التناص من دواعي البيان (2)
محمد صادق عبدالعال
سبَق أنْ تعرَّضنا للتناص لغةً وترادفًا، ووثَّقْنا الكلامَ بمشروعيته مِن خلال فتوى نُشِرَت عن موقع دار الإفتاء العام، المملكة الأردنية الهاشمية، وذَكَرْنا أمثلةً لبعضِ الموضوعات التي أُخِذ بآلية التناصِّ فيها.
ويبقى الموضوع موصولًا والقول معروضًا، وأرى أنَّها الشوكة التي يُشاكها الرافضون حين ترد جملة مُتناصَّة من القرآن بأيِّ جنسٍ أدبيٍّ، كآليةٍ من الكاتب لتمييز العمل المكتوب عن غيره، وإمكانية التحوير والتدوير، أو الاقتباس أو التضمين، بما يتناسب مع جوِّ النصِّ وبيئتِه، وما زلنا نُذكِّر بأنَّ:
"التناص إعلاءٌ مِن شأن البيان، ودَربٌ من دروب البلاغة، تُزيَّن به صفحاتُ الكتاب، ويُظهر العمقَ الثقافيَّ والمسكوت عنه مِن ثقافة المبدِع، يتحقَّق منها القارئ والمطَّلِع، وفيه إظهارٌ لمفاتن السَّرْد ومباهِج الحكمة، وتحوُّلٌ مِن المباشَرَة في الكلام إلى الالتفات وإظهارِ هُويَّة الذات، وربط بين مشتقَّات الإبداع، فلا يوجد نصٌّ وليد الساعة، فهو موروثٌ رغم أنف كاتبه، وإن أبدَع فيه وزَخْرَفَه".
ولقد أردفت بعدها من البستان البهيج ذي الطلع النضيد خير ما يقتدَى به.
وفي ورقة بحثية طُلبت منِّي لإلقائها على جمهور من الكُتَّاب والشعراء؛ إذ كان موضوعُ الندوة: "التناص واللغة التراثية في الإبداع الشعريِّ - عنونتُ الورقة بـ: "التناص والتراث في الأنساق الأدبية".
ثمة علاقة وثيقة بين التناصِّ كآليةٍ لأسلوب القَصِّ والسرد والتراث كمادةٍ أو كوعاء حاملٍ لذاكرةِ الأُمَّة الأدبيَّة والفكريَّة؛ وتأتي تلك العلاقة مِن كاتبٍ يُؤمن بقيمة التراث في تهذيب الأخلاق، والكشف عن مناقبِ الشمائل وجميل الخلال التي تزيَّنتْ بها صفحات السلف، حتى ولو اعتراها الاندثار والتلَف، ودَرْءًا للنظرة الأعجميَّة لها على أنها رِدَّة لزمنٍ لم يَعُدْ يُواكَب، وحقب لم تُعد في الحسبان، ودليلهم تقنيات العصر وانفتاح النوافذ الغربية على العربية والعكس، وسيل العولمة الجارف الذي أتى على القديم والموروث ليعزِّز وليغرس في نفوس الطامحين فكرةَ الحضارة على شاكلته التي تُرضِي غروره.
التراث كمادة وذاكرة أُمَّة، والتناص كآلية للعَرْض الجيد.
ولو حاولنا مِن باب الإنصاف الربط بين التراث كمادةٍ نصُّها طيب، ونظمها حلو، ولغة التناص كرقي بالكتابة؛ رجاء إخراج عمل أدبيٍّ راقٍ، لخَرَجَتْ علينا من بني جلدتنا كتائبُ عربيةٌ مِن أرباب الفكر والقلم لتنتقد - وبشكلٍ لاذع -طريقة السَّرْد والعَرض.
إنَّ العلاقة بين التناصِّ والتراث تُشبه إلى حدٍّ كبير الصانع وأدوات صنعته، فمَن أجادَ اختيارَ الألفاظ وأعلاها بيانًا استطاع - وبشكلٍ متقن - إخراجَ العبارة المتناصَّة غير متكلَّفة ولا مصنوعة، جميلة مرفوعة، بأيدي كتَبَةٍ صفحاتهم سَفَرة، حماة بَرَرَة لموروثنا وكتابنا العظيم الذي عُرف بسموِّ قَدْره وعُلُوِّ شأنه.
التناص نَسبٌ ونشأة:
ولقد ذَهَبَ فريقٌ مِن الكُتَّاب في دراساتهم النقدية إلى اعتبار أنَّ التناصَّ "غربيُّ النشأة"، وليس من إنتاج العرب أنفسهم، ولا مِن مسالك البلاغة والبيان، واعتبروا أنَّ "التضمين" أكثر استخدامًا وتفاعُلِيَّة في النصوص العربيَّة، وضَرَبوا أمثلةً مِن القرآن الكريم لاشتمال النصوص القرآنيَّة على مضامينَ كثيرةٍ للمعنى؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: لا تصرف عيناك النَّظر عنهم.
ولكنَّ الكاتب المتمكِّن ذا الذائقةِ الأدبيَّة يجد مراغمًا كثيرًا وسَعَة في اقتباس نماذجَ متناصَّة من القرآن أو الحديث أو مخرجات التراث العربيِّ لتجميل وتحوير كلامه؛ ليوطِّد لدى المتلقِّي فكرةَ أنَّ القرآن لغةُ كلِّ عصرٍ رغم أنف الحاقدين.
وعند "مليكة" الخبر اليقين:
ومِن موقع تقنيٍّ بالشبكة العنكبوتية، اطَّلعت على نبذة عن تلك الإشكالية بعنوان: مفهوم التناص، المصطلح والإشكالية/ لمليكة فريحي - الجزائر عود الند/ مجلة ثقافية فصلية/ // sn 1756-4212، الناشر: د. عدلي الهواري:
تقول أ/ مليكة فريحي: "اختلفت الدراسات النقديَّة العربيَّة في تحديد مفهوم التناصِّ، وإعطاء الجذور التأصيليَّة له؛ فهناك مَن يرى أنَّه مولود غربيٌّ، ولا يمكن أنْ يُنسبَ لغيره، وأمَّا البعض الآخَر فخرج عن حيِّز هذه الفكرة، وفتح الشهية للمعركة النقديَّة، من خلال العودة إلى جُذور الثقافة العربيَّة، رغبةً في إيصال مفهومِ التناصِّ إلى نسَبه الحقيقيِّ، وأنَّ ظهورَه إلى الساحة الغربيَّة لم يكن إلا عن طريق التبنِّي؛ بحيث أعطت المحاولات النقديَّة التي احتكَّتْ بالموروث العربيِّ القديم بوادر للتنقيب عنه، ومدى احتواء الوعي العربيِّ على تجاوب العناصر الثلاثة للاتصال، والمتمثِّلة في المرسل والرسالة والمرسل إليه، وقد دخلتْ فيه عدَّة مفاهيم مِن السرقات، ووقع الحافر على الحافر، والحفظ الجيد، وتوارد الخواطر، وانصبَّ ذلك على الجانب الشعريِّ كموضوعٍ للدراسة"؛ (45أ-).
ذلك قولُها.
ولعلَّنا ندري سبب قصة "وقع الحافر على الحافر" التراثيَّة، حينما سَرَق أحدُ الشعراء قصيدةً من قصائدِ عمر بن الفارض: (1180 - 1234 م) المولود بالقاهرة، والملقَّب بسلطان العاشقين.
قال مبررًا: وقع الحافر على الحافر؛ فردَّ عليه مستمعوه: من الأول للآخِر؛ أي ليست القصيدة توارُد أفكار، بل هي مسروقة، ولا مجال للخوض في ذلك!
إنَّ المرتجى من دراسة الفُضْلى أ/ مليكة فريحي هو: الوقوف على شرعيَّة نسب التناصِّ، فقد اختلف جمهورٌ في عربيَّته، وذَهَب آخرون إلى كونه مستحدثًا قادمًا من الغرب، يُؤخذ التضمين كأسلوب بلاغيٍّ بديلًا عنه!
وهنا نتعجَّب، ولربما حال بنا الحال لنضحك في تلك المفارقة العجيبة؛ إذا كان التناصُّ وافدًا من الغرب يُنبذ لكونه لا يمتُّ لبلاغةِ العرب بذات صلة، وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك؛ فما بالكم بالقصة القصيرة ذات المنشأ العربيِّ الأصيل تُردُّ للغرب وأربابه؟ والقصة القصيرة في حُكْم العرب وأمثالهم التي ضُرِبَت وصارتْ تراثًا تتناقله الأجيال، ثم الأسمى من ذلك والأَوْلى بإيراده هو إيراد القرآن الكريم وتصديره قَصصًا لنا في غالب السور القرآنيَّة، تَحمل جميع دلالات القصَّة وأشكالها البنائيَّة، لكننا نمتري بها ونعدُّها تراثًا وما هي بتراثٍ!
أفضل ما نُقِل عن الكاتبة هو تأكيدها على أنَّ التناصية ظَهَرَتْ بوادرها في الحقل الروائيِّ، أمَّا معيارُ النقد القديم فانصبَّ اهتمامه على معالجة التجربة الشعرية، ومدى تناقلها بين الشعراء، وتظهر هذه العلاقة من خلال البيت الواحد أو القصيدة، فرغم أنَّ معالجة النقد العربيِّ القديم كانتْ جزئيةً في معالجة هذا الموضوع والحكم عليه، من خلال تجزئة النصوص في التناول الجزئيِّ، وذلك باعتبار أنَّ القصيدةَ العربيَّة كانت أبياتًا شعريَّة، والحكم أنَّ التحليلَ كان جزئيًّا وليس كليًّا، ووصفها بمحاولةِ التوصُّل اللاهثة إلى النصِّ - كان المفهوم القديم مجرَّد تحليل جزئيٍّ للنصوص في إطار علاقة أحاديَّة.
وهنا الكاتبة قد بيَّنَتْ حقيقة أنَّ التناصَّ كان للعمل النثريِّ السرديِّ كالرواية؛ أمَّا معايير النقد القديم فقد صبَّتْ جلَّ اهتمامها على الشِّعر، الذي أثَّر بالضرورة على مكانةِ القصة القصيرة بين الناس إلى وقتنا الحاضر، وقد بيَّنا ذلك في محله.
إذًا العلاقة بين جميع الأجناس الأدبيَّة مِن قصٍّ وشِعْر ونثر ومقالة يربطها عنصر اللغة، كأداةٍ للتفاهم والبيان وحسن العَرْض، ووسائط عرض البهيج مِن تلك الأجناس؛ فلا يوجد قاصٌّ لا يقرأ الشِّعر، ولا روائيٌّ لا يحبُّ النثر والسرد؛ فاللغة تجذب المحبين إليها، فتراهم يذهبون لما راموا في أشكال عُروضِهم.
ولنفرض أنَّ التناص ظاهرةٌ حديثةٌ لم يتجاوز مداها ما يقارب ربع قرنٍ من الزمان، وإنه غربيُّ النشأة، فمَن أولى بالتناص؟ أو مَن أجدر بأن يتناصَّ؟ الغرب أم العرب بما لهم من كتاب فُصِّلت آياتُه، ثمَّ أُحكمت إحكامًا دقيقًا، له من مقومات البلاغة ما تجعله منبعًا لا ينضب، ومنهلًا متجددًا لا يسأم منه الطالب، كما يجد الراغب فيه منتهى الأرب؟
يتبع