فلو سلَّمنا بهذا التأثر لقلنا: إنه تأثر في الاصطلاحات، "وفيما عدا ذلك - كما يقول كارل بروكلمان - لا يمكن إثبات وجوهٍ أخرى من التأثر الأجنبي، لا من القواعد اللاتينية، ولا من القواعد الهندية"؛ ( تاريخ الأدب، 2: 124).
وهنا يكون الصَّرح النحوي قد استوى على سوقه، يُعجِب اللغويين، ويغيظ المناطقة وأصحاب النظريات الجدلية، وهنا نُدرِك أيضًا العناء الذي واجهه النحاةُ في بناء هذا الصرح الممرَّد بلآلئ العلم، ولكن يعن لنا - هنا - بعض الأسئلة، وهي: هل يجوز لنا أن نُفرِّط في هذا البناء الشامخ، ونستخدم لغات أو لهجات بعيدة كل البُعد عن رُوح اللغة العربية الفصحى؟ أو هل يَصِح لنا أن نتخلَّى عن هذا التراث العظيم، لندرس الفقه والتفسير والحديث، بلغة غير اللغة العربية؟ أو بصيغة أخرى: هل تكفي ترجمة اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لنفهم بها هذا التراث العظيم؟ وللإجابة عن هذا السؤال ننتقل إلى المطلب الثالث.
المطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم:
وننطلق في هذا المطلب من بعض المُسلَّمات:
المسلمة الأولى: أن اللغة العربيَّة هي أكثر لغات العالم ألفاظًا، وأوسعها معاني.
المسلَّمة الثانية: أن الترجمة من لغة إلى لغة - مهما تكن دقتها - لا تحمل كل ما في اللغة الأم من معانٍ، خاصة إذا كانت اللغة الأم أقل ثراء من اللغة المترجمة.
المسلمة الثالثة: أن المسلِم يتعبَّد الله باللغة العربية، ولن تَسلَم له العبادة إلا بتعلم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فقيامه واجب.
المسلمة الرابعة: لو سلَّمنا بجواز ترجمة القرآن بالمعنى، فكلٌّ يُترجِم حسب فَهْمه، ومن ثم تختلف الترجمات، فأي الترجمات تُمثِّل القرآن!
المسلمة الخامسة: لا تجوز خطبة الجمعة بغير العربيَّة إلا لضرورة، ويجب على المسلم - كل مسلم - أن يسعى في إزالة الضرورات؛ لأن الضرورات حالات استثنائية، لا ينبغي لها أن تدوم.
وكان المسلمون الأوائل إذا دخلوا بلدًا عرَّفوا أهله أحكام الدين وعباداته، ثم علَّموهم لغته - اللغة العربية - إلى أن غلب العجم على العرب، وسلبوهم المُلْك، فوقفت الدعوة، وضعف العلم بالعربية، حتى جاء الترك، فمنعت حكومتهم اللغة العربية، لقطع صِلة رعاياها بالدين، وإبعاد الناس عن تراثهم وثقافتهم؛ ( تفسير المنار، 1367 هـ، 9: 210).
وهنا سأكتفي بتوضيح مسلك من مسالك المسلِم في حياته مع ربه - عز وجل - لنتعرَّف على مدى جدوى هذه الترجمات في حياة المسلم، وهذا المسلك يتكرَّر في حياة المسلم مرة واحدة كل أسبوع، ألا وهو: "خطبة الجمعة"، فهل تجوز بلغة غير العربية أم لا؟
الحنفية قالوا: "تجوز الخطبة بغير العربية، ولو لقادر عليها سواء كان القوم عربًا أو غيرهم"؛ (الفقه على المذاهب الأربعة، 1424 هـ 2003 م، 1: 355)، ودليلهم يعتمد على الرأي، وهو أن المقصود الموعِظة، وهي مشتركة بين اللغات.
إلا أن الإمام محمد رشيد رضا - صاحب المنار في تفسير القرآن - ذكَر أن هذا قول شاذٌّ، وأن الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - رجع عنه، ولم يُجِزه إلا في الضرورة الشخصية؛ ( تفسير المنار، 9: 213).
فالحنفية إذًا لا يجيزون الخطبة بغير العربية مطلقًا، وإنما يُجيزونها لضرورة فقط.
وأما المالكية، فيشترطون في الخطبة أن تكون باللغة العربية؛ لأن وقوعها بغير العربية لغو، ولو كان القوم عجمًا لا يعرفون العربية، والخطيب يعرفها ويعيها وجبت عليهم، ولا يكفي أن يُلقيها من غير فَهْم، فإن لم يوجد فيهم من يُحسِن العربية بحيث يؤدي الخطبة بها سقطت عنهم الجمعة؛ (الموسوعة الفقهية، 19: 180 و35: 283)، (الفقه على المذاهب الأربعة،1: 355)، وكان الإمام مالك يقول: "مَن تكلَّم في مسجدنا بغير العربية أخرجناه منه"، فكيف بمن خطب؟!
فالجمعة تَسقُط عند المالكية عمن عجز عن العربية، وكفى بهذا الحكم عقابًا لمن ترك اللسان العربي.
أما الحنابلة فقالوا: "لا تَصِح الخطبة بغير العربية، إن كان الخطيب قادرًا عليها، فإن عجز عن الإتيان بها أتى بغيرها مما يُحسِنه، سواء كان القوم عربًا أو غيرهم، ولكن الآية التي هي ركن من أركان الخطبتين لا يجوز له أن يَنطق بها بغير العربية، فيأتي بدلها بأي ذكْر شاء بالعربية، فإن عجز سكت بقدر قراءة الآية"؛ (الفقه على المذاهب الأربعة،1: 355).
فالحنابلة يُجيزون الخطبة بغير العربية للضرورة، ومِثل جواز الخطبة بغير العربية - في هذا المذهب - كمثل جواز أكل الميتة، ويجب على المضطر أن يسعى لإنهاء حالة اضطراره.
وأما الشافعية، فقد أخَّرتُ مذهبهم؛ لأنه مذهب البلاد، وهم قد ذهبوا في "الأصح من مذهبهم إلى أنه يشترط أن تكون بالعربية، فإن لم يكن ثَم مَن يُحسِن العربية، ولم يمكن تعلَّمها، خطب بغيرها، فإن انقضت مدة إمكان التعلم - ولم يتعلموا - عصوا كلهم ولا جمعة لهم، بل يصلون الظهر"؛ (الموسوعة الفقهية، 11: 171 و19: 180).
فالمذهب الشافعي يُمهِل القوم مدة تكفي لتعلُّمهم العربية، ويجيز لهم الخطبة بغير العربية في هذه المدة، فإن قصروا ولم يتعلَّموها أَثِموا جميعًا، ولا جمعة لهم بعد ذلك حتى يتعلَّموا العربية، ويؤدونها ظهرًا.
إلا ما كان من الإمام النووي - غفر الله له - حيث ذهب إلى أن الخطبة بغير العربيَّة مكروهة كراهة تنزيه؛ لأن المقصود الوعظ، وهو حاصل بكل اللغات؛ (المجموع، النووي، 522: 4، والموسوعة الفقهية، 11: 172).
وكأن هذا المذهب - غير الإمام النووي - جمع بين مذهبي المالكية والحنابلة، فأجازها في حالة العجز لأجل مسمى، ثم منعها بعد هذا الأجل، وحرمهم منها.
إذًا فمعظم الأئمة على منع الخطبة بغير العربية، إلا للضرورة التي يجب أن تزول، والخطبة فرض، فكيف يؤدي المسلم هذا الفرض بغير العربية؟!
ناهيك عن أن المسلم الذي يعبد الله بلغة غير اللغة العربية مقطوع عن ثقافته وتُراثه انقطاعًا يُداني التمام، ومن المحال أن تحوي أية ترجمة في العالم هذه الثقافة الإسلامية بأمانة ودقة كما هي، بل إن غالبية البلاد الإسلامية غير العربية - إن لم تكن كلها - تكتفي بترجمة الكتب التي لها صِلة مباشرة بممارسة النُّسك، من صلاة وصيام وحج، أما أنها تترجم التراث بكل ما يَحمِله من سمات العبقرية الإسلامية فلا، هكذا يكون المسلم محرومًا من تراثه وثقافته، مقطوعًا عن عالمه وإخوانه، وقد صرَّح الإمام الشافعي في رسالته "أن إقامة هذا الدين في عباداته وتشريعه وحكومته تتوقَّف على معرفة اللغة العربية، وأن هذه اللغة قد جعلها شرع الإسلام لغة المسلمين كافة وأوجب عليهم تعلُّمَها".
فهذا هو موقف السلف من اللغة العربية؛ ولذا لم يتركوا تعليم العربية للأقدار تديره، أو للأهواء تَعبَث به، وإنما خطوا له خطوطًا، ورسموا له مِنهاجًا لا يقل جدة وصحة عن المناهج "التربولغوية" الحديثة، وقد يكون أبرز مَن اشتغل برأس هذا المِنهاج ابن خلدون، فقد وضح معالم هذا المنهاج، واقترح طرقًا، ونبَذ أخرى، وعمل ابن خلدون كتبت فيه بعض الدراسات، وما زال في حاجة إلى دراسات أخرى، وفي المطلب التالي نعطي نبذة عن بناء المَلَكة اللسانية عنده.
المطلب الرابع: تربية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أن المَلَكة اللسانية في اللغة غير صناعة اللغة، ويُقصَد بصناعة العربية النحو والصرف، أي القواعد؛ لأن المعرفة عن الشيء ليست هي معرفة الشيء نفسه، "فمعرفة قوانين هذه قوانين الملكة ومقاييسها، هي عِلم بكيفية، لا نفس كيفية، فليست نفس المَلَكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصناعات علمًا نظريًّا، ولا يُحكِمها عملاً تطبيقيًّا"؛ (المقدمة، 2005م، 5: 306).
وهذا ما يأخذ به العلم الحديث، فطرائق التدريس الحديثة تُهمِّش - إن جاز لي استخدام هذا المصطلح - دراسة القواعد، وتجعلها عابرة في ثنايا الدرس اللغوي وتحليله، ويذهب ابن خلدون إلى أن الطريقة المُثلى في تعليم اللغة هي حفظ كلام العرب، وفَهْمه واستيعابه، ثم التفقه فيه، وسوف تكون النتيجة هي إنتاج الكلام العربي.
وابن خلدون لم يبيِّن لنا ما يحدث داخل المخ الإنساني لكي يصنع لنا من المدخلات اللغوية منتجًا لغويًّا جديدًا، وفي الحقيقة هي عملية مُعقَّدة، ومُعجِزة، وكل ما يكتب حولها فإنه على سبيل الحدس المؤيد بتجرِبة من التجارب التي قد تَصدُق وقد تَكذِب، ولو نظرنا إلى طالب اللغة العربية أو أية لغة من الأعاجم للاحظنا طفوليته في اللغة؛ إذ يسأل عن أشياء تبدو لصاحب اللغة أنها طفولية، وهي كذلك"؛ لأنها نتجت من طفل لغوي.
وعلماء التشريح يرون أن اللغة عند الطفل تبدأ بالصرخة الأولى، فهي تعبير منه عن الوحشة التي انتابته بفِقدانه مصدر حياته وأمانه، ثم لا تلبث هذه الصرخة أن تكون هي أداة تعبيره عما يُحِسه أو يتغيَّاه، ثم تنمو عنده مَلَكة الإشارة، فتكون لغته، وفي هذه المرحلة يُحاول الطفل التوفيق بين إشاراته والمصطلحات الخارجيَّة، ثم يحدث العكس، ومما أثبتته التجارب أن إدراك الطفل لما تنطوي عليه الإشارة باليد أو النظر أو الإشارة العامة المتعلِّقة بالذوق العام أسرع من إدراكه لما تنطوي عليه الإشارة المتعلِّقة بالسمع.
ثم تأتي مرحلة المحاكاة، فيُقلِّد بعضًا مما يسمعه، وتبدأ هذه المرحلة بأصوات لا تُفهَم، إلا أنها تحمل معاني قد يلتفت إليها ذووه، وقد لا يَلتفتون، وكل هذا ليس إلا محاولات فطرية فطره الله عليه، لتكوين الجهاز الصوتي لديه، ثم تتحوَّل هذه الأصوات غير المفهومة إلى أصوات مفهومة، لكنه لا يعيها أو على الأقل لا يعي أكثرها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلةُ الوعي والملاحظة، وفيها يبدأ الطفل في الربط بين الأشياء الماديَّة ومسمياتها، فهو يُدرِك الأسماء قبل الصفات والأفعال.
ولوحِظ أن الطفلَ يستخدم صيغةَ الزمن الحاضر، دون الماضي أو المستقبل؛ إذ لا صِلة له بهما، وهو ما يلاحِظه الباحث مع طلابه - أيضًا - فلو قلت لطلاب: كتبت الدرس؟ يرد عليك قائلاً: نعم، أنا تكتب، وهو يريد: نعم، كتبت.
وعندما يتجاوز الطفل الحاضر يتجاوزه إلى الماضي؛ "إذ إنه عايَنه وشاهَده، أما المستقبل، فلا علاقة له به، ولا وعي لديه عنه، وعندما يبدأ الطفل التعلم، فإنه يتعلَّم الكتابة ثم القراءة؛ إذ الكتابة وليدة الحِس، والقراءة وليدة الإدراك"؛ (اللغة والنحو، 1952م، 29 - 33).
وهذه الظواهر في مجملها تَنطبِق على طلاب العربية من الأعاجم، مع اختلافات طفيفة في وصف الظاهرة، وإن كان يُمثَّل لها بصور أخرى حسب الفئة العمرية؛ إذ عقل الطالب أكبر من عقل الطفل، وإن كان تفكيره في اللغة تفكيرًا طفوليًّا.
فابن خلدون يذهب إلى أن السبيل إلى تعلُّم العربية يتمثَّل في تقديم الموضوعات اللغوية الصافية وحِفْظها، وهذا عنده يُسمَّى صفة، وبالتكرار تكون حالاً، فمَلَكة لسانية.
ولكنه يشترط شرطًا لكي تتم العملية التعليمية على وجهها الأمثل، هذا الشرط هو تحليل المادة اللغوية وفهمها، بحيث لا يتوقف الأمر عند الحفظ والترديد فحسب، وهذا الذي تفوق به علماء الأندلس - كما أشار ابن خلدون - على غيرهم، فكانت لهم المدرسة اللغوية النحوية المشهورة، يقول ابن خلدون: "وأهل صناعة العربيَّة بالأندلس - يَقصد النحاة - ومُعلِّموها أقرب إلى تحصيل هذه المَلَكة وتعليمها ممن سواهم"؛ (المقدمة، 2005 م، 5: 317)، ثم يُفصِّل في ذِكْر السبب، فيقول "لقيامهم فيها على شواهد الرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من المَلَكة أثناء التعليم، وهذا السلوك يجمع بين مرحلتي المحاكاة والملاحظة عند الطفل - فتنطبِع النفس بها؛ أي: باللغة - وتستعِد إلى تحصيلها وقبولها، وأما سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثًا، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا أن أعربوا شاهدًا أو رجَّحوا مذهبًا، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه، فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان ومَلَكته"؛ (المقدمة، 2005م، 5: 317 - 318).
وبهذا فإن ابن خلدون (ت 727 هـ) بنظريته في اكتساب المََلَكة اللسانية يُعَد - كما قال د. علي مدكور في إحدى محاضراته -: رائد النظرية اللغوية السلوكية، والريادة التي أقصدها ريادة نشأة وليست ريادة تمام وكمال واستواء، ولم تكن بداية هذه النظرية بداية حديثة مع اسكنر والسلوكيين المحدَثين في القرن العشرين كما هو مشهور.
ولو دقَّقنا النظرَ في كلام ابن خلدون لوجدنا أن المشكلة التعليمية في المغرب وإفريقية التي - أشار إليها ابن خلدون - هي المشكلة نفسها في ماليزيا، فالمعاهد الدينية، وهي أكثر حرصًا على اللغة العربيَّة من غيرها، تدرس مقررات المعاهد الأزهرية المصرية، من نحو وصرْف وحديث وفقه وعقيدة وتاريخ إسلامي بعد الاختصار المُخِل، والذي ينظر إلى الكم لا الكيف، وفي المقابل لا يعرف طلاب هذا المعاهد من اللغة إلا النزر القليل المشوَّه، بل الزهيد الممسوخ، وتجد في هذه الكتب موضوعات طوالاً، قد يعجز الطالب العربي نفسه عن فَهْمها - وهذا المأخذ يؤخذ على المعاهد الأزهرية المصرية نفسها، فهي تُقدِّم مناهج لا تتناسب ومستوى الطلاب - ولكنها تُقدم لهؤلاء الطلاب المساكين، وليس عليهم إلا أن يحفظوا ليحصلوا على الامتياز، ثم يخرجوا من مادة اللغة العربية صفر اليدين، بل ومن المواد الشرعية أيضًا.
والطلاب في هذه المعاهد يتعاملون مع مادة اللغة العربية على أنها مادة الحفظ والامتياز، وأما ركن الفَهْم فهو منسوخ، لا يجوز العمل به.
ولو رجعنا إلى طريقة علماء الأندلس في تناول النحو والصرف مع غير الناطقين بالعربية لحُلَّت المشكلة، أو لوقفنا - على الأقل - على جزء كبير من الحل.
ولكي نستطيع تطبيق كلام ابن خلدون، فإننا بحاجة إلى عدة أمور يجب أن تتوفَّر للطالب كي يُحقِّق نجاحًا في إنتاج اللغة، ومن هذه الأمور:
♦ الحاجة إلى منهج علمي قائم على أسس تربوية، يقوم عليه خبراء في اللغة وخبراء في إعداد المناهج التربوية.
يتبع