بداية الشعر الجاهلي (2)
د. إبراهيم عوض
أما بالنسبة لحماد وما اشتهر به من كذب ونَحْل، فإني أتساءل بدوري: إذا كان حماد على هذه الشاكلة من الاشتهار بالنحل والتلفيق، وكذلك باللحن والكسر فوق البيعة بما يعني أنه من الشعر لا في العير ولا في النفير، فما الذي كان يضطرهم إلى اللجوء إليه دائمًا وسؤاله عما في جعبته من جديد؟ ثم هل من الحتم اللازب أن يعرف بلال بن أبي بردة كل شعر الحطيئة، أو كانت ذاكرته قرصًا مدمجًا سُجل عليه كل شعر الشاعر الهجَّاء فلا يند عنها شاردة ولا واردة من ذلك الشعر؟ كذلك أليس من حقنا أن نسمع رد المتهم على التهمة الموجهة إليه؟ لكن للأسف تسكت الرواية عند هذا الحد فلا تعطي المسكين الفرصة لإبداء وجهة نظره! ثم من يا ترى أنبأ الناس بما دار بين بلال وحماد من حوار واتفاقهما في نهاية الأمر على ترك القصيدة المزيفة تذيع في الناس؟ إن أيًّا منهما لا يمكن أن يكون هو من روى القصة، وإلا لكان كمن يحفِر قبره بيده، كما أنه لم يكن هناك إلا هما وحدهما كيلا يقول قائل: إن شخصًا ثالثًا هو الذي فضح الأمر، أما لو افترضنا بعد ذلك كله أن قد كان هناك شخص ثالث، فإنهما لم يكونا ليجرُؤَا على قول هذا الكلام بمسمع منه؛ حتى لا يشوها صورتهما في عينه، وفي "الأغاني" أن المدائني كان ينسب القصيدة المذكورة للحطيئة فعلًا! فما الذي يمكن أن نقوله هنا؟ وهذا هو نص "الأغاني": "وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو فأنشده: "جمعْتَ مِن عامرٍ فيه ومِن أسد"، وذكر البيتين وبينهما هذا البيت وهو:
فما رضِيتَهمُ حتى رفَدْتَهمُ ♦♦♦ بوائلٍ رهطِ ذي الجدَّين بسطام"
ثم هل يقدح خطأ حماد في نسبة قصيدة أعشى هَمْدان لطرفة في أمانته بالضرورة؟ ألا يمكن أن تكون المشكلة مشكلة ذاكرة لا مشكلة ضمير؟ وهل هذا هو النص الشعري الوحيد الذي أحاط به الخلاف حول نسبته لصاحبه حتى نذهب لنعلق المشنقة لحماد؟ ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام وجهة النظر الخاصة بأحد الطرفين دون الآخر، وكأن حمادًا خرس فلم يُحِرْ جوابًا وسلَّم بما قيل في حقه، وأين هذا؟ وعجيب أن يقال في حماد: إنه كان ينحل شعر الرجل غيره، هكذا دون إبداء الأسباب، ترى لماذا كان يفعل ذلك؟ أكان مصابًا بلوثة في عقله تجعله يتبرع من تلقاء نفسه بخداع الناس وإنفاق وقته وجده في ذلك "لله في الله"؟ وأعجب من هذا أن يقال: إنه كان يزيد في الأشعار رغم ما اتهم به في ذات الوقت من أنه كان يلحن ويكسر الشعر، يا له من أحمق! لكن ما القول في الذين كانوا يصرون بعد هذا كله على البحث عنده دائمًا عن الجديد في الشعر؟ أليسوا مثله حمقى بل أعرق منه في الحماقة وأوغل؟ وأعجب من هذا وذاك أن يلقب هذا الكذاب الوضاع الخالي من الموهبة الشعرية بـ: "الراوية"؟ إن مثل هذا اللقب ليس له في الواقع من معنى إلا أنهم كانوا يحترمون روايته ويقدرونها حتى إنهم لم يروا فيه إلا أنه "راوية"! وفي "الأغاني" أن المفضل الضبي قد وصفه بأنه "رجل عارف بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يُشبه به مذهب رجل ويُدخله في شعره ويُحمَل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء"؛ أي إنه كان عالمًا بالشعر ذا بصيرة نقدية عجيبة فيه وصاحب موهبة وبراعة في التقليد ومقدرة على خلط الأمور حتى لتتداخل الأشعار الصحيحة والزائفة على يديه فلا يميز بينهما إلا عالمٌ خِرِّيت، فمن نصدق يا ترى؟ أنصدق من يرميه بالجهل الفاحش بالشعر وباللحن والكسر فيه، أم نصدق من يصوره بصورة العبقري الجِهبذ الذي لا يُعجزه في هذا الميدان شيء؟
وهناك خبرانِ آخرانِ غريبان عنه في "الأغاني"، مُفادهما أنه بقي يكذب على الناس ويضع لهم الشعر الجاهلي المنحول على مدى عشرات السنين، على الأقل من أيام الخليفة الأموي الوليد بن يزيد (الذي نجح في امتحان عقده له كي يثبت أنه يحفظ فعلًا لمن لا يعرفهم من الشعراء مائة قصيدة على كل حرف من حروف الألفباء) حتى عصر المهدي ثاني خلفاء بني العباس حين اكتشف تلاعبه فنادى في الناس ألا يقبلوا روايته، وكأن الدولة الإسلامية كان من مهامها نقد الأدب والكشف عن الشعر المنحول! فهل يقبل العقل أن يظل الرجل يضحك على ذقون العرب كل هاتيك العشرات من السنين دون أن يكشفه أحد قبل المهدي العباسي، وكأنه يتعامل مع أمة من الأفدام الأغتام البائسين؟ وأخيرًا - وليس آخرًا - نجد ابن سلام يبدأ كلامه قائلًا: إن الشعر العربي لم يعرف غير الرواية الشفوية، ليعود فيضيف بعد قليل أنه كان هناك قسط كبير منه مقيدًا في ديوان عند النعمان بن المنذر وانتهى مطافه إلى أيدي بني مروان، وذلك القسط، حسب كلامه، هو أفضل الشعر الجاهلي من الناحية الفنية؛ لأنه شعر الفحول ومَن مدحوا النعمان وأسرته، وهذا تناقض واضح!
كذلك نقرأ في "تاريخ بغداد" لأبي بكر الخطيب أن أبا عمرو الشيباني، وهو أيضًا راوية كوفي كحماد، كان يجمع شعر القبائل، حتى إذا انتهى من شعر إحداها كتب مصحفًا بخطه ووضعه في مسجد الكوفة، ومع هذا فقد كان خصومه يتهمونه بالسرف في شرب الخمر رغم إقرارهم بأنه ثقة في روايته، ويعلق طه حسين قائلًا: "وأكبر الظن أنه كان يؤجر نفسه للقبائل، يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها"؛ (طه حسين/ في الأدب الجاهلي/ 171)، وهو ما يعني أن من البشر مَن يظل يقول: "عنزة" ولو طارت، ومنهم طه حسين، فها هو ذا الشيباني قد اجتمع خصومه وأنصاره على توثيقه، بَيْدَ أن طه حسين لا يعجبه العجب، فيتهم الرجل بأنه كان يؤلف الشعر وينسبه إلى شعراء القبائل التي تدفع له، أما من أين أتى طه حسين بهذا الكلام، فينبغي أيها القارئ أن تخر على ما يقوله ساجدًا موافقًا ولا تسأل مثل هذا السؤال، وعجيب أن يسرف طه حسين في الشك في الشعر الجاهلي حتى لَيزعم أنه كله تقريبًا مصنوع صُنعًا، حاطبًا هكذا في حبل مرجليوث المستشرق البريطاني الخبيث مع بعض التلاوين التي لا تقدم ولا تؤخر، ثم يصدق دون أدنى تفكير أو محاولة في التثبت أية رواية تشكك في علماء المسلمين، بل يخترع لبعضهم الاتهاماتِ اختراعًا، كما رأينا في حالة الشيباني المسكين!
أيًّا ما يكن الأمر، فإن ما قاله ابن سلام، وهو أكثر المؤلفين العرب القدماء شمولًا وتفصيلًا في الحديث عن النَّحْل والانتحال في الشعر الجاهلي، لا يُعد شيئًا إلى جانب ما كتبه المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث في بحثه الذي نشره في عدد يوليه 1925م من المجلة الآسيوية الملكية بعنوان "The Origins of Arabic Poetry"، والذي انقضَّ فيه على الشعر الجاهلي يَنفيه كله نفيًا باتًّا لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا، ويتهم العلماء العرب في العصر العباسي بأنهم قد صنعوا ذلك الشعر صناعة ولفَّقوا له أسماء شعراء فوق البيعة، وجاء على إثره طه حسين فردد مقولته تلك العجيبة حذوك النعلَ بالنعل، اللهم إلا بعض الخيوط الرفيعة التي لا تُذكر؛ إذ كل ما هنالك أنه، في الوقت الذي يزعم فيه مرجليوث أن "كل" الشعر الجاهلي منحول زائف، فإن طه حسين يحاول أن يبدو مستقلًّا عن متبوعه فيقول: "جُله، إن لم يكن كله"، أما فيما عدا ذلك فقد أخذ طه حسين من المستشرق البريطاني الموتور أدلته واتجاه بحثه، وعبثًا يحاول أنصار طه حسين تبرئته والادعاء بأنه لم يأخذ شيئًا من مرجليوث، رغم أن الدلائل والشواهد جميعها تنطق بأقوى لسان بأنه إنما أغار على بحث مرجليوث إغارة شاملة، وإن وشَّاه ببعض التزاويق والحذلقات التي ظن أنها يمكن أن تغطي على سرقته، بل إن مرجليوث نفسه قد اشترك في اللعبة مدافعًا عن ناهب فكرته، زاعمًا أن البحثين قد صدرا تقريبًا في وقت واحد، بينما يفصل بينهما عشرة أشهر كاملة، كما أن طه حسين في كل ما كتب قبل ذلك التاريخ من مقالات وكُتُب كان يتحدث عن شعر الجاهلية حديثَ المطمئن له تمام الاطمئنان، بل إنه في آخر ما كتب في هذا الموضوع قبل مرجليوث - وكان ذلك في الفصل الأول من كتابه: "قادة الفكر"، الذي سبق صدورُه صدورَ بحث مرجليوث بشهرين تقريبًا (في إبريل 1925م على وجه التحديد) - قد جعل من الجاهلية وأشعارها أساسًا لحضارة الإسلام، مؤكدًا أنه لولا هذه الأشعار وأصحابها ما كان الخلفاء والعلماء والقُوَّاد المسلمون، وقد ألحَّ على هذه الفكرة إلحاحًا كبيرًا، في الوقت الذي ذكر معها شك بعض الباحثين الأوربيين المحدَثين في وجود هوميروس، وهذا نص عبارته: "علامَ تقوم الحياة العربية في بداوة العرب وأول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر!... هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَن ظهر مِن الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟"؛ (قادة الفكر/ ط9/ دار المعارف بمصر/ 10 - 11)، لكنه ما إن ظهر بحث مرجليوث ووصل إلى أيدي الباحثين والعلماء في مصر حتى رأيناه ينتكس على رأسه وينتقل مائة وثمانين درجة مرددًا عكس ما كان يردده طوال تلك السنين التي أربت على الخمس عشرة سنة منذ أول مقال وجدته يتناول فيه الكلام عن الشعر الجاهلي، كما وضحت في بحث لي كتبته منذ أكثر من سبع عشرة سنة ونشرته على المشباك منذ عدة سنوات بعنوان: "نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي: سرقة أم ملكية صحيحة؟".
وقد عقدت لبحثي طه حسين ومرجليوث دراسة مستفيضة قارنت فيها بينهما، وانتهيت إلى أن الدكتور طه لم يأتِ بشيء أساسي غير ما قاله المستشرق البريطاني، وهذه الدراسة متاحة لمن يريدها في كتابي: "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين": فكلاهما ينفي الشعر الجاهلي كله، وإن تظاهر طه حسين بأن من الممكن أن يكون بعض ذلك الشعر صحيحًا، لكنها صحة نظرية؛ لأنه في ذات الوقت يحرص على إثارة الريبة في ذلك الشعر جميعه متحججًا بأنه يجري في ذلك على الشك المنهجي الذي يُنسب للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وهو ما بينت أنه لا أساس له من الصحة؛ إذ إن طه حسين لم يفهم تلك الفلسفة ولا نجح في تطبيقها على موضوعه، فقد دخل الساحة وفي ذهنه التشكيك في الشعر الجاهلي لا لشيء إلا لأن مرجليوث قد شكك فيه، فكان لا بد له بدوره من الشك والتشكيك في كل ما يتعلق بذلك الشعر كأنه صدى صوت المستشرق البريطاني أو بُوق فمه، مع الاطمئنان في نفس الوقت إلى كل نص آخر ما دام يمكن الالتواء به لخدمة فكرته التي سرقها من مرجليوث بمباركة صاحبها كما رأينا، ولو كان يفهم فعلًا ذلك الشك المنهجي، أو على الأقل: لو كان مخلصًا وجادًّا في تطبيقه على بحثه، لوقف من كل النصوص التي بين يديه موقف الاحتراز والارتياب إلى أن يظهر له أنها تستحق الاطمئنان حقًّا.
كما أن كليهما يهاجم الرواة الشفويين الذين يقول مؤرخو الأدب العربي بوجه عام: إنهم هم الذين حفظوا للأجيال التالية أشعار الجاهلية، ويشكك في مقدرتهم على أداء تلك المهمة، وفي الوقت ذاته ينفي كلاهما أن يكون العرب في ذلك الوقت على معرفة بالكتابة بحيث يستطيعون أن يسجلوا ذلك الشعر لو كان له فعلًا وجود، كي يحفظوه من الضياع، وبالمثل فكل منهما يعتمد في نفيه لذلك الشعر على اختفاء اللهجات القبلية من قصائده، ومجيئه كله في قالب فصيح، مما يشير إلى أن العرب كانوا ينظمون شعرهم قبل الإسلام بلغة واحدة هي اللغة الفصحى، وهذا ما يرفضه كلاهما ويرى أن الفصحى قبل الإسلام لم يكن لها وجود، كما يعتمد كل منهما على خلوِّ ذلك الشعر من الموضوعات الدينية، اللهم إلا ما فيه من بعض العقائد والشعائر الإسلامية، وهو ما يدل على أنه إنما صُنع بعد الإسلام صُنعًا؛ (انظر د. إبراهيم عوض/ معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1987م/ 56 - 77).
ومع هذا كله يأتي أحمد عبدالمعطي حجازي فيفسر شك طه حسين في الشعر الجاهلي على النحو التالي الذي لا أفهم كيف توصل إليه: "وإذا كان الرواة العرب ينسبون القصائد المعلقات لشعراء أفراد كامرئ القيس وطَرَفة بن العبد وعنترة، فقد ذهب عميد الأدب إلى أن الشعر الجاهلي منحول، أو هو بعبارة أدق نتاج جماعي يصور حياة الجماعة العربية البدوية ويجسد أخلاقها ويعبر عن نظرتها الخاصة للوجود بلغة طقسية قريبة من لغة الشعائر الدينية التي تصبح فيها الجماعة كيانًا واحدًا يتوحد فيه الأفراد وتتصل الأجيال"، وهو كلام لم يدُرْ في خاطر طه حسين ولا حتى في الأحلام! إنما هو من أوهام حجازي المضحكة! (انظر مقاله في "أهرام" الأربعاء 11 جمادى الأولى 1427هـ - 7 يونيه 2006م بعنوان: "الشعر في حياتنا - الشعر ليس امتيازًا خاصًّا").
ويجد القارئ ردًّا مفصلًا وتفنيدًا تامًّا لكل ما هرف به مرجليوث في الدراسة المطولة التي ألحقتها بترجمتي لبحث ذلك المستشرق (ديفيد صمويل مرجليوث/ أصول الشعر العربي/ ترجمة وتعليق ودراسة د. إبراهيم عوض/ ط2/ دار الفكر العربي/ 1421هـ - 2000م/ 115 - 162)، وفي تلك الدراسة بيَّنت أن دعوى مرجليوث القائلة بأن الشعر الجاهلي لم يكن له وجود، وأن العرب لم يعرفوا نظم الشعر قبل العصر الأموي - هي دعوى متهافتة، ويكفي أن نقرأ في ذلك الشعر الأموي نفسه الذي لا يشك فيه مرجليوث لحيظة إشارات متكررة إلى شعراء الجاهلية بوصفهم المثل الأعلى لشعراء العصر الأموي، علاوة على حديث القرآن الكريم المتكرر عن الشعر والشعراء، وهو الحديث الذي لا يمكن أن يكون معناه الكهانة والكهان، كما يزعم مرجليوث على غير أساس كي ينفي معرفة العرب للشعر في ذلك الوقت؛ إذ تحديت أي إنسان أن يأتينا بأي نص قديم يقول: إن كلمة "الشعراء" في ذلك الوقت كانت تعني "الكهان"، علاوة على أن وقائع التاريخ ورواياته تقول: إن الشعراء كانوا موجودين بكل يقين قبل الإسلام وفي عصر الرسول عليه السلام، على عكس ما يريد مرجليوث منا أن نقتنع، وبالمناسبة فقد سبقه كليمان هوار فربط على نحو ما بين الشاعر من جهة والكاهن والساحر من جهة أخرى (انظر: A History of Arabic Literature، PP، 7 - 8)، ثم يزيد الطين بِلَّة أن يردد أحمد حسن الزيات هذا السخف، وأن يكون ترديده له فوق ذلك ترديد الواثق المطمئن الذي لا يرى في الأمر أية غرابة، بل إن الطريقة التي ردده بها لتوهم من لا يعرف خبيئة الأمر أن هذا الكلام هو رأيه هو، توصَّل إليه من تلقاء نفسه، وفضلًا عن هذا فإنه لم يقدم لنا ما يدل على صحة ما يقول؛ "انظر كتابه: "تاريخ الأدب العربي"/ 28 - 29".
وعودة إلى مرجليوث نقول: إنه لمن العجيب أن يأتي باحث في الشعر الجاهلي هو د. كرم الوائلي فيزعم أن المستشرق البريطاني لا ينكر وجود ذلك الشعر، بل يؤكد أنه كان موجودًا، وكل ما هنالك أنه يشك في الطريقة التي وصل بها إلينا، وهو ما يقلب كلام مرجليوث رأسًا على عقب؛ (انظر الفصل المسمى: "توثيق الشعر الجاهلي" من كتابه: "الشعر الجاهلي - قضاياه وظواهره الفنية" المنشور على المشباك)، ولا أدري من أين له بذلك الفهم الغريب؟! أما مسألة اللهجات التي يطنطن بها كل من مرجليوث وتابعه المصري المتفاني في تعقب خطواته الطائشة الهائشة الفائشة، فيكفي هنا في إدحاض ما زعماه بشأنها أن نقول: إن القرآن قد ذكر في أكثر من آية أنه نزل بلسان عربي، لا بلهجة قريش أو الحجاز مثلًا، مما يبرهن أصلب برهان على أنه كانت هناك لغة واحدة للعرب جميعًا بخلاف ما ادعاه الاثنان بهتانًا ومَيْنًا من أن اللغة العربية لم تصبح لسانًا لمن نسميهم بـ: "العرب" إلا بعد قيام الدولة الإسلامية، بدءًا من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أننا لم نسمع بتاتًا أن العرب في الجاهلية أو قبل قيام الدولة الجديدة بعد ذلك في عصر المبعث كانوا يحتاجون إلى تراجمة بين بعضهم وبعض، أو قامت عَقبة تحول دون تفاهمهم، ثم إننا ما زلنا حتى الآن نستعمل في حياتنا اليومية لهجات متعددة تختلف عن الفصحى في أشياءَ ليست بالهينة، لكننا حين نكتب أو نبدع نترك عادة هذه اللهجات وراء ظهورنا ونلجأ إلى المستوى الفصيح، فما المشكلة في هذا؟ بل إني لأذهب إلى عكس ما يقول به كثير من الباحثين من أن العرب قبل الإسلام بقليل من الوقت نسبيًّا قد انتهوا إلى اصطناع لهجة قريش في إبداعاتهم واتخاذها من ثم لغة أدبية لهم جميعًا؛ إذ أرى أن الفصحى كانت موجودة منذ زمن طويل، ينحو الخطباء والشعراء منهم نحوها تاركين عندئذ لهجاتهم المختلفة التي كانوا يخصصونها لموضوعات الحياة العادية، كما هو الحال في كل اللغات، وإلا فلو أخذنا بنظرية ارتقاء لهجة قريش عشية بزوغ الإسلام إلى احتلال موقع اللغة القومية للعرب كلهم لكان معنى هذا أن العرب قبل ذلك كانوا يصطنعون لغات مختلفة بعدد قبائلهم، وهو ما يقتضي أن كل قبيلة منهم كانت تمثل دولة مستقلة لها حدودها وقوميتها بحيث لا تتداخل مع أية قبيلة أخرى، وأين ذلك، وكيف، وهم لم يكونوا يستقرون في موضع واحد قط، بل كانوا دائمي السعي وراء العُشب والماء طول العام، والاختلاط من ثم في كل أرجاء البادية؟ أو أنهم كانت لهم لغة أخرى غير العربية يستعملون في أمورهم المعيشية لهجاتها المختلفة، تلك اللهجات التي أخذت لهجة قريش منها موقع الصدارة قرب مجيء الإسلام وأضحت بذلك لغتهم القومية بدلًا من لغتهم الأولى، فهل كان للعرب لغة أخرى غير هذه التي بين أيدينا؟ فما هي تلك اللغة يا ترى؟ وما اسمها؟ وما الدليل على وجودها؟ وفوق هذا فإن أيًّا من مؤرخيهم أو خطبائهم أو شعرائهم لم يتحدث في هذا الموضوع بتاتًا، بل لم يُشِرْ إليه أي باحث مجرد إشارة.
يتبع