الشعر والجذور العقدية
د. محمد ويلالي
• تحقيق العلاقة بين الدين والشعر:
لماذا نُقحِم الدِّين في الشعر؟ هل بينَهما علاقة ما؟ وإذا كانت، فهل هي علاقة تَراحُم وتوادُد، أم هي علاقة تنافُر وتباعد؟ أليس الشعر تعبيرًا عن أشواقٍ إنسانية، وترجمةً لأحاسيسَ داخلية، ودغدغةً وجدانيَّة، قد لا يتحكَّم فيها عقلٌ ولا دين...؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات المهمَّة تقتضي الوقوفَ عند ثلاثة محاورَ أساس:
1 - إن الأعمال الإنسانية في جميع مجالاتها - ومنها الشعر - داخلةٌ تحت مفهوم "الإحسان" الشَّرعي، الذي أُمِرنا به في قول النبي: ((إن الله كتَب الإحسان على كل شيء))[1]، ولا معنى لتفَلُّت الفنِّ بعامَّة والشعر بخاصة مِن هذا العموم، ولو كان هناك مخصِّصٌ لوجَدنا له جُذورًا في النصوص الشرعية الوفيرة التي تحدَّثَت عن الشعر.
2 - إن مفهوم "الدين" الحقيقي الذي نقصده، لا يتعارض - البتَّة - مع الشعر، ولا يُجانِفه، بل يَحضنه، ويسير به في الاتجاه الصحيح، دون أن يلتفَّ عليه، أو يحدَّ من أشواقه وسَبَحاته؛ إذ ليس معنى "الدين" مقصورًا - فقط - على تصحيح العلاقة بين الخالق والمخلوق، وما يَستتبع ذلك من الشعائر التعبديَّة، بل له مَعانٍ متعددة، تدل على أنه أوسعُ من ذلك؛ مِن هذه المعاني: ما يتديَّن به الرجل، والحال، والسلطان، والورَع، والقهر، والمعصية، والطاعة، والعادة، والحساب، والمُلك، والحكم، والقضاء، والتدبـير[2].
(فكلمة "الدين"، و"الدين الإسلامي"، تختلف عما رَسخ في أذهان كثير من الناس، وعما تُوحيه الكلمة الأجنبية "religion"، وبعض الشعارات مثل: "الدين لله، والوطن للجميع")[3].
وهذا العموم يجعل "الدين" أرحبَ مِساحةً، وأكثر شمولية، حتى يكون الشعرُ أحَد أجزائه، فلا تعارُض ولا تَنافٍ.
3 - إنَّ نظرةً عُجْلَى إلى تاريخ نشأة الشعر تُبين أنه ترعرَع في مَحضِن الدين والمعتقَد منذ ظهوره، وأن (الأدب والدين مُتلازمان في حياة الإنسان، وكلٌّ منهما مغروس في فطرته، يَنبعان منها، ثم يَمضيان مُتلازِمَين في التاريخ البشري)[4].
بل إن الحضارةَ لا يمكن أن تَمضي في الطريق القويم إلا بالدين، ومتى تخلَّفَت الأديان، بارَت هذه الحضارات وبادَت. وكان ذلك حالَ الأمم المذكورة في القرآن الكريم؛ كـ"عاد"، و"ثمود"، و"قوم فرعون"، و"قوم لوط"... الذين إنما بادوا - على الرغم مما كانوا عليه من قوة وتقدم وحضارةٍ - بسبب فَسادهم العقَدي، وخروجِهم على أنبيائهم، وتمرُّدِهم على أديانهم.
• الشعر والجذور العقدية:
لقد دلَّت الدراسة الحديثة للجذور الأولى لفنِّ القول على أنَّ الأدب لم يَنشَأ - في أيِّ زمان، وفي أي مكان - منعزِلاً عن ظاهرة المعتقَد، بل إنه لا يُمكن تصوُّر أن (يعيش الأدب منضوحَ البيان بالسِّحر الحلال وفصل الخطاب، إلا في حِمى الدين)[5].
وهذا ما أجمع عليه دارسو تاريخ الآداب العالميَّة - بحسب ما وقَفتُ عليه - وخلافهم إنما كان مَبنيًّا على أسبقيَّة الوثنية على التوحيد أو العكس، لا غير.
وحتى الذين انتَصروا لنظرية التطور، فجَعلوا الإنسان قد تطور عبرَ مراحل: مرحلة "الإنسان المائي"، ومرحلة "الإنسان البرِّمائي"، ثم مرحلة "الإنسان البرِّي"، لم يخرجوا عن الإيمان بأن (الإنسان عرَف الدينَ في هذه العصور النائية من التاريخ البشري، وإن كانوا يَختلفون في كيفية تديُّنهم أولَ مرة، إلا أنهم متفقون على أن الوثنية قد سبقَت في تاريخه - أي: الإنسان - التوحيدَ، والكثير منهم يَرى أن أول معرفة الإنسان بالدِّين كانت على الطريقة المعروفة عنـد بعض الباحثين المتأخِّرين بـ"الطوطمية"[6])[7].
ونحن المسلِمين نَعتقد أن أول مخلوق بشري هو "آدم" عليه السلام خَلَقه الله تعالى لعبادتِه، وأسجَد لـه ملائكته، فسَبَبُ خلق الإنسان دينٌ وعبادة.
وإذا كان التديُّن هو الهواءَ الذي يتنفَّسه الإنسان منذ وجد، والذي يَملأ عليه حياته وكِيانَه من كل جوانبهما، فلا بد لـه من دَخْلٍ في النشاطات الإنسانية كلها، بل وجَدنا الديانة حاضرة (بكثرة في الأدب، وكأنها تبرهِن على دورها البارز في الوسـط والمحيط الذي يعيش فيه الكاتب)[8].
وتقرَّر عند المهتمين أن الأدبَ ساعد الشعوب القديمة على معرفة أسرار الوجود، وتعليل أسباب الأشياء، وعلى رأسها البحثُ عن الخالق، الذي نُسِجَت الأناشيد الدينية من أجله؛ تمجيدًا وتخليدًا، وابتهالاً وتعبُّدًا[9].
والأدب اليوناني - الذي يعتبر أقدمَ ما وصَلَنا من الأدب - يعبِّر بشدة عن هذا اللصوق بالدين والمعتقد؛ فقد أوضَح الدارسون أنه (ورد في بعض الأساطير اليونانية أنه قد ظهَر في أقدم العصور التاريخية عددٌ من الشعراء الغنائيين الدينيين؛ أي: الذين تدور قصائدهم حول الشؤون الدينية؛ كتمجيد الآلهة، والتوسل إليها، وما إلى ذلك)[10].
فانظر إلى أيِّ مدًى أُشْرِبَتِ الفنونُ الأدبية اليونانيةُ العقيدةَ، حتى اختلطَت بها، فصاروا يَصدُرون عنها، ويتمثَّلونها في أناشيدهم وأهازيجهم ورقصاتهم، وشِعرهم ونثرِهم! فقد (ارتبطَ أدب قدماء اليونان ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي أَلهـمَت الشعـراء والكتاب)[11].
ومن خلال دراسة ممحصة دقيقة، توصَّل الدكتور: "محمد صقر خفاجة" إلى أن (الأناشيد والملاحم، هي أول فنون الأدب اليوناني، ظهرَت في فترة ما قبل التاريخ - أو عصر الأبطال والأساطير - وتبدأ هذه الفترة بنُزوح القبائل الآرية إلى بلاد اليونان في القرن الخامسَ عشر قبل الميلاد، وتنتهي في منتصف القرن الثامنِ قبل الميلاد - تقريبًا - وأهم آثارها الأدبية: التراتيل الدينية والملاحم)[12].
ويعتني "جُرجي زيدان" بتقسيم آداب اللغة اليونانية إلى أطوار سبعة، ويبين أن الطَّور الأول منها - وهو العصر الخرافي - (يُراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلا القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم، مما يسمى في اصطلاح الإفرنج: "ميـثولوجيا" -mythology - وهو يبدأ قبل زمن التاريخ، وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد)[13].
كما أن (المسرح اليوناني نشأ في أحضان طقوس دينية، كانت غالبًا ما تؤدَّى في معابد، ويُتوسَّل فيها بالقَصص الأسطوري، وترتيل الأناشيد الدينية)[14]، (كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة، فكان الشعراء يَهْدُونَ قومهم بالخيال والعاطفة إلى الحكمة، في طريق محلًّى بزهور الكلمات والنغمات)[15].
ومن أنضجِ ما وصلنا من الأدب اليوناني: "الإلياذة - iliad" وهي أربعة وعشرون نشيدًا دينيًّا، و"الأوديسا - odyssey"، وهي كذلك أربعة وعشرون نشيدًا دينيًّا[16].
ويُضاف إلى ذلك أن الخطابة - كالشِّعر - كانت مشحونة بالتصورات العقدية، معبرة عن خلجات أنفسهم، التي مُلئت صورًا للآلهة، وقصصًا وأساطيرَ وطُقوسًا.
أما آداب الروم فكانت (أوائلُ منتوجاتها مستهَلَّة بالأناشيد الدينية، وإن أنشودة الأناشيد التوراتية "مزامير داود"، توقيعاتٌ عبادية)[17]. يقول: "ف. وايت داف": (ومن المحال أن نقرأ "ليفي" دون أن ندرك على الدوام التوكيدَ الذي وضَعه الرومان على الخوارق... وإرادة الآلهة، وقيام الناس بالطقوس كما يجب؛ فالنظرة العملية في الديانة الرومانية تقابل الإنسان في كل مكان: في أصولها، وتطورها، وتطبيقها على الدار وعلى الدولة، وتحويرها الدقيق، وتسامحها نحو الأديان الجديدة)[18].
أما الشعر "السَّاتُرْني" - وهو من أقدم الشعر اللاتيني بعد اليونان بقليل - فإن الموضوعات الدينية أو الحماسية أو الشعبية، كانت أهم ما عولج فيه، (وتدل الإشارات القديمة - وكذلك طبيعة الأشياء - على أن الديانة بسطَت رعايتها على هذا الشعر في بدايته)[19].
أما (إذا ذهبتَ بالفكر إلى الهند، وجدتَ أناشيد "فيدياس" أوائل التراتيل الدينية الشعرية الصَّبيغة بالأدب؛ فتلك الأناشيد الهندية السحيقةُ في أزمانها اتخذَت الأدب وسيلة لظهورها، فكان الشعراء فيها أولَ العابدين)[20].
وكانت الكتابة "السريانية" في أوربا - قبل المسيحية - (لغة الدين والأدب والعـلم، في "حرَّان" مَعقِل الوثنية، في ما بين النهرين)[21]، ثم بعد مجيء المسيحية أصبح (المؤلفون متأثِّرين بأسلوب الكتاب المقدَّس، وكثرت في كتاباتهم الاصطلاحات والاستعاراتُ المستَقاة من الكتاب المقدس)[22]، بل كانت الكتابات التي لا تُساير رَكْب الديانة النصرانية تُعزَل عن العالم، ويُحال بينها وبين الخروج من معقلها، لا لشيء إلا لأنها لم تُساير العقيدة، ولم تُوافق آراءها[23].
والدارسون يرَون أن الآداب الأوربية يجري عليها المقياسُ نفسُه الذي عرَفَته آداب اللغة اليونانية؛ فقد عقَّب "جورجي زيدان" - بعد أن ذكَر الأطوار والمراحل التي مر بها الأدب اليوناني - قائلاً: (هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقِسْ عليها تواريخ سائر اللغات الأوربية؛ فإنها كثيرةُ الشَّبه بها، من حيث تناسُقُ عصورها، بالنظر إلى نُشوء العلوم فيها؛ فإن أقدم آدابها - دائمًا - الشعر الديني، يليه الشعر القصصي التمثيلي، فالغنائي...)[24].
وهكذا كانت الآداب الأوربية القديمة متأثرةً بروح الدين، لم تنفكَّ عنه أبدًا، وحتى أولئك الزائغون الثائرون، لم يتخلَّصوا من العقيدة، وإن تنصَّلوا من النصرانية أو غيرها من الديانات السائدة.
فإذا انتقلنا إلى "الأدب الفارسي" وجَدْناه غيرَ منفصل عن سُنَّة الآداب الأخرى، من حيث امتزاجُه بالعقيدة، والتعبيرِ عنها. وقد جانب الصوابَ مَن أغفل ربْط الحماسة بالآلهة والأبطال - كما يجب أن يَكون - وكذلك فعل "الفردوسي" في "الشاهناما".
وهذا ما يعبِّر عنه أحد الباحثين المحدَثين بقوله: (وجاء الشعراء بعد "الفردوسي" ينسجون على مِنواله، وفيهم جماعةٌ اتخَذوا من ملوك عصرهم أبطالاً، نظَّموا لهم "الشاهنامات"، وخفي عليهم أن الشعر الحماسيَّ يجب أن يكون لـه مادةٌ من الأساطير، تجعل جوَّه مليئًا بآثار القدم، تجول فيه الآلهة والأبطال، بعواطفهم الكبيرة، وأعمالهم العظيمة، محاطين بِهالةٍ من الخيال)[25].
وبتجميع ما تم الحصول عليه من نقوشٍ متفرقة على الأحجار، والأواني، والآلات، والموازن الحجرية، وفصوص الخواتم الأثرية، ودراسة كل ذلك - يتبيَّن أن هذه النصوص كلَّها تدل على ما عرَفوه مِن أسماء الملوك، وتدوين شرحٍ لأحوال المماليك والفتوحات، وما تم فيها من إنجازات، (وكذلك تتضمَّن مدح الخالق، وتقبيحَ الكذب، وكلِّ ما هو سيئ)[26]، كما أنه نشأَت عندهم لغة خاصة هي لغة "الأفستاء"، اهتمت بأمور الدين، واختص بها رجاله، وكانت تطلق على (لغة كتاب "زرادشت" الديني، وهي في الحقيقة لغةٌ من اللغات الإيرانية، ذات قرابةٍ بالفارسي القديم، وكانت هذه اللغة خاصة برجال الدين، والكتب المقدسة)[27].
و"الأفستاء" - هذه - عبارةٌ عن (تراكيب أدبية، وجمل فصيحة قويَّة في حمد الله، وفي وصف الصنيعة، كما أن قِسمًا منها منظومٌ مقفًّى، وهو القسم المسمى بـ"الكاتا"، وهي عبارة عن أدعية ومناجاة، وأشعار أخلاقيَّة قيِّمة، كما أنها تَعرض ألطفَ العواطف الدينية في ذلك العصر)[28].
ولغة النصوص - هذه - توضِّح وضوحًا جليًّا أن حبل العقيدة قد انتظَم آدابَ الأمم الخالية بدون استثناء، وأن هذه العلاقة مطَّرِدة في كلِّ أمة.
ولنا - بعد هذا - أن نتَساءل عن موقع الأدب العربي من هذه العلاقة.
خُلاصة ما توصَّل إليه الدارسون أن العلاقة الأولى للشِّعر الجاهلي كانت بـ"السِّحر"، وذهب آخرون إلى أن الشعر الجاهلي كان وطيدَ الصلة بـ"الكهانة"، وأثبت فريق ثالث أن "الأدب العربي" قيل معبِّرًا عن "طقوس دينية" كسائر الآداب.
يتبع