مناقشة ابن عباس للخوارج - دروس وعبر
: معن عبد القادر
لقد أتى الخوارج من قبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع، ويرجع ضلالهم إلى أسباب أهمها:
1- فهم النصوص، دون التأمل والتثبت من مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها الصحيح.
2-أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها، فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس -رضي الله عنه-، فقد كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جواباً).
وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول الشاطبي رحمه الله أن أصل الضلال راجع إلي (الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم)(1).
-: الحرص على وحدة المسلمين وجماعتهم، وتوحد صفهم، وهذا ظاهر من موقف على -رضي الله تعالى عنه- ابتداء حين (جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين: إن القوم خارجون عليك فيقول: دعهم حتى يخرجوا، فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوا وسوف يفعلون) فكان -رضي الله عنه- حريصًا على أن لا يأتي إلى الخوارج بشيء من القتال ونحوه يفرق به المسلمين، ويضعف شوكتهم، ما لم يخرجوا هم عليه، أو يؤذوا المسلمين ببدعتهم.
وهذا الأصل متمثل أيضًا في موقف ابن عباس -رضي الله عنهما- في حرصه على الخروج إليهم وانتدابه نفسه للتفاهم معهم، وتفنيد شبهتهم وإرجاعهم إلى الحق.
فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الامتناع عما يضعف شوكتهم، ومن بذل الجهد في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ولابد أن نُتْبِع هذا الأصل بأصل آخر وهو:
-: ولعله من أصل الأصول وأعظمها لكثرة ما تشتد إليه حاجة المسلمين ألا وهو (السبيل إلى وحدة المسلمين وجمع صفهم).
إن وحدة المسلمين أصبحت مقولة يقولها كل مـسـلم، وكل جماعة، فالكل ينادي بالوحدة والـكـل يزعـم أنـه سـاعٍ إلـيهـا حريص عليهـا، ولكن ما هو السبيل الحق إلى تحقيق هذه الوحدة، هنا موضع الخلاف، وهنا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وتنحرف الأقلام.
إن وحـدة المسـلـمـين مـطـلـب شـرعـي ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فلا بد أن تكون الـوســيلة إلـيه شـرعــية. إن وحدة المسلمين يجب أن تكون عبادة نتقرب بها إلى الله عز وجل، والله لا يعبد إلا بما شرع، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو رد كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
إن وحدة المسلمين بمعناها الشرعي الصحيح، تعني أن يعودوا جميعًا إلى الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم السلف الصالح، هكذا وهكذا - فقط - يمكن أن نتحد، وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة الصف، وهذا الذي سلكه ابن عباس وأقره عليه على -رضي الله تعالى عنهما-.
ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى الخوارج حتى يعيدهم إلى الصف الإسلامي، فبين لهم أولاً وقبل أن يناظرهم المنهج الصحيح، فقال: (أرأيت إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- مالا تنكرون ...) إذن هو الكتاب والسنة والعودة إليهما، وقد كان صرح لهم قبل ذلك بالفهم الذي ينبغي أن نفيء إليه إذا اختلفت أفهامنا فقال: (جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهره، عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله) الله أكبر! ما أنصع هذا المنهج وما أشد وضوحه، الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
وبعد أن بين لهم المنهج شرع يدحض حجتهم، ويفند شبهتهم، ويوضح فساد منهجهم فمن عاد منهم وتنازل عن معتقداته وآرائه، واعتقد اعتقاد جماعة المسلمين فقد عاد إلى الصف، ومن أبى وأصر على معتقده فهو خارج على الصف ولا سبيل للوحدة معه، بل عندما آثار بقية الخوارج الفتنة، قام إليهم علي -رضي الله عنه- فقاتلهم ولم يتحرج في ذلك.
إن السـبـيل إلى وحــدة المسلـمين هو الاتحاد على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة وكل سبيل آخر للوحدة لا تقره الشريعة، ولا يجوز لنا - ونحن عباد الله سلمنا أمرنا إليه - أن نجعل منها صنمًا نستجيز من أجله كل وسيلة غير مشروعة.
إن الـوحــدة الـتي تنشأ عن ضم الطوائف المختلفة في الأصول في دائرة واحدة، وإعطائها مسمى واحد على اختلاف عقائدها، هي وحدة غير شرعية، وإن الصف الذي ينشأ عنها ليس مرصوصًا.
ولنتأمل في قول الله عز وجل: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً))، ثم قال: ((وَلاَ تَفَرَّقُوا))، يقول الشاطبي رحمه الله تعليقًا على الآية: (تبين أن التأليف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلابد من التفرق وهو معنى قول الله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) (2).
إذن فتضييع الأصول من أجل الوحدة سبيل غير شرعي ، بل هو فوق ذلك عمل لا يقره العقل، وإليكم التوضيح.
إن التفرق بين المسلمين حاصل ولابد، فكلام الله حق ((وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) وكلام رسوله حق (تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) ... وقال:(سألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) فإذن فإنه يستحيل في الواقع أن يزول الاختلاف تمامًا وأي مسلم يوقن بمعاني هذه النصوص، ليس عنده طمع في ذلك فهذا أمرٌ قضى الله به، ولكنه ستبقى طائفة على الحق.
فإن كان الأمر كذلك فهل يعقل أن نفرط في أصولنا-ونحن معاقبون إن فرطنا - من أجل السعي في حصول أمر مستحيل.
إن كل مسلم مخلص صادق غيور يحزن على حال المسلمين، ويغتم له ويتأسف عليه أسفًا شديدًا، ولكن ليس الحل أبدًا أن نفرط في الأصول من أجل تحقيق أمر قد قرر الشارع أنه لا يكون، كيف وقد أمرنا الله بقـتـال طائفة من المسلمين إن بـغـت وهل يكون القـتـال إلا تـفـرقـة؟ بـل وفـيـه ما هو أشد من ذلك، ولكنه أمر الله ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)).
الحكم في تقييم الرجال: إن أحوال الخوارج من كثرة العبادة والاجتهاد فيها غير خافية على أحد، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم.. ) وقال ابن عباس في وصفهم كما في هذا الأثر: (...لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود...) ومع كل هذا فلقد أتوا ببدعة خطيرة، ووضعوا بذور الخلاف بين المسلمين، وليس من مسلم سليم العقيدة إلا ويذكرهم في معرض الذم، ولم يذكرهم العلماء في مصنفاتهم إلا للتحذير من بدعتهم وبيان فساد معتقدهم دون أدنى فخر واعتزاز بعبادتهم.
إن المنهج الإسلامي الواضح، يدلنا على أنه يجب تقييم الرجال أولاً من منطلق معتقداتهم وتصوراتهم، وجميع السمات الأخرى - إذا أقرها الشرع - تأتي بعد ذلك لا قبله. فلو انطلقنا في الحكم على الخوارج من خلال شدة اجتهادهم في الـعـبادة، وجـعـلـنا ذلك هو المقياس الأول في الحكم عليهم، لكان ينبغي أن نجلهم ونحترمهم، فنرفع درجـتهم حتى فوق درجة الصحابة، إذ يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لصحابته في شأن الخوارج: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) فكم يكون هذا التقييم سخيفًا ؟
ولكن الأمر يختلف تمامًا، ويعود إلى نصابه الصحيح، عندمـا يحكـم عليـهـم مـن خلال معتقداتهم وتصوراتهم فنرى أنهم قد ابتدعوا في دين الله بدعة خطيرة فاحشة، فوضعوا بذور الخلاف والفتنة.
إن الاعتقاد الصحيح، يليه العمل الصالح، هو الذي يميز المسـلـم الحـق المنـتمي إلى أهل السنة والجماعة، أما كل الاعتبارات الأخرى فإنه يشترك فيها المسلم الحق مع غيره من أهل البدع والضلال. فلا ينبغي أن تكون معيارًا أساسيًا.
ونتيجة لانحراف هذا الأصل عند كثير من الإسلاميين -فضلاً عن عامة المسلمين -وجدنا من غالى في الثناء على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وذلك أنه حكم عليهم من منطلق ظنه بأن لهم جـهـدًا مـشـكورًا في نشر الإسلام والدفاع عنه، ولم يضع للاعتبار الأساسي وزنًا، فلم يضـع في حسـابـه أن الأول كان شـيـعـيًا، وأنه كان عـضـوًا بـارزًا في الماسونية ومؤسسًا لبعض فروعها في الـبـلاد العربية، وأن الثاني - مع إخلاصه في الدفاع عن الإسلام - قد أوَّل المعجزات وقدم الـعـقـل على النقـل، وكانت له علاقة مشبوهة مع المستشرقين.
لقد شاع تعظيم بعض الرجال وتقديسهم على ما هو أقـل من ذلك، مـثـل قـدمه في مجال الدعوة، أو كثرة الأفراد الذين اهتدوا على يديه، أو شدة التعذيب الذي لاقاه من الطغاة، أو طول فترة السجن في زنزاناتهم. ولا نعني بكلامنا أبداً أن مثل تلك الأعمال لا وزن لها، بل لها فضل عظيم إن صح الأصل الأول، وحتى لو لم يصح فنحن نعترف بالحق، ونثبت الفضل لكل صاحب فضل، ولكن المحظور هو الانسياق وراء الـعـواطف، فنعـظـم الـرجـال ونتحمس لهم، ونشهد بعدلهم وصدقهم ونزاهتهم، بل وكثيًرا مـا نـسـمـع من يشـهـد لهم بالجنة !! لأجل اعتبار من تلك الاعتبارات.
إن تبني الخوارج لموقفهم ابتداء لم يكن عن تثبت وتمـحـيـص ونظر ولـذلك فـقـد زالت شبهتهم، ودحضت حجتهم بعد دقائق معدودة من بداية المناظرة، وإن كان القسم من الخوارج الذي فاؤوا إلى الحق يمـدحون على ذلك لتجردهـم وإخلاصـهـم، وعـودتـهـم إلى الجادة الصحيحة حينما تبين لهـم ذلك دون مماراة ولا ممـاطلة، وإن كانوا يمدحون على ذلك فإنهم ينتقدون على سرعة تبنيهم للفكرة ابتداء دون تثبت وتمحيص.
إن الذين لا يعتنقون الفكرة عن اقتناع عميق بالفكرة ذاتها، وبعد تثبت من أدلتها الشرعية الصحيحة بمنهج سليم، يكثرون التنقل.
إن الدعوة المعاصرة تواجه تحديات ضخمة، ومشاكل عدة، من الداخل والخارج، فما لم يكن أصحابها على قناعة شرعية قوية بأفـكارهم، وبأدلـتها فإنه لا يؤمن عليهم التذبذب بين الصف والصف إن بقي عندهـم الـحمـاس للإسـلام، أو الانتكاس إن فـقـدوا حماسهم لدينهم.
وإنه لمن المؤسف حقًا أن نرى كثيًرا من أتباع الدعوات، أذهـانهـم خـواء من كـل فـكـرة أصيلة، مليئة بتاريخ دعوتهم وسيرة عظمائهم فقط هي زادهم في الـطـريـق، ودافـعهـم إلى العمل، فنصيحتنا إلى كل مسلم مخلص، أن يستوثق من أصولـه، ويطـلـب عليهـا الأدلـة الشرعية وأن يفهمها بالمنهج الصحيح، وأن يفتش بتجرد عن قـناعـته بالأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها، وينظر هل هي أصيلة أم أنها موجودة بوجود المؤثـر والمرغـب، فإن زال الـمـؤثـر زال الـتـأثـيـر، ولـنأخذ درسًا عظيمًا من الصحابي الجليل كعب بن مالك- أحد
المخلفين الثلاثة-وقد هـجـرهـم الرسـول -صلى الله عليه وسلم- وتـرك المسـلـمـون السلام عليهم، ثم جاءته الدعوة للجوء إلى من يعززه ويكرمه فلم يتذبذب أو يتردد، بـل قذف رسالة ملك غسان إلى التنور لشدة إيمانه بأنه على الحق، ونصيحة لإخواننا الدعاة: إن الذي يتبنى فكرة بسرعة ولظروف معينة عرضة لأن يتخلى عنها بنفس السرعة، لظروف أخرى.
: إن مخالفة ابن عباس التامة للخوارج في جميع الأفكار والتصورات لم تمنعه من العدل في القول، فقد كان بمقدوره السكوت لكن العدل مع المخالفين جعله يصفهم بما وجد فيهم -قال:(فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجـتهادًا منهم في العبادة...)
ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل، من أصحاب المنـهـج الصحـيـح ألا ييأسوا من عودة الطوائف المنحرفة إلى المنهج القويم ممن أمعنوا في الضلال، فهاهم الخوارج على شدة بدعتهم وتمسكهم بها (حتى أن عبد الرحمن بن ملجم -أحـدهـم - قد قـتل عليًا تقربًا إلى الله بقتله) ومع ذلك فقد عاد منهم كثير إلى الحق بعد أن تبين لهم، فلا يـنـبـغي أن نيأس من عودة تلك الطوائف المنحرفة إلى الحق، خاصة وأن كثيرًا من المنتسبـيـن إليـهـا هـم من الأتباع حجبهم مشايخهم ومتبوعوهم عن الاستـمـاع للمـخـلـصـين خـوف تـذبـذب موقفهم وتخليهم عنهم، فلم يصل الحق إلى كثير من الأتباع حتى تحصل لهم المقارنة بينه وبين ما هم عليه.[مناقشة ابن عباس للخوارج - دروس وعبر - مجلة البيان - معن عبد القادر]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطيبوني
......................
فقال: هي لك. وترك رأيه.
نعم
ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل، من أصحاب المنـهـج الصحـيـح ألا ييأسوا من عودة الطوائف المنحرفة إلى المنهج القويم ممن أمعنوا في الضلال، فهاهم الخوارج على شدة بدعتهم وتمسكهم بها (حتى أن عبد الرحمن بن ملجم -أحـدهـم - قد قـتل عليًا تقربًا إلى الله بقتله)
ومع ذلك فقد عاد منهم كثير إلى الحق بعد أن تبين لهم،
فلا يـنـبـغي أن نيأس من عودة تلك الطوائف المنحرفة إلى الحق،
خاصة وأن كثيرًا من المنتسبـيـن إليـهـا هـم من الأتباع حجبهم مشايخهم ومتبوعوهم عن الاستـمـاع للمـخـلـصـين خـوف تـذبـذب موقفهم وتخليهم عنهم،
فلم يصل الحق إلى كثير من الأتباع حتى تحصل لهم المقارنة بينه وبين ما هم عليه.
*******
قصة الخوارج مستوفاة