يقول الله تعالى:"
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
فليس الأعمى من لا يرى، وإنما الأعمى هو الذي لا يشعر بالحق ، ولا يتدبر الموعظة ، فكم من بصير يرى بعينيه، ولكن قلبه لا يرى شيئًا! وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق!
ذكر المفسرون أن المقصود بالعمى في هذه الآية هو عمى القلوب أي عمى البصيرة ، فيصبح القلب أعمى عن رؤية الحق فلا يتبع الهدى بل يمشي خلف هواه .
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية : [ وقال مجاهد : لكل عين أربع أعين يعني لكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا.
***
قال ابن عباس ومقاتل:
(لما نزل: "ومن كان في هذه أعمى" [الإسراء: 72]
قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟
فنزلت: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار). ] اهـ.
قال ابن كثير في تفسيره حيث قال : [ {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} أي ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر. ] اهـ.
فالعمى عمى القلوب أما عمى الأبصار فلا يضر، إذا رزق الله العبد الاستقامة والبصيرة والتفقه في الدين والعمل بشرع الله فلا يضره عمى البصر كما قال ابن عباس رضي الله عنه:إن يأخذ الله من عيني نورهما —- فإن قلبي مضيء ما به ضرر
أرى بقلبي دنياي وآخرتي —- هو القلب يدرك ما لا يدرك البصروالوحي هو مصدر البصائر والجامع لها،
فالوحي حجة وبرهان ونور،يقول سبحانه: ” أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله..” (الزمر: 22)
ويقول سبحانه: ” أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها..” ( الأنعام: 122 ) فالبصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة..
فالبصيرة في الدين من عرفها فهو على هدى من ربه،
لا تختلط عليه الأمور،كما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث تتشابه الأشياء،ولا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصير يصيبنا التيه عند الفتن والتخبط في المسير إلى الله .
وقد صوّر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى : (أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ) الملك 22.
، فالذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشي ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى بصيرة.
“وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” سورة النور39-40،
فهذا محروم البصيرة، هذا مطموس البصيرة، هذا الذي أظلم قلبه ؛ فهو لا يرى الحق حقاً ولا يرى الباطل باطلاً، ولا يرى المعروف معروفاً، ولا يرى المنكر منكراً؛ لأن بصيرته قد طمست فيرى الحرام حلالاً، والحلال حراماً، والمنكر معروفاً، وهكذا يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، قد انعكست فطرته، وانطمست بصيرته،
قال ابن القيم : « البصيرة هي نور يقذفه الله في القلب، يفرّق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب»،
ويقول:
«هي نور يقذفه الله في قلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين،
فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: (البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به)
قال - تعالى - : {قَد جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُم فَمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِهِ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ,} [الأنعام: 104]، قال القرطبي: «قد جاءكم آيات وبراهين يُبصر بها ويُستدل. جمع بصيرة وهي الدلالة، ووصفها بالمجيء لتفخيم شأنهاº إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض»
***
وقال - تعالى - : {وَاذكُر عِبَادَنَا إبرَاهِيمَ وَإسحَاقَ وَيَعقُوبَ أُولِي الأَيدِي وَالأَبصَارِ} [ص: 45]،
يقول ابن القيم:
«أي البصائر في دين الله - عز وجل -، فبالبصائر يُدرك الحق ويُعرف، وبالقوة يُتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورُزقت فيها فهماً خاصاًَ، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد سُئل: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس؟ فقال: «لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه». فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
ومن لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأسًا دَخَلَ قَلْبُهُ فِي الْغلَافِ، وَالْأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وَعَمِيَ عَنِ الْبَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، فَيَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالرُّشْدَ غَيًّا، وَالْغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] "وَالرَّيْنُ" "وَالرَّانُّ" هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ. انتهى.
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ، وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا، وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ؛ لِجَهْلِهِمْ بِالنُّصُوصِ، وَمَعَانِيهَا، وَتَمَكُّنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ رَأَيْتَهُمْ أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وَأَعْظَمَ تَسْلِيمًا لِلْوَحْيِ، وَانْقِيَادًا لِلْحَقِّ.
قال الله (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)
- قال ابن كثير -رحمه الله-: "(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي: على بصيرة مِن شريعة الله التي أوحاها الله إليَّ. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي: بالحق الذي جاءني مِن الله..."
قال السعدي -رحمه الله- فقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة ودلائلها الظاهرة فتيقن تلك البينة (وَيَتْلُوهُ) أي يتلو، أي: يتبع هذه البينة والبرهان برهان آخر. (شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح حيث شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه؛ فازداد بذلك إيمانًا إلى إيمانه. وثم شاهد ثالث وهو (كِتَابُ مُوسَى) التوراة التي جعلها الله إمامًا للناس (وَرَحْمَةً) لهم، يشهد لهذا القرآن بالصدق ويوافقه، ويوافقه فيما جاء به مِن الحق.
أي: أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان، وقامت لديه أدلة اليقين، كمن هو في الظلمات والجهالات ليس بخارج منها؟! لا يستوون عند الله، ولا عند عباد الله!