للمحكمة أن تعتمد في تقدير التعويض بناء على ما توزعه البنوك الإسلامية من أرباح سنوية(33).
(2) يرى الدكتور الضرير: أنه يجوز الاتفاق بين الدائن والمدين - العميل والبنك- على التعويض عن الضرر الحقيقي الفعلي مسبقاً.
ويكون تقديره على أساس الربح الفعلي الذي حققه الدائن – البنك - في المدة التي تأخر فيها المدين عن الوفاء(34).
(3) أن التعويض يكون بقدر الربح الذي حصل عليه المماطل من جراء متاجرته بالمال الذي ماطل فيه(35).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بعدم جواز إلزام المدين المماطل بدفع تعويض مالي للدائن عن ضرر فوات منفعة ماله وربحه خلال مدة المماطلة بمايلي:
الدليل الأول:
عموم أدلة تحريم الربا، ومنها:
قوله _تعالى_: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا"(36).
وقوله _تعالى_: "وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة"(37).
وجه الدلالة من الآيتين:
دلت الآيتين على تحريم الربا وإبطاله، ورد أصحاب الديون إلى رؤوس أموالهم بلا زيادة ولا تعويض عن تأخرٍ في الوفاء، ولم تفرق في ذلك بين موسر ومعسر، وبيان ذلك تفصيلاً من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن تعويض الدائن عن ضرر فوات منفعة المال مدة المماطلة إنما هو عوض عن تأخر أداء الدَّين، فهو زيادة في دين ثابت مقابل الأجل، وهو عين ربا الجاهلية الذي كانوا يفعلونه، وصورته: إما أن تقضي وإما أن تربي، واختلاف الاسم لا يغير في المعنى والحكم شيئاً، والعبرة بالمقاصد لا بالألفاظ (38).
الوجه الثاني: أن آيات تحريم الربا ورد الدائن التائب عن الربا إلى رأس ماله عامة،لم تفرق بين مدين معسر ومدين موسر باذل ومدين مماطل، فالزيادة على رأس المال ربا، سواء كان المدين موسراً أو معسراً، والفرق بين المعسر والموسر إنما هو في وجوب الإنظار إلى الميسرة وترك المطالبة (39).
الوجه الثالث: أن تخصيص المماطل بالتعويض دون المعسر مخالف لمدلول الآيات التي حرمت الظلم على الطرفين، فظلم الدائن هو أخذه زيادة على رأس ماله، وظلم المدين هو مماطلته بوفاء رأس مال الدَّين لصاحبه، ولم يخص المعسر إلا بوجوب إنظاره إلى الميسرة.
الوجه الرابع: أن التعويض المالي عن ضرر المماطل ظلم بنص الآية؛ لأنه زيادة على رأس المال، ولو كان المماطل ظالماً بمطله، فإنه لا يجوز رد الظلم بظلم آخر(40).
الوجه الخامس: أن الله _عز وجل_ أبطل الربا ورد الدائن لرأس ماله فحسب، ولو كان يستحق تعويضاً عن ما فاته من منافع ماله المحتمل، لبين ذلك وأوضحه وفرق بين الصورتين.
المناقشة:
نوقش الاستدلال بالآيتين بعدم التسليم بأن التعويض عن ضرر المماطل من جنس الربا، وذلك من أربعة أوجه، وهي كالتالي:
الوجه الأول:أن الزيادة الربوية في مسألة ( أتقضي أم تربي ) في غير مقابلة عوض، فهي نتيجة تراض بين الدائن والمدين على تأجيل السداد مقابل زيادة في الأجل، أما التعويض فهو مقابل تفويت منفعة على الدائن بلا رضاً منه(41).
الإجابة:
أجيب عن ذلك بما يلي:
أولاً: عدم التسليم بأن الزيادة الربوية في غير مقابلة عوض، بل هي في مقابلة عدم الاستفادة من المال خلال مدة التأجيل، وحبس المال، وعدم انتفاع صاحبه به.
ثانياً: أن المرابين المعاصرين حللوا أخذ الربا بمثل هذا التعليل، وابتكروا نظرية الفرصة الضائعة لتبرير أخذ الربا المحرم، و هي نفسها حجة من يرى التعويض، ولو كان التعويض عن الربح الفائت على صاحب الدَّين جائزاً، لأباح الشارع الفائدة على الديون المأخوذة للاستثمار في التجارة والصناعة؛ لأن هذه الفائدة تعويض للدائن عن منافع ماله مدة بقائها عند المدين، وكذا المقرض بلا فائدة تلحق به مضار وتفوته منافع من جراء قرضه المجاني، ولم يُبَحْ له زيادةٌ أو نفعٌ يزيد على رأس المال إن وقع مشروطاً ونحوه، فدل ذلك على أن التعويض نوع من الربا (42).
يتبع