ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي
د. إبراهيم عوض
مجنون ليلى هو، حسب المتعارف، قيس بن الملوح، أحد شعراء العصر الأموي، وأخباره متاحة بوفرة في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وبدرجة من التفصيل أقل في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة وغيره، وهي أخبار متناثرة كديدن الكثير من أخبار القدماء، وقد اختلف الناس حول وجوده: فمنهم من يثبت هذا الوجود، ومنهم من ينكره ويرى أنه لم يكن هناك شخص اسمه مجنون ليلى أو قيس بن الملوح، ومن المنكرين المتشددين في الإنكار د. طه حسين على عادته في التسرع إلى إنكار بعض الشخصيات أو الفنون الأدبية دون تروٍّ أو برهان، ففي الجزء الأول من كتابه: "حديث الأربعاء" نراه ينكر وجود المجنون، مؤكدًا دون أي دليل أنه اختراع خيالي من صنع الرواة والإخباريين بغية تسلية الناس، زاعمًا أن الذين يضيقون بإنكار وجود قيس بن الملوح إنما يريدون أن يضيفوا إلى المجد العربي مجدًا، ويجعلوا من أمة العرب أشرف الأمم، ولغتهم أحسن اللغات، وأدبهم أروع الآداب، يقصد أن العرب قليلو المجد، وأن آدابهم لا تبلغ في روعتها آداب غيرهم من الأمم (انظر "حديث الأربعاء"/ ط11/ دار المعارف/ 1/ 174)، وهذا كلام ساذج ينقصه النضج والجد؛ إذ ما علاقة إثبات الدارسين لوجود المجنون أو إنكارهم لهذا الوجود بتشييد دعائم مجد العرب أو هدمها؟ وهل إثبات وجود هذه الشخصية هو الذي سوف يدعم مجد العرب بحيث إذا جاء منكر كطه حسين مثلًا أو غيره فأثبت أنها لم يكن لها وجود حقيقي انهدم ركن من أركان ذلك المجد؟ ألا إن العرب لأمة تافهة حقًّا وفاشلة حقًّا إذا كان دعمُ مجدها يتوقف على مثل ذلك الأمر؟ ونفس الشيء يقال عن أدب العرب، إن ذلك الأدب، حتى في ميدان الغزل، والغزل العفيف وحده دون سواه، لغنيٌّ بالنماذج الكثيرة التي لا يعد شعر المجنون بالقياس إليها إلا قطرة من بحر، على روعة ذلك الشعر "المجنوني" إن صح اللفظ، ثم هَبْ أن المجنون قد ثبت أنه من بنيات الخيال والأوهام، وأن شعره ليس له، بل لشخص آخر صنعه وأضافه إليه، فهل يطعن هذا في شعر العرب؟ فمن نظمه إذًا؟ أليس من نظمه عربيًّا من العرب، ومن ثم فهذا الشعر ينتسب إلى العرب؟ إذًا فلن ينقص من مجد العرب شيء، كل ما في الأمر أن ذلك الشعر سوف ينسب إلى شخص آخر غير المجنون، ولكنه في نهاية المطاف شخص عربي، ثم سواء بعد ذلك عرفنا اسم هذا الشخص أو جهلناه،أم إن هناك احتمالًا آخر؟ ألا يرى القارئ والسامع مدى تفاهة ذلك الكلام وضحالته؟
والملاحظ أن د. طه حسين يقيم إنكاره لشخصية المجنون على أن الرواة لم يتفقوا له على اسم ولا نسب، ولا على أحداث حياة (المرجع السابق/ 1/ 176)، لكن هل اتفق الناس، فيما يخص كل شاعر من الشعراء القدماء، وبخاصة في الجاهلية وصدر الإسلام، على مثل تلك الأشياء؟ إن الاختلاف في تلك الأشياء بالنسبة إلى هؤلاء الشعراء لكثير،وهذا معروف لدارسي تلك العصور؛ فهم لا يستغربونه، بل يلقونه كثيرًا،كما أن الدكتور طه إنما يلجأ إلى السفسطة حين يريد أن يقرر في النفوس أن القدماء كلهم كانوا يشكون في وجود قيس بن الملوح (ص 176)؛ ذلك أن الشاكِّين لم يكونوا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا ليس إلا، لكنه يخلط بين وجود المنكرين وبين انتشار الشك بين جميع الداسين، مع أن هذا غير ذاك، وهو يضيف إلى هذا قوله: إن أبا الفرج الأصفهاني كان لا بد أن يروي أخبار المجنون نزولًا على وضع كتابه: "الأغاني"، ذلك الكتاب الذي كان يتطلب ذكر المجنون وأمثاله تطلبًا، يقصد أنه كان للمجنون أغان تُغنى في العصر العباسي، وأن طبيعة كتاب الأصفهاني هي تتبع مثل تلك الأغاني والتحدث عنها وعن أصحابها والترجمة لهم والاستشهاد بأشعارهم، فكان لا بد لأبي الفرج، ما دام هناك أغانٍ تنسب للمجنون، من أن يورد تلك الأغاني ويترجم لصاحبها، ومع ذلك كله فإن أبا الفرج، حسبما يقول طه حسين، قد أعلن وبالغ في الإعلان أنه يخرج من عهدة هذه الأخبار التي يوردها عن المجنون، ويتبرأ منها، ويضيف العهدة فيها إلى الرواة الذين ينقل عنهم (ص176).
هذا ما قاله طه حسين، فهل هذا هو فعلًا موقف الأصفهاني؟ لقد قال الرجل في بداية الصفحات التي خصصها للمجنون ما يلي: "هو، على ما يقوله من صحح نسبه وحديثه، قيس،وقيل: مهدي، والصحيح: أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة،ومن الدليل على أن اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شِعري، والخطوبُ كثيرة ♦♦♦ متى رَحْلُ قَيْسٍ مستقلٌّ فراجع؟
وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت من لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوح،وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا الرياشي، وأخبرني الجوهري عن عمر بن شبة: أنهما سمعا الأصمعي يقول، وقد سئل عنه: لم يكن مجنونًا، ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري، إذًا هناك، في رأي الأصفهاني، من يصحح نسب المجنون، بل إنه هو نفسه يرى أن الصحيح في أمر المجنون هو كذا وكذا، بما يدل على أنه لا يرى وهمية المجنون، كما يزعم طه حسين.
أما ما قاله طه حسين عن إعلان الأصفهاني خروجه من عهدة الأخبار والأشعار التي تروى للمجنون وعنه، فهذا نص ما قاله الأصفهاني نفسه: "وأنا أذكر مما وقع إلي من أخباره جملًا مستحسنة، متبرئًا من العهدة فيها؛ فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره، وينسبها مَن حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب"، وأول كل شيء هو أن الأصهفاني قد قال ذلك بعدما أورد أخبارًا وأشعارًا كثيرة له، ولم يقله في مبتدأ كلامه؛ أي: إن التحرز والتحفظ إنما يختص بما سوف يأتي من كلامه لا بما مضى،ثم إننا لو بحثناعن معنى هذا النص لاتَّضح لنا أن الأصفهاني إنما يشير إلى الاختلاف الحاصل في ذلك، وأنه غير مسؤول عنه، وأنه لم يحاول تمحيصه، وأن في بعض تلك الأخبار مبالغات واضحة غير مستساغة، وليس إلى أنه يشك في وجود الشاعر نفسه،وشيء ثالث أنه لم يقل: إن الخلاف يعم كل ما يتعلق بالشاعر، بل بقسم منه فحسب،ثم إن الاختلاف بشأن شخص من الأشخاص أو شيء من الأشياء لا يعني بالضرورة أنه باطل، بل أنه مختلف فيه، وهذا كل ما هنالك، ولو كان العلم ومنهجه يتقضي إنكار كل ما اختلف الناس حوله إذًا لقد بطل كل شيء في الدنيا؛ لأن الناس لم تتفق في أمور الحياة إلا على القليل، وحتى هذا القليل نراهم يختلفون في كثير من تفاصيله،ولقد مازح المرحوم إبراهيم المازني د. طه حسين ذات مرة في مقال له عن كتابه: "في الشعر الجاهلي" فشكك بنفس الطريقة في وجود طه حسين ذاته تبعًا لاختلاف الناس بشأن تفصيلات حياته وشخصيته.
وللأسف يكرر د. محمد مندور كلام طه حسين عن موقف الأصفهاني من قصة المجنون، وإن كان قد سلب عن الدكتور طه أولية التشكيك في هذه القصة، قائلًا: إن أكبر مصدر لها، وهو أبو الفرج الأصفهاني، قد شكك فيها وفي تفاصيلها، ورواها بكل حذر واحتياط، وذلك كله قبل طه حسين بزمن طويل (انظر كتاب مندور: "مسرحيات شوقي"/ مكتبة نهضة مصر/ 90 - 91).
ويبقى الأساس الفني الذي اعتمد عليه طه حسين في إنكار قيس بن الملوح، وهو أن الشعر المنسوب إليه لا يشير إلى شخصية واحدة ولا إلى نفس واحد (ص179)، والحق أن هذا دليل منهار؛ فإن ذلك الشعر ليعبق إلى حد بعيد بالأنفاس ذاتها فنًّا ومضمونًا واستيلاء على القلب، ولست أدري كيف وقع طه حسين في تلك الغلطة المضحكة، اللهم إلا إذا استحضرنا ما كان يسيطر عليه في كثير من كتاباته ومواقفه من عناد ورغبة في الشذوذ عن المألوف مهما يكن من تهافت الاعتبارات التي يقدمها بين يدي ذلك العناد والشذوذ، ونص ما قاله هو: "هل نستطيع أن نجد للمجنون شخصية ظاهرة بينة في هذه الأشعار الكثيرة المختلفة التي يرويها له أبو الفرج وغيره من الرواة؟ أما أنا فأزعم أن ليس إلى ذلك من سبيل،لا أطيل في إثبات هذا الرأي، وإنما ألخص لك ما انتهيت إليه بعد البحث" (ص179).
أما ذلك البحث الذي أدى بطه حسين إلى ذلك الإنكار، فها هو ذا نسوقه إلى القارئ كما سجله طه حسين، قال: "كل هذا الشعر الذي يضاف إلى المجنون لا يخلو من أن يكون شعرًا قد قاله شاعر معروف وأخطأ الرواة فأضافوه إلى المجنون، أو قاله شاعر مجهول ووجد الرواة فيه ليلى فأضافوه إلى المجنون، أو انتحله الرواة أنفسهم، أو انتحله المغنون وأصحاب الموسيقا وأضافوه إلى المجنون، ولقد أجهدت نفسي في البحث عن شخصية ظاهرة مشتركة تظهر في هذا الشعر كله أو بعضه فلم أوفق من ذلك إلى شيء (نفس الصفحة)، وواضح من هذا النص أن كاتبه يدور في حلقة مفرغة؛ إذ يتخذ من نفسه شاهدًا على نفسه دون أن يقدم دليلًا واحدًا على ما يقول، وإلا لقد كان يجب عليه إيراد الأشعار التي يرى أنها لا تعكس شخصية واحدة في الفن أو في المحتوى، ثم يبين لنا دلالتها على ما يريد التدليل عليه، أما أن يكتفي بالزعم الذي لا يثبته شيء سوى زعم له آخر بأنه قد تعب في البحث فلم يصل إلى شيء، فهذا ليس من البحث العلمي في قليل أو كثير.
وشيء آخر في هذا الكلام هو أن طه حسين لا يستطيع للأسف التفرقة بين النَّحْل والانتحال، فتراه يقول: إن الرواة والمغنين انتحلوا كذا وكذا من الأشعار، على حين أن المقصود هو أنهم قد نحلوا المجنون تلك الأشعار لا أنهم انتحلوها؛ إذ الانتحال هو استيلاء الشخص على شعر الغير ونسبته إلى نفسه، لا نسبته إلى شخص ثالث، كما يتوهم د.طه،وقد وقع بعد ذلك مرارًا في هذه الغلطة حين ألف كتابه: "في الشعر الجاهلي" بعد عشر سنوات تقريبًا من مقالاته التي نشرها في الصحف ثم جمعها في "حديث الأربعاء"، ومعنى هذا أنه قد استمر على الأقل نحو عقدٍ من الزمان يكرر ذات الخطأ الفادح دون أن يتنبه.
نخرج من هذا بأن المجنون ليس شخصية وهمية، ولكن من الممكن أن يكون شعره قد اختلطت به أشعار الآخرين، وأن تكون أخباره قد دخلتها المبالغات، كما يحدث في مثل تلك الحالة،وهذا ما يراه أيضًا د. محمد غنيمي هلال، الذي يؤكد أنه لا يجد فيما قاله عنه المشككون من الرواة دليلًا يقطع بعدم وجوده، وإن كانت بعض أخباره يظهر فيها التمحل والاختراع، أو المبالغة والإسراف؛ إذ متى كانت المبالغة في الأخبار دليلًا على عدم وجود صاحبها؟ ومعروف أن كل من نبغ في أمر أو شذ فيه يحاط، كما يقول هلال، بهالة من الأساطير في حياته أو بعد مماته، وبخاصة أن أخبار المجنون قد وصلت إلينا عن طريق الرواية، والروايات تصيب وتخطئ، ولا ينبغي أن نتخذ الخطأ في بعضها ذريعة لإنكارها كلها، وإلا لتعرضت أكثر شخصيات عظماء التاريخ للشك فيها (انظر كتاب د. محمد غنيمي هلال: "دراسات أدبية مقارنة"/ دار نهضة مصر/ 17 - 18).
وما قاله الدكتور هلال صحيح تمام الصحة، أما أن نعتمد في إنكار وجود المجنون مثلًا على ما ورد في بعض أخباره في كتاب "الأغاني" من أن أحدهم قد مر ببطون بني عامر بطنًا بطنًا يسألهم عن المجنون فلم يجد أحدًا يعرف عن أمره شيئًا فهو كلام مضحك؛ إذ من ذلك الذي لديه مثل هذا الفراغ الطويل والصبر العجيب حتى ليطوف ببطون بني عامر كلها بطنًا بطنًا سائلًا في كل بطن عن الشاعر، وكأنه يؤدي مهمة مقدسة؟ وهل كان الناس ليتركوا مثل ذلك الملحف في السؤال والبحث فلا يجعلوه هدفًا لعبثهم وتهكمهم، إن لم يكن لشتمهم واتهامهم في عقله؟ بل كيف سكت بنو عامر فلم يصلنا عن أحد منهم أن رجلًا أتاهم ذات يوم فجعل يطوف بهم بطنًا بطنًا يسألهم عن مدى صحة الوجود التاريخي للمجنون فأجمعوا كلهم على بكرة أبيهم أنه ليس له وجود؟
وبالمناسبة فهناك من الباحثين من يصف قيس بن الملوح بأنه شخصية شبه تاريخية: "Majnun (lit، possessed) is an epithet given to the semi - historical character Qays b، al - Molawwah b، Moxahem of the tribe banu Amer b.sa sa a"، وكذلك الأمر بالنسبة لغيره من الشخصيات التي تتضمنها أخباره: "the characters are semi - historical"، وصاحب هذا الكلام هو كاتب المادة الموجودة في "الموسوعة الإيرانية: Encyclopediea Irancica" باسم "Leyli O Majnun"،ومعنى ذلك أنه لا ينكر وجود المجنون وأصحابه على سبيل القطع، مثلما لا يثبتها على سبيل القطع أيضًا، بل يضعها، كما يقول المعتزلة في حق مرتكب الكبيرة، "في منزلة بين المنزلتين"،لكن يلاحظ أنه لم يحاول أن يسوق الحيثيات التي دفعته إلى إصدار هذا الحكم.
ومن "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي نقرأ في ترجمة قيس بن الملوح ما نصه: "المجنون قيس بن الملوح، وقيل: ابن معاذ، وقيل: اسمه بحتري بن الجعد، وقيل غير ذلك، من بني عامر بن صعصعة، وقيل: من بني كعب بن سعد، الذي قتله الحب في ليلى بنت مهدي العامرية، سمعنا أخباره تأليف ابن المرزبان، وقد أنكر بعضهم ليلى والمجنون، وهذا دفع بالصدر، فما مَن لم يعلَمْ حجَّة على من عنده علم، ولا المثبت كالنافي، لكن إذا كان المثبت لشيء شبه خرافة، والنافي ليس غرضه دفع الحق، فهنا النافي مقدم"، وهو كلام علمي إلى مدى بعيد،وأخبار المجنون ليست من الخرافات في شيء، اللهم إلا بعض المبالغات، كما شرحت آنفًا، أما شعره فيقول الذهبي في الحكم عليه: "وشعره كثيرٌ، من أرق شيء وأعذبه"، وهو ما يشير إلى أن ذلك الشعر ذو ماء واحد، وينفح بعبق واحد كما قلنا.
ومعروف أن قيس بن الملوح ينتمي إلى العصر الأموي طبقًا لأخباره وأسماء الولاة والشخصيات التاريخية الشهيرة الذين يرد ذكرهم فيها، ويقول الحافظ الذهبي: إنه "كان في دولة يزيد وابن الزبير"، ومن ثم فحكايته، حتى لو صدقنا أنها حكاية خرافية، لا يمكن أن تنتمي إلى ما قبل تلك الفترة، فضلًا عن أن تسبق الإسلام، كما يدعي إبراهيم العريس في مقال له بجريدة "الحياة" اللبنانية بتاريخ 14/ 12/ 2009م عنوانه: "ألف وجه لألف عام - مجنون ليلى على الطريقة الفارسية: صورة حضارات مشتركة؛ إذ يقول: إن حكاية "ليلى والمجنون" في الأصل حكاية عربية تنتمي من دون ريب إلى عصور ما قبل الإسلام، حتى وإن كان ثمة تخمينات وفرضيات تقول: إنه أعيد الاشتغال عليها شعريًّا ورواية حتى من بعد ظهور الإسلام،وهذه نظرية يدعمها طه حسين في كتابه الشهير والمثير للجدل: في الشعر الجاهلي"، ولقد بحثت في كتاب طه حسين المذكور فلم أجده قال هذا الكلام، وكل ما عثرت عليه هو قوله: "للعرب خيالهم الشعري، وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة جده وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير التي تروى لا عن العصر الجاهلي وحده، بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضًا، وقد رأيت في فصولنا التي سميناها: "حديث الأربعاء" أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تروى عن العُذْريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي، يجب حقًّا أن نلغي عقولنا، كما يقول بعض الزعماء السياسيين، لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح لأنه ورد في كتاب "الأغاني" أو في كتاب الطبري أو كتاب المبرد أو في سِفر من أسفار الجاحظ"، ولا وشيجة بينه وبين ما زعمه إبراهيم العريس، كما هو ظاهر جلي.
والعجيب في قصة ليلى والمجنون: أنها، رغم تشكيك بعض الباحثين في تاريخيتها، قد حظيت باهتمام بالغ في الآداب والفنون غير العربية، ربما لم تحظَ به أية قصة عربية سواها، فنقرأ مثلًا في مقال إبراهيم العريس السابق الذكر ما يلي: "الحكاية بالتأكيد عربية إذًا، ولكن من الواضح في الوقت نفسه أن شعوبًا أخرى وكتَّابًا آخرين من غير العرب قد اشتغلوا عليها وطوروها وحولوها إلى أجزاء من تراثهم الأدبي والعاطفي، وربما أكثر من هذا أيضًا، طوال القرون التي تلت ظهورها في المحيط العربي...صحيح أن حكاية "مجنون ليلى" أو "ليلى والمجنون" أعيد إليها الاعتبار عربيًّا في القرن العشرين، فحولت مثلًا إلى مغناة رائعة لحنها وغناها محمد عبدالوهاب وأسمهان في صيغة اشتغل عليها أحمد شوقي، مازجًا أشعارًا حديثة بالأشعار القديمة المنسوبة إلى قيس بن الملوح (المعروف بـ: "المجنون")، كما حولت إلى مسرحيات وأفلام سينمائية، كان منها فيلم للتونسي الطيب الوحيشي، إضافة إلى استلهامها في أعمال أدبية حديثة عدة،ولكن في المقابل ظل الإهمال من نصيب هذا العمل القديم المتميز في العالم المعرفي في وقت كان العالم كله يستلهمه أو يؤممه أو يصيغ على منواله أعمالًا تقترب منه أو تدنو بحسب الظروف وبحسب الثقافات،ومن هنا مثلًا نجد مخرجًا أرمينيًّا جورجيًّا مثل بارادجانوف يحقق أكثر من فيلم تلوح من خلاله الحكاية نفسها ("عاشق غريب" مثلًا)... بل إننا لو تبحرنا في آداب شعوب عدة لن يفوتنا أن نرى الحكاية نفسها تتكرر، لا سيما في مناطق وسط آسيا التي نعرف أنها تأثرت كثيرًا بالحضارة العربية وأثرت فيها".
ثم يمضي العريس قائلًا: "وفي هذا السياق تحديدًا يكون لافتًا أن نذكر أن الثقافة الفارسية بالتحديد، وعلى قلم ولسان بعض كبار شعرائها وكتابها، كانت من أكثر ثقافات العالم اهتمامًا بهذه الحكاية شعرًا ورواية ورسمًا حتى إلى درجة يمكن معها القول: إن فارس كانت هي، لا الثقافة العربية، المكان الذي حفظ الحكاية على مر العصور، ومن دون إنكار لأصولها العربية على أية حال،وإذ نذكر فارس وثقافتها في هذا المجال يصبح لا بد لنا من أن نتوقف عند اثنين من كبار الشعراء الفرس اهتمامًا بحكاية "ليلى والمجنون"، واشتغلا عليها، وهما نظامي وجامعي: الأول خلال القرن الثاني عشر، والثاني خلال القرن الخامس عشر الميلاديين،كما يصبح لا بد لنا من التوقف عند عدد من كبار رسامي المُنَمْنَمَات الفارسية من الذين أنفقوا وقتًا وجهدًا كبيرين لتحقيق رسوم رائعة تصور بعض فصول الحكاية،ومن أبرزهم آغا ميراك ومير سيد علي وميرزا علي والشيخ محمد، وإن بقيت رسوم آغا ميراك هي الأجمل؛ إذ ارتطبت بالصيغة التي كتبها نظامي للحكاية".
ثم يفصل الكاتب الأمر قائلًا: إن الباحثين يذكرون أن "نظامي وجامعي اشتغلا على الحكاية نفسها من ناحية الأحداث، ولكن ثمة فارقًا كبيرًا بين عمل الأول وعمل الثاني: ذلك أن نظامي (المتوفى في العام 1202) أعاد صوغ الحكاية كما هي؛أي: إنه ركز على أحداثها الظاهرة وبُعدها العاطفي واقفًا مع حق الإنسان في الحب، مدينًا الأهل الذين سعوا كل جهودهم كي يحولوا دون تحقق اللقاء بين الحبيبين، أما جامعي فإنه استخدم الحكاية في صورة رمزية خالصة كي يتحدث من خلالها عن "الحب الإلهي" بصيغة صوفية؛ حيث إن العاشقين يمثلان هنا بالنسبة إليه ذلك الحب السامي الذي تتفانى من خلاله الروح، والحال أن هذين البعدين المختلفين اللذين أسبغا على الحكاية نفسها في الثقافة الفارسية إنما يعبران خير تعبير عن المزاج العام الذي كان يعتمل في فارس كل حقبة من الحقبتين اللتين عاش في أولاهما نظامي، فيما عاش جامعي في ثانيتهما،ففي عصر نظامي كان شيء من الفكر المادي الدنيوي يسيطر أيام ازدهار الأوضاع الاقتصادية وبدء ظهور النزعات الإنسانية، وصولًا إلى انتشار الدعوات الواقعية التي تتعاطى مع شؤون الحياة الدنيا،أما في عصر جامعي فكان ثمة نكوص في اتجاه الغيبيات والصوفية كرد على ما انتاب الأمة من تفكك، وعلى ذلك الغرق السابق في الشهوات والدنيويات.
وإذا كان العملان قد لاقيا رواجًا واستحسانًا لدى أجيال متعاقبة من القراء في بلاد الشرق، فإن ما يجب لفت النظر إليه هنا هو أن التعامل العام معهما كان واحدًا؛ حيث إن البُعد الصوفي السماوي لقصيدة جامعي ظل بعيدًا من تفسير القراء العاديين، ومن هنا تم التعامل معها دائمًا من منطلق شعبي كتطوير لغوي لا أكثر لقصيدة نظامي؛ذلك أن لغة الشعر كانت تطورت حقًّا خلال المائتي عام التي تفصل بين زمن الأول وزمن الثاني.
ومع ذلك لن يغيب عن بالنا هنا أن القصيدة التي كتبها نظامي حظيت دائمًا بشهرة أكبر وبقبول أعم لدى القراء الفرس،ونظامي اكتفى، كما أشرنا، بصوغ الحكاية كما هي في التراث العربي القديم: الشاعر "الجاهلي" قيس بن الملوح، الذي سيلقب لاحقًا بـ: "المجنون"، يعيش حبًّا رائعًا مع حبيبته البدوية مثله ليلى،وهو هنا، عند نظامي، ابن ملِك من ملوك الجزيرة العربية، لكن انتماءه الملكي لم يسهل عليه الحصول على يدها؛ ذلك أن أهل ليلى كانوا يعيشون عداوة حادة مع أهل قيس؛ لذلك يرفضون تزويجه ابنتهم، فيجن قيس ويشعر بإحباط وألم شديدين يدفعانه إلى محاولة اختطاف ليلى بالقوة، غير أن محاولته تفشل، فلا يكون، كما حال الشنفرى وغيره من الشعراء الهامشيين الصعاليك، إلا أن يتوجه إلى الصحراء ليعيش فيها وحيدًا مع حيواناتها الضارية التي ستكون أكثر حنوًّا عليه من البشر، ومع مناخاتها المتقلبة التي سيمكنه احتمالها أكثر من احتماله غلاظة البشر.
في تلك الأثناء تكون ليلى تزوجت من شخص آخر، غير أنها أبدًا لم تنسَ حبها لقيس، بل إنها صار يحدث لها بين الحين والآخر أن تهرب سرًّا إلى الصحراء حيث توافي حبيبها في وحدته ووحشته،ولاحقًا حين يموت زوجها توافيه في الصحراء لتتحد حياتها بحياته نهائيًّا،ويتزوج ان هناك بالفعل، لكن ليلى سرعان ما تموت، فلا يكون منه إلا أن يلحق بها إلى القبر حيث يوحد الموت والشجن بينهما، كما ستكون حال روميو وجولييت بعد ذلك بقرون عدة.
يتبع