أهمية معركة أنوال:
لقد كانت معركة أنوال معركة فريدة من نوعها في التاريخ العسكري العالمي، وهي تعد من أهم المعارك في العصر الحديث في القرن العشرين بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما تعتبر أكبر هزيمة يمنى بها الإسبان في تاريخهم الاستعماري في المغرب، بل ربما في تاريخهم العسكري كله، ليس من الناحية العسكرية فحسب، ولكن أيضاً من الناحية المعنوية؛ فقد كانت هزيمتهم في هذه المعركة هزيمة ساحقة ماحقة، حيث فقدوا فيها جميع الجيوش التي كانت في منطقة أنوال وغيرها من مناطق الريف، سواء بالقتل أو الأسر، وبسلاحهم نفسه بعد أن انتزعه المجاهدون الريفيون من أيديهم. ولم يسبق لمستعمر أن مني بهزيمة نكراء مزلزلة مثلها في أي مكان من العالم، اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك هزيمة البرتغاليين القاصمة في معركة وادي المخازن، المعروفة أيضا بمعركة الملوك الثلاثة، وذلك عام 1571م على أيدي المغاربة أيضاً. ولذلك فقد أطلق المؤرخون والقادة العسكريون الإسبان على معركة أنوال اسم (كارثة أنوال)؛ فقد لقنهم محمد بن عبد الكريم الخطابي ورجاله البواسل فيها درساً لم ينسوه أبداً، وتركت الهزيمة في الوجدان الشعبي الإسباني جرحاً غائراً لن يندمل على مرِّ الزمن، وما زال اسم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي يشكل شبحاً مرعباً للإسبان حتى اليوم. وبالمقابل فإنه لم تسجل حركة جهادية مسلحة في أي بلد من العالم انتصاراً باهراً يماثل الانتصار الذي حققته الحركة الجهادية في ريف المغرب ضد الإسبان في معركة أنوال الخالدة بقيادة البطل الفذ محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبتلك الصورة التي أدهشت العالم مثلما أدهشه أيضاً قائدها وخبرته العسكرية الفذة التي ارتكزت على أسلوب حرب العصابات والتنظيم العسكري والإداري، وذلك رغم أنه لم يتخرج من أي مدرسة أو أكاديمية عسكرية؛ ذلك أن الانتصار الباهر الذي تحقق في هذه الملحمة العظيمة بقيادة هذا الرجل الكفء المحنك، تحقق أساساً على أيدي جماعة من المغاربة الريفيين، لا يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، ولا يملكون سوى أسلحة خفيفة وبدائية، في مواجهة جيش نظامي مجهز بترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة الثقيلة شديدة الفتك والتدمير، إضافة إلى الأسلحة المتوسطة والخفيفة، ويتجاوز عدد أفراده ثلاثين ألف مقاتل، إلى جانب مثل هذا العدد تقريباً من خونة الأهالي المارقين. وما كان لهذا الانتصار الباهر أن يتحقق لولا تأييد الله سبحانه وتعالى للخطابي ورجاله البواسل، الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم، وأيضاً لولا براعة الخطابي في التخطيط والتنظيم عسكرياً وإدارياً، إلى جانب إيمانه ومن معه بعدالة القضية التي كانوا يجاهدون لأجلها.
كان انتصاراً اهتز له العالم كله، وزلزل أركان الاستعمار في العالم الإسلامي، ولذلك فقد حظيت المعركة بأهمية كبيرة لدى المؤرخين الأجانب، وقد صدر حولها حتى الآن حوالي مئة كتاب باللغات الأجنبية الحية، فضلاً عن الكتب التي صدرت عنها باللغة العربية. ومعركة أنوال في حقيقتها معركتان: الأولى معركة (أبران) وجرت في 1/6/1921م، والثانية معركة (أنوال) وجرت في 21/7/1921م، ولكن المعركة الأخيرة اشتهرت لأنها كانت هي المعـركة الحاسمة التي كان فيهـا النصر الكبير للخطابي وجنوده، وكانت فيها الهزيمة الساحقة الماحقة للجيش الإسباني المحتل.
معركة أنوال وأبرز نتائجها:
وهكذا أدت حملة الجنرال سيلفستري على بلاد الريف إلى اشتداد ثورة الريف بدلاً من وَأْدها، وفي غضون ذلك زج هذا الجنرال بالمزيد من القوات لمجابهة تلك التطورات الخطيرة، بَيْد أن ذلك قد زاد الطين بِلَّة، لأن المجاهـدين الريفيين كانوا يترصدون لتلك القوات إينما ذهبت، وباتت أكثر المناطق التي يحتلها الإسبان في الريف محاصرة، كما باتت محـرومة من التزود بالماء الذي بات تحت سيطرة جيش الخطابي، بما فيها المنطقة التي كان يتمركز فيها الجنرال سيلفستري. هذا الأخير الذي لم يلبث أن فقد السيطرة على زمام الموقف؛ إذ صار ذلك الزمام بيد الخطابي، ونتيجة لذلك فقـد اشتد عطش الجنود الإسبان إلى درجة أوصلتهم إلى شرب أبوالهم، وإلى تعريض أرواحهم للقتل نتيجة لمغامرة بعضهم للوصول إلى مصدر الماء الوحيد في المنطقة، الأمر الذي كان يجعلهم هدفاً سهلاً للمجاهدين الريفيين، لدرجة أن كل قطرة ماء كان يحصل عليها الإسبان كانوا يدفعـون ثمنها قطرة دم. وقد باءت كل محاولات الجنرال سيلفستري في فك طوق الحصار المضروب حول قواته، أو بالأحرى الخروج من المصيدة التي وقع فيها بتدبير من الخطابي، بالفشل. وفي 21/7/1921م أصدر أوامره لقواته بالاشتباك مع جيش الخطابي، فنشبت بين الجيشين معركة هائلة لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل؛ إذ كان حوالي 3500 مقاتل مغربي في مواجهة حوالي 30 ألف جندي إسباني ومثلهم من خونة الأهالي، فقد هاجم الريفيون بخيلهم ورَجِلهم جميع المواقع الإسبانية في بلاد الريف في وقـت واحد، وقطعوا خطوط الاتصال وأسلاك الهاتف بينها، وعزلوا تلك المواقع عن بعضها، واستمرت المعركة خمسة أيام، دارت خلالها الدائرة على الجيش الإسباني؛ إذ أوقع به جيش الخطابي هزائم قاسية، ومزقه شر ممزق، وأجبر من تبقى منه على الفرار من أنوال، وتعقبت جيوش الخطابي فلول المقاتلين الإسبان الهاربة حتى مشارف مليلة، مُوقِعة بها مزيداً من القتلى، بحيث بلغت أعداد القتلى الإسبان في هذه المعركة حوالي 15 ألف مقاتل بينهم قادة كبار، على رأسهم الجنرال سيلفتسري الذي وجدت جثته فيما بعد بين ركام القتلى، والذي قيل إنه انتحر خوفاً من الشماتة والعار، وهذا بجانب آلاف الجرحى، ومئات من الأسرى، إضافة إلى الخسائر المالية الضخمة التي تكبدتها الخزينة الإسبانية. كما نجم عن هزيمة الجيش الإسباني على ذلك النحو المخزي والشنيع حدوث أزمات سياسية عميقة في الداخل الإسباني، ووقوع فجوة كبرى بين قادة الجيش ورجال السياسة الإسبان؛ إذ نشبت بين الطرفين خلافات مستعصية حول الأسلوب الناجع لغزو قبيلة ورياغل، القلب النابض للحركة الجهادية في ريف المغرب، لإلحاق الهزيمة الحاسمة بها، وكانت المعركـة بين الطرفين حامية الوطيس في الصحافة الإسبانية. وأدت المعركة على الجانب المغربي إلى تحرير جميع مناطق الريف من الاحتلال الإسباني عدا مليلة، وإلى غُنْم مئات المدافع الثقيلة والرشاشات، والآلاف المؤلفة من البنادق، وأطنانٍ من القذائف، وعشرات الشاحنات العسكرية، وغير ذلك من الأثاث والمؤن. وقد سارع الخطابي بعد انتصاره الباهر إلى تنظيم المناطق المحررة إدارياً ومالياً، وإلى تأسيس مجلس سياسي لإدارة شؤون البلاد، كما قام بتأسيس جيش نظامي لحماية انتصاراته، واستمر ذلك الجيش يحقق الانتصارات حتى نهاية عام 1924م.
التدخل الفرنسي والحرب الكيميائية:
شعرت القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى بالخطر من الانتصار الذي حققه الخطابي في أنوال وما تلاه من انتصارات وإنجازات في كافة المجالات، وبخاصة فرنسا التي كانت حينـذاك تسيطر على القسم الأعظم من شمال إفريقيا، فقررت التحالف مع الإسبان ودخول المعركة إلى جانبهم ضد الخطابي، وذلك في نيسان 1925م بعد أن حصلت على الدعم من إيطاليا التي كانت تحتل ليبيا آنذاك، وفي الوقت نفسه شدد الإنجليز، الذين كانوا يحتلون الجزيرة الخضراء، الحصار البحري على شمال المغرب للحيلولة دون وصول السلاح إلى أيدي المجاهدين الريفيين، بَيْدَ أن المجاهدين الريفيين ردوا الجيوش الفرنسية على أعقابها، وألحقوا بها هزائم ساحقة كالتي ألحقوها بالإسبان من قبل، واستردوا كثيراً من المواقع التي كانت تحتلها فرنسا في بلاد الريف الجنوبية، وذلك في الأشهر الأولى من الحرب، وكادوا في إحدى غزواتهم أن يحرروا مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، رغم أن هؤلاء المجاهدين كانوا يقاتلون في جبهتين، ورغم أن كلاً من الفرنسيين والإسبان كانوا قد حشدوا طاقتيهما لوأد ثورة الريف، وتصفيـة الخطابي.
وعلى إثر تلك الانتصارات الجديدة وما تكبده الفرنسيون من خسائر فادحة، وأيضاً نتيجة لحالة الغليان التي عمت المغرب كله واحتمال نشوب الثورة الشاملة ضدهم في البلاد استجابةً لدعوات الخطابي.جن جنون السلطتين الاستعماريتين في باريس ومدريد، فلجأت كلٌّ منهما إلى سلاح غير تقليدي يستخدم لأول مرة في تاريخ الحروب، ألا وهو أسلحة التدمير الشامل؛ فقد استخدمت الجيوش الفرنسية والإسبانية مختلف أنواع الغازات السامة، والأسلحة الكيمائية في عدوانها المشترك على جيش الخطابي، وذلك عن طريق قصفه بها من الجو بواسطة الطيران، وكان ذلك في صيف عام 1925م، وقد شمل ذلك القصف القرى الآهلة بالسكان، والحقول الزراعية، ومصادر المياه، إلى جانب الطرق والمخابئ، ونتيجة لذلك فقد كانت أعـداد الضحايا المدنيين الريفيين بالجملة، وفقد الخطابي في غضون أشهر قليلة الآلاف من خيرة جنوده، فكان طبيعياً - والحال هذا - أن يقبل بمبدأ التفاوض مع السلطتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية، غير أنه فوجىء في مؤتمر (وجدة) في نيسان 1926م بشروطهما التعجيزية والمجحفة والمذلة التي تشترطانها عليه، وهي: تنحيته وأسرته عن الريف، والسماح لهما بإقامة نقاط إسترتيجية في بلاد الريف، ونزع سلاح رجال الريف... إلخ، ولم تكن هذه المفاوضات حقيقة إلا لكسب الوقت، ولمعرفة نقاط ضعف الخطابي؛ إذ إنه قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به تلك الشروط، كان هناك حوالي نصف مليون جندي فرنسي وإسباني، مزودين بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة، يحتشدون في شمال وجنوب بلاد الريف على أهبة الاستعداد لاجتياح البلاد، كما نجح الفرنسيون أيضاً في استثارة الطرق الصوفية ضد الخطابي.
وفي مطلع مايو 1926م بدأ الطرفان الفرنسي والإسباني عدوانهما المشترك الشامل على بلاد الريف، فنجحا في إلحاق الهزيمة بالمجاهـدين الريفيين، واجتياح المنطقة بعد ثلاث حملات ضخمة، ومن ثَمَّ القضاء على ثورة الريف التي أتعبتهم وأنهكتهم، وقد انتهت تلك الثورة رسمياً باستسلام قائدها محمد بن عبد الكريم الخطابي للفرنسيين لتجنيب شعبه الإبادة الجماعية، التي كان يخطط لها الفرنسيون والإسبان، وكان ذلك في 27/5/1926م، وكان هذا اليوم من أشد الأيام سواداً وحزناً في تاريخ الأمة الإسلامية الحديث.