في النقد الأدبي: ما الأدب؟ ما النقد؟
وفي "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة"[12] يعرض "سعيد علوش" لجُملة مِن التعريفات لنقاد غربيين، ينظر بعضها إلى النقد الأدبي باعتباره مدرسةَ ذوق أو نظرية للإنتاج الأدبي؛ أي: فنًّا وعلمًا، وهو عند "بارث" يحتل مكانة وسيطة بين علم الأدب والقراءة، أما "جون بولهان" فيراه تأملًا يُعلن استحقاق عمل أدبي أو عدم أحقيته في نيل الاعتبار والوجود أو اللاوجود.
ومن الواضح تبايُن التعريفات واختلافها بحسب الزاوية التي ينظُر من خلالها الناقدُ إلى الأدب أولًا والنقد ثانيًا، وإن كانت تتفق جميعها على أن موضوع النقد هو الأدب، يتصل به اتصالًا وثيقًا، و"وظيفته الأساسية هي أن يُنير سبيل الأدب أمامنا ويُغرينا بالسير فيه، ويلفتنا إلى ما فيه من جمال لا نستطيع إدراكه بأنفسنا"[13]، والناقد بذلك "يجعلنا نرى العمل الأدبي لا بعيوننا ولكن بعينه، فنفهم منه ما يفهم هو، ونخطئ فيه ما يُخطئه، ونَحكم عليه بحكمه"[14]؛ ولذلك وجب أن يكون "مسلحًا بالمعرفة الواسعة، والقدرة الخاصة على النظر والفهم"[15]، وعبر النقد - إذًا - بإمكان المتلقي هو الآخر أن يتملك خصائص النظر والفهم والتفسير والتعليق والحكم حين يَحتكُّ بالعمل الأدبي دون وسيط؛ أي: دون ناقدأدبي.
ولا يُمكن الحديث عن النقد دون الإشارة إلى ارتباطه بإطار نظري وخلفية معرفية تفرض على الناقد الاستناد إلى منهج وطريقة مخصوصة للتعامل مع الإبداع الأدبي، الأمر الذي يَفرض علينا أن نتساءل: هل النقد علم أم فنٌّ؟ وهل بالإمكان معالجة الأدب من زاوية علميَّة؟
إنه على مدى القرن التاسع عشر انتشَرت النزعة العلميَّة في ظل الثورة الصناعية، فسادت الوضعية، وامتدَّ أثرُها إلى طرُقِ دراسة الأدب، ليظهَرَ مَفهوم "المنهج النقدي" مستفيدًا مِن انتِشار العلوم الإنسانية وطرائقها في دراسة الإنسان من حيث تاريخه ومُجتمعه وسلوكه، فبرز بداية المنهج التاريخي في دراسة الأدب مع "هيبوليت تين" و"سانت بوف"، وبعده المنهج النفسي مع "شارل موران" و"يونغ" و"جاك لاكان"، ثم المنهج الاجتماعي الذي استفاد من السياق الأيديولوجي الذي أطرته النظريات الماركسية... إلى أن برزت البنيويَّة في اللسانيات، ويمتد أثرها إلى النقد بالدعوة إلى دراسة الإبداع دراسة علمية، بمَعزل عن أي سياق خارجي يرتبط بالتاريخ أو المؤلف أو المجتمع، والعمل على دراسته في ذاته ومن أجل ذاته من خلال عناصره الداخلية (الأدبية) لا غير.
يَعني ذلك أن التعامل مع الأدب صار يَنبني على أدوات إجرائية يُحدِّدها الإطار النظري للمنهج الذي يتبناه الناقد باعتباره وسيلة لفهم الإبداع وتفسيره والحكم عليه.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ألَا تتدخلُ ذات الناقد وهي تدرس الأدب؟ وبتعبير أكثر دقة: ألَا يَعتمدُ الناقد ذوقه الأدبي في دراسته؟ ألَا يُمكن القول أن نصًّا أدبيًّا بهدف القراءة والتحليل دون غيره من النصوص يمثِّل نوعًا مِن الذوق الأدبي؟
إنه مما لا شكَّ فيه أن نشأة النقد الأدبي كانت في إطار الذوق الأدبي وما يبعث في النفس مِن تأثير وانفعالات وأهواء، وقد أثار ذلك إشكاليةَ الذاتية في الحكم على الأدب، فضلًا عن "تغيُّر هذه الأحكام بتغير الأحوال وتباين النقاد، واختلاف البيئة والزمان، والجنس، والتربية أو التنشئة، والشخصية الفردية أو المزاج الخاص"[16]، ولأجل ذلك لا بدَّ مِن ذَوق سليم.
والذوق السليم هو عُدَّة الناقد ووسيلته الأولى؛ فإليه يرجع "إدراك جمال الأدب والشعور بما فيه من نقص، وإليه نلجأ في تعليل ذلك وتفسيره، وبه نستعين في اقتراح أحسن الوسائل لتحقيق الخواص الأدبية المؤثرة... وكذلك اختيار النصوص الأدبية متأثِّر بالذوق خاضع له، وذو الذوق الجميل يَختار الأدب الجميل"[17].
والنقد - استنادًا إلى ذلك - لا يُمكن أن يكون ذوقًا خالصًا، وإلا خضَعَ للذاتية والهوى، وزالت عنه الموضوعية، كما لا يمكن أن يكون علمًا صرفًا، وإلا سيطرت عليه الجزئيات والتنظيرات، وخضع الأدب لإسقاط القوانين العلميَّة عليه، سواء استجاب لها أم لم يستجب.
إن النقد الأدبي - على حدِّ تعبير "أحمد الشايب" - "يقف موقفًا وسطًا بين العلم والفن بمعناهما الدقيق، أو هو فنٌّ مُنظَّم... فلا فائدة لقوانين نقدية لا تبعث فينا شعورًا بجمال الأدب"[18]؛ لأن غاية الأدب جمالية قبل أن تكون أي شيء آخر.
لائحة المراجع:
• أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة، 1993.
• رينه ويلك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة: عادل سلامة، ط 1992، دار المريخ.
• عبدالعزيز عتيق: في النقد الأدبي، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1972.
• عبدالفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، دار توبقال، الطبعة الرابعة، 2007.
• عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، طبعة 1968.
• سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1985.
[1] المقدمة؛ لابن خلدون، نقلًا عن أصول النقد الأدبي؛ أحمد الشايب.
[2] أصول النقد الأدبي؛ أحمد الشايب، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة 1993، (ص: 18).
[3] في النقد الأدبي؛ عبدالعزيز عتيق، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية 1972، (ص: 18 - 19).
[4] الأدب وفنونه؛ عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، طبعة 1968، (ص: 21 - 23)، بتصرف.
[5] الأدب والغرابة؛ عبدالفتاح كيليطو، دار توبقال، الطبعة الرابعة 2007، (ص: 24 - 23)، بتصرف.
[6] نظرية الأدب؛ رينه ويلك وأوستن وارين، ترجمة عادل سلامة ط 1992، دار المريخ (ص: 31).
[7] نفسه، (ص: 32).
[8] معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة؛ سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى 1985، (ص: 31).
[9] أصول النقد الأدبي؛ أحمد الشايب، (ص: 109).
[10] نفسه، الصفحة: 109.
[11] نفسه، الصفحة: 111.
[12] مادة النقد الأدبي، الصفحة: 216 - 217.
[13] في النقد الأدبي؛ عبدالعزيز عتيق، الصفحة: 268.
[14] الأدب وفنونه؛ عز الدين إسماعيل، الصفحة: 67.
[15] نفسه، الصفحة: 68.
[16] للتوسع بالإمكان العودة إلى كتاب "أصول النقد الأدبي"، الصفحة: 126 - 137.
[17] نفسه، الصفحة: 141.
[18] نفسه، الصفحة: 166.